فهرست مطالب

فهرست مطالب

pdf

 

هذا وقد ذكر بعض السادة الاعلام “دام ظله” في توجيه كلام الشيخ الاعظم أنه يمكن أن يكون مقصوده تأخر مرحلة الحكم الوضعي عن مرحلة الاحكام التكليفية، ولمزيد التوضيح يمكن تصوير مراحل اربع للاحكام القانونية:

1- مرحلة الوعد والوعيد، 2- مرحلة الاحكام التكليفية وهي الوجوب والحرمة، 3- مرحلة الاحكام الوضعية، 4- مرحلة الماهيات الجعلية كالبيع والاجارة.

فكل مرحلة متأخرة مع انتفاء المرحلة السابقة عليها تكون لغوا، فاذا فرضنا الوجوب والحرمة ولم يكن وعد ووعيد يكون الوجوب او الحرمة لغوا، اذ حقيقة الوجوب والحرمة جعل الملازمة بين الفعل والترك وبين الثواب والعقاب، كما أنه اذا فرضت الاحكام الوضعية كالملكية ولم يترتب عليها وجوب او حرمة تكون الملكية لغوا، وكذا اذا فرضت ماهية جعلية كالعقد فان لم يترتب عليها حكم وضعي تكون الماهية الجعلية لغوا.

فالاحكام الوضعية اعتبارات قانونية، وليست مجرد اعتبارات ادبية اي مجرد استعمال على نحو الكناية والاستعارة، والفرق أن الاعتبار الادبي هو اعطاء حد شيء لشيء آخر، كاعطاء حد الاسد لزيد، بغرض ايجاد الاثر الاحساسي للاسد فيه، بينما ان الاعتبار القانوني هو الاعتبار الادبي مع زيادة شيء و هو تطابق الارادة الجدية مع الارادة الاستعمالية، فاذا حكم بالزوجية او الملكية يرى المقنن وأتباعه أن ما حكم به مطابق للواقع، والثمرة بينهما عدم جريان الاصول كالاستصحاب في الاعتبارات الادبية بخلاف الاعتبارات القانونية.

والاحكام الوضعية تستبطن عدة من الاحكام التكليفية التي تكون كالمقوم لها ويوجد ارتباط ذاتي بينها وبين تلك الاحكام الوضعية، فالملكية مثلا معيِّنة لنوع من الحكم التكليفي، وهو حرمة تصرف الغير بدون اذنه، دون وجوبه او استحبابه او كراهته، اذ الملكية مندمج فيها عدم تصرف الغير بدون اذن المالك، وان هذا مختص به، وكذا الزوجية تجر نوعا خاصا من الاحكام التكليفية، ومن ذلك يظهر أن ما ذكره الشيخ “ره” من أن المشهور كون مرجع الخطاب الوضعي الى الحكم التكليفي صحيح بالمعنى الذي ذكرنها، والظاهر أن القدماء والشيخ كان في ذهنهم ما ذكرنا من ان الملكية والزوجية وامثالهما في مرحلة حدوثها كانت حادثة من الاحكام التكليفية يعني ان مجموعة من الاحكام التكليفية تتحول الى مرحلة الحكم الوضعي، فالحكم الوضعي اجمال لتلك الاحكام، وليس مرادهم أنه لا يحق لأحد اعتبار الحكم الوضعي، وبهذا يمكن التصالح بين الشيخ “ره” وصاحب الكفاية[1].

اقول: لا اشكال في كون الغرض من الحكم الوضعي التطرق به الى احكام تكليفية متناسبة معها، لكن لا يعني ذلك لغوية شمول جعله بنحو الخطابات القانونية لموارد اتفق فيها انتفاء الاثر التكليفي كنجاسة عين النجاسة الموجودة في مكان لا تكون محل ابتلاء المكلفين ابدا، وأما ما ذكره من كون جعل الاحكام التكليفية المتناسبة مع الحكم الوضعي سابقا تاريخيا على جعل الحكم الوضعي فلم نعرف ذلك ابدا، بأن يكون جواز التشريعي لاستمتاع الرجل بامرأة والمنع كذلك من استمتاع غبره منها سابقا على اعتبار الزوجية مثلا.

وأما ما ذكره حول الماهيات الجعلية ولغوية اعتبارها في مورد لا يترتب عليه اثر، فأصل وجود معتبر شرعي زائدا على الاحكام التكليفية والوضعية مبني على ما ذكره جماعة من أن المجعولات الشرعية ثلاثة: الأحكام التكليفية، و الأحكام الوضعيّة، و الماهيات المخترعة، كالصوم و الصلاة، فقد قال الشهيد “ره” الماهيات الجعلية كالصوم و الصلاة لا يطلق على الفاسد إلا الحج لوجوب المضي فيه[2]” ونقل عن المحقق النائيني “قده” موافقته، معه، ولكن كما ذكر السيد الخوئي “قده” ان معنى جعل الماهية على ما ذكروه هو تصور أمور متعددة مجتمعة و منضماً بعضها مع بعض، ثم الأمر بها بعنوان أنها شي‏ء واحد، و مرجع هذا المعنى إلى تصور أمور متعددة، كالتكبير و القيام و القراءة مثلا بتصور واحد. ثم الأمر بها[3]، والاول مجرد تصور وتسمية، الثاني حكم شرعي تكليفي وقد يكون وضعيا.

هذا كله في حقيقة الاحكام الوضعية، وقد تبين كونها انتزاعية في القسمين الاولين وكونها مجعولة بجعل مستقل في الثالث، حسب الظاهر من الادلة، وان امكن عدم جعلها وانتزاعها عن الاحكام التكليفية.

حكم جريان الاستصحاب في الاحكام الوضعية وعدمه

مر سابقا أنه نقل المحقق العراقي “ره” عن الفاضل التوني “ره” أنه انكر جريان الاستصحاب في الحكم الوضعي لعدم كونه مجعولا شرعا، ثم اورد عليه بأنا لا نحتاج في الاستصحاب إلى أكثر من أن يكون أمر وضعها و رفعها بيد الشارع، و الأحكام الوضعيّة حتّى إذا كانت انتزاعيّة فأمر وضعها و رفعها بيد الشارع و لو بواسطة منشأ انتزاعها، و فيه أن مجرد كون امر وضعها ورفعها بيد الشارع لا يكفي في جريان الاستصحاب، بل لابد من انتهاءه الى اثر عملي، من التنجيز او التعذير، فما لم يكن الحكم الوضعي موضوعا للاحكام التكليفية، بل كان منتزعا منها فيكون اثباتها باستصحابه من الاصل المثبت، ولو كان موضوعا لها او لحكم العقل بالتنجيز والتعذير جرى استصحابه ولو لم يكن وجوده الواقعي تحت اختيار الشارع بما هو شارع، ولذا يجري الاستصحاب في مقام الامتثال.

هذا وقد استدل المحقق الايرواني “قده” على انكاره لجريان الاستصحاب في الاحكام الوضعية بأنها حيث لا يتعلق بها الجعل الاستقلالي فلا يجري فيها الاستصحاب حيث ان نتيجة الاستصحاب هو جعلها الاستقلالي[4]، وهذا غريب، لأن النهي عن نقض اليقين عملا بالشك بل التعبد الظاهري بالمتيقن لايتوقف على كونه وجوده الواقعي قابلا للجعل الشرعي فضلا عن كونه قابلا للجعل الشرعي الاستقلالي، كما تبين وجهه آنفا.

اقول: لابد من التكلم في جريان الاستصحاب من ملاحظة الاقسام الثلاثة للاحكام الوضعية.

أما القسم الاول فله صور:

الصورة الاولى: الشك في سببية شيء للتكليف، فقد ذكر السيد الخوئي “قده” أنه -بناء على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية- لا مانع من جريان استصحاب السببية، الا أن جريان الاستصحاب في منشأ انتزاعها اي التكليف حاكم عليه[5].

اقول: يوجد لهذه الصورة ثلاث فروض:

1- أن يشك في حدوث سببية شيء للتكليف، كما لو شك في سببية الاستطاعة لوجوب العمرة المفردة، فجريان استصحاب عدم سببية الاستطاعة لوجوب العمرة موافق مع ما هو جار قطعا، وهو استصحاب عدم وجوب العمرة على المكلف بعد استطاعته لها.

2- أن يشك في بقاء السببية لأجل الشك في نسخ الجعل، كما لو شك في بقاء سببية الاستطاعة لوجوب الحج، وكان منشأ الشك الشك في النسخ، فيستصحب بقاء الجعل ويكون موافقا مع استصحاب بقاء السببية، فالبحث عن جريان الاستصحاب في السببية في هذين الفرضين ليس بمهم.

3- أن يكون الاستصحاب الجاري في السببية مخالفا مع الاستصحاب الجاري في المجعول، كما لو شك في بقاء سببية الاستطاعة لوجوب الحج، وكان منشأ الشك تبدل حالات المكلف، كما لو استطاع المكلف للحج بعد شيخوخته، فيقال بأن سببية الاستطاعة لوجوب الحج في حقه كانت ثابتة قبل شيخوخته فنستصحب بقاءها الى ما بعد شيخوخته، ولكن مقتضى الاستصحاب الجاري في المجعول عدم وجوب الحج عليه بعد ما صار مستطيعا حال شيخوخته، فان كان نظر السيد الخوئي الى الفرض الأخير ففيه اولا: ان سببية الاستطاعة الحاصلة بعد الشيخوخة مشكوكة من الاول، وما هو معلوم انما هو سببية الاستطاعة الحاصلة قبل الشيخوخة، الا أن يجرى فيها الاستصحاب التعليقي، فيقال هذه الاستطاعة لو حصلت قبل الشيخوخة كانت سببا لوجوب الحج، ولكن اثبات سببية الاستطاعة الحاصلة بعد الشيخوخة به يكون من اوضح انحاء الاصل المثبت، ولا يقاس بالاستصحاب الجاري في الحكم التعليقي، كما لو قال الشارع “العنب يحرم اذا غلا” بل لا يقاس باجراء الاستصحاب التعليقي في مثال “العنب المغلي حرام” بأن ينتزع حكم تعليقي منه، فيقال كان هذا العنب اذا انضم اليه الجزء الآخر وهو الغليان ثبت له الحرمة، فاذا طرأت حالة في العنب وشككنا في بقاء هذا الحكم التعليقي فنستصحبه، فانه حتى لو فرض تماميته فلا يقاس به المقام، لأن المستصحب حرمته عند انضمام الغليان، فاذا حصل الغليان يكم بحرمته، بينما أنه في المقام يكون المستصحب سببية الاستطاعة لوجوب الحج عند حصولها قبل الشيخوخة، والمفروض عدم انضمامه الى الاستطاعة، لحصولها بعد الشيخوخة.

ولا فرق في ما ذكرناه بين القول بامكان تعلق الجعل الاستقلالي بالسبية واستظهار وقوعه من الخطابات الشرعية في مورد الاستطاعة للحج مثلا، وبين القول بعدم امكان تعلق الجعل الاستقلالي بالسببية او عدم ظهور الادلة في ذلك.

وثانيا: ان ما ذكره من حكومة الاستصحاب الجاري في التكليف على الاستصحاب الجاري في السببية لكون الاول منشأ انتزاع الثاني، يرد عليه أن منشأ انتزاع السببية لما کان هو الجعل دون المجعول، كما اتضح سابقا، فليس الاصل الجاري لنفي المجعول اي الوجوب الفعلي للحج حاكما على استصحاب سببية الاستطاعة لوجوب الحج.

هذا مضافا الى أن ملاك حكومة استصحاب على استصحاب آخر بنظره هو كون الاول اصلا موضوعيا بالنسبة الى الثاني، وهذا لا ينطبق على حكومة الاصل الجاري في منشأ الانتزاع على الاصل الجاري في الامر الانتزاعي، لعدم كون النسبة بينهما نسبة الموضوع والحكم.

وثالثا: ان السببية بعد ما لم تكن مجعولة شرعا وانما هي منتزعة عن جعل وجوب الحج مثلا عند الاستطاعة، فيكون قضية انتزاعية عقلية واثبات التكليف الفعلي باستصحابها يكون من الاصل المثبت، فيكون نظير انتزاع قضية عقلية من قوله “العنب المغلي حرام” هي أن هذا العنب لو انضم اليه الغليان حرم، فان استصحابها بالنسبة الى ما لو صار العنب زبيبا لاثبات الحرمة الفعلية له بعد غليانه يكون من الاصل المثبت كما سيأتي توضيحه في بحث الاستصحاب التعليقي.

الصورة الثانية: الشك في شرطية شيء للتكليف، وله ستة فروض:

1- أن يشك في حدوث شرطية شيء للتكليف بعد أن كان التكليف معلوم الحدوث لكونه غير مشروط به سابقا، فيتوافق استصحاب عدم الشرطية مع استصحاب بقاء التكليف.

