فهرست مطالب

فهرست مطالب

PDF

استدراك

قد حاولنا في الدورة السابقة تصحيح الاستصحاب الاستقبالي، لاثبات الجواز الظاهري للبدار الى الاتيان بالبدل الاضطراري في اول الوقت، مع الشك في استمرار العجز الى آخر الوقت، بطريقين:

احدهما: استظهار كون الموضوع للبدل الاضطراري هو العجز المستمر الى آخر الوقت عن الطبيعة الاختيارية، بأن يكون الزمان قيدا للعجز لا للمتعلق، وذلك من عدة من الروايات:

منها: صحيحة أبي حمزة عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز و جل الذين يذكرون اللٰه- قياما و قعودا و على جنوبهم قال الصحيح يصلي قائما و قعودا المريض يصلي جالسا، و على جنوبهم الذي يكون أضعف من المريض، الذي يصلي جالسا[1].

ونحوها موثقة عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المريض إذا لم يقدر أن يصلي قاعدا، كيف قدر صلى إما أن‌ يوجه فيومئ إيماء، و قال يوجه كما يوجه الرجل في لحده، و ينام على جانبه الأيمن ثم يومئ بالصلاة، فإن لم يقدر أن ينام على جنبه الأيمن، فكيف ما قدر فإنه له جائز، و ليستقبل بوجهه القبلة ثم يومئ بالصلاة إيماء[2]، فان اطلاق المريض فيهما وان كان حسب مدلوله اللغوي شاملا للمريض اول الوقت، لكن بمناسبة كونه موضوعا للامر الاضطراري يكون ظاهرا في العاجز والمعذور عذرا مستمرا الى آخر الوقت.

ومنها: صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: سألته عن رجل عريان و حضرت الصلاة، فأصاب ثوبا‌ نصفه دم أو كله دم يصلي فيه أو يصلي عريانا، قال إن وجد ماء غسله و إن لم يجد ماء صلى فيه و لم يصل عريانا[3].

فان الظاهر من قوله “ان لم يجد ماء صلى فيه” بمناسبة الحكم والموضوع كما اتضح آنفا هو عدم الوجدان المستمر الى آخر الوقت، وبذلك يمكن استصحابه الاستقبالي.

ثانيهما: ان استصحاب العجز عن الطبيعة الاختيارية كالصلاة في الثوب الطاهر الى آخر الوقت حيث يجري بلا اشكال فالعرف يرتب عليه الاثر العقلائي والعرفي وهو المعذورية في ترك الواجب الاختياري حيث ان موضوعها عندهم قيام الحجة على العجز المستمر عنه الى آخر الوقت، بل بناء على قبول جريان الاستصحاب مع خفاء الواسطة فيترتب عليه الاثر الشرعي وهو ثبوت الامر الاضطراري لخفاء الواسطة، او يقال بانه بعد ما جرى استصحاب العجز الى آخر الوقت، فالعرف لا يتعقل التفكيك بينه وبين أثر العجز عن الطبيعة في الوقت بنحو يكون الوقت قيدا للمتعلق دون العجز، ويسمى ذلك بجلاء الواسطة.

ولکن الانصاف عدم وضوح ما ذكرناه في تلك الدورة، فان عنوان المريض او من لا يجد الماء بعد ما كان منصرفا عن القادر على الاتيان بالواجب الاختياري ولو في آخر الوقت، فلا معيِّن لكون الزمان قيدا للعجز، فلعله قيد للمتعلق، ان لم نستظهر ذلك، فكما ان سائر قيود الواجب ماخوذ في متعلق العجز فكذلك قيد الوقت، وأما كون قيام الحجة على استمرار العجز الى آخر الوقت كافيا في المعذورية العقلائية في ترك الواجب، فغير واضح، بل لعل اللازم تحصيل الحجة على العجز عن صرف وجود الطبيعة الواجبة في الوقت، واثباته باستصحاب بقاء العجز الى آخر الوقت يكون من الاصل المثبت، والغفلة النوعية للعرف في مثل هذا المورد او عدم تعقله للتفكيك اول الكلام.

