فهرست مطالب

فهرست مطالب

ولا بأس بما افاده.

و ذكر السيد الامام “قده” أن لازم استظهار اختصاص حرمة الغناء فيها بقسم خاص من الغناء أن تدور حرمته مدار عنوان دخول الرجال و مع عدمه يحلّ و لو بكلمات لهويّة و مقارنات محرّمة، و لا يلتزم به القائل، ثم قال: ان الظاهر منها التعرّض لقسمين من الغناء و عدم تعرّضها لسائر الأقسام، و ليس فيها مفهوم و إلّا لتعارض بين مفهوم الصدر و الذيل، و جعل الجملة الثانية كناية عن عدم دخولهم عليهنّ خلاف الظاهر، فلا تدلّ على مدّعاهم بوجه، نعم، فيها إشعار به لا يقاوم الروايات الدالّة على أنّه بذاته حرام [1].

الوجه الرابع: الاستدلال بصحيحة أبي بصير قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام) أجر المغنية التي تزف العرائس ليس به بأس، و ليست[2] بالتي يدخل عليها الرجال[3]، بدعوى أن ظاهرها تعليل جواز اجرها الكاشف عن جواز غناءها في زف العرائس بعدم دخول الرجال عليها، اي بعدم اقترانه بمحرم آخر، هو جواز الغناء غير المقترن بمحرم آخر مطلقا.

وقد ذكر الشيخ في الاستبصار بعد هذه الرواية والرواية السابقة ورواية أخرى عن حكم الخياط عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المغنية التي تزف العرائس لا بأس بكسبها، أن الوجه في هذه الأخبار الرخصة فيمن لا تتكلم بالأباطيل و لا تلعب بالملاهي من العيدان و أشباهها و لا بالقصب و غيره، بل يكون ممن تزف العروس و تتكلم عندها بإنشاد الشعر و القول البعيد من الفحش و الأباطيل فأما من عدا هؤلاء ممن يتغنين بسائر أنواع الملاهي فلا يجوز على حال سواء كان في العرائس أو غيرها[4].

وقد أجاب عنه السيد الامام “قده” بأن فيها على نسخة الواو احتمالات، كاحتمال أن تكون الجملة حالية عن فاعل تزفّ، و المعنى أنّ أجر المغنّية حلال إذا تزفّ العرائس و لم يدخل الرجال على النساء، و أن تكون الجملة بمنزلة التعليل، فتدلّ على عدم حرمة الغناء بذاته و يحرم أجر المغنّية لا للغناء، بل لدخول الرجال و سماع صوتها و رؤية وجهها و سائر حركاتها الملازمة له، و أن يكون المراد بها إفادة حرمة قسم من الغناء، و هو المقارن لدخول الرجال عليهنّ، فعلى الاحتمال الأوّل تدلّ على استثناء قسم خاصّ منه، و هو الذي في العرائس مع الشرط المذكور، و على الثاني تكون الرواية معارضة لجميع الأدلّة على أنّ الغناء حرام و مخالف مضمونها للإجماع، و على الثالث توافق كلام الكاشاني على إشكال، و هو أنّ الظاهر من قوله “و ليست بالتي” كون دخولهم عليهنّ بعنوانه موضوع الحكم، لا عنوانا مشيرا إلى نوع خاصّ من الغناء أو مجالس خاصّة، و هم لا يلتزمون بظاهر الرواية، و لا وجه لحملها على خلاف ظاهرها، و لا ترجيح ظاهر في أحد الاحتمالات المتقدّمة يمكن الاتكال عليه لو لم نقل بترجيح الأوّل حتّى يلتئم بين الأدلّة، أو الاحتمال الثاني في نفسه لو لا مخالفته لما ذكرناه، لأنّ الظاهر من قوله “لا بأس و ليست بالتي يدخل عليها الرجال” أنّ الفساد مترتّب عليه و ليس في الغناء بما هو فساد و لعلّ الحرمة في دخولهم لأجل كونهم أجنبيّا يحرم التغنّي عندهم لا لذات الغناء.

