فهرست مطالب

فهرست مطالب

pdf

القسم الثالث من استصحاب الكلي

و هو ما إذا كان الشك في بقاء الكلي مستندا إلى احتمال وجود فرد آخر مقارنٍ لوجود الفرد المعلوم الحدوث و الارتفاع، او مقارنٍ لارتفاعه، والاقوال فيه ثلاثة:

القول الاول: القول بعدم جريانه مطلقا، اي من غير تفصيل بين احتمال اقتران الفرد الآخر لوجود ذلك الفرد المعلوم واحتمال وجوده عند ارتفاعه، والظاهر أنه قول المشهور، وممن ذهب الى ذلك صاحب الكفاية فقال: ان الأظهر عدم جريان استصحاب القسم الثالث من الكلي، فإن وجود الكلي الطبيعي و إن كان بوجود فرده إلا أن وجوده في ضمن المتعدد من أفراده ليس من نحو وجود واحد له بل متعدد حسب تعددها فلو قطع بارتفاع ما علم وجوده منها لقطع بارتفاع وجوده منها و إن شك في وجود فرد آخر مقارن لوجود ذاك الفرد أو لارتفاعه بنفسه أو بملاكه كما إذا شك في الاستحباب بعد القطع بارتفاع الإيجاب بملاك مقارن أو حادث.

لا يقال الأمر و إن كان كما ذكر إلا أنه حيث كان التفاوت بين الإيجاب و الاستحباب و هكذا بين الكراهة و الحرمة ليس إلا بشدة الطلب بينهما و ضعفه كان تبدل أحدهما بالآخر مع عدم تخلل العدم غير موجب لتعدد وجود الطبيعي بينهما لمساوقة الاتصال مع الوحدة فالشك في التبدل حقيقة شك في بقاء الطلب و ارتفاعه لا في حدوث وجود آخر.

فإنه يقال الأمر و إن كان كذلك إلا أن العرف حيث يرى الإيجاب و الاستحباب المتبادلين فردين متباينين لا واحد مختلف الوصف في زمانين لم يكن مجال للاستصحاب لأن قضية إطلاق أخبار الاستصحاب أن العبرة فيه بما يكون رفع اليد عنه مع الشك بنظر العرف نقضا و إن لم يكن نقضا بحسب الدقة[1].

وذكر المحقق العراقي “قده” في تقريب الاشكال على جريان استصحاب القسم الثالث من الكلي أنه لا منشأ لتوهم جريان الاستصحاب الكلي فيه الا تخيل ان الطبيعي بعد ما كان وجوده في الخارج بعين وجود فرده، فلا محالة يكون العلم بوجود الفرد ملازماً للعلم بوجود الكلي في الخارج، و بارتفاع الفرد المعلوم و الشك في وجود فرد آخر مقارناً لوجود الفرد الأول أو مقارناً لارتفاعه، يشك في بقاء الكلي و ارتفاعه، فيجري فيه الاستصحاب، لاجتماع أركانه من اليقين بالوجود و الشك في البقاء، و لكنه تخيل فاسد، فان الطبيعي و ان كان موجوداً في الخارج بعين وجود فرده لا بوجود آخر ممتاز عن وجود فرده، و لكن بعد ما يغاير وجوده في الخارج في ضمن كل فردٍ، وجوده في ضمن الفرد الآخر، و كان بقائه أيضا كحدوثه تابعا لبقاء الفرد و حدوثه، فلا محالة يكون العلم بانعدام الفرد ملازماً مع العلم بارتفاع وجود الطبيعي‏ الذي حدث في ضمنه لاستحالة بقائه بحده بحدوث فرد آخر منه، لأن ما حدث في ضمن فرد آخر انما هو وجود آخر للكلي غير ما علم بحدوثه في ضمن الفرد السابق، و حينئذ فاحتمال وجود فرد آخر للكلي و ان كان احتمالا لوجود الكلي في الخارج في الزمان اللاحق، و لكن الوجود المشكوك لا يكون بقاء للوجود المعلوم سابقا، لأنه مما علم بارتفاعه الفرد المعلوم، فلا يكون الشك في الوجود المشكوك شكا في بقاء ما علم بحدوثه حدا حتى يجري فيه الاستصحاب، و بذلك يتضح الفرق بين هذا القسم من الكلي و بين القسم السابق، فانه في القسم السابق يكون نفس الكلي و القدر المشترك بين الفردين بوجوده المتحقق في ضمن أحد الفردين مشكوك البقاء و الارتفاع في الزمان المتأخر من جهة احتمال كون الحادث هو الفرد الباقي، ففيه يكون وجود الكلي بحده مركزاً لليقين و الشك، بخلاف هذا القسم فان الشك فيه لم يتعلق بعين ما تعلق به اليقين السابق، و انما هو متعلق بوجود آخر للكلي غير ما علم بحدوثه، فلذلك لا يجري فيه الاستصحاب، نعم غاية ما تقتضيه العينية بينهما انما هو العينية الذاتيّة، و لكن مثله لا يكون مداراً لصدق النقض و الإبقاء في باب الاستصحاب.

