والحاصل أن العلم بالوجود لا يتقوم بالاشارة الى الخارج الذي يكون جزئيا، بحيث تجعل المفهوم المشار به جزئيا يمتنع صدقه على كثيرين، وانما یتقوم بالتصديق بالوجود، ولو كان وجود عنوان جامع يمكن صدقه على كثيرين، وعليه فاذا اخبر المعصوم بوجود الانسان في الدار يوم الخميس، وعلمنا بسبب آخر بوجود زيد فيها، وشککنا فی وجود عمرو معه، فنحتمل كون الانسان فی الدار زيدا وعمرا معا او زیدا فقط، فنقول: المتيقن يوم الخميس وهو وجود الانسان في الدار يوم الخميس مشکوك البقاء يوم الجمعة، فالعمدة في المنع عن جريان استصحاب القسم الثالث هو الوجه الاول.
وبذلك تبين أن الحق عدم جريان استصحاب القسم الثالث من الكلي، خلافا لجمع من الاعلام الذين سبق ذكرهم ونضيف اليهم المحقق الايرواني “قده” حيث قال إنّه يصدق بقاء الكلي ولو مع تبادل أفراده، نعم، يستصحب عدم حدوث ذلك الفرد المشكوك الحدوث، فينفى به الآثار الخاصّة بالفرد كما في القسم الثاني.
ثم قال: في مثل اللحية إذا شكّ في بقائها كان استصحابها من قبيل القسم الثالث؛ لأنّ اللحية على تقدير وجودها في زمان الشكّ ليست هي اللحية الموجودة قبل سنة أو في زمان اليقين، و مع ذلك الاستصحاب جار حتّى على القول بالمنع من استصحاب هذا القسم؛ للمسامحة العرفيّة و عدّ الموجود اللاحق عين الموجود السابق، و أمّا الاستصحاب في كلّى الأمور التدريجيّة و في استصحاب أحكام الشرائع السابقة فهو مبنيّ على حجّيّة الاستصحاب في هذا القسم[1].
وقد مر أن استصحاب الامور التدريجية كالتكلم من استصحاب الفرد، والا فلا معنى لاستصحاب الكلي مع الفصل بين زمان ارتفان أنأن ع الفرد المتيقن الحدوث وزمان الحدوث المحتمل للفرد الجديد، ومثال استصحاب اللحية من قبيل استصحاب الفرد، سواء اريد به بقاء اقتضاء الشخص لنبت اللحیة، -كما ذكر الشيخ الاعظم “ره” بالنسبة الى استصحاب اقتضاء من تكون عادتها رؤية الدم الى سبعة ايام مثلا وتقدم هذا الاستصحاب على استصحاب عدم عود الدم فيما اذا انقطع الدم قبل انقضاء هذه المدة- او اريد به حالة كون الشخص ذا لحية فانها حالة واحدة مستمرة عرفا، او اريد به بقاء شعر اللحية، فان العرف ينظر الى مجموع الشعر النابت بنظرة وحدانية.
كما ذكر المرحوم الشيخ مرتضى الحائري “ره” أنّ منشأ المنع من جريان استصحاب القسم الثالث هو الذهاب الى لزوم وحدة الوجود في المتيقن السابق والمشكوك اللاحق، لكن الصحيح كفاية وحدة الذات فيهما، والا لزم عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية، كوجوب صلاة الجمعة، لأنّ موضوع المستصحب ليس موجوداً في الخارج، بل الوحدة بين القضيّة المتيقّنة و المشكوكة إنّما هي من حيث الذات، و القول بأنّ المتيقّن هو الإنسان المنطبق على زيد مثلاً عدولٌ عن استصحاب الكلّي الذي لا يلحظ فيه تلك الخصوصيّة، واليقين بوجود زيدٍ و إن لم يكن سبباً لليقين بوجود الإنسان المطلق، إلّا أنّه يصير سبباً لليقين بتحقّق أصل الإنسان من دون لحاظ الخصوصيّة، و هو مشكوك أيضاً من دون لحاظ الخصوصيّة؛ ولولا ذلك لكان ينبغي الإشكال في القسم الثاني من الكلّيّ، لأنّ ما هو المتيقّن في الخارج لم يحرز أنّه بعينه المشكوك بقاؤه، إذ لعلّه هو المقطوع ارتفاعه، فلم يحرز وحدة القضيّة المتيقّنة و المشكوكة وجوداً، فلا محيص إلّا عن الالتزام بكفاية الوحدة الذاتيّة بين القضيّتين، و إن أبيت عن ذلك كلّه فلا أقل من جريان الاستصحاب في ما إذا كان سبب اليقين بوجود الكلّيّ غير اليقين بالفرد[2].
وفيه أن الاستصحاب لما كان تعبدا ببقاء الوجود فظاهر دليله كون موضوعه اليقين بوجود شيء، والشك في بقاء الوجود السابق، ولا تكفي الوحدة الذاتية، وأما النقض باستصحاب الاحكام ففيه أن وجود كل شيء بحسبه والحكم له وجود اعتباري عرفي.
