الجهة الرابعة: عدّ صاحب العروة صلاة الجمعة من ضمن الصلوات الواجبة، وهو یری كونها واجبة تخييرا في عصر الغيبة اقامة وحضورا، وينبغي الكلام في المقام حول حكمها في عصر الغيبة، فان فيه عدة اقوال:
القول الاول: وجوبها التعیینی، وهذا قول الشهيد الثاني “ره”، في رسالة صلاة الجمعة ولم ينقل عن احد قبله، نعم هو ذكر في الكتاب أنّ الأصحابَ اتّفقوا على وجوبِها عيناً مع حضور الإمام أو نائبه الخاصّ، و إنّما اختلفوا فيه في حال الغَيْبة فذهب الأكثرُ إلى وجوبِها أيضاً مع اجتماع باقي الشرائط غير إذن الإمام، و هم بين مُطلِقٍ للوجوب كما ذكرناه و بين مُصرّحٍ بعدم اعتبار شرط الإمام أو مَن نَصَبَه حينئذٍ، و ربما ذهب بعضُهم إلى اشتراطِها حينئذٍ بحضور الفقيه الذي هو نائبُ الإمام على العموم، و إلا لم تصحّ، و ذهب قوم إلى عدم شرعيّتها أصلًا حال الغَيبة مطلقاً، و الذي نعتمده مِن هذه الأقوال و نختاره و نَدِينُ اللهَ تعالى به هو المذهبُ الأوّلُ[1]، ثم قال بعد الاستدلال بآية صلاة الجمعة وجملة من الأخبار أنه كيف يسع المسلم الذي يخاف اللّٰه تعالى إذا سمع مواقع أمر اللّٰه تعالى و رسوله و أئمته عليهم السلام بهذه الفريضة و إيجابها على كل مسلم أن يقصّر في أمرها و يهملها إلى غيرها و يتعلل بخلاف بعض العلماء فيها، و أمر اللّٰه تعالى و رسوله و خاصته عليهم السلام أحق و مراعاته أولى، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب إليهم، و لعمري لقد أصابهم الأمر الأول فليرتقبوا الثاني إن لم يعف اللّٰه تعالى و يسامح، نسأل اللّٰه العفو و الرحمة بمنه و كرمه[2].
ولكنه ذهب في بقية كتبه كالمسالك الى وجوبها التخييري، حيث ان المحقق في الشرايع ذكر أنه إذا لم يكن الإمام موجودا و لا من نصبه للصلاة و أمكن الاجتماع و الخطبتان قيل يستحب أن يصلي جمعة و قيل لا يجوز و الأول أظهر[3]، فعلق عليه في المسالك بقوله “المراد باستحباب الجمعة هنا كونها أفضل الفردين الواجبين تخييرا و هما الجمعة و الظهر، فعلى هذا ينوي بها الوجوب و يجزي عن الظهر، و ليس المراد استحبابها بالمعنى المتعارف لأنّها. متى شرعت أجزأت عن الظهر، و المندوب لا يجزي عن الواجب. و هذا القول هو أصح القولين[4]“.
نعم اشار في الروضة البهية الى القول بالوجوب التعييني، فقال: قد اختلف الأصحاب في وجوب الجمعة في زمان الغيبة و تحريمها: فالمصنف هنا –اي في اللمعة- أوجبها مع كون الإمام فقيها لتحقق الشرط و هو إذن الإمام، و بهذا القول صرح في الدروس أيضا، و ربما قيل بوجوبها حينئذ و إن لم يجمعها فقيه، عملا بإطلاق الأدلة،و اشتراط الإمام عليه السلام، أو نصبه إن سلم فهو مختص بحالة الحضور، أو بإمكانه، فمع عدمه يبقى عموم الأدلة: من الكتاب و السنة خاليا عن المعارض، و هو ظاهر الأكثر و منهم المصنف في البيان، فإنهم يكتفون بإمكان الاجتماع مع باقي الشرائط، و ربما عبروا عن حكمها حال الغيبة بالجواز تارة، و بالاستحباب أخرى، نظرا إلى إجماعهم على عدم وجوبها حينئذ عينا، و إنما تجب على تقديره تخييرا بينها، و بين الظهر، لكنها عندهم أفضل من الظهر و هو معنى الاستحباب، بمعنى أنها واجبة تخييرا، مستحبة عينا كما في جميع أفراد الواجب المخير إذا كان بعضها راجحا على الباقي و على هذا ينوي بها الوجوب و تجزي عن الظهر. و كثيرا ما يحصل الالتباس في كلامهم بسبب ذلك حيث يشترطون الإمام، أو نائبه في الوجوب إجماعا، ثم يذكرون حال الغيبة، و يختلفون في حكمها فيها فيوهم أن الإجماع المذكور يقتضي عدم جوازها حينئذ بدون الفقيه، و الحال أنها في حال الغيبة لا تجب عندهم عينا، و ذلك شرط الواجب العيني خاصة، ولأجل هذا الوهم ذهب جماعة من الأصحاب إلى عدم جوازها حال الغيبة لفقد الشرط المذكور… و لو لا دعواهم الإجماع على عدم الوجوب العيني لكان القول به في غاية القوة، فلا أقل من التخييري مع رجحان الجمعة[5].