و قد أورد على الاستصحاب المزبور بوجه آخر و حاصله منع ملازمة العلم بوجود الفرد للعلم لوجود الكلي و القدر المشترك، بدعوى ان العلم بوجود الفرد انما يلازم العلم بوجود حصة من الكلي المتحقق في ضمنه، لا العلم بوجود الكلي بما هو هو، فمع تغاير الحصص لا مجال لجريان الاستصحاب، لأن ما علم بوجوده هي الحصة المتحققة في ضمن الفرد المعلوم، و قد علم بارتفاعها، و ما شك فيه هي الحصة الأخرى من الكلي غير الحصة المعلومة سابقا، و فيه ما لا يخفى، فان الكلي بعد ما كان بنفسه موجوداً في الخارج بعين وجود فرده و حصته، لا بوجود آخر مغاير لوجود فرده، لا وجه للمنع عن ملازمة العلم بوجود الفرد و الحصة للعلم بوجود الكلي و القدر المشترك الّذي هو منشأ انتزاع هذا المفهوم، كيف و لازم المنع المزبور هو المنع عن استصحاب الكلي في القسم الثاني أيضا، بلحاظ اقتضاء تغاير الحصص لتردد المعلوم بين الحصتين الموجب لعدم جريان الاستصحاب فيه بعين ما التزم في المنع عن استصحاب الفرد المردد[2].

القول الثاني: القول بجريانه مطلقا، وهذا ما ذهب اليه المحقق الحائري “قده” في الدرر فقال:

لو جعل صرف وجود الطبيعة مع قطع النظر عن خصوصياتها الشخصية موضوعا للحكم، فلا اشكال في أنه لا ينعدم الا بانعدام تمام الأفراد، فمادام يوجد فرد من افرادها فيصدق ان صرف وجود الطبيعة باقٍ، وهذا يعني تمامية اركان الاستصحاب في صرف وجود الطبيعة من اليقين بالحدوث والشك في البقاء[3].

بل ذكر المرحوم الشيخ الاراكي “قده” في التعليقة على الدرر ما نصه: هذا بناء على اعتبار الشك في البقاء في الاستصحاب، و أما على ما هو الحق من كفاية وحدة القضية المتيقنة و المشكوكة، و لهذا نقول بجريان الاستصحاب في التدريجيات، فالظاهر جريان الاستصحاب في هذا القسم، حتى فيما لو كان الكلي مأخوذا باعتبار الوجود السارى، اذ المفروض أن الموضوع للاثر نفس وجود الطبيعة، من غير ملاحظة خصوصية من الخصوصيات، و الحق ايضا وجود الطبيعي في الخارج بوجود افراده، و الذي لا يوجد انما هو وصف الكلية، و على هذا فاليقين و الشك و ان لم يتعلقا بفرد واحد، و لكن باعتبار اضافة الوجود الى جامع الطبيعة قد تعلقا بامر واحد، بلا اختلاف فيه اصلا، و ان لم يتعلق الشك بعنوان البقاء[4].

وممن ذهب الى جريان استصحاب القسم الثالث هو السيد الامام “قده” فقال: ان ما ذكر في وجه عدم جريان الاستصحاب فيه هو أن العلم بوجود الفرد في الخارج انما يلازم العلم بوجود حصة من الكلي في ضمن ذلك الفرد، لا العلم بوجود الكلي، و الحصة الموجودة في ضمن الفرد الخاصّ تغاير الحصة الأخرى في ضمن فرد آخر، و لذا قيل نسبة الكلى الافراد نسبة الآباء المتعددة إلى الأبناء، و لا يخفى ان هذا ناش من عدم تعقل الكلي الطبيعي و كيفية وجوده و عدم الوصول إلى مغزى مراد القوم من ان نسبة الكلي إلى الافراد نسبة الآباء، ضرورة ان الكلي الطبيعي لدى المحققين موجود بتمام ذاته مع كل فرد من الافراد، فكل فرد في الخارج بتمام هويته عين الكلي، لا أنه حصة منه و لا يعقل الحصص للكلي، فزيد إنسان لا نصف إنسان، أو جزء إنسان، أو حصة منه، فلا معنى للحصة أصلا، و أما ما أفاده صاحب الكفاية “ره” من تعدد الكلي الطبيعي بتعدد الفرد، و أن الكلي‏ في ضمن فرد غيره في ضمن فرد آخر،[5] فهو وان كان صحيحا عقلا، لكن العرف يرى بقاء النوع مع تبدل افراده، و قد يكون الجنس بالنسبة إلى افراد الأنواع كذلك، و قد لا يساعد العرف كأفراد الإنسان و الحمار بالنسبة إلى الحيوان، فان العرف لا يرى الإنسان من جنس الحيوان، و الميزان وحدة القضية المتيقنة و المشكوكة عرفا، و لا يبعد ان يقال: ان الضابط في حكم العرف بالبقاء في بعض الموارد و عدم الحكم في بعض انه قد يكون المصداق المعلوم امرا معلوما بالتفصيل أو بالإجمال، لكن بحيث يتوجه ذهن العرف إلى الخصوصيات الشخصية و لو بنحو الإشارة، ففي مثله لا يجري الاستصحاب لعدم كون المتيقن الكلي المشترك، و قد يكون المعلوم على نحو يتوجه العرف إلى القدر الجامع و لا يتوجه إلى الخصوصيات كما إذا علم أن في البيت حيوانات مختلفة و يحتمل مصاديق اخر من نوعها أو جنسها، ففي مثله يكون موضوع القضية هو الحيوان المشترك و بعد العلم بفقد المقدار المتيقن و احتمال بقاء الحيوان بوجودات أخر يصدق البقاء[6]، و المسألة محتاجة إلى مزيد تأمل، و بما ذكرنا يجمع بين ما قلنا مرارا بأن كثرة الإنسان بكثرة الافراد عرفي كما هو عقلي، و بين ما قلنا من جريان الاستصحاب في القسم الثاني و في بعض موارد القسم الثالث و عليك بالتأمل التام في موارد الجريان و عدمه.

ثم قال: و قد يتخيل انه على فرض جريان الاستصحاب في القسم الثالث يلزم منه الحكم بعدم جواز مس كتابة القرآن بمقتضى استصحاب جامع الحدث لمن احتمل الجنابة في حال النوم و توضأ بعد قيامه من النوم، مع أنه لا يمكن الالتزام به، و لكنه يندفع بأن الجامع بين الحدث الاكبر والاصغر امر انتزاعي عقلي، وليس مجعولا من قبل الشارع، و لا موضوعا لأثر شرعي، حتى يستصحب، و من هنا لا يجري استصحاب الوجوب الجامع بين وجوب صلاة الظهر و وجوب صلاة الجمعة، لعدم جعل الشارع وجوبا جامعا بين الوجوبين و لم يكن للجامع الانتزاعي أثر شرعي حتى يستصحب.

و أما ما ذكر من أن المستفاد من قوله تعالى “اذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم… وان كنتم جنبا فاطهروا” بقرينة كون التقسيم قاطعا للشركة، كون موضوع وجوب الوضوء من قام من النوم ولم يكن جنبا، فبضم استصحاب عدم الجنابة الى احراز قيامه من النوم اي صدور الحدث الاصغر منه يحرو موضوع وجوب الوضوء وعدم وجوب الغسل، ففيه أن من الواضح أن التفصيل في قولنا “إذا جاءك زيد فأكرمه، و إذا جاءك عمرو فأهنه” لا يدل على ان موضوع وجوب إكرام زيد مركب من مجيئه وعدم مجيء عمرو[7].

القول الثالث: التفصيل في جريانه، وهذا هو قول الشيخ الاعظم “قده” فانه فصّل بين ما احتمل وجود الفرد الآخر مع ذلك الفرد المعلوم و بين ما احتمل حدوثه بعده، إما بتبدله إليه و إما بمجرد حدوثه مقارنا لارتفاع ذلك الفرد، فقوى جريان الاستصحاب في الأول، لاحتمال كون الثابت في الآن اللاحق عين الموجود سابقا، فيتردد الكلي المعلوم سابقا بين أن يكون وجوده الخارجي على نحو لا يرتفع بارتفاع الفرد المعلوم ارتفاعه و أن يكون على نحو يرتفع بارتفاع ذلك الفرد، فالشك حقيقة إنما هو في مقدار استعداد ذلك الكلي و استصحاب عدم حدوث الفرد المشكوك لا يثبت تعيين استعداد الكلي، وهذا البيان لا يأتي في الفرض الثاني، نعم لو كان العرف يتسامح في الفرض الثاني فيعدّون الفرد اللاحق مع الفرد السابق كالمستمر الواحد مثل ما لو علم السواد الشديد في محل و شك في تبدله بالبياض أو بسواد ضعيف، فإنه يستصحب السواد، و كذا لو كان الشخص في مرتبة من كثرة الشك، ثم شك من جهة اشتباه المفهوم أو المصداق في زوالها أو تبدلها إلى مرتبة دونها، و بالجملة فالعبرة في جريان الاستصحاب عد الموجود السابق مستمرا إلى اللاحق و لو كان الأمر اللاحق على تقدير وجوده مغايرا بحسب الدقة للفرد السابق[8].

اقول: الصحيح هو القول الاول وهو عدم جريان استصحاب القسم الثالث من الكلي مطلقا، ويتضح ذلك من خلال الايراد على كلمات القائلين بجريانه.

أما ما سبق عن الدرر من أن صرف وجود الطبيعة لا ينعدم الا بانعدام جميع الافراد فاحتمال وجود فرد آخر مقارن لوجود الفرد المعلوم او لارتفاعه يوجب الشك في بقاء صرف الوجود، فهو غير قابل للانكار، ولذا ذكرنا أننا وان لم نقبل جريان استصحاب القسم الثالث، ولكن مع ذلك نقول: انه لا يمكن بعد العلم بارتفاع الفرد المعلوم الحدوث أن ينفى صرف وجود الطبيعة، باستصحاب عدم الفرد الآخر منضما الى العلم بارتفاع ذلك الفرد المعلوم، لأن نفي صرف الوجود باستصحاب عدم الفرد الطويل مع العلم بارتفاع الفرد القصير من الاصل المثبت، لكن المدعى أن ظاهر دليل الاستصحاب كون موضوعه هو الشك في بقاء الامر الخارجي الذي حصل اليقين بحدوثه، فاذا كان صرف وجود الانسان في الدار يوم الجمعة موضوعا لوجوب التصدق، وعلم يوم الخميس بوجود زيد في الدار و خروجه منها واحتمل وجود عمرو معه فيها وبقاءه الى يوم الجمعة، فما هو المتيقن خارجا هو وجود زيد ووجود الانسان المتحد مع زيد، ولا شك في بقاءه، وانما الشك في وجود انسان آخر ولكن لا يقين بحدوثه.

ولأجل التحقيق في ذلك ينبغي ذكر ما ذكره في البحوث في المقام فقال: بناء على مبنى الرجل الهمداني من أن للكلي وجودا وحدانيا سعيّا في الخارج اي يوجد بوجود اول فرد منه ولا ينعدم الا بانعدام جميع الافراد فتتم أركان الاستصحاب في القسم الثالث لا محالة، باعتبار أنّ هذا الوجود الواحد السعي كان مقطوع الحدوث، و بالفعل يشكّ في بقائه، والمهم بطلان مبنى الرجل الهمداني.

و أما على تصوّر المحقق العراقي “قده” من كون المراد من الكلّي الموجود في الخارج هو الحصّة، اي وجود الانسان مثلا في ضمن الفرد فمن الواضح عدم جريان الاستصحاب في المقام؛ لأنّ الحصّة التي علم بوجودها و تحقّقها قد علم بانتفائها أيضاً، و الحصّة الثانية التي تتحقّق بالفرد الثاني ممّا لا يقين بحدوثها، و ليس وراءها شي‏ء آخر حتّى يكون هو المستصحب.

و أمّا على تصوّر أن الكلي مفهوم عامّ ينطبق على الأفراد، فقد يقال بجريان الاستصحاب في المقام، بناءً على التصور المشهور من أنَّ الكلي له وجود ضمني بوجود الفرد فكأنّه يوجد في الخارج بوجود الفرد امران المفهوم الجزئي و هو زيد و كلي الإنسانية المتضمنة فيه، لأنَّ لنا علمين: علم بالفرد و علم بالجامع ضمناً، و الذي علم بارتفاعه انما هو الأول، و اما الثاني فلا علم بارتفاعه فيستصحب، و لا يوجد ما يبطل ذلك سوى ما ادّعاه المحقق العراقي “ره” من استظهار اشتراط وحدة المتيقّن و المشكوك خارجاً، و عدم كفاية الوحدة المفهومية و الذاتية لجريانه، و في المقام هذه الوحدة غير محفوظة؛ لأنّ الإنسانية العامّة في زيد غيرها في عمرو وجوداً و إن كانت نفسها حقيقةً و ذاتاً، و لا يبعد صحّة هذا الاستظهار عرفاً.

ثم قال في تحليل هذا المطلب: انه لابد من تقديم ثلاثة امور:

1- المفاهيم بما هي مفاهيم لا تكون إلّا كلّية، و تقييد المفاهيم بعضها ببعض لا يخؤجها عن الكلية وامكان الصدق على كثيرين، وان فرض انحصار مصداقها في فرد واحد، وانما الجزئية تنشأ من لحاظ المفهوم بنحو الإشارة به إلى الخارج، و قد وضعت أسماء الإشارة لهذا المعنى الإشاري، و كذلك الأعلام وضعت للمفاهيم بما هي مشيرة إلى الخارج، و هذا هو الجزئي، لأنّ المفهوم أُخذ مشيراً إلى الخارج و الواقع الذي هو عالم التشخّص، فيكون مثل هذا المفهوم جزئياً لا محالة.

2- إنّ العلم التصديقي يتقوم بالاشارة إلى متعيّن في الخارج، ولولا الاشارة لما كان علماً، و بهذا يكون العلم دائماً جزئياً، وعليه فيكون ارتفاع الإشارة بمعنى زوال العلم و ارتفاع اليقين.

3- ان تعدد العلوم التصديقية يكون بتعدد الإشارة الفعلية بالصور الذهنية إلى الخارج، فكلما كانت الإشارة الفعلية إلى الخارج واحدة، فالعلم واحد، مهما تركب الصورة التي بها الإشارة إلى الخارج بحيث يزول ذلك العلم بزوال تلك الإشارة و لا يبقى إلّا التصور المحض.

و بناءً على ذلك يتضح انه في المقام حيث انَّ الإشارة و العلم بوجود الإنسان في المسجد كان من خلال إشارة فعلية واحدة إلى الفرد المعلوم تحققه، و المفروض زوال تلك الإشارة الواحدة بقاءً، فلا يمكن إجراء الاستصحاب، إذ لو أُريد تطبيقه على اليقين بوجود زيد فالمفروض اليقين بانتقاضه أيضاً، و لو أُريد تطبيقه على اليقين بوجود الإنسان الكلي ضمن زيد فالإنسان الكلي لم يكن موجوداً آخر وراء زيد و لا الإشارة به إلى الخارج إشارة أخرى غير تلك الإشارة الواحدة المحققة لليقين بالحدوث و المفروض انتفاؤها فليس بعد انتفائها إلّا ذات مفهوم الإنسان، و صورته الذهنية و هو تصور لا تصديق، فلا تتم أركان الاستصحاب في المقام، و هذا التحليل تعبيره العرفي المسامحي ما تقدم من انَّ الكلي الّذي علم به ضمن زيد علم بانتفائه و هو ضمن فرد آخر لا يقين بحدوثه فلا يجري الاستصحاب، و هذا هو فذلكة ما استظهره المحقق العراقي “قده” من شرطية وحدة الوجود الحقيقي للمتيقن و المشكوك و عدم كفاية الوحدة المفهومية و الذاتيّة بينهما في صدق نقض اليقين بالشك.

وبذلك تبين عدم تمامية استصحاب القسم الثالث من الكلي، سواء كان الفرد المعلوم الحدوث والارتفاع معينا او غير معين، كما لو علمنا بوجود زيد او عمرو في الدار يوم الخميس وعلمنا بخروجه، واحتملنا دخول فرد آخر مقارنا لخروج ذاك الفرد المعلوم بالاجمال[9].



[1] كفاية الأصول

[2] – نهاية الافكار ج4 ق1ص134

[3] – درر الفوائد طبع جديد ص 537

[4] – نفس المصدر

[5] – نقل عنه في تنقيح الاصول ج4ص 115 أنّه على ما ذكره يلزم عدم جريانه في القسم الثاني أيضاً، مع أنّه لا يلتزم به.

[6] – نقل عنه في تنقيح الاصول ج4ص 116 أنّ العرف قد يلاحظ الأفراد في بعض الموارد بخصوصيّاتها الفرديّة، كما في ملاحظة أنّ زيداً في الدار، فإنّ طبيعيّ الإنسان و إن كان موجوداً فيها بوجود زيد، لكنّه مغفول عنه، و قد يلاحظ نفس الكلّي بدون الالتفات إلى الأفراد بخصوصيّاتها الشخصية، كما إذا كانت الخصوصيّات الفرديّة مبهمة في الخارج غير معلومة، كما إذا علم بوجود الإنسان في الدار، و لم يعلم أنّه زيد أو عمرو، فإنّ المعلوم المتوجَّه إليه هو الكلّي، و كما إذا رأى الفوج، فإنّ الملتفت إليه ابتداءً هو النوع، لا الأفراد إلّا بلحاظ ثانويّ، فلو تردّد الفوج بين الأقلّ و الأكثر، و علم بأنّه لو كان الأقلّ لما بقي إلى الآن، و لو كان الأكثر فهو باقٍ، يحكم بالبقاء للاستصحاب، فكلّما يُقصر النظر فيه من هذا القسم على نفس الطبيعة و الكلّي في المتفاهم العرفي جرى فيه الاستصحاب، و كلّما كان الملحوظ و الملتفت إليه هو الأفراد فإنّه لا يصدق فيه البقاء و الإبقاء، و قضيّة ذلك عدم انضباط القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي.

فيجري استصحاب نزول المطر من السماء مع زوال القطرات النازلة، حيث لا يلاحظ القطرات الخاصّة فيه، مع أنّه من الصورة الثانية لاستصحاب القسم الثالث من الكلي، اي احتمال وجود فرد آخر مقارنا لارتفاع الفرد المعلوم.

[7] – الرسائل ج‏1 ص 133

[8] – فرائد الاصول ج‏2 ص640

[9] – بحوث في علم الاصول ج6ص 262