جريان الاستصحاب في الشك التقديري

التنبيه الثانی: وقع الكلام في أنه هل يعتبر في الاستصحاب فعلية اليقين السابق والشك اللاحق، أم يكفي اليقين والشك التقديريان، اي فرض الغفلة فعلا وان كان لو التفت لحصل له اليقين او الشك، فذهب المشهور كصاحب الكفاية الى اعتبار اليقين والشك الفعليين، والظاهر من كلامهم كون عقد البحث عن ذلك لأجل الاحتراز عن جريان الاستصحاب في موارد الشك التقديري، لكن لا بأس ب‍ـأن يضم اليه البحث عن جريان الاستصحاب في موارد اليقين التقديري، فالكلام يقع في مقامين:

المقام الاول: في جريان الاستصحاب وعدمه في فرض الشك التقديري، فذكر الشيخ الاعظم “قده” أن المعتبر هو الشك‏ الفعلي‏ الموجود حال الالتفات إليه، أما لو لم يلتفت فلا يجري الاستصحاب، و إن‏ فرض الشك فيه على فرض الالتفات، وقد ذكر في ثمرة ذلك أن من تيقن بالحدث ثم غفل عن حاله، و صلّى، ثم التفت و شك في كونه محدثا حال الصلاة أو متطهرا جرى في حقه قاعدة الشك بعد الفراغ لحدوث الشك بعد العمل، و عدم وجوده قبله حتى يوجب الأمر بالطهارة و النهي عن الدخول في الصلاة بدونها، وأما الشك بعد الصلاة في بقاء الحدث الى حال الصلاة فهو وان كان موجبا لجريان استصحاب الحدث ويقتضي إعادة الصلاة، لكن قاعدة الفراغ حاكمة عليه، بينما أنه لو كان متيقنا بالحدث ثم حصل له الشك في بقاء الحدث وجرى استصحاب الحدث، ثم غفل عن ذلك و صلى بطلت صلاته لسبق الأمر بالطهارة و لا يجري في حقه حكم الشك في الصحة بعد الفراغ عن العمل لأن مجراه الشك الحادث بعد الفراغ لا الموجود من قبل[4].

وقد ذكر صاحب الكفاية ايضا أن الثمرة تظهر فيما لو أحدث المكلف ثم غفل و صلى ثم شك في أنه تطهر قبل الصلاة، فيحكم بصحة صلاته لقاعدة الفراغ، وهذه القاعدة تقدم على الاستصحاب الجاري حين الشك بالنسبة الى بقاء الحدث حال الصلاة، بخلاف من التفت قبلها و شك ثم غفل و صلى، فيحكم بفساد صلاته فيما إذا قطع بعدم تطهيره بعد الشك لكونه محدثا قبلها بحكم الاستصحاب مع القطع بعدم رفع حدثه الاستصحابي[5].

وقبل أن نتكلم حول هذا الفرع واشباهه ينبغي أن نتعرض لما استدل به على اعتبار فعلية الشك وعدم كفاية الشك التقديري، وهو وجهان:

1- ما ورد في كلمات كثير من الاعلام من أن الظاهر من الشك هو الشك الفعلي، فلا يشمل الغافل، ولو فرض أنه يشك لو التفت، كما هو كذلك بالنسبة الى سائر العناوين، فالعالم لا يشمل من ليس عالما بالفعل، وان كان لو درس لصار عالما، وهكذا، وهذا ما ذكره صاحب الكفاية والسيد الخوئي “قدهما” وغیرهما.

2- ما ذكره صاحب الكفاية “ره” في حاشية الرسائل من أنه حيث يكون الغرض من الاستصحاب تنجيز الحكم الواقعي مع مطابقته له والتعذير عنه مع مخالفته له، كما هو الحال في الطّرق و الأمارات، فلا يكاد أن يكون له بعد مرتبة إنشائه و الخطاب به إلاّ مرتبة واحدة يعتبر في البلوغ إليها ما يعتبر في بلوغ الحكم إلى المرتبة الرّابعة فلا يترتّب عليها بدونه‏ ما هو المرغوب منها من تنجّز الواقع و العقاب على مخالفته في صورة إصابتها و العذر عن مخالفته على تقدير عدم الإصابة مع موافقتها، و كذا لو قلنا باستحقاق العقوبة في صورة مخالفتها تجرياً كما حقّقناه، أو مخالفة و عصياناً كما في البحث قد احتملناه، ضرورة انّ هذه الآثار لا يكاد أن يترتّب عليها إلاّ بعد الاطّلاع عليها بأطرافها تفصيلاً أو إجمالاً، و لا يكاد أن يوجد أثر آخر يترتّب عليه بدونه و لم يكن مترتّباً على إنشائه و مجرّد الخطاب به واقعاً[6]، وقد ذكر المحقق النائيني والمحقق الاصفهاني “قدهما” نظير ذلك[7].

