فهرست مطالب

فهرست مطالب

PDF

وفيه أن فرض توارد الحالتين ولو بناء على معارضة الاستصحابين فيه يكون خارجا عن مدلول خطاب الاستصحاب، للابتلاء بالتعارض الداخلي الواضح بحيث يوجب انصراف خطاب الاستصحاب عنه، فلا يبقى الا ظهور الاستصحاب في شموله للاستصحاب الجاري قبل العلم بتوارد الحالتين، وهو استصحاب الطهارة الجاري قبل الفراغ من الصلاة، فلا يختلف عن مبنى صاحب الكفاية.

الا أن المهم على كلا المبنيين أنه بأتي فيه محذور عدم صحة التمسك بالاطلاق لمورد يكون شموله له لغوا ما لم ينضم اليه ضميمة خارجية غير مستفادة من الخطاب.

وثانيا: ان الصحيح أن الشك في الطهارة في هذا الفرض كان فعليا قبل الصلاة، وليس شمول دليل الاستصحاب له مغيى بعدم العلم بتوارد الحالتين لغوا وغير عقلائي، بل لو فرض عدم سبق الشك فقد اتضح أنه لامانع من جعل استصحاب الطهارة ما لم يحصل العلم بالخلاف او بتوارد الحالتين، وهذا الجعل قابل للوصول والالتفات، اذ الالتفات اليه لا يساوق العلم بتوارد الحالتين، فلا يقاس بمثال جعل الحكم مقيدا بعدم وصوله، يث يكون لغوا وغير عقلائي.

الفرع الرابع: أن يعلم في وقت بالطهارة و في وقت بالحدث، ثمّ يدخل رأساً في حالة الغفلة، لكنّه يكون بحيث لو التفت لشكّ في المتقدّم منهما و المتأخّر، و صلّى ثمّ التفت، فشكّ في المتقدّم منهما و المتأخّر.

فان قلنا بجريان قاعدة الفراغ مع العلم بالغفلة جرت قاعدة الفراغ، وجريانها هنا اوضح من الفرع الاول لشبهة جريان استصحاب الحدث هناك مع الشك التقديري بينما أنه هنا الشك التقديري بنحو توارد الحالتين فلم يجر استصحاب الحدث بلا معارض حتى قبل الصلاة ولا بعدها.

ان قلت: ان من يقول بكفاية الشك التقديري في جريان الاستصحاب فيعني ذلك أنه يرى صدق عنوان الشك على الشك التقديري فمعه لا يكون الشك حادثا بعد الفراغ، بل قد تحقق قبله فلا موضوع لقاعدة الفراغ.

قلت: هذا انما يتم لو كان منشأ تعميم الاستصحاب لمورد الشك التقديري صدق عنوان الشك، ولكنه ليس كذلك، بل سبق ان وجهه إما عدم اخذ الشك في بعض الروايات او التعميم بمناسبة الحكم والموضوع، كما سبق عن البحوث، نعم يرد هذا الاشكال على ما حكي عن بعض السادة الاعلام “دام ظله” من عدم تقوم اليقين والشك بالالتفات اليهما وانما لا يكون للحكم الظاهري فاعلية في حال عدم الالتفات، ويكون هذا مقيِّدا لبيا لدليله بفرض الالتفات، ولكنه غير متجه، في فرض عدم سبق الشك الفعلي على الغفلة، حيث يصح سلب عنوان الشاك عن الغافل وان كان لو التفت لشك.

وان قلنا بعدم جريان قاعدة الفراغ في موارد العلم بالغفلة، فان التفت داخل الوقت وجبت اعادة الصلاة، بمقتضى قاعدة الاشتغال، وان التفت خارج الوقت فلا يجب قضاءها للشك في الفوت.

الفرع الخامس: أن يحصل له أوّلًا العلم بتوارد الحالتين و الشكّ في المقدّم منهما و المؤخّر، ثمّ يغفل و يصلّي، ثمّ يلتفت، فهنا لا تجري قاعدة الفراغ لكون الشك حادثا قبل الفراغ، وذكر في المباحث أنه تصل النوبة إلى قاعدة الاشتغال لو التفت في الوقت، و البراءة لو التفت خارج الوقت‏[1].

ولكن الصحيح أنه لو كان اول الوقت ملتفتا الى علمه بتوارد الحالتين فغفل وصلى ولم يلتفت الى أن خرج الوقت، فيشمله صحيحة الفضلاء، كما يقال فيه بكون فوت الفريضة الظاهرية محرزا فيجب قضاءها[2]، وان كانت الفريضة هنا عقلية من باب قاعدة الاشتغال لا شرعية ظاهرية، بل يمكن دعوى كونها فريضة ظاهرية شرعية لما هو الظاهر من جريان استصحاب عدم المقيد وهو الصلاة مع الطهارة، او استصحاب بقاء التكليف او فاعليته.

الفرع السادس: لو قيل بكون شرط الصلاة الجامع بين الطهارة الواقعية او الظاهرية حال الصلاة، فمن كان متيقنا بطهارة ثوبه سابقا فغفل بحيث لو التفت كان يشك في بقاءها، فصلى ثم بعد الصلاة علم بكون الثوب نجسا، وقوعها في التفت فشك، فبناء على جريان الاستصحاب التقديري يكون واحدا للشرط.

ولكن هذا الفرع مجرد فرض فقهي، فان المستفاد من الروايات أن المانع هو العلم بالنجاسة، فتصح صلاة من كان غافلا عن نجاسة ثوبه لا ناسيا لها.

الفرع السابع: ما حكي عن السيد الداماد “قده” فانه (بعد ما قال: ان ظاهر صحيحة زرارة انحصار ناقض اليقين باليقين بالخلاف، فلا ينبغي نقض اليقين بالشك التقديري، مضافا الى صدق عنوان الشك عليه، بمجرد أنه اذا التفت لشك، و ينكشف ذلك بالتامل فى نظائره، فانه لا اشكال فى جواز التصرف في مال من يعلم برضاه التقديري، اي ما لو التفت رضى، ولو كان غافلا فعلا، ويقال عرفا انه راضٍ بذلك) ذكر أن لازم المنع من جريان الاستصحاب مع الشك التقديري أنه لو تيقن امام الجماعة بالطهارة من الحدث ثم شك فيها فصلى مع ذهوله عادة عن شكه ولو في اثناء الصلاة فلا يصح الائتمام به لصيرورته غير محكوم بالطهارة من الحدث، و هذا مما لا يفتى به احد فيستكشف ان الشك التقديري بحكم الفعلى[3].

و فيه أن لازم كلامه من صدق الشك على الشك الفعلي هو عدم جريان قاعدة الفراغ في الفرع الاول، مع أنه قال بعدم المنع من جريانها لولا شرطية احتمال الاذكرية حال العمل[4]، وقياس الشك بالرضا غير صحيح لوجود طيب النفس في صقع نفس المالك عرفا، كما أنه في النية في العبادات تكفي النية الارتكازية لصدق قصد القربة والعنوان بمجرد ما لو سأل لأجاب، ولكن صدق الشك على الشك التقديري ممنوع.

وأما الفرع الذي ذكره فلا يخلو من غرابة، فانه لو كان المأموم عالما بسبق طهارة الامام فله أن يستصحب طهارته، والا فتجري في مثله أصالة الصحة بمقتضى السيرة، ولا يعني ذلك جريان استصحاب الطهارة في حق الامام نفسه، على أن مورده سبق الشك، واين هذا من فرض الغفلة محضا.

المقام الثاني: جريان الاستصحاب مع اليقين التقديري‏

ذكر صاحب الكفاية في المقام أنه يعتبر في الاستصحاب فعلية اليقين، لعدم شمول اليقين لليقين التقديري، كما هو واضح، والظاهر أنه ذكره جريا على مسلك القوم من ركنية اليقين بالحدوث، والا فقد ذكر في التنبيه الثاني من تنبيهات الاستصحاب في الكفاية أنه يحمل اليقين على الطريقية المحضة ويرى أن ركن الاستصحاب هو اليقين بالحدوث، ولا حاجة الى اليقين التقديري فضلا عن الفعلي، لكنه ذكر في بحث الاجتهاد والتقليد أنه قد تكلف به في بعض تنبيهات الاستصحاب، وسيأتي الكلام حوله في التنبيه الثالث.

جريان الاستصحاب في موارد ثبوت الحدوث بالامارة او الاصل

التنبيه الثالث: لو علمنا وجدانا بحدوث شي‏ء ثم شككنا في بقائه، فهذا هو القدر المتيقن من مورد الاستصحاب، و أما إذا شككنا في بقاء شي‏ء على تقدير حدوثه و لم نحرز حدوثه بالوجدان، كما إذا قامت الأمارة على حدوث شي‏ء ثم شككنا في بقائه على تقدير حدوثه، فقد يناقش في جريان الاستصحاب، لعدم اليقين بالحدوث، بل ولا يصدق الشک فی البقاء بقول مطلق، وانما يشك في البقاء على تقدير الحدوث، و قد حاول الاعلام الاجابة عن هذه المناقشة بعدة وجوه:

الوجه الاول: ما ذكره صاحب الكفاية “قده” من أنه يكفي في الاستصحاب الشك في البقاء على تقدير الحدوث، ‏و إن لم يكن معلوم الحدوث بشرط أن يترتب على هذا الاستصحاب أثر شرعي أو عقلي، فان اخذ اليقين بالحدوث في ادلة الاستصحاب إنما هو لأجل أن التعبد و التنزيل شرعا إنما هو في‏البقاء، لا في الحدوث، لأن الظاهر أنه أخذ اليقين بالحدوث من حيث كونه طريقا و مرآة الى الحدوث ليكون التعبد في بقائه، وعليه فيكفي الشك في البقاء على تقدير الحدوث، فيتعبد بالبقاء على تقدير الحدوث، فتكون الحجة على الحدوث حجة على البقاء تعبدا، للملازمة بينه و بين الحدوث واقعا.

هذا وقد ذكر ان منشأ الحاجة الى هذا البيان هو أن الصحيح كون مقتضى حجية الامارة التنجيز و التعذير، وأما بناء على كون المجعول فيها الحكم المماثل -كما هو ظاهر الأصحاب- فيمكن اجراء الاستصحاب في نفس الحكم الظاهري بعد كون قيام الأمارة حيثية تعليلية عرفا لثبوت هذا الحكم ويحتمل بقاءه بعد انتفاء الامارة[5].

وقد عبر في بحث الاجتهاد والتقليد عما اختاره هنا من عدم ركنية اليقين بالحدوث بالتكلف، فقال “على ما تكلفنا في بعض تنبيهات الاستصحاب‏[6]“، كما ذكر في التنبيه السابق أنه يعتبر في الاستصحاب فعلية اليقين والشك.

ولا يخفى أن لازم ركنية واقع الحدوث في الاستصحاب وان كان هو عدم جريانه واقعا في موارد الجهل المركب بالحدوث، لكنه ليس امرا لا يمكن الالتزام به، فما عن المحقق الاصفهاني “قده” من جعل ذلك نقضا على مبنى صاحب الكفاية غير متجه.

وكيف كان فان تم ما ذكره هنا فيكون الحكم الظاهري بالبقاء -والذي مرجعه الى جعل الحكم الظاهري المماثل للحكم الواقعي المشكوك، فيما كان المستصحب نفس الحكم الشرعي، او المماثل لحكمه الشرعي لو كان المستصحب موضوع الحكم الشرعي- من الآثار الشرعية لواقع الحدوث، فيكون قيام الأمارة مقام القطع بالحدوث من باب قيامها مقام القطع الطريقي المحض الذي لا اشكال فيه على جميع المباني في حجية الأمارات.

وقد ذكر في البحوث أن كلام صاحب الكفاية في المقام لا يخلو من تشويش، فصدره ظاهر في أنّ رکن الاستصحاب واقع الحدوث والشك في البقاء، وذيله ظاهر في عدم ركنية واقع الحدوث وانما الركن الشك في البقاء على تقدير الحدوث، ويوجد في هذا الذيل احتمالان: احدهما: كون ركن الاستصحاب الشكّ في البقاء، دون الحدوث، و إنّما فرض الحدوث، لأنّ الشكّ في البقاء لا يتحقّق إلّا مع فرض الحدوث، وثانيهما: أن يكون مقصوده كون التعبد بالبقاء، وانما فرض الحدوث مفروغا عنه حتى يقع التعبد بالبقاء.

أما الاحتمال الاول فإن قصد من الشكّ في البقاء أن لا يحتمل فيه العدم بعد العدم، وانما يحتمل العدم بعد الوجود، فيعني ذلك فرض اليقين بالحدوث، وهو خلف مدعاه، وان قصد منه احتمال العدم بعد الوجود وان احتمل العدم بعد العدم، فيعني ذلك جريان الاستصحاب مع عدم الحدوث واقعا بمجرد احتمال الحدوث والبقاء، و هذا ما لا يلتزم به احد.

أما الاحتمال الثاني فإما أن يكون مصب التعبد هو البقاء الظاهري على تقدير الحدوث، فيكون الحدوث مأخوذا في موضوع التعبد الظاهري بالبقاء، ولا يكون ترقيا عن الكلام الاول، او يكون مصب التعبد الملازمة الظاهرية بين الحدوث و البقاء، فلا يكون الحدوث دخيلًا في ذلك، كما أنّ الوجود الفعلي للعلّة ليس دخيلًا في ثبوت الملازمة بين وجود العلّة ووجود المعلول، فعندئذ يرد عليه: أنّ الملازمة ليست قابلة للجعل على ما هو الصحيح الموافق لنظر صاحب الكفاية، و إنّما المجعول منشأ انتزاعها، وهو جعل الحكم بالبقاء مشروطاً بالحدوث، فرجع إلى الكلام الأوّل[7].

اقول: لايوجد اي تشويش في كلام صاحب الكفاية، فانه صرح في ذيل كلامه ايضا بأخذ واقع الحدوث في التعبد الظاهري بالبقاء، وأنه أخذ اليقين بالحدوث مرآة لحدوثه، ليكون التعبد في بقاءه، و التعبد مع فرض حدوثه إنما يكون في بقاءه، وما نقل عنه في المباحث من التعبير بأنه اخذ الحدوث ليكون التعبد بالبقاء، لا يوجد في كلامه ابدا.

وكيف كان فقد اورد على كلام صاحب الكفاية ايرادات ثبوتية واثباتية، أما الايرادات الثبوتية فعمدتها ثلاث ايرادات:

الایراد الاول: ما حكي عن المحقق الاصفهاني “قده” من أن الاستصحاب حيث يكون حكما ظاهريا فيتقوم بالوصول، ومعه فلا يكون الاستصحاب جاريا بمجرد حدوث الشيء المشكوك واقعا، بل يتوقف جريانه على قيام الأمارة على الحدوث، فكيف تقوم الحجة على الحدوث لتنجيز هذا الاثر الذي يكون ترتبه متأخرا عن قيام الحجة.

وفيه أن مقتضى الجمع بين ما ذكره صاحب الكفاية هنا من ركنية واقع الحدوث وما ذكره في التنبيه السابق من تقوم الاستصحاب بالوصول -باعتبار كونه حكما ظاهريا حقيقته تنجيز الواقع او التعذير عنه- وان كان هو أنه ما لم تقم حجة على الحدوث فلا يكون الاستصحاب فعليا، ولكنه لايعني عدم وجوده الانشائي قبله، فيكون قيام الحجة على الحدوث بلحاظ هذا الحكم الظاهري الانشائي ونتيجة قيام هذه الحجة صيرورة الاستصحاب فعليا ومنجزا للبقاء، بل لو فرض الالتزام لأجل ذلك بتقيد جريان الاستصحاب بقيام الحجة على الحدوث فلا محذور فيه، وان فرض كون اثر قيام الحجة على الحدوث منحصرا بالتعبد بالبقاء، اذ لا يتوقف قيام الحجة على الحدوث بكون هذا الاثر لواقع الحدوث موجودا مع غمض العين عن قيام الحجة عليه، بعد ان كان المراد من الحجة هو الحجة الشانية، فيكون نظير سائر موارد قيام الحجة على تحقق موضوع الحكم الظاهري.

الايراد الثاني: ما ذكره السيد الخوئي “قده” من أنه لا يخلو عن احد امرين: إما أن يكون مفاد خطاب الاستصحاب الملازمة الواقعية بين الحدوث والبقاء، فيكون مدلول خطاب الاستصحاب الحكم الواقعي ببقاء كل حادث، فهو مضافا الى مخالفته للواقع، مستلزم لكون أدلة الاستصحاب من الأمارات الدالة على الملازمة الواقعية بين الحدوث و البقاء، فتكون الأمارة الدالة على الحدوث دالة بالالتزام على البقاء، نظير ما ثبت من الملازمة الواقعية بين وجوب تقصير الصلاة و إفطار الصوم، ويخرج الاستصحاب عن كونه اصلا عمليا يرجع اليه في فرض الشك في البقاء، وإما أن يكون مفاد الاستصحاب الملازمة الظاهرية بين الحدوث والبقاء، فلازم ذلك الملازمة الظاهرية بين حدوث التنجيز و بقاءه، و لا يمكن الالتزام بها، ولم يلتزم بها نفسه ايضا، فانه التزم بانحلال العلم الإجمالي بالتكليف بقيام الأمارة على التكليف في بعض الأطراف، فالإنصاف أنه على القول بأن معنى جعل حجية الأمارات ليس إلا التنجز في صورة الإصابة و التعذير مع المخالفة كما عليه صاحب الكفاية و جماعة من الأصحاب لا دافع لهذه المناقشة[8].