و الإنصاف أنّ طرح الأدلّة الظاهرة الدلالة بمثل هذه الرواية المشتبهة المراد مع اختلاف النسخ غير جائز، سيّما مع مخالفة مضمونها لجميع الأقوال سواء في ذلك نسخة إثبات الواو و إسقاطها[5].

وذكر شيخنا الاستاذ “قده” أنه لابد من حمل قوله “بالتي يدخل عليها الرجال” على العنوان المشير يعني إلى التي تغني في غير الزفاف، و لعل دخول الرجال عليها كان متعارفا في غنائها في غير الزفاف. و يحتمل ان يكون قوله “و ليست” حالا أي التي تزف العرائس لا بأس بكسبها حال عدم دخول الأجانب عليها، و عدم دخولهم من باب المثال و المراد عدم ارتكاب محرم آخر. و لا بأس بالالتزام بجواز الغناء في الأعراس ما لم يقترن بمحرم آخر، حيث أن حل الكسب بعمل يلازم جواز ذلك العمل[6].

الوجه الخامس: ما دل على الترغيب الى قراءة القرآن بصوت حسن، فيقال بأنه لا يخلو عادة عن الترجيع المطرب، ففي مستطرفات السرائر نقلا من كتاب محمد بن علي بن محبوب عن العباس عن حماد بن عيسى عن معاوية بن عمار قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) الرجل لا يرى أنه صنع شيئا- في الدعاء و في القراءة حتى يرفع صوته- فقال لا بأس إن علي بن الحسين ع- كان أحسن الناس صوتا بالقرآن- و كان يرفع صوته حتى يسمعه أهل الدار- و إن أبا جعفر (عليه السلام) كان أحسن الناس صوتا بالقرآن- و كان إذا قام من‌ الليل و قرأ رفع صوته- فيمر به مار الطريق من الساقين و غيرهم- فيقومون فيستمعون إلى قراءته[7] وفي رواية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال النبي (صلى الله عليه وآله) لكل شي‌ء حلية و حلية القرآن الصوت الحسن، وفي رواية علي بن أبي حمزة عن أبي بصير قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) إذا قرأت القرآن- فرفعت صوتي جاءني الشيطان- فقال إنما ترائي بهذا أهلك و الناس- قال يا أبا محمد اقرأ قراءة ما بين القراءتين- تسمع أهلك و رجع بالقرآن صوتك- فإن الله عز و جل يحب الصوت الحسن يرجع فيه ترجيعا[8]، وفي معاني الأخبار قال (صلى الله عليه وآله) ليس منا من لم يتغن بالقرآن‌[9].