2- أن يشك في حدوث الشرطية، لأجل الشك في النسخ، لكن كان التكليف معلوم العدم سابقا لانتفاء شرطه الآخر آنذاك، والآن قد حصل ذلك الشرط، وانما يحتمل استمرار عدم التكليف، لاحتمال حدوث شرطية ذلك المشكوك، فيختلف استصحاب عدم شرطيته مع استصحاب عدم التكليف، فيجري استصحاب بقاء الجعل المطلق لاثبات حدوث التكليف ولو من دون حصول ذلك الشرط المشكوك، ويكون حاكما على استصحاب عدم المجعول، فيتوافق في النتيجة مع استصحاب عدم الشرطية ايضا.

3- نفس الفرض الثاني مع كون منشأ الشك تبدل حالات المكلف، فيكون استصحاب عدم الشرطية مخالفا في النتيجة مع استصحاب عدم التكليف في حق هذا المكلف،

4- أن يشك في بقاء شرطية شرط التكليف وكانت الحالة السابقة للتكليف عدمية، لعدم تحقق شرطه، فيحتمل حدوث التكليف لاجل ارتفاع شرطية ذلك الشرط، فيتوافق استصحاب بقاء الشرطية مع استصحاب عدم التكليف.

5- أن يشك في بقاء شرطية شرط التكليف لأجل الشك في النسخ، وكانت الحالة السابقة للتكليف وجودية، لكون الشرط حادثا سابقا، ثم انعدم بعد ذلك، فالظاهر حكومة استصحاب بقاء الجعل المشروط بالشرط على استصاب بقاء المجعول.

6- نفس الفرض السابق مع فرض كون منشأ الشك تبدل حالات المكلف، فقد يقال بتعارض استصحاب بقاء الشرطية مع استصحاب بقاء التكليف، فتأمل.

الصورة الثالثة: الشك في المانعية والرافعية للشيء عن التكليف، وله ايضا ستة فروض:

1- الشك في حدوث المانعية مع فرض سبق حدوث التكليف فيتوافق استصحاب عدم المانعية مع استصحاب بقاء التكليف، ولا فرق في ذلك بين كون منشأ الشك في حدوث المانعية الشك في النسخ او تبدل حالات المكلف.

2- الشك في حدوث المانعية لأجل الشك في النسخ، مع فرض عدم التكليف سابقا لانتفاء مقتضيه او شرطه آنذاك، ثم تم مقتضه وشرطه في زمان يشك في حدوث المانعية، فاستصحاب عدم المانعية يتوافق مع استصحاب بقاء جعل الوجوب غير مشروط بعدمه، ويكون استصحاب بقاء الجعل حاكما على عدم المجعول.

3- نفس الفرض السابق مع كون منشأ الشك تبدل حالات المكلف، فيجري استصحاب عدم التكليف استصحاب عدم المانعية لا يثبت حدوث التكليف الا بنحو الاصل المثبت.

4- الشك في بقاء المانعية مع عدم التكليف سابقا فيتوافق استصحاب المانعية مع استصحاب عدم التكليف.

5- الشك في بقاء المانعية والرافعية لاجل الشك في النسخ، مع حدوث التكليف سابقا لعدم ابتلاءه بالمانع حدوثا، كاستصحاب مانعية ورافعية حل الوالد يمين الولد لوجوب وفاءه بيمينه، فيجري هذا الاستصحاب واستصحاب بقاء الجعل المشروط بعدم هذا المانع، فيكون حاكما على استصحاب بقاء المجعول اي بقاء وجوب الوفاء باليمين.

6- نفس الفرض السابق مع كون منشأ الشك تبدل حالات المكلف، كالشك في مانعية ورافعية حل الوالد يمين الولد، بعد ما صار الولد مستقلا في شؤونه، فهل يتعارض استصحاب بقاءها او استصحاب كون وجوب الوفاء باليمين سابقا مشروطا بعدم حل الوالد مع استصحاب بقاء التكليف، او يكون استصحاب بقاء المانعية والرافعية حاكما عرفا على استصحاب بقاء التكليف؟، يقى في الذهن الاحتمال الأخير، لكون مانعية ذلك المانع ورافعيته ناسخة عرفا لبقاء التكليف، وكلما كان الامر كذلك فيقدم الاصل الجاري في الحالة الناسخة اذا لم يكن نفي الحالة المنسوخة به اصلا مثبتا على الاصل الجاري في الحالة المنسوخة، ولذا يقدم اصل الطهارة في الماء على استصحاب نجاسة المغسول به، وهكذا يقدم الاستصحاب التعليقي للحرمة المعلقة بالغليان على استصحاب الحلية الفعلية قبل الغليان.

وأما القسم الثاني کجزئية القراءة او شرطية الطهارة في الصلاة الواجبة، فلاستصحابه موردان:

1- أن بعلم بانتفاء التكليف فعلا بالمركب التام، كما لو طرأت حالة فقد الطهورين على المكلف في اثناء الوقت فيعلم بعدم وجوب الصلاة مع الطهارة عليه ولكن يشك في وجوب ذات الصلاة عليه فيراد من خلال استصحاب بقاء الشرطية احراز عدم التكليف بذات الصلاة، وهذا ما ذكره المحقق العراقي “قده” في قاعدة الميسور[6]، ولكن اوردنا عليه اولا: ان المراد من الجزئية ان كان هو الجزئية للواجب الفعلي فيعلم بارتفاعها، و ان كان المراد منها الملازمة بين الامر بالمركب و الامر بهذا الجزء فيشك في ثبوت الملازمة بالنسبة الى حال العجز عن ذاك الجزء، و ليس له حالة سابقة متيقنة كي تستصحب، على أن الملازمة ليست سببا لارتفاع الوجوب، فضلا عن كون تسببه شرعيا، و كذا ان كان المراد منها الجزئية لما هو محصل للملاك، فليس ارتفاع الوجوب عند طرو العذر عن الجزء مترتبا عليها شرعا، و كذا ان كان المراد منها الجزئية لمسمى الصلاة بناء على الصحيحي، فانه ليس ارتفاع الامر بواقع الصلاة بالعجز عن جزءٍ مترتبا شرعا على جزئية ذلك الجزء في مسمى الصلاة.

2- ان يحتمل بقاء التكليف بالمركب التام كما لو صار الاتيان بالجزء -كالسورة في الصلاة- او الشرط ذا مشقة على المكلف، فقد ذكر السيد الخوئي “قده” أنه وان كان يمكن أن نستصحب جزئيّة السورة، لكن استصحاب وجوب الصلاة مع السورة حاكم على استصحاب جزئيّة السورة؛ لأنّ الاستصحاب في منشأ الانتزاع يكون حاكما على الاستصحاب في الأمر الانتزاعي[7].

وفيه أن الجزئية حكم وضعي لا يترتب عليه المنجزية والمعذرية، فلا يفيد استصحابها، ولو افاد فلا وجه لحكومة استصحاب وجوب الصلاة مع السورة على استصحابها، حتى لو قلنا بحكومة الاصل السببي على المسببي في الاصول المتوافقة في النتيجة، لعدم انطباق ضابط الحكومة عليه ككون احدهما حكما شرعيا مترتبا على الآخر، وما ذكره من أن جزئية السورة تنتزع من الامر الظاهري الاستصحابي بالصلاة مع السورة[8]، ففيه ان هذه جزئية في الواجب الظاهري والاستصحاب كان يجري في الجزئية في الواجب الواقعي، ولا علاقة لاحدهما بالآخر، فان ذكر ذلك كوجه للحكومة فليس بمتجه، على ان الاستصحاب ليس جعلا للحكم بالمماثل بنظره، وانما هو تعبد بالعلم بالبقاء.

وأما الاستصحاب في القسم الثالث من الاحكام الوضعية، والذي قلنا بكونه مجعولا بالاستقلال كالملكية و الزوجية، فأمره واضح، لكونه كالحكم التكليفي من جميع الجهات، نعم بناء على مسلك الشيخ الاعظم “ره” الذي نسبه الى المشهور من انتزاعها من الاحكام التكليفية فقد تترتب ثمرات في جريان الاستصحاب:

منها: ما ذكره السيد الخوئي “قده” من أن لازم هذا المبنى عدم جريان الاستصحاب فيما إذا تزوج أحد صغيرة، ثم بلغت و شك في أنه طلقها أم لا، فانه لا يجري الاستصحاب في الحكم الوضعي، و هو الزوجية، لكونه منتزعاً من التكليف، فيكون تابعاً لمنشأ الانتزاع حدوثاً و بقاءً، و لا في الحكم التكليفي، و هو جواز الوطء لكونه مسبوقا بالعدم، لعدم جواز وطء الزوجة الصغيرة، إلا أن يقال: إنه يجري الاستصحاب في الحكم التكليفي بنحو التعليق بناء على حجية الاستصحاب التعليقي فيقال: إن هذه المرأة لو بلغت سابقاً، كان وطؤها جائزاً و الآن كما كان، و على ما ذكرنا من كون الزوجية مجعولة بالاستقلال، يجري الاستصحاب فيها بلا إشكال و يترتب عليه جواز الوطء[9].

اقول: كان ينبغي أن يذكر مثال الشبهة الحكمية، كما لو طلق بالفارسية ولم يكن اطلاق يثبت بقاء الزوجية، والا ففي الشبهة الموضوعية كالشك في صدور الطلاق يجري استصحاب عدمه، وكيف كان فقد اتضح أنه يكفي في انتزاع زوجية الصغيرة جواز سائر الاستمتاعات منها ما عدا الوطء، بل جواز وطئها المشروط ببلوغها.

ومنها: ما يقال من أن نتیجة هذا المبنى عدم واقعية للاحكام الوضعية ومجرد كونها انتزاعات عرفية او فقل تعبيرات عن مجموعة احكام تكليفية، وليست مجعولات شرعية، فلا يجري فيها الاستصحاب، او يقال بأنه وان فرض جريان الاستصحاب فيها، لكن حيث لا يكون الحكم الوضعي موضوعا لاحكام تكليفية، بل هو الذي ينتزع عنها فلا يكون الاصل الجاري فيه اصلا موضوعيا بالنسبة الى تلك الاحكام التكليفية، فلابد من اجراء الاستصحاب في نفس الحكم التكليفي، وحينئذ يكون مقتضى الاستصحاب في المثال الذي ذكره السيد الخوئي حرمة الوطء، ويمكن أن نجعل الحالة المتيقنة للحرمة فترة الشك في الزوجية قبل بلوغها حيث انها ان كانت حرمة وطء الزوجة الصغيرة فهي مرتفعة يقينا وان كانت حرمة وطء الاجنبية فهي باقية جزما فيكون استصحابها من قبيل استصحاب القسم الثاني من الكلي، نعم قد يقال بجريان الاستصحاب التعليقي لجواز وطئها على تقدير بلوغها، ولكنه ليس من الموارد التي يتم فيه جريان الاستصحاب التعليقي، كما سيأتي توضيحه في محله.

ومنها: ما في تعليقة مباحث الاصول من أنه لو غسل الثوب المتنجس بالبول في الماء الكر مرة واحدة وشك في بقاء نجاسته فلا يصح اجراء استصحاب النجاسة على مبنى الشيخ من عدم كون النجاسة والطهارة من الاحكام الشرعية المجعولة، بل هما امران واقعيان كشف عنهما الشرع، فانه كان يعلم بأن القذارة التكوينية الشديدة الموجودة قبل غسل هذا الثوب في المرة الاولى كانت موضوعا لوجوب الاجتناب، ويشك في كون الحالة التكوينية للثوب بعد الغسلة الاولى موضوعا لوجوب الاجتناب ام لا[10].

اقول: هذا لا يرتبط بالبحث في المقام في كون الاحكام الوضعية مجعولة بالاستقلال او بالانتزاع، بل مرتبط ببحث خاص بالطهارة والنجاسة الواقعيين، وهل انهما من الامور الاعتبارية او التكوينية، ولذا يختار صاحب الكفاية القول الثاني، كما يظهر من كلامه في ذيل الصحيحة الثانية لزرارة وكذا المحقق العراقي في صريح كلامه هناك، ولكنهما ذهبا الى جعل القسم الثالث من الاحكام الوضعية بالاستقلال، وسيأتي بيان التحقيق في هذه المسألة.

وكيف كان فقد تحصل مما ذكرناه عدم تمامية التفصيل في جريان الاستصحاب بين الاحكام الوضعية والتكليفية، وفي ختام هذا البحث ينبغي التعرض الى اشكال ابداه السيد الامام “قده” حول جريان استصحاب الحجية فقال: ان ههنا إشكالا قويا على استصحاب الحجية، و هو أنه إما ان يراد به استصحاب‏ الحجية العقلائية فهي أمر غير قابل للاستصحاب، أو الحجية الشرعية فهي غير قابلة للجعل، أو جواز العمل على طبق قوله فلا دليل على جعل الجواز الشرعي، بل الظاهر من مجموع الأدلة هو تنفيذ الأمر الارتكازي العقلائي[11]، ولكن لم نفهم وجه هذا الاشكال فانه لا مانع من استصحاب الحجية الانشائية الشرعية تأسيسا او امضاءا، وبهذا الاستصحاب تصل الحجية الانشائية الى المكلف فيحكم العقل بالتنجيز والتعذير، ولا يهم اختلاف صياغات الحجية الانشائية من جعل العلمية او الحكم المماثل او جعل عنوان المنجزية والمعذرية وشابه ذلك.