ثم انه لو فرض جريان الاستصحاب في القسم الثالث من الكلي فالظاهر عدم الفرق بين الفرض الاول و الثاني فيه، اذ لو كان يكفي احتمال بقاء الكلي في ضمن فرد آخر، فلا يهم احتمال وجود ذلك الفرد مقارنا لوجود الفرد المتيقن السابق او احتمال وجوده مقارنا لارتفاعه، كما لا فرق بين كون صرف وجود الكلي موضوعا للحكم او مطلق وجوده، كما ذكر الشيخ الاراكي “قده” في تعليقة الدرر، كما مر نظيره في استصحاب القسم الثاني من الكلي، نعم يكون هذا الاستصحاب مبتلى بالمعارضة مع استصحاب عدم الفرد المشكوك لنفي الاثر المترتب عليه بضم العلم الوجداني بانتفاء الاثر المترتب على وجود الفرد المتيقن الارتفاع، هذا ولم نفهم وجه تعبيره “قده” بأنه حيث لا يرى اعتبار الشك في البقاء وانما يرى كفاية وحدة القضية المتيقنة والمشكوكة، ولذا يجري الاستصحاب في الامور التدريجية، فلأجل ذلك لا يقبل التفصيل بين صرف الوجود ومطلق الوجود، فان اعتبار الشك في البقاء العرفي لا يمنع من جريان الاستصحاب في الامور التدريجية، بعد كون الجزء اللاحق، استمرارا عرفيا للجزء السابق، ولذا يقول العرف “تكلم زيد ساعة” او “مشى ساعة”، ولو لم يصدق الشك في البقاء لم يصدق وحدة القضيتين ايضا.
ثم ان الفرض الثالث المذكور في كلام الشيخ الاعظم “ره” للقسم الثالث من الكلي والذي التزم بجريانه كالفرض الاول منه خارج عن استصحاب الكلي تخصصا، لكونه داخلا في استصحاب الفرد، ما لم يكن الضعف والشدة موجبا لتبدل الفرد عرفا، كما في مثال عدالة زيد اذا علمنا بوجود المرتبة الشديدة منها فيه ثم علمنا بزوال شدتها وشككنا في بقاء اصلها، وقد ذكر صاحب الكفاية “ره” أن الاختلاف بين الوجوب والاستحباب وان كان من هذا القبيل عقلا لكنهما فردان من الطلب، فاذا علم بوجود الطلب في ضمن الوجوب وعلم بنسخ الوجوب الا أنه احتمل وجود اصل الطلب في ضمن الاستصحاب فيكون من الفرض الثاني لاستصحاب القسم الثالث، والصحيح عدم جريانه.
اقول: الظاهر أنه لامانع من استصحاب روح الحكم وهو ارادة المولى بالنسبة الى الفعل ولايضر العلم بارتفاع مرتبتها الشديدة فيكون نظير استصحاب بقاء السواد بعد العلم بزوال مرتبته الشديدة، واما الاستصحاب في نفس الحكم فيختلف باختلاف المباني في حقيقة الوجوب والاستحباب، فبناء على احتمال تباين الوجوب والاستحباب عرفا حيق يحتمل كون المجعول ثبوتا في الوجوب نفس الوجوب ولابدية الفعل، فيكون استصحاب الجامع بينهما من قبيل الاستصحاب في الفرض الثاني من القسم الثالث من الكلى، وأما بناء على كون الوجوب عرفا هو طلب الفعل مع المنع من الترك او طلب الفعل مع عدم الترخيص في الترك فلامانع من جريان استصحاب اصل الطلب عند العلم بزوال الوجوب.
هذا واما بناء على مبنى السيد الخوئي “قده” من كون الوجوب والاستحباب حكم العقل فلاينبغي الاشكال فى امكان استصحاب الحكم الشرعي وهو طلب الفعل او اعتبار الفعل على الذمة، فالمهم في الاشكال على استصحاب بقاء اصل الطلب هو ابتنائه على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية، وهوممنوع كما مر سابقا.
تنبيه: ذكر السيد الخوئي “قده” أن الحكم اذا كان انحلاليا بلحاظ الزمان، فيكون استصحاب بقاء الحكم من قبيل القسم الثالث من الكلي، وذلك مثل حرمة وطء الحائض، لأن الحرمة في الزمان الاول و هو زمان نزول دم الحيض غير الحرمة في الزمان الثاني و هو زمان انقطاع حيضها و قبل اغتسالها، فيختص جريان استصحاب بقاء الحكم مع قطع النظر عن معارضته باستصحاب عدم الجعل الزائد بما اذا كان الحكم واحدا مستمرا كنجاسة الماء من زمان تغيره الى زمان زوال تغيره([3]).