وهذا الاشكال غريب، فانه اولا: لا مانع من الحكم الظاهري ببقاء كل حادث مادام الشك في بقاءه، بأن يكون الحدوث الواقعي للشيء المشكوك موضوعا لهذا الحكم الظاهري، واين هذا من الاخبار عن الملازمة بين حدوث شيء وبقاءه الواقعيين، او الملازمة بين حدوث التنجز وبقاءه، وانما هو الملازمة بين واقع حدوث شيء والحكم الظاهري ببقاءه عند الشك، وهذا هو مقصود صاحب الكفاية، نعم نتيجته جعل الحكم المماثل، وقد مر من السيد الخوئي وفاقا للمحقق النائيني “قدهما” كونه مستلزما للتصويب[9]، ولكن مرّ أن صياغات الحكم الظاهري من جعل العلمية او الحكم المماثل او انشاء عنوان المنجزية والمعذرية ونحوها كلها ابراز لاهتمام المولى او عدم اهتمامه بالحكم الواقعي المشكوك على تقدير وجوده واقعا، والا فماذا يقول هو في الطهارة والحلية الظاهريتين المستفادتين من قاعدة الطهارة والحل.

وثانيا: لامانع من الالتزام بكون مفاد الاستصحاب الملازمة بين تنجز الحدوث وتنجز البقاء

عند الشك في البقاء، وهذا غير الملازمة بين حدوث التنجز وبقاءه حتى يرد عليه النقض بانحلال العلم الاجمالي بالعلم او الامارة التفصيلية، فانه بقاء لا يوجد منجز لحدوث التكليف في الطرف الآخر غير ما قامت الأمارة التفصيلية عليه.

الايراد الثالث: ما يقال من أن المستفاد من كلام صاحب الكفاية جعل الملازمة الظاهرية بين الحدوث والبقاء، وهذا خلاف ما تقدم منه في بحث الاحكام الوضعية التي من هذا القبيل من عدم امكان جعلها شرعا كالسببية للتكليف.

وفيه أن تعبير صاحب الكفاية هو “التعبد بالبقاء على تقدير الحدوث” فيكون مفاد الاستصحاب كما مر جعل الحكم المماثل، وأما تعبيره في آخر كلامه بالملازمة بين البقاء و بين الحدوث واقعا.

-اي الملازمة الظاهرية بين واقع الحدوث وبين بقاءه- فلايدل على كون الملازمة هي المجعولة شرعا، بل هي منتزعة عن التعبد بالبقاء ظاهرا على تقدير الحدوث.

والحاصل أن ما ادعاه صاحب الكفاية من كون مفاد الاستصحاب التعبد الظاهري ببقاء الحادث، واضح ومعقول، ولا يرد عليه اي من الايرادات الثبوتية، ومحصله أن اليقين المأخوذ في أدلة الاستصحاب ليس موضوعاً للاستصحاب، بل طريق محض إلى الحدوث، ويكون مفاد الاستصحاب التعبد الظاهري ببقاء الحادث في فرض الشك في بقاءه على تقدير حدوثه، والامارة القائمة على الحدوث تكون حجة على وجود موضوع الاستصحاب، ولا ينبغي الاشكال في أنه بناء على حمل اليقين بالحدوث على الطريقية المحضة كما حمل لفظ اليقين والعلم والرؤية والتبين على ذلك في الخطابات المتضمنة للأحكام الواقعية كقوله تعالى “فكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر” يتم هذا الوجه.

انما الكلام في مساعدة مقام الاثبات وظاهر الادلة معه، فقد اورد عليه عدة ايرادات اثباتية:

الايراد الاول: أن كون واقع اليقين في نفس المتيقن مرآة الى الواقع المتيقن، اي لحاظه عادةً صورته الذهنية متحدة مع الخارج، لا يعني جعل المتكلم مفهوم اليقين مرآة الى الواقع، بأن يرى من خلاله الواقع، فان کل عنوان مرآة الى مصاديقه لا الى مصاديق عنوان آخر، فلا يصح أن يراد من اليقين الواقع الذي تعلق به اليقين، خصوصا مع ذكره في الكلام مستقلا، حيث اضاف اليقين الى الوضوء في قوله “فانه على يقين من وضوءه” او الى الطهارة في قوله “انك كنت على يقين من طهارتك” ومن هنا علم أن استعماله الكنائي فيه يحتاج الى مصحح لا يوجد في المقام.

الايراد الثاني: ما في البحوث وغيره من أنه لا يتلائم مع استظهار كون اسناد النقض الى اليقين بلحاظ ما يرى فيه من الابرام والاستحكام، كما استظهر ذلك في الكفاية في بحث الشك في المقتضي، فإنّه بناءً على ما ذكره هنا من كونه مأخوذاً بنحو المرآتية الى المتيقن، و يكون النظر إلى ذات المتيقّن، فلا يفيد استحكام اليقين[10].

اقول يمكن الدفاع عن صاحب الكفاية في قبال هذين الايرادين بأن يقال ان مصحح استعمال كلمة النقض وان كان هو استحكام اليقين، لكن يكفي في ذلك كونه كذلك في المراد الاستعمالي، ولم يلحظ في المراد الاستعمالي مفهوم اليقين مرآة الى المتيقن، ولكنه لا ينافي استظهار العرف كون موضوع التعبد الاستصحاب في المراد الجدي هو واقع الحدوث، نظير استظهاره من قوله تعالى “فكلوا واشربوا حتى يتبين لكم…” كون مبدأ الامساك الواجب في شهر رمضان هو واقع طلوع الفجر وأن التبين طريق محض.

الايراد الثالث: ان النهي عن نقض اليقين بالشك لما كان حكما ظاهريا فلا يلغي العرف موضوعية اليقين في الخطاب كما لا يلغي الشك، فاستظهار الطريقية المحضة لليقين في خطاب الاستصحاب خلاف الظاهر، خصوصا بقرينة التقابل في صحيحة زرارة الاولى مع قوله “ولكن ينقضه بيقين آخر” فانه لا اشكال في موضوعية اليقين الآخر والا فيعني نقض الحدوث السابق بواقع ارتفاعه وهو غير محتمل، فمقتضى وحدة السياق حمل اليقين الاول ايضا في هذه الجملة وفي جملة “فانه على يقين من وضوءه ولا ينقض اليقين بالشك على الموضوعية ايضا، وقد استدل السيد الخوئي على ذلك بأن قوله في صحيحة زرارة الثانية “لا ينبغي أن تنقض اليقين بالشك ابدا” راجع إلى قضية ارتكازية، و هي أن الأمر المبرم لا يرفع اليد عنه لأمر غير مبرم، و المراد من الأمر المبرم في المقام هو اليقين، و من غير المبرم هو الشك، فلابد من وجود اليقين و الشك[11]، ولكن هذا الاستدلال غير تام، فاننا لانستظهر من هذه الجملة أكثر من النهي عن نقض اليقين بالشك، ولو كان النهي تعبديا محضا.

والمهم في الايراد على صاحب الكفاية هو الايراد الثالث، فدعوى صاحب الكفاية وموافقة بعض الاعلام[12] معه لظهور النهي عن نقض اليقين بالشك في ركنية الحدوث غير متجهة.

هذا كله بلحاظ ما ذكره حول ظهور خطاب الاستصحاب في ركنية واقع الحدوث، وأما ما ذكره من أنه بناء على جعل الحكم المماثل في الامارات من امكان جريان الاستصحاب في نفس الحكم الظاهري فغير متجه، فان حجية الأمارة على الحدوث تابعة لمقدار مفادها فلا يحتمل بقاءها بعد انتفاء الأمارة، وأما استصحاب جامع الحكم الشرعي المحتمل بقاءه في ضمن الحكم الواقعي، فيكون من استصحاب القسم الثالث من الكلي، للعلم بوجوده في ضمن فرد وهو الحكم الظاهري والعلم باتفاعه، وانما يشك في وجود فرد آخر معه وهو الحكم الواقعي، نعم لو قيل بكون الحكم الظاهري على تقدير مطابقته للواقع، عين الحكم الواقعي، وليس له حقيقة وراءه، وانما يكون له وجود مستقل في فرض عدم مطابقته للواقع، فيكون استصحاب جامع الحكم الشرعي من قبيل استصحاب القسم الثاني من الكلي، ولكن يرد عليه مضافا الى ضعف هذا المبنى في الحكم الظاهري أنه ان كان الحكم الشرعي تكليفيا فيكون من قبيل استصحاب الجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبله، وما يكون من هذا القبيل فلا يكون العلم الاجمالي به منجزا -كما لو علم إما بوجوب اكرام زيد المقدور اكرامه او وجوب اكرام عمرو غير المقدور اكرامه- فكيف باستصحابه، والوجه في كون الحكم الظاهري مما لا يقبل التنجيز هو العلم بارتفاعه، مضافا الى أن المقوم للجامع تقيد الحكم الظاهري بكونه مخالفا للواقع، والحكم الظاهري بما هو مخالف للواقع لا يصلح لتنجيز الواقع، نعم لو كان الحكم وضعيا كنجاسة الماء فلا يرد عليه هذا الاشكال، ومن هنا تبين أن اطلاق كلام البحوث لفرض الحكم الوضعي في غير محله، فالمهم الاشكال على اصل هذا المبنى في الحكم الظاهري.

الوجه الثاني: ما ذكره في البحوث من أن خطاب النهي عن نقض اليقين بالشك وان كان ظاهرا في موضوعية اليقين بالحدوث، لكن حيث لم يؤخذ اليقين بالحدوث في صحيحة ابن سنان “انك اعرته اياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجسه” ب‍ل أخذ فيها واقع الحدوث، وهكذا في قوله “كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر” و “كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام” بناء على مختار صاحب الكفاية من دلالتهما على الاستصحاب، فحينئذ ان احتمل وجود قاعدتين: احداهما: ما يستفاد من هذه الصحيحة من قاعدة أن الحادث محكوم بالبقاء ظاهرا في فرض الشك، و الأخرى ما استفيد من بقية الروايات من قاعدة عدم نقض اليقين بالشك، فنلتزم بكلتيهما، و ان لم نحتمل ذلك كانت هذه الصحيحة قرينة على حمل لفظ اليقين بالحدوث في بقية الروايات على الطريقية الى كون واقع الحدوث موضوعا للحكم[13].

و فيه أنه لم ‌يظهر من صحيحة ابن سنان كونها ناظرة الى الاستصحاب، فلعلها ناظرة الى قاعدة الطهارة، وأما لحاظ الحالة السابقة في الثوب في الصحيحة فلعله لأجل أنه لو كان معلوم النجاسة سابقا لم‌ يجر فيه قاعدة الطهارة، على أنه حيث ان احتمال تعدد القاعدة ليس عرفيا بعد كفاية احداهما عن الأخرى عرفا، و ان كانت النسبة بينهما بالدقة عموما من وجه، حيث يكون مورد افتراق الاولى فرض واقع الحدوث من دون علم به، و مورد افتراق الثانية فرض اليقين بالحدوث مع كونه غير مطابق للواقع، و لكن جعل الثانية بلحاظ فرض الجهل المركب لغوا عرفا، و معه فلو كانت صحيحة ابن سنان صالحة لحمل اليقين في روايات النهي عن نقض اليقين بالشك على الطريقية فكذلك تصلح روايات النهي عن نقض اليقين بالشك لحمل قوله في الصحيحة “انك اعرته اياه و هو طاهر” على التنبيه على علم السائل بكونه طاهرا سابقا، فان التعبير عنه بمثل ذلك متعارف ايضا، و قد يقال باولوية هذا الحمل الاخير، بعد تناسب لفظ النقض مع تعلقه باليقين و كونه امرا مبرما و مستحكما.

و لست ادري ماذا يقصد من ركنية واقع الحدوث، فان كان يقصد بها كفايته عند وجود حجة تفصيلية او اجمالية عليه، كما لو علمنا بوجوب اكرام زيد اليوم او وجوب اكرام عمرو اليوم مع احتمال بقاء وجوب اكرام عمرو على تقدير حدوثه الى غد، فلا غرابة فيه، ولکن ان كان يقصد جريان الاستصحاب بمجرد واقع الحدوث مع الشك في البقاء على تقدير الحدوث، فهو غريب، فانه لو تيقن المكلف بنجاسة ثوبه يوم الخميس، ثم طهر في يوم الجمعة واقعا من دون علمه به، و في يوم السبت كان شاكا في طهارته و نجاسته، فانه لا ينبغي الاشكال في جريان استصحاب نجاسته ليقينه بها في يوم الخميس، و لكن بناء على مبناه يكون استصحاب طهارته الحادثة واقعا في يوم الجمعة و المشكوك بقاءها في يوم السبت على تقدير حدوثها مانعا واقعا من جريان استصحاب نجاسته، لتمامية اركان الاستصحاب في طهارته بعد تحقق واقع حدوثها و الشك في بقاءها على تقدير حدوثها، و لا أظن التزامهم به، و قد يكون اطلاق الصحيحة شاهدا على جريان استصحاب الطهارة واقعا -بناء على استفادة الاستصحاب منها- في الثوب و لو نجسه الذمي واقعا و احتمل انه طهّره قبل ان يرده عليه، فيكون ذلك قرينة على أن واقع الحدوث من دون قيام حجة عليه لا يكفي في جريان الاستصحاب.

الوجه الثالث: ما ذكره في البحوث من أنه في موارد قيام الأمارة على الحدوث، و ان كان يعلم بارتفاع موضوع الحكم الظاهري بقاءً، إلّا انَّ روح الحكم الظاهري و حقيقته، و هو اهتمام الشارع بالحكم مما يحتمل بقاؤه بشخصه، لأنَّ قيام الأمارة و نحوه ليس إلّا سبباً لشدة الاهتمام و ليس موضوعاً له، فيمكن إجراء الاستصحاب في روح الحكم الظاهري و حقيقته لتمامية أركان الاستصحاب فيه حينئذ من اليقين بحدوثه و الشك في بقائه بشخصه.

نعم يوجد في مورد استصحاب الاهتمام بالتكليف المشكوك الذي قامت الامارة على حدوث ذلك التكليف، أمارة نافية لبقاء الاهتمام، و هو دليل البراءة الشرعية الذي هو أمارة على عدم الاهتمام، ويقدَّم على استصحاب الاهتمام، ولا يقاس بتقدم استصحاب الحكم الواقعي عند الشك فيه على اصل البراءة، لأنَّ البراءة ليست أمارة نافية للحكم الواقعي المشكوك، فيكون الاستصحاب و البراءة من هذه الناحية في عرض واحد، فيؤخذ بالاستصحاب لتقدم دليله على دليلها[14].

ويرد عليه اولا: أن الوجه انما يجري فيما اذا كان قيام الامارة على حدوث الحكم الشرعي مقارنا مع حدوث ذلك الحكم، فيستصحب اهتمام المولى بهذا الحكم على تقدير وجوده، او فقل عدم رضاه بمخالفته على تقدير وجوده، ونتيجته لزوم الاحتياط، ولا يجري هذا الوجه اذا كان قيام الامارة على حدوث الحكم في زمان الشك في بقاءه، كما لا يجري في استصحاب الموضوع او الحكم الذي قامت الامارة على حدوثه كطهارة الماء لاثبات اثر شرعي مترتب على بقاءه، كوجوب الوضوء بعد دخول الوقت عند انحصار الماء به، لعدم سبق العلم بحدوث الاهتمام في هذه الموارد.

وثانيا: ان الاهتمام بالحكم الذي قام عليه خبر الثقة مثلا يكون بنحو القضية الحقيقية، فاذا انتفى خبر الثقة فينتفي ذلك الاهتمام، وانما يحتمل ثبوت اهتمام آخر، ويكون استصحابه من قبيل استصحاب القسم الثالث من الكلي.

الوجه الرابع: ما ذكره المحقق النائيني “قده” وتبعه في ذلك السيد الخوئي وشيخنا الاستاذ “قدهما” من أنه لماكانت حجية الأمارات بمعنى اعتبارها علما فتقوم مقام القطع الموضوعي، ومنه اليقين بالحدوث في الاستصحاب، ف‍‍‍ذكروا أن الأمارات العقلائية اعتبرت في الارتكاز العقلائي علما بالواقع، وبضم عدم ردع الشارع عنه يستكشف امضاءه له.

وقد اورد في البحوث على هذا الوجه أنه حتى لو بني على قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي، الا أنه يختص بما اذا كان القطع الموضوعي مأخوذا من حيث انه طريق الى متعلقه، وكاشف عنه، لا من حيث انه صفة نفسانية خاصة، وصحة اسناد النقض الى اليقين دون العلم والقطع ونحوهما حيث كانت لأجل ما في صفة اليقين من الابرام والاستحكام او التعلق والالتفاف بمتعلقه فيكون ظاهرا في اخذ القطع الموضوعي الصفتي، فلا تقوم الأمارة مقامه[15]، ولكن يرد عليه أنه لا منافاة بين كون مصحح استعمال النقض اضافته الى لفظ اليقين دون العلم، وبين ظهور خطاب الاستصحاب في اخذ اليقين بالحدوث في موضوع الاستصحاب من حيث انه كاشف عن الواقع، لا من حيث انه ملازم لسكون النفس ونحو ذلك.

فالمهم في الايراد على هذا الوجه اولا: أن الظاهر أنه لا توجد أمارة ظنية يدعي العقلاء كونها علما، ولا اقل من عدم احراز ذلك، فلم يحرز كون مثل خبر الثقة او الظهور علما باعتبار العقلاء مع وجود احتمال عقلائي لمخالفتهما للواقع، فانه ليس في العقلاء أحكام عقلائية يؤخذ فيها القطع موضوعا بنحو واضح بحيث تنعقد سيرتهم على معاملة الأمارات في تلك الأحكام معاملة القطع الموضوعي، ومثل جواز الاخبار او القضاء لعل موضوعه عندهم هو مطلق الحجة والأمارة.