ومقتضى ما ذكره من دعواهم الاجماع على عدم الوجوب التعييني في عصر الغيبة أن ما نسبه الى الاكثر ومنهم الشهيد في البيان هو القول باصل الوجوب المجتمع مع الوجوب التخييري.
وكيف كان فقد هجم صاحب الجواهر على ما كتبه الشهيد الثاني في رسالة صلاة الجمعة، فقال: من مضحكات المقام دعوى بعض المحدثين تواتر النصوص بالوجوب العيني و أنها تبلغ مأتي رواية، وأغرب من ذلك دعوى بعض مصنفي الرسائل في المسألة كالكاشاني و غيره الإجماع على الوجوب العيني، مع أن معتمدهم في هذا الشهيد الثاني في رسالته في المسألة التي قد يظن صدورها منه في حال صغره، لما فيها من الجرأة التي ليست من عادته على أساطين المذهب و كفلاء أيتام آل محمد (عليهم السلام) و حفاظ الشريعة، و لما فيها من الاضطراب و الحشو الكثير، و لمخالفتها لما في باقي كتبه من الوجوب التخييري و نسأل الله أن يتجاوز له عما وقع فيها و عما ترتب عليها من ضلال جماعة من الناس[6]
وقد ذهب الى القول بالوجوب التعييني صاحب المدارك سبط الشهيد الثاني ايضا، فقال بعد سرد جملة من الأخبار أن هذه الأخبار الصحيحة الواضحة الدلالة على وجوب الجمعة على كل مسلم عدا ما استثني تقتضي الوجوب العيني، إذ لا إشعار فيها بالتخيير بينها و بين فرد آخر[7]
القول الثانی: ما هو المشهور بین المتأخرین من وجوبها التخييري وكونها افضل من صلاة الظهر، وان وقع الخلاف في لزوم كون الاتيان بها باذن من له الولاية العامة كما هو مختار السيد الامام “قده” او عدم لزوم ذلك كما هو مختار الاكثر ومنهم بعض السادة الاعلام “دام ظله”.
القول الثالث: القول بحرمته لكون اقامة صلاة الجمعة من مناصب الامام (عليه السلام) ولم يعلم اذنه لتصدي احد و منهم الفقهاء لذلك في عصر الغيبة، وممن اختار ذلك السيد البروجردي “قده” فانه بعد ما استدل بعدة من الأدلة التي سيأتي ذكرها على أن اقامة صلاة الجمعة من مناصب الامام قال أننا وان كنا نقبل ولاية الفقيه، وتفويض وظائف الامام الى الفقيه في عصر الغيبة، لكن يمكن أن يقال: إن الأمور التي ترتبط بالإمام و تعدّ من وظائفه على صنفين:
1- ما كان من وظائف الإمام إذا كان مبسوط اليد[8].
2- ما كان من من وظائفه و لو لم يكن مبسوط اليد إذا أمكنه القيام به و لو بالتوكيل و الإرجاع إلى غيره، و ذلك كالأمور المهمة التي لا يرضى الشارع بإهمالها كيفما كان، كالتصرف في أموال اليتامى و المجانين و الغيّب، و كالقضاء بين الناس و نحو ذلك.