تنبيه

ذكر في المقام عدة امور اختلف في كونها من الأحكام الوضعية نقتصر منها على موردين :

الطهارة و النجاسة

المورد الاول: الطهارة و النجاسة، فذهب جماعة منهم الشيخ الاعظم “قده” على ما نسب اليه إلى أنهما ليستا من المجعولات الشرعية، بل من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع، كخواص بعض الأدوية التي لا يعرفها إلا أهل الخبرة، وقد يظهر هذا القول من صاحب الكفاية “ره” في البحث عن الصحيحة الثانية لزرارة فراجع[12]، وصرح المحقق العراقي “ره” باختيار ه‍‍‍ذا القول.

وقد اورد عليه السيد الخوئي “قده” بأنه خلاف ظهور الأدلة في أن الشارع حكم بالنجاسة في شي‏ء و بالطهارة في شي‏ء آخر بما هو شارع، لا أنه أخبر عن حقيقة الأشياء بما هو من أهل الخبرة، ثم ذكر نقضين:

احدهما: الحكم بالطهارة الظاهرية لمشكوك النجاسة الواقعية، فانه لا يمكن القول بأنه إخبار عن النظافة الواقعية في الطهارة الظاهرية، بعد امكان كونه نجساً واقعا.

ثانيهما: العلم الوجداني بعدم واقع تكويني للطهارة والنجاسة في بعض الموارد، مثل ولد الكافر، فان القول بأن الحكم بنجاسته قبل اسلام والده، اخبار عن قذارته الواقعية، و الحكم بطهارته بعد اسلام والده إخبار عن نظافته الواقعية خلاف الوجدان، و كيف تتبدل قذارته الواقعية الخارجية بمجرد تلفظ والده بالشهادتين، سيما إذا كان بعيداً عنه، فالحكم بالنجاسة يكون لمصلحة، كابعاد المسلمين عن الكفار حتى يأمنون من أخلاقهم الرديئة و عاداتهم الرذيلة، و يمكن ان يكون الحكم بنجاسة الخمر أيضا بهذا الملاك و هو التنفر، فبعد حكم الشارع بحرمته حكم بنجاسته أيضا ليوجب التنفر عنه[13].

اقول: أما ما ذكره من أن شأن الشارع هو بيان الحكم الشرعي لا الاخبار عن التكوين، فيكون ظاهر الادلة اعتبار الطهارة والنجاسة، ففيه أن إخبار الشارع عن الامور الواقعية التي لا يعلم الا من قبله لغرض بيان الصغرى للاحكام الشرعية المترتبة عليها ليس خلاف شأنه، خاصة وأن غالب الخطابات الشرعية في النجاسات لم ترد الا بلسان الامر بالغسل، لا بلسان أنه قذر.

أما النقض الاول فجوابه ان الكلام في الطهارة والنجاسة الواقعيتين لا في التعبد الظاهري بهما باصل الطهارة او الاستصحاب، كيف وهذا لا يزيد على التعبد الظاهري بالامور التكوينية المحضة، لأجل ترتيب آثارها الشرعية، وأما النقض الثاني فلا اشكال في توجهه على الشيخ “ره” ان كان مدعاه كون الطهارة والنجاسة من الامور التكوينية في جميع الموارد، ويمكن أن نضيف موارد أخرى الى نقضه، مثل الفرق بين طهارة ماء الاستنجاء وبين نجاسة الماء الملاقى للبول او الغائط في غير مقام تطهير مخرج البول والغائط، او فقل على الأصح: الفرق بين طهارة ملاقي ماء الاستنجاء ونجاسة ملاقي هذا الماء، فانه لا يحتمل كونه فرقا تكوينيا كشف عنه الشارع.

ولکن لعل مقصود الشيخ “ره” أن الطهارة والنجاسة في أغلب الموارد تكوينية، الا أنه يوجد أحيانا مصاديق تعبدية لهما، فملاقي ماء الاستنجاء مصداق تعبدي للطاهر، مع أنه قد يكون مصداقا للنجس الاصلي، نظير اخراج العالم الفاسق بالحكومة من وجوب اكرام العالم بقوله “الفاسق ليس بعالم” كما أن ولد الكافر -بل لعل نفس الكافر- مصداق تعبدي للنجس، بنحو الحكومة، مع أنه مصداق للطاهر الاصلي، نظير ما لو قال المولى “ولد العالم عالم”، فان كان هذا مقصود الشيخ فلا يرد عليه هذا النقض.

هذا وقد يستظهر من بعض الروايات الخاصة اعتبارية الطهارة والنجاسة، وعمدة تلك الروايات:

1- صحيحة داود بن فرقد “كان بنو اسرائيل اذا اصاب احدهم فطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض و لكن الله منّ عليكم باوسع ما بين السماء و الارض فجعل لكم الماء طهورا[14]” بتقريب أن المتيقن منه وان كان هو الامتنان في جعل الماء مطهرا لجسد المسلمين من إصابة البول، ولكن يستفاد منها اعتبار مطهريته في هذا المورد، فتكون الطهارة الحاصلة منه اعتبارية، والا فلا يحتمل كون امتنانه تعالى في ايجاد خصوصية تكوينية في التطهير بالماء في المسلمين، وقد يقال (بأنه إذا كانت الطهارة اعتبارية فالنجاسة التي حكم بارتفاعها تكون ايضا اعتبارية، لأنّ رفع النجاسة التكوينيّة بالتشريع غير معقول[15]) ولكن المهم استفادة اعتبارية الطهارة والا فقد تكون القذارة التكوينية باقية وانما حصل الامتنان بالتعبد بحصول الطهارة منها.

وهذه الرواية لابأس بدلالتها في موردها وهو اصابة البول للجسد، وقد يتعدى الى غيره بالفحوى او الغاء الخصوصية، لكن قد يناقش فيها باشتمالها على مضمون يصعب الالتزام به وهو الزام بني اسرائيل بقرض لحومهم بالمقاريض عند اصابة البول لجسدهم، وهذا قد يوجب الوثوق النوعي بخلل في الرواية وقد مر في بحث حجية خبر الثقة كونه موجبا لسقوطه عن الحجية، بل ذكر السيد الصدر “قده” أن حصول الظن النوعي بالخلل موجب لذلك، ودعوى كون هذا الحكم كسائر الاحكام العقوبتية الثابتة في اليهود كما قال تعالى “وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما…ذلك جزيناهم ببغيهم” وقال “فبما نقضهم ميثاقهم حرمنا عليهم طيبات احلت لهم” وقال “واذ قال موسى لقومه يا قوم انكم ظلمتم انفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا الى بارئكم فاقتلوا انفسكم” غير متجهة، فان العقوبة بتحريم شحوم الغنم والبقر وتحريم بعض الطيبات يختلف عن مثل قرض اللحم الذي اصابه البول بالمقراض، وأما الامر بقتل النفس فلم نتحقق معناه، ولعله كان امرا تعجيزيا او امتحانيا.

2- صحيحة محمّد بن حمران، و جميل بن دراج، أنّهما سألا أبا عبد الله (عليه السلام) عن إمام قوم أصابته جنابة في السفر و ليس معه من الماء ما يكفيه للغسل، أ يتوضأ بعضهم و يصلي بهم، فقال: لا، و لكن يتيمّم الجنب و يصلّي بهم، فإنّ الله عزّ و جلّ جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً[16]، بتقريب أن مطهرية التراب في الرواية بمعنى مطهريته من الحدث، و الطهارة من الحدث ليست تكوينية جزما، فبوحدة السياق نفهم أنّ الجعل في قوله “كما جعل الماء طهوراً” أيضاً اعتباري، واطلاقه يشمل الطهورية من الخبث.

وفيه أنه لو سلم كون الطهارة من الحدث اعتبارية لا واقع لها فتشبيه طهورية التراب بطهورية الماء مما يصلح للقرينة على كون المراد من طهورية الماء ايضا طهوريته من الحدث، على ان كون الماء طهورا بقول مطلق بحاجة الى الجعل والاعتبار لا ينفي كون طهوريته بلحاظ الخبث تكوينية.

3- صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): لا صلاة إلّا بطهور، و يجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلك جرت السنّة من رسول الله (صلى الله عليه و آله) و أمّا البول فإنّه لا بدّ من غسله[17]، بتقريب أن المسح بثلاثة أحجار لا يرفع غالباً القذارة التكوينيّة، فيكون هذا شاهداً على أنّ المقصود الطهارة الاعتبارية.

وفيه مع الغمض عن مبنى من يقول بأن المسح بالاحجار لا يوجب الطهارة وانما يجزي عن الطهارة ويقوم مكانها في جواز الصلاة، ان المسح بالاحجار موجب لتخفيف القذارة التكوينية الى مرتبة قد يكشف الشارع عن عدم كونها نجاسة معتدا بها مما تكون موضوعا للاحكام الشرعية.

ومن هنا تأمل في تعليقة مباحث الاصول في اعتبارية الطهارة والنجاسة الا في مثل ولد الكافر، ولكن الانصاف أنه بعد عدم كون القذارة بما لها من المعنى العرفي في قبال النظافة موضوعا للحكم الالزامي الشرعي بوجوب الاجتناب، فالمرتكز المتشرعي أن لها اعتبار شرعيا به جعلت موضوعا لوجوب الاجتناب، في قبال الطهارة، وان كانت القذارة التكوينية او الاستقذار العرفي ملاك حكم الشارع بالنجاسة الاعتبارية في الجملة.

ففي صحيحة زرَارَةَ قَالَ: قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ (عليه السلام) أَ لَا أَحْكِي لَكُمْ وُضُوءَ رَسُولِ اللَّهِ ص فَقُلْنَا بَلَى فَدَعَا بِقَعْبٍ فِيهِ شَيْ‌ءٌ مِنْ مَاءٍ فَوَضَعَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ ثُمَّ حَسَرَ عَنْ ذِرَاعَيْهِ- ثُمَّ غَمَسَ فِيهِ كَفَّهُ الْيُمْنَى ثُمَّ قَالَ هَكَذَا إِذَا كَانَتِ الْكَفُّ طَاهِرَة[18]، وقوله (عليه السلام) في صحيحة البقباق في الكلب: رجس نجس لا تتوضأ بفضله[19]، وفي موثقة عَمَّار: سُئِلَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) عَنِ الْحَائِضِ تَعْرَقُ فِي ثَوْبٍ تَلْبَسُهُ فَقَالَ لَيْسَ عَلَيْهَا شَيْ‌ءٌ إِلَّا أَنْ يُصِيبَ شَيْ‌ءٌ مِنْ مَائِهَا أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْقَذَرِ فَتَغْسِلُ ذَلِكَ الْمَوْضِعَ الَّذِي أَصَابَهُ بِعَيْنِهِ[20]، وفي موثقته الأخرى: سُئِلَ عَنْ مَاءٍ شَرِبَتْ مِنْهُ الدَّجَاجَةُ قَالَ إِنْ كَانَ فِي مِنْقَارِهَا قَذَرٌ لَمْ تَتَوَضَّأْ مِنْهُ وَ لَمْ تَشْرَبْ[21]، وفي موثقته الثالثة: سُئِلَ عَنِ الْمَوْضِعِ الْقَذِرِ يَكُونُ فِي الْبَيْتِ أَوْ غَيْرِهِ… فَلَا يُصَلَّى عَلَيْهِ وَ أَعْلِمْ مَوْضِعَهُ حَتَّى تَغْسِلَهُ، وَ عَنِ الشَّمْسِ هَلْ تُطَهِّرُ الْأَرْضَ قَالَ إِذَا كَانَ الْمَوْضِعُ قَذِراً مِنَ الْبَوْلِ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ- فَأَصَابَتْهُ الشَّمْسُ ثُمَّ يَبِسَ الْمَوْضِعُ- فَالصَّلَاةُ عَلَى الْمَوْضِعِ جَائِزَةٌ[22]، وفي موثقته الرابعة عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ: سُئِلَ عَنِ الْكُوزِ وَ الْإِنَاءِ يَكُونُ قَذِراً كَيْفَ يُغْسَلُ وَ كَمْ مَرَّةً يُغْسَلُ قَالَ يُغْسَلُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ[23]، وفي صحيحة الحلبي قَالَ: نَزَلْنَا فِي مَكَانٍ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ الْمَسْجِدِ زُقَاقٌ قَذِرٌ- فَدَخَلْتُ عَلَى أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) فَقَالَ أَيْنَ نَزَلْتُمْ فَقُلْتُ نَزَلْنَا فِي دَارِ فُلَانٍ فَقَالَ- إِنَّ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الْمَسْجِدِ زُقَاقاً قَذِراً- أَوْ قُلْنَا لَهُ إِنَّ بَيْنَنَا وَ بَيْنَ الْمَسْجِدِ زُقَاقاً قَذِراً- فَقَالَ لَا بَأْسَ الْأَرْضُ تُطَهِّرُ بَعْضُهَا بَعْضاً[24].