وثانياً: انه لو فرض اعتبار العقلاء خبر الثقة علما فمادام لم‌ يوجب ذلك توسعة دائرة ظهور لفظ العلم المأخوذ في موضوع الاحكام في الخطابات الشرعية وبقيت تلك الخطابات ظاهرة في العلم الوجداني فلا دليل على شمول تلك الاحكام لهذا العلم الاعتباري، بعد أن لا يلزم من ذلك لغوية اعتباره علما، لكون القدر المتيقن منه كونه بغرض التنجيز والتعذير، وأما تنزيل العقلاء خبر الثقة منزلة العلم في الاحكام الثابتة للقطع الموضوعي فلا يعقل الا بلحاظ الاحكام العقلائية الثابتة للقطع الموضوعي، كجواز الاخبار -بناء على كون موضوعه العقلائي هو العلم- دون الاحكام الشرعية التعبدية، فان شأن كل مشرِّع أن يتصرف في دائرة تشريع نفسه.

هذا وقد يدعى كون الأمارات علما في اعتبار الشارع، لأجل بعض النصوص، كرواية المراغي “لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا الذين عرفوا بأنا نفاوضهم سرنا ونحمله اياهم” وصحيحة الحميري “العمري ثقتي فما ادى اليك عني فعني يؤدي وما قال لك فعني يقول، فاسمع له واطع، فانه الثقة المأمون”، وقد عبِّر عن شهادة العدلين في الموضوعات بالبينة، والبينة ما يبيِّن الواقع، كا قد يستدل بفحوى ما ورد من اعتبار العلمية والغاء الشك في بعض الاصول العملية كقوله في قاعدة التجاوز والفراغ “إذا خرجت من شي‌ء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشي‌ء([16])” و”إذا شككت في شي‌ء من الوضوء، وقد دخلت في غيره فليس شكك بشي‌ء، إنما الشك إذا كنت في شي‌ء لم‌ تجزه([17])، وقوله في الاستصحاب “لا تنقض اليقين بالشك”.

ولكنه غير متجه، أما رواية المراغي فمضافا الى ضعف سندها ليست ظاهرة في الارشاد الى الغاء الشك ادعاء واعتبارا، فلعلها تنهى عن التشكيك اللساني والعملي، على أنها واردة في خبر ثقات الامام (عليه السلام) الذين عرفوا بأنهم اصحاب سرّه، لا في مطلق خبر الثقة، وأما صحيحة الحميري فالظاهر من التعبير فيها بأن ما ادى فعني يؤدي هو بيان وثاقته، لا التعبد بكون اخباره علما بالواقع، على أنه يتناسب مع مسلك تنزيل المؤدى منزلة الواقع، وأما التعبير عن شهادة العدلين في الروايات بالبينة فمضافا الى عدم جريانه في غيرها واحتمال الفرق موجود، ان التعبير بالبينة لعله لأجل كونها توجب العلم عادة وان كانت حجيتها غير مشروطة بافادة العلم، وأما فحوى بعض ادلة الاصول العملية ففيه أنه لم يظهر من قوله “شكك ليس بشيء” الغاء الشك تعبدا واعتبار العلم، فانه يوجد فرق بين أن يقال لا شك له وبين أن يقال شكه ليس بشيء، فان الثاني لا يلغي الشك اعتبارا وانما لا يقيم له وزنا ولا يراه قابلا للاعتناء، والقدر المتيقن منه كونه ناظرا الى تصحيح العمل ظاهرا، لا ترتيب آثار العلم الموضوعي، وهكذا قوله “انما الشك اذا كنت في شيء لم‌ تجزه” فانه وارد بعد قوله “فشكك ليس بشيء” فلا يظهر منه أكثر من حصر الشك الذي يعتنى به فيما كان قبل التجاوز عن المحل، وأما النهي عن نقض اليقين بالشك فقد مر أنه لا يظهر منه كونه نهيا عن النقض الحقيقي لليقين بداعي الارشاد الى التعبد بعدم انتقاضه واعتبار بقاءه، بل لعله نهي طريقي عن النقض العملي لليقين ولا يظهر منه اكثر من ترتيب آثار الواقع عند الشك في بقاءه دون ترتيب آثار العلم الموضوعي.

الوجه الخامس: ما عليه السيد الامام “قده” من أن اليقين في استعمالات الكتاب والسنة ظاهر في مطلق الحجة، فانه بعد ما تعارف اعتماد العقلاء والمتشرعة على الطرق المعتبرة في شتى المجالات فيكون ظاهر قوله تعالى: “حرم عليكم …ان تقولوا على الله ما لا تعلمون” وقوله (عليه‌السلام) “من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض”، هو إرادة معنى الحجة، لأن المتعارف في الفتوى استنادها الى الحجة لا العلم الوجداني، وهكذا قوله “رفع ما لا يعلمون” و”لا تنقض اليقين بالشك” ونحو ذلك، فيكون قوله “لا تنقض اليقين بالشك” في قوة “لا تنقض الحجة بغير الحجة” لا بمعنى استعمال لفظ اليقين والشك في ذلك، بل لأجل ان العرف لا يرى لخصوصية اليقين والشك دخالة في الحكم، كما أنه يلغي خصوصية الرجل في قوله “رجل شك بين الثلاث والأربع”، ويرى أن ذكره من باب المثال، فانه في كثير من موارد دعوى اليقين بالحالة السابقة لا يوجد يقين وجداني بها([18])، ويدل عليه قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة الثانية: لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا، فان الظاهر منه إجراء الاستصحاب الحكمي في طهارة الثوب، ولابد ان تحمل الطهارة على الطهارة الواقعية، لعدم جريان الاستصحاب في الطهارة الظاهرية، ومن المعلوم أن العلم الوجداني بالطهارة الواقعية مما لا يمكن عادة، (فانه حتى لو غسله بالماء فحيث ان الغسل سابقا كان بالماء القليل عادة وكان يحتمل نجاسته، فالطهارة السابقة لم ‌تثبت الا بالحجة) فيرجع مفاده إلى أنه لا يرفع اليد عن الحجة على الطهارة بغير الحجة، بل يمكن ان يؤيد ذلك بصحيحته الأولى أيضا، فان اليقين الوجداني بالطهارة من الحدث لم‌ يكن يحصل عادة، لغلبة الشك في طهارة ماء الوضوء (الذي كان ماء فليلا غالبا) تأمل، و يؤيده أيضا بعض الروايات التي يظهر منها جريان الاستصحاب في مفاد بعض الأمارات، ففي صحيحة معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): الرجل يكون في داره ثمّ يغيب عنها ثلاثين سنة ويدع فيها عياله ثمّ يأتينا هلاكه، ونحن لا ندري ما أحدث في داره، ولا ندري ما حدث له من الولد، ولا تقسّم هذه الدار على ورثته الذين ترك في الدار حتى يشهد شاهدا عدل أنّ هذه الدار دار فلان ابن فلان مات وتركها ميراثاً بين فلان وفلان، أ ونشهد على هذا؟ قال: نعم([19])، فلو لا جريان الاستصحاب في مفاد الأمارات لما يجوز الشهادة بان أمواله له لامتناع حصول اليقين الوجداني بأن المال ماله، فجريان الاستصحاب في مفاد الأمارات و بعض الأصول كأصالة الصحة مما لا مانع منه([20]).

اقول: لا يبعد تمامية ما ذكره في لفظ العلم والتبيّن ونحو ذلك دون مثل لفظ اليقين والجزم، فان الاحكام المترتبة على العلم ظاهرة في الحجة، ولا يخفى أنه مراده من الحجة ليس هو مطلق المنجز والمعذر، بل ما يثبت الواقع عقلاء او شرعا، فقد ذكر أن الحجة عبارة عن الطرق العقلائية والشرعية إلى الواقع التي تكشف‏ كشفا غير تام، ولذا ذكر أن معنى “رفع ما لا يعلمون” وان كان هو رفع ما لا حجة عليه، ولكن لا يلزم من ذلك ورود خطاب الامر بالاحتياط عليه، اذ ليس هو منها بلا إشكال، والشاهد على ذلك انه لو أفتى أحد بوجوب شيء واقعا لقيام الأمارة عليه، فلا يقال انه أفتى بغير علم، واما إذا أفتى به لأجل دليل الاحتياط يقال انه أفتى بغير علم([21])، وذكر في موضع آخر أن مفاد أدلة الأصول ليس الا تعيين الوظيفة عند عدم قيام الحجة، لا جعل الحجة على الواقع([22])، ولعل مراده من الاصول في هذه العبارة الاصول غير المحرزة والتنزيلية، والا فقد مر منه أن الحجة على الطهارة الواقعية السابقة المستصحبة كانت هو الاصل.

وعليه فلا يتم ما قد يورد عليه بالمنع من ظهور لفظ العلم في كونه مثالا لجامع الحجة بمعنى كل منجز ومعذر، فالانصاف أنه لايبعد ظهور لفظ العلم في الكتاب والسنة بل الاستعمالات العرفية في كونه مثالا لمطلق الطريق والكاشف المعتبر العقلائي، فترى أنه لو ادعى زيد أن عمروا مدين لابيه الميت، استنادا الى اقراره، فلا يقال له “انك تدعي ما لا تعلم، والدعوى بغير علم حرام”، وان فرض عدم افادة ذلك الاقرار للعلم الوجداني، ويلحق به الكاشف المعتبر الشرعي الذي استفيد من الشرع المعاملة معه معاملة الامارات العقلائية، كخبر الثقة بناء على كون دليل حجيته الروايات او السيرة المتشرعية دون سيرة العقلاء.

وأما لفظ اليقين فيختلف عن لفظ العلم، فانه ليس ظاهرا في كونه مثالا لمطلق الكاشف، وما استشهد به “قده” من صحيحة زرارة الاولى والثانية على ظهور لفظ اليقين في كونه مثالا لمطلق ما يثبت الواقع ولو شرعا كالاصول المحرزة نحو الاستصحاب ايضا قابل للمنع، اذ يمكن أن نجعل استعمال لفظ اليقين بالطهارة قرينة على أن الامام (عليه السلام) في الصحيحة الاولى استصحب الطهارة الظاهرية من الحدث، او أنه اجرى استصحاب عدم حدوث النوم، وفي الصحيحة الثانية استصحب عدم اصابة الدم، هذا مضافا الى أنه يحصل للاذهان الساذجة العرفية غير الملتفتة الى الشبهات اليقين بالطهارة عقيب الوضوء او غسل الثوب بالماء.

وهكذا صحيحة معاوية بن وهب، فانه مضافا الى أن الذهن العرفي غير الملتفت الى الشبهات يطمأن بحصول ملكية المشتري للمبيع عقيب شراءه، كما أن من الممكن استصحاب ملكيته الظاهرية او عدم الرافع.

كما أن الاستشهاد على كون المراد من اليقين مطلق الحجة بقوله “ولكنه ينقضه بيقين آخر” حيث انه لا اشكال في لزوم نقض اليقين بالحجة على الخلاف، غير متجه، فان لزوم نقضه بها لا يعني ظهور هذا الخطاب في ذلك.

فيتوقف تمامية هذا الوجه على استظهار كون المراد من اليقين في خطاب الاستصحاب هو العلم، الذي لم نستبعد كونه مثالا لمطلق الكاشف، و هذا وان كان كان غير بعيد بمناسبة الحكم والموضوع، لكننا في غنى من هذا الوجه بعد تمامية الوجه اللاحق.

الوجه السادس: ما يخطر بالبال في تقريب كفاية مطلق الحجة على الحدوث ولو كانت حجة اجمالية -كما لو علمنا بوجوب اكرام زيد اليوم او وجوب اكرام عمرو اليوم مع احتمال بقاء وجوب اكرام عمرو على تقدير حدوثه الى غد- من أن النقض العملي لليقين بحدوث شيء بمعناه الحقيقي ليس الا بعدم ترتيب آثار الحدوث، ولاعلاقة له بعدم ترتيب آثار البقاء، فارادة النهي عن عدم ترتيب آثار البقاء من نقض اليقين بالشك تكون ظاهرة عرفا في لحاظ الشارع ملازمة ظاهرية بين الحدوث والبقاء والعرف بعد عدم اقتضاء اليقين بالحدوث بنفسه ترتيب آثار البقاء لا يرى خصوصية لتعلق اليقين بالحدوث ويفهم من خطاب الاستصحاب كون جريانه من آثار قيام مطلق الحجة على الحدوث.

هذا فيما اذا احتجنا الى استصحاب بقاء نفس ما قامت الأمارة على حدوثه، ولكن كثيرا ما لا نحتاج الى ذلك، كما لو كان بقاء الحكم الشرعي مشرطا بعدم حدوث شيء معين، كاشتراط بقاء الطهارة بعدم طرو النوم، فنستصحب عدم النوم بعد تمامية اركان الاستصحاب فيه، فيثبت به بقاء الطهارة، وان كان حدوث الطهارة ثابتا بالأمارة، وهكذا لو شككنا في كون زوال التغير رافعا للنجاسة المتيقنة الحدوث للماء المتغير، فاذا شككنا في بقاء نجاسته الى ما بعد زوال تغيره، فنستصحب ذلك كمجعول كلي، فان قامت امارة على حدوث التغير في ماء نعلم بعدم تغيره فعلا، نطبق عليه ذلك الحكم الاستصحابي، ولا حاجة الى اجراء الاستصحاب في نجاسة هذا الماء المعين حتى يقال بأن نجاسته ليست متيقنة الحدوث لعدم العلم الوجداني بحدوث التغير فيه، وكذا الحال فيما اذا قامت أمارة على طهارة الماء الذي توضأ منه في الشبهة الحكمية او الموضوعية فانه يعني قيام الامارة على كونه متطهرا بعد هذا الوضوء، ونستصحب بنحو كلي أن من كان متطهرا يبقى متطهرا بعد خروج المذي.

وقد ذكر السيد الصدر “قده” في الحلقة الثالثة أن الحاجة الى حل مشكلة اليقين الوجداني بالحدوث بالالتزام بركنية واقع الحدوث ونحوه انما يكون في فرض الشك في المقتضي، كما إذا دلت الأمارة على وجوب الجلوس في المسجد إلى الزوال و شك في بقاء هذا الوجوب بعد الزوال، فان الأمارة هنا لا تدل مطابقة أو التزاماً على أكثر من الوجوب إلى الزوال، فيأتي فيه اشكال ان الحكم الظاهري بوجوب الجلوس مقطوع الارتفاع والحكم الواقعي مشكوك الحدوث فلم يتم اركان الاستصحاب فيهما.

وأما اذا علم أن للحكم المدلول للأمارة على فرض ثبوته غاية و رافعاً، و يشك في حصول الرافع على نحو الشبهة الموضوعية أو الحكمية، فيمكن الاستصحاب حتى مع ركنية اليقين بالحدوث، وفيه أربع صور:

الصورة الأولى: ان يكون كل من الأمارة على حدوث الحكم والشك في البقاء بنحو الشبهة الموضوعية، كما إذا أخبرت البينة بتنجس الثوب و شك في طرو المطهِّر، و في مثل ذلك لا حاجة إلى استصحاب النجاسة الواقعية ليرد الإشكال القائل بأنه لا يقين بحدوثها، بل يمكن إجراء الاستصحاب بأحد وجهين آخرين:

1- ان نجري الاستصحاب الموضوعي فنستصحب عدم غسل الثوب بالماء، و من الواضح ان نجاسة الثوب مترتبة شرعاً على موضوع مركب من جزءين: أحدهما: ملاقاته للنجس. و الآخر: عدم طروِّ الغسل عليه. و الأول ثابت بالأمارة، و الثاني بالاستصحاب لأن أركانه فيه متوفرة بما فيها اليقين بالحدوث، فيترتب على ذلك بقاء النجاسة شرعاً.

2- ان الأمارة التي تدل على حدوث النجاسة في الثوب تدل‏ أيضاً بالالتزام على بقائها ما لم يغسل، لأننا نعلم بالملازمة بين الحدوث و البقاء ما لم يغسل، فما يدل على الأول، بالمطابقة يدل على الثاني بالالتزام. و مقتضى دليل حجية الأمارة التعبد بمقدار ما تدل عليه بالمطابقة و الالتزام، فإذا شك في طروِّ الغسل كان ذلك شكاً في انتهاء أمد الحكم الظاهري الثابت بدليل الحجية، فيستصحب لأنه معلوم حدوثاً و مشكوك بقاء[23].

الصورة الثانية: ان تكون الأمارة على الحدوث بنحو الشبهة الحكمية و يكون الشك في البقاء بنحو الشبهة الموضوعية، كما إذا دلت الأمارة على نجاسة الماء المتغير و شك في بقاء التغير، و هنا يجري نفس الوجهين السابقين، حيث يمكن استصحاب التغير، و يمكن استصحاب نفس النجاسة الظاهرية المغياة بارتفاع التغير، للشك في حصول غايتها.

الصورة الثالثة: ان تكون الامارة على الحدوث بنحو الشبهة الموضوعية و يكون الشك في البقاء بنحو الشبهة الحكمية، كما إذا دلت الأمارة على نجاسة الثوب و شك في بقائها عند الغسل بالماء المضاف.

و في هذه الصورة يتعذر إجراء الاستصحاب الموضوعي، إذ لا شك في وقوع الغسل بالماء المضاف و عدم وقوع الغسل بالماء المطلق، و لكن يمكن إجراء الاستصحاب على الوجه الثاني، لأن الأمارة المخبرة عن نجاسة الثوب تخبر التزاماً عن بقاء هذه النجاسة ما لم يحصل المطهر الواقعي، و على هذا الأساس يكون التعبد الثابت على وفقها بدليل الحجية تعبداً مغيا بالمطهر الواقعي أيضاً، فالتردد في حصول المطهر الواقعي و لو على نحو الشبهة الحكمية يوجب الشك في بقاء التعبد المستفاد من دليل الحجية و الذي هو متيقن حدوثاً، فيجري فيه الاستصحاب.

