فهرست مطالب

فهرست مطالب

pdf

الفرض الثانی من القسم الثانی من استصحاب الکلی

الفرض الثاني: ما اذا كان الاثر مترتبا على الفردين بعنوانهما التفصيلي، سواء اختلف سنخ حكمهما، كما اذا قال المولى “ان كان زيد في الدار يوم الجمعة فتصدق” وقال “ان كان عمرو في الدار يوم الجمعة فصلّ” فعلم اجمالا بوجود احدهما في الدار يوم الخميس ثم علم بكون زيد خارج الدار يوم الجمعة، ولكن علم او احتمل بقاء عمرو في الدار على تقدير كونه فيها يوم الخميس، او اتحد سنخ حكمهما كما اذا قال المولى “ان كان زيد في الدار يوم الجمعة فتصدق” و قال “ان كان عمرو في الدار يوم الجمعة فتصدق”.

الفرض الثالث من القسم الثانی من استصحاب الکلی

الفرض الثالث: ما اذا كان الاثر مترتبا على الكلي بنحو المطلق الشمولي، ومثاله العرفي ما اذا قال المولى “كل انسان يكون في الدار يوم الجمعة فتصدق لاجله” فعلم بوجود زيد او عمرو في الدار يوم الخميس اجمالا، وبكون زيد خارجا عنها يوم الجمعة، وامثلته الفقهية كثيرة، منها: ما اذا کان جلد مطروح مردد بين كونه للشاة المعلوم كونها مذكاة او للشاة المعلوم كونها ميتة، فان نجاسة الجلد حكم انحلالي لكل شاة غير مذكاة.

وسمّوا هذين الفرضين باستصحاب الفرد المردد، وانكر كثير من القائلين بجريان استصحاب القسم الثاني من الكلي جريان الاستصحاب فيه، منهم المحقق النائيني والمحقق العراقي والسيد الامام والسيد الصدر “قدهم” وبعض السادة الاعلام “دام ظله” وحاصل ما ذكروه في المنع من جريانه عدة اشكالات:

الاشكال الاول: ما عن بعض السادة الاعلام “دام ظله” من أنه اذا كان العنوان المتيقن عنوانا انتزاعيا مثل عنوان احدهما كما هو الحال في جريان الاستصحاب في الفرد المردد دون الجامع الطبيعي المأخوذ في استصحاب القسم الثاني من الكلي، فلا يصدق الشك في بقاء احدهما الا مع فرض الشك التفصيلي في بقاء كل من الفردين على تقدير حدوثه، وأما مع العلم بانتفاء الفرد القصير على تقدير حدوثه، فلا يصدق الشك في بقاء هذا العنوان الابنحو من المسامحة، وانما يصدق الشك في وجود الفرد الطويل[1].

وفيه أن قبول صدق الشك في بقاء الواقع المتيقن المعلوم بالاجمال بمجرد كون الاثر الشرعي مترتبا على صرف وجود الكلي والتشكيك في صدقه لكون الاثر الشرعي مترتبا على عنوان الفرد او عنوان الكلي بنحو المطلق الشمولي خلاف الوجدان العرفي، فهل لا يصدق الشك في تذكية صاحب هذا الجلد؟.

ثم ان لازم التفصيل بين الجامع الطبيعي والجامع الانتزاعي هو أنه لو كان الاثر الشرعي مترتبا على صرف وجود الجامع الانتزاعي كما لو اشار المولى الى زيد وعمرو فقال “اذا كان احدهما في الدار يوم الجمعة فتصدق” فلا يجري استصحاب بقاء احدهما اذا علم بعدم كون زيد في الدار يوم الجمعة، كما أنه اذا كان الاثر الشرعي ثابتا للكلي الطبيعي بنحو الانحلال والاطلاق الشمولي، فلابد أن يجري استصحاب الجامع والكلي الطبيعي، وهذ‍ا لا یخلو من غرابة.

الاشكال الثاني: ما تكرر في كلمات كثير من الاعلام المنكرين لجريان استصحاب الفرد المردد كالمحقق العراقي والسيد الامام والسيد الصدر -كما نقلنا عن ابحاثه الفقهية- “قدهم” وحاصله أن اركان الاستصحاب بعد ما لم تتم في الفرد التفصيلي، فلابد من اجراءه في عنوان احد الفردين، وهذا العنوان ان لوحظ بما هو فليس موضوعا للاثر، وان لوحظ مشيرا الى الواقع التفصيلي الذي هو الموضوع للاثر، فالمفروض عدم تمامية اركان الاستصحاب في المشار اليه، فهو نظير استصحاب عنوان لترتيب اثر عنوان آخر ملازم له كاستصحاب عدم الاتيان لاثبات وجوب القضاء المترتب على الفوت.

وفيه اولا: أنه لا مانع من شمول دليل الاستصحاب لفرض تمامية اركان الاستصحاب من اليقين بالحدوث، والشك في البقاء في الواقع المرئي من خلال العنوان الاجمالي كعنوان احدهما، وان لم يكن هذا العنوان موضوعا للاثر الشرعي، ولا يضر عدم تمامية اركان الاستصحاب في الواقع المرئي من خلال عنوانه التفصيلي، كما في مثال استصحاب عدم تذكية صاحب الجلد وان كان الواقع الذي يحكي عنه عنوان صاحب الجلد مرددا بين الفرد المقطوع عدم تذكيته والفرد المقطوع تذكيته، ولا يقاس باستصحاب عدم الاتيان بالفريضة لاثبات وجوب القضاء المترتب على عنوان الفوت، فان هذين العنوانين في عرض واحد وليس احدهما مشيرا الى الآخر.

وثانيا: لو سلم ذلك فيختص الاشكال بالفرض الذي يكون الاثر مترتبا على الفرد بعنوانه التفصيلي دون ما اذا ترتب الاثر على الكلي بنحو المطلق الشمولي، كما لو قال المولى “كل انسان يكون في الدار يوم الجمعة فيجب عليك التصدق على الفقير”  فعلم بوجود زيد او عمرو في الدار يوم الخميس اجمالا، وبكون زيد خارجا عنها يوم الجمعة، فاستصحاب ذلك الانسان الموجود في الدار يوم الخميس يكون استصحابا في العنوان الموضوع للاثر الشرعي[1].

الاشكال الثالث: ما فی تعلیقة البحوث من أنَّ التعبد ببقاء اليقين فرع صدق نقض اليقين بالشك، وصدقه موقوف على كون الشك في بقاء ما يكون اليقين طريقاً إليه و منجزاً له، و هو واقع المتيقن، لا العنوان الإجمالي الانتزاعي الذي لا يكون موضوعا للاثر، كما في المقام، فانَّ تعلق اليقين بالعنوان الإجمالي طريق منجز عقلًا لحكم العنوان التفصيليّ بحسب الفرض، فلابدَّ و أَن يكون نقض اليقين بالشك بلحاظه، والشك هنا ليس في بقاء المتيقن، بل يقطع بأنَّ المتيقن منتف على تقدير و باق على تقدير آخر، و انما الشك بحسب الحقيقة في كون الحادث ما قطع بانتفائه أم لا[2].

وفيه أنه بعد ما كان العنوان الاجمالي الذي تم بلحاظه اركان الاستصحاب في الواقع الذي هو موضوع للاثر عنوانا مشيرا الى العنوان التفصيلي الموضوع للاثر كعنوان صاحب هذا الجلد المطروح او الفرد الموجود سابقا، فلا نرى وجها للمنع عن صدق نقض اليقين بالشك، فالشاك في كون صاحب هذا الجلد هل هو هذه الشاة المقطوع التذكية او تلك الشاة المقطوع الميتة، لو لم يرتب آثار عدم التذكية صح أن يقال انك كنت على يقين من عدم وقوع الذبح على الشاة التي هذا جلدها والآن تشك في وقوع الذبح عليه فلا تنقض اليقين بالشك.

الاشکال الرابع: ما في البحوث من أن المستفاد من النهي عن نقض اليقين بالشك وان كان هو التعبد باثر بقاء العلم الاجمالي من المنجزية والمعذرية، ولذا اجرينا هذا الاستصحاب في بقاء الكلي القسم الاول ولو كان الاثر مترتبا على الفرد دون صرف وجود الكلي، لكن يوجد في تطبيقه هنا محذور لم يكن يوجد هناك، وهو أنه في القسم الاول كان بقاء كل من الفردين مشكوكا على تقدير حدوثه، فكان اثر كل من الفردين قابلا للتنجيز، ولكن هنا حيث يعلم بانتفاء الفرد القصير، فليس الاثر المترتب عليه قابلا للتنجيز، ويكون استصحاب الجامع بينه وبين الفرد الطويل من استصحاب الجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبله، كيف  ولو فرض علم وجداني بجامع من هذا القبيل لم يكن منجزا فكيف بالاستصحاب، كما لو علم بوجوب اكرام زيد المردد بين من ليس اكرامه مقدورا قطعا وبين من يكون اكرامه مقدورا قطعا، فان هذا العلم الاجمالي قد يحصل بناء على كون القدرة شرط التنجز لا شرط التكليف، ومع ذلك لا يكون منجزا لوجوب اكرام الفرد الثاني، بل تجري البراءة عنه.

ولا فرق في هذا الاشكال بين كون الاثر المترتب على الفردين متسانخا كترتب وجوب التصدق على الفقير على وجود كل منهما، او مختلفا كترتب وجوب الصدقة على وجود الفرد القصير وترتب وجوب الصلاة على وجود الفرد الطويل.

نعم لا يأتي هذا الوجه فيما اذا اشتبه الاثر الالزامي للفرد القصير مع الاثر الالزامي للفرد الطويل، كما اذا علمنا اجمالا أن وجود احدهما موضوع لوجوب الصدقة ووجود الآخر موضوع لوجوب الصلاة، كان للتعبد ببقاء اليقين الاجمالي من حيث المنجزية اثر[3].

ولا يخفى أن هذا الاشكال مختص بما اذا كان اثر الاستصحاب التعبد بالجامع بين حكمين تكليفيين، دون ما لو كان اصلا موضوعيا نتيجته التعبد بحكم معين، كاستصحاب عدم تذكية صاحب الجلد المطروح، وكيف كان فيرد عليه اولا: لو كان الاستصحاب جاريا في موضوع الحكم التكليفي كما لو كان وجود زيد وعمرو يوم الجمعة موضوعا لوجوب الصدقة والصلاة، واشتبه موضوع وجوب الصدقة عن موضوع وجوب الصلاة، فان استصحاب بقاء احدهما في الدار المعلوم يوم الخميس مبتلى باشكال عدم كونه موضوعا للاثر الشرعي، حتى وان لم يكن مبتلى باشكال كونه جامعا بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبل التنجيز، فلا وجه لما هو ظاهر البحوث من قبول جريان الاستصحاب في هذا الفرض، بعد ما تكرر منه الاشكال السابق.

وثانيا: انه لو كان حكم الفرد القصير والطويل متسانخا كما لو قال المولى “اذا كان زيد في الدار فتصدق” و “اذا كان عمرو في الدار فتصدق” فالظاهر أن الحجة على جامع الحكم كافٍ في حكم العقل بتنجزه، حتى ولو علم بأنه لو كان الحادث هو الحكم الناشء من حدوث الفرد القصير فهو مرتفع قطعا، ولا يأتي فيه اشكال كونه جامعا بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبله، لعدم دخل خصوصية كون الحكم الذي قامت عليه الحجة ناشئا من اي منهما، فيمكن استصحاب وجود احدهما في الدار لتنجيز جامع الحكم، كما أنه لو كان نفس الحكم متيقن الحدوث سابقا فيمكن استصحابه، ولو تم اشكاله فيه لسرى الاشكال الى الفرض الذي قبل عدم كونه من قبيل الجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبله هو ما لو اشتبه حكم الفرد القصير والطويل، وأن حكم أي منهما وجوب الصدقة و الآخر وجوب الصلاة حيث يقال بأن استصحاب احدهما يعني الحجة الاجمالية على الحكم المترتب على الفرد القصير المردد بين وجوب الصدقة او الصلاة او الحكم المترتب على الفرد الطويل كذلك، فان كان ترتب حكم من سنخ واحد كوجوب الصدقة على کل من الفرد القصير والطويل يوجب كون استصحاب جامع وجوب الصدقة من استصحاب الجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبله فيكون فرض تردد الحكم المرتب على الفرد القصير والطويل مثله.

وعليه فاشكال كون الاستصحاب من استصحاب الجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبله يختص بما اذا كان حكم الفرد القصير حكما تكليفيا مغايرا وغير متسانخ مع الحكم التكليفي للفرد الطويل، فيكون استصحاب هذا الحكم او موضوعه من استصحاب الجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبله.

الاشكال الخامس: ، ما في البحوث من أنه لو فرض صلاحية جريان الاستصحاب الجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبله واستتباعه لتنجيز ما يمكن تنجيزه وهو اثر الفرد الطويل فحيث ان منجزية هذا الاستصحاب حيث يكون على وزان منجزية العلم الاجمالي، فبناءا على مسلك الاقتضاء يكون جريان الاصل بلا معارض رافعا لحرمة مخالفته القطعية، فالاصل المؤمن عن الفرد الطويل ان جرى بلا معارض فيكون واردا على منجزية الاستصحاب بلحاظ وجوب موافقته القطعية، وهذا يؤدي الى عدم جريان الاستصحاب بنكتة اللغوية، وبناء على مسلك العلية فيقال بأن الاصل المؤمن عن الفرد الطويل ولو كان هو البراءة يكون معارضا لاستصحاب الجامع، بعد أن لم يكن الاستصحاب حاكما عليه لعدم وحدة موردهما، فلا يكون الاستصحاب رافعا لموضوعه[4].

وما ذكره متجه، ولا يرد عليه ما ذكره في تعليقة مباحث الاصول من أنّه قد يدّعى في المقام ثبوت نكتة حكومة الاستصحاب على البراءة، فان نكتة الحكومة المفترضة للاستصحاب على البراءة لدى وحدة المصبّ هي: أنّ البراءة قيِّد جعلها بفرض الشكّ، و الاستصحاب يرفع الشك، و من الواضح أنّه بناءً على علّيّة العلم الإجمالي للتنجيز يكون جعل البراءة مقيَّدا أيضاً بعدم العلم الإجمالي بالجامع، و الاستصحاب يرفع هذا العدم، و الصحيح في المقام هو التفصيل بين فرض دعوى الحكومة على أساس التنزيل و دعواها على أساس مسلك الاعتبار القائل بأنّ جعل شي‏ء علماً بالاعتبار يخلق له نفس الآثار العقلية من التنجيز و التعذير، فلو قلنا بالحكومة على أساس التنزيل لم يبقَ فرق بين الاستصحاب الجاري في مورد البراءة و الاستصحاب الجاري في الجامع؛ لما مضى من أنّ البراءة كما هي محدّدة بعدم العلم بموردها كذلك هي محدّدة بعدم العلم بالجامع، لفرض الإيمان بالعلّيّة، و قد نزّل الاستصحاب منزلة العلم، و لو قلنا بالحكومة على أساس الاعتبار فبالإمكان التفصيل بين المقامين؛ و ذلك لأنّ تقيّد البراءة بعدم العلم بالتكليف في موردها ثابت في نفس لسان دليل البراءة، و هو قوله “رفع ما لا يعلمون” فليس دليل البراءة قادراً على نفي حدّها، و هو العلم، فدليل الاستصحاب الخالق للعلم يكون حاكماً عليه، و لكن تقيّد البراءة بعدم العلم بالجامع ليس إلّا بدليل العقل الحاكم بعلّيّة العلم الإجمالي للتنجيز، فدليل البراءة ينفي هذا العلم بناءً على ما هو الحقّ من جواز التمسّك بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصّص اللّبّي في مثل المقام، فيقع التعارض بين البراءة و الاستصحاب[5].

اقول: اولا: ان المقصود من الحكومة التقدم العرفي، لا ما يقصده مدرسة المحقق النائيني “ره” المبني على كون الاستصحاب علما بالبقاء، ولا اشكال في تقدم الاستصحاب المخالف للبراءة عليها عرفا فيما كان مصبهما واحدا، بخلاف ما اذا تعدد مصبهما كطرفي العلم الاجمالي او مثل المقام، وثانيا: حتى على مسلك الحكومة لا فرق بين كون الاستصحاب تنزيلا للعلم بالحدوث منزلة العلم البقاء او اعتبارا للعلم بالبقاء، فان المخرج لصورة العلم الاجمالي عن دليل البراءة دليل لبي من حكم العقل او ارتكاز العقلاء الموجب للانصراف، فلم يتعنون عنوان الخارج بالعلم بالجامع حتى يلحق به استصحاب الجامع تنزيلا او اعتبارا، بل لعله ما لا يصح فيه الترخيص في المخالفة.

ثم انه ذكر في تعليقة مباحث الاصول أنه لا وجه -لما في متن الكتاب- من المنع عن شمول هذا الاشكال الخامس لفرض اشتباه حكم الفرد القصير بحكم الفرد الطويل، فان البراءة عن العنوان التفصيلي لكلّ من الحكمين المشتبهين كوجوب الصدقة والصلاة، و إن كانت متعارضة، بعد فرض جريان استصحاب بقاء الجامع، لكن حيث لا تجري البراءة عن حكم الفرد القصير باجماله لكونه مقطوع الارتفاع، فتجري البراءة عن حكم الفرد الطويل باجماله بلا معارض، وبضمها الى العلم الوجداني بانتفاء حكم الفرد القصير يصبح أصل البراءة مانعا عن تأثير استصحاب الجامع فيلغو جريانه بناءً على مسلك الاقتضاء، و يتعارض معه بناءً على مسلك العليّة[6].

ولكنه غير متجه، فان البراءة وحدها عن حكم الفرد الطويل باجماله لا اثر لها ابدا، فانها لا تكفي في التأمين عن مخالفة اي من الحكمين اي وجوب الصدقة او وجوب الصلاة، بخلاف البراءة عن الحكم المعلوم للفرد الطويل، نعم لو انضم اليها العلم بانتفاء حكم الفرد القصير باجماله، ثبت لها الاثر، ولكن حينئذ يكون ذلك مساوقا للترخيص في المخالفة القطعية لاستصحاب الجامع، ولا يقاس بجريان اصل البراءة عن طرف معين من طرفي استصحاب الجامع.

على أنه كما ذكر في كتاب الاضواء لو تم ما ذكره من سلامة اصل البراءة عن حكم الفرد الطويل باجماله، امكن اجراءها حتى في ما لو لم يكن ارتفاع احد الفردين على تقدير حدوثه معلوما تفصيلا وانما علم بارتفاع احد الفردين اجمالا، حيث يمكن الإشارة إلى الفرد غير المعلوم ارتفاعه إجمالًا، فيقال أنّ حكمه منتفٍ باستصحاب عدم حدوثه أو البراءة عنه، و الحكم الآخر منتف وجداناً فلا تنجيز لشي‏ء من الحكمين[7].

الاشكال السادس: ما یقال من أنه لو فرض جریان استصحاب الجامع ای استصحاب بقاء ذلك الواقع الموجود سابقا والذي كان يترتب عليه الاثر الشرعي، فيتعارض مع استصحاب عدم الفرد الطويل لنفي اثره بضمه الى العلم الوجداني بانتفاء الاثر الشرعي المترتب على الفرد القصير، فلو قال المولى “كلما كان انسان في الدار يوم الجمعة فيجب عليك لأجله تصدق على الفقير” او قال “اذا كان زيد في الدار يوم الجمعة فتصدق” و قال “اذا كان عمرو في الدار يوم الجمعة فتصدق” فعلم بوجود احدهما في الدار يوم الخميس واحتمل بقاءه يوم الجمعة اجمالا، ولكن علم بأنه لو كان زيد هو الموجود في الدار سابقا فقد خرج منها يقينا، فاستصحاب عدم كون عمرو في الدار ينفي وجوب التصدق المترتب على وجوده، ونعلم تفصيلا بعدم وجوب التصدق المترتب على وجود زيد، فيتعارض مع استصحاب بقاء ذلك الانسان الموجود في الدار يوم الخميس، المردد بين زيد وعمرو، لاثبات وجوب التصدق، ثم تصل النوبة الى البراءة عن وجوب التصدق.

وهكذا في مثال العلم الاجمالي بنجاسة احد انائين سابقا، ثم العلم التفصيلي بغسل الاناء الشرقي منهما فانه اذا لاقى جسم طاهر لكلا الاناءين فاستصحاب طهارة الاناء الغربي بضم العلم  بطهارة الاناء الشرقي ينفي نجاسة ملاقيهما فيتعارض مع استصحاب نجاسة احدهما المثبت لنجاسة ذاك الملاقي، فتصل النوبة الى قاعدة الطهارة فيهما وفي الملاقي.

هذا بالنسبة الى حكم ملاقي كليهما، وأما بالنسبة الى اجراء اصل الطهارة في احدهما المعين فيما لو حصل العلم الاجمالي بعد خروج احدهما المعين عن الابتلاء بتطهيره مثلا، من دون معارضته مع استصحاب نجاسة احدهما فالظاهر أنه مما لا اشكال فيه ابدا، فيجري استصحاب طهارة الاناء الداخل تحت الابتلاء بلامعارض، ولو فرض معارضته مع استصحاب نجاسة احدهما فتصل النوبة الى قاعدة الطهارة فيه، كما يمكن اجراء البراءة عن الحكم التكليفي بالنسبة اليه، بعد كون قاعدة الطهارة واصل البراءة من الخطاب المختص.

ولو كان الاناءان نجسين سابقا فطهِّر احدهما المعين فقط، فلاقى جسم طاهر احدهما لا بعينه، فاستصحاب نجاسة ما لاقاه هذا الجسم وان كان يثبت نجاسة هذا الجسم، لكن يتعارض مع استصحاب عدم ملاقاته لذلك النجس الواقعي[8].

والانصاف أن اشكال المعارضة قوي، نعم قد يخطر بالبال مطلبان:

احدهما: انه قد مرّ سابقا في دفع شبهة المعارضة بين استصحاب القسم الاول من الكلي واستصحاب عدم الفردين، -في ما كان الاثر مترتبا على العنوان التفصيلي للفردين او على الكلي بنحو المطلق الشمولي، مثل ما لو علم بحصول النجاسة لاحد اناءين يوم الجمعة وشك في بقاء هذه النجاسة يوم السبت- أن استصحاب نجاسة احدهما مقدَّم بنظر العرف على استصحاب الطهارة المتيقنة لكل منهما في يوم الخميس، لكون زمان الحالة السابقة المتيقنة لاستصحاب الكلي اي نجاسة احدهما، هو يوم الجمعة، وزمان الطهارتين السابقتين لكل من الفردين كان يوم الخميس، فالعرف عند المنافاة بين استصحاب الكلي واستصحاب الفردين يرى الاول اولى بالجريان والامر بالبناء العملي والمضي عليه، وان شئت قلت: انه حيث يكون العلم الاجمالي بنجاسة احد الاناءين یوم الجمعة موجبا لسقوط الاستصحابين التفصيليين في طهارة الانائين فی ذلك الیوم، فالعرف يقيس عليه قيام الحجة على بقاء تلك النجاسة ايضا في يوم السبت، ويزيد ذلك وضوحا فيما كان العلم الاجمالي بنجاسة احد الاناءين قبل زمان الشك في بقاءها فاوجب سقوط استصحابي الطهارة في الاناءين، فبعد طرو الشك في البقاء يستنكر العرف عود الاستصحابين.

وحينئذ فيمكن أن يقال في المقام ايضا، بتقدم استصحاب الجامع على استصحاب عدم الفرد الطويل بنكتة أن الحالة السابقة الوجودية المتيقنة للكلي اقرب زمانا من الحالة السابقة المتيقنة لعدم الفرد الطويل، ولكنه غير واضح.

ثانيهما: انه اذا تعارض استصحاب عدم الفرد الطويل مع استصحاب عدم الفرد القصير حين العلم الاجمالي بوجود احدهما، فيما كان لكل منهما اثر مختص يختلف عن أثر الآخر، فبعد العلم بعدم الفرد القصير يجري استصحاب الجامع بلا معارض، ودعوى (أن التقدم الزماني لمعارضة استصحاب عدم الفرد الطويل مع استصحاب عدم الفرد القصير لا يوجب تخلص استصحاب الجامع عن طرفية المعارضة مع استصحاب عدم الفرد الطويل، خصوصا في فرض تقارن العلم بارتفاع الفرد القصير في المستقبل الموجب للشك في بقاء الجامع، مع حدوث العلم الاجمالي، فتتحقق المعارضة بين الاستصحابات الثلاثة في زمان واحد) خلاف الظاهر عرفا.

نعم لا يأتي اشكال المعارضة في مثال استصحاب عدم تذكية صاحب هذا الجلد المطروح، المردد امره بين كونه مشيرا الى الشاة التي يقطع بكونها مذكاة، والشاة التي يقطع بكونها ميتة، فانه لا اصل يجري في العنوان التفصيلي، بل لو فرض دوران امر الشاة بين ما يقطع بكونها مذكاة وما يشك في كونها ميتة، او دار امرها بين ما يقطع بكونها ميتة، وما يشك في كونها مذكاة، فلا يكون استصحاب عدم تذكية الشاة المشكوكة بضم العلم بالتفصيلي بحال الشاة الأخرى مخالفا في النتيجة مع استصحاب عدم التذكية الجاري في العنوان الاجمالي، اي عنوان صاحب هذا الجلد المطروح.

وهكذا لو كان ماء مقطوع النجاسة وماء آخر مقطوع الطهارة فتوضأ من احدهما لا بعينه، ولنفرض عدم جريان قاعدة الفراغ في وضوءه للعلم بالغفلة حال العمل، فاريد تصحيح وضوءه باستصحاب طهارة الماء الذي توضأ منه فانه ليس له معارض.

وكيف كان فتحصل أنه لا مانع من جريان استصحاب الفرد المردد في حد ذاته وفاقا للسيد الخوئي وشيخنا الاستاذ “قدهما”، نعم قد يبتلى في بعض الموارد باشكال كونه جامعا بين ما يقبل النتجيز و ما لا يقبله او اشكال المعارضة مع استصحاب عدم الفرد الطويل.

ثم انه ينبغي في خاتمة بحث الفرد المردد من ذكر نكات:

النكتة الاولى: ان انكار جريان الاستصحاب في الفرد المردد لا يعني الرجوع الى الاصل المؤمن بالنسبة الى حكم الفرد الطويل دائما، بل قد يتنجز بالعلم الاجمالي، كما لو علم يوم الجمعة اجمالا بوجوب اكرام زيد في ذلك اليوم او وجوب اكرام عمرو في يوم السبت، نعم لو لم يحصل العلم باستمرار وجوب اكرام عمرو يوم السبت على تقدير حدوثه يوم الجمعة الا بعد انعدام الفرد القصير وخروج اكرام زيد عن محل الابتلاء لم يكن العلم الاجمالي منجزا.

ولو كان يوم الجمعة شاكا في استمرار وجوب اكرام عمرو على تقدير حدوثه الى يوم السبت فيقال -كما في البحوث- بأنه بناء على كفاية واقع الحدوث في جريان الاستصحاب مطلقا او مع قيام الحجة عليه ولو اجمالا، فيحصل العلم الاجمالي بوجوب اكرام زيد يوم الجمعة واقعا او استصحاب وجوب اكرام عمرو يوم السبت فيكون منجزا، وهكذا في فرض العلم بكون زيد في الدار يوم الجمعة موضوعا لوجوب اكرامه وكون عمرو في الدار يوم السبت موضوعا لوجوب اكرامه فيقال يتشكل علم اجمالي منجز بوجوب اكرام زيد واقعا يوم الجمعة او وجوب اكرام عمرو استصحابا يوم السبت، وهذا مما لا اشكال فيه في حد ذاته.

انما الاشكال في ما يقال بكون هذا الاستصحاب في المثال الثاني[9] الموجب للاحتياط بعد ضمه الى العلم الاجمالي بحدوث احد الفردين يوم الجمعة يكون مبتلىً بالمعارضة مع استصحاب عدم حدوث الفردين، الموجب للتأمين عن وجوب اكرامهما، وكون استصحاب عدم حدوث كون عمرو في الدار وان كان اصلا موضوعيا نافيا لجريان استصحاب بقاءه في الدار على تقدير حدوثه، فتكون علاقته معه كعلاقة الحكم الظاهري مع الحكم الواقعي ويمكن جريانهما معا في حد ذاتهما، لكن في المقام تتحقق المعارضة بين الاستصحابات لأن اثر استصحاب عدم الفردين التأمين عن وجوب اكرامهما واثر استصحاب بقاء عمرو على تقدير حدوثه بضم العلم الاجمالي تنجيز وجوب اكرامهما.

والظاهر توقف الجواب عنها على ما مر منا سابقا من أن العرف حيث يقدِّم العلم الاجمالي بالحكم الواقعي في احد الفردين على استصحاب عدمهما، فيُسري العرف ذلك الى الحجة الاجمالية ولو كانت هي استصحاب الجامع، او التلفيق من العلم الوجداني والاستصحاب كما في المقام، وان شئت قلت: ان العرف يقدم الحالة السابقة القريبة في اجراء الاستصحاب على الحالة السابقة البعيدة، فمع وجود العلم الاجمالي بحدوث احد الفردين يوم الجمعة يرى استصحاب بقاء الفرد الثاني الى يوم السبت على تقدير حدوثه الموجب للاحتياط بعد ضمه الى العلم الاجمالي بحدوث احد الفردين يوم الجمعة، اولى بالجريان من استصحاب عدم الفردين والذي يكون حالته السابقة المتيقنة العدم يوم الخميس.

ثم انه قد يقال -كما في البحوث- بأنه في فرض العلم من يوم الجمعة باستمرار وجوب اكرام عمرو الى يوم السبت على تقدير حدوثه، فمع منجزية العلم الاجمالي لا يعقل جريان استصحاب الفرد المردد، اذ يعني ذلك التعبد ببقاء اليقين الاجمالي بلحاظ اثره العقلي وهو المنجزية، والتعبد به لغو، بعد الجزم ببقاء هذا الاثر للعلم الاجمالي ولو بعد ارتفاع الفرد القصير، حيث يبقى اثر المنجزية بحكم العقل بالنسبة الى الفرد الطويل، بخلاف فرض احتمال استمراره، فانه لا مانع من جريان استصحاب الفرد المردد بناء على القول به، فيكون منجزا لوجوب اكرام عمرو يوم السبت في عرض منجزية العلم الاجمالي بجريان الاستصحاب -بناء على كفاية واقع الحدوث- في نفس وجوب اكرامه[10]، وفيه أنه في الفرض الاول ايضا لا يكون استصحاب الفرد المردد لغوا، بل يكون تأكيدا للتنجيز الثابت بحكم العقل، حتى لو قلنا بأن مفاد الاستصحاب النهي عن النقض العملي لليقين بلحاظ أثره الذي هو المنجزية والمعذرية[11]، فضلا عما اذا قلنا بكونه كناية عن الامر بترتيب آثار المتيقن، فيكون المقام نظير جريان البراءة الشرعية في مورد البراءة العقلية، او جريان استصحاب عدم الامتثال في مورد قاعدة الاشتغال.

النكتة الثانية: ذكر المحقق العراقي “قده” أن اشكال الفرد المردد لا يختص بالاستصحاب، بل يجري في سائر الاصول ايضا، ومثّل له بما اذا صلى نحو اربع جهات، لجهله بالقبلة، ثم علم أن واحدة منها باطلة كأن تكون فاقدة للطهارة او الركوع، فان لم تكن تلك الصلاة معلومة بالتفصيل فلا مانع من اجراء قاعدة الفراغ والتجاوز بلحاظ هذا الخلل في كل من الصلوات الاربعة، وأما اذا كانت معلومة بالتفصيل فمن الواضح عدم جريان القاعدة فيها بعنوانها التفصيلي، وأما جريانها في ما كانت صلاة نحو القبلة، فيكون من الفرد المردد[12].

اقول: لابد من فرض البحث عن جريان قاعدة الفراغ والتجاوز في هذا الفرض في الصلاة التي تكون نحو القبلة واقعا، بما لو بنينا على عدم اختصاصها بموارد عدم محفوظية صورة العمل، واحتمال الالتفات حال العمل، والا فلا يبقى مجال للبحث عن جريانها في المقام، وقد حكي عن السيد الخوئي “قده” أنه ذكر في وجه المنع من جريانها أن الموجود الخارجي هو الذي يشك في صحته و انطباق المأمور به عليه و عدمه، و تكون قاعدة الفراغ محرزة لصحته، ففي المقام حيث ان الموجود الخارجي إما معلوم البطلان أو معلوم الصحة من غير جهة الشك في القبلة، و ليس هناك موجود خارجي يشك في صحته و فساده، حتى يكون مجرى للقاعدة في القبلة فلا معنى لجريان القاعدة.

و ببيان أدق انّا لو سلمنا جريانها فيما كانت صلاة نحو القبلة واقعا، فلا يثبت أن الصلاة نحو القبلة غير هذه الصلاة المعلوم بطلانها تفصيلا، الا بنحو الاصل المثبت، فلا مناص عن اعادة ما هو معلوم البطلان[13].

وفيه أنه بناء على جريان الاصل في الفرد المردد كما هو مختاره “قده” فلا يوجد وجه واضح للمنع عن جريان قاعدة الفراغ في الصلاة نحو القبلة واقعا، بعد صدق الشك في صحة تلك الصلاة، وان كانت تلك الصلاة مرددة بين ما يقطع بالخلل فيها وبين ما يقطع بعدمه، كما أن التعبد بصحة الصلاة نحو القبلة واقعا كافٍ في احراز امتثال التكليف، ولا حاجة الى اثبات أن الصلاة نحو القبلة غير هذه الصلاة المعلومة البطلان، نعم كان بامكانه المنع عن جريان القاعدة لاشكال آخر، وهو أن شرط جريانها عنده عدم محفوظية صورة العمل واحتمال الالتفات حال العمل، وهذا مفقود في المقام، ولكن لا يأتي هذا الاشكال فيما لو كان الاصل المصحح قاعدة الطهارة فی الماء فيما اذا اتى كل صلاة بوضوء، واختلف ماء وضوء كل من الصلوات الاربع، ثم علم تفصيلا بنجاسة ماء وضوء الصلاة الأخيرة مثلا، او كان الاصل المصحح هو استصحاب بقاء الوضوء الذي كان للصلاة نحو القبلة واقعا، فيما لو اتى كل صلاة بوضوء، ثم علم بانتقاض وضوءه في صلاة معينة منها، وان شئت قلت: اي فرق بين هذا الاستصحاب وبين استصحاب عدم تذكية صاحب الجلد المطروح المردد بين كونه هذه الشاة المذكاة قطعا او تلك الشاة الميتة قطعا، فما قد يقال من أن العرف لا يقبل وجود الشك في الطهارة في أي من هذه الصلوات، وانما يرى تمحض الشك في كون اي منها نحو القبلة ان تم فيكون اشكالا عاما في جميع موارد استصحاب الفرد المردد.

هذا وقد ذكر السيد الصدر “ره” في بحوثه في الفقه أنه لو كان هناك ماء مقطوع الطهارة وماء مقطوع النجاسة وتوضأ من احدهما ثم شك في أنه هل توضأ من الاول او الثاني وفرضنا عدم جريان قاعدة الفراغ فيه لغفلته حال العمل فقد يقال بجريان قاعدة الطهارة فيه دون استصحاب الطهارة، وذكر في وجهه أن استصحاب الطهارة فيه من قبيل استصحاب الفرد المردد، حيث انه ان أريد إجراءه في واقع الماء المتوضأ به فهو بين معلوم الطهارة و بين معلوم النجاسة، و ان أريد إجراءه في عنوان الماء المتوضأ به فلا اثر له، لأن الأثر مترتب على طهارة ذات الماء، لا على طهارته بما هو مستعمل في الوضوء، بمعنى ان الوضوء بالماء و كونه طاهرا مأخوذان بنحو التركيب وفي عرض واحد، فلابد من الوضوء بماء، و كونه طاهرا، و هذا يعيِّن إجراء الأصل في ذات الماء، و لو فرض أخذ الموضوع بنحو التقييد و أخذ الطهارة شرطا بما هي طهارة للماء المتوضأ به بهذا العنوان لما أمكن إثبات الشرط باستصحاب الطهارة لكونه مثبتا، وأما قاعدة الطهارة فقد يقال بأنه يمكن إجراءها في واقع الماء المتوضأ به، و هو و ان كان مرددا بين معلوم النجاسة و معلوم الطهارة، و لكن لا محذور مع ذلك في جعل قاعدة الطهارة فيه، لا ثبوتا، لأن جعل الحكم الظاهري معقول ما دام الواقع غير منجز بالعلم التفصيلي، و لا إثباتا، لأن المفهوم عرفا من الغاية في قوله “حتى تعلم أنه قذر، (فاذا علمت فقد قذر، وما لم تعلم فليس عليك)” جعل العلم غاية بما هو منجز و قاطع للعذر، لا أخذ الشك بعنوانه في موضوع الأصل تعبدا، فلا تكون الغاية حاصلة فتجري قاعدة الطهارة، و يصحح بها الوضوء[14].

اقول: ان لم يجر قاعدة الطهارة في عنوان الماء المتوضأ به ولزم اجراءها في ذات الماء، فالعلم بكون الماء الشرقي نجسا وان لم يكن منجزا لبطلان الوضوء، لكنه منجز لنجاسة ذلك الماء باعتبار كون نجاسته موضوعا لأحكام الزامية وهذا يكفي في احتمال صدق غاية قاعدة الطهارة وان قلنا بكونها هي العلم المنجز بالنجاسة ان لم نجزم بصدقها، هذا مضافا الى  أنه لا وجه لتقييد العلم في  قوله “كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر” بالعلم المنجز.

النكتة الثالثة: المشهور في الشبهات المفهومية كالشك في كون المغرب هو استتار القرص او زوال الحمرة المشرقية المنع عن جريان الاصل الموضوعي، وان ذهب بعضهم الى جريانه، كالسيد الامام “قده” في بعض ابحاثه، حيث اجاب عن اشكال عدم الشك في الخارج، للعلم باستتار القرص وعدم زوال الحمرة، وإنما الشك في معنى لغوي، وهو غير مجرى الاستصحاب، بأن ذلك صار منشأ للشك في بقاء اليوم؛ إذ من الواضح أنه بعد استتار القرص وقبل زوال الحمرة يشك في بقاء النهار، وإن كان منشأ الشك أمرا لغويّاً، ولا يعتبر فيه غير الشك في بقاء القضية المتيقنة([15])، وهكذا بعض الاعلام “قده” في مباني منهاج الصالحين.

وذكر المحقق العراقي “قده” أن وجه المنع عن جريان الاستصحاب الموضوعي في الشبهة المفهومية هو كونه من قبيل استصحاب الفرد المردد، ووافقه في ذلك في البحوث،  فلو ورد “اكرم كل عالم” ثم ورد في خطاب آخر “لا تكرم العالم الفاسق” وتردد لفظ الفاسق بين وضعه لمعنى العاصي، او لمعنى مرتكب المعصية الكبيرة، فليس موضوع العام هو العالم الذي ليس مصداقا للمعنى الموضوع له للفظ الفاسق، بل يشكّ في أنه هل هو العالم الذي ليس مرتكب المعصية او العالم الذي ليس مرتكب الكبيرة، ومع كون موضوع العام كذلك، فلا مجال لاستصحاب كون زيد العالم مثلا فاسقا، فيما لو كان سابقا مرتكبا للكبيرة، ولكنه الآن مرتكب للصغيرة فقط، او استصحاب عدم كون عمرو العالم فاسقا، فيما كان سابقا مجتنبا عن المعصية، والآن يرتكب الصغيرة، لأنه يكون من قبيل الاستصحاب في الفرد المردد، حيث ان عنوان الموضوع له للفظ الفاسق ليس موضوعا للاثر الشرعي، وانما هو مشير الى واقع المفهوم الذي هو بعنوانه التفصيلي موضوع للاثر الشرعي، وهذا مما لا يتم فيه اركان الاستصحاب، لان المشار اليه إما أنه المفهوم الموسع أي مرتكب المعصية، او المفهوم المضيق وهو مرتكب الكبيرة، وليس أي منهما مشكوكا فعلاً، حيث ان زيدا وعمروا مرتكبان للصغيرة وليسا مرتكبين للكبيرة فعلا جزما، بينما أنه لو كان موضوع العام من لم‌ يكن مصداقا لما وضع له لفظ الفاسق فيكون الشكّ في حكم العالم المرتكب للصغيرة من قبيل الشبهة المصداقية للمخصص، للعلم بعنوان المخصص والشكّ في مصداقه، فيمكن اجراء الاستصحاب الموضوعي.

ولكن قد اختار جمعٌ من المنكرين لجريان الاستصحاب الموضوعي في الشبهة المفهومية، -مثل السيد الخوئي وشيخنا الاستاذ “قدهما”- جريان الاستصحاب في الفرد المردد، فليس مستندهم ذلك، نعم ذكر السيد الخوئي في تقريب المنع من جريان الاستصحاب في الشبهة المفهومية كاستصحاب عدم المغرب بعد استتار القرص وقبل ذهاب الحمرة المشرقية أنه لا شك لنا في شي‏ء، فإن استتار القرص مقطوع الوجود وذهاب الحمرة مقطوع العدم، فلا شك إلّا في أن لفظ المغرب هل وضع على مفهوم يعم استتار القرص أم لا([16])، ولكن يمكن أن يكون مرجع كلامه الى دعوى أن العرف يرى كون الشك في سعة الوضع وضيقه، او فقل ان الشك في مراد المولى، لا في بقاء شيء معلوم الحدوث، وهذا غير بعيد، والشاهد عليه أنه مع غمض العين عن ذلك يمكن اجراء الاستصحاب الموضوعي في ما لو شك في أن الشارع هل اخذ عنوان استتار القرص موضوعا لحكمه او اخذ عنوان زوال الحمرة المشرقية، فيلحظ عنوان ما أخذه الشارع موضوعا لحكمه مشيرا الى الواقع المردد بين ما هو مقطوع الارتفاع وما هو مقطوع البقاء، كما كان يلحظ ما وضع له لفظ اليوم مثلا مشيرا اليه، وبذلك اتضح أنه يختلف الاستصحاب الموضوعي في الشبهات المفهومية عن سائر امثلة استصحاب الفرد المردد كمثال الجلد المردد بين كونه لشاة مذكاة جزما او لشاة ميتة جزما.

النكتة الرابعة: اورد المرحوم السيد اسماعيل الصدر “قده” على استصحاب القسم الثاني من الكلي شبهة سميت بالشبهة العبائية، و حاصلها: أنّا لو فرضنا عباءة عُلم إجمالًا بنجاسة أحد طرفيها و غسلنا الطرف الأيمن منها مثلاً، ثم لاقت يدنا مع الطرف الأيسر، فلا اشكال في الحكم بطهارة اليد، لأنها لاقت مع أحد طرفي العلم الإجمالي بعد تطهير الطرف الآخر[17]، و لكن لو فرض ملاقاتها ثانياً مع الطرف الأيمن‏ المغسول كانت النتيجة بناء على قبول جريان الاستصحاب في القسم الثاني من الكلي هي الحكم بنجاستها، لأنها لاقت ما كان نجسا سابقا بالوجدان، ويستصحب الآن بقاء نجاسته، و هذا يعني انَّ ملاقاة اليد مع الطاهر توجب النجاسة، و هذا مما لا یمکن الالتزام به، فيكون هذا نقضا على القول بجريان استصحاب القسم الثاني من الكلي.

ثم ان ظاهر الاعلام عدم الفرق في الشبهة العبائية بين ما إذا كانت ملاقاة اليد مع الطرف غير المغسول أولاً، ثم مع الطرف المغسول ثانيا وبين ما اذا كانت ملاقاتها مع الطرف المغسول اولاً، ولكن ذكر في البحوث أنَّ الصحيح اختصاصها بالفرض الاول، حيث انه في الفرض الثاني يعلم بطهارة اليد بعد الملاقاة مع الطرف المغسول، فيجري استصحابها بعد ملاقاتها للطرف غير المغسول، واستصحاب نجاسة احد طرفي العباءة لا يكون حاكما عليه، لوضوح أن النجاسة المرددة بين الطرفين على تقدير ثبوتها ترفع الطهارة الثابتة لليد لما قبل الملاقاتين معاً، و أمّا الطهارة الثابتة له بين الملاقاتين فبقاءها بعد الملاقاتين ليس محكوماً لتلك النجاسة المرددة، و انما يكون محكوماً لنجاسة الطرف الثاني غير المغسول، و هي لا تثبت باستصحاب كلي النجاسة إلّا بنحو الأصل المثبت، وعليه فيكون استصحاب نجاسة احد طرفي العباءة معارضا مع استصحاب طهارة اليد فيرجع الى قاعدة الطهارة، و هذا البيان لا يجري في الفرض الاول، فان طهارة اليد بعد الملاقاة مع الطرف غير المغسول اولاً و ان كانت ثابتة بالاستصحاب، لكن بعد الملاقاة مع الطرف المغسول لا يجري استصحاب الطهارة الثابتة لما بين الملاقاتين، -حتى يقال بعدم حكومة استصحاب النجاسة المرددة بين الطرفين عليه- اذ يعلم ببقاء هذه الطهارة على تقدير ثبوتها بعد الملاقاة الاولى، لما بعد الملاقاة الثانية التي كانت مع الطرف المغسول، فليس في البين شك في بقاء الطهارة على تقدير ثبوتها بين الملاقاتين حتى يجري استصحاب آخر بلحاظه، نعم بعد الملاقاة الاولى التي كانت مع الطرف غير المغسول جري استصحاب واحد للطهارة ولكن هذا الاستصحاب بعد الملاقاة الثانية التي كانت مع الطرف المغسول يكون محكوما لاستصحاب موضوعي، وهو كون ما لاقاه في احدى الملاقاتين نجسا[18].

وفيه أنه أن استصحاب الطهارة المتيقنة لليد بعد الملاقاة الاولى التي كانت مع الطرف المغسول في الفرض الثاني اصل حكمي مهما فرض زمان اليقين بثبوته، فيتقدم عليه الاستصحاب الموضوعي الجاری بعد الملاقاتين من ملاقاة اليد للنجس، نعم کان بامکانه ایقاع المعارضة بين هذا الاصل الموضوعي واصل موضوعي آخر وهو استصحاب عدم ملاقاتها بعد تلك الطهارة المتيقنة -الثابتة لما بعد الملاقاة الاولى مع الطرف المغسول- مع ذاك الطرف الذي كان نجسا واقعا، ولكن قد يجاب عنه بأنه انما يجري الاصل الموضوعي الثاني لو كان موضوع بقاء الطهارة في الجسم كونه طاهرا في زمانٍ، وعدم ملاقاته للنجس بعده، ولكنه لم يثبت ذلك بدليل، بل الظاهر من الادلة أن كل جسم غير عين النجاسة طاهر ما لم يلاق النجس اي ما لم يتحقق فيه طبيعة الملاقاة مع النجس، فاذا تحققت فيه هذه الطبيعة حكم بنجاسته ما لم يغسل، واستصحاب عدم الملاقاة للنجس في فترة خاصة اي ما بعد الملاقاة الاولى التي كانت مع الطرف المغسول الى الآن لا ينفي الا حصة من الملاقاة للنجس، ونفي الطبيعة باستصحاب عدم الحصة بضم العلم الخارجي بعدم ترتب الاثر على الحصة الآخرى وهي الملاقاة الاولى ولو كان الملاقى فيه نجسا سابقا يكون من الاصل المثبت، فتأمل، نعم لا يرد على هذا الاصل الموضوعي الاشكال بأن الملاقاة مع النجس عنوان مركب من الملاقاة لشيء وكون ذلك الشيء نجسا، والشك في الجزء الثاني وهو كون ذلك الطرف غير المغسول نجسا، الا أن المفروض سقوط استصحاب عدم كون الطرف غير المغسول نجسا بمعارضته مع استصحاب عدم كون الطرف المغسول قبل غسله نجسا، فان المستصحب كان هو عدم الملاقاة بعد الطهارة المتيقنة مع ذلك النجس الواقعي، ولا محذور فيه من هذه الجهة فهو نظير ما ذكروه من أنه لو كان ماء كرا والآخر قليلا فوقعت نجاية في احدهما غير المعين، فان كانت حالتهما السابقة القلة تعارض استصحاب قلة ما وقع فيه النجس مع استصحاب عدم وقوعه على ذلك القليل الواقعي[19].

وعليه فلا يبعد عدم الفرق بين الفرضين في الشبهة العبائية، وقد أجيب عن هذه الشبهة بعدة اجوبة:

الجواب الاول: ما عن المحقق النائيني “ره” فی بعض دوراته الاصولية من أنّ الاستصحاب الجاري في مثل العباء ليس من استصحاب الكلي في شي‏ء، لأن استصحاب الكلي إنما هو فيما إذا كان الكلي المتيقن مردداً بين فرد من الصنف الطويل و فرد من الصنف القصير، كالحيوان المردد بين البق و الفيل على ما هو المعروف، بخلاف المقام، فان التردد فيه في خصوصية مكان النجس، و التردد في خصوصية المكان أو الزمان لا يوجب كلية المتيقن، فليس الشك حينئذ في بقاء الكلي و ارتفاعه حتى يجري الاستصحاب فيه، بل هو من قبيل استصحاب الفرد المردّد الّذي قد تقدّم المنع عن جريان الاستصحاب فيه عند ارتفاع أحد فردي الترديد، فهو نظير ما لو علم بوجود الحيوان الخاصّ في الدار و تردّد بين أن يكون في الجانب الشرقي أو في الجانب الغربي ثمّ انهدم الجانب الغربي و احتمل أن يكون الحيوان تلف بانهدامه، أو علم بوجود درهم معيَّن لزيد فيما بين هذه الدراهم العشر، ثمّ ضاع أحد الدراهم اجمالا، و احتمل أن يكون هو درهم زيد، فلا يجري فيه الاستصحاب، لأنّ المتيقّن السابق أمر جزئيّ حقيقيّ لا ترديد فيه، و إنّما الترديد في مكانه ومحلّه فهو أشبه باستصحاب الفرد المردّد عند ارتفاع أحد فردي الترديد، و ليس من الاستصحاب الكلّي[20].

اقول : لا اشكال في كون مثال العباءة من قبيل الفرد المردد، اذ الاثر الشرعي للمتنجس ثابت للكلي بنحو المطلق الشمولي، فان اثر المانعية في الصلاة والمنجسية للملاقي ثابت لكل متنجس، فاستصحابه يبتني على قبول استصحاب الفرد المردد، كما سيأتي توضيحه، ولكن التمثيل للفرد المردد بالجهل في موت زيد لاشتباه مكان وجوده لا يخلو عن غرابة، فان استصحاب حياته من استصحاب الفرد المعين، ويجري استصحابه بلا اشكال، و هكذا الحال في العلم الاجمالي بتلف احد الدراهم، مع احتمال كون التالف درهم زيد المعينة، فان استصحاب بقاء درهم زيد يكون من استصحاب الفرد المعين، ويجري بلا اشكال، نعم لو ترتب اثر شرعي آخر على بقاء درهم غيره فقد يعارضه استصحاب بقاء درهم غيره.

الجواب الثاني: ما حكي عنه في دورته الاصولية الأخيرة من أن الاستصحاب المدعى في المقام لا يمكن جريانه بنحو مفاد كان الناقصة، بأن يشار إلى طرف معين من العباءة، و يقال: إن هذا الطرف كان نجساً و شك في بقاءها، فالاستصحاب يقتضي نجاسته، و ذلك لأن أحد طرفي العباء مقطوع الطهارة و الطرف الآخر مشكوك النجاسة من أول الأمر، و ليس لنا يقين بنجاسة طرف معين يشك في بقاءها ليجري الاستصحاب فيها، نعم يمكن إجراءه بنحو مفاد كان التامة بأن يقال إن النجاسة في العباءة كانت موجودة، فالآن كما كانت، إلا أنه لا تترتب نجاسة الملاقي على هذا الاستصحاب إلا على القول بالأصل المثبت، لأن الحكم بنجاسة الملاقي يتوقف على نجاسة ما لاقاه و تحقق الملاقاة خارجاً، و من الظاهر أن استصحاب وجود النجاسة في العباءة لا يثبت ملاقاة النجس إلا على القول بالأصل المثبت، و عليه فلا تثبت نجاسة الملاقي للعباء[21].

و فيه أنه يمكن اجراء الاستصحاب بنحو مفاد كان الناقصة في الطرف الواقعي الذي كان نجسا فنستصحب نجاسته وملاقاة اليد له محرزة بالوجدان، نعم ان كان مقصوده كونه من قبيل استصحاب الفرد المردد فهو في محله، لكن لا يتم الا على مبنى انكار جريان الاستصحاب في الفرد المردد.

و أما ما ذكره من أن مانعية العباءة في الصلاة ثابتة بقاعدة الاشتغال فلا يمكن جريان استصحاب النجاسة، ففيه مضافا الى أن المانع كما أختاره سابقا هو النجاسة المعلومة او المتنجزة، فان لم يجر استصحاب النجاسة فتجري البراءة عن مانعية العباء، نعم لو كان العلم الاجمالي بنجاسة احد طرفي العباء حاصلا قبل غسل احد طرفيه كفي العلم الاجمالي بعد تعارض اصل الطهارة في طرفيه في تنجيز نجاسة الطرف الآخر، ولكن اذا كان العلم الاجمالي حاصلا بعد غسل احد طرفيه، فنحتاج الى استصحاب النجاسة، والا جرى اصل الطهارة في الطرف غير المغسول بلا معارض.

الجواب الثالث: ما في البحوث من أنَّ استصحاب النجاسة المرددة في العباءة لا يجري، إذ لو أُريد به استصحاب واقع النجاسة المرددة بين الطرفين فهو من استصحاب الفرد المردد والصحيح عدم جريانه، و ان أُريد به استصحاب جامع النجاسة أي النجاسة المضافة إلى العباءة بلا ملاحظة هذا الطرف أو ذاك فهذا الاستصحاب، و ان كانت أركانه تامة، إلّا انه لا يترتب على مؤداه نجاسة اليد الملاقية مع الطرفين إلّا بالملازمة العقلية، لأنَّ نجاسة الجامع لو فرض محالًا وقوفها على الجامع و عدم سريانها إلى هذا الطرف أو ذاك فلا تسري إلى الملاقي، لأنَّ نجاسة الملاقي موضوعها نجاسة هذا الطرف أو ذاك الطرف لا الجامع بما هو جامع، و إثبات نجاسة أحد الطرفين بخصوصه بنجاسة الجامع يكون بالملازمة العقلية، و لعل هذا هو مقصود المحقق النائيني “قده” من جوابه على هذه الشبهة بأنه من الأصل المثبت[22].

اقول: أما اشكاله على استصحاب بقاء نجاسة الطرف الذي كان نجسا واقعا بكونه من قبيل الفرد المردد فتام على مبناه من انكار استصحاب الفرد المردد، وأما ما ذكره من تمامية اركان استصحاب جامع النجاسة اي نجاسة العباءة بما هي مضافة الى العباءة من دون ملاحظة هذا الطرف او ذاك الطرف، فان اريد منه تمامية اركان الاستصحاب في صرف وجود كون العباءة نجسة، لكن يستشكل عليه أن صرف الوجود ليس موضوعا للاثر الشرعي، فلم يكن بحاجة الى هذا التكلف، فان نكتة عدم جريان استصحاب عدم كون احد طرفي العباءة نجسا هو عدم كون هذا الجامع الانتزاعي موضوعا للاثر الشرعي، لكون الحكم انحلاليا.

الجواب الرابع: ما قد يقال من أن استصحاب نجاسة الطرف الذي كان نجسا وان كان يثبت تنجس ملاقي طرفي العباءه، لكن يعارضه استصحاب طهارة الطرف غير المغسول بضم العلم الوجداني بطهارة الطرف المغسول، بعد أن كان الاثر ثابتا للكلي بنحو المطلق الشمولي، فيكون المرجع بعد ذلك قاعدة الطهارة في الملاقى والملاقي.

ولكن يمكن أن يقال: انه بعد تعارض استصحاب طهارة الطرف غير المغسول مع استصحاب طهارة الطرف المغسول قبل غسله، وتساقطهما في زمان سابق، لاجل العلم الاجمالي بنجاسة احدهما، فاذا غسل احد طرفيها فيجري استصحاب نجاسة العباءة،  من دون أن يراه العرف مبتلىً بالمعارضة مع استصحاب طهارة الطرف المغسول، ودعوى (أن التقدم الزماني لمعارضة استصحاب عدم الفرد الطويل مع استصحاب عدم الفرد القصير لا يوجب تخلص استصحاب الجامع عن طرفية المعارضة مع استصحاب عدم الفرد الطويل، خصوصا في فرض تقارن العلم بارتفاع الفرد القصير في المستقبل الموجب للشك في بقاء الجامع، مع حدوث العلم الاجمالي، فتتحقق المعارضة بين الاستصحابات الثلاثة في زمان واحد) خلاف الظاهر عرفا.

نعم لو حصل العلم الاجمالي بحدوث نجاسة العباءة سابقا بعد غسل احد طرفيها فيتعارض استصحاب طهارة الطرف غير المغسول بضم العلم الوجداني بطهارة الطرف المغسول، مع استصحاب نجاسة العباءة، الا أن يقال بتقدم استصحاب الجامع على استصحاب عدم الفرد الطويل بنكتة أن الحالة السابقة الوجودية المتيقنة للكلي اقرب زمانا من الحالة السابقة المتيقنة لعدم الفرد الطويل، الا أنه غير واضح.

الجواب الخامس: ان غرابة الالتزام بالنقض اي نجاسة اليد المحكومة بالطهارة بعد ملاقاته للطرف غير المغسول من العباءة بمجرد ملاقاته للطرف المغسول منها، توجب انصراف دليل الاستصحاب عنه فقط، ولا توجب انصرافه عن الشمول للفرد المردد باطلاقه، فضلا عن القسم الثاني من الكلي.

الا أن الظاهر كما ذكره السيد الخوئي “قده” أنه لا مانع من الالتزام بنجاسة الملاقي للطرفين معا، فان التفكيك في الاحكام الظاهرية الناشئة عن جريان الأصول العملية كثير جداً، كالحكم ببقاء الحدث وبقاء الطهارة من الخبث في من توضأ بمايع مردد بين البولية والمائية، او ايجاب القصر على من وصل في حال رجوعه الى بلده بمكان يشك في كونه داخل حد الترخص، وايجاب التمام على من وصل اليه حال خروجه من بلده، فبعد ملاقاة اليد مثلا لجميع أطراف العباء نقول: إنا  نعلم بالوجدان أن اليد قد لاقت طرفا لاقى الدم مثلا، ونستصحب عدم غسله فنحكم ببقاء نجاسته بالاستصحاب الجاري في الفرد المردد، فبذلك ينقح موضوع تنجس اليد، وان كان المؤثر لضم الوجدان الى الاصل لتنقيح موضوعه ملاقاة اليد للطرف المغسول، والا لم يحرز ملاقاتها لما كان نجسا سابقا، ولذا كان يحكم بطهارتها عند ملاقاة الطرف غير المغسول فقط، استنادا الى اصل الطهارة، من دون وجود اصل موضوعي عليه، والحاصل أن استغراب العرب انما ينشأ من التعبير بتنجس اليد عند ملاقاة الطرف المغسول، مع عدم احتمال تأثيرها في تنجسه واقعا، فلا يستغرب العرف لو بيِّن له أنه قبل هذه الملاقاة كنا نحكم بطهارته ظاهرا لقيام حجة على نجاسته، ولكن بعد تحقق هذه الملاقاة نحكم بنجاسته ظاهرا لقيام الحجة عليها بجريان الاصل الموضوعي، وان لم نحتمل دخل هذه الملاقاة في الحكم الواقعي، نظير ما لو شك بعد الطواف وقبل صلاة الطواف في وضوءه له فقاعدة الفراغ وان كانت تحكم بصحة الطواف ظاهرا، لكنها حيث لا تثبت الوضوء فلابد من الوضوء لصلاة الطواف ظاهرا، مع عدم احتمال دخله في صحة صلاة الطواف، فانه إن كان متوضأ للطواف فلا يحتاج الى تجديد الوضوء و ان كان محدثا فتبطل صلاته لعدم طواف صحيح قبلها.

النكتة الخامسة: ذكر السيد الخوئي “قده” في ذيل استصحاب القسم الثاني من الكلي فرعا وهو أنا إذا علمنا بنجاسة شي‏ء فعلا، و شككنا في أن نجاسته ذاتية غير قابلة للتطهير أو عرضية قابلة له، كما إذا علمنا بأن هذا الثوب من الصوف نجس فعلا، و لكن لا ندري أن نجاسته لكونه من صوف الخنزير، أو لملاقاة البول مثلا، فعلى القول بجريان الاستصحاب في العدم الأزلي كما هو المختار، نحكم بعدم كونه من صوف الخنزير و بطهارته بعد الغسل، و أما على القول بعدم جريان الاستصحاب في العدم الأزلي فلابد من التفصيل بين ما لو شك في طهارته او نجاسته الذاتية قبل العلم يجامع نجاسته وبين ما لو لم يشك فيها قبل ذلك، ففي الفرض الاول فحيث انه قبل طرو النجاسة العرضية عليه كان محكوماً بالطهارة، لقاعدة الطهارة، فيجري عليه أحكام الطاهر، و من جملتها أنه يطهر من النجاسة العرضية بالتطهير الشرعي، فلا مجال لجريان استصحاب كلي النجاسة، لكونه محكوماً بالأصل الموضوعي، وعلى الثاني يجري استصحاب كلي النجاسة بعد غسله، ويكون من قبيل استصحاب القسم الثاني من الكلي، حيث يعلم بجامع نجاسة مرددة بين كونها نجاسة ذاتية تبقى بعد غسله بالماء، وبين كونها نجاسة عرضية ترتفع بغسله بالماء، (نعم لو كان النجس بالذات يتنجس بالملاقاة، كان استصحاب النجاسة من استصحاب القسم الثالث من الكلي، حيث انه يحتمل ان يكون مع النجاسة الزائلة بالغسل نجاسة ذاتية، لكن هذا الاحتمال غير عرفي)[23].

اقول: يرد عليه اولا: انه كان بامكانه اجراء اصل الطهارة فيه فعلاً بلحاظ ما قبل العلم بابتلاءه بجامع النجاسة، نعم لو فرض العلم بكون شيء نجسا من بدء وجوده، وشك في كون نجاسته ذاتية او عرضية، فلا مجال لاجراء اصل الطهارة فيه بلحاظ اي زمان.

وثانيا: ان موضوع ما يطهر بالغسل ان كان هو كل جسم طاهر طرأ عليه النجاسة فيتم ما ذكره من امكان احراز موضوعه باجراء اصل الطهارة فيه او استصحاب العدم الازلي لنفي كونه صوف خنزير حيث يثبت به كونه جسما طاهرا سابقا، لكن توجد هنا مشكلتان:

احداهما: انه لا دليل على أن موضوع ما يطهر بالغسل هو ذلك، فلعل موضوعه هو كل جسم ليس بصوف خنزير مثلا فلا يجدي في اجراء الاصل الموضوعي الا التشبث بذيل استصحاب العدم الازلي فيبتني على القول بجريانه.

ثانيتهما: انه لو فرض كون الموضوع لما يطهر بالغسل هو الجسم الطاهر فليس المراد منه هو الجسم الطاهر بطهارة فعلية، فقد يكون جسم متنجسا بنجاسة عرضية من بدأ تكونه كالنبات في مكان نجس، ويكون قابلا للتطهير بالغسل، وقد يكون جسم طاهرا بالفعل سابقا ثم صار نجسا بالذات كجلد الميتة، فلا يكون قابلا للغسل، فيكون المراد منه هو الطاهر بالذات، وحينئذ فقد يقال بأن قاعدة الطهارة لا تثبت عنوان الطهارة الذاتية، وانما تثبت عنوان الطهارة الفعلية، وقد اشكل السيد الخوئي “قده” بمثل ذلك في مسألة الصلاة في اللباس المشكوك المردد كونه من اجزاء ما لا يؤكل لحمه او من اجزاء ما يؤكل لحمه، حيث قال: انه لا يمكن احراز كون الحيوان المتخذ منه هذا اللباس حلالا بالذات باجراء قاعدة الحل، فانها لا تثبت الا كونه حلالا بالفعل، وبين الحلال الذاتي والحلال بالفعل عموم من وجه، فتجوز الصلاة في اجزاء شاة يحرم لحمها لكونه مسموما مضرا بالبدن، كما تحرم الصلاة في اجزاء حيوان محرم بالذات وان اضطر الى اكل لحمه للعلاج ونحوه([24]).

ويمكن حل المشكلة الاولى بأن يقال: ان احتمال أن لا يكون الموضوع لما يطهر بالغسل كل جسم لا يكون من العناوين التفصيلية لاعيان النجاسة كالكلب والخنزير ونحوهما، احتمال غير عرفي، اذ بعد وجود عنوان جامع كعنوان الطاهر قبل اصابة النجس يكون لحاظ هذه العناوين التفصيلية خلاف الظاهر.

كما أنه يمكن حل المشكلة الثانية بأن يقال: ان الطاهر بالفعل اخص مطلقا من الطاهر بالذات واثبات الاخص كاف لاثبات الاعم عرفا كالتعبد بالايمان فانه كاف في التعبد بالاسلام، او يقال: انه مع جريان قاعدة الطهارة فالغفلة النوعية تشكل دلالة التزامية للخطاب، في أنه يترتب عليه جميع آثار الطهارة الواقعية، ومنها أنه لو اصابه النجس فيمكن تطهيره بالغسل.

الا أن التمسك بقاعدة الطهارة في مورد الشك في النجاسة الذاتية مبني على كون كلمة “قذر” في موثقة عمار “كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر” بصيغة الصفة المشبهة، ولكنه غير واضح، اذ من المحتمل أن تكون بصيغة الفعل الماضي، ومن الواضح أنها حينئذ تختص بالشك في طرو النجاسة على الجسم الطاهر بالذات، فلا تشمل المقام، فيشكل الحكم بطهارة ما شك في نجاسته الذاتية، فيما لاقى القذر ثم غسل بالماء.

النكتة السادسة: ذكر في البحوث أنه اذا علم بحدوث مجعول وشك في بقاءه لدوران امر جعله بين جعل قصير و جعل طويل، فتارة تكون الشبهة فيه حكمية كما إذا علم بصدور أحد جعلين لوجوب الجلوس في المسجد إما جعل قصير لمدة ساعة أو طويل لمدة ساعتين، فالصحيح أن الاستصحاب فيه في بقاء المجعول ليس بنحو الكلي، وانما هو بنحو الشخصي و التردد في كيفية جعله، كيف و إلّا كان استصحاب الحكم في تمام موارد الشبهات الحكمية من استصحاب الكلي.

و أخرى تكون الشبهة موضوعية كما إذا علم بوجوب الجلوس يوم الجمعة ساعة و يوم السبت ساعتين و شك في انَّ هذا اليوم جمعة أو سبت، أو علم بوجوب الجلوس ساعة إذا جاء زيد و ساعتين إذا جاء خالد و علم بمجي‏ء أحدهما، فقد يقال فيه بعدم جريان الاستصحاب، لأنه من موارد الشك في انَّ الوجوب الّذي صار فعلياً هل هو الجعل القصير أو الطويل، و حيث يعلم بوجود جعلين و يشك في ما هو الفعلي منهما يكون لا محالة من استصحاب الكلي و الجامع بين الفردين فيكون من الجامع بين ما يقبل التنجيز وهو الجعل الطويل و ما لا يقبل التنجيز و هو الجعل القصير وهو لا يقبل التنجيز.

فاجاب عنه في البحوث بجوابين:

الجواب الاول: انَّ الجامع بين الحكمين يقبل التنجيز في المقام لكون متعلق الوجوبين شي‏ء واحد و هو الجلوس في المسجد، فجامع الوجوبين متعلق بجامع الجلوس بحيث لو فرض محالًا تحقق هذا الجامع بدون خصوصية كان منجزاً لمتعلقه و داخلًا في العهدة فيمكن إثباته بالتعبد الاستصحابي.

اقول: هذا الجواب وان كان تاما عندنا، لكنه خلف مبناه من جعل استصحاب الجامع فيما كان حكمه انحلاليا وشموليا بالنسبة الى افراده او كان الحكم المترتب على الفرد القصير والطويل متسانخا كما لو قال “اذا كان زيد في الدار فتصدق” و “اذا كان عمرو في الدار فتصدق” من استصحاب الفرد المردد، والجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبله[25]، فان المقام مثله، اذ المفروض انحلال وجوب الجلوس الى وجوبین فی یومین، احدهما وهو الذي ليوم الجمعة قصير وثانيهما وهو الذي ليوم السبت طويل، ولا يعلم أن هذا الفرد من وجوب الجلوس في هذا اليوم المشكوك كونه يوم الجمعة او السبت فرد قصير او طويل، نعم ما ذكره هنا يؤيد ما مر منا من أنه حيث لا تدخل هذه الخصوصيات في التنجز، فاستصحاب وجوب الجلوس الحادث في هذا اليوم ينجز الوجوب بقاء ولا يكون من الجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبله.

الجواب الثاني: قد تقدم في تخريج استصحاب الحكم في الشبهات الموضوعية من جريانه بلحاظ عالم المجعول الفعلي لا الجعل فكأنَّ هناك امراً خارجياً علم بحدوثه و يشك في بقائه فيستصحب، و اختلاف الجعل بلحاظ فعلية المجعول يكون كاختلاف الحيثيات التعليلية لا التقييدية، و هذا يعني انَّ المستصحب الملحوظ بالنظر العرفي المسامحي شخصي لا كلي[26].

اقول: ان كان الحكم الجزئي مسببا عن الجعل الكلي تم ما ذكره من أن كونه مسببا مثلا عن جعل وجوب الجلوس يوم الجمعة الى ساعة او جعل وجوب الجلوس الى ساعتين يوم السبت لا يوجب تعدده عرفا، فان اختلاف السبب لا يوجب تعدد المسبب، بل لو وجد المسبب بسبب معين واحتمل بقاءه لسبب آخر كما لو وجدت الحرارة بالشمس واحتمل بقاءه بالنار صدق الشك في بقاء شخص الموجود السابق، مع أنه لا اشكال في أنه لو وجب الجلوس الى الزوال بسبب مجيء زيد ثم احتمل أن مجيء عمرو صار سببا لاستمرار وجوب الجلوس الى الليل، كان استصحاب بقاء وجوب الجلوس من القسم الثالث من استصحاب الكلي، كما هو واضح، وهذا يعني أن تعدد الجعل يوجب تعدد المجعول عرفا، والسر فيه أن الحكم الجزئي مصداق من مصاديق الجعل الكلي، وليس مسببا عنه، وعليه فلا يكون استصحاب جامع وجوب الجلوس في المثال المذكور من الاستصحاب الشخصي، نعم حيث ان الجواب الاول مقبول عندنا فيكون استصحابه جاريا ولا يكون من الجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبله، ول كان المستصحب حكما وضعيا لكان جريانه اوضح لعدم ابتلاءه بشبهة الجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبله، كما لو تردد امر الخيار، وكان من قبيل استصحاب القسم الثاني من الكلي.

النكتة السابعة: ذكر في ذيل استصحاب القسم الثاني من الكلي تطبيقان فقهيان لابأس بالتعرض اليهما:

التطبيق الأول: ما إذا خرج من المكلف بلل مشتبه لا يدري هل هو بول فيكون محدثاً بالأصغر أو منيّ فهو محدث بالأكبر، فيقال بأنه بعد أن أتى بالوضوء فقط او الغسل كذلك فيجري استصحاب بقاء الحدث، فيلزم الاحتياط بضم الآخر، وقد فصَّل المشهور بين فرض العلم بكونه حال خروج البلل المشتبه محدثا بالاصغر، فقالوا بأنه لا يجب عليه الا الوضوء، لاستصحاب بقاء الحدث الاصغر، بخلاف ما لو جهل حالته السابقة او علم بكونه متطهرا فيجب عليه الجمع بين الوضوء والغسل عملا بالعلم الاجمالي.

و قد ذكر المحقق العراقي “قده” في صورة ما لو علم بكونه محدثا بالاصغر حال خروج البلل، أنه لابد من ملاحظة المباني في النسبة بين الحدث الاصغر والاكبر،  فان فيها احتمالات:

1- كون النسبة بينهما التخالف كالحلاوة والبياض، بأن يمكن اجتماعهما، غاية الأمر انه مع اجتماعهما لايؤثر الحدث الأصغر في إيجاب الوضوء، لانحصار الرافع حينئذ بالغسل، فلا مجال لاستصحاب كلي الحدث، لأنه من استصحاب القسم الثالث من الكلي، فانه حين صدور البلل المشتبه يقطع بوجود شخص حدث، و يشك في حدوث شخص حدث آخر، فاستصحابه بعد الوضوء يكون من استصحاب القسم الثالث الذي قلنا بعدم جريانه فيه، فيكتفى حينئذ بالوضوء، و لا أثر للعلم الإجمالي حين خروج البلل المشتبه، إذ لا يعلم بتوجه خطاب جديد من قبل البلل الحادث، بعد تردده بين ما له الأثر و ما ليس له الأثر، و احتمال كونه منيّا شبهة بدوية مدفوعة باستصحاب عدم صدور المني، و لا يعارضه استصحاب عدم صدور البول، لأنه لا أثر له بعد كونه محدثاً بالحدث الأصغر.

2- أن تكون النسبة بينهما التضاد ذاتا، فيجري فيه استصحاب كلي الحدث بعد ما يتوضأ لكونه من استصحاب القسم الثاني من أقسام الكلي، و لازمه وجوب الغسل و عدم جواز الاكتفاء بالوضوء، و استصحاب عدم الجنابة غير مجدٍ، لعدم كونه رافعا للشك في بقاء الكلي، الا بنحو الاصل المثبت، كما ان استصحاب بقاء الأصغر حال خروج البلل المردد غير مجدٍ أيضا، لوضوح أن رافعية الوضوء للحدث في هذا الحال انما هو من لوازم انحصار طبيعة الحدث بالأصغر وجداناً، و إثبات الانحصار باستصحاب بقاء الاصغر يكون من الاصل المثبت.

3- أن تكون النسبة بينهما التضاد لا ذاتا بل حدا بنحو الاختلاف في المرتبة بالشدة والضعف، فلا مانع من استصحاب كلي الحدث بعد الوضوء، إذ حين طروّ البلل يعلم إجمالا بوجود الحدث المردد بين الحدين، و بعد الوضوء يشك في ارتفاعه، فيستصحب بقاءه، بل و يجري فيه الاستصحاب الشخصي أيضا، بناء على عدم ارتفاع الحدث الأصغر المقترن بالحدث الأكبر إلّا بالغسل، إذ مع الشك في وجود الأكبر لأجل البلل المردد يشك في ارتفاع الحدث الاصغر بالوضوء فيستصحب بقائه، نعم لو قلنا برافعية الوضوء للأصغر مطلقا و لو في ظرف وجود الأكبر، فلا يجري استصحاب الشخص، للقطع بارتفاعه بالوضوء على كل حال، فينحصر مجرى الاستصحاب حينئذ في كلي الحدث، و لازمه هو الجمع بين الوضوء والغسل، اللهم إلّا ان يمنع عن هذا الأصل لكونه من استصحاب القسم الثالث، لمكان العلم التفصيلي حين طروّ البلل بثبوت الحدث الأصغر، و الشك في حدوث الأكبر، فاستصحاب عدم حدوثه محكم و مقتضاه عدم الحاجة إلى الغسل و جواز الاكتفاء بصرف الوضوء في صحة الصلاة.

4- أن نتردد في أن النسبة بينهما هل هي التضاد او التخالف، فانه و ان علم حين خروج البلل بالحدث المردد بين كون مجموع الحدثين او حدث واحد يكون هو الحدث الاصغر او حدث واحد يكون هو الحدث الاكبر بلا علم تفصيلي بما يوجب‏ انحلاله، لكن بعد احتمال اجتماع الحدثين فلا يجري استصحاب كلي الحدث، لعدم إحراز كون المشكوك الباقي بعد الوضوء عين المتيقن السابق، لاحتمال كون المعلوم السابق غيره، فيكتفى بالوضوء، باستصحاب بقاء الحدث الأصغر إلى حين خروج البلل المشتبه، بضميمة استصحاب عدم الجنابة.

ثم ان بناء المشهور على الاكتفاء بالوضوء  في هذه المسألة يكشف إما عن بنائهم على عدم التضاد بين الحدثين ذاتا، و إما عن دعوى أن موضوع وجوب الوضوء مركب من امر وجودي و هو النوم مثلا، و امر عدمي و هو عدم الجنابة، فيندرج المثال في الموضوعات المركبة التي يحرز بعضها بالوجدان و بعضها بالأصل، فان النائم الّذي احتمل جنابته من جهة البلل المردد بين البول و المني، قد أحرز جزئي الموضوع لوجوب الوضوء، أحدهما و هو النوم بالوجدان، و ثانيهما عدم الجنابة بالأصل فيجب عليه الوضوء و يكتفى به في صحة صلاته، كان هناك استصحاب حدث أم لا.

و لكن هذه الدعوى الأخيرة مبنية على أن يكون الشرط هو نفس الوضوء، و الغسل، فانه ان كانت الطهارة شرطا للصلاة او الحدث مانعا، فلا يجدي هذا التقريب للاكتفاء بالوضوء في صحة الصلاة، نظراً إلى الشك في مؤثرية الوضوء في هذا الحال في الطهارة و رافعيته للحدث، فتأمل.

وأما لو علم المكلف بكونه متطهرا حال خروج البلل المشتبه، او لم يعلم بحالته السابقة أنه لا شبهة في جريان استصحاب الحدث بعد ما يتوضأ، فيترتب عليه آثار جامع الحدث من المانعية للصلاة و حرمة مس كتابة القرآن، و ان لم يترتب عليه آثار الجنابة، كحرمة دخوله في المسجد[27].

اقول: المهم في الصورة الثانية على جميع المباني امكان التمسك بالاصل الموضوعي، فان المستفاد من قوله تعالى “اذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم…وان كنتم جنبا فاطهروا” بضمیمة ما ورد في موثقة ابن بكير “يعني بذلك اذا قمتم من النوم” أن موضوع مطهرية الوضوء من الحدث هو من صدر منه الحدث او من صدر منه الحدث الاصغر ولم يكن جنبا، فباستصحاب عدم كونه جنبا نثبت موضوع مطهرية الوضوء ومعه لا تصل النوبة الى الاصل الحكمي وهو استصحاب الحدث، وأما ما ذكره من أن الاصل الموضوعي انما يجدي بناء على كون نفس الوضوء او الغسل شرطا للصلاة، لا بناء على كون شرطها الطهارة المسببة منهما، ففيه أنه ان كانت الطهارة مسببا شرعيا منهما فهي اثر شرعي للاصل الموضوعي ولو مع الواسطة، وان كانت مسببا عقليا فههنا اشكال عام في اثبات المسبب العقلي بالاصل الموضوعي كقاعدة الطهارة في الماء او استصحاب اطلاق الماء ونحو ذلك، وقد أجبنا عن هذا الاشكال بأن المسبب العقلي الذي لايعرف من قبل الشارع وقد رتبه في خطابه على موضوع، كالمسبب الشرعي من هذه الجهة اي عدم كون الاصل الجاري في موضوعه لاحراز تحقق ذلك المسبب من الاصل المثبت.

نعم هذا الاصل الموضوعي لايجدي في الصورة الاولى، اذ لو كان متطهرا حين خروج البلل المشتبه فلا يحرز الجزء الاول لموضوع مطهرية الوضوء بناء على كونه صدور الحدث الاصغر، الا أن شيخنا الاستاذ “قده” كان يرى أنه لا يظهر من موثقة ابن بكير اكثر من تقييد الآية بفرض صدور الحدث، وهو محرز بالوجدان بعد خروج البللل المشتبه وبضم استصحاب عدم الجنابة اليه يثبت موضوع مطهرية الوضوء وعدم الحاجة الى الغسل، والانصاف أن النوم مثال عرفي للحدث الاصغر، ولا موجب لالغاء الخصوصية منه الى مطلق الحدث كالجنابة.

ثم ان ما ذكره في فرض التخالف من جريان استصحاب عدم الجنابة بلا معارض فان اريد منه الاصل الموضوعي فقد سبق أنه ناقش فيه على مسلك شرطية الطهارة المسببة، وبدون اجراء الاصل الموضوعي فيجري استصحاب بقاء الحدث الاصغر بعد الوضوء، لما ذكره من أنه لو كان مقترنا بالجنابة لم يرفعه الوضوء.

وأما ما ذكره في فرض الشك في التضاد او التخالف من عدم جريان استصحاب كلي الحدث، لعدم إحراز كون المشكوك الباقي بعد الوضوء عين المتيقن السابق، فان اراد منه ما فهمه في البحوث من أنه يتكلم على وفق مسلك تعلق العلم الاجمالي بالواقع اي الفرد المعين عند الله، فيريد منه أنه حيث يحتمل كون المعلوم بالاجمال بعد خروج البلل المشتبه هو الحدث الاصغر، وان فرض اقترانه بالحدث الاكبر، فلا يكون الحدث على تقدير بقاءه بعد الوضوء هو المتيقن السابق، فلازم ذلك التفصيل في استصحاب القسم الثاني بين فرض احتمال اجتماع الفرد القصير والطويل وبين فرض عدم احتمال اجتماعهما ويكون الاستصحاب مختصا بالفرض الثاني دون الاول، ولا أظن أن يلتزم به، على أنه يرد عليه اولاً: لا موجب لاحتمال انطباق المعلوم بالاجمال في فرض تقارن الحدث الاصغر والاكبر في علم الله على الحدث الأصغر دون الاكبر، فانه حتى لو قيل بتعلق الاجمالي بالفرد المعين في علم الله، فيختص ذلك بما اذا كان سبب العلم الاجالي مختصا بطرف معين كرؤية وقوع الدم في احد الانائين، والمقام ليس من هذا القبيل قطعا، وقد مر أن المحقق العراقي “قده” يرى تعلق العلم الاجمالي بالجامع اي عنوان احدهما فانيا في معنونه وليس هو الفرد المعين في علم الله، على ان القول بتعلق العلم الاجمالي بالواقع لا ينافي كون الجامع معلوما ايضا اجمالا، فان الواقع هو الجامع مع خصوصية الفرد.

وثانياً: ان تطبيق ما ذكره في المقام مبني على أنه لو كان الحدث الاصغر مقترنا بالحدث الاكبر بناء على عدم التضاد بينهما واقعا فيرتفع الحدث الاصغر بالوضوء المقترن بالجنابة وقد مر المنع عنه، ومعه فيكون المستصحب على تقدير بقاءه بعد الوضوء -بأن يكون المكلف جنبا- نفس المتيقن السابق ولو كان هو الحدث الاصغر في علم الله.

وثالثاً: ان نقض اليقين بالشك صادق على مجرد احتمال بقاء المتيقن من غير حاجة الى احراز أن المستصحب على تقدير بقاءه هو نفس المتيقن السابق، واستظهار أن موضوع الاستصحاب هو الشك في بقاء شيء وكونه نفس المتيقن السابق في غير محله.

ورابعاً: ما في البحوث من أنه لو سلم لزوم كون المستصحب على تقدير بقاءه هو المتيقن السابق فلنا أن نقول ان اطراف العلم الإجمالي في المقام ثلاثة، و هي الحدث الأصغر وحده، إذا كان الخارج بولا، أو الأكبر وحده إذا كان الخارج منيّاً، و كان بينهما التضاد، أو مجموعهما إذا كان الخارج منيّاً و لم يكن بينهما تضاد، فانَّ هذه الأطراف الثلاثة بخصوصياتها مانعة الجمع، كما هو واضح، و المكلف يعلم إجمالًا بأحدها أي بالجامع فيما بينها، فيجري استصحاب هذا الجامع.

نعم من نتائج ذلك انه لو كان الموجود واقعا هو الشقّ الثالث أي مجموع الحدثين، فلابد أَن يقال بتعلق العلم الإجمالي بمجموعهما و هو سخيف وجداناً إلّا انَّ هذا بحسب الحقيقة من نتائج القول بتعلق العلم الإجمالي بالواقع والفرد المعين في علم الله[28].

وخامسا: ما في كتاب الاضواء من أن الحدث المعلوم بالاجمال ان اضيف الى ما كان البلل المشتبه منشأ له يكون بنحو التضاد، ومانعة الجمع، فانه إما بول فينشأ منه الحدث الاصغر او مني فينشأ منه الحدث الاكبر، ويكون الحدث الأكبر الحاصل منه هو المعلوم الواقعي، فالشرط المذكور في كلام المحقق العراقي “قده” ينطبق عليه[29]، ولكن يمكن ان يقال بأنه لو كان البلل بولا فلم ينشأ منه حدث بعد سبق الحدث الاصغر.

هذا ويمكن أن يكون مقصود المحقق العراقي أنه حيث يحتمل التخالف وبناء على التخالف كان استصحاب كلي الحدث من القسم الثالث من الكلي، وانما يكون على التضاد من قبيل القسم الثاني، فيكون المقام من الشبهة المصداقية لاستصحاب القسم الثاني والثالث فلا يحرز  جريان استصحاب كلي الحدث، فيرد عليه أن الشك كاف في صيرورة استصحاب الكلي من قبيل القسم الثاني، حيث يشار الى الحدث الموجود بعد خروج البلل المشتبه ويقال بان هذا الحدث محتمل البقاء بعد الوضوء لاحتمال كونه الحدث الاكبر، والمهم عدم العلم التفصيلي بوجود الحدث الاصغر بعد خروج البلل المشتبه.

وأما ما ذكره في صورة العلم بكونه متطهرا حال خروج البلل من جريان استصحاب الحدث، فيترتب عليه آثار جامع الحدث من المانعية للصلاة و حرمة مس كتابة القرآن، و ان لم يترتب عليه آثار الجنابة، كحرمة دخوله في المسجد، فو مبني على مانعية الحدث بعنوانه للصلاة وهو غير واضح، كما صرح به السيد الصدر “قده” في بحوثه في الفقه[30]، وعليه فلابد في ايجاب الجمع بين الوضوء و الغسل إما من التمسك بذيل العلم الاجمالي بوجوب احدهما بناء على كون الحدث الاصغر موضوعا لوجوب الصلاة مع الوضوء والحدث الاكبر موضوعا لوجوب الصلاة مع الغسل وحينئذ لابد من جعل محرمات الجنب طرفا للعلم الاجمالي حيث يعلم اجمالا إما بوجوب الصلاة مع الوضوء او وجوب الصلاة مع الغسل ولزوم الاجتناب عن محرمات الجنب، نعم ان كان الحدث الاكبر والاصغر قيدين في الواجب بأن يجب على كل مكلف الجامع بين الصلاة مع الغسل عقيب الجنابة او الصلاة مع الوضوء عقيب الحدث الاصغر، فبعد تعارض الاصول يجب الجمع بينهما من باب قاعدة الاشتغال وتجري البراءة عن محرمات الجنب.

وكيف كان فالمتحصل أنه في فرض سبق الحدث الاصغر على خروج البلل المشتبه يجري الاستصحاب الموضوعي بلا معارض لمطهرية الوضوء وعدم الحاجة الى الغسل، ولكنه قد يبتلى بعلم اجمالي آخر، وهو أن البلل المشتبه لو كان بولا فيجب غسل الجسد او الثوب المتنجس به بالماء القليل مرتين، وان كان منيّا فيجب الغسل منه، وبناء على هذا العلم الاجمالي فاستصحاب عدم كونه بولا لغرض كفاية غسل المتنجس به مرة واحدة يتعارض مع استصحاب عدم كونه منيا واستصحاب عدم تحقق الجنابة النافي للحاجة الى الغسل، فيجب الاحتياط، وما ذكره شيخنا الاستاذ “قده” حينما وجّهنا اليه اشكال المعارضة بأنه بعد معارضة استصحاب عدم كونه بولا مع استصحاب عدم كونه منيا، وتساقطهما تصل النوبة الى استصحاب بقاء النجاسة بعد غسله مرة واحدة واستصحاب عدم الجنابة، باعتبار كونهما اصلين طوليين، غير متجه، فانه -مضافا الى توقفه على قبول جريان الاستصحاب في  الحكم الجزئي وهو لم يكن يلتزم به لسريان شبهة المعارضة بين استصحاب عدم الجعل الزائد مع استصحاب بقاء المجعول اليه بنظره، فيكون الاصل الجاري فيه قاعدة الطهارة، وان كان الصحيح عندنا جريان استصحاب الحكم الجزئي- انه مبتن على سلامة الاصل الطولي عن المعارضة وقبول حكومة الاصل الموضوعي الموافق على الاصل الحكمي، وهو “قده” وان كان يقبل الحكومة لكن لم يكن يرى سلامة الاصل الطولي عن المعارضة فيما كان مورده مجري لقاعدة الاشتغال في نهاية الامر كما في المقام.

نعم لو لم يلاق البلل المشتبه ثوب المكلف ولا جسده ما عدا مخرج البول، وقلنا بكفاية غسل مخرج البول ولو بالماء القليل مرة واحدة، لم يتشكل هذا العلم الاجمالي على المسالك المشهورة، وان كان يقال على المسلك الذي سبق منا وفاقا للبحوث في بحث ملاقي بعض اطراف الشبهة المحصورة، بكفاية امكان ملاقاة الجسد او الثوب له حيث يتشكل علم اجمالي إما بوجوب الغسل او بالحرمة الوضعية للصلاة في الثوب الملاقي لهذا البلل قبل غسل هذا الثوب مرتين، وكذا الجسد، و ذلك لأن الحرمة الوضعية لشيء في الصلاة تعني تقيد الصلاة الواجبة بعدمه، فتكون فعلية بفعلية وجوب الصلاة، و لا تتوقف على وجود ذلك الشيء، و هذا نظير الحرمة الوضعية للقهقهة، فانها حيث تعني تقيد الصلاة الواجبة بعدمها، فلا تتوقف فعليتها على وجودها، وانما يكون وجودها تحققا للحرام الوضعي.

ان قلت: ان معارضة الاصول المؤمنة في اطراف العلم الاجمالي فرع فعلية جريان الأصل المؤمن في نفسه، و أصالة الطهارة في الثوب الملاقي لذاك البلل انما تجري بعد تحقق الملاقاة، لا قبلها، لعدم تحقق موضوعها و هو الشك، قلت: جريان أصالة الطهارة في الثوب الملاقي له و إن كان مشروطا بالشك، فيكون جريانها فيه على تقدير الملاقاة، لكن فرض جريانها على تقدير الملاقاة ينفي الحرمة الوضعية المعلومة من الآن، لأنّ الحرمة الوضعيّة الآن للصلاة في الثوب، ليس موضوعها نجاسة ذلك الثوب الآن، و لو طهر عند الصلاة، و إنّما موضوعها نجاسته في ظرف الصلاة، فإن فرض أنّه في ظرف الصلاة و على تقدير الملاقاة تجري أصالة الطهارة، فالحرمة الوضعية منتفية فعلا، فيقع التعارض بين الأصلين و يتساقطان رغم عدم فعلية أحدهما، و عدم الجزم بفعليته الاستقبالية.

بل بناء على ما اختاره السيد الخوئي “قده” من فعلية حرمة المحرمات و لو قبل تحقق متعلق المتعلق فيها فتكون حرمة شرب الملاقي على تقدير نجاسته بعد الملاقاة فعلية و لو قبل تحقق الملاقاة فتكون مثل الحرمة الوضعية، وقد ذكرنا في محله أن الظاهر عندنا ما ذكره السيد الخوئي “قده” من كون خطابات النهي النفسي ايضا فعلية، و لو قبل تحقق موضوعاتها، فتحريم شرب النجس فعلي و لو قبل تحقق النجس.

ودعوى أنه لا يرى العرف أي محذور عقلائي في الجمع بين هذه الاصول ما لم يعلم بتحقق الملاقاة خارجاً مندفعة بأنه بعد افتراض تحقق العلم بالحكم الفعلي و كون الجمع في جريان الاصل الترخيصي بين الاطراف مستلزما للترخيص في مخالفته القطعية، و وصول الاصل الترخيصي في كل طرفٍ في ظرف الابتلاء به فلا موجب للالتزام بعدم ارتكاز المناقضة العقلائية بينه و بين الحكم الواقعي المعلوم بالاجمال، فهو نظير ما لو علم المكلف اجمالا بخمرية احد المايعين، فرخّص له المولى اولاً في شرب واحد معين منهما، ثم بعد ما شربه المكلف رخّص له المولى في شرب الثاني، او علم اجمالا بوجوب صوم احد يومين، ثم رخّص المولى في مخالفة التكليف المشكوك عند نزول المطر، ففي اليوم الاول علم المكلف بنزول المطر فاجرى البراءة عن وجوب صوم ذلك اليوم، و لم يكن يعلم بأنه سينزل المطر في اليوم الثاني، و لكن في اليوم الثاني نزل المطر، فانه لا ينبغي الشك في كون الجمع بين الترخيص في صوم اليوم الاول الواصل في ظرفه و الترخيص في صوم اليوم الثاني الواصل في ظرفه خلاف المرتكز العقلائي.

هذا وقد كنّا نستدل سابقا في الحكم بكون البلل المشتبه بولا ناقضا للوضوء فقط، باطلاق مثل موثقة سماعة، قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ الرَّجُلِ يُجْنِبُ ثُمَّ يَغْتَسِلُ قَبْلَ أَنْ يَبُولَ فَيَجِدُ بَلَلًا بَعْدَ مَا يَغْتَسِلُ قَالَ يُعِيدُ الْغُسْلَ فَإِنْ كَانَ بَالَ قَبْلَ أَنْ يَغْتَسِلَ فَلَا يُعِيدُ غُسْلَهُ وَ لَكِنْ يَتَوَضَّأُ وَ يَسْتَنْجِي[31]، ببيان أن اطلاقها شامل لفروض ثلاثة، احدها: ما اذا لم يستبرأ بالخرطات بعد البول، وثانيها: ما اذا استبرأ بالخرطات و علم اجمالا بأن البلل إما بول او مني، وثالثها: ما اذا استبرأ بالخرطات واحتمل كون البلل طاهرا، وقد دلت النصوص على الحكم بطهارة البلل في الفرض الثالث، والفرض الاول و ان كان هو المتيقن من الموثقة لكن لا مانع من الالتزام بشمول اطلاقها للفرض الثاني، وحيث لا يحتمل الخصوصية بالنسبة الى سبق غسل الجنابة فيتعدى الى فرض عدم سبق الجنابة والغسل منها، فيحكم لأجلها بكون البلل المشتبه المردد بين البول والمني بولا سواء خرج من المحدث بالاصغر او من المتطهر، لكن الانصاف أن ندرة العلم الاجمالي بكون البلل المشتبه بولا او منيا، توجب انصراف الموثقة الى فرض عدم الاستبراء بعد البول بالخرطات.

وعليه فلابد من الرجوع الى مقتضى القاعدة التي مر الكلام فيها، من منجزية العلم الاجمالي بكون البلل المشتبه بولا لابد من تطهير المتنجس به مرتين او منيا يجب الغسل منه، نعم لو قلنا بما هو الظاهر من أن استصحاب عدم كونه بولا لا يجري لكونه استصحابا في العدم الازلي، وأما استصحاب عدم اصابة البول فلا يجدي كما سيأتي توضيحه في التطبيق الثاني، تم انحلال العلم الاجمالي لجريان استصحاب عدم الجنابة بلا معارض، فان تم ذلك فهو والا لزم الاحتياط بالجمع بين الوضوء والغسل وغسل المتنجس به مرتين.

التطبيق الثاني: لو علم إجمالًا بملاقاة الثوب او الجسد مع البول أو الدم، ثم غسل مرة واحدة بالماء القليل، فيشك في بقاء نجاسته، إذ لو كان بولا فلا ترتفع نجاسته الا بالغسل مرتين، فلا اشكال في صحة استصحاب بقاء النجاسة، لكن ذكر السيد الخوئي “قده” أن استصحاب عدم اصابة البول اصل موضوعي حاكم عليه، ولكنه غير واضح، فلعل موضوع ما يطهر بالغسل مرة هو ما اصابه شيء نجس ليس ببول، حيث يقال انه مقتضى الجمع بين ما دل على أن ما اصابه النجس يغسل مرة وما دل على أن ما اصابه البول يلزم غسله مرتين، بل يقال بأنه مقتضى الالتزام بالتركيب في اجزاء الموضوع للحكم الشرعي، اذ لو كان الموضوع مقيدا اي عنوانا بسيطا لا مركبا فاستصحاب كون شيء نجسا او بولا لا يثبت عنوان اصابة النجس او البول الا بنحو الاصل المثبت، وعلیه فیکون موضوع الخاص وهو ما یطهر بالغسل مرتين مركبا مما اصابه شيء وكان ذلك الشيء بولا، وموضوع العام في ما يطهر بالغسل مرة هو ما اصابه شيء وكان نجسا، فالاختلاف بينهما في الجزء الأخير وحيث يتعنون موضوع العام بنقيض موضوع الخاص، فيؤخذ في موضوع العام عدم كون ذلك الشيء بولا[32]، والمهم أن احتمال ذلك كاف في أن  نحتاج الى استصحاب عدم كون ما اصابه بولا بنحو استصحاب العدم الازلي، ومن لا يقبل استصحاب العدم الازلي مطلقا كالمحقق النائيني والسيد الامام “قدهما” او في العناوين الذاتية كالسيد الحكيم ومال اليه السيد الصدر “قدهما” فلابد أن يفتي بلزوم غسله مرتين.

ثم انه حكي عن المحقق الاصفهاني “قده” في المقام أنه حيث يعلم إجمالًا إما بوجوب غسلة واحدة أو وجوب غسلتين، فاستصحاب عدم اصابة الدم، لنفي وجوب غسلة واحدة يتعارض مع استصحاب عدم اصابة البول لنفي وجوب الغسل مرتين، فيكون المرجع بعد ذلك استصحاب بقاء كلي النجاسة بعد الغسلة الأولى‏.

و فيه انَّه لا مجال لجريان استصحاب عدم اصابة الدم، فان موضوع ما يطهر بالغسل مرة ظاهر في التركيب من امر وجودي وهو ما اصابه النجس وامر عدمي وهو ما لم يصبه البول، (او عدم كون النجس دما) ومعه فلا يجري الا استصحاب عدم اصابة البول، وأما استصحاب عدم اصابة الدم فلا اثر له، فانه ان اريد به نفي اصل النجاسة، فهو خلاف العلم التفصيلي، و ان اريد به اثبات نجاسته بعد غسله مرة واحدة، فهو اصل مثبت، لأنه لا يثبت اصابة البول.

ولو فرض كون موضوع ما يطهر بالغسل مرة واحدة امرا وجوديا وهو ما اصابه الدم مثلا، وموضوع ما يطهر بالغسل مرتين هو ما اصابه البول، فاستصحاب عدم اصابة البول لا يجري حينئذ، اذ لو اريد به نفي اصل النجاسة فهو خلاف الوجدان وان اريد به نفي طبيعي نجاسته بعد الغسل مرة واحدة فهو اصل مثبت، لأنه لا يثبت موضوع ما يطهر بالغسل مرة واحدة وهو اصابة الدم، واستصحاب عدم موضوع شخص النجاسة التي تحتاج الى الغسل مرتين وتترتب على اصابة البول، لنفي طبيعي النجاسة التي تحتاج الى الغسل مرتين يكون من الاصل المثبت، فلا يوجد اصل موضوعي حاكم على استصحاب النجاسة.


[1] – الاستصحاب ص

[2] – بحوث في علم الاصول ج6ص

[4] – بحوث في علم الاصول ج6ص

[5] – مباحث الاصول ج5ص 334

[6] – مباحث الاصول ج5ص 238

2[7] – اضواء وآراء ج3ص278

[8] – المعارضة في هذا المثال لا ترتبط بكون استصحاب نجاسة ما لاقاه الجسم الطاهر من الفرد المردد، ولذا لو طهِّر احدهما لا بعينه، فاستصحاب نجاسة كل من الانائين وان كان جاريا ويثبت نجاسة الملاقي لاي منهما، لكن لو لاقي الجسم الطاهر احدهما لا بعينه فيعارضه استصحاب عدم ملاقاته مع النجس الواقعي.

[9] – وجه التقييد بالمثال الثاني أنه في المثال الاول حيث يوجد علم وجداني بوجوب اكرام زيد يوم الجمعة واقعا او وجوب اكرام عمرو يوم الجمعة واقعا، فتقع المعارضة بين الاستصحابين الجاريين لنفي الفردين، وتكون المعارضة بينهما ثنائية، ومعه لا يعقل أن يتعارض مجموع الاستصحابين مع استصحاب بقاء وجوب اكرام عمرو يوم السبت على تقدير حدوثه، فان المعارضة بين اصلين فرع احتمال جريان كل منهما في نفسه، والمفروض عدم احتمال جريان مجموع الاستصحابين النافيين.

[10] – بحوث في علم الاصول ج 6ص 244

[11] – ودعوى أن اليقين الاجمالي باق فلا معنى للتعبد ببقاءه غير متجه، فان اليقين الاجمالي بحدوث الجامع، وان كان ثابتا لكن الاستصحاب يعني التعبد باليقين الاجمالي ببقاء الجامع، فلا يتم ما في كتاب الاضواء ج3ص 285من أنّ التعبد ببقاء اليقين إنّما يجري في مورد لم يكن فيه اليقين موجوداً بنفسه وجداناً، فلا موضوع للتعبد ببقاءه.

[12] – نهاية الافكار ج4ق1ص

[13] – درر الغوالي ص 92

[14] – بحوث في شرح العروة الوثقى ج2ص 274

[15] – البيع ج4ص225

[16] – موسوعة الامام الخوئي ج2 ص 43

[17] – ذكر في مصباح الاصول ج3ص112 أن هذا النقض مبني على القول بطهارة ملاقي بعض اطراف الشبهة، ولكنك ترى وضوح الحكم بطهارة الملاقي في هذا الفرض الذي تلف فيه عدل الملاقى فلم يتشكل حسب المباني المشهورة علم اجمالي منجز بنجاسة الملاقي بالكسر او عدل الملاقى بالفتح.

[18] – بحوث في علم الاصول ج6ص 252

[19] – راجع: بحوث في شرح العروة الوثقى ج1ص 496 بل ادعى السيد الخوئي “قده” على ما في موسوعة الامام الخوئي ج2 ص  200 اولاً جريان استصحاب عدم وقوع النجس على القليل الواقعي بلا معارض، ببيان أن استصحاب عدم كرية ما وقع فيه النجس لا يثبت وقوعه على القليل، ثم قال ولو سلم جريانه فتقع بينهما المعارضة ويرجع الى قاعدة الطهارة.

[20] – فوائد الاصول ج4ص 421

[21] – اجود التقريرات ج2ص 394 بتوضيح اخذناه من مصباح الاصول ج3ص 101

[22] – بحوث في علم الاصول ج6ص 254

[23] – مصباح الاصول ج3ص193

[24] – موسوعة الامام الخوئی ج 12ص229

[25] – راجع: بحوث في علم الاصول ج 6ص 247

[26] – بحوث في علم الاصول ج6ص 256

[27] – نهاية الأفكار ج4ق1 ص 138

[28] – بحوث في علم الأصول ج‏6 ص 259

[29] – اضواء وآراء ج3ص 289

[30] – بحوث في شرح العروة الوثقى ج1ص152

[31] – وسائل الشيعةج‌2 ص 251

[32] – بحوث في علم الاصول ج6ص261