وتظهر ثمرة النزاع في تكوينية الطهارة والنجاسة واعتباريتهما في مجالين:

1- انه بناء على الاول اذا شك في بقاء النجاسة يجري استصحابها بلا اشكال، ولكن بناء على الثاني فيأتي شبهة معارضة استصحاب بقاء المجعول مع استصحاب عدم الجعل الزائد.

2- ما مر عن تعليقة مباحث الاصول من أنه لو غسل الثوب المتنجس بالبول في الماء الكر مرة واحدة وشك في بقاء نجاسته فعلى مبنى كون النجاسة والطهارة من امرين واقعيين كشف عنهما الشرع، فحيث انه عادة يعلم بأن الغسلة الاولى تزيل قذارته التكوينية الشديدة ان لم ترفعها بأصلها، فيعلم بأن القذارة التكوينية الشديدة الموجودة قبل غسل هذا الثوب في المرة الاولى كانت موضوعا لوجوب الاجتناب، ويشك في كون الحالة التكوينية للثوب بعد الغسلة الاولى موضوعا لوجوب الاجتناب ام لا، فلا مجال لجريان الاستصحاب، بخلاف ما لو قلنا بكونهما امرين اعتباريين.

ولكن الظاهر من الروايات السابقة أن النجاسة حتى لو كانت واقعية فهي موضوع لوجوب الاجتناب شرعا مطلقا بلا اختصاص له بالنجاسة الشديدة، وعليه فلا مانع من استصحاب اصل القذارة والنجاسة، بل لو احتمل كون النجاسة الشديدة فقط موضوعا لوجوب الاجتناب فلا مانع من الاستصحاب الحكمي، وهو وجوب الاجتناب عن الصلاة في هذا الثوب بعد العلم بحدوث حرمة الصلاة فيه حينما كانت قذارته شديدة.

الصحة والفساد

المورد الثاني: الصحة و الفساد، فقد وقع الكلام في أن الصحة والفساد هل هما من الامور الواقعية او من المجعولات الشرعية، فذكر صاحب الكفاية أن الصحة في العبادات قد تكون بسقوط الإعادة والقضاء بالنسبة الى الإتيان بالمأمور به بالأمر الاختياري الواقعي فهذه ليست من الامور المجعولة شرعا استقلالا أو بتبع تكليف، بل تكون من لوازم الاتيان بالمأمور به عقلا، حيث لايكاد يعقل معه ثبوت الإعادة أو القضاء، وقد تكون بسقوط الأمر الاختياري الواقعي بالاتيان بالمأمور به الاضطراري او الظاهري فتكون مجعولة شرعا تخفيفا ومنة على العباد، مع وجود المقتضي للأمر بالاعادة والقضاء.

وأما الصحة في المعاملات فهي مجعولة، حيث أن ترتب الأثر على معاملة يكون بجعل الشارع ولو إمضاء، نعم صحة كل معاملة شخصية وفسادها ليس إلا لأجل انطباقها مع ما هو المجعول سببا وعدمه([25]).

اقول: الظاهر هو التفصيل بين الصحة الواقعية في العبادات وبين الصحة الواقعية في المعاملات وكذا الصحة الظاهرية بالالتزام بكون الأولى من الامور الواقعية، بخلاف الأخيرتين، فان الصحة الواقعية في العبادات بمعنى موافقة الأمر ليست من المجعولات الشرعية بل تتبع الواقع، ولايخفى عدم اختصاص ذلك بالعبادات بل يجري في الواجبات او المستحبات التوصلية مما يتصور فيها الصحة والفساد، كدفن الميت حيث انه اذا كان واجدا للشرائط من كونه بعد التكفين والتحنيط وروعي فيه استقبال الميت للقبلة كان صحيحا والا كان فاسدا، وأما الصحة الواقعية في المعاملات والصحة الظاهرية مطلقا فهما من المجعولات الشرعية.

وقد اختار المحقق النائيني “قده” كون الصحة الواقعية في المعاملات من الامور الواقعية كالعبادات، وتبعه السيد الخوئي “قده” في الدورات السابقة لابحاثه الاصولية، بتقريب ان ملاك الصحة والفساد في العبادات والمعاملات انما هو بانطباق متعلق الأمر في العبادات وموضوع الاثر في المعاملات على الموجود الخارجي وعدم الانطباق عليه، وهذا تابع للواقع وليس مما تناله يد الجعل.

وهذا في العبادات واضح، حيث انها لاتتصف بالصحة أو الفساد في مقام الجعل والتشريع، وانما تتصف بهما في مقام الامتثال، فان انطبق المأمور به على المأتي به انتزع له وصف الصحة، والا انتزع وصف الفساد، ومن البديهي ان انطباق الطبيعي على فرده في الخارج وعدم انطباقه عليه أمران تكوينيان وغير قابلين للجعل تشريعاً.

واما في المعاملات فكذلك حيث انها لاتتصف بالصحّة أو الفساد في مقام الجعل والإمضاء وانما تتصف بهما في مقام الانطباق، مثلا البيع ما لم‌يوجد في الخارج لا يعقل اتصافه بالصحة أو الفساد، فإذا وجد في الخارج فان انطبق عليه البيع الممضى شرعاً اتصف بالصحة، والا فبالفساد([26]).

ولكن عدل عنه بعد ذلك، فاختار كون الصحة في المعاملات مجعولة شرعا دون العبادات، لأن صحة المعاملة ليست الا بمعنى ترتب الاثر المترقب منها كتحقق النقل والانتقال على البيع، ومن الواضح أن نسبة هذا الحكم الى البيع نسبة الموضوع إلى الحكم لانسبة المتعلق إليه، وهذا بخلاف العبادات كالصلاة ونحوها، فان نسبتها إلى الحكم الشرعي نسبة المتعلق لاالموضوع، وموضوع الحكم في القضايا الحقيقية قد أخذ مفروض الوجود في مقام التشريع والجعل دون متعلقه، ولذا تدور فعلية الحكم مدار فعلية موضوعه ويكون الحكم منحلا بعدد افراد الموضوع.

وقد تحصل من ذلك ان المعاملات بما انها موضوعات للإمضاء الشرعي فبطبيعة الحال يتعدد الإمضاء بتعدد افرادها فيثبت لكل فرد منها إمضاء مستقل، فالحلية في قوله تعالى “أحل اللّه البيع” تنحل بانحلال افراد البيع، فتثبت لكل فرد منه حلية مستقلة غير الحلية الثابتة لفرد آخر منه، ولانعقل للصحة والفساد في باب المعاملات معنى الا إمضاء الشارع لها وعدم إمضائه، فمعنى ان هذا البيع الواقع في الخارج صحيح شرعاً ليس الا حكم الشارع بترتيب الأثر عليه وهو النقل والانتقال وحصول الملكية، كما انه لا معنى لفساده شرعاً إلا عدم حكمه بذلك([27]).

اقول: قد يراد من الصحة ترتب الاثر، وقد يراد منها وجدان المأتي به للاجزاء والشرائط المعتبرة، ولااشكال في مجعولية الاول وعدم مجعولية الثاني، والملحوظ في مبناه السابق كان هو المعنى الثاني، وفي مبناه الاخير هو المعنى الاول، وحيث انه لاوجه للغفلة عن المعنى الاول، بل هو الملحوظ وحده في الشبهات الحكمية لصحة معاملةٍ وفسادها، وهذا المعنى ثابت في كل فرد من افراد المعاملة الصحيحة فما ذكره في الدورة الاخيرة هو الصحيح، وبذلك يتبين كون الصحة في المعاملات بمعنى ترتب الاثر من المجعولات الشرعية.

وأما الصحة الظاهرية فلاينبغي الاشكال في كونها مجعولة شرعا، كما في مورد قاعدة الفراغ والتجاوز، سواء كان مفاد القاعدتين اعتبار العلم بتحقق الجزء او الشرط وعدم تحقق المانع في فرض الشك، او ادعاء تحقق الجزء والشرط وعدم تحقق المانع، او نفس المعذرية، بعد أن كان كلها صياغات يكون الغرض من وراءها معذورية المكلف في الاكتفاء بالعمل المشكوك الصحة.

الى هنا تم الكلام حول ادلة الاستصحاب وذكر التفاصيل المهمة في الاستصحاب وقد قبلنا منها التفصيل بين الاستصحاب في الشبهات الموضوعية والشبهات الحكمية، حيث تم لدينا اشكال المحقق النراقي “ره” من المعارضة بين استصحاب بقاء المجعول واستصحاب عدم الجعل الزائد فيما كان المستصحب بقاء الحكم لا عدم الحكم.

في مفاد ادلة الاستصحاب

وقبل أن ننتقل الى البحث عن تنبيهات الاستصحاب ينبغي التعرض الى بيان ما هو الصحيح في مفاد روايات الاستصحاب، وتظهر ثمرة ذلك في عدة موارد اهمها قیام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي لترتیب آثاره الشرعیة، كجواز الاخبار بالواقع، فانه لو قيل بكون مفاد روايات الاستصحاب التعبد بالعلم بالبقاء او الحكم بترتيب آثار العلم بالبقاء، كان من الواضح امكان التمسك باطلاقه لترتيب آثار القطع الموضوعي، وهذا ما اختاره جماعة منهم صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل والمحقق النائيني والعراقي والسيد الخوئي “قدهم” وقد ذكر في تقريب ذلك عدة بيانات:

البيان الاول: ما اختاره جماعة من كون قوله “فانه على يقين من وضوءه” ارشادا الى انشاء اليقين بالبقاء، وهذا ما صرح به بعض الاعلام “قده” في المنتقى[28] وكذا بعض السادة الاعلام “دام ظله”[29]، ولكن ذكرنا أن حمل هذه الجملة على انشاء اليقين خلاف ظهورها في الاخبار، ويؤيده ما ورد بعده من قوله “ولا ينقض اليقين بالشك” حيث ان ظاهره النهي عن نقض اليقين السابق بالوضوء بالشك اللاحق فيه فقد فرض وجود الشك في الوضوء فعلا، وأما ما ذكره المحقق النائيني “قده” من كون قوله “فانه على يقين من وضوءه”، ظاهرا في الامر بالبناء العملي على اليقين، فلا يزيد على ما استظهره من قوله “لا ينقض اليقين بالشك”، وسيأتي توضيحه.

البيان الثاني: ما ذكره المحقق النائيني “قده” من أن مفاد النهي عن نقض اليقين بالشك هو النهي عن النقض العملي لليقين يالشك، والامر بالجري العملي وفق اليقين من حیث کونه حاکیا عن متعلقه، وهذا يقتضي ترتيب آثار القطع الموضوعي الطريقي اي المأخوذ في موضوع الحكم الشرعي من حيث انه طريق الى متعلقه وحاك عنه لا من حيث انه صفة نفسانية، توضيح ذلك أنه ذكر أن للعلم اربع جهات: جهة كونه صفة نفسانية خاصة، وجهة كونه كاشفا عن الواقع، وجهة اقتضاءه للجري العملي -حيث إنّ العلم بوجود الأسد في الطريق يقتضى الفرار عنه، والعلم بوجود الماء يوجب التوجه إليه إذا كان العالم عطشانا، ولعله لذلك سمّى العلم اعتقادا، لما فيه من عقد القلب على وفق المعتقد والبناء العملي عليه- وجهة تنجيز الواقع والتعذير عنه، فالمجعول في الأمارة الجهة الثانية، وفي الاصول المحرزة -التي يعَبّر عنها ايضا بالاصول التنزيلية وهي التي تكون ناظرة الى الواقع كالاستصحاب- الجهة الثالثة، أي الجري والبناء العملي على الواقع من دون أن يكون هناك جهة كشف، إذ ليس للشك الذي أخذ موضوعا في الأصول جهة كشف عن الواقع، فلا يمكن أن يكون المجعول في باب الأصول الطريقية والكاشفية، بل المجعول فيها هو الجري والبناء العملي على احد طرفي الشك على أنه الواقع، فالإحراز في باب الأصول المحرزة غير الإحراز في باب الأمارات، فانّ الإحراز في الأمارات هو إحراز الواقع مع قطع النظر عن مقام العمل، وأما الإحراز في الأصول المحرزة فهو الإحراز العملي في مقام تطبيق العمل على المؤدى.

