فهرست مطالب

فهرست مطالب

pdf

هو تصور لا تصديق، فلا تتم اركان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلي[1].

اقول: حاصل ما استدل به على عدم جريان استصحاب القسم الثالث من الكلي وجهان:

الوجه الاول: ما ذكره المحقق النائيني والعراقي والسيد الخوئي “قدهم” من ان المتقين السابق هو حصة من الكلي وهو الكلي في ضمن هذا الفرد المعلوم الارتفاع و ما يشك في وجوده فعلا وهو الكلي في ضمن فرد آخر هو مشكوك الحدوث.

ويورد عليه ايرادان:

الايراد الاول: ما يخطر بالبال من أنه انما يصح دعوى كون المتيقن هو الكلي في ضمن الفرد المقطوع الارتفاع، فيما اذا كان سبب العلم بالكلي هو العلم بوجود هذا الفرد كما اذا علمنا من خلال العلم بوجود زيد في الدار بوجود الانسان فيها، وأما اذا كان سبب العلم بالكلي شيئا آخر غير العلم بوجود هذا الفرد المقطوع الارتفاع، كما اذا اخبر المعصوم مثلا بوجود الانسان في الدار، وعلمنا بسبب آخر بوجود زيد فيها فحيث ان سبب العلم بالكلي لا بشرط من حيث صحة سبب العلم بوجود زيد وخطأه بحيث لو علمنا بخطأنا في اعتقاد وجود زيد بقي العلم بالكلي بحاله، فيستحيل كون المعلوم بسببه هو الكلي بشرط كونه في ضمن هذا الفرد.

والظاهر انحصار الجواب عنه أنه بدعوى وان كان بالدقة العقلية يوجد متيقنان، احدهما الكلي لا بشرط وهذا مما يحتمل بقاءه، والآخر هو الفرد الذي يعلم بارتفاعه، لكنه بالنظر العرفي يكون اقتران العلم بالكلي بالعلم بالفرد موجبا لكون المتيقن حدوثه هو الكلي في ضمن هذا الفرد، فيقال بالنظر العرفي ان ما كان معلوم الحدوث هو الانسان في ضمن زيد، وهذا مما علم بارتفاعه، وأما الانسان في ضمن فرد آخر فهو مشكوك الحدوث.

الايراد الثاني: ما ذكره السيد الامام “قده” من أن ما يقال من أن العلم بوجود الفرد في الخارج انما يلازم العلم بوجود حصة من الكلي في ضمن ذلك الفرد، لا العلم بوجود الكلي، و الحصة الموجودة في ضمن كل فرد تغاير الحصة الأخرى في ضمن فرد آخر، و لذا قيل نسبة الكلي إلى الافراد نسبة الآباء المتعددة إلى الأبناء، فلا يخفى أن هذا ناشٍ من عدم تعقل الكلي الطبيعي و كيفية وجوده و عدم الوصول إلى مغزى مراد القوم من ان نسبة الكلي إلى الافراد نسبة الآباء، ضرورة ان الكلي الطبيعي لدى المحققين موجود بتمام ذاته مع كل فرد من الافراد، فكل فرد في الخارج بتمام هويته عين الكلي، لا انه حصة منه و لا يعقل الحصص للكلي، فزيد إنسان لا نصف إنسان، أو جزء إنسان، أو حصة منه، فلا معنى للحصة أصلا، و بالجملة هذا الإشكال بمكان من الضعف يغنى تصور الكلي عن رده، و العجب أن بعض أعاظم العصر ادعى البداهة لما اختاره من الحصص للكلي مع كونه ضروري الفساد.

و اما ما أفاده صاحب الكفاية “ره” في وجه عدم جريان استصحاب القسم الثالث من الكلي مطلقا، من تعدد الطبيعي بتعدد الفرد و أن الكلي في ضمن فردٍ غيره في ضمن فرد آخر، فهو حق في باب الكلي الطبيعي عقلا كما حقق في محله، لكن جريانه لا يتوقف على الوحدة العقلية بل الميزان وحدة القضية المتيقنة و المشكوك فيها عرفا، و لا إشكال في اختلاف الكليات بالنسبة إلى افرادها لدى العرف، و لا يخفى ان الافراد بالنسبة إلى الكليات مختلفة عرفا، فإذا شك في بقاء نوع الإنسان إلى الف سنة فالعرف يرى بقاء النوع مع تبدل افراده، و بالجملة الميزان وحدة القضية المتيقنة و المشكوك فيها عرفا و لا ضابط لذلك، و لا يبعد أن يقال: ان الضابط في حكم العرف بالبقاء في بعض الموارد و عدم الحكم في بعض أنه قد يكون المصداق المعلوم امرا معلوما بالتفصيل أو بالإجمال، لكن بحيث يتوجه ذهن العرف إلى الخصوصيات الشخصية و لو بنحو الإشارة، ففي مثله لا يجري الاستصحاب، لعدم كون المتيقن هو الكلي، و قد يكون المعلوم على نحو يتوجه العرف إلى القدر الجامع و لا يتوجه إلى الخصوصيات، كما إذا علم ان في البيت حيوانات مختلفة و يحتمل مصاديق أخر من نوعها أو جنسها، ففي مثله يكون موضوع القضية هو الحيوان المشترك و بعد العلم بفقد المقدار المتيقن و احتمال بقاء الحيوان بوجودات أخر يصدق البقاء، ففي مثل الحيوان المردد بين الطويل و القصير في القسم الثاني لعله كذلك لأجل توجه النّفس بواسطة التردد إلى نفس الطبيعة المشتركة بزعمه فيصدق البقاء[2].

وحكي عنه في تقرير ابحاثه أن المقصود هو استصحاب نفس‏ الطبيعة والكلّي الموجود سابقاً، فطبيعي الانسان كان معلوم الوجود سابقاً في ضمن زيد، و شكّ في بقائه لأجل احتمال بقاءه في ضمن فرد آخر، مع العلم بارتفاع زيد، فإنّ الطبيعي الموجود في ضمن زيد هو بعينه الموجود في ضمن عمرو، و ضمّ بعض الأفراد إلى بعض آخر لا يوجب كثرة الطبيعي بحسب النوع، و إلّا يلزم عدم جريانه في القسم الثاني أيضاً، وما في الكفاية من أنّ وجود الطبيعي و إن كان بوجود فرده، إلّا أنّ وجوده في ضمن المتعدّد من أفراده ليس من نحو وجود واحد له، بل متعدّد حسب تعدّدها، فلو قطع بارتفاع وجوده منها لقطع بارتفاع وجوده، و إن شكّ في وجود فردٍ آخر مقارناً لوجود ذاك الفرد ففيه أنّه على ما ذكره يلزم عدم جريانه في القسم الثاني أيضاً، مع أنّه لا يلتزم به.

ثم قال: انّ العرف قد يلحظ الأفراد في بعض الموارد بخصوصيّاتها الفرديّة، كما في ملاحظة أنّ زيداً في الدار، فإنّ طبيعيّ الإنسان و إن كان موجوداً فيها بوجود زيد، لكنّه مغفول عنه، و قد يلحظ نفس الكلّي بدون الالتفات إلى الأفراد بخصوصيّاتها المفرّدة، كما إذا كانت الخصوصيّات الفرديّة مبهمة في الخارج غير معلومة، كما إذا علم بوجود الإنسان في الدار، و لم يعلم أنّه زيد أو عمرو، فإنّ المعلوم المتوجَّه إليه هو الكلّي، و كما إذا رأى الفوج، فإنّ الملتفت إليه ابتداءً هو النوع، لا الأفراد إلّا بلحاظ ثانويّ، فلو تردّد الفوج بين الأقلّ و الأكثر، و علم بأنّه لو كان الأقلّ لما بقي إلى الآن، و لو كان الأكثر فهو باقٍ، يحكم بالبقاء للاستصحاب، فكلما يُقصر النظر فيه من هذا القسم على نفس الكلّي في المتفاهم العرفي جرى فيه الاستصحاب، و كلّما كان الملحوظ هو الأفراد فإنّه لا يصدق فيه البقاء، و قضيّة ذلك عدم انضباط القسم الثالث من أقسام استصحاب الكلّي، وقد مثل لموارد جريانه بمثل التكلّم، مع أنه يوجد الجزء الثاني بعد انعدام الجزء الاول، و هكذا، ولكن يجري فيه الاستصحاب؛ حيث إنّ الملتفت إليه في المتفاهم العرفي هي سلسلة الألفاظ، و هي باقية عندهم، فمع الشكّ في بقائه يستصحب، و كذلك المطر النازل من السماء مع دوام زوال القطرات النازلة، فإنّه لا يلاحظ القطرات الخاصّة فيه، و كذلك الصُّبْرة من البُرّ- مثلاً، حيث إنّ الملحوظ فيها ليس هي الحبّات الخاصّة، ففي جميع هذه الأمثلة يجري استصحاب الكلي القسم الثالث[3].

اقول: يلاحظ عليه اولا: ان ما ذكره من الاشكال على مثل المحقق النائيني “ره”، من أنه لا تتم دعوى كون المتيقن حصة من الانسان مثلا في ضمن الفرد المعلوم الارتفاع، فان هذه الحصة بعينها هي الحصة التي في ضمن عمرو فغير متجه، فان المعلوم ليس هو وجود الانسان لا بشرط من كونه زيدا او عمروا، وانما ه الانسان بشرط كونه زيدا، وهذا معلوم الارتفاع، واين هذا من استصحاب القسم الثاني من الكلي، فانه يشك فيه في بقاء شخص الانسان الموجود سابقا الذي لا يعلم أنه كان في ضمن زيد او عمرو.

وثانيا: انه ذكر في بحث النواهي أنّه لا خلاف بين العقلاء في النواهي في أنّ النهي يتميّز عن الأمر بأنّ مقتضى النهي لدى العرف هو ترك جميع الأفراد بخلاف الأمر، وقد ذهب صاحب الكفاية إلى أنّ مقتضى العقل أنّ الطبيعي يوجد بفردٍ ما، و ينعدم بعدم جميع الأفراد، وفيه أنّ الطبيعي متكثّر وجوداً و عدماً، فكما أنّ له وجودات كذلك له أعدام بعدد الأفراد، إذ كلّ فردٍ حائز تمام الطبيعي بلا نقصان، فعدمه يكون عدماً للطبيعي حقيقة، و ما في المنطق من أنّ نقيض السالبة الكلّية هو الموجبة الجزئية ليس مبنياً على أساس عقلي و برهان علمي، بل على الارتكاز العرفي المسامحي، لأنّ الطبيعة لدى العرف العامّ توجد بفردٍ ما و تنعدم بعدم جميع الأفراد[4].

فانه بناء على ما ذكره فيقال بأن مقتضى الفهم العرفي حدوث الكلي الطبيعي بحدوث فرد منه وعدم ارتفاعه الا بانعدام جميع افراده، وهذا يقتضي القول بحريان استصحاب القسم الثالث حتى في مثال العلم بوجود زيد في الدار، حيث ان العرف الملتفت يقبل وجود الانسان في الدار ومع احتمال وجود عمرو في الدار يرى بقاء صرف وجود الانسان في الدار، كما مر بيانه عن المحقق الحائري “قده” حيث استدل به على جريان استصحاب الكلي القسم الثالث فيما كان صرف الوجود موضوع الحكم، فكان ينبغي للسيد الامام “قده” أن يقول بمثله بعد أن منع من دعوى المحقق النائيني “قده” من كون المعلوم هو الحصة من الانسان في ضمن زيد وهو غير الحصة منه في ضمن عمرو ونحوه.

وأما الامثلة التي ذكرها لموارد جريان استصحاب القسم الثالث فقابلة للنقاش، فان احتمال انقراض نوع من الحيوانات مثلا وان كان مجرى لاستصحاب بقاء هذا النوع وعدم انقراضه لكن انقراض النوع وبقاءه يعدّان من اوصاف النوع عرفا، فهو نظير ما لو شككنا في بقاء كون الانسان الافريقي اسود، فانه وصف لصنف الانسان الافريقي، ولوكان الشك بالدقة العقلية في سواد الافراد الجديدة منه، كما ذكر في البحوث، وأما مثال التكلم فهو موجود شخصي مستمر عرفا وانفصال اجزاءه لا يخل بوحدته العرفية، فاستصحاب بقاء التكلم يكون من استصحاب الفرد عرفا، كاستصحاب حركة عقربة الساعة فان تخلل آنات السكون فيها لا يخل بوحدتها العرفية، وكذا لو شك في تعطيل الدرس في السنة الدراسية، مع أن الشك في حدوث فرد من الدرس في يوم الشك، مع أنه لا معنى لا ستصحاب الكلي القسم الثالث فيما اذا علم بعدم وجود الفرد الجديد مقارنا لارتفاع الفرد المعلوم الارتفاع وانما احتمل وجوده متأخرا عن ارتفاع الفرد السابق ومنفصلا عنه.

وما في تقريراته من التفصيل بين العلم بوجود الكلي في ضمن فرد معين معلوم الارتفاع، كزيد مثلا، فلا يصدق اليقين بالكلي والشك في بقاءه، وبين العلم بوجوده في ضمن احد فردين كزيد وعمرو ونعلم بارتفاع هذا الفرد على أي تقدير، ونحتمل وجود فرد ثالث، فيصدق اليقين بالكلي والشك في بقاءه، فلا يخلو عن غرابة، لعدم الفرق بين المثالين، من حيث صدق الشك في بقاء الكلي وعدمه.

الوجه الثاني: ما ذكره في البحوث من كون الفارق بين العلم التصديقي والعلم التصوري الاشارة الذهنية بالمفهوم الكلي الى الوجود الخارجي، ومع العلم بوجود الكلي في ضمن فرد والعلم بارتفاع ذلك الفرد فلا يوجد متيقن مشار اليه في الخارج الا ذلك الفرد المقطوع الارتفاع.

وهذا البيان ان تم فيجري حتى في ما لو كان الكلي معلوما بسبب مستقل غير سبب العلم بالفرد، لكن قد يورد عليه ما مر منا في بحث حقيقة العلم الاجمالي من أن العلم الاجمالي اذا لم يكن بنحو القضية المانعة الجمع كما لو علم بنجاسة احد الاناءين، وشك في نجاسة الآخر بنحو لو كانا نجسين صلح كل واحد منهما لأن ينطبق عليه المعلوم بالاجمال، فلا يمكن الالتزام بصيرورة المعلوم بالاجمال جزئيا من خلال الإشارة الى وجود شخصي معين، بأن يقال “هذا الاناء النجس” حيث انه يسأل: هل المشار اليه بالذات الذي تتقوم به الاشارة لايزال كلّياً بعد لحوق الاشارة به او أنه صار جزئيا؟، فان قيل بكونه كلّياً قابلا للصدق على كثيرين حتى بعد الاشارة، فهو خلف كلامه، وان قيل بصيرورته جزئيا بذلك، فهذا يعني أنه لا يقبل الصدق على أكثر من فرد واحد، وهذا خلف كونه قابلا للصدق على كلا الإناءين على نحو البدل.

نعم اذا كان العلم الاجمالي بنحو مانعة الجمع، بأن اعتقد أن ما اصابته تلك القطرة المرئية من الدم هو احدهما دون الآخر، وان احتمل نجاسة الآخر بسبب وقوع قطرة دم أخرى عليه مثلا، فيكون هناك تعين في المشار اليه بالذات، فانه يشير الى النجس الذي يعتقد أن له وجودا متعينا واقعا فيقول: ذاك النجس، وبهذا يصح دعوى جزئية المشار اليه بالذات في هذا القسم من العلم الاجمالي.



[1] – بحوث في علم الاصول ج 6ص 264

[2] – الرسائل ج1ص 133

[3] – تنقيح الاصول ج4ص 115

[4] تهذيب الاصول ج2ص11