الصورة الرابعة: ان يكون كل من الأمارة على الحدوث والشك في البقاء بنحو الشبهة الحكمية، كما إذا دلت على تنجس الثوب بملاقاة المتنجس و شك في حصول التطهير بالغسل بالماء المضاف، و علاج هذه الصورة نفس علاج الصورة السابقة، فإن النجاسة المخبر عنها بالأمارة هي على فرض حدوثها نجاسة مستمرة مغياة بطرو المطهر الشرعي، و على هذا فالتعبد على طبق الأمارة يتكفل إثبات هذا النحو من النجاسة ظاهراً، و لما كانت الغاية مرددة بين مطلق الغسل، و الغسل بالمضاف فيقع الشك في حصولها عند الغسل بالمضاف، و بالتالي يقع الشك في بقاء التعبد المغيى المستفاد من دليل الحجية، فيستصحب[24].

اقول: يرد عليه اولا: ان الشك في الرافع التكويني للموضوع البسيط للحكم الشرعي لا يكون مجرى للاستصحاب الموضوعي المثبت للحكم الواقعي، اذ يكون من الاصل المثبت.

وثانيا: ان حجية الامارة ان كانت بمعنى جعل الحكم المماثل امكن أن يقال بأنه يستصحب النجاسة الظاهرية المعلومة الحدوث ما لم يحصل العلم برافعها، أما الحجية بمعنى المنجزية والمعذرية او جعل العلمية او ابراز الاهتمام فلا معنى لاستصحابها لعدم الشك في حجية الدلالة الالتزامية للامارة على حدوث الحكم في بقاءه ما لم يحصل الرافع، عدم حصوله لا يعني بقاء الحجية كما ان حصوله لا يعني ارتفاع الحجية.

ولم يذكر في مباحث الاصول والبحوث هذا البيان في الصورة الثالثة والرابعة، وانما ذكر في الصورة الثالثة أنه يمكن استصحاب الحكم الواقعي فيها على نحو المجعول الكلي، كما تقدم منّا بيانه، كما ذكر في الصورة الرابعة أن حل مشكلة الاستصحاب فيها موقوف على الغاء ركنية اليقين الوجداني بالحدوث، ,ومثّل لها بقيام الأمارة على وجوب صلاة الجمعة في عصر الحضور وشك في بقاءه في عصر الغيبة، ولكن ليست جميع أمثلتها من هذا القبيل، ففي مثال قيام الامارة على طهارة الماء الملاقي للمتنجس الخالي عن عين النجس، لو توضأ منه ثم خرج منه المذي فيمكنه اجراء الاستصحاب على نحو المجعول الكلي بأن يقول من كان متطهرا من الحدث يبقى متطهرا الى ما بعد خروج المذي بحكم الاستصحاب، والمفروض قيام الأمارة على الصغرى وأن المتوضأ من هذا الماء متطهر، وكذا في مثال قيام الامارة على نجاسة الثوب الملاقي لدم البيض، وقد غسل بالماء المضاف بعد ذلك، فيجرى الاستصحاب في المجعول الكلي فيقال “الثوب المتنجس يبقى متنجسا بعد غسله بالماء المضاف، وقامت الأمارة على كون هذا الثوب الملاقي لدم البيض متنجسا.

وثالثا: انه ان كان يكفي في الصورة الثالثة والرابعة انتزاع عنوان الرافع في كون الحكم الظاهري على وفق المدلول الالتزامي للامارة مغيى بعدم الرافع، مع أنه لا شك في الخارج حيث يعلم بتحقق الغسل بالماء المضاف مثلا في الثوب الذي قامت الامارة على ملاقاته للدم او دلت الرواية على كون ملاقاته المعلومة للمتنجس موجبة لنجاسته، فلابد من أن يكفي العنوان الانتزاعي في الشك في المقتضي ايضا، كما لو قامت الأمارة على وجوب الجلوس قبل الزوال فيقال بان مدلولها الالتزامي بقاء الوجوب الى أن توجد غاية الوجوب، او مادام بقاء المقتضي.

ولكن الانصاف عدم دليل على حجية المدلول الالتزامي الناشء عن انتزاع عنوان مبهم لا يكشف عن شيء، فاذا دلت الامارة على وجوب اكرام زيد وشككنا في رافعية شيء لوجوب اكرامه، فيمكن انتزاع بقاء الوجوب الى أن يرفعه رافع، وجعله مدلولا التزاميا لهذه الأمارة، ولكن اذا لاحظنا تلك الامارة فلا تكون كاشفة عن ثبوت الوجوب بعد تحقق ذلك الشيء المشكوك الرافعية ابدا، وأما قبله فهو معلوم وجدانا، فيمكن النقاش في حجية هذا المدلول الالتزامي الانتزاعي لما بعد تحقق ذلك الشيء لأجل عدم قابليته للوصول، فانه لا دليل عليها لا من بناء العقلاء ولا من الروايات، لعدم صدق أنه مما أدّاه وقاله الثقة، وقد ذكرنا في محله أن المهم في نكتة حجية الأمارة وان كان هو كاشفيته الا أنه لم يعلم كونها تمام النكتة، ولا أقل في مثل هذا الدلالة الالتزامية الانتزاعية.

المقام الثاني: فيما إذا كانت الحالة السابقة ثابتة بالأصل

اذا كانت الحالة السابقة ثابتة بالاصل، فان اريد اجراء الاستصحاب في الحكم الظاهري، فلا يوجد اشكال فيه من ناحية اليقين بالحدوث، وان اريد اجراءه في الحكم الواقعي الثابت بالاصل، فلا اشكال فيه ايضا، بناء على ركنية واقع الحدوث او ما هو المختار من ركنية الحجة على الحدوث، بشرط كون الاصل حجة على ثبوت الحالة السابقة، فلا يكفي أصل البراءة، لكون مفاده مجرد عدم وجوب الاحتياط في التكليف المشكوك، دون ترتيب آثار عدم التكليف واقعا، فلو قال المولى “اذا لم يجب الوضوء وجب التيمم” فالبراءة عن وجوب الوضوء لا تكفي لاثبات وجوب التيمم، كما لا تكفي أصالة الاحتياط في مثل الشبهة البدوية قبل الفحص.

وأما بناء على ركنية اليقين بالحدوث فلابد من التفصيل بين الاصل الذي اعتبر علما بالواقع، ان وجد اصل من هذا القبيل، كما هو مختار جمع من الاعلام كالمحقق النائيني والسيد الخوئي وشيخنا الاستاذ “قدهم” في الاستصحاب وقاعدة الفراغ ونحوهما، وبين الاصل الذي ليس من هذا القبيل، كقاعدة الطهارة والحلّ، فلا يجدي اثبات الحالة السابقة بهما لاجراء الاستصحاب.

وأما بناء على كون المجعول في الاستصحاب تنزيل المستصحب منزلة الواقع فاذا دل الاستصحاب على ثبوت الحالة السابقة، كما في مثال استصحاب طهارة الماء الذي غسل به الثوب المتنجس، ثم شك في بقاء طهارة الثوب، فبناء على ركنية اليقين بالحدوث، قد يحاول اثبات اليقين بالحدوث بدعوى الملازمة بين تنزيل المستصحب منزلة الواقع وبين تنزيل العلم بالواقع التنزيلي منزلة العلم بالواقع الحقيقي، وهذا ما ادعاه صاحب الكفاية في حاشية الرسائل، لكن مر في محله المنع من ثبوت هذه الملازمة عرفا، وقد ذكرنا في محله أنه لو قال المولى “مشكوك الطهارة طاهر” فنقطع حينئذ بكون مشكوك الطهارة طاهرا تنزيليا، لكننا نلتفت الى أنه ليس القطع بالطهارة التنزيلية قطعا بالطهارة الواقعية، والموضوع في قول المولى “اذا قطعت بكون شيء طاهرا فتوضأ منه” هو القطع بالطهارة الواقعية لا الاعم منه ومن القطع بالطهارة التنزيلية فلا يبقى وجه لاستظهار كون القطع بالطهارة التنزيلية محكوما بحكم القطع بالطهارة الواقعية.

نعم لو كانت الحكومة واقعية كما لو قال المولى “اذا قطعت بكون شخص عالما فلا تتقدم عليه في المشي” ثم قال “ولد العالم عالم” فلا يبعد أن يكون اطلاق الحكومة موجبا لصيرورة القطع بكون شخص ولد العالم موضوعا ايضا لهذا الحكم، ولو لم‌ يعلم بكونه عالما تنزيليا، وان ابيت فلا أقل من صيرورته موضوعا للحكم بعد العلم بكونه عالما تنزيليا، وأما في الحكومة الظاهرية كقوله “مشكوك الطهارة طاهر” فيراه العرف في قبال القطع بالطهارة، وانما تكون مجرد منجز ومعذر لها، والمقام من هذا القبيل، وبهذا اتضح أنه لو قال المولى “اذا قطعت بكون مايع خمرا فأهرقه” ثم ورد في خطابٍ “ما قامت الامارة على كونه خمرا فهو خمر” فيختلف عما لو ورد “العصير العنبي خمر”، حيث تكون حكومة الاول حكومة ظاهرية، ويكون في قبال القطع بالخمرية فلا يرى العرف تنزيل القطع بالخمر التنزيلي منزلة القطع بالخمر الحقيقي، فما يدعى من ثبوت الملازمة العرفية للغفلة النوعية العرفية عن مغايرة القطع بالواقع التنزيلي مع القطع بالواقع الحقيقي غير متجه للمنع عن الغفلة النوعية، ولا فرق في ذلك بين كون ظاهر خطاب التنزيل ادعاء أن هذا هو الواقع ام لا.

وقد يقال ان تنزيل المستصحب او المؤدى منزلة الواقع يكفي في تحقق اليقين بالطهارة الواقعية تعبدا، فان اليقين بطهارة الثوب مركب من جزءين: العلم بالطهارة، و كونها طهارة واقعية، فالجزء الاول معلوم بالوجدان، والثاني بالتعبد والتنزيل، وقد اشكل عليه في مباحث الاصول بأن العرف لا يساعد على مثل هذا التركيب في المقام[25]، وفيه أن معنى التنزيل منزلة الواقع ليس هو جعل الطهارة الظاهرية مثلا، وادعاء كونها هي الطهارة الواقعية، بل مجرد جعل حكم ظاهري مشابه للحكم الواقعي المشكوك، على أن هذا الادعاء ان كان معناه جعل آثار العلم بالطهارة الواقعية للعلم بالطهارة الظاهرية، فعدم الظهور في التركيب لا يقدح في ذلك، وان لم يكن معناه اكثر من ترتيب آثار الطهارة الواقعية عند الشك، دون ترتيب آثار العلم بها فلا يجدي الالتزام بالتركيب، فان العلم الوجداني متعلق بالطهارة الظاهرية، بينما أن الاثر الشرعي مترتب على العلم بالطهارة الواقعية، والعرف ملتفت الى الفرق بينهما ولذا لا يرتب على قاعدة الطهارة آثار العلم بالطهارة الواقعية.

ثم انه ذكر المحقق النائيني “قده” أنّه بعد قيام الدليل على جريان استصحاب الحكم الواقعي في كلّ آنٍ يشكّ في بقاءه او بقاء موضوعه، فلا مجال لاستصحاب هذا الاستصحاب، كما أنه في مورد جريان اصل الطهارة ان اريد استصحاب الطهارة الواقعية، فالمفروض أن اصل الطهارة لا يثبت الواقع، وان اريد استصحاب الطهارة الظاهرية فالمفروض قيام الدليل على ثبوتها بمجرد الشّك في الطهارة الواقعية، فلا مجال لاستصحابها، و هذا لا ينافي حكومة الاستصحاب على اصل الطهارة، فانّ حكومة الاستصحاب فرع جريانه، و المدّعى في المقام أنّه لا يجري لأنّه لا أثر له، فالمانع من جريان الاستصحاب في موارد الأصول ليس هو عدم وجود اليقين السابق المعتبر فيه و لذا لا مانع من جريانه في كل مورد لم يكن دليل الأصل متكفلا للبقاء، بل كان متمحضا في الحدوث، و لذا لو حكمنا بطهارة شي‏ء متنجس مغسول بالماء، اما بأصالة الصحة أو بقاعدة الفراغ، ثم شك في عروض النجاسة له، فلا مانع من التمسك بالاستصحاب، لما ذكرناه سابقا من أن اليقين في باب الاستصحاب انما أخذ في الموضوع من حيث انه مقتض للجري العملي فلا مانع من قيام الأصول‏ فضلا عن الأمارات مقامه، إلّا ان ذلك مشروط بوجود اليقين و الشك في نفس هذا الحكم الظاهري ففي الموارد التي يكون دليل الأصل متكفلا لحال البقاء كالحدوث لا مجال للتمسك بالاستصحاب في الآن الثاني أصلا[26].

اقول: قد وقع الخلط في كلامه بين اجراء الاستصحاب في الحكم الواقعي الذي ثبت حدوثه بالاصل وبين اجراءه في نفي الحكم الظاهري الثابت بدليل الاصل، فحينما قال “ان اليقين في باب الاستصحاب انما أخذ في الموضوع من حيث انه مقتض للجري العملي فلا مانع من قيام الأصول‏ فضلا عن الأمارات مقامه” لاحظ الاول، دون الثاني، لأن استصحاب الحكم الظاهري يكون من باب العلم الوجداني بحدوثه ولا اقل من قيام الامارة عليه دون الاصل العملي[27]، وحينما قال في ذيله “في الموارد التي يكون دليل الأصل متكفلا لحال البقاء كالحدوث لا مجال للتمسك بالاستصحاب في الآن الثاني” لاحظ الثاني دون الاول، فان دليل الاصل قام على بقاء الحكم الظاهري، نعم كان بامكانه أن يقول انه ان اريد استصحاب الحكم الواقعي فلا يقين فيه بالحدوث في الاصل الذي لا يكون مفاده اعتبار العلم بالواقع، وان اريد استصحاب الحكم الظاهري فلا شك في بقاءه.

وما ذكره من أن استصحاب الطهارة على تقدير جريانه وان كان حاكما على قاعدة الطهارة، لكن المانع عن جريانه عدم اثر له، ففيه أن استصحاب الطهارة الظاهرية ليس حاكما على عموم دليل الطهارة الظاهرية، بل نسبته اليه نسبة الاصل الى الأمارة، والا فكيف يمنع الدليل المحكوم عن جريان الحاكم الذي يكفي في اثره ان يوجب انتفاء المحكوم.

وأما مثال ثبوت الطهارة في الثوب المتنجس باجراء قاعدة الفراغ او اصالة الصحة في غسله، فان كان الشك في بقاء الطهارة لشبهة موضوعية اي الشك في ملاقاته للنجس، فيمكن اجراء الاستصحاب الموضوعي عادة لنفي ملاقاته للنجس، وان كان لشبهة حكمية كملاقاته لدم البيض مثلا، فيمكن الاستصحاب في الحكم الكلي، بأن نقول كل طاهر يبقى طاهرا حتى بعد ملاقاته لدم البيض، وقد ثبتت صغراه في هذا الثوب بقاعدة الفراغ في غسله، كما يمكن اجراء الاستصحاب في طهارته الواقعية الثابتة بقاعدة الفراغ، وهذا بناء على كون مفاد هذه القاعدة الغاء الشك واعتبار العلم واضح، وكذا بناء على على كون مفادها اعتبار العلم من حيث اقتضاء الجري العملي، لو قيل بأن ركن الاستصحاب هو العلم بالحدوث ولو كان هو العلم الاعتباري من حيث اقتضاء الجري العملي كما هو مختار المحقق النائيني “قده” وكذا بناء على المختار من كون ركن الاستصحاب الحجة على الحدوث او ما اختاره صاحب الكفاية من ركنية واقع الحدوث، وهكذا يمكن اجراء الاستصحاب في طهارته الظاهرية، ولا يمنع منه قيام الدليل على جريان اصالة الطهارة فيه بقاء، لما هو الصحيح من امكان جريان الامارة والاصل معا مع توافقهما في النتيجة.

و كيف كان فقد ذكر السيد الخوئي أن الأصول على قسمين:

القسم الأول: ما يكون الأصل المتكفل لبيان الحكم في الزمان الأول متكفلا له إلى زمان العلم بالخلاف، ففي مثل ذلك لا معنى لجريان الاستصحاب، مثاله قاعدة الطهارة، فإذا شككنا في مائع أنه بول أو ماء، و حكمنا بطهارته لقاعدة الطهارة، ثم شككنا في بقاء طهارته لاحتمال ملاقاته النجاسة، فانه لا معنى لجريان الاستصحاب حينئذ، إذ قاعدة الطهارة كما تدل على طهارته في الزمان الأول، تدل على طهارته في الزمان الثاني، إلى زمان العلم بالنجاسة، و بعبارة أخرى إن أردنا جريان الاستصحاب في الطهارة الواقعية، فلم يكن لنا يقين بها، و إن أردنا جريانه في الطهارة الظاهرية، فلا يكون لنا شك في ارتفاعها حتى نحتاج إلى الاستصحاب، بل هي باقية يقيناً، و من هذا القبيل قاعدة الحل بل الاستصحاب أيضا، فإذا كان ثوب معلوم الطهارة ثم شككنا في ملاقاته البول مثلا فاستصحبنا طهارته، ثم شككنا في ملاقاته الدم مثلًا، فلا معنى لاستصحاب الطهارة بعد تحقق هذا الشك الثاني، إذ نفس الاستصحاب الأول متكفل لبيان طهارته إلى زمان العلم بالنجاسة.