والمجعول في الأصول غير المحرزة -كأصالة الاحتياط والحل والبراءة- هو مجرد البناء على أحد طرفي الشك من دون البناء على أنه الواقع، فالاصل غير المحرز لا يقتضي أزيد من الجهة الرابعة للعلم أي تنجيز الواقع عند المصادفة والعذر عند المخالفة، وهذا لا يعني أنّ المجعول في الأصول غير المحرزة نفس التنجيز والتعذير، بل المجعول فيها الجري العملي على احد طرفي الشك من دون بناء على أنه الواقع، وهذا لا يقتضي أزيد من التنجيز والتعذير، فمع حفظ الشك يحكم على أحد طرفي الشك بالوضع في الاحتياط والرفع في البراءة، فلو وجب الاحتياط فخالفه وانجرّ الى مخالفة الواقع فيكون عقابه على مخالفة وجوب الاحتياط، لا على مخالفة الواقع، لقبح العقاب عليه مع عدم العلم به([30]).

اقول: ظاهر كلامه انه يرى النهي عن نقض اليقين بالشك نهيا مولويا طريقيا، وحيث لا يمكن تعلق النهي المولوي عن نقضه الحقيقي بالشك لانتقاضه بمجرد الشك، وليس تحت اختياره، فيحمل على النهي عن نقضه العملي به، والانصاف أنه لا يظهر منه عرفا أكثر من ترتيب آثار اليقين الطريقي المحض دون ترتيب آثار اليقين الموضوعي، فلو قيل لشخص شاكٍ في بقاء زيد في بيته “لاتنقض يقينك بالشك” فلايظهر منه أكثر من امره بترتيب آثار بقاءه في بيته، مثل لزوم زيارته، دون ترتيب أثر اليقين الموضوعي، كجواز الاخبار بانه باقٍ في بيته، فانه حيث يعلم بارتفاع احكام يقينه بتبع ارتفاع يقينه وجدانا، فعدم ترتيب تلك الآثار لا يكون من نقض اليقين بالشك بل من نقض اليقين باليقين.

هذا وقد حكي عنه في اجود التقريرات أن الأصول المحرزة تشترك مع الأمارات في أن المجعول في مواردها هي الوسطية في الإثبات من حيث انكشاف الواقع في الأمارات ومن حيث الجري العملي في الأصول التنزيلية المترتب على تنجز الواقع عند الإصابة والمعذرية عنه عند الخطأ، فالأصول التنزيلية وسط بين الأمارات والأصول غير التنزيلية فمن حيث اشتراكها مع الأمارات في أن المجعول فيها هي الوسطية في الإثبات على ما عرفت تقوم مقام العلم الطريقي والمأخوذ في الموضوع على الوجه الطريقية، ومن حيث اشتراكها مع الأصول غير التنزيلية في أخذ الشك في موضوعها لا يكون مثبتاتها حجة، والحاصل أنه لا فرق بين الأصول التنزيلية والأمارات إلا في أن الشك أخذ موضوعا للأولى دون الثانية، والا فالمجعول في الاصول التنزيلية أيضا هي الوسطية في الإثبات وكون الأصل محرزا للواقع من حيث الجري العملي، وأما الأصول غير التنزيلية فحيث انها ليست ناظرة إلى الواقع أصلا فلا يمكن أن يكون المجعول فيها الواسطية في الإثبات ونفس صفة الطريقية، بل لابد من الالتزام بكونه فيها هي الأحكام التكليفية([31])، وقد يظهر منه كون المجعول في الاصول المحرزة كالاستصحاب العلم لا من حيث الكاشفية، بل من حيث اقتضاء الجري العملي، وهذا ما قد ينسب اليه في بعض الكلمات([32])، ولكن يرد عليه أنه لا يمكن أن يعتبر العلمية ولا يعتبر الكاشفية، فانه نظير أن نعتبر الرجل الشجاع فردا من الاسد، لا من حيث الاسدية، بل من حيث الشجاعة، فانه غير معقول.

البيان الثالث: ما ذكره المحقق العراقي “قده” من كون المستفاد من دليل الاستصحاب مثلا هو الامر بترتيب آثار اليقين، وهذا يشمل آثار اليقين الموضوعي[33]، وهذا البيان وان كان قد يختلف بظاهره عن البيان السابق المنقول عن المحقق النائيني لكن الظاهر أن مآلهما الى شيء واحد، وهو استظهار النهي المولوي الطريقي عن النقض العملي لليقين بالشك، مع ضم دعوى شمول اطلاقه لعدم ترتيب آثار القطع الموضوعي، ويرد عليه نفس ما اوردناه على المحقق النائيني من أنه لا يظهر منه عرفا أكثر من ترتيب آثار اليقين الطريقي المحض دون ترتيب آثار اليقين الموضوعي، فلو قيل لشخص شاكٍ في بقاء زيد في بيته “لاتنقض يقينك بالشك” فلايظهر منه ترتيب أثر اليقين الموضوعي، حيث يعلم بارتفاع احكام يقينه بتبع ارتفاع يقينه وجدانا، فعدم ترتيب تلك الآثار لا يكون من نقض اليقين بالشك بل من نقض اليقين باليقين.

البيان الرابع: ما قد يدعى من أنه بعد عدم امكان تعلق النهي الحقيقي بنقض اليقين بالشك لانتقاضه به وجدانا، فيحمل على النهي عن نقضه الحقيقي بالشك كناية وارشادا الى اعتبار بقاء اليقين في نظر الشارع، نظير قوله (صلى الله عليه وآله) “دعي الصلاة ايام أقراءك” بناء على وضع الصلاة للصحيح، حيث يكون النهي عن الصلاة في ايام الحيض ارشادا الى عدم تمكنها منها، ولا ينبغي الاشكال في شموله لاحكام اليقين الموضوعي، وهذا هو المتناسب مع ما ذكره السيد الخوئي “قده” من أن الاستصحاب أمارة كسائر الامارات، لاعتبار كونه عالما بالواقع، وهو وان لم يذكر تقريبا لذلك لكن كلامه[34] يتناسب مع حمله النهي عن نقض اليقين بالشك على الارشادية والكنائية عن بيان اعتبار بقاء اليقين، ولكن الانصاف أن هذا الحمل خلاف الظاهر، فان الظاهر تعلق النهي بالفعل الاختياري للمكلف، وليس ذلك الا النقض العملي لليقين، والارشاد لايتلائم مع التعبير في الصحيحة الثانية عن اليقين بلسان الفعل الماضي “كنت على يقين من طهارتك فشككت” ومع النهي عن النقض بكلمة “لا ينبغي لك”.

البيان الخامس: ما قد يدعى من لزوم حمل “لا تنقض اليقين بالشك” على نفي انتقاض اليقين بالشك، كما في قوله في حديث الاربعمأة “من كان على يقين فشك فليمض على يقينه فان الشك لا ينقض اليقين[35]“، او في مكاتبة القاساني “اليقين لا يدخل فيه الشك[36]“، حيث ان مدلولهما نفي انتقاض اليقين بالشك، وحيث ان النفي الحقيقي خلاف الواقع فلابد من حمله على النفي الادعائي، وان ابيت عن قبول ذلك في غير الحديثين فحيث لا معارضة بين كون مدلوهما النفي ومدلول غيرهما النهي فيكفي تمامية دلالتهما على النفي وبذلك يثبت اعتبار بقاء اليقين.

وفيه أن قوله في الصحيحة الثانية لزرارة “كنت على يقين من طهارتك فشككت، وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك ابدا” ليس قابلا للحمل على النفي ابدا، بل الامر كذلك في قوله فی الصحیحة الاولى “لا ينقض اليقين بالشك ابدا، بل ينقضه بيقين آخر”.

واما حديث الاربعمأة ومكاتبة القاساني فمضافا الى ضعف سندهما ليسا بظاهرين في نفي الانتقاض الحقيقي لليقين، بل لعل المراد منهما نفي الانتقاض العملي، حيث لا يتناسب النفي الادعائي لانتقاضه الحقيقي مع الاعتراف بطروّ الشك.

البيان السادس: ما قد يقال من أن النهي عن نقض اليقين بالشك وان كان ظاهرا في النهي عن النقض العملي لكونه الفعل الاختياري القابل لتعلق النهي، لكن لابد من حمل هذا النهي على كونه كناية كناية عن عدم انتقاض اليقين، بلحاظ أن النقض العملي لليقين لازم انتقاضه الحقيقي بالشك، فجعل النهي عن اللازم كناية عن عدم الملزوم، والوجه في ذلك أنه لا يمكن الالتزام يالنهي التحريمي للنقض العملي لليقين، كيف وقد يكون المستصحب حكما ترخيصيا او موضوعا له، كما هو مورد عدة من روايات الاستصحاب، فلابد أن يحمل على المعنى الكنائي.

وقد نسب السيد الصدر على ما حكي عنه هذا البيان الى المحقق النائيني “قده” بدعوى أنه استفاد جعل الطريقية و العلمية للاستصحاب بالرغم من حمله للنقض على النقض العملي لا الحقيقي، وقد جعل ذلك جوابا عن اشكال المحقق العراقي “قده” (بأن ما ذكره المحقق النائيني “قده” هنا من كون النهي عن نقض اليقين بالشك دالا على قيام الاستصحاب مقام القطع الطريقي المحض والقطع الموضوعي معا، مناقض مع ما ذهب اليه في بحث الشك في المقتضي من أن ظاهر النهي عن نقض اليقين بالشك النهي عن النقض العملي لليقين بما هو حاك عن المتيقن، ويكون اسناد النقض الى اليقين باعتبار ما للمتيقن من اقتضاء البقاء، فكأنه أسند نقض آثار المتيقن إلى اليقين، ولذلك يختص الاستصحاب بموارد الشك في الرافع، ووجه التهافت أنه يتوقف استفادة قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي‏ على لحاظ نقض اليقين بما هو يقين، لا بلحاظ اقتضاءه للجري العملي على وفق المتيقن ولترتيب آثاره‏[37]) فقال ان المحقق النائيني لو كان يختار أنّ مفاد الحديث هو النهي التحريمي، كما اختاره المحقّق العراقي، لكان كلامه متناقضا، اذ لو كان روح المطلب هو حرمة نقض المتيقّن و إن صحّ إسناد هذا النقض إلى اليقين، إذن فلا معنى لقيام الاستصحاب مقام العلم الموضوعي، و لو كان روح المطلب هو حرمة نقض اليقين، إذن لكفى استحكام اليقين، و لم نحتج إلى فرض إحراز المقتضي، و لكن المحقق النائيني لا يقول بأنّ مفاد الحديث هو النهي التحريمي، و إنّما يرى أنّ مفاده هو النهي الكنائي، فهو قد نهى عن نقض المتيقن مسنِداً لهذا النهي إلى اليقين، و هو نهي عن النقض العملي، و لكنّه ليس نهياً تحريمياً عن النقض العملي، و إنّما هو كناية عن البقاء التعبدي لليقين الذي هو مقتضي الجري العملي، ووجه عدم جعله النهي عن نقض اليقين كناية عن بقاء المتيقّن أنه يرى أنّ الحجّيّات المجعولة عقلائياً إنّما تكون كلّها بحسب الارتكاز العقلائي جعلًا للطريقيّة، و لا يتصوّرون في حجّيّاتهم غير ذلك، فيرى أنّ هذا الارتكاز موجب لانصراف الكلام‏ إلى المعنى الثاني. إذن ففي حين أنّ نقض المتيقّن اسند إلى اليقين، فيحتاج إلى إحراز المقتضي مثلًا، يكون الكلام كناية عن اعتبار بقاء اليقين، فتترتّب آثار العلم الموضوعي و الطريقي معاً، فلا تهافت في كلامه بحسب مبانيه و إن كانت مبانيه غير صحيحة.

نعم، يبقى هنا إشكال آخر و هو: أنّه لعلّه إنّما نزّل الشارع الاستصحاب منزلة اليقين من حيث الآثار العقلية، و هي التنجيز و التعذير، دون الآثار الشرعية، فمن أين عرفنا أنّه قد جعل الشارع هنا الشكّ علماً، و نزّل الاستصحاب منزلة اليقين في كلا قسمي الآثار؟ و لا معنىً لدعوى جريان الإطلاق في المقام؛ لأنّ هذا التنزيل ليس هو المفاد المطابقي للكلام حسب الفرض، و إنّما المفاد المطابقي له هو النهي، و المفروض أنّ النهي جعل كناية، فلا يُدرى أنّه جعل كناية عن تنزيل الشكّ منزلة العلم في كلا قسمي الأثر، أو جعل كناية عن تنزيله منزلته في خصوص الآثار العقلية من التنجيز و التعذير، و لا تعيّن للأوّل في قبال الثاني، و يكفي في كنائيّة النهي الثاني.

و هذا الإشكال أيضاً يظهر جوابه بالنظر إلى مباني المحقّق النائيني، فإنّه لا يرى أنّ ترتّب التنجيز و التعذير على الاستصحاب مثلا يكون بتنزيله منزلة العلم، بل يرى استحالة ذلك، لأنّ تنزيل الشارع شيئاً منزلة شي‏ء إنّما يعقل إذا كان آثار المنزّل عليه من مجعولاته، فله أن ينزّل الطواف مثلًا منزلة الصلاة، دون ما إذا كانت آثاره من قبل حاكم آخر، و هو العقل، كما في المقام، فهو يبني على أنّ المولى جعل الاستصحاب علماً، من دون نظر إلى الآثار، فبعد جعل هذا المصداق من العلم يترتب عليه جميع آثار العلم قهرا[38].