و الظاهر أنّ إقامة الجمعة من الصنف الأوّل، و إذا ثبت كون إقامة الجمعة من وظائف الإمام عليه السلام إذا كان مبسوط اليد فقط أو شكّ في كونها من هذا القبيل أو من قبيل الصنف الثاني لم يثبت للفقيه رخصة في إقامتها، إذ القدر المتيقن من أدلّة، ولايته من قبل الإمام عليه السلام في خصوص الصنف الثاني من وظائف الإمام أعني الأمور المهمة التي لا يرضى الشارع بإهمالها كيفما كان، فاستفادة الترخيص في إقامتها من أدلّة ولاية الفقيه مشكل.[9]
ولا يختلف أن هذه الدعوى قد تؤدي الى القول بالحرمة الذاتية لاقامة غير الامام لصلاة الجمعة لكونها غصبا لمنصب الامام، ويؤيده ما ورد في دعاء يوم الجمعة في الصحيفة السجادية “اللهم ان هذا مقام خلفاءك قد ابتزوها” وقد نقل بعض الاجلاء “دام ظله” عن السيد البروجردي “قده” أنه كان يحتاط في حرمتها الذاتية، كما نسب الفتوى بذلك الى السيد الداماد “قده” من غير فرق بين امام الجمعة والمأمومين، ولعله لأجل كون مشاركتهم في صلاة الجمعة موثرة في تحقق غصب هذا المنصب للامام، ولكنه لا وجه له بالنسبة الى من لا يؤثر حضوره في اقامة صلاة الجمعة، بل مجرد تصدي الشخص للمنصب الذي لا يستحقه ليس من المحرمات الذاتية كتصدي الفاسق لامامة الجماعة، او تصدي غير الولي للولاية على الصبي ما لم يتصرف تكوينا في ما لا يجوز له التصرف فيه، فتصرفه الاعتباري في ماله وان لم يكن نافذا، لكنه ليس بمحرم ذاتا، وقوله (عليهم السلام) “قد ابتزوها” لعله لأجل ابعادهم الائمة (عليهم السلام) عن هذا المنصب فحرمة عملهم من هذه الجهة او أن صدق هذا العنوان لأجل الحرمة التشريعية لعملهم، وقد ذكر “دام ظله” أن المسألة بنظره من دوران الامر بين المحذورين فكما تكون حرمتها الذاتية محتملة عنده كذلك وجوبها التعييني محتمل، فلابد إما من السفر قبل زوال يوم الجمعة او الرجوع الى فقيه آخر يفتي بوجوب صلاة الجمعة او حرمتها.
هذا وقد ذهب السيد الحكيم “قده” في تعليقة العروة الى الحرمة التشريعية لصلاة الجمعة في عصر الغيبة، فقال: في مشروعيّتها في زمان الغيبة إشكال، و الأظهر عدمها، نعم لا بأس بالإتيان بها برجاء المطلوبيّة و لا بدّ من فعل الظهر قبلها أو بعدها[10].
القول الرابع: التفصيل بين اقامتها فتجب تخييرا و بين الحضور فيها بعد اقامتها بشرائطها فتجب تعيينا، و هذا ما ذهب اليه جماعة كالسيد الخوئي والشيخ الاستاذ “قدهما” وان لم يفتيا بوجوب الحضور حذرا من مخالفة المشهور فاحتاطا وجوبا في ذلك، وحيث ان الشيخ الاستاذ كان يرى أخيرا عدم جواز الرجوع في الاحتياط الوجوبي الى غيره في مورد العلم بكونه مقترنا بتخطئة الآخرين فهذا الاحتياط الوجوبي من تلك الموارد، فلا يجوز الرجوع فيه لمن يقلِّده الى غيره.
القول الخامس: ما ذهب اليه السيد الصدر “قده” من وجوب اقامتها تعيينا على الحاكم العادل مباشرة او تسبيبا عند تحقق حكومة شرعية، ووجوب الحضور في صلاة الجمعة بعد اقامتها بشرائطها مطلقا ولو عند عدم حكومة شرعية، وهذا تلفيق بين القول الاول والرابع.
وقد استدل للقول الاول اي وجوبها التعييني في زمان الغيبة بالكتاب والروايات والاصل.