اقول: أما تحسين الصوت بالقران بل الترجيع فيه فهو اعم من الغناء، سواء أخذ الاطراب في تعريف الغناء او اخذ فيه الكيفية اللهوية، وأما الرواية الأخيرة فمع غمض العين عن ضعف سندها بالارسال يحتمل كون المراد منها كما في معاني الأخبار أنه ليس منا من لم يستغن ب‍القرآن، وان كان هذا الاحتمال بعيدا عن لفظ التغني خصوصا مع ما ورد في الخبر من أن القرآن نزل بالحزن فاذا قرأتموه فابكوا، فان لم تبكوا فتباكوا وتغنوا به فمن لم يتغن بالقرآن فليس منا[10]، فان اقتران الامر بالتغني بكيفية تحزين الصوت والتباكي فيه يجعله ظاهرا في ارادة التغني في الصوت، لكن يوجد قرينة على كون المراد به مطلق تحسين الصوت، فانه لا يتناسب أن يقول النبي (صلى الله عليه وآله) أن من لم يتغن بالقرآن فليس منا اذ غاية ما يحتمل جواز التغني بالقرآن لا أن من لم يفعل ذلك فليس منهم، مضافا الى معارضة هذه الرواية بما في الكافي عن علي بن محمد عن إبراهيم الأحمر عن عبد الله بن حماد عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) اقرءوا القرآن بألحان العرب و أصواتها و إياكم و لحون أهل الفسق و أهل الكبائر فإنه سيجي‌ء من بعدي أقوام يرجعون القرآن ترجيع الغناء و النوح و الرهبانية لا يجوز تراقيهم قلوبهم مقلوبة و قلوب من يعجبه شأنهم[11]، وفي رواية عطاء بن أبي رياح عن عبد الله بن عباس عن رسول الله (صلى الله عليه وآله) في حديث قال: إن من أشراط الساعة إضاعة الصلوات و اتباع الشهوات و الميل إلى الأهواء … فعندها يكون أقوام يتعلمون القرآن لغير الله و يتخذونه مزامير و يكون أقوام يتفقهون لغير الله و تكثر أولاد الزنا و يتغنون بالقرآن… و يستحسنون الكوبة و المعازف- و ينكرون الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر … فأولئك يدعون في ملكوت السماوات الأرجاس الأنجاس[12]، وفي مرسلة الصدوق: سأل رجل علي بن الحسين (عليه السلام) عن شراء جارية لها صوت فقال ما عليك لو اشتريتها فذكرتك الجنة، يعني بقراءة القرآن والزهد والفضائل التي ليست بغناء فأما الغناء فمحظور[13]، والاستدلال بها مبني على عدم احتمال كون الذيل من كلام الصدوق.

وعليه فلا ينبغي الاشكال في حرمة الغناء وان لم يقترن بمحرم آخر.

تعريف الغناء

بعد ما ثبت حرمة الغناء ينبغي الكلام في تعريف الغناء، ففي القاموس: الغناء من الصوت ما طرِّب به، وفي المصباح المنير “الغناء مد الصوت المشتمل على الترجيع المطرب” وهذا هو المشهور في تعريف الغناء في كلمات الفقهاء، وبناء عليه يخرج الصوت اللهوي الحسن المتضمن لاشعار لهوية مع أنه لا ريب في صدق الغناء عليه، ولذا التجاء في مجمع البحرين أن يقول: الغناء ككساء: الصوت المشتمل على الترجيع المطرب أو ما يسمى بالعرف غناء و إن لم يطرب، سواء كان في شعر أو قرآن أو غيرهما.

وفي لسان العرب: كل من رفع صوته و ولّاه فصوته عند العرب غناء، وعن بعضهم أن الغناء تحسين الصوت، ومن المطمأن أن الغناء لم يكن مجرد تحسين الصوت، والا لم يناسب أن يذكر مصداقا لقول الزور في الروايات، فهل ترى أن تحسين الصوت لقراءة القرآن و المراثي و المدائح يكون من الغناء.

وعليه فمع غمض العين عن عدم حجية قول اللغوي كما ذكرنا في الاصول، ان كلماتهم مضطربة في تفسير الغناء، وقد ذكر المحقق الايرواني “قده” أنه قد اضطربت كلمات الفقهاء و اللغويّين في ذلك و لا عرف حاضر غير متلقّى من أرباب الشّرع يرجع إليه و الأدلّة خالية عن التعرّض للموضوع، و عليه فينبغي اعتبار كلّ ما احتمل دخله، و ما عداه مشكوك الحرمة يرجع فيه إلى الأصل و المتيقّن هو الكلام الباطل في ذاته و بحسب المدلول و المشتمل على المدّ و الترجيع و الإطراب و المراد من بطلان الكلام بحسب المعنى هو أن يكون معناه معنى لهويّا يقال به في مقام التلهي لا في مقام الإفادة و الاستفادة كأكثر ما قيل من الشعر في مقام التعشّق و التغزّل[14]