اقول: ظاهر كلام المحقق النائيني أنه يرى كون النهي عن نقض اليقين بالشك مولويا لا كنائيا والا فلم يكن موجب لحمله النقض على النقض العملي، فان موجبه كونه متعلق النهي فلابد أن يكون فعلا اختياريا للمكلف، وهذا لا ينافي كون النهي عن نقض اليقين في مورد اليقين السابق بالترخيص او موضوعه بداعي التعذير كقوله في موثقة ابن بكير “اياك أن تحدث وضوءا حتى تستيقن أنك أحدثت” و في مورد اليقين السابق بالتكليف او موضوعه بداعي التنجيز، ولا مانع من الجمع بينهما كما هو كذلك في الامر بتصديق العادل حيث يشمل الخبر الترخيصي والخبر الالزامي، وهكذا الامر بالمضي في قاعدة التجاوز حيث يشمل ما يمكن الاختياط بتداركه كالشك في التشهد بعد القيام، ويشمل ما لا يمكن فيه الاتياط كالشك في الركوع بعد ما دخل في السجود.

والصحيح أن نجيب عن اشكال التهافت أن النائيني “ره” ذكر في كلا المقامين أن اليقين لوحظ بما هو حاك عن متعلقه ومقتض للجري العملي وفقه، فذكر في بحث الشك في المقتضي أنه لأجل ذلك صح اطلاق النقض عليه فيما كان للمتيقن اقتضاء البقاء، ولا يصح ذلك مع قصور المقتضي فلا يقال عند انتهاء مدة الزواج الموقت انه انتقض اليقين بالزوجية، كما ذكر في المقام أن اليقين في النهي عن نقض اليقين لوحظ بما هو حاك عن متعلقه وطريق اليه فلا يشمل القطع الموضوعي الصفتي، ولكنه لا مانع من شموله للقطع الموضوعي الطريقي لكون الملحوظ فيه القطع بما هو طريق الى متعلقه فلا يوجد تهافت في البين.

ثم لا يخفى أن جميع هذه البيانات الستة لتقريب قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي مشتركة في عدم قبول ما يظهر من الشيخ الاعظم “قده” من حمل كلمة اليقين على ارادة المتيقن، فكان النهي عن نقض اليقين بالشك بمعنى النهي عن نقض المتيقن بالشك، فانه بناء عليه لا يبقى مجال عرفا لاستفادة قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي، نعم مرّ في بحث قيام الامارات والاصول مقام القطع الموضوعي أنه بناء على كون مفاد دليل الاستصحاب تنزيل المستصحب منزلة الواقع كما هو المنسوب الى الشيخ “قده” ويظهر من صاحب الكفاية قبوله في ذلك البحث فيظهر من حاشية صاحب الكفاية على الرسائل أنه بالملازمة العرفية يثبت كون القطع بالواقع التنزيلي منزَّلا منزلة القطع بالواقع الحقيقي[39]، ولكنه انكر هذه الملازمة في الكفاية[40]، وما ذكره في الكفاية من المنع من الملازمة العرفية هو الصحيح، ولنوضح ذلك بذكر مثالٍ، وهو أن مفاد قاعدة الطهارة أن مشكوك الطهارة طاهر، فنحن حينئذ نقطع بكونه طاهرا تنزيليا، لكننا نلتفت الى أنه ليس القطع بالطهارة التنزيلية قطعا بالطهارة الواقعية، والموضوع في قول المولى “اذا قطعت بكون شيء طاهرا فتوضأ منه” هو القطع بالطهارة الواقعية لا الاعم منه ومن القطع بالطهارة التنزيلية فلا يبقى وجه لاستظهار كون القطع بالطهارة التنزيلية محكوما بحكم القطع بالطهارة الواقعية.

نعم لو كانت الحكومة واقعية كما لو قال المولى “اذا قطعت بكون شخص عالما فلا تتقدم عليه في المشي” ثم قال “ولد العالم عالم” فلا يبعد أن يكون اطلاق الحكومة موجبا لصيرورة القطع بكون شخص ولد العالم موضوعا ايضا لهذا الحكم، ولو لم‌ يعلم بكونه عالما تنزيليا، وان ابيت فلا أقل من صيرورته موضوعا للحكم بعد العلم بكونه عالما تنزيليا، وأما في الحكومة الظاهرية كقوله “مشكوك الطهارة طاهر” فيراه العرف في قبال القطع بالطهارة، وانما تكون مجرد منجز ومعذر لها، والمقام من هذا القبيل، وبهذا اتضح أنه لو قال المولى “اذا قطعت بكون مايع خمرا فأهرقه” ثم ورد في خطابٍ “ما قامت الامارة على كونه خمرا فهو خمر” فيختلف عما لو ورد “العصير العنبي خمر”، حيث تكون حكومة الاول حكومة ظاهرية، ويكون في قبال القطع بالخمرية فلا يرى العرف تنزيل القطع بالخمر التنزيلي منزلة القطع بالخمر الحقيقي، فما يدعى من ثبوت الملازمة العرفية للغفلة النوعية العرفية عن مغايرة القطع بالواقع التنزيلي مع القطع بالواقع الحقيقي غير متجه للمنع عن الغفلة النوعية.

وكيف كان فنحن وان انكرنا كون معنى النهي عن نقض اليقين بالشك النهي عن نقض اليقين بالشك، بل استظهرنا النهي المولوي الطريقي عن النقض العملي لليقين بالشك، لكنه لا يظهر منه أكثر من النهي الطريقي عن نقضه العملي بغرض تنجيز الواقع او التعذير عنه، فالصحيح عدم قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي.

هذا وقد استدل في البحوث على عدم قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي، -مضافا الى ما مرّ من كون رفع اليد عن آثار القطع الموضوعي بعد طرو الشك نقضا لليقين باليقين- بوجوه ثلاثة أخرى:

احدها: قد مر سابقا ان النقض ضد الإبرام و مصحح اسناده إلى اليقين التفاف اليقين و شدة تعلقه بالمتيقن، و هذه العلاقة انما تكون بلحاظ الآثار الطريقية لليقين، لأنّ الإبرام العملي لليقين بمتيقّنه إنّما يكون باعتبار اقتضائه للعمل بمتيقّنه، لا باعتبار ما لليقين من أثر شرعي.

ثانيها: حتى لو كان النقض بمعنى رفع اليد فالظاهر أن اسناد النقض العملي إلى اليقين انما يكون بلحاظ ما يقتضيه من التنجيز و التعذير أي الآثار الطريقية لا بلحاظ ما قد يقع اليقين موضوعا له من الآثار الشرعية، لأن ما يقتضي الجري العملي ليس هو ذات الموضوع للحكم الشرعي و انما هو إحرازه و اليقين به، و لهذا لا يناسب ان يقال لا تنقض الماء بالتغير او لا ترفع اليد عن الماء بالتغير، بمعنى لا ترفع اليد عن أحكامه و آثاره، و السرّ في عدم شمول النقض العملي لرفع اليد عن الآثار الشرعية هو: أنّ موضوع الحكم ليس مقتضياً للعمل على طبق الحكم حتّى يكون عدم العمل به رفعاً عملياً له، فإنّ اقتضاء شي‏ء للجري العملي إمّا عبارة عن الاقتضاء العقلي له، و هو منحصر في مسألة التنجيز و التعذير، فاليقين يقتضي عقلًا جري العمل وفق متعلقه بالتنجيز و التعذير، و إمّا عبارة عن الاقتضاء التشريعي له، و هذا الاقتضاء إنّما يكون لنفس الحكم و التشريع لا لموضوعه، فالحكم له اقتضاء تشريعي ذاتاً و مباشرةً للعمل بمتعلّقه، و إسناد الاقتضاء إلى موضوعه يكون بشي‏ء من المسامحة الواضحة التي لا تصحّح إسناد النقض العملي إليه.

و كون اليقين الواقع موضوعا لأثر شرعي مستلزما لإحراز ذلك الأثر، لكون اليقين باليقين عين اليقين نفسه لا يصحح اسناد النقض إلى اليقين بما هو موضوع لأثر شرعي بل بما هو طريق، فإنّ ما ذكر من الفرق بين اليقين و غيره ليس شيئاً عرفياً يعتمد عليه العرف، و يصحّح بذلك إسناد النقض العملي إلى اليقين باعتبار أحكامه الشرعية.

ثالثها: انه قد يقال ان استفادة جعل العلمية للاستصحاب مستحيل ثبوتا، لأن الشك قد أخذ موضوعا لهذا الجعل في لسان دليل الاستصحاب، ولابد من أن ينظر الى الموضوع مفروغا عنه، و هذا يتهافت مع كون النظر إلى إلغاءه و جعله علما.

والجواب عنه (بما قد يستفاد من بعض عبائر المحقق النائيني “قده” من الفرق بين العلمية المجعولة للأمارات، و العلمية المجعولة للاستصحاب، من حيث ان الأمارات قد جعلت علما من حيث الكاشفية، بينما أن الاستصحاب جعل علما من حيث اقتضاء الجري العملي، فقوله “لا تنقض اليقين بالشك” قد فرغ فيه عن وجود الشك خارجا بلحاظ مرحلة الانكشاف، و ادعي عدم وجوده بلحاظ عالم الجري العملي فلا تهافت) يوجب انهيار أصل البيان على قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي، لأن قيامه مقامه يعني قيامه مقام ما هو ظاهر أدلة القطع الموضوعي من أخذه بما هو كاشف، لا بما هو منجز[41].

اقول: يرد على الوجه الاول -مع غمض العين عن عدم اشتمال جميع الروايات على كلمة النقض، كمعتبرة اسحاق بن عمار “اذا شككت فابن على اليقين” بناء على دلالتها على الاستصحاب، وان لم يعترف بها السيد الصدر “قده”- أن صدق النقض ظاهر في كونه بلحاظ ما يتصور فيه من ابرام واستحكام، والا فلوكان وجهه التفاف اليقين بمتعلقه صح أن يقال مثلا “انتقض اليقين عن الوضوء” او ينهي عن نقضه عن الوضوء، مع انه غير صحيح عرفا، مضافا الى أن متعلق النقض هو مجموع الشيء المفتول كالحبل، فلا يقال نقضت طرف الحبل اذا حله عن الطرف الآخر.

ولو سلم ما ذکره من كون المصحح لاسناد النقض الى اليقين لحاظ التفافه وفتله بمتعلقه، فمع ذلك لا مانع من كون النهي عن نقض اليقين بشيء كناية عن اعتبار بقاء اليقين به، من دون حاجة الى وجود اثر لمتعلقه، بأن كان الاثر مترتبا على اليقين به بنحو تمام الموضوع فضلا عن جزء الموضوع، فان رفع فتله عن متعلقه يوجب انعدامه لكونه من الصفات ذات الاضافة.

كما يرد على الوجه الثاني أنه لا محذور في اسناد النقض الى بعض الموضوعات كالوضوء والصلاة، لما يرى فيها تصورا من الابرام كأنه حبل فتل بعض اجزاءها ببعض او فقل فتل بقاءها بحدوثها، واليقين من هذا القبيل.

ويرد على الوجه الثالث، أنه لا استحالة في اخذ الشك الوجداني موضوعا لالغاءه تعبدا، كما هو مختاره في مفاد قاعدة التجاوز “اذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشككت فشكك ليس بشيء” ولذا جعله حاكما على قاعدة الشك في الركعات كما لو شك في التشهد الاول أنه في الركعة الاولى او الثانية، نعم الانصاف أنه خلاف الظاهر فلا يصار اليه الا بقرينة واضحة.

وکیف کان فقد تحصل أنه لا يمكن استفادة قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي من قوله “لا تنقض اليقين بالشك” والعمدة في وجهه اولا: أن نكتة الاستصحاب هو عدم جواز نقض اليقين بغير اليقين وهذه النكتة لا تجري بالنسبة الى آثار القطع الموضوعي لكون رفع اليد عنها بعد زوال القطع من نقض اليقين باليقين، وثانيا: انه حتى لو ورد النهي عن نقض اليقين بالشك في مورد خاص كالوضوء، فقيل “لاتنقض اليقين بالوضوء بالشك” فمع ذلك لا يظهر منه اكثر من لزوم ترتيب آثار المتيقن، بعد أن المتعارف كون اليقين حين النهي عن نقضه او الامر بالبناء عليه ملحوظا بما هو مقتض للجري العملي نحو متعلقه ومحرك اليه، ولذا يتمسك به العرف لتصحيح الصلاة المشروطة بالوضوء، ولا يتمسك به او فقل: لا يحرز تمسكه به لجواز الإخبار عن بقاء الوضوء لأجل ما ورد من أنه انما يجوز الاخبار مع العلم ولا يجوز الاخبار مع عدم العلم.