أما الكتاب فهو قوله تعالى “يا ايها الذين آمنوا اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون” فذكر الشهيد الثاني في تقريب الاستدلال به أنه أجمع المفسّرون على أنّ المرادَ بالذكرِ المأمورِ بالسعي إليه في الآيةِ صلاةُ الجمعة أو خُطبَتُها، فكلّ مَنْ تَناوَلَه اسمُ الإيمانِ مأمور بالسعي إليها و استماعِ خُطبتِها و فعلِها و تركِ كلّ ما أشغل عنها.
لا يقال: الأمرُ بالسعي في الآيةِ مُعلّق على النداء لها و هو الأذان لا مطلقِ النداء، فيلزم عدمُ الأمر بها على تقدير عدمِ الأذان، سلّمنا، لكن الأمر بالسعي إليها مغاير للأمرِ بِفعلها؛ ضرورةَ أنّهما متغايران، فلا يدلّ على المدّعى.
لأنّا نقول: إذا ثبت بالأمر أصلُ الوجوب حصل المطلوبُ؛ لإجماعِ المسلمين قاطبةً فضلًا عَن الأصحابِ، على أنّ الوجوبَ غيرُ مقيّدٍ بالأذانِ و إنّما علّقه على الأذانِ حثّا على فعله لها، و لا يحسن الأمرُ بالسعي إليها و إيجابه مع عدم إيجابها.
لا يقال: الأمرُ المذكورُ بها مُرتّب على النداء، و النداء مُتوقّف على الأمرِ بها؛ للقطع بأنّها لو لم تكنْ مشروعةً لم يصحّ الأذان لها، فلا يصحّ الاستدلالُ على مشروعيّتها مطلقاً بالآية.
لأنّا نقول: إنّ النداءَ المعلّقَ عليه الأمرُ هو النداءُ للصلاةِ يومَ الجمعةِ أعمّ مِن كونِها أربعَ كعاتٍ و هي الظهرُ المعهودةُ أم ركعتين و هي الجمعةُ، و لا شُبهةَ في مشروعيّةِ النداءِ للصلاة يومَ الجمعةِ مطلقاً، و حيثُ يُنادى لها يجب السعي إلى ذكر الله، و هو صلاةُ الجمعةِ أو سَماعُ خُطبَتِها المقتضي لوجوبِها[11].
و ذکر المحقق الشيخ مرتضى الحائري “قده” أن تقريب الاستدلال بالآية يتمّ في طيّ أمور:
منها: أنّ قوله تعالى “إِذٰا نُودِيَ” لا يكون ملحوظا بنحو الموضوعيّة، بضرورة من الشرع و العرف، فإنّه لا يحتمل أهل اللّسان أن يكون المقصود هو وجوب السّعي عند سماع النّداء، بحيث لو علم بدخول الوقت و انعقاد صلاة الجمعة لكن لم يكن نداء في البين لم يكن السّعي واجبا على أحد، كيف؟ و الأذان مستحبّ، فيمكن أن يخرج المسلمون من تحمّل هذا التكليف الشاقّ الّذي لابدّ من المسير إلى محلّ الأداء من الفرسخين بترك الأذان، حتّى لا يجب على أحد أن يصلّي الجمعة. فلابدّ أن يكون كناية، و حينئذ إمّا أن يكون كناية عن انعقاد الجمعة، أو يكون كناية عن دخول الوقت، أي زوال الشمس عن دائرة نصف النّهار. و لا ريب أنّ الثّاني أولى لوجوه:
1- انّ الأذان ملازم لدخول الوقت و لا يكون ملازما لانعقاد الجمعة، فإنّه قد ينادى للصّلاة من يوم الجمعة و لا ينعقد الجمعة، و كون “من” متعلّقا بالمحذوف -أي الصّلاة الّتي تقام في الزّمان الّذي هو يوم الجمعة- خلاف الظاهر قطعا، لأنّ الظاهر تعلّق الحروف و الظروف بأصل الفعل، فيكون المعنى على هذا أنّه إذا نودي في الزمان الّذي هو يكون يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللّه، و لا ريب أنّه لا يكون ملازما لانعقاد الجمعة حتّى يكون كناية عنه، و كونه في زمان النزول ملازما للانعقاد في خصوص مدينة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يكون قرينة على تقييد الخطاب القرآنيّ العامّ للأعصار و الدّهور.