القسم الثاني: أن لا يكون الأصل متكفلا لبيان الحكم في الزمان الثاني، كما إذا شككنا في طهارة ماء فحكمنا بطهارته للاستصحاب أو لقاعدة الطهارة ثم غسلنا به ثوبا متنجساً، فالأصل الجاري في الماء يكون متكفلا لحدوث الطهارة في الثوب فقط، دون بقاءها بعد ذلك لو شككنا في بقاءها، كما لو شككنا في ملاقاته مع النجاسة، فلا مانع من جريان الاستصحاب في طهارة الثوب أو في عدم ملاقاته النجاسة[28].

اقول: أما القسم الاول فتارة يراد فیه اجراء الاستصحاب في الحكم الواقعي الذي ثبت حدوثه بالاصل، واخرى يراد اجراء الاستصحاب في الحكم الظاهري، أما الاول فلا اشكال فيه من ناحية تحقق ركن الاستصحاب فيه بناء على كفاية واقع الحدوث او ما هو المختار من كفاية الحجة على الحدوث، بشرط كون الاصل حجة على ثبوت الحالة السابقة كما مر توضيحه.

وأما بناء على لزوم اليقين بالحدوث، إما وجدانا او اعتبارا، فقد مر أنه لابد من التفصيل بين الاصل الذي اعتبر علما بالواقع، وبين الاصل الذي ليس من هذا القبيل، كقاعدة الطهارة والحلّ، والاشكال بكون جريان الاستصحاب في الحكم الواقعي لغوا، لأن الدليل الذي اثبت حدوث الحكم الظاهري كدليل قاعدة الطهارة، بنفسه مثبت لبقاءه، فلا حاجة الى اجراء الاصل فی الحکم الواقعی المتقوم اثبات حدوثه باجراء نفس هذا الدليل للحكم الظاهري مندفع، بعدم لغويته عرفا بعد كونه ناشئا عن اطلاق الجعل نظير شمول المطلقات والخطابات القانونية لفرد لا يترتب عليه اثر فعلي كالغافل والناسي، على أنه لا يأتي فيما كانت دلالة الدليل على الحدوث نصا وعلى البقاء مجرد ظهور، كما لو كان الاصل على الحدوث بنحو الشبهة الموضوعية، والشك في البقاء بنحو الشبهة الحكمية.

وأما الثاني اي اجراء الاستصحاب في الحكم الظاهري فبناء على ما هو الصحيح من امكان جريان الامارة والاصل معا مع توافقهما في النتيجة، فان شك في بقاء الحكم الظاهري على تقدير حدوثه، بأن لم تكن ملازمة بين حدوثه وبقاءه، فلا مانع من استصحابه، كما في فرض كون دلالة دليل الاصل على الحدوث نصا.

بل قد لا توجد الأمارة على بقاء الحكم الظاهري لقصور المقتضي او للمعارضة، فيتعين جريان استصحاب الحكم الظاهري، فمثال قصور المقتضي ما لو جرت قاعدة الطهارة في ثوب شك في كونه متخذا من شعر الكلب مثلا، وقلنا بجريانها في مثله، ثم لاقى الثوب دم البيض، وقلنا بعدم ظهور دليل قاعدة الطهارة في شموله للشبهة الحكمية، فانه لا يمنع من استصحاب طهارته الظاهرية، بعد احتمال بقاءها بشخصها عرفا، ومثال المعارضة ما اذا علم اجمالا بعلم اجمالي متأخر عن اجراء اصل الطهارة في هذا الثوب بنجاسته او نجاسة شيء آخر، فان المعارضة بين دليل الطهارة الظاهرية فيهما بقاء لا يمنع من جريان الاصل العملي المثبت لها في الثوب وهو استصحاب طهارته الظاهرية الثابتة قبل العلم الاجمالي.

ثم انه يقال بأن استصحاب بقاء الطهارة الواقعية الثابتة بقاعدة الطهارة بناء على حكومة استصحاب الطهارة على قاعدة الطهارة كما هو المنسوب الى المشهور، يكون حاكما على قاعدة الطهارة الجارية بقاء، (وان كان قد يعد هذا من النتائج الغريبة لحكومة استصحاب الطهارة الواقعية على قاعدة الطهارة) وهذا البيان لا يجري في استصحاب الطهارة الظاهرية، فان عموم قاعدة الطهارة يكون حاكما عليه عند المشهور، والفارق بينهما أن موضوع قاعدة الطهارة الشك في الطهارة الواقعية فيكون استصحاب الطهارة الواقعية رافعا لموضوعه وليس موضوعه الشك في الطهارة الظاهرية.

وأما القسم الثاني فقد يورد عليه بأنّ الطهارة الظاهرية الحادثة في الثوب وان كانت ثابتة باجراء أصالة الطهارة في الماء، ولكن لا خصوصية لتطبيقها على الماء، وطبيعي الطهارة الظاهرية ليست مشكوكة البقاء في الثوب المغسول بالماء الذي جرى فيه اصل الطهارة، لجريان أصل الطهارة بقاءً في نفس الثوب، ولكن الصحيح أنه لو كان جريانه في الماء هو المتيقن من دليل قاعدة الطهارة بالقياس الى جريانه في الثوب، لدلالة دليل خاص عليه وهو رواية حماد بن عثمان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر، وان كانت موثقة عمار “كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر”، شاملة لكليهما، فلا مانع من جريان استصحاب الطهارة الظاهرية الثابتة في الثوب عقيب غسله بماء جرى فيه اصل الطهارة، للشك في بقاءها حتى على تقدير حدوثها، بعد الشك في نجاسة الثوب بنحو الشبهة الحكمية او الموضوعية فحكم بطهارة الثوب ثم لاقى دما فكما يشمله الدليل العام لأصالة الطهارة، كذلك يشمله دليل الاستصحاب بلحاظ بقاء الطهارة الواقعية الثابت حدوثها فيه باجراء اصالة الطهارة في الماء.

هذا وقد نقل في مباحث الاصول كلام السيد الخوئي بنحو آخر، وهو أنّ الأصل إن كان جارياً في مورد الشكّ كان مقطوع البقاء ما دام الشكّ باقياً، من قبيل أصالة الطهارة في نفس الثوب، فإنّ الأصل بنفسه جار بقاءً بعد الشكّ في ملاقاته للدم، ولكن لو كان الاصل جارياً في موضوع المشكوك و سببه لا في مورده، لم يكن دليل ذلك الأصل دالًّا على ثبوت الحكم الظاهري بقاءً، و ذلك من قبيل أصالة الطهارة الجارية في الماء الذي غسل به الثوب المتنجس، فإنّها لا تدلّ على ثبوت الطهارة للثوب بعد احتمال ملاقاته للدم.

ثم اورد على ما ذكره في القسم الاول بأن قوله بعدم جريان الاستصحاب فيما إذا كان الأصل جارياً في مورد الشكّ، منقوض بما لو شكّ في صحّة الصلاة بلحاظ بعض أجزائها الماضية، فأجرى قاعدة التجاوز، ثمّ شكّ في صحّة الصلاة شكّاً لم يتجاوز محلّه، و قلنا باستصحاب الصحّة، فقاعدة التجاوز هي أصل جرى في مورد الشكّ، فإنّ صحّة الصلاة- في ذوق من يقول بجريان استصحاب الصحّة- شي‏ء واحد مستمرّ، تكون صحّة الأجزاء السابقة حدوثاً له، و استمرار الصحة بقاءً له، فيجري في المقام استصحاب الصحّة بناءً على القول بجريان استصحاب الصحّة في نفسه، و ليس الحكم بالصحة بقاءً ثابتاً بقاعدة التجاوز حتّى لا نحتاج إلى الاستصحاب، في حين أنّ قاعدة التجاوز أصل جرى في مورد الشكّ[29].

اقول: لم نجد هذا التعبير في الكلام الموجود عن السيد الخوئي، ولعله سمع منه شفهيا.

هذا وقد ذكر في المباحث ايضا أنه لو قام الأصل على حدوث حكمٍ في مورد الشبهة الموضوعية أو الحكمية، و شككنا في البقاء بنحو الشبهة الموضوعية، كما إذا ثبتت طهارة الثوب بأصالة الصحّة في التطهير، أو باستصحاب طهارة الماء الذي طُهّر به الثوب، مع فرض كون الماء ملاقياً للمتنجّس الخالي عن عين النجس، ثمّ شككنا في ملاقاة الثوب للدم، فالاصل يكون موضوعا لحكم ظاهري في الثوب وهو طهارته المستمرة الى حين الملاقاة للدم، فعند الشكّ في الملاقاة نكون شاكّين في بقاءها، فنجري استصحاب الطهارة، (كما يمكن اجراء الاصل الموضوعي في الشك في الرافع بنحو الشبهة الموضوعية).

ولو قام الأصل على الحدوث في مورد الشبهة الموضوعية، و شكّ في البقاء بنحو الشبهة الحكمية، كما إذا ثبتت صحّة الوضوء بقاعدة الفراغ، ثم خرج المذي المحتمل ناقضيته، فقاعدة الفراغ في الوضوء موضوع للطهارة الظاهرية من الحدث، ولا ندري هل هذه الطهارة مغياة بخروج المذي، أم لا، فنستصحبها، كما يمكن هنا استصحاب الطهارة الواقعية لمن توضأ وضوءا صحيحا، ثم خرج المذي بعده كمجعول كلي، و قاعدة الفراغ تثبت صغرى هذا الحكم الاستصحابي.

وقد ذكر أن استصحاب الطهارة الظاهرية لم يكن يجري في قيام الامارة على صحة الوضوء كما لو كان شاكا في كون ما يتوضأ به ماء فقامت البينة على كونه ماء فتوضأ منه، لأنها لا تنتج طهارة ظاهرية، وانما تكون حجة على الطهارة الواقعية، بخلاف الاصل.

ولو كان كل من قيام الأصل على الحدوث والشك في البقاء بنحو الشبهة الحكمية، كما إذا غسل الثوب المتنجس بالماء الملاقي للمتنجس الخالي عن عين النجس عملا باستصحاب طهارته، ثم لاقى دم البيض، فيجري استصحاب الطهارة الظاهرية، باعتبار أنّ أصالة الطهارة في الماء موضوع لطهارة ظاهرية في الثوب لا يدرى هل هي مغياة بعدم ملاقاة دم البيض، ام لا، فنثبت بقاءها بالاستصحاب‏.

فتحصّل امكان جريان استصحاب الحكم الظاهري في هذه الصور، نعم قد يتّفق الجزم بانقطاع الحكم الظاهري، فلا يجري استصحابه، مثاله: أنّ الماء الكرّ لو نقص تدريجا إلى أن وصل النقص الى درجةٍ لا يتسامح العرف فيها، فعندئذ لا يجري استصحاب الكرّيّة الواقعية لتبدّل الموضوع، و ولا يجري استصحاب الكرّيّة الظاهرية، إذ المفروض عدم جريان استصحاب الكرّيّة الواقعية، فما كانت موجودة قبل دقائق من استصحاب الكرّيّة غير موجود الآن قطعاً، فكيف نستصحبه؟[30].

اقول: هنا ملاحظات:

الملاحظة الاولى: انه لا دليل على كون نتيجة جريان اصل الطهارة في الماء الذي غسل به الثوب المتنجس او جريان قاعدة الفراغ في غسله بالماء هو الحكم الظاهري بطهارة الثوب، بل لعله مجرد حجة ومعذر بالنسبة الى ترتيب آثار الطهارة الواقعية للثوب، فلا فرق من هذه الجهة بين الاصل والأمارة. ولو فرض كون نتيجة تلك الاصول ثبوت الطهارة الظاهرية في الثوب، فلا يبعد تمامية ما ذكره اجراء استصحاب الطهارة الظاهرية لأن الظاهر من دليل الاصل التعبد بفرد ظاهري مماثل للاثر الشرعي الواقعي للواقع الذي قام عليه الاصل، وهو طهارة الثوب مغياة بعدم الملاقاة للنجس، وفي الشبهة الحكمية للرافع كالملاقاة لدم البيض، حيث نحتمل كون الطهارة الواقعية مغياة بعدم هذه الملاقاة وعدمه فيسري الشك الى الطهارة الظاهرية ايضا، وأنها هل تكون مغياة بعدمها ام لا، فتستصحب، ولكن قد يكون عموم قاعدة الطهارة مقدما على استصحاب الحكم الظاهري اذا كان مخالفا له من باب تقدم الامارة على الاصل المخالف- كما لو حكمنا بنجاسة الثوب الملاقي لماء زال تغيره بنفسه لاستصحاب نجاسة هذا الماء، ثم غسل هذا الثوب بماء مضاف، او بمايع مورد لتوارد الحالتين بحيث يمنع من جريان الاستصحاب الموضوعي، فان استصحاب النجاسىة الظاهرية في الثوب مخالف لعموم دليل قاعدة الطهارة[31]، فيقدم على الاستصحاب.

نعم بناء على ما هو الصحيح من ركنية قيام الحجة على الحدوث او ركنية واقع الحدوث فيكفي ثبوت الحالة السابقة الواقعية بالاصل في اجراء الاستصحاب في الحكم الواقعي.

الملاحظة الثانية: في مثال كون كل من قيام الاصل على الحدوث والشك في البقاء بنحو الشبهة الحكمية كما إذا غسل الثوب المتنجس بالماء الملاقي للمتنجس الخالي عن عين النجس عملا باستصحاب طهارته، ثم لاقى دم البيض، فيمكن اجراء الاستصحاب في الحكم الكلي في مطلق الجسم الطاهر حيث يستصحب بقاء طهارته الى ما بعد ملاقاته لدم البيض، ويجري استصحاب طهارة ذلك الماء لغرض اثبات صغرى هذا الحكم الاستصحابي، بل قد يكون هذا الاستصحاب جاريا في مورد الشك في المقتضي كاستصحاب بقاء الخيار الى ما بعد زمان الفورية ويكون اثبات حدوث الخيار باجراء اصل، كاستصحاب عدم اشتراط سقوط خيار الغبن منقحا لصغرى الخيار الباقي بعد زمان الفورية بمقتضى الاستصحاب.

الملاحظة الثالثة: كان من المناسب أن يذكر في مثال الكرية استصحاب الحالة السابقة الواقعية الثابتة بالاستصحاب القائم على كرية هذا الماء في كل مرحلة من المراحل المتوسطة التي مرت عليه، ولعله لم يذكر ذلك لأنه كان بصدد بيان الموارد التي لا نحتاج فيها الى الغاء ركنية اليقين بالحدوث.

وأما ما ذكره في تعليقة مباحث الاصول من أن الحكم الظاهري بالكرية لما كان ترخيصياً و لم يكن إلزامياً فبعد الجزم بعدم جريان استصحاب الكرية يمكن اجراء الاستصحاب في روحه وهو عدم الاهتمام بالحكم الالزامي المشكوك الثابت واقعا على تقدير عدم كرية الماء، من دون أن يكون دليل أصالة البراءة حاكماً عليه، بخلاف ما لو استصحبنا روح الحكم الظاهري الالزامي وهو الاهتمام بالواقع[32].

وفيه مضافا الى ما مر من كون روح الحكم الظاهري ثابتة بنحو القضية الحقيقية فتدور مدار جريان الحكم الظاهري المقطوع عدمه في المقام، ان روح استصحاب الكرية قد لا تكون ثابتة سابقا، كما لو كان اليقين بالكرية السابقة والشك في بقاءها حادثين حين بلوغ الماء الى الدرجة التي لا يمكن استصحاب الكرية فيه الا بلحاظ المراحل المتوسطة التي قد انقضت، هذا ولا يخفى أن روح استصحاب الكرية قد يكون هو الاهتمام كما لو انحصر ماء الوضوء به وكان على تقدير قلته نجسا، فتستصحبت كريته ونتیجته تنجيز وجوب الوضوء منه کما أن نتیجته صحة هذا الوضوء ايضا.

هذا كله بناء على كون موضوع الاعتصام الماء الكرّ، وأما لو قلنا بكون موضوعه الاعم من الكر او المتصل بالكر، وان يكن له وحدة عرفية مع الماء الكر، كما يستفاد ذلك من الروايات الواردة في ماء الحمام (وهو الماء الموجود في الحوض الصغير المتصل بالخزانة) كصحيحة داود بن سرحان قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ما تقول في ماء الحمام قال هو بمنزلة الماء الجاري[33]، فيكفي استصحاب الاتصال بالماء الكر.

استصحاب الکلي

التنبیه الرابع: في استصحاب الكلي، في قبال استصحاب الفرد، وقد قسِّم استصحاب الكلي الى اربعة اقسام:

القسم الاول: ان يعلم بوجود الكلي في ضمن فردٍ معيَّن ويحتمل بقاءه في ضمن ذلك الفرد، كما لو علم تفصيلا بوجود الانسان في ضمن وجود زيد وشك في بقاءه في ضمنه، ويلحق به ما لو علم اجمالا بوجود الانسان في ضمن زيد او عمرو وشك في بقاء الفرد الذي وجد في ضمنه على اي تقدير، اي كان كل من وجود زيد وعمرو محتمل البقاء على تقدير حدوثه.

القسم الثاني: أن يعلم بوجود الكلي في ضمن احد فردين ويعلم بارتفاع احدهما المعين على تقدير حدوثه، ولكن يعلم او يحتمل بقاء الفرد الآخر على تقدير حدوثه، فيحتمل بقاء الكلي في ضمن هذا الفرد، مثاله المعروف ما اذا علم بوجود حيوان مردد بين كونه البق المعلوم ارتفاعه على تقدير حدوثه، وبين كونه الفيل المعلوم او المحتمل بقاءه على تقدير حدوثه، ومثاله الفقهي ما اذا خرج منه بلل مشتبه بين البول والمني ودار امر حدثه بين الاكبر والاصغر، فتوضأ بعد ذلك، فيحتمل بقاء الحدث لاحتمال وجوده في ضمن الحدث الاكبر.