و نقل السيد الامام “قده” عن الشيخ محمد رضا الاصفهاني صاحب كتاب وقاية الاذهان “ره” أنه ذكر في رسالة الغناء أن الغناء صوت الإنسان الذي من شأنه إيجاد الطرب بتناسبه لمتعارف الناس، و الطرب هو الخفّة التي تعتري الإنسان فتكاد أن تذهب بالعقل و تفعل فعل المسكر لمتعارف الناس أيضا، والمعتبر في الغناء هو تناسب كيفية الصوت، فالصوت الخالي عن التناسب لا يكون غناء و إن أوجب الطرب و قصد به اللهو، والصوت المتناسب غناء و إن كان من أبحٍّ رديّ الصوت و لم يطرب بل أوجب عكس الطرب كما قيل: “اذا غناني القرشي — دعوت الله بالطرش”.

ثم اورد عليه بأنه لا يعتبر في صدق الغناء أن يبلغ الإطراب ذلك الحدّ الذي يذهب العقل، فإنّ للغناء مراتب كثيرة من حيث الحسن و الإطراب، فربّما بلغ فيه غايته كما لو كان الصوت بذاته في كمال الرقّة و الرخامة و كان الصائت ماهرا في البحور الموسيقية، و كان البحر مناسبا له كالبحر الخفيف مثلا، فحينئذ لا يبعد أن يكون مزيلا للعقل، و ربّما لا يكون بتلك المرتبة كما لعلّه كذلك غالبا، و كلمات اللغويّين أيضا لا يساعده، لعدم تقييد مهرة الفنّ بحصول تلك‌ المرتبة، و يرد على ما ذكره من أنّ من الغناء الصوت المتناسب و إن كان من أبحّ رديّ الصوت و لم يطرب بل أوجب عكس الطرب، مخالف لصريح كلامه في الحدّ أنّ الغناء هو ما يكون مطربا، و صريحه ها هنا أنّ من الغناء ما لم يطرب بل أوجب العكس، والصحيح أن الصوت المنكر الرديّ لا يكون غناء عرفا مهما روعي فيه التناسب، و الظاهر أنّ تسمية صوت القرشي بالغناء في ذاك الشعر كان من باب التهكّم و الاستهزاء، كتسمية البخيل بحاتم، و الجبان بالأسد، فالأولى تعريف الغناء بأنّه صوت الإنسان الذي له رقّة و حسن ذاتي و لو في‌ الجملة، و له شأنيّة إيجاد الطرب بتناسبه لمتعارف الناس، و بما ذكرناه تظهر الخدشة في الحدّ المنتسب إلى المشهور، و هو مدّ الصوت المشتمل على الترجيع المطرب، فإنّ الغناء لا يتقوّم بالمدّ و لا الترجيع، ففي كثير من أقسامه لا يكون مدّ و لا ترجيع، فتحصّل من ذلك أنّ الغناء ليس مساوقا للصوت اللهوي و الباطل، و لا لألحان أهل الفسوق و الكبائر، بل كثير من الألحان اللهويّة و أهل الفسوق و الأباطيل خارج عن حدّه، و لا يكون في العرف و العادة غناء، و لكلّ طائفة من أهل اللهو و الفسوق و التغنّي شغل خاصّ في عصرنا، و محالّ خاصّة معدّة له، و لشغله و صنعته اسم خاصّ يعرفه أهل تلك الفنون.

ثمّ إنّ مقتضى كلمات كلّ من تصدّى لتحديد الغناء أنّه من كيفيّة الصوت أو الصوت نفسه، و ليست مادّة الكلام دخيلة فيه، و لا فرق في حصوله بين أن يكون الكلام باطلا أو حقّا و حكمة أو قرآنا أو رثاء لمظلوم، و هو واضح لا ينبغي التأمّل فيه[15].