2- الوقت ملحوظ بحسب سياق الآية، فإنّ المستفاد منها أنّها ليست بصدد بيان أنّه يلزم على المؤمنين أن يدركوا جمعة النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) و لو في الرّكوع الأخير، كما يستفاد من قوله تعالى “وَ تَرَكُوكَ قٰائِماً” الدالّ على كونه منتظرا لقدومهم، و كانوا يجيئون إلى الصّلاة مع التأخير، فالظاهر منها عند العرف أنه لابدّ عليكم السّعي أوّل الوقت المعلوم بالأذان، و الحاصل أنّ مقتضى إطلاق “إِذٰا نُودِيَ لِلصَّلٰاةِ” هو السّعي إلى ذكر اللّه و لو لم يقطع باقامة صلاة الجمعة أو يقطع بعدمها لكن يتمكّن من اقامتها.
3- انّ نفس اشتراط الوجوب بالانعقاد المستلزم لعدم الوجوب عند عدم الانعقاد -الموجب لترك فريضة من فرائض اللّه دائما- خلاف ارتكاز العقلاء، و الارتكاز المذكور لعلّه مانع عن انعقاد الظهور للآية، في كون “إِذٰا نُودِيَ” كناية عن انعقاد الجمعة، بحيث لم يكن للمسلمين تكليف بالنّسبة إلى الجمعة، و كان تكليفهم السعي إلى الجمعة إذا علموا انعقادها فقط[12].
وقد اورد السيد البروجردي “قده” على الاستدلال بالآية أنه بملاحظة مورد نزولها يعلم أنها ليست بصدد تشريع الجمعة، و إنما نزلت في واقعة خاصة اتفقت بعد ما كانت صلاة الجمعة مشرَّعة و معمولا بها بين المسلمين، فان دحية بن خليفة الكلبي كان يسافر إلى الشام و يأتي بمال التجارة إلى المدينة ثم يضرب بالطبل لإعلام الناس بقدومه، فقدم ذات جمعة و رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) يخطب لصلاة الجمعة، فلمّا ارتفع صوت الطبل خرج الناس و انفضوا إليه، بعضهم لشراء المتاع، و بعضهم لاستماع اللهو و تركوا النبي قائماً فنزلت الآية.
و المراد بالذكر فيها هو الخطبة كما عليه الأكثر، و قوله تَرَكُوكَ قٰائِماً يعنى به قائماً في الخطبة. و كان سيرته صلّى اللّٰه عليه و آله و سيرة الخلفاء بعده على القيام فيها، إلى أن وصل الأمرإلى معاوية فاختار القعود، وعليه فالمراد بالذكر في الآية بقرينة المورد هو الخطبة، و المقصود أمر الناس بأن يسعوا و يسرعوا لإدراك الخطبة، و هذا بعد ما فرض النداء إلى الجمعة التي أريد بها الجمعة الصحيحة الواجدة للشرائط لا محالة، فالآية إنما وردت في مقام التوبيخ لمن ترك حضور الجمعة المنعقدة و قدّم التجارة أو اللهو عليها بعد ما كان أصل تشريعها بشرائطها مفروغا عنه، فمفادها أنه إذا أقيمت صلاة الجمعة بشرائطها و حدودها فعلى الناس أن يسعوا إليها و يذروا ما يشغل عنها، و أما أنّه على من يجب عقدها و إقامتها، و ما هي شروط صحتها فليست الآية في مقام بيانها، فلعل شرط صحتها حضور المعصوم او نائيه الخاص[13].
كما ذكر السيد الخوئي “قده” في تقريب الاستدلال بالآية أن المنصرف من الكلام بعد ملاحظة تخصيص الجمعة من بين الأيام، إرادة صلاة الجمعة من ذكر اللّٰه، فيجب السعي إليها لظهور الأمر في الوجوب، ثم اورد عليه أوّلًا: أنّ غاية ما يستفاد من الآية المباركة بعد ملاحظة كون القضية شرطية إنّما هو وجوب السعي على تقدير تحقق النداء و إقامة الجمعة و انعقادها، و نحن نلتزم بالوجوب في هذا الحال، و أما وجوب إقامتها تعييناً فلا يكاد يستفاد من الآية بوجه.