و لكن الصحيح كفاية وحدة عملية الجعل في الحكم الانحلالي بلحاظ الافراد الطولية الناشئة من اختلاف الزمان، في كون استصحابه من قبيل استصحاب الفرد دون القسم الثالث من الكلي، كما يدعيه السيد الخوئي “ره”، و ان فرض تعلق الحرمة في الخطاب بافراد الوطء، كما هو مفاد العموم، فقيل “كل فرد من افراد وطء الزوجة حرام حال حيضها” فانه يقال باحتمال استمرار هذه الحرمة الى ما بعد انقطاع الدم و قبل اغتسالها.
وأما دعوى بعض السادة الاعلام “دام ظله” من كون استصحاب بقاء الحكم من قبيل القسم الثاني من الكلي، حيث يدور امر الحكم كنجاسة الماء المتغير بين الفرد القصير الذي يزول بزوال التغير او الفرد الطويل الذي يبقى بعد زوال التغير، و لكن حيث ان الاثر مترتب على الجامع بينهما فلا مانع من استصحاب الجامع، ففيه أن الحكم الشرعي اذا لوحظ كوصف للموضوع الخارجي و يحدث بحدوثه و يبقى ببقاءه كما هو مقتضى استصحابه فطوله و قصره لا يوجبان تعدد الفرد المجعول عرفا و انما يوجبان الاختلاف في حالات الفرد المجعول.
استصحاب القسم الرابع من الكلي
ذكر جمع من الاعلام قسما رابعا لاستصحاب الكلي وهو ما لو علم بوجود فرد من الكلي وارتفاعه، وعلم ايضا بوجود فرد من الكلي ويوجد لهذا الفرد عنوان لا يعلم بانطباقه على ذلك الفرد المعلوم الارتفاع،كما إذا وجد الشخص في ثوبه منيّا علم أنّه منه، لكن تردّد أنّه من جنابته السابقة التي اغتسل منها أو أنّه من جنابة حادثة بعد ارتفاع الجنابة الأولى، فيقال بأن استصحاب بقاء الجنابة الحادثة بخروج هذا المني يتعارض مع استصحاب بقاء الطهارة الحاصلة حين غسل الجنابة، ويكون مقتضى قاعدة الاشتغال لزوم الاحتياط بغسل الجنابة منضما الى الوضوء ان كان على تقدير عدم الجنابة واقعا محدثا بالاصغر، نعم تجري البراءة عن محرمات الجنب، وكذا اذا علم بوجود زيد في الدار يوم الخميس وخروجه منها وعلم بوجود انسان شاعر فيها يوم الخميس ولايدري هل هو زيد او انه شخص آخر يحتمل بقاءه فيها يوم الجمعة على فرض كونه في الدار يوم الخميس، فيقال باستصحاب بقاء هذا الانسان في الدار لترتيب أثر وجود الانسان في الدار او اثر وجود الانسان الشاعر في الدار، وهذا ما اختاره السيد الخوئي “قده”، ومال المحقق الايرواني “قده” الى جريان هذا القسم من استصحاب الكلي، الا أنه ذكر بعد ذلك، إلّا أن يقال: إنّ المتيقّن وهو الجنابة الحاصلة عند خروج هذا المني محتمل الانتقاض باليقين بالطهارة حين غسل الجنابة، أو يقال: إنّ اتّصال زمان المشكوك بالمتيقّن غير محرز، للقطع بحصول الطهارة بعد الجنابة الأولى، فلعلّ الجنابة الحاصلة بهذا المنيّ هي تلك الجنابة الأولى التي تخلّل بينها و بين زمان الشكّ اليقين بالطهارة، و الحال أنّ الاتّصال بين الزمانين معتبر في صدق النقض و البقاء[4].
وقد اورد عليه في البحوث بأننا لو لاحظنا كلي الجنابة بلا إضافتها إلى العنوان الانتزاعي، و هو الجنابة الحاصلة حين خروج ذاك المني، فالعلم بكلي الجنابة يكون من القسم الثالث من الكلي، حيث يعلم بتحققها ضمن فرد تفصيلاً ويعلم بارتفاع هذا الفرد، و يشك في بقاءها ضمن فرد آخر مشكوك الحدوث، و إذا لاحظنا الكلي بذاك العنوان الانتزاعي، كان من القسم الثاني من الكلي، لأنَّ هذا من العلم الإجمالي بعنوان انتزاعي يمكن أَن ينطبق على الفرد المعلوم تفصيلًا، و فرقه عمّا تقدم في القسم الثاني انه هناك لم يكن يعلم بتحقق أحد الفردين، أمّا هنا فيعلم بتحقق أحد الفردين تفصيلاً، و حيث انَّ العنوان المعلوم بالإجمال فيه خصوصية و لو انتزاعية فلا يكون منحلًا بالعلم التفصيليّ بأحد الفردين.
وحكم هذا الاستصحاب أنه ان كان هذا العنوان الاجمالي موضوعا للاثر الشرعي جرى استصحابه، كما لو قال المولى “اذا كان شاعر في الدار