وقد أجاب في البحوث عن كلا الوجهين ولأجل ذلك اختار جريان الاستصحاب في الشك التقديري.

أما الوجه الاول: فاجاب عنه اولا: أنه لم يرد عنوان الشك في صحيحة ابن سنان “اعير الذمي ثوبي و أنا اعلم انه يشرب الخمر و يأكل لحم الخنزير فيرده علي فأغسله قبل أن أصلي فيه فقال (عليه السلام) صلّ فيه و لا تغسله من أجل ذلك فإنك أعرته إياه و هو طاهر و لم تستيقن أنه نجسه فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه[8]، هكذا قوله “كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر” و “كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام” بناء على تمامية دلالتهما على الاستصحاب، بل الظاهر من صحيحة زرارة الاولى “ولا ينقض اليقين بالشك ولكن ينقضه بيقين آخر” أن ناقض اليقين بالحدوث منحصر باليقين بالارتفاع.

وثانيا: أن مناسبة النهي عن نقض اليقين بالشك توجب ظهوره في كون اليقين لمكان ابرامه وقوته لا يصلح نقضه بالشك لوهنه، وهذه النكتة موجودة في فرض الشك التقديري، بحيث لو التفت حصل له الشك، وان كان غافلا بالفعل.

وأما الوجه الثاني: فأجاب عنه بأن الصحيح كون حقيقة الحكم الظاهري التنجيزي اهتمام المولى  بحفظ غرضه اللزومي المشتبه وحقيقة الحكم الظاهري الترخيصي اهتمامه بحفظ غرضه الترخيصي المشتبه، لا مجرد التنجز والتعذر المتقومين بالوصول.

اقول: أما جوابه عن الوجه الاول فالظاهر عدم تماميته، فان المفروض في سؤال السائل في صحيحة ابن سنان هو شكه الفعلي في بقاء طهارة الثوب الي أعاره من الذمي، والامام (عليه السلام) خاطبه في الجواب بقوله “انك أعرته اياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجسه” فلعل الامام لم يأخذ الشك في الجواب لكونه مفروضا في سؤال السائل، وكان الجواب خطابا له، بل لو كان الجواب بمثل قوله “اذا كان الثوب طاهرا فاعاره شخص من ذمي فلا يغسله من أجل ذلك لأنه اعاره اياه وهو طاهر ولم يستيقن أنه نجسه” فلا يبعد أن يقال بأن المفروض فيه عرفا حيث كان هو شك المعير في تنجيس المستعير للثوب، دون علمه به او بعدمه ونهاه الامام عن غسله ما لم يعلم بأنه نجسه، فلا اطلاق له لفرض الغفلة، واما حديث الطهارة والحل فلم يتم دلالتهما على الاستصحاب، بل قد يقال ان شمول الحكم الظاهري للغافل وان كان معقولا، لكن العرف حيث يرى نكتة جعل الحلية الظاهرية التسهيل على المكلف في ارتكابه لمشكوك الحرمة، وهذا لا يتم في حق الغافل، فلا ينعقد له اطلاق يشمله، نعم لا يأتي هذا البيان في حديث الطهارة.

وأما صحيحة زرارة الاولى فالظاهر عدم تمامية اطلاقها للغافل، فانه بعد ما سأل زرارة عن فرض الظن بالنوم بعد اليقين بالوضوء، فأجابه الامام (عليه السلام) بأنه لا يجب عليه الوضوء، حتى يستيقن أنه نام، ولا  ينقض يقينه بالشك وانما ينقضه باليقين، فلا يبقى ظهور في الرواية لبيان فرض الغفلة، فلعل المقسم للنهي عن النقض او الامر به هو الملتفت كما هو المفروض في السؤال، فان كان شاكا في ارتفاع المتيقن السابق فنهي عن نقض يقينه وان كان متيقنا با رتفاعه فقد امر بنقضه، وأما الغافل فلا امر ولا نهي عن النقض في حقه.