و يؤيده قوله تعالى بعد ذلك “وَ إِذٰا رَأَوْا تِجٰارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهٰا وَ تَرَكُوكَ قٰائِماً” حيث يظهر منها أن الذمّ إنما هو على تركهم الصلاة بعد فرض قيام النبي (صلى اللّٰه عليه و آله) لها، و اتصاف الجمعة بالانعقاد و الإقامة، فيتركونه قائماً و يشتغلون باللهو و التجارة، و أما مع عدم القيام فلا ذمّ على الترك.
و بالجملة: وجوب السعي معلّق على النداء فينتفي بانتفائه بمقتضى المفهوم، و لا دلالة في الآية على وجوب السعي نحو المعلّق عليه كي تجب الإقامة ابتداءً.
و ثانياً: أن الاستدلال بها مبني على إرادة الصلاة من ذكر اللّٰه و هو في حيّز المنع، و من الجائز أن يراد به الخطبة كما عن بعض المفسرين، بل لعله المتعين، فإن السعي هو السير السريع، و مقتضى التفريع على النداء وجوب المسارعة إلى ذكر اللّٰه بمجرد النداء، و معه يتعين إرادة الخطبة، إذ لا ريب في عدم وجوب التسرّع إلى الصلاة نفسها، لجواز التأخير و الالتحاق بالإمام قبل رفع رأسه من الركوع بلا إشكال، و حيث إن الحضور و الإنصات للخطبة غير واجب إجماعاً فيكشف ذلك عن كون الأمر للاستحباب، و يؤيده قوله تعالى “ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ” و قوله تعالى “قُلْ مٰا عِنْدَ اللّٰهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجٰارَةِ” فإن التعبير بالخير يناسب الاستحباب، و إلا فلو أُريد الوجوب كان الأنسب التحذير عن الترك بالوعيد و العذاب الأليم، نعم لا نضايق من استعمال هذه الكلمة في موارد الوجوب، كقوله تعالى “وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ” و نحو ذلك، لكن الوجوب في أمثالها قد ثبت من الخارج بدليل مفقود في المقام، و إلا فهذه الكلمة في حدّ نفسها لا تقتضي إلا الندب و
الرجحان كما هو المتبادر منها و من مرادفها من سائر اللغات في الاستعمالات الدارجة في عصرنا، فانّ المراد بالخير لا سيما إذا كان متعدياً ب “من” كما في الآية الثانية، ليس ما يقابل الشر، بل ما يكون أحسن من غيره، فكأنه تعالى أشار إلى أنّ الصلاة لمكان اشتمالها على المنافع الأُخروية، فالإقدام إليها أفضل و أرجح من الاشتغال بالتجارة التي غايتها الربح الدنيوي الزائل، و قد وقع نظير ذلك في القرآن كثيراً كما في قوله تعالى “وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولىٰ” إذ ليس المراد ما يقابل الشر قطعاً.
و مما ذكرنا يعلم أنّ الأمر في الآية محمول على الاستحباب، حتى لو أُريد بالذكر الصلاة دون الخطبة، لمكان التذييل بتلك القرينة الظاهرة في الندب، فالإنصاف أنّ الاستدلال بهذه الآية للوجوب التعييني ضعيف[14].
وقد اجاب شيخنا الاستاذ عن هذه الاشكالات على الاستدلال بالآية على الوجوب التعييني لاقامة صلاة الجمعة في عصر الغيبة، فقال ان المراد بالنداء للصلاة من يوم الجمعة هو الاذان المعروف في سائر الأيام عند زوال الشمس واطلاقها يشمل زمان الغيبة ايضا، فينفي شرطية حضور المعصوم او نائبه الخاص، وتدل الآية على أنه اذا أذن لطبيعي الصلاة في يوم الجمعة كالاذان لها في سائر الايام تجب الاتيان بصلاة الجمعة على كل مكلف فان اقيمت فلابد من الحضور فيها والا فلبد من اقامتها مع التمكن منها، ودعوى عدم الاطلاق في الآية من هذه الجهة، لأن قوله تعالى بعد ذلك “واذا رأوا تجارة او لهوا انفضوا اليها وتركوك قائما” قرينة على ارادة النداء باقامتها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) مندفعة بأن تلك الآية لا تدل على اختصاص الآية الاولى بصلاة الجمعة منه (صلى الله عليه وآله)، كما أن دعوى كون المراد بالذكر خطبة صلاة الجمعة ولا يجب الحضور فيها قطعا فلابد من حمل الامر بالسعي على الاستحباب خصوصا مع اشتمال الذيل على لفظ الخير، مندفعة ايضا بأن الذكر لو لم يختص بالصلاة فلا ينبغي التأمل في أنه يعمها، فان الصلاة في نفسها ذكر كما يشير اليه قوله تعالى “اقم الصلاة لذكري” ولا منافاة بين كون السعي الى الخطبة مستحبا والسعي الى صلاة الجمعة واجبا، والتعبير بالخير ليس قرينة على رفع اليد عن ظهور الامر في الوجوب بعد كون استعماله في الواجب متعارفا ايضا[15].