ثم انه بناء على قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي فلا وجه لما في البحوث من اختصاص ذلك بما اذا كان الواقع المستصحب موضوعا لحكم شرعي، فيجري الاستصحاب بلحاظه، ثم يترتب عليه الاثر الشرعي الثابت للقطع الموضوعي، بل مقتضى اطلاق دليل الاستصحاب التعبد ببقاء اليقين بغرض ترتيب الاثر الشرعي الثابت للقطع الموضوعي ولو لم يكن الواقع موضوعا لأي اثر شرعي، وهذا ما اختاره السيد الخوئي وشيخنا الاستاذ “قدهما” ولا فرق في ذلك بين تلك البيانات الستة، حتى البيان الثاني وهو كون النهي عن نقض اليقين بمعنى النهي المولوي الطريقي عن نقضه العملي بالشك، لأنه لو لم يتم ما مر منا من عدم ظهوره في التعبد ببقاء اليقين، وانصرافه الى كون الملحوظ فيه تنجيز آثار المتيقن، بل ادعي شموله لآثار اليقين الموضوعي، فيصدق النقض العملي على عدم ترتيب اثره الموضوعي، ولو فرض عدم  اثر شرعي لمتعلقه، نعم لو منع من صدق النقض العملي على عدم ترتيب اثر القطع الموضوعي، وانما ادعي صدقه على عدم ترتيب اثر الواقع، ولكن ادعي أن لازم النهي عن النقض هو التعبد ببقاء اليقين فبعد ذلك يترتب اثر القطع الموضوعي، تم ما ذكره في البحوث، لكنه لا وجه له، فانه لو ادعي اختصاص النقض العملي بعدم ترتيب اثر الواقع فلا وجه لكشف اعتبار بقاء اليقين، ولو اصر احد على كونه لازما عرفيا له فحيث ان الصحيح عدم كفاية اعتبار شيء علما لقيامه مقام القطع الموضوعي، ما لم يكن هناك اطلاق في دليل اعتباره، خلافا لما يظهر من المحقق النائيني “قده” من كفاية ذلك من دون حاجة الى اطلاق دليل اعتباره، لكونه محققا لمصداق جعلي لجامع العلم الموضوع للاثر الشرعي.

ونحوه البيان السادس وهو كون النهي عن نقض اليقين بمعنى النهي عن نقضه العملي كناية عن اعتبار عدم ملزومه الذي هو الانتقاض الحقيقي لليقين، فاننا وان كنا نعترف بأن اختصاص المدلول الاستعمالي في موارد الكناية والارشاد بفرض يوجب اختصاص المكنى به والمرشد اليه بذلك الفرض، ولذا قلنا بأن قوله (عليه السلام) في موثقة عمار “يغسل كل ما اصابه ذلك الماء” وان كان ارشادا الى نجاسة ملاقي ذلك الماء، لكنه حيث يكون بلسان الامر بالغسل فلا يشمل المايعات، الا أن الظاهر أنه بعد فرض شمول النقض العملي لليقين لفرض عدم العمل بأثر اليقين الموضوعي فلا فرق في ذلك بين ما لو كان للواقع اثر شرعي ام لا.

ثم ان السيد الخوئي “قده” استدل على جواز الاخبار بالواقع استنادا الى الاستصحاب الى رواية حفص عن أبي عبد اللّه (عليه السلام)، قال: قال له رجل: إذا رأيت شيئاً في يدي رجل يجوز لي أن أشهد أنه له، قال: نعم، قال الرجل: أشهد أنّه في يده ولا أشهد أنّه له فلعله لغيره، فقال: (عليه السلام): أ فيحلّ الشراء منه؟ قال: نعم، فقال (عليه السلام): فلعلّه لغيره، فمن أين جاز لك أن تشتريه ويصير ملكاً لك؟، ثمّ تقول بعد الملك: هو لي، وتحلف عليه، ولا يجوز أن تنسبه إلى من صار ملكه من قبله إليك؟، ثمّ قال: لو لم ‌يجز هذا لم‌ يقم للمسلمين سوق([42]).

فهي تدل على جواز الاخبار بملكية من يجوز شراء المال منه، والرواية معتبرة سندا، فانه وان رواه في التهذيب عن القاسم بن محمد الاصفهاني وهو ليس بالمرضي، ولكن رواه في الكافي عن القاسم بن يحيى لكونه من رجال كامل الزيارات([43]).

وفيه اولا: ان المنقول في الوسائل عن الكافي وان كان هو القاسم بن يحيى، وهو الموافق لبعض نسخ الكافي([44])، ولكن الصحيح أنه القاسم بن محمد كما في الوافي([45]) وعدة من نسخ الكافي([46])، فانه لم‌ يثبت رواية القاسم بن يحيى عن المنقري، بينما أن القاسم بن محمد الاصفهاني هو الراوي لكتاب المنقري، وقد رأيت في تقرير لأبحاث السيد الخوئي “قده” في القضاء والشهادات أنه اشكل على ما ذكره في مباني تكملة المنهاج بهذا الاشكال والتزم بضعف سند الرواية([47]).

وثانيا: ان القاسم بن يحيى وان ورد في كامل الزيارات، لكنه “قده” قد عدل عن نظرية التوثيق العام للمشايخ مع الواسطة لابن قولويه، والقاسم بن يحيى من مشايخه مع الواسطة.

وثالثا: ان رواية حفص ليست ظاهرة الا في الحكم بالملكية استنادا الى اليد، دون جواز الاخبار بالملكية الواقعية، ويشهد له ما ذكره الامام (عليه السلام) من أنه لولاه لما قام للمسلمين سوق، فان من الواضح أنه لو لم‌ يجز الاخبار بالملكية الواقعية استنادا الى قاعدة اليد لم‌ يختل بذلك سوق المسلمين، كما يشهد له ايضا اقرار السائل بارتكازه جواز أن يشتريه منه ثم يقول بعد ذلك: هو لي، فان ما هو الواضح في المرتكز هو الحكم بالملكية الظاهرية والاخبار به، وهو معلوم بالوجدان، دون الاخبار بالملكية الواقعية([48]).

هذا وقد استدل ايضا بمعتبرة معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): الرجل يكون في داره ثمّ يغيب عنها ثلاثين سنة ويدع فيها عياله ثمّ يأتينا هلاكه، ونحن لا ندري ما أحدث في داره، ولا ندري ما حدث له من الولد، ولا تقسّم هذه الدار على ورثته الذين ترك في الدار حتى يشهد شاهدا عدل أنّ هذه الدار دار فلان ابن فلان مات وتركها ميراثاً بين فلان وفلان، أ ونشهد على هذا؟ قال: نعم([49])، فذكر ان موردها هو مجرد الاخبار دون الشهادة في مقام الترافع والتخاصم، لعدم منازع للورثة في موردها.

نعم يدل ذيلها على عدم جواز الشهادة في مقام الترافع والتخاصم استنادا الى الاستصحاب، حيث ورد فيه “قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): الرجل يكون في داره، إلى أن قال: قلت: الرجل يكون له العبد والأمة، فيقول: أبق غلامي أو أبقت أمتي، فيؤخذ بالبلد، فيكلّفه القاضي‌ البيّنة أنّ هذا غلام فلان لم‌ يبعه ولم يهبه، أ فنشهد على هذا إذا كلّفناه ونحن لم‌ نعلم أنّه أحدث شيئاً؟ فقال: كلّما غاب من يد المرء المسلم غلامه أو أمته أو غاب عنك لم ‌تشهد به” فان مورده اباق الغلام الذي هو طرف للمخاصمة، وهذا ما نلتزم به وان ورد في معتبرة اخرى له جواز الشهادة في نفس المورد استنادا الى الاستصحاب، وهذا نصها “قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): الرجل يكون له العبد والأمة قد عرف ذلك، فيقول: أبق غلامي أو أمتي، فيكلفونه القضاة شاهدين بأنّ هذا غلامه أو أمته لم ‌يبع ولم يهب، أ نشهد على هذا إذا كلّفناه؟ قال: نعم([50])”.

ويمكن الجمع بينهما بحمل هذه المعتبرة على الشهادة على مقدار العلم وذيل المعتبرة السابقة على الشهادة على ازيد منه بقرينة معتبرته الثالثة، قال: قلت له: إنّ ابن أبي ليلى يسألني الشهادة عن هذه الدار مات فلان وتركها ميراثاً وأنّه ليس له وارث غير الذي شهدنا له، فقال: اشهد بما هو علمك، قلت: إنّ ابن أبي ليلى يحلّفنا الغموس ،فقال: احلف، إنّما هو على علمك([51])، فإنها واضحة الدلالة على أنّ الشهادة لابد وأن تكون بمقدار العلم([52]).

اقول: هذه الرواية الاخيرة واردة في نفس مورد صدر المعتبرة الاولى لمعاوية، وليست واردة في مورد الترافع، ولعل المراد من امر الامام (عليه السلام) بالشهادة بما هو علمه، الشهادة بأنه لا يعرف وارثا غير هؤلاء.

وعليه فتتعارض هذه الرواية الاخيرة مع صدر المعتبرة الاولى لمعاوية، على أنه لا يمكن الغاء الخصوصية عن مورد المعتبرة حيث كان يتوقف وصول حق المؤمن اليه على هذا الحلف، مع فرض عدم منازع له، وعليه فيشكل الاستدلال بها على جواز الاخبار بالواقع استنادا الى الاستصحاب مطلقا، بل لعل الظاهر من الإخبار بشيء هو كون المخبر عالما به، ولذا لو سألك اثناء النهار شخصٌ “اين زيد، وهل ذهب الى محل عمله اليوم” فلا تقول له “هو في بيته، ولم يذهب الى محل عمله” استنادا الى العلم بذلك في الليلة الماضية.

هذا ومن جهة أخرى أنه لو فرض جواز الاخبار استنادا الى الاستصحاب فلا يعني ذلك قيامه مقام العلم الموضوعي في سائر احكامه.

استدراك

ما نستظهره من مجموع كلمات صاحب الكفاية “ره” في مفاد الاستصحاب أنه يرى أنه تنزيل المستصحب منزلة الواقع، فقد قوّى في بحث الاجزاء كون مفاد استصحاب الطهارة والحل التعبد بطهارة ما تيقن بطهارته السابقة وحلية ما تيقن بحليته السابقة، نظير قاعدة الطهارة والحل[53]، وحيث انه لا خصوصية لاستصحابهما فيعني ذلك أن يقوِّي كون مفاد دليل الاستصحاب تنزيل المستصحب منزلة الواقع، ويستفاد ذلك مما ذكره في بحث قيام الامارات والاصول مقام القطع  الموضوعي[54]، و ذكر في حاشية الرسائل في بحث الجمع بين الحكم الواقعي والظاهري أن الأصول التعبدية كأصالة الإباحة والطهارة والاستصحاب في وجه، ليست مجرد حجة بمعني المنجز والمعذر، بل هي أحكام شرعية فعلية حقيقية[55]، ويشهد له ايضا ما ذكره في التنبيه الثاني من تنبيهات الاستصحاب من أن مفاد الاستصحاب التعبد بالبقاء على تقدير الحدوث وجعل الملازمة الظاهرية بين البقاء والحدوث[56].

تنبيهات الاستصحاب

التنبيه الاول[57]: في جريان الاستصاب الاستقبالي، فقد ذكر السيد الخوئي “قده” أنه لا فرق في جريان الاستصحاب بين أن يكون المتيقن سابقاً و المشكوك فيه فعلياً، كما إذا علمنا بعدالة زيد سابقاً و شككنا في بقائها فعلا، أو يكون المتيقن فعلياً و المشكوك فيه استقبالياً، كما إذا علمنا بعدالة زيد الآن، و شككنا في بقاءها إلى اليوم الآتي مثلا، و يسمى بالاستصحاب الاستقبالي، و مورد بعض أدلة الاستصحاب و إن كان هو القسم الأول بالخصوص، كما في قوله “لأنك كنت على يقين من طهارتك”، إلا أن عموم التعليل في بعضها يقتضي عدم الفرق بين القسمين، إذ قوله (عليه السلام) “إن اليقين لا ينقض بالشك” يدل على أن ملاك الاستصحاب هو عدم جواز نقض اليقين بالشك، بلا فرق بين كون‏ المتيقن سابقاً و المشكوك فيه فعلياً، و كون المتيقن فعلياً و المشكوك فيه استقبالياً، نعم لا بد في جريان الاستصحاب الاستقبالي من الثمرة الفعلية، كمسألة جواز البدار لذوي الأعذار، فمن كان عاجزاً عن بعض الأجزاء أو الشرائط في أول الوقت، وشك في بقاء عجزه الى آخر الوقت، يجري استصحاب بقاء العذر، وبذلك يحرز الامر بالعمل الفاقد لذلك الجزء او الشرط، فيجوز له البدار، فان لم يظهر الخلاف إلى آخر الوقت، فليس عليه شي‏ء، و إن انكشف الخلاف و زال عذره قبل خروج الوقت، فالاجتزاء بالبدل و عدمه مبني على القول بالاجزاء في الأمر الظاهري، فان قلنا به فلا تجب عليه الإعادة، و إن قلنا بعدمه كما هو التحقيق فتجب عليه الإعادة، (نعم لا تجب الاعادة في موارد جريان لا تعاد[58]).