اقول: ما ذكره من عدم صدق الغناء على الصوت الردي فيكفينا الشك في صدقه في التمسك باصل الاباحة، بل لا يعلم بصدق الغناء على كل صوت حسن متناسب من شأنه ايجاد الخفة، كما نشاهده في قراءة بعض القرآء، وصوت بعض الرادودين، وتعريف الغناء بالصوت المتناسب لمجالس اهل اللهو واللعب، كما في بعض الكلمات ايضا غير واضح، فانه كما ذكر المحقق الايرواني “ره” (في مقام الايراد على ما قاله الشيخ الاعظم “ره” من أن الغناء كيفية مناسبة لالحان اهل الفسوق والمعاصي) انه ليس لأهل الفسوق و المعاصي لحن مخصوص يمتازون به عن أهل الطّاعات نعم أهل الفسوق يتكلّمون بالأقوال الباطلة و ما لا يعني من القول و أهل الطّاعة منزّهون عن ذلك لكن هؤلاء في كلامهم الحقّ و أشعارهم الحكمي يضاهئون أولئك في كلامهم الباطل في كيفيّة الأداء.

وعليه فلابد من التأمل في أنه هل يعتبر في صدق الغناء جزما او احتمالا كون مضمون الكلام باطلا، ام لا، وفيه احتمالات ثلاثة:

الاحتمال الاول: ما ذهب اليه جماعة من تقوم الغناء بكون مضمون الكلام باطلا، وقد ذكر المحقق الايرواني “قده” أنه ليس لأهل الفسوق و المعاصي لحن مخصوص يمتازون به عن أهل الطّاعات، كما أنّ الكيفيّة في ذاتها لا تتّصف باللّهو و البطلان بل المدار في الاتصاف باللهويّة هو مدلول الكلام، فإن كان الكلام بمدلوله لهوا كان لهوا بأيّة كيفيّة أدّي، و ان لم يكن لهوا لم يكن لهوا بأيّة كيفيّة أدّي[16].

الاحتمال الثاني: ما ذكره جماعة من أن الغناء كيفيّة الصوت و ليست مادّة الكلام دخيلة فيه، فلا فرق في حصوله بين أن يكون الكلام باطلا أو حقّا، بل ذكر السيد الامام “قده” أنه واضح لا ينبغي التأمّل فيه.

كما ذكر شيخنا الاستاذ “قده” أنه لا ينبغي التأمل في كون الغناء عرفا هي الكيفية للصوت، و لا دخل في صدقه لبطلان معنى الكلام و عدمه، و لذا من سمع من بعيد صوتا يكون فيه الترجيع الخاص المناسب للرقص و ضرب الأوتار يحكم بأنه غناء، و ان لم يتميز عنده مواد الكلام و لعل هذا هو المراد من قولهم بأنه مد الصوت المشتمل على الترجيع المطرب، بان يكون مرادهم تطويل الصوت بنحو خاص اى تطويله بترجيعه و ترديده في الحلق، بنحو يقتضي الطرب أى يناسبه، و الطرب حالة تعرض النفس من شدة الفرح أو الحزن و حقيقته خروج النفس عن اعتدالها و لذا ربما يفعل الإنسان‌ في ذلك الحال ما لا يفعله في غيره، و يشهد على ما ذكرنا- من كون الغناء هي كيفية الصوت من غير دخل لمعنى الكلام فيه- موثقة عبد الأعلى قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن الغناء- و قلت إنهم يزعمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله) رخص- في أن يقال جئناكم جئناكم حيونا حيونا نحيكم- فقال كذبوا إن الله عز و جل يقول و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما لاعبين- لو أردنا أن نتخذ لهوا لاتخذناه من لدنا إن كنا فاعلين- بل نقذف بالحق على الباطل فيدمغه- فإذا هو زاهق و لكم الويل مما تصفون ثم قال ويل لفلان مما يصف رجل لم يحضر المجلس[17]، حيث أن الكلام المنكر الوارد فيها ليس باطلا من جهة المعنى[18].

الاحتمال الثالث: ان يكون المضمون اللهوي والباطل مؤثرا في صدق الغناء، الا اذا كانت الكيفية شديدة اللهو فتكفي في صدق الغناء ولو كان في الاشعار الحقة او القرآن، وهذا هو الظاهر من كلام السيد الخوئي “قده” حيث ذكر أن الغناء المحرم عبارة عن الصوت المرجع فيه على سبيل اللهو و الباطل و الإضلال عن الحق سواء تحقق في كلام باطل أم في كلام حق، و سماه في الصحاح بالسماع، و يعبر عنه في لغة الفرس بكلمة: دو بيت و سرود و آوازه خواندن، و يصدق عليه في العرف أنه قول زور و صوت لهوي، فكل صوت كان صوتا لهويا و معدودا في الخارج من ألحان أهل الفسوق و المعاصي فهو غناء محرم.

وهذا الضابط يتحقق بأحد أمرين:

الأول: أن تكون الأصوات المتصفة بصفة الغناء مقترنة بكلام لا يعد عند العقلاء إلا باطلا، لعدم اشتماله على المعاني الصحيحة، بحيث يكون لكل واحد من اللحن و بطلان المادة مدخل في تحقق معنى السماع و الغناء، و مثاله الألفاظ المصوغة على هيئة خاصة المشتملة على الأوزان و السجع والقافية، و المعاني المهيجة للشهوة الباطلة و العشق الحيواني من دون أن تشتمل على غرض عقلائي، و عليه فلو وجد اللحن المذكور في كلام له معنى صحيح عند العقلاء لما كان غناء.

الثاني: أن يكون الصوت بنفسه مصداقا للغناء و قول الزور و اللهو المحرم، كألحان أهل الفسوق و الكبائر التي لا تصلح إلا للرقص و الطرب، سواء تحققت بكلمات باطلة أم تحققت بكلمات مشتملة على المعاني الراقية، كالقرآن و نهج البلاغة و الأدعية[19]

وقد يقال: ان ظاهر تطبيق قول الزور في قوله تعالى “اجتنبوا قول الزور” على الغناء في الروايات هو كون مضمونه باطلا، فان ظاهره كون الزور مقولا لا كيفية القول، والا لقال “القول الزور” ففي كتاب المكاسب للشيخ الاعظم أنه قد يقال: ان تطبيق قول الزور على الغناء قرينة على كون المراد به الكلام الباطل لا الكيفية في الصوت مطلقا و يؤيد كون المراد بالغناء فيها هو الكلام الباطل، صحيحة حماد بن عثمان عن ابى عبد اللّه (عليه السلام) قال: سألته عن قول الزور؟ قال منه قول الرجل للذي يغني أحسنت[20]، فإن قوله أحسنت باعتبار تضمنه مدح الفاعل على فعله الحرام باطل، وكذا ما ورد في تفسير لهو الحديث، وهو رواية ابن أبي عمير عن مهران بن محمّد عن الحسن بن هارون (لم يوثق) قال سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: الغناء مجلس لا ينظر اللّه إلى أهله و هو ممّا قال اللّه عزّ و جلّ: وَ مِنَ النّٰاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللّٰهِ، ورواية علي بن أبي حمزة البطائني عن أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن كسب المغنيات فقال التي يدخل عليها الرجال حرام و التي تدعى إلى الأعراس ليس به بأس و هو قول‌ الله عز و جل و من الناس من يشتري لهو الحديث ليضل عن سبيل الله[21]، بناء على كون اضافة اللهو الى الحديث من إضافة الصفة إلى موصوفها، حيث ان كون الحديث لهوا عبارة أخرى عن بطلان معناه نعم لو كانت إضافته إليه من اضافة المظروف الى ظرفه المعبر عن ذلك في علم الأدب بكون الإضافة بمعنى “في” فيعم الغناء في الكلام الصحيح، وكذا ما ورد في تفسير “والذين لا يشهدون الزور”من أنه الغناء، فإنّ مشاهد الزور التي مدح اللّه تعالى من لا يشهدها، هي مجالس التغنّي بالأباطيل من الكلام، فالإنصاف، أنّها لا تدلّ على حرمة نفس الكيفيّة إلّا من حيث إشعار “لَهوَ الحديثِ” بكون اللهو على إطلاقه مبغوضاً للّه تعالى[22].

وقد اورد عليه كثير من الاعلام بأن ما ذكر لا يلازم كون الغناء متقوما بكون مضمون الكلام باطلا، فقد ذكر المحقق الايرواني “ره” أن تفسير قول الزور بالغناء لا يقتضي أن يكون الغناء من مقولة الكلام لصحّة هذا التفسير و إن كان الغناء من كيفيّة الكلام، لاتّحادهما خارجا، فإذا كانت الكيفيّة زورا باطلا صدق أنّ الكلام زورا باطل، وكون قول “أحسنت” من قول الزّور بلحاظ مدلوله لا يقتضي أن يكون مصداقية الغناء له ايضا بهذا اللحاظ، فلعلّ قول الزّور كلمة عامّة تصدق تارة بلحاظ المدلول و أخرى بلحاظ الدّال و بلحاظ كيفيّة أداء الألفاظ‌، كما أن لهو الحديث بناءً على أنّ الإضافة من إضافة الصّفة إلى الموصوف لا تدل على أن الغناء من مقولة الكلام، فلعلّ صفة لهويّته هي صفة غنائيّته و كيفية أداء ألفاظه، نعم إذا كانت الإضافة بيانيّة دلّت على أنّ الغناء من اللّهو الّذي هو الحديث فيأتي فيها من الكلام ما تقدم في الطائفة الأولى فإنّه يمكن أن يوصف الحديث بكونه لهوا باعتبار الكيفية اللهويّة، كما أنه ‌إن أراد أنّ مشاهد الزّور في الخارج كانت كذلك فذلك لا يقتضي تخصيص الآية بها و إن أراد أن خصوص هذا العنوان هو المقصود فتلك مصادرة بالمطلوب‌[23]


[1] – المكاسب المحرمة ج‌1 ص 326

[2] – هكذا في الوسائل نقلا عن الكافي ومن لا يحضره الفقيه والتهذيب وهو مطابق لما في من لا يحضره الفقيه ج3ص 161 لكن المنقول في الكافي “ليست” بدون واو، راجع الكافي ط دار الحديث ج9ص 662  وكذا في التهذيب ج6ص 357و الاستبصار ج3ص 62

[3] – وسائل الشيعة؛ ج‌17، ص: 120

[4] – الاستبصار ج‌3، ص: 62

[5] – المكاسب المحرمة ج 1ص

[6] – ارشاد الطالب ج 1ص

[7] – وسائل الشيعة ج‌6 ص 209

[8] – وسائل الشيعة، ج‌6، ص: 212‌

[9] – معاني الأخبار ص: 279

[10] – مجمع البحرين ج1ص 321

[11] – وسائل الشيعة ج‌6 ص 210‌

[12] – وسائل الشيعة ج‌17 ص 310

[13] – وسائل الشيعة ج17ص 122

[14] – حاشية المكاسب ج1ص29

[15] – المكاسب المحرمة ج 1ص300

[16] – حاشية المكاسب ج1ص30

[17] – وسائل ج17ص 307

[18] – إرشاد الطالب ج‌1، ص: 179

[19] – مصباح الفقاهة ج1ص 312

[20] – وسائل الشيعة ج17ص309

[21] – وسائل الشيعة؛ ج‌17، ص: 120

[22] – المكاسب ج‌1 ص 287

[23] – حاشية المكاسب ج1ص30