كما اجاب المحقق الحائري “ره” عن الاشكال (بأن المستفاد من الآية الأمر بالسّعي الى الخطبة بمحض النّداء، و هذا مستحبّ قطعا، لعدم وجوب استماع الخطبة) فقال: الأقرب أن يكون الذكر بمعنى الصّلاة، لصدق الذكر عليها، و عدم معلوميّة صدقه على الخطبة، و لقوله تعالى إِذٰا نُودِيَ لِلصَّلٰاةِ. و قوله تعالى فَإِذٰا قُضِيَتِ الصَّلٰاةُ المشعر بأنّ المقصود درك الصّلاة و عدم فوت الصّلاة عنهم.
على أنه إن كان المقصود هو الخطبة و الأمر بالسعي إذا دخل الوقت، فلا يكون عدم وجوب السعي إلى الخطبة إذا فرض وقوعها بعد الظهر مسلّما، فإنّ المسلّم هو الصّحة و هي لا تنافي وجوب السعي[16].
اقول: الانصاف ظهور الآية ولا اقل من كون المحتمل فيها فرض اقامة صلاة الجمعة مفروغا عنها، وليست بصدد الامر باقامتها، فان النبي (صلى الله عليه وآله) كان يقيم الذكر وصلاة الجمعة وانما وبّخ الناس على تركهم اياه قائما اي حال كونه في القاء الخطبة بحيث ينتظر رجوعهم حتى يبدأ بصلاة الجمعة، ولا يستفاد منه الامر بتأسيس صلاة الجمعة، فالاستدلال بالآية على وجوب اقامة صلاة الجمعة مشكل جدا.
نعم ظهور الآية في وجوب حضور المسلمين في صلاة الجمعة بعد اقامتها بشرائطها مما لا ينبغي انكاره، ولا يتم اشكال السيد الخوئي “قده” (من كون المراد من الذكر في الآية على ما قاله جملة من المفسرين الخطبة ويدل عليه عدم وجوب المبادرة الى صلاة الجمعة بمجرد سماع اذان ظهر يوم الجمعة، والسعي الى الخطبة غير واجب قطعا ويشهد له اقترانه بلفظ الخير) فانه ظهر مما تقدم أن ظاهر الذكر ان لم يكن هو الصلاة فلا اقل من شموله له ومع غمض العين عنه فلا وجه لدعوى الجزم بعدم وجوب السعي نحو سماع الخطبة، كما أن لفظ الخير ليس قرينة مانعة عن ظهور الامر بالسعي وترك البيع في الوجوب، الا أن في شمول الآية لزمان الغيبة اشكالا من جهتين:
احداهما: ان الآيات الثلاثة في سورة الجمعة نزلت معا ويشهد لذلك قوله في الآية الاولى “وذروا البيع” فيكون موافقا لما في الآية الثالثة من قوله “واذا رأوا تجارة او لهوا انفضوا اليها وتركوك قائما…” ولا اقل من احتمال ذلك فيوجد فيها ما يصلح للقرينية على اختصاصه بصلاة الجمعة التي كان يقيمها النبي (صلى الله عليه وآله).