هذا حسب القاعدة، لكن ورد في فاقد الماء اول الوقت أنه يجب عليه الانتظار فان لم يجد الماء الى آخر الوقت يتيمم[59]

اقول: أما جريان الاستصحاب الاستقبالي، فالظاهر تماميته، وما قد يقال من عدم الاطلاق في دليل الاستصحاب لما اذا كان المشكوك بقاء الشيء في المستقبل([60]) ففيه أنه لاوجه للمنع عن اطلاق مثل قوله (عليه‌السلام) في الصحيحة الاولى لزرارة “ولا ينقض اليقين بالشك ابدا” وفي صحيحته الثانية “وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك أبدا” فانه يشمل ما لو كان المتيقن فعليا والمشكوك استقباليا ولكن ترتب أثر عملي فعلا على بقاء المشكوك في المستقبل، وعليه فلو شكّت امرأة في انه سيطرأ عليها الحيض في اثناء نهار شهر رمضان فمقتضى استصحاب بقاء طهرها وجوب الصوم عليها فعلا، وكذا لو جاز او وجب فعل على مكلف بشرط عدم تحقق أمر في المستقبل فلو فرض شكه في تحققه فمقتضى استصحابه الاستقبالي جواز ذاك الفعل او وجوبه عليه من الآن.

وأما جواز البدار الى الاتيان بالبدل الاضطراري لمن كان معذورا في اول الوقت واحتمل بقاء عذره الى آخر الوقت، فهو مبني على كون موضوع الأمر الاضطراري هو العجز المستمر الى آخر الوقت عن الفعل الاختياري، لكن الاهر او المحتمل كون موضوعه هو العجز عن صرف وجود الفعل الاختياري، ولايتحقق ذلك الا بالعجز عن جميع افراده، فمجرد العجز عن الاتيان بالصلاة الاختيارية في اول الوقت لايكفي في العجز عن صرف وجود الصلاة الاختيارية في الوقت، فانه لو فرض كونه قادرا على الصلاة الاختيارية في آخر الوقت صدق عليه من الاول انه قادر على اتيان الصلاة الاختيارية كصلاة الفجر قائما قبل طلوع الشمس مثلا، ويظهر هذا الاشكال من المحقق العراقي قده في كتابه في فروع العلم الاجمالي([61])، وان التزم في الاصول بجريان الاستصحاب الاستقبالي في مثله([62]).

والحاصل أن الظاهر من مثل قوله (عليه‌السلام) “اذا قوي فليقم” أن صلاة الفجر قائما ما بين طلوع الفجر وطلوع الشمس انما تجب على القادر عليها، ولاريب في أنه يصدق عرفا ولو من الليل أن صلاة الفجر قائما بين الطلوعين مقدورة للمكلف اذا فرض تمكنه من الصلاة قائما ولو قبل طلوع الشمس بدقائق، وعليه فلايجري استصحاب بقاء العجز المعلوم في اول الوقت، وما يقال من انه حين تحقق الاضطرار كما يصدق الاضطرار الى ترك الطبيعة بالنسبة الى فردها في ذاك الزمان كذلك يصدق الاضطرار ايضا بالنسبة الى بقية افرادها في الازمنة المتأخرة، لوضوح عجزه فعلا من الاتيان بتلك الافراد، فيصدق حينئذ كونه مضطرا فعلا الى ترك الطبيعة بقول مطلق، وحيث نشك في بقاء الاضطرار الى آخر الوقت فنستصحب ذلك([63])، ففيه انه كما ذكرنا ان أخذ الزمان قيدا للطبيعة فلايصدق كونه عاجزا عنها، حتى قبل تحقق ذلك الزمان.

ان قلت: ان المستصحب ليس هو عجز المكلف عن حصة خاصة من الصلاة قائما وهي الصلاة في اول الوقت كي يقال بانه ليس موضوعا للأثر، حيث ان شرط الوجوب هو القدرة على طبيعة الصلاة قائما في الوقت، كما انه ليس المستصحب هو العجز عن طبيعة الصلاة قائما في الوقت كي يقال بانه لايقين بحدوثه كي يستصحب، وانما يكون المستصحب هو العجز في اول الوقت عن طبيعة الصلوة قائما، فيقال ان هذا المكلف في اول الوقت عاجز عن الصلاة قائما، ونستصحب بقاء هذا العجز عن الصلاة قائما الى آخر الوقت، فيثبت بذلك عجزه في تمام الوقت عن الصلاة قائما، وهذا ان لم‌يكن عين العجز عن الصلاة قائما في الوقت فلاأقل من عدم تعقل العرف للتفصيل بينهما حتى في مرتبة التعبد الظاهري.

قلت: ان الظاهر مما يدلّ على وجوب صلاة الفجر قائما بين الطلوعين لمن قدر على ذلك هو ان موضوع الوجوب كون طبيعة الصلاة قائما بين الطلوعين مقدورة للمكلف، والمفروض انه بعد احتمال قدرة المكلف على فرد من هذه الصلاة ولو في آخر الوقت فتكون قدرته على هذه الطبيعة مشكوكة من الاول، فلايحرز عدم حدوثها كي يستصحب، فالظاهر ولااقل من المحتمل ان يكون موضوع وجوب صلاة الفجر جالسا هو من لم‌يكن قادرا على طبيعة صلاة الفجر قائما بين الطلوعين، وحينئذ فلايكون عنوان العجز في تمام الوقت عن صلاة الفجر قائما موضوعا للأثر الشرعي كي يجري الاستصحاب بلحاظه فيدعى حينئذ عدم تعقل العرف للتفكيك بين التعبد به والتعبد بالعجز عن طبيعة صلاة الفجر قائما بين الطلوعين، وأما دعوى العينية بين العنوانين فليس بظاهر.

نعم لو بنينا على جريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية فيمكن إجراء استصحاب عدم القدرة بنحو السالبة بانتفاء الموضوع بان يقال ان هذا المكلف قبل وجوده لم‌يكن قادرا على هذا الفعل، ولكن جريان الاستصحاب في العدم الأزلي محل اشكال.

ثم انه حكي عن السيد الخوئي “قده” أنه ذكر في بحث وجوب الاستنابة على الحيّ العاجز عن مباشرة الحج أنه لو شك في بقاء عجزه عن مباشرة الحج الى آخر حياته فلايمكنه استصحاب بقاء العجز على نحو الاستصحاب الاستقبالي كي يثبت بذلك وجوب الاستنابة عليه، حيث انه لم‌يؤخذ في موضوع وجوب الاستنابة عدم الطاقة والقدرة على مباشرة الحج وانما أخذ في موضوعه الحيلولة بينه وبين طبيعي الحج لمرض ونحوه كما هو المستفاد من صحيحة الحلبي، ولايمكن اثبات عنوان الحيلولة باستصحاب بقاء المرض الى آخر حياته، الا على نحو الاصل المثبت، لان عنوان الحيلولة عنوان وجودي لايمكن اثباته باستصحاب بقاء المرض ونحوه، ولااصل في المقام يحرز به الحيلولة([64])، و فيه أننا لم ‌نفهم وجه الفرق بين كون موضوع وجوب الاستنابة هو العجز عن الحجّ او الحيلولة بينه وبين الحجّ، فانه كما كان يصح ان يقال ان هذا المكلف عاجز فعلا عن الحج فيستصحب بقاء عجزه عنه الى آخر حياته فكذلك يصح ان يقال انه حال المرض بينه وبين الحج فعلا فيستصحب بقاء هذه الحيلولة الى آخر حياته، وما قد يقال من ان الحائل حيث يكون بمعنى المانع ولايستند عدم الشيء الى وجود مانعه الا في فرض تحقق المقتضي له فلايقال لم‌تحترق الخشبة لرطوبتها الا في فرض وجود النار، فعليه لايصدق ان المرض مثلا مانع، وحائل عن الحج الا عند حلول موسم الحج، فاذا انقضى الموسم لم‌يصدق على المرض المستمر انه حائل عن الحجّ، نعم لو استمر هذا المرض الى موسم الحج في السنة القادمة فسيتصف مرة ثانية بكونه مانعا وحائلا عنه، فلامجال لاستصحاب الحيلولة في فرض الشك، فيرد عليه انه لوكان المرض مستمرا الى آخر الحياة مثلا فيصدق دائما ان المرض حائل بين المكلف وبين الحج، كما يقال ان مرض زيد منذ صغره يحول بينه وبين جلوسه تحت المكيّف، فانه يكفي في صدق هذا الكلام منع مرضه عن جلوسه تحت المكيّف في فرض الحاجة الى استخدامه وهو فصل الشتاء.

وعليه فلاوجه للتفصيل في جريان الاستصحاب الاستقبالي بين كون الموضوع للأمر الاضطراري هو العجز عن الفعل الاختياري او الحيلولة بين المكلف وبينه.

هذا تمام الكلام في التنبيه الاول.



[1] – الاستصحاب ص 192

[2] – القواعد والفوائد ج1ص 158

[3] – مصباح الاصول ج3ص 87

[4] – الاصول في علم الاصول ج 2ص 383

[5] – مصباح الاصول ج3ص 88

[6] – نهاية الافكار: القسم الثاني من الجزء الثالث، ص 450

[7] -مصباح الاصول ج 3 ص 88

[8] – مصباح الاصول ج3ص 88

[9] – مصباح الاصول ج 3ص82

[10] – مباحث الاصول ج 5ص

[11] – الرسائل ج‏2 ص154

[12] – كفاية الاصول ص

[13] – مصباح الاصول ج3ص 84

[14] – وسائل الشيعة ج1ص

[15] – مباحث الاصول ج 5ص 269

[16] – وسائل الشيعة ج ص

[17] – وسائل الشيعة ج ص

[18] – وسائل الشيعة ج‌1 ص 387

[19] – وسائل الشيعة ج1ص226

[20] – وسائل الشيعة؛ ج‌3، ص: 450

[21] – وسائل الشيعة؛ ج‌1، ص: 231

[22] – وسائل الشيعة؛ ج‌3، ص: 452

[23] – وسائل الشيعة؛ ج‌3، ص: 497

[24] – وسائل الشيعة؛ ج‌3، ص: 458

[25] – كفاية الاصول ص182

[26] – مصباح الاصول ج 3 ص 86

[27] – محاضرات في اصول الفقه ج5ص10

[28] – منتقى الاصول ج 6ص 41

[29] – الاستصحاب ص 62

[30] – فوائد الاصول ج‏3 ص 16وص115، ج‏4 ص486

[31] – اجود التقريرات ج‏2 ص78

[32] – راجع الحلقة الثالثة ص145

[33] – نهاية الافكار ج 4 القسم الاول ص 78

[34] – مصباح الاصول ج2ص 38

[35] – الخصال ج‏2 ص 610 وفي ارشاد المفيد ج1ص 302 “فان اليقين لا يدفع بالشك” وفي تحف العقول ص 109 فان الشك لا يدفع اليقين ولا ينقضه.

[36] – وسائل الشيعة ج 10ص 256

[37] -نهاية الافكار القسم الاول من الجزء الرابع ص 79

[38] – بحوث في علم الاصول ج5ص 170مباحث الاصول ج 5ص 276

[39] – درر الفوائد ص 30

[40] – كفاية الاصول ص 265

[41] – بحوث في علم الاصول ج6ص 169ومباحث الاصول ج5ص 276

[42] – وسائل الشيعة ج27 ص292

[43] – موسوعة الامام الخوئي ج41 ص140

[44] – الكافي ج 7ص 387 طبع الاسلامية

[45] – الوافي ج16ص1033

[46] – راجع الكافي طبع دار الحديث ج14ص583

[47] – القضاء والشهادات ج1ص 310

[48] – رأيت بعد ذلك أن هذا الاشكال مما اورده السيد الخوئي “قده” على نفسه على ما في كتاب القضاء والشهادات ج1ص310

[49] – وسائل الشيعة ج27ص336

[50] – وسائل الشيعة ج27ص337

[51] – وسائل الشيعة ج27ص336

[52] – موسوعة الامام الخوئي ج41ص140

[53] – كفاية الاصول ص 86

[54] – كفاية الاصول ج264

[55] – حاشية الرسائل ص 77

[56] – كفاية الاصول ص 404

[57] – اخترنا التنبيه الاول من مصباح الاصول، ولكن بفبة التنبيهات مذكورة في الكفاية.

[58] – التنقيح ج3ص415

[59] – مصباح الاصول ج3ص 89

[60] – المباحث الاصولية ج4ص181

[61] – روائع الامالي في علم الاجمالي ص79

[62] – مقالات الاصول ج1ص271 نهاية الافكار ج1ص243

[63] – نهاية الافكار ج1ص243

[64] – مستند العروة كتاب الحج ج1ص248