وما ذكره من كون نكتة النهي عن نقض اليقين بالشك وهن الشك واتقان اليقين، وهذه النكتة تجري في الشك التقديري ففيه أنه لا ينافي كون غفلة المكلف مانعة عن التعبد بالحكم الظاهري في حقه، لعدم تاثير الحكم الظاهري في حقه.

ثم ان النتيجة الغريبة التي تترتب على ضم مختاره “قده” هنا مع مختاره من كون واقع الحدوث ركن الاستصحاب، وقد استفاد ذلك ايضا من صحيحة ابن سنان هو جريان الاستصحاب مع الغفلة عن الحدوث والبقاء معا، وكفاية مجرد الحدوث واقعا وأنه لو التفت لشك في البقاء على تقدير الحدوث، واستفادة مثله من ادلة الاستصحاب بل اي خطاب حكم ظاهري بعيد جدا.

فالانصاف تمامية الوجه الاول لعدم جريان الاستصحاب مع الشك التقديري، أما الوجه الثاني فالظاهر عدم تماميته، حيث اخترنا في محله كون روح الحكم الظاهري التنجيزي عدم رضى المولى بتفويت غرضه اللزومي على تقدير وجوده، كما ان روح الحكم الظاهري الترخيصي رضى الشارع بتفويت غرضه اللزومي على تقدير وجوده، وهذه قابلة للوجود ولو قبل وصول الحكم الظاهري.

هذا وقد فصَّل بعض الاعلام “قده”بين الحكم الظاهري الوضعي كالطهارة وبين الحكم الظاهري التكليفي كالحل، فذكر أنه لا محذور في شمول الحكم الوضعي الظاهري للغافل، كما هو الحال في الحكم الوضعي الواقعي، بخلاف الحكم التكليفي، فانه كما أن جعل الحكم التكليفي الواقعي في حق الغافل لغو فكذلك الحكم التكليفي الظاهري، وعليه فلا محذور في استصحاب الطهارة او الحدث في المقام في فرض الشك التقديري[9].

اقول: وقع الخلط في كلامه بين اشكال اللغوية واشكال عدم تحقق حقيقة الحكم الظاهري في فرض الغفلة، فالمذكور في الوجه الثاني ليس هو اشكال اللغوية، والا لأمكن الاجابة عنه بما مر منا مرارا من عدم الاستهجان او الانصراف العرفي في شمول اطلاقات الاحكام لفرض الغفلة،   وانما المذكور فيه هو اشكال أن حقيقة الحكم الظاهري المنجزية والمعذرية ولا فرق في ذلك بيم الحكم الوضعي الظاهري او الحكم التكليفي الظاهري.

فتحصل مما ذكرناه عدم شمول الاستصحاب للشك التقديري، وأما الفروع المذكورة في المقام فهي ما يلي:

الفرع الاول: اذا تيقن المكلف بالحدث فغفل وصلى ثم التفت وشك في ارتفاع حدثه قبل الصلاة، فذكر الشيخ الاعظم “قده” أن استصحاب الحدث وان كان جاريا بعد الصلاة في حد نفسه، لكن قاعدة الفراغ تكون حاكمة عليه، بينما أنه لو كان يجري استصحاب الحدث حال غفلته المساوقة للشك التقديري لم يجر قاعدة الفراغ للعلم بوقوع الصلاة مع الحدث الاستصحابي.

