المحرمات فی الشریعة
الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين سيما بقية الله في الارضين واللعن على اعدائهم اجمعين.
يقع الكلام في الافعال المحرمة في الشريعة، ونتعرض اولاً، لأهمّ الموارد التي تعرض لها الشيخ الاعظم “قده” في المكاسب المحرمة.
تجسيم ذوات الارواح
الاول: تجسيم ذوات الارواح، فذكر الشيخ الاعظم “قده”: تصوير صور ذوات الأرواح حرام إذا كانت الصورة مجسّمة بلا خلاف فتوى و نصّا، و كذا مع عدم التجسّم، وفاقا لظاهر النهاية و صريح السرائر و المحكيّ عن حواشي الشهيد و الميسيّة و المسالك و إيضاح النافع و الكفاية و مجمع البرهان و غيرهم.
اقول: وافق السيد الخوئي “قده” في مصباح الفقاهة الشيخ الاعظم “قده” في الفتوى بحرمة رسم صور ذوات الارواح بالقلم والظاهر الاتفاق على عدم حرمة التصوير بآلات التصوير والذي يسمى بالفوتوغرافي، وقبل ان نبحث عن مقتضى الروايات فيه لا بأس أن نشير الى أنه وان كان القول بحرمة صنع مجمسة ذوات الارواح هو المشهور، لكن لا يتم نفي الخلاف فيه، فان الشيخ الطوسي “ره” ذكر في التبيان في تفسير قوله “ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظٰالِمُونَ” أي اتخذتموه إلهاً، لأنّ بنفس فعلهم لصورة العجل لا يكونون ظالمين، لأنّ فعل ذلك ليس بمحظور و إنما هو مكروه، و ما روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله أنّه لعن المصوّرين معناه: من شبّه اللّه بخلقه أو اعتقد فيه أنّه صورة، فلذلك قدّر الحذف في الآية كأنّه قال: اتخذتموه إلها[1]، ونحوه ما في مجمع البيان[2] والتبيان آخر كتاب ألّفه الشيخ كما قاله ابن ادريس في السرائر[3]، والمهم كون الاجماع في المسألة مدركيا بعد كثرة الروايات الواردة في المقام، فلا يكون كاشفا عن الارتكاز المتشرعي المتصل بزمان الائمة (عليهم السلام)، فلو تمت المناقشة في الروايات انفتح المجال أمام الفقيه للفتوى بالجواز مع كثرة ابتلاء الناس بصنع المجسمات ذوات الارواح، من لعب الاطفال، بل قد يكون لاغراض غير لهوية كصنع ما يسمى بالروبات، او قد يكون لاغراض تعليمية كصنع مجسمة الانسان لتعليم طلبة علم الطب، وقد كان شيخنا الاستاذ “قده” يفتي بكراهته دون حرمته[4]، لمناقشته في تلك الروايات إما سندا او دلالة، والسيد الإمام قده” وان كان يفتي بحرمة صنعنها لكن يظهر منه اختصاص الحرمة بالصنع باليد لا في المصانع الذي تخلق المجسمة، فقال: إنّ الظاهر من الأدلّة هو حرمة تصوير الصور و تمثيل المثال، و هما لا يشملان إلّا للمصنوع بيد الفاعل مباشرة بمعنى صدور عمل التصوير منه و بيده، كما كانت صنعة الصور كذلك في عصر صدور الروايات، فلا يشملان لإيجاد الصور كيف ما كان.
فلو فرضت ماكينة صنعت لإيجاد المجسّمات و باشر أحد لاتصال القوّة الكهربائيّة بها فخرجت لأجلها الصور المجسّمة منها، لم يفعل حراما و لم تدلّ تلك الأدلّة على حرمته، لعدم صدق تصوير الصور و تمثيل المثال عليه. فلو نسبا إليه كان بضرب من التأويل و التجوّز، فإنّ ظاهر “من صوّر صورا أو مثّل مثالا” سيّما في تلك الأعصار صدورهما من قوّته الفاعلة، فيكون هو المباشر لتصويرها.
فكما أنّ قوله: “من كتب كتابا” لا يشمل من أوجد الكتابة بالمطابع المتعارفة أو أخذ الصورة منه، فمباشر عمل المطبعة و أخذ الصور ليس كاتبا و لا كتب شيئا، كذلك صاحب الماكينة العاملة للصور و كذا المصوّر ليسا مصوّرين و ممثّلين للصور و المثل إلّا بضرب من التأويل و التجوّز، و لا يصار إليه إلّا بدليل و قرينة، من غير فرق بين الصور المنطبعة في الزجاجة و المنعكسة منها إلى الصحائف، و إن كان عدم الصدق في الأوّل أوضح.
نعم، لو كان وجود شيء مبغوضا في الخارج كان إيجاده بأيّ نحو كذلك، لاتحاد الإيجاد و الوجود ذاتا و إنّما اختلافهما بالاعتبار، تأمّل، لكن لم يحرز في المقام ذلك، بل سيأتي أنّ الأقوى جواز اقتناء الصور و عدم وجوب كسرها، فعليه لا دليل على حرمة إيجادها بأيّ نحو كان.
إلّا أن يدّعى أنّ ذلك المدّعى لو تمّ في مثل قوله: “من صوّر صورة أو مثالا” لا يتمّ في مثل قوله: “مثّل مثالا”، فإنّ الظاهر منه حرمة مثول المثال و هو شامل للإيجاد، أو مخصوص به، أو يدّعى إلغاء الخصوصيّة عرفا و فهم الإيجاد التسبيبي من الأدلّة بإلغائها، و هما أيضا محلّ إشكال و منع، لأنّ الظهور المدّعى إنّما هو لهيئة الفعل فإنّها ظاهرة في الإيجاد المباشري إلّا مع قيام قرينة من غير فرق بين الموارد، بل الظاهر من قوله “من مثّل صورة أو مثالا” هو تصوير الصورة و تمثيلها بقدرته و علمه بذلك الصنع، و المباشر لاتّصال القوّة بالمكينة أو لإلقاء الجصّ في القالب ربّما لا يكون مصوّرا و عالما بالتصوير و لا قادرا عليه.
نعم، في بعض الأحيان تقوم القرينة على التعميم، أو على التخصيص بغير المباشرة، و هو أمر آخر.
و أمّا في مثل المقام الذي كان المتداول في التصوير و التمثيل تحصيلهما بمباشرة اليد و قدرة الصنع، و ربما يفعل بمثل المكائن و القوالب كما في هذا العصر و لم يكن ذلك أيضا متداولا في تلك الأعصار حتى يكون التداول قرينة على إرادة الأعمّ، فالظاهر من الأدلّة هو النحو الأوّل، و التعميم يحتاج إلى دليل و هو مفقود.
و دعوى إلغاء الخصوصيّة أيضا ممنوعة، و لا أقل من الشكّ فيه. نعم لو كان وجودها مبغوضا كان الأمر كما ذكر و يأتي الكلام فيه، و لكن الاحتياط بتركه مطلقا لا ينبغي أن يترك[5].
هذا وقد يقال: انه يستفاد من الروايات أنّ المنع عن التصوير كان بلحاظ ما ورثوا من أسلافهم من توهّم القداسة للصور، فإذا فرض عدم الاحترام و التقديس فلا منع، فالمنع يكون يختص بذلك الزمان الذي بقيت قداسة المجسمات في نفوس الناس او كان التجسيم في معرض ذلك[6].
وكيف كان: فلابد من ملاحظة الروايات:
الرواية الاولى: صحيحة محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن تماثيل الشجر و الشمس و القمر فقال لا بأس ما لم يكن شيئا من الحيوان[7].
وتقريب الاستدلال بها أن مفهومها أنه ان كان التمثال فردا من الحيوان ففيه بأس، واطلاقه موضوعا يقتضي تعلق البأس بصنعه، واطلاقه حكما يقتضي كون البأس تحريميا، اي غير مقرون بالترخيص، وقد ذكر الشيخ الاعظم “قده” أن هذه الصحيحة أظهر ما في الباب من حيث شمولها للصورة بنحو النقش، و ذلك بقرينة تمثال الشمس و القمر الذي يكون بالنقش عادة.
واورد عليه السيد الامام “قده” أوّلا: أنّ محلّ البحث هو حكم عمل التصوير، و ليس وجه السؤال في الصحيحة معلوما لاحتمال أن يكون السؤال عن اللعب بها أو عن اقتنائها أو عن تزويق البيوت بها أو عن الصلاة في قبالها. و دعوى الانصراف إلى تصويرها ممنوعة، بل يمكن أن يقال: إنّ السؤال عن التماثيل بعد الفراغ عن وجودها.
و ثانيا: منع ظهورها في الحرمة، و ما يقال: إنّ البأس هو الشدّة و العذاب المناسبان للحرمة كما ترى، فإنّ استعمال “لا بأس” في نفي المرجوحيّة و الكراهة شائع.
وثالثا: ان ما ذكر من كون المتعارف نقش تمثال الشمس و القمر لا تجسيمهما فهو ممنوع، بل كان تجسيمهما ذلك الزمان متعارفا، وحينئذ فلا اطلاق في عقد المستثنى لنقش الحيوان لعدم كون الكلام مسوقا لبيان حكم المستثنى حتى يؤخذ باطلاقه[8].
كما ذكر شيخنا الاستاذ “قده” أنها لا دلالة لها على عدم جواز التصوير بمعناه المصدري، حيث ان من المحتمل رجوع السؤال فيها الى اقتناء الصور، لا يقال: على تقدير كون المراد منها السؤال عن الاقتناء تكون دالة على حرمة التصوير ايضا، حيث ان حرمة الاقتناء لازمها حرمة صنعها، إذ لا يحتمل حرمة اقتناء الصورة و جواز صنعها، فتثبت حرمة الصنع على كل تقدير، إما بدلالتها المطابقية، أو الالتزامية، فإنه يقال: إذا كان النهى فيها عن الاقتناء فيحمل على الكراهة لا محالة، لما يأتي من القرينة الواضحة عليها، و كراهة الاقتناء لا تلازم حرمة العمل[9].
وقد يجاب عن هذا الاشكال بأنّه لا مانع من الأخذ بإطلاق السؤال و الجواب، إذ المفروض تعلّق السؤال بالذوات و هي لا يتعلق بها حكم شرعي إلّا بلحاظ الأفعال المتعلقة بها، فإذا فرض هنا أفعال مختلفة متعلّقة بها و كان الجميع محلا للابتلاء فترك استفصال الإمام (عليه السّلام) يكون دليلا على العموم.
[1] – التبيان ج 1ص 236
[2] – مجمع البيان ج1ص109
[3] – السرائر ج2ص 563
[4] – راجع رسالته الفارسية ص
[5] – المكاسب المحرمة ج1ص 269اقول: اشكل قده في تحرير الوسيلة لاجل ذلك في وقوع التذكية بالذبح بالماكينة الجديدة.
[6] – دراسات في المكاسب المحرمة ج 2ص594
[7] – وسائل الشيعة، ج17، ص: 296
[8] – المكاسب المحرمة ج1ص 262
[9] – ارشاد الطالب ج 1ص297