وقد خصّ كثير من الاعلام كالمحقق العراقي والسيد الامام والسيد الصدر “قدهم” جريان الاستصحاب في هذا القسم بما اذا كان الاثر مترتبا على صرف وجود الكلي، توضيح ذلك أنه يتصور هنا ثلاث صور:

احداها: أن يتعلق الاثر بصرف وجود الطبيعة كما قال المولى “اذا وجد انسان في الدار يوم الجمعة فتصدق” وهذا هو المتيقن من استصحاب القسم الثاني من الكلي حيث يقال ان استصحاب عدم الفرد الطويل بضم وجدانية عدم الفرد القصير فعلا لا ينتج انتفاء صرف وجود الطبيعة الا بنحو الاصل المثبت، فيجري استصحاب بقاء الكلي فيترتب عليه الاثر.

ثانيتها: أن يتعلق الاثر بمطلق وجود الطبيعة اي بنحو المطلق الشمولي والانحلالي، كما قال المولى “كل انسان يوجد في الدار يوم الجمعة فيجب عليك بذلك التصدق بدرهم، فيقال بأن استصحاب عدم الفرد الطويل ينفي وجوب التصدق المترتب عليه، وأما الوجوب المترتب على وجود الفرد القصير فنعلم بانتفاءه وجدانا.

ثالثتها: ما اذا ترتب الاثر على العناوين التفصيلية للافراد، كما قال المولى “اذا وجد زيد في الدار يوم الجمعة فتصدق” و “اذا وجد عمرو في الدار يوم الجمعة فتصدق” فعلم بوجود احدهما في الدار يوم الخميس، وبكون زيد خارج الدار يوم الجمعة واحتمل بقاء عمرو في الدار على تقدير كونه فيها سابقا، فيقال بأن اركان الاستصحاب لم تتم في الفرد بعنوانه التفصيلي، لعدم اليقين بالحدوث في عمرو، بل عدم الشك في البقاء على تقدير الحدوث في زيد، وأما العنوان الكلي كعنوان احدهما فليس موضوعا للاثر الشرعي حتى يستصحب، فهو نظير استصحاب عدم الاتيان لاثبات الاثر الشرعي من وجوب القضاء المترتب على الفوت.

وهاتان الصورتان تسميان بالاستصحاب في الفرد المردد، وقال جمع من الاعلام كالسيد الخوئي وشيخنا الاستاذ “قدهما” بجريان الاستصحاب فيهما ايضا كما سيأتي توضيحه.

القسم الثالث: أن يعلم بوجود الكلي في ضمن فرد معيَّن ويعلم بارتفاع ذلك الفرد ولكن يحتمل بقاء الكلي في ضمن فرد آخر، وقد ذكر الشيخ الاعظم “ره” له ثلاثة فروض:

اولها: أن يحتمل وجود الفرد الآخر مقارنا لوجود الفرد الاول.

ثانيها: أن يحتمل وجوده مقارنا لارتفاع الفرد الاول.

ثالثها: أن يعلم بوجوده في ضمن المرتبة الشديدة ويعلم بزوال هذه المرتبة ويشك في بقاء المرتبة الضعيفة، كما لو علم بزوال شدة السواد واحتمل بقاء السواد الخفيف.

وقد اختار جريان الاستصحاب في الفرضين الأخيرين، وان كان الصحيح كون الاستصحاب في الفرض الأخير استصحاب الفرد المعين وانما اختلفت حالاته، فلا اشكال في جريان الاستصحاب فيه بخلاف الفرضين الاولين حيث منع من جريان الاستصحاب فيهما كثير من الاعلام.

القسم الرابع: أن يعلم بوجود الكلي في ضمن فرد معين ويعلم بارتفاع هذا الفرد، ويعلم ايضا بوجود الكلي في ضمن فرد له علامة، لا يدري هل هذه العلامة منطبقة على ذلك الفرد المعلوم الارتفاع او على فرد آخر مقطوع البقاء او محتمله على تقدير حدوثه، كما لو علم بوجود الانسان في الدار في ضمن زيد وعلم بخروج زيد من الدار جزما، وعلم بوجود انسان شاعر في الدار لايدري هل هو نفس زيد خاى يكون مرتفعا، او شخص آخر حتى يكون باقيا او محتمل البقاء.

وقد قبل السيد الخوئي جريان الاستصحاب في هذا القسم كالقسم الاول والثاني، ومثّل له بما اذا اجنب ثم اغتسل ورأى بعد ذلك منيا في ثوبه لايدري هل هو جنابة جديدة فتكون باقية او نفس الجنابة السابقة فتكون مرتفعة، فيجري استصحاب بقاء الجنابة الحاصلة بخروج هذا المني، ويتعارض مع استصحاب بقاء الطهارة عقيب الاغتسال، فيجب الغسل للصلاة عملا بقاعدة الاشتغال لكون الشك في الامتثال من ناحية تحصيل الشرط المعلوم وجوبه، نعم تجري البراءة في حقه عن محرمات الجنب كما في سائر موارد توارد حالتي الحدث والطهارة.

هذه هي الاقسام الاربعة لاستصحاب الكلي.

وقبل أن ندخل في البحث التفصيلي عن احكامها ينبغي أن نذكر اشكالين عامين على استصحاب الكلي، اولهما يختص باستصحاب الاحكام وثانيهما يختص باستصحاب الموضوعات:

أما الاشكال الاول فهو أنه بناء على كون المجعول في الاستصحاب هو الحكم المماثل للمستصحب اذا كان المستصحب هو الحكم الشرعي او المماثل لحكم المستصحب اذا كان المستصحب موضوع الحكم الشرعي كما هو مسلك صاحب الكفاية، فيقال انَّ المستصحب إذا كان هو الجامع بين الوجوب و الاستحباب فان كان نتيجة استصحابه جعل الجامع ظاهرا فهذا غير معقول، إذ يستحيل وجود الجامع إلّا في ضمن فرده وان كانت نتيجته جعل الجامع في ضمن فرد معين منهما فهذا خارج عن اقتضاء دليل الاستصحاب اذ لم تتم فيه أركان الاستصحاب.

نعم لا ياتي هذا الاشكال على سائر المسالك في الاستصحاب، من التعبد ببقاء اليقين او انشاء حجية اليقين السابق، او ابراز اهتمام المولى بالحكم الواقعي المشكوك بالمقدار الذي تم استصحابه.

وقد أجيب عنه بعدة أجوبة:

الجواب الاول: ما ذكره المحقق الاصفهاني “قده” من أن المماثلة بين الحكم الظاهري و الواقعي ليست بمعنى المماثلة في كل شي‏ء حتى في الملاك و الإرادة، فان الحكم الظاهري لا ينشأ عن مصلحة في متعلقه او شوق المولى اليه، وانما ينشأ عن مصلحة في نفسه، بخلاف الحكم الواقعي، وانما التماثل بينهما في انشاء البعث، و اختلاف الوجوب و الاستحباب ليس في كيفية انشاء البعث وانما هو في شدة الارادة والملاك وعدم شدتهما، فليس الوجوب والاستحباب فصلين للبعث، فيكون انشاء البعث الظاهري مماثلا لكل من الوجوب والاستحباب، كما أن انشاء الزجر الظاهري مماثل لكل من الحرمة والكراهة[34].

ويورد على ما ذكره المحقق الاصفهاني “قده” اولا: ان بالامكان توسع الاشكال الى مورد استصحاب الجامع بين وجوبين، كما لو علم اجمالا بوجوب صلاة الجمعة او الظهر، ثم شك في بقاء الوجوب، فانه لا يمكن انشاء البعث بلا متعلق، ومتعلقه ان كان خصوص صلاة الجمعة مثلا كان خارجا عن مقدار الاستصحاب، وان كان عنوان احداهما، فيكون من الوجوب التخييري، ولا يحتمل مطابقته مع الواقع.

و ثانياً: انه بناء على ما ذكره فحتى لو جرى الاستصحاب في الوجوب فيكون المجعول هو البعث الظاهري، وخصوصية الوجوب تكون خارجة عنه فلا يكون اثره لزوم الامتثال عقلا.

وما يقال من أنه بناء على كون وصول بعث المولى نحو فعل مع عدم وصول ترخيصه في الترك كافيا في حكم العقل بلزوم الطاعة، كما هو المنسوب الى المحقق النائيني “قده”[35] فنتيجته لزوم الاتيان بالفعل في مورد استصحاب الجامع بين الوجوب والاستحباب، ولا أظن التزامهم به.

الجواب الثاني: ما يقال من أنه على مبنى المحقق العراقي “قده” من تعلق العلم الإجمالي بالواقع -اي الفرد- لا الجامع، و انما الإجمال في صورة الفرد، كالشبح المرئي من بعيد فيكون الاستصحاب من استصحاب الفرد بحسب روحه، غاية الأمر الفرد المبهم المعلوم إجمالًا لا المعلوم تفصيلًا.

واورد عليه في البحوث بأنه مضافاً إلى بطلان المبنى أنَّ المعلوم بالإجمال ربما لا يكون له تعين حتى واقعاً[36] فيرد المحذور[37].

اقول: سبق منّا أن المحقق العراقي لا يدعي تعلم العلم الاجمالي بالفرد، فقد صرح أن العلم الاجمالي يقف على معروضه الذي هو العنوان الإجمالي، ولا يسري إلى الخارج، ولا إلى العناوين التفصيلية للأطراف([38]) ، وذكر ايضا أن متعلق العلم الإجمالي هو الجامع بين الطرفين لبداهة خروج الخصوصيتين عن متعلق العلم رأسا([39]) .

وقال ايضا: ان قوام العلم بنفس العنوان والصورة الذهنية بما هي ملحوظة كونها خارجية بلا سراية منها إلى وجود المعنون خارجا، بشهادة أنه قد لا يكون للمعنون وجود في الخارج فلا محالة يكون مرجع العلم الإجمالي بشي‏ء إلى تعلقه بصورة إجمالية حاكية عن الواقع، واتصاف العلم الإجمالي بالإجمال انما كان باعتبار أن متعلقه هو الصورة الإجمالية المعبر عنها بعنوان أحدهما، بينما أن متعلق العلم التفصيلي عنوان تفصيلي للشيء، فالاختلاف بين العلم الإجمالي والعلم التفصيليّ من جهة المعلوم لامن جهة العلم([40]) .

والحاصل أنه يرى أن متعلق العلم الاجمالي هو عنوان احدهما، وهو جامع انتزاعي يختلف عن الجامع الطبيعي، حيث ان الجامع الطبيعي كالانسان لا يحكي عن الفرد بتمامه، بل عن جزء تحليلي منه حيث ان الفرد مركب من طبيعة الانسان والعوارض المشخصة، ولكن عنوان احد افراد الانسان يحكي عن الفرد بتمامه، فهو لا يقصد اثبات تعلق العلم الاجمالي بالفرد المعين في علم الله، بل بجامع انتزاعي يعبر عنه ب “احدهما”، يبقى تنظيره متعلق العلم الاجمالي بالشبح من بعيد، فالظاهر بقرينة كلماته السابقة أنه لا يريد من هذا التنظير الا مجرد بيان كون الفرد الخارجي بتمامه مما ينطبق عليه المعلوم بالاجمال، والا فلا اشكال في وجود فرق بينهما من حيث انه اذا اقترب ذلك البعيد الذي رأينا شبحه وعلمنا أنه زيد، فيصحّ أن نقول ان الشبح الذي كنا نراه كان شبح زيد وان لم ‌نعلم ذلك سابقا، بينما أننا لو علمنا اجمالا بنجاسة أحد الإناءين ثم علمنا أن النجس هو الاناء الشرقي لم‌ ‌يصح أن نقول: ان هذا هو الذي كنا نعلم بأنه نجس بل نقول: لم ‌‌نكن حتى الآن نعلم بنجاسته، وقد صرّح المحقق العراقي “قده” بأن المعلوم بالاجمال هو الصورة الذهنية الحاكية عن الفرد حكاية ناقصة، وليس هو الفرد الخارجي.

الجواب الثالث: ما قد يقال من أنَّ خصوصية الفرد وان لم تكن محطاً للاستصحاب في استصحاب الكلي، إلّا أنَّ الكلي لما كان محط الاستصحاب بحسب الفرض، فيثبت و لو في ضمن خصوصيةٍ من باب الملازمة بين جعل الكلي المماثل و جعل الخصوصية، و يكون هذا من لوازم الأمارة و هو دليل حجية الاستصحاب لا الأصل.

و فيه أنه من التمسك باطلاق الدليل في مورد يتوقف امكان شموله له على ضم امر خارج عن مدلول الدليل اليه، وقد مر المنع منه مرارا، حيث انه يوجد مقيد لبي لدليل الاستصحاب مثلا في جعل ما يمكن من مدلوله، لا أكثر.

الجواب الرابع: ما يقال من أنه بناء على ركنية واقع الحدوث، فيجري استصحاب الجامع في ضمن الفرد الذي حدث فيه، فان كان هو وجوب صلاة الجمعة مثلا فيجري استصحاب وجوبها واقعا وان لم يعلم به المكلف.

واورد عليه في البحوث بأنه انما يتم فيما كان كل من الفردين للجامع محتمل البقاء على تقدير حدوثه، كما في القسم الاول من استصحاب الكلي، وأما في استصحاب القسم الثاني من الكلي فيعلم بارتفاع الفرد القصير على تقدير حدوثه وبقاء الفرد الطويل على تقدير حدوثه فلا شك في الفرد فكيف يجري استصحابه، ثم قال: ان الاشكال مما لا يمكن الجواب عنه على مبنى جعل الحكم المماثل، وينحصر الجواب في انكار المبنى[41].

اقول: هذا الاشكال لا يختص باستصحاب الجامع بل يجري في الأمارة الاجمالية، كقيام خبر الثقة على وجوب احد فعلين اجمالا، فانه يسأل ما هو المجعول فيها بناء على جعل الحكم المماثل، فان كان هو وجوب احدهما المعين فهو خارج عن مدلول الأمارة وان كان هو وجوب احدهما فيكون وجوبا تخييريا ولا يحتمل مطابقته للواقع، والحل أن نفسِّر جعل الحكم المماثل ما يعم ايجاب الشارع المعاملة معه معاملة العلم الاجمالي، او فقل حينما يجري استصحاب الجامع بين الوجوب والاستحباب، ، فيكون المجعول اصل البعث الجامع بينهما، وهذا امر قابل للجعل، من دون جعل خصوصية الاستحباب او الوجوب، وحينما يجري استصحاب وجوب احدهما اجمالا، فيكون المجعول وجوب الاتيان باحدهما الذي هو واجب واقعي، وهذا لا يقتضي التخيير، بل يجب معه الاحتياط باتيان كليهما من باب الحجة الاجمالية.

الاشكال الثاني: ما يورد على استصحاب الكلي في الموضوعات كاستصحاب بقاء كلي الانسان من أن الأحكام الشرعية انما تترتب على الكلي بما هو مرآة و حاكٍ عن الخارج، لا بما هو مفهوم في الذهن، و المتحقق في الخارج انّما هو الافراد، دون الكلي، الا على المسلك الذي ينسب الى الرجل الهمداني من وجود الكلي في الخارج بوجود وحداني منتشر في افراده، نسبته اليها نسبة الاب الواحد الى الابناء، ولكنه مسلك باطل، والصحيح وجود الكلي في الخارج بعدد جميع افراده، فلابد و أَن يرجع الاستصحاب دائماً إلى استصحاب الفرد الخارجي، فلا معنى لاستصحاب الكلي.

وقد اجاب عنه المحقق العراقي “قده” بأن المراد من استصحاب الكلي هو استصحاب الحصة، اي وجود الانسان مثلا في ضمن افراده، والذي يتعدد بعدد وجود افراده، دون الكلي بمعنى مفهوم الانسان الموجود في الذهن، وأما استصحاب الفرد فهو بمعنى استصحاب الحصة مع العوارض المشخصة الفردية.

وأجاب عنه في البحوث أن استصحاب الحصة انما يجدي فيما كان الاثر الشرعي مترتبا على الطبيعة بنحو المطلق الشمولي، وأما اذا كان الاثر الشرعي مترتبا على صرف وجود الطبيعة فلايجري استصحاب الحصة، لان وجود الحصة ازيد من وجود صرف الوجود، و لهذا قد يكون الأثر مترتباً على الجامع بنحو صرف الوجود من دون دخالة خصوصية هذه الحصة أو تلك فيه[42].

اقول: انطباق صرف الوجود على الحصة قهري، فاذا استصحبنا وجود الانسان في ضمن فرد معين او غير معين وثبت وجوده فهو عين ثبوت صرف وجود الانسان وقد ذكر في بحث الاصل المثبت من البحوث أن استصحاب الانسان في ضمن زيد يثبت الاثر الشرعي المترتب على صرف وجود الانسان لاتحادهما عرفا، بخلاف ترتيب اثر عدم صرف الوجود الانسان على استصحاب عدم الفرد الطويل بضم العلم بانتفاء الفرد القصير، وما ذكره هناك هو الصحيح.

والصحيح أن يقال أن المستصحب دائما هو الوجود الخارجي، وانما الفارق بين استصحاب الفرد والكلي في كون العنوان الملحوظ حين الاستصحاب والذي يكون مرآة الى الوجود الخارجي هو عنوانه الكلي او عنوانه الجزئي، فيسمى الاول باستصحاب الكلي والثاني باستصحاب الفرد.

هذا تمام الكلام حول الاشكالين والجواب عنهما.

فيقع الكلام فعلا في اقسام استصحاب الكلي:

أما القسم الاول: فقد ذكر المحقق العراقي أنه اذا كان الاثر مترتبا على وجود الفرد، فيتعين استصحاب الفرد، ولايجدي استصحاب الكلي اي الجامع اللابشرط عن الخصوصيات، ولا الحصة اي الجامع في ضمن هذا الفرد، فلو ترتب الاثر على وجود زيد في الدار اي هذا الانسان بما له من عوارض مشخصة، فلايجدي استصحاب كلي الانسان في الدار ولا استصحاب الحصة اي الانسان في ضمن زيد، وان كان الاثر مترتبا على وجود الكلي فيتعين استصحابه، ولايجدي استصحاب الفرد او الحصة، واذا ترتب الاثر على الحصة -اي الكلي في ضمن الافراد كما في المطلق الشمولي- فيتعين استصحاب الحصة، ولايجدي استصحاب الفرد ولاالكلي، حيث يلزم جريان الاستصحاب في العنوان الذي هو موضوع للحكم الشرعي حتى يترتب عليه ذلك الحكم، فلو قال المولى”اذا كان زيد يوم الجمعة في الدار فتصدق” و “اذا كان عمرو يوم الجمعة في الدار فتصدق” فعلم بوجود الانسان في ضمن احدهما لا بعينه يوم الخميس، واحتمل بقاءه في ضمن ذلك الفرد على اي تقدير، فلا يجدي استصحاب بقاء احدهما في الدار لعدم كون هذا العنوان موضوعا للاثر الشرعي، بل لابد من اجراء الاستصحاب في العنوان التفصيلي للفرد، وحينئذ قد يقال بأنه لم يتم ركن الاستصحاب وهو اليقين بالحدوث لا في وجود زيد في الدار ولا في وجود عمرو في الدار، وانما تعلق اليقين بعنوان أحدهما، وهكذا لو علم إجمالا بنجاسة أحد الإناءين مع احتمال ورود مطهر عليه، فانه لا يجري فيه الاستصحاب أيضا، لا في العنوان الإجمالي، لعدم كونه موضوعا للاثر، و لا في كل واحد من الإناءين، لانتفاء اليقين بالنجاسة بالنسبة إليهما، لأن اليقين انما تعلق بأحدهما إجمالا المردد انطباقه على هذا الإناء و ذاك الآخر، و بعد احتمال طهارة كلا الإناءين فعلا، يرجع فيهما إلى قاعدة الطهارة، بل استصحابها لاجتماع أركانه فيهما من اليقين بالطهارة و الشك في البقاء.

ثم قال: و ان أبيت الا عن جريان استصحاب النجاسة في هذه الصورة فليكن ذلك بإجراءه في كل واحد من الطرفين، بتقريب استتباع العلم الإجمالي المزبور لليقين بنجاسة كل واحد منهما في فرض انطباق المعلوم بالاجمال عليه، فانه مع هذا اليقين المشروط في كل واحد منهما يتحد متعلق الشك و اليقين فيهما، فيجري فيهما الاستصحاب، و بالعلم الإجمالي بتحقق الشرط في‏ أحدهما يعلم بتنجز أحد الاستصحابين فيترتب عليه الأثر فتأمل[43].

وانت ترى ان اليقين المشروط بنجاسة الاناء المعين منهما ليس يقينا فعليا بنجاسته، واليقين الفعلي هو ركن الاستصحاب ان قلنا بركنية اليقين بالحدوث.

ولذا علّق في البحوث جريان الاستصحاب في هذه الصورة اي ما اذا كان الاثر مترتبا على الفرد على كون ركن الاستصحاب واقع الحدوث[44]، ونحوه ما اخترناه من كون ركنه الحدوث الذي قام عليه الحجة التفصيلية او الاجمالية.

ولكن الصحيح كما سيأتي جريان استصحاب نجاسة احدهما، لكفاية تمامية اركان الاستصحاب فيه من اليقين بالحدوث، والشك في البقاء، وان لم يكن عنوان احدهما موضوعا للاثر الشرعي، اذ يكفي كونه مشيرا الى العنوان الموضوع للاثر الشرعي كما سيأتي توضيحه في استصحاب الفرد المردد.

وأما اذا كان الاثر الشرعي ثابتا للكلي كما لو قال المولى “اذا كان انسان في الدار يوم الجمعة فتصدق” فلابأس باستصحاب الفرد ككون زيد في الدار لترتيب اثر الكلي، فان الكلي متحد وجودا مع الفرد، اذ الفرد يعني وجود الانسان مع عوارض مشخصة، وعدم دخل العوارض المشخصة في ترتب الاثر الشرعي، لايوجب لغوية جريان استصحاب الفرد عرفا، ولا دليل على اكثر من لزوم عدم مثبتية الاستصحاب، هذا وقد يكون الغرض من استصحاب الفرد احراز الامتثال دون اثبات الاثر الشرعي المترتب على الكلي، ولا اشكال في حصول الامتثال باتيان الفرد.

وأما الحصة اي وجود الانسان في ضمن زيد مثلا فاتحاده مع كلي الانسان واضح، فيمكن استصحابه فيما كان الكلي موضوعا للاثر الشرعي، سواء كان بنحو صرف الوجود او بنحو المطلق الشمولي، بل الصحيح ان الاستصحاب لا يجري في الكلي الذي يراد منه الجامع اللابشرط من كونه في ضمن هذا الفرد او ذاك، وهذا ليس هو المتيقن السابق، فان المتيقن السابق هو وجود الجامع بشرط شيء، اي في ضمن الفرد المعين او غير المعين، فلم يتم اركان الاستصحاب الا فيه، دون الجامع لا بشرط، وعليه فيمكن اجراء استصحاب الحصة في المقام.

وأما الاستصحاب في القسم الثاني من الكلي، فيقع الكلام فعلا في الفرض المتيقن منه وهو ما اذا كان الاثر مترتبا على صرف وجود الكلي، فالمشهور جريانه، بدعوى تمامية اركان الاستصحاب من اليقين السابق والشك اللاحق في ما هو الموضوع للاثر وهو الكلي، وأما استصحاب عدم الفرد الطويل وضمه الى العلم بانتفاء الفرد القصير فهو لا يثبت انتفاء الكلي الا بنحو الاصل المثبت، اذ انتفاء الطبيعة لازم عقلي لانتفاء افرادها، ولا ينافي تمامية اركان الاستصحاب في الكلي العلم بارتفاعه على تقدیر وجوده في ضمن الفرد القصير، فانه نظير ما لو علمنا ب‍أنه ان وجد زيد في سنة كذا فقد مات وان وجد في سنة كذا فهو باق.

ولكن اختار جماعة کبعض الاعلام “قده” في المنتقى عدم جريانه، ومستندهم في ذلك عدة وجوه:

الوجه الاول: ما قد یقال من الواقع الذي يشار اليه في استصحاب القسم الثاني من الكلي يدور بين ما هو متيقن الارتفاع على تقدير حدوثه وبين ما يكون متيقن البقاء او مشكوكه على تقدير الحدوث لكن لا يقين بحدوثه، فلم يتم اركان الاستصحاب فيه.

واجيب عنه بأن اركان الاستصحاب وان كانت منتفية عند ملاحظة الواقع بالعنوان التفصيلي، لكن المهم تمامية اركان الاستصحاب في الواقع من خلال رؤيته والاشارة اليه من خلال العنوان الاجمالي الموضوع للاثر الشرعي.

الا أن بعض الاعلام “قده” في المنتقى ذكر في تقريب هذا الوجه أنه يلزم أن يكون الشك متعلقا بما تعلق به اليقين، و ليس الأمر ههنا كذلك، لأن اليقين قد تعلق بالموجود الشخصي الّذي يشار إليه على واقعه، فلو علم بارتفاعه على تقدير كونه الفرد القصير، فلا يصح أن يقال انه مشكوك البقاء، لأنه على أحد تقديريه قد زال قطعا، فما كان متعلقا لليقين و هو الموجود المبهم على ما هو عليه ليس متعلقا للشك و ليس هو مشكوكا بهذه الصفة، فالشك الفعلي الذي هو موجود بداهةً متعلق بوجود الفرد الطويل في هذا الآن الثاني، لاحتمال حدوثه في الآن الأول، فان الملازمة بين الحدوث و البقاء فيه توجب التلازم بين احتمال حدوثه و احتمال بقائه فعلا و على تقدير الحدوث، لأنه على تقدير الحدوث متيقن البقاء، و لكن هذا الشك لا ينفع في جريان الاستصحاب، لأنه فاقد لليقين بالحدوث، فما يتعلق اليقين بحدوثه لا شك في بقائه، و ما يشك في بقائه لا يقين بحدوثه[45]، والحاصل أن المتيقن وجود الكلي لا مفهومه و عنوانه، إذ لا أثر له، و من الواضح ان المتيقن من وجود الكلي مردد بين الطويل و القصير، فهو على أحد تقديريه مقطوع الارتفاع، فلا يمكن ان يشار إلى الكلي الموجود سابقا و يقال انه مشكوك فعلا[46].

اقول: كون متيقن الحدوث على احد التقديرين متيقن الارتفاع، يعنى اليقين التقديري بارتفاع المتيقن، وهذا لا ينافي الشك الفعلي في بقاءه، فهو نظير ما لو علمنا بان زيدا إما كان في الجانب الشرقي من الدار او في جانبها الغربي، فلو كان في الجانب الشرقي فقد مات قطعا لوقوع السقف عليه، او علمنا بأنه لو ولد في سنة كذا فقد مات قطعا.

نعم لو كان المتيقن في مورد العلم الاجمالي هو الفرد الواقعي صح ما ادعاه، ولكنه ليس كذلك ابدا، فان المتيقن هو ما يحكي عنه عنوان احدهما لا هذا الفرد ولا ذاك الفرد، فالمعلوم بالعرض -في مورد العلم الاجمالي- الذي هو منشأ انتزاع الجامع المتعلق للعلم الاجمالي هو الفردان على البدل، دون هذا الفرد ولا ذاك الفرد، ولذا يقول: لا اعلم بنجاسة هذا الاناء ولا ذاك الاناء، وانما اعلم بنجاسة احدهما، والشاهد على ما ذكرناه أنه يوجد علم اجمالي بنحو مانعة الجمع في كل شيء مشكوك بأنه إما موجود او معدوم، ومع ذلك لا يصح دعوى تعلق العلم الاجمالي بالواقع، و ما ذكرناه يأتي حتى فيما علم تفصيلا بفرد ثم اشتبه بفرد آخر، كما لو علم بوجود فرد تفصيلا ثم اشتبه بفرد آخر.

وما حكي عن صاحب المنتقى من التفصيل بين ما لو لم ‌يكن سبب العلم الاجمالي مختصا بأحد الطرفين واقعا، مثل ما لو علم اجمالا بكذب احد الخبرين لتضادّ مؤداهما، كما لو اخبر شخص بكون زيد قائما وأخبر شخص آخر بكونه قاعدا وفرضنا كذب كلا الخبرين بأن كان زيد مضطجعا، ونحو ذلك، فان هذا العلم الاجمالي يتعلق بالجامع، وبين ما لو كان سبب العلم الاجمالي مختصا بأحد الطرفين واقعا، كما لو وقعت قطرة دم على احد الاناءين، واحتمل وقوع قطرة دم آخر على الاناء الآخر، فيكون العلم الاجمالي متعلقا بالواقع([47]) ففيه أن كون سبب العلم الاجمالي مختصا بطرف معين، لا يعدو عن العلم بعدم انطباق العنوان المعلوم بالاجمال على كل من الطرفين، فيكون مثل جميع الموارد التي تكون العلم الاجمالي بنحو مانعة الجمع، وهذا حاصل في جميع موارد الشك في وجود شيء حيث نعلم اجمالا انه إما موجود او معدوم، أي نعلم بثبوت احد الامرين من وجوده او عدمه، لامتناع اجتماع النقيضين، كما نعلم بانتفاء الآخر، لامتناع ارتفاع النقيضين، ومجرد كون العلم الاجمالي بنحو مانعة الجمع لا يعني تعلق العلم بالواقع المعين في علم الله، وانما يعني العلم بانحصار ما ينطبق عليه الجامع المعلوم بالاجمال في طرف واحد منهما، وما ذكرناه واضح بشهادة الوجدان، لأنه بعد انكشاف كون الفرد القصير هو الفرد الحادث فلا يقال انه كان هو المعلوم من الاول، كما أنه لو تبين أن الاناء الشرقي مثلا هو الاناء الذي وقعت فيه القطرة من الدم فلا يقال انه كان معلوم النجاسة، ويشهد على ذلك أن متعلق العلم المصيب والمخطِئ لا يختلف عقلا، فلو انكشف للقاطع أنه كان مشتبها في رؤية الدم فنسأل ما هو الفرد المتعلق للعلم الاجمالي؟، وهكذا لو انكشف له خطأه في اعتقاده عدم انقسام تلك القطرة الى قسمين، فتبين له الآن انقسامها الى قسمين ووقوع قسمٍ في اناءٍ وقسم آخر في اناء آخر فما هو الفرد المتعلق للعلم الاجمالي؟.

على أنه لو كان منشأ كلامه هنا ما ذكره في حقيقة العلم الاجمالي فكان ينبغي ان يفصِّل في المقام، اذ قد يكون سبب العلم بوجود الكلي متساوي النسبة مع كل من الفرد القصير والطويل بحيث لو وجد معا صلح كل منهما ان يكون هو المتعلق للعلم الاجمالي بالحدوث، كما لو حصل العلم الاجمالي من اخبار معصوم بوجود احدهما او من حساب الاحتمالات.

الوجه الثاني: ما قد يقال من أن الشك في بقاء الكلي مسبب عن الشك في حدوث الفرد الطويل، ومع جريان الاصل السببي وهو استصحاب عدم حدوث الفرد الطويل، فلا تصل النوبة الى الاصل المسببي لحكومته عليه.

وقد اجيب عنه بعدة أجوبة:

الجواب الاول: ما ذكره صاحب الكفاية “ره” من المنع من كون بقاء الكلي من لوازم حدوث الفرد الطويل و ارتفاع الكلي من لوازم عدم حدوثه، بل بقاءه من لوازم كون الحادث هو الفرد الطويل، كما أن ارتفاعه من لوازم كون ذلك الحادث هو الفرد القصير، ولا اصل في البين يعيِّن كون ذلك الحادث هو الفرد الطويل او القصير[48].

و اورد عليه السيد الخوئي “قده” بأن هذا الجواب مبني على عدم جريان الأصل في العدم الأزلي، و أما إذا قلنا بجريانه كما هو الصحيح، فلا مانع من جريان أصالة عدم‏ كون الحادث طويلا، و لذا بنينا في الفقه على عدم جريان استصحاب الكلي، للأصل السببي الحاكم عليه في موارد: منها: ما إذا شك في كون نجسٍ بولًا أو عرق كافر مثلًا، فتنجس به شي‏ء، فغسل مرة واحدة، فلا محالة نشك في بقاء النجاسة و ارتفاعها على تقدير اعتبار التعدد في الغسل في طهارة المتنجس بالبول، إلا أنه مع ذلك لا نقول بجريان الاستصحاب في كلي النجاسة، و وجوب الغسل مرة ثانية، لأنه تجري أصالة عدم كون الحادث بولا، فنحكم بكفاية المرة، للعمومات الدالة على كفاية الغسل مرة واحدة و خرج عنها البول بأدلة خاصة[49].

الجواب الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية ايضا من أن بقاء الكلي ليس من لوازم بقاء الفرد الذي وجد في ضمنه، حتى يكون الاصل الجاري في الفرد اصلا سببيا حاكما عليه، وانما هو عينه، فلا معنى لحكومة اصله عليه[50].

واورد عليه السيد الخوئي “قده” بانه بناء على العينية يكون جريان الاستصحاب في الكلي اوضح اشكالا منه على السببية[51].

وأجاب في المنتقى عن هذا الايراد بأن صاحب الكفاية لم يدع عينية بقاء الكلي وحدوث الفرد الطويل، بل ذهب إلى وحدة بقاء الكلي و بقاء فرده، و من الواضح ان بقاء الفرد ليس من آثار حدوث الفرد الطويل، اذ ليس الحدوث علة للبقاء بلا ريب، فأصالة عدم الحدوث لا تكون بالنسبة إلى أصالة بقاء الكلي من قبيل الأصل السببي[52].

اقول: المقصود من الايراد على صاحب الكفاية أنه ان كان انتفاء الكلي عين انتفاء افراده، كما أن وجوده عين وجود افراده فبضم الوجدان الى الاصل يحرز ذلك، للعلم الوجداني بعدم الفرد القصير واستصحاب عدم الفرد الطويل، وان كان مسببا عنه فبالاصل السببي يمكن احراز انتفاء الكلي.

الجواب الثالث: ما ذكره المحقق النائيني “قده” من أن الأصل السببي معارض بمثله، فان أصالة عدم حدوث الفرد الطويل معارض بأصالة عدم حدوث الفرد القصير، و أصالة عدم كون الحادث طويلا معارض بأصالة عدم كون الحادث قصيراً، و بعد سقوط الأصل السببي للمعارضة تصل النوبة إلى الأصل المسببي، و هو استصحاب بقاء الكلي.

واجاب عنه السيد الخوئي “قده” بأنه انما تتم المعارضة بين الاصل النافي لحدوث الفرد الطويل مع الاصل النافي للفرد القصير فيما اذا كان لكل منهما اثر مختص به، و لهما أثر مشترك بينهما كما في البلل المشتبه بين البول و المني، فان الأثر المختص بالبول هو وجوب الوضوء، و الأثر المختص بالمني هو وجوب الغسل، و عدم جواز المكث في المسجد، و الأثر المشترك هو حرمة مس كتابة القرآن، وفي مثله لا فائدة في جريان الاستصحاب في الكلي في مورده، لوجوب الجمع بين الوضوء و الغسل في المثال بمقتضى العلم الإجمالي، فان نفس العلم الإجمالي كاف في وجوب إحراز الواقع، وأما اذا لم يكن للفرد القصير اثر مختص، وانما كان للفرد الطويل اثر مختص به، كما كان لهما اثر مشترك، فيكون من قبيل دوران الأمر بين الأقل و الأكثر، كما في مثال تردد سبب نجاسة الثوب بين البول و عرق الكافر، فان وجوب الغسل في المرة الأولى أثر مشترك فيه، و وجوب الغسل مرة ثانية أثر لخصوص البول، ففي مثله لو جرى الاستصحاب في الكلي وجب الغسل مرة ثانية، و لو لم يجر كفى الغسل مرة، لكنه لا يجري لحكومة الأصل السببي عليه، و هو أصالة عدم حدوث البول أو أصالة عدم كون الحادث بولا، و لا تعارضها أصالة عدم كون الحادث عرق كافر أو أصالة عدم حدوثه، لعدم ترتب أثر عليها، إذ المفروض العلم بوجوب الغسل في المرة الأولى على كل تقدير، فإذاً لا يجري الأصل في القصير حتى يعارض جريان الأصل في الطويل[53].

اقول: ما ذكره مختص بما اذا كانت العلاقة بين الكلي والفرد الطويل علاقة الحكم الشرعي مع موضوعه كما في مثال النجاسة، فان موضوع بقاءها بعد الغسلة الاولى اصابة البول للثوب، وموضوع ارتفاعها اصابة نجس ليس ببول، وهل يتعين اجراء استصحاب عدم كونه بولا بنحو العدم الازلي، او يكفي استصحاب عدم اصابة البول، فيه كلام سيأتي في الابحاث القادمة.

وأما اذا كانت العلاقة بينهما تكوينية عقلية، وكان الاثر الشرعي مترتبا على صرف وجود الكلي، فاستصحاب عدم الفرد الطويل لا يجري لنفيه.

الجواب الرابع: ما ذكره صاحب الكفاية ايضا وجعله ثالث اجوبته من أنه لو سلم أن بقاء الكلي من لوازم حدوث الفرد الطويل، وأن ارتفاعه من لوازم عدم حدوثه، فلا شبهة في كونه من لوازمه العقلية، لا الشرعية، فلا يمكن اثبات ارتفاع الكلي باستصحاب عدم حدوث الفرد الطويل[54].

وقد استحسن السيد الخوئي هذا الجواب، نعم ذكر أن جريان الاستصحاب في الكلي إنما هو فيما إذا لم يكن أصل يعيَّن به الفرد، و إلا فلا مجال لجريان الاستصحاب في الكلي، كما إذا كان أحد محدثا بالحدث الأصغر، فخرج منه بلل مشتبه بين البول و المني ثم توضأ فشك‏ في بقاء الحدث، فمقتضى استصحاب الكلي و إن كان بقاء الحدث، إلا أن الحدث الأصغر كان متيقناً، و بعد خروج الرطوبة المرددة يشك في تبدله بالأكبر، فمقتضى الاستصحاب بقاء الأصغر و عدم تبدله بالأكبر، فلا يجري الاستصحاب في الكلي، لتعين الفرد بالتعبد الشرعي، فيكفي الوضوء، نعم من كان متطهراً ثم خرجت منه الرطوبة المرددة لا يجوز له الاكتفاء بالوضوء فقط، بل يجب عليه الجمع بين الوضوء و الغسل فما ذكره صاحب العروة من عدم كفاية الوضوء فقط محمول على هذه الصورة[55].


[1] – مباحث الاصول ج 5ص 290

[2] – خلاصة البحث عن وجوب القضاء عند الشك في الفوت انه ان قلنا بان القضاء بالأمر الأول اي إنه بعد دخول الوقت يتعلق أمر بالصلاة في الوقت وامر آخر بطبيعي الصلاة، -كما اختاره السيد الحكيم قده في مستمسكه بدعوى ان الظاهر من دليل وجوب القضاء هو تعدد المطلوب- فبلحاظ الأمر بطبيعي الصلاة تجري قاعدة الاشتغال واستصحاب عدم الاتيان بالصلاة في الوقت فيجب القضاء.

وان قلنا بان القضاء بامر جديد وموضوعه عدم الاتيان بالفريضة فيحرز موضوعه بالاستصحاب،

وان قلنا بان القضاء بامر جديد وموضوعه فوت الفريضة فقد ذكر جمع منهم صاحب الكفاية ان اثباته باستصحاب عدم الاتيان في داخل الوقت يكون من الاصل المثبت فيرجع الى البراءة عن وجوب القضاء، وما ذكروه هو الصحيح فان عنوان فوت الفريضة عنوان بسيط منتزع من عدم الإتيان بالفريضة مع مضي وقتها، نظير عنوان العمى الذي هو منتزع من عدم البصر مع قابلية المحل له، فكما لايمكن احراز عنوان العمى باستصحاب عدم البصر في المولود مع إحراز قابليته للبصر فعلا فكذلك لايمكن إحراز عنوان الفوت باستصحاب عدم الإتيان مع إحراز مضي وقت الفريضة بالوجدان، وحيث أن موضوع وجوب القضاء هو فوت الفريضة (ولاأقل من احتمال ذلك فقهيا) فيبقى موضوع وجوب القضاء مشكوكا فيه فتجري البراءة عنه.

وأما ما ذكره المحقق الحائري قده من ان الفوت عبارة عن عدم تحقق شيء ذي مصلحة فيمكن احرازه باستصحاب عدم تحقق ذلك الشيءوكذا ما ذكره السيد الحكيم قده من أن الفوت ليس الا مجرد عدم الإتيان بالواجب في وقته فيمكن إحرازه بالاستصحاب ففيه: أنه خلاف الظاهر حيث أن الفوت أمر بسيط منتزع عن عدم الإتيان بالفريضة مع ذهابها عن الكيس، فهو نظير عنوان العمى الذي هو منتزع من عدم البصر مع قابلية المحل له فلايمكن احرازه باستصحاب عدم البصر مع احراز قابلية المحل له فعلا، كما ان دعوى امكان اثبات آثار الفوت باستصحاب عدم الاتيان بالفريضة الى آخر الوقت بنكتة شمول خطاب النهي عن نقض اليقين بالشك لمثله عرفا غير متجهة ايضا للمنع عن استظهار العرف لمثل ذلك بنظره الدقي العرفي، ولاعبرة بنظره المسامحي كما مر في بحث خفاء الواسطة في الاستصحاب.

هذا وقد يذكر نقض على ذلك بانه يستلزم القول بعدم وجوب القضاء في حق من شك في أثناء الوقت في أداء الفريضة فلزمه الإتيان بها بمقتضى استصحاب عدم الإتيان وقاعدة الاشتغال، ولكنه لم‌يأت بها الى ان خرج الوقت، وقد أجاب عنه المحقق الايرواني والسيد الخوئي “قده” بان اطلاق وجوب القضاء عند فوت الفريضة يشمل فوت الفريضة الظاهرية، والمفروض ان الفريضة الظاهرية الثابتة في حقه بعد الشك في الإتيان بمقتضى استصحاب عدم الاتيان قد فاتت منه جزما، وهذا بخلاف ما لو كان شكه بعد الوقت حيث انه لايتحقق باستصحاب عدم الاتيان أية فريضة ظاهرية في حقه في داخل الوقت حتى يحرز فوتها وجدانا، بل ادعى السيد الخوئي قده شمول اطلاق وجوب القضاء لفرض فوت الفريضة العقلية، كما لو علم اجمالا بوجوب القصر والتمام فأتى بأحدهما وترك الآخر، فانه يجب عليه قضاءه.

وفيه اولا: أنه لايوجد اطلاق في دليل وجوب القضاء بنحو يشمل فوت الفريضة الظاهرية، نعم ورد في صحيحة زرارة قال قلت له رجل فاتته صلاة من صلاة السفر فذكرها في الحضر قال يقضي ما فاته كما فاته، وفي صحيحته الأخرى عن ابي جعفر عليه‌السلام انه قال اربع صلوات يصليها الرجل في كل ساعة: صلاة فاتتك فمتى ذكرتها أديتها، وكذا ورد في صحيحته الثالثة عن أبي جعفر عليه‌السلام أنه سئل عن رجل صلى بغير طهور أو نسي صلاة لم‌يصلها أو نام عنها، فقال: يقضيها إذا ذكرها في أي ساعة ذكرها من ليل أو نهار فإذا دخل وقت الصلاة ولم‌يتم ما قد فاته فليقض ما لم‌يتخوف أن يذهب وقت هذه الصلاة التي قد حضرت وهذه أحق بوقتها فليصلها فإذا قضاها فليصل ما فاته مما قد مضى، ولا يتطوع بركعة حتى يقضي الفريضة كلها.

ولكن الصحيحة الاولى ناظرة الى ان القضاء بلحاظ القصر والتمام يكون تابعا للأداء، وليست في مقام بيان وجوب القضاء عند فوت الفريضة حتى يتمسك باطلاقها، كما ان المستفاد من الصحيحة الثانية ان الصلاة الفائتة التي يجب قضاءها يجوز قضاءها في اية ساعة وليست في مقام وجوب القضاء حتى يتمسك باطلاقها لوجوب قضاء الفريضة الظاهرية، كما ان الصحيحة الثالثة واردة فيمن ترك الصلاة رأسا او صلى بغير طهور،فمورد السؤال فيها لايشمل فوت الفريضة الظاهرية.

وثانيا: ان الظاهر من خطاب الأمر بالقضاء عند فوت الفريضة هو فوت الفريضة الواقعية، لان الفريضة الظاهرية ليست فريضة حقيقة، اذ الحكم الظاهري مجرد معذّر ومنجّز، ولأجل ذلك لم‌يلتزم السيد الخوئي قده بورود دليل قاعدة الطهارة والحلّ على خطاب شرطية الطهارة والحل في الصلاة ونحوها، حيث استظهر من خطاب شرطية الطهارة والحل الطهارة والحل الواقعيين، بينما أنّه بناء على ما ذكره من كون الفريضة اعم من الفريضة الواقعية والظاهرية فيكون خطاب شرطية طهارة ماء الوضوء مثلا أيضا أعمّ من الطهارة الواقعية والظاهرية لاستواءهما في نكتة الظهور، فتكون قاعدة الطهارة في الماء محققة للشرط وجدانا، وكذا لم‌يلتزم ببطلان صلاة المكلف لو صلى رجاء في ثوب مستصحب النجاسة ثم تبين له طهارته او صلّى في جلد حيوان مستصحب الجلل ثم تبين زوال جلله او توضأ بماء مستصحب النجاسة ثم انكشف له طهارته، مع أن مقتضى ما ذكره هو أن يكون خطاب مانعية نجاسة الثوب في الصلاة مثلا ظاهرا في الأعم من النجاسة الواقعية والظاهرية فيكون استصحاب النجاسة موجدا لمصداقها.

وثالثا: ان من المحتمل جدا ان تكون الفريضة عنوانا مشيرا الى الصلوات اليومية التي هي فرائض في حد ذاتها دون مطلق الواجب، وقد ورد في صحيحة هشام‌ عن أبي عبدالله عليه‌السلام أنه قال “في الرجل يصلي الصلاة وحده ثم يجد جماعة، قال: يصلي معهم ويجعلها الفريضة إن شاء” فإن ظاهرها اتيان الصلاة المعادة جماعة بنية الصلاة الأدائية مع انها غير واجبة بالفعل لفرض الإتيان بها سابقا، وكذا ورد في صحيحة زرارة فيمن نام عن الصلاة “انه لايتطوع بركعة حتى يقضي الفريضة” وظاهرها الفريضة الشأنية بقرينة تطبيقها على مورد النائم، فيحتمل انصراف عنوان الفريضة الى الفريضة اليومية التي لاتجب في الوقت الا مرة واحدة، ولايثبت استصحاب عدم الاتيان فوت هذه الفريضة وان كان يوجد هذا الاستصحاب في فرض جريانه في داخل الوقت مصداقا للواجب الظاهري في حق المكلف.

فالصحيح في الجواب ان يقال ان دليل وجوب القضاء على من شك في أثناء الوقت في الامتثال ولكنه اهمل الاتيان به الى ان خرج الوقت، -مضافا الى اطلاق ما ورد في صحيحة زرارة والفضيل عن ابي جعفر عليه‌السلام::متى شككت في وقت فريضة انك لم‌تصلها فصلّها” فان مقتضى الأمر بالصلاة عند الشك في داخل الوقت هو لزوم الاتيان بها مطلقا، فلو لم‌يأت بها في الوقت فيلزم ان يقضيها خارج الوقت- ان العرف لايقبل التفكيك بين التعبد الظاهري في داخل الوقت بوجوب الاتيان عند الشك في الامتثال وبين وجوب القضاء عليه على فرض عدم التدارك في الوقت فيما كان للواجب قضاء، فيكون التعبد الظاهري بوجوب القضاء لازما لنفس التعبد الاستصحابي بوجوب الاتيان في داخل الوقت، وقد تحقق في محله ان كلما كان لازما للاصل فيمكن اثباته بدليل ذاك الاصل حيث يكون حينئذ من مثبتات الامارات، فان دليل ذاك الاصل من الامارات، فدليل الاستصحاب وهو صحيحة زرارة مثلا حيث تثبت الحكم الظاهري الاستصحابي بوجوب تدارك الرمي عند الشك في أثناء الوقت –فانه لااشكال في جريان استصحاب عدم الاتيان لاثبات وجوب التدارك عند الشك في أثناء الوقت- فيثبت لازم هذا الحكم الظاهري وهو وجوب قضاءه على فرض عدم التدارك

[3] – المحاضرات مباحث في اصول الفقه ج3ص 54

[4] – المحاضرات مباحث في اصول الفقه ج3ص 55

[5] – كفاية الاصول ص 404

[6] – كفاية الاصول ص 478

[7] – بحوث في علم الاصول ج6ص220 مباحث الاصول ج5ص 299

[8] – مصباح الاصول ج 3ص 99

[9] – مصباح الاصول ج2ص 36

[10] – بحوث في علم الاصول ج6ص 221

[11] – مصباح الاصول ج3ص

[12] – منتقى الاصول ج6ص

[13] – بحوث في علم الاصول ج 6 ص

[14] – بحوث في علم الاصول ج6ص 225

[15] – بحوث في علم الاصول ج 6ص

[16] – وسائل الشيعة ج‌8 ص 237

[17] – وسائل الشيعة ج‌1 ص 470

[18] – الرسائل ج 1ص243

[19] – وسائل الشيعة ج27ص336

[20] – الرسائل ج1ص124

[21] – تهذيب الأصول ج‏2 ص238

[22] – الرسائل ج 1ص243

[23] – اضاف اليه في مباحث الاصول ما محصله: و إن شئت فاستصحب عدم الغسل بالماء المنقّح لموضوع الحكم الظاهري.

إن قلت: ان قاعدة الطهارة أمارة على الطهارة الظاهرية وتنفي النجاسة الظاهرية، ومعها فلا مجال لاجراء استصحاب النجاسة الظاهرية، قلت: ان دليل قاعدة الطهارة قد خصص بدليل حجية البينة على النجاسة حيث كان المستفاد منها جعل النجاسة الظاهرية الى أن يغسل الثوب بالماء، ومع الشك في تحقق الغسل بالماء يكون المورد شبهة مصداقية للتمسك بالعام (مباحث الاصول ج5ص 306)، اقول: لا يرد عليه ما مر منّا في محله من أن حجية الأمارة بمقدار وصولها الى المكلف، فان دليل حجية خبر الثقة وغيره من الأمارات قاصر عن إثبات حجيتها بمجرد وجودها، مضافا الى كون المرتكز العرفي أن الامارة غير الواصلة لا تزيد على التكليف الواقعي غير الواصل الذي لم يكن مانعا من جريان الاصل المؤمن، فيكشف جريانه عن عدم اهتمام المولى، فان ما ذكرناه وان كان تاما لكن المفروض ان المدلول الالتزامي للامارة هنا واصل بحده وامده وانما الشك في تحقق امده بنحو الشبهة الموضوعية.

[23] – وسائل الشيعةج‌1 ص 134

.

[24] – الحلقة الثالثة ج2ص

[25] – مباحث الاصول ج5ص 310

[26] – فوائد الاصول ج‏4 ص405 اجود التقريرات ج2ص 388

[27] – هذا مع غمض العين عن أنه لا يوجد في مثل اصل الطهارة والحل اي تعبد بالعلم حتى بلحاظ الجري العملي.

[28] – مصباح الاصول ج 3ص 100

[29] – مباحث الأصول ج‏5 ص 313

[30] – مباحث الاصول ج5ص 315

[31] – بناء على كون الغاية فيها العلم بالذارة الفعلية لا العلم بحدوث القذارة ولو سابقا بقراءة قوله “حتى تعلم أنه قذُرَ” بصيغة الماضي.

[32] – مباحث الاصول ج5ص 317

[33] – وسائل الشيعة ج1ص 148

[34] – نهاية الدراية ج ص

[35] – تعليقة البحوث ج6ص237

[36] – مقصوده فرض كون العلم الاجمالي السابق باحدهما من الجهل المركب، او فرض وجود كلا الطرفين واقعا في السابق.

[37] – بحوث في علم الاصول ج6ص 237

[38] – نهاية الافكار ج3ص302

[39] – نهاية الافكار ج3ص47

[40] – نهاية الافكار ج3ص299

[41] – بحوث في علم الاصول ج6ص 238

[42] – بحوث في علم الاصول ج6ص

[43] – نهاية الافكار ج 4ق1ص 116

[44] – بحوث في علم الاصول ج6ص240

[45] – منتقى الاصول ج6ص 162

[46] – منتقى الاصول ج 6 ص 171

[47] – منتقى الاصول ج5 ص59

[48] – كفاية الاصول ص 406

[49] – مصباح الأصول ج‏2 ص 106

[50] – كفاية الاصول ص 406

[51] – مصباح الاصول ج3ص 106

[52] – منتقى الاصول ج6ص 170

[53] – مصباح الاصول ج3ص 106

[54] – كفاية الاصول ص 406

[55] – مصباح الاصول ج3ص 108