وقد اشكل عليه السيد الخوئي “قده” بعدم ترتب الثمرة على القول بجريان الاستصحاب مع الشك التقديري وعدمه فيه، فانه ان قلنا بعدم جريان قاعدة الفراغ مع العلم بالغفلة حال العمل، كما هو الصحيح فلا مقتضي لجريان قاعدة الفراغ فيه، فيجري استصحاب الحدث بعد الصلاة حين الشك الفعلي فتجب اعادة الصلاة، وأما على القول بجريانها مع العلم بالغفلة، لإطلاق مثل قوله (عليه السلام) في صحيحة محمد بن مسلم “كلما شككت فيه مما قد مضى فامضه كما هو[10]” مع حمل مثل قوله في موثقة بكير بن اعين “قال قلت له الرجل يشك بعد ما يتوضأ قال: هو حين يتوضأ اذكر منه حين يشك[11]” على مجرد بيان الحكمة، فتكون قاعدة الفراغ حاكمة على الاستصحاب، و لو قلنا بعدم اعتبار الشك الفعلي في الاستصحاب، إذ لا اختصاص لحكومة القاعدة على الاستصحاب الجاري بعد الصلاة، بل تكون حاكمة على الاستصحاب الجاري قبلها أيضا[12].

واورد في البحوث على ما ذكره السيد الخوئي أنه ان كانت نكتة تقديم قاعدة الفراغ على مثل استصحاب الحدث حكومتها عليه بأن يكون موضوع الاستصحاب الشك ويكون مفاد القاعدة الغاء الشك تعبدا، حيث ورد في ادلتها مثل قوله “فشكك ليس بشيء” فهي انما تكون حاكمة على الاستصحاب الجاري بعد الصلاة، دون الاستصحاب الجاري قبل الصلاة، حيث انها تلغي الشك بعد العمل لا قبله، ومن جهة أخرى حيث ان جريان استصحاب الجاري حال الصلاة حال الغفلة والشك التقديري من دون جريانه عند الالتفات وحصول الشك الفعلي بعد الصلاة لغو محض ولا يعقل التفكيك بينهما ابدا، فتتحقق المعارضة بين عموم دليل قاعدة الفراغ بالنسبة الى هذه الصلاة مع عموم دليل الاستصحاب، نعم لو كانت نكتة تقديم القاعدة كون دليلها اخص مطلقا عرفا من دليل الاستصحاب كما هو الصحيح فيتم تقديم القاعدة على الاستصحاب[13].

وما ذكره تام، وما في تعليقة البحوث من أنَّ فرض لغوية جعل التعبد الاستصحابي في حال الغفلة معناه انَّ جعل الحكم الظاهري الاستصحابي في مورد الشك التقديري لغو عقلائياً و هذا يؤدي إلى عدم شمول دليل الاستصحاب للشك التقديري لا شموله له و ثبوت لازم يخرجه عن اللغوية فانَّ الدليل لم يكن وارداً في الشك التقديري لتتم فيه دلالة الاقتضاء مثلًا[14]، ففيه أن كبرى ما ذكر (من أنه لا يوجب لغوية شمول اطلاق الخطاب لمورد بدون ضم امر خارج عن مدلول الخطاب اليه ان يلتزم بثبوت ذلك الامر الخارجي -كجريان استصحاب عدم الحاجب لاثبات تحقق الغسل- لتقيد كل اطلاق بعدم استلزام اللغوية) لا يرتبط بالمقام، فان المفروض بناء على جريان الاستصحاب في الشك التقديري كون جريان الاستصحاب في كل من حال الشك التقديري قبل الصلاة والشك الفعلي بعد الصلاة، مدلولا لنفس خطاب الاستصحاب، وكون اختصاص جريانه بحال الشك التقديري لغوا، لا يصحح قياسه بما اذا كان شمول اطلاق الدليل لمورد لغوا بدون ضم ضميمة خارجية غير مستفادة من الخطاب اليه.

نعم قد يقال بأن الدليل الحاكم وهو دليل قاعدة الفراغ لم يخرج عنوان الشك الفعلي في الحدث عن موضوع دليل الاستصحاب، وانما اخرج الشك الحاصل بعد الفراغ من الصلاة، فلو تبدل الشك التقديري إلى الفعلي في أثناء العمل أيضاً كان الاستصحاب تاماً و جارياً، فجريان استصحاب الحدث مع الشك التقديري مغيى بعدم حدوث الشك الفعلي فيه بعد الفراغ ليس لغواً[15].

وفيه أن اطلاق جعل الاستصحاب في الشك التقديري لفرض بقاء الغفلة الى ما بعد الصلاة وحصول الشك الفعلي بعد الفراغ منها لغو محض، فما ذكره في البحوث متجه.