بل قد ذكرنا في الاصول أنه لو فرض صدور أداة الخطاب من المتكلم بحضور جماعة تصح مخاطبتهم بغرض التفهيم في مجلس التخاطب فلايبعد انصراف الخطاب اليهم، ولااقل من عدم ظهوره في الشمول للغائبين فضلا عن المعدومين، فاذا قال النبي (صلىاللهعليهوآله) لجماعة “ايها المؤمنون افعلوا كذا” فلايظهر منه في حد ذاته -لولامناسبة الحكم والموضوع كما في الامر بتقوى الله- العموم للغائبين فضلا عن المعدومين، فلعل المقصود خصوص الحاضرين في المجلس، كما أنه لايعلم أن المخاطب بقوله تعالى “يا ايها الذين آمنوا اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله” اعم من الموجودين في عصر نزول الآية ومن بحكمهم، فيشكل الامر في الاستدلال به على وجوب اقامة صلاة الجمعة في عصر الغيبة او وجوب الحضور فيها بعد اقامتها، ولاينافي ما ذكرناه ما ورد في تفسير العياشي عن أبي جعفر (علیه السلام) أنه قال: لو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء ولكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السماوات والأرض، وفي رواية أخرى: ان القران يجري كما يجري الشمس والقمر، فانه لایستفاد منها اكثر من أن مورد نزول الآية لايوجب اختصاص الآية به، لا أن جميع الآيات تكون بنحو القضية الحقيقية شاملة لجميع الناس او جميع المسلمين الى يوم القيامة، كيف وفي القرآن ما يختص بالحاضرين في عهد النبي (صلىاللهعليهوآله) كقوله تعالى “يا ايها الذين آمنوا اذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة” ومثل قوله تعالى “يا ايها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله ايديكم ورماحكم” مع انه الآن لايبتلى الناس في حال الاحرام بصيد البر مما تناله ايديهم ورماحهم.
وقد يقال بامكان تعميم الحكم بقاعدة اشتراك الاشخاص في التكليف حيث انه لاخصوصية للاشخاص في الحكم الشرعي فاذا دل الدليل على ثبوت الحكم في حق شخص دل بالالتزام على ثبوته في حق الآخرين.
وفيه أن قاعدة الاشتراك لاتنفي احتمال الخصوصية لحالة ملازمة للحاضرين ككونهم في عصر حضور المعصوم، فلايمكن التعدي الى من لايشاركهم في هذه الحالة كالموجودين في عصر غيبة المعصوم، وان شئت قلت: ان هذه القاعدة انما تثبت الحكم للآخرين إذا كانوا متحدين مع الحاضرين في الصنف، وليس هؤلاء كذلك، وقاعدة الاشتراك لاتتم مع الاختلاف في الصنف، فلايمكن التعدي من حكم المسافر الى الحاضر او بالعكس كما هو واضح.
[1] – رسائل الشهيد الثاني ج1 ص 174
[2] – رسائل الشهيد الثاني ج1ص 182
[3] -شرائع الإسلام ج1 ص 88
[4] – مسالك الأفهام ج1 ص 246
[5] – الروضة البهية في شرح اللمعة الدمشقية ج1، ص: 663
[6] – جواهر الكلام ج11 ص 174
[7] – مدارك الاحكام ج4ص 8
[8] – الموجود في البدر الزاهر التمثيل لهذا الصنف بحفظ الانتظامات الداخلية و سدّ ثغور المملكة و الأمر بالجهاد و الدفاع و نحو ذلك، والظاهر أنه خطأ من المقرر، اذ لا يتناسب مع سياقه كلامه في ولاية الفقيه حيث عد في ص 74سد الثغور وادراة امور المسلمين مما لا ينبغي اهماله، وقد نقل في تقرير آخر عن بحثه في صلاة الجمعة أن مثّل للصنف الثاني بالدفاع راجع تبيان الصلاة للمرحوم الشيخ علي الصافي ص 91.
[9] – البدر الزاهر في صلاة الجمعة والمسافر ص 80
[10] – راجع العروة الوثقى المحشى ج 2ص244
[11] – رسائل الشهيد الثاني ج 1 ص 177
[12] – صلاة الجمعة ص 123
[13] – البدر الزاهر ص 13
[14] – موسوعة الامام الخوئي ج16ص 15
[15] – تنقيح مباني العروة كتاب الصلاة ج1ص24
[16] – صلاة الجمعة ص 128