ثم ان ما ورد في كلام صاحب الكفاية “قده” من أنه بناء على جريان الاستصحاب مع الشك التقديري فوقوع الصلاة مع الحدث الاستصحابي معلوم فلا تجري فيها قاعدة الفراغ، فيرد عليه أن المعتبر في قاعدة الفراغ حدوث الشك بعد الفراغ، فلو غمضنا العين عن شرطية احتمال الالتفات حال العمل فمجرد العلم بوقوع الصلاة مع الحدث الاستصحابي لا يمنع عن جريان القاعدة فيها.

ثم انه لو استمرت غفلته الى أن خرج وقت الصلاة فقد يقال بأن استصحاب الحدث حيث لا يثبت فوت الصلاة فلا يجب عليه القضاء بعد أن كان القضاء بامر جديد موضوعه الفوت.

الفرع الثاني: ما لو شك في بقاء الحدث ثم غفل فصلى، ثم التفت بعد الصلاة مع علمه بأنه بعد ما شك في بقاء الحدث لم يتوضأ ابدا، فذكر الشيخ الاعظم “قده” أنه حيث جرى استصحاب الحدث قبل الصلاة فيعلم بوقوع صلاته مع الحدث الاستصحابي فلا مجال لجريان قاعدة الفراغ.

وقد اشكل عليه السيد الخوئي “قده” بأن بطلان الصلاة في هذا الفرع وان كان مسلما، إلا أنه ليس مستنداً إلى جريان استصحاب الحدث قبل الصلاة والعلم بوقوع الصلاة مع الحدث الاستصحابي، بل مستند إلى عدم جريان قاعدة الفراغ في نفسها، لاختصاصها بما إذا حدث الشك بعد الفراغ، و هذا الشك الموجود بعد الفراغ كان قبل الصلاة، فان هذا الشك متحد عرفا مع الشك الذي كان قبل الصلاة، و ان كان غيره بالدقة العقلية، والا فان الاستصحاب الجاري قبل الصلاة لا يقتضي بطلانها، لأن الغفلة الحاصلة له قبل الصلاة اوجب ارتفاع الشك الفعلي، فلم تكن الصلاة مقترنة باستصحاب الحدث حال الصلاة، فانه كما يعتبر في الاستصحاب اليقين و الشك حدوثا، كذا يعتبران بقاء، فما دام شاكا يكون محدثا بالحدث الاستصحابي، و بمجرد طرو الغفلة يسقط الاستصحاب، فلا يكون محدثا بالحدث الاستصحابي[16].

اقول: قد مر الاشكال في توجيه المنع عن جريان قاعدة الفراغ بالعلم بوقوع الصلاة مع الحدث الاستصحابي، وانما المانع عنه مع غمض العين عن شرطية احتمال الالتفات هو كون الشك في هذا الفرع حادثا قبل الفراغ من العمل، و العرف أن الشك بعد الصلاة بنفسه هو الشك الذي حصل قبل الصلاة وان غفل عنه ولا يقاس بما اذا زال الشك حين الصلاة وحصل القطع بالطهارة ثم عاد الشك بعد الصلاة فانه عرفا شك جديد حاصل بعد الفراغ، بل لعله عقلا كذلك لعدم زوال الشك في صقع النفس حال طرو الغفلة بحيث لالتفت لعاد الشك، والانصاف أن الالتزام بجريان الاستصحاب فيه حال طرو الغفلة عرفي لبقاء الشك في صقع النفس عرفا على الاقل.

ثم انه لو استمرت غفلته الى أن خرج الوقت فالظاهر وجوب القضاء عليه، لان الظاهر من صحيحة الفضلاء الواردة في الشك قبل خروج الوقت من لزوم الاتيان بالصلاة، هو لزوم قضاءها ان لم يؤدها في الوقت، حيث ورد فيها “متى شككت في وقت فريضة أنك لم تصلها صلّيتها[17]” فلا يجدي دعوى أن القضاء بامر جديد وموضوعه الفوت ولا يثبت باستصحاب بقاء الحدث.

نعم ذكر في مباحث الاصول أنه إن حصل له في هذا الفرع العلم بعد الصلاة بتوارد الحالتين فلا يجري استصحاب الحدث، فإن كان في خارج الوقت لم يجب عليه القضاء، وانما يجب عليه الاعادة في الوقت لقاعدة الاشتغال، بينما أنه في غير فرض العلم بتوارد الحالتين يجري استصحاب الحدث فتجب الاعادة والقضاء[18]، ولكن لم نفهم وجه هذا التفصيل فانه ان لم يتم اطلاق صحيحة الفضلاء لاثبات وجوب القضاء عند الشك في داخل الوقت في الاتيان بالصلاة،  فلا فرق في جريان استصحاب الحدث بعد الوقت او عدم جريانه بالنسبة الى اثبات وجوب القضاء بعد أن التزم بكونه بامر جديد موضوعه الفوت.

الفرع الثالث: ما ذكره المحقق العراقي “قده” من أنّه لو كان عالماً بالطهارة ثمّ شكّ في بقاء الطهارة، ثمّ غفل و صلّى، و بعد الصلاة حصل له العلم بأنّه قبل الصلاة قد تواردت عليه حالتان: الطهارة و الحدث، فبناءً على أنّ الاستصحاب يجري في موارد الشكّ التقديري تصحّ صلاته؛ لأنّه كان في حال الصلاة متطهّراً بالطهارة الظاهرية، و بناءً على عدم جريانه لا تصحّ الصلاة لعدم ثبوت الطهارة له في الصلاة، لا واقعاً و لا ظاهراً[19].

ولا يخفى أنه إنّما فرض الشكّ في الطهارة قبل الصلاة ثمّ الغفلة، و لم يفرض الغفلة رأساً، حتى لا تكون الصلاة مورداً لقاعدة الفراغ على اي حال، بعد عدم اعتباره شرطية احتمال الالتفات حال العمل، كما أن وجه فرضه توارد الحالتين، لأنّه لو علم بعد الصلاة بأنّه كان محدثاً لم يكن هناك وجه لتوهّم كفاية استصحاب الطهارة الجاري حال الصلاة، لأنّ الاستصحاب ليس إلّا حكماً طريقياً، و قد انكشف خلافه، والمفروض كون الطهارة عن الحدث من الاركان، وهذا بخلاف فرض توارد الحالتين، حيث لم ينكشف الخلاف بعد الصلاة.

وفيه أن اثر المنجزية والمعذرية للحكم الظاهري تابع لوجوده الفعلي ولا يكفي حدوثه، في بقاء الاثر، فعدم اعادة الصلاة بعد العلم بتوارد الحالتين يحتاج الى مؤمن غير استصحاب الطهارة الجاري حال الصلاة، والا لكفى ولو حصل العلم بتوارد الحالتين قبل الصلاة.

بل قد يقال ان اختصاص جريان استصحاب الطهارة في هذا الفرض بحال الشك التقديري في اثناء الصلاة، دون حال العلم بتوارد الحالتين، لما كان لغوا، لما مر من لغوية اختصاص جريانه بحال الغفلة دون الشك الفعلي الحاصل بعدها، فيدخل ذلك الاستصحاب تحت المعارضة مع استصحاب الحدث في عرض معارضة استصحاب الطهارة بعد العلم بتوارد الحالتين مع استصحاب الحدث.



[1] – وسائل الشيعة ج5ص 481

[2] – وسائل الشيعة ج5ص 483

[3] – وسائل الشيعة ج3ص 484

[4] – فرائد الاصول ج‏2 ص547

[5] – كفاية الاصول ص 404

[6] – درر الفوائد ص294

[7] – فوائد الاصول ج‏4 ص317 نهاية الدراية ج 5ص 127

[8] – وسائل الشيعة ج 3ص521

[9] – منتقى الاصول ج6ص

[10] – وسائل الشيعة ج8ص 237

[11] – وسائل الشيعة ج1ص 471

[12] – مصباح الاصول ج3ص 93

[13] – بحوث في علم الاصول ج6ص213

[14] – بحوث في علم الاصول ج6ص 214

[15] – اضواء وآراء ج3ص 252

[16] – مصباح الاصول ج3ص 93

[17] – وسائل الشيعة ج4ص 283

[18] – مباحث الاصول ج5ص 292

[19] -نهاية الأفكار: القسم الأوّل من الجزء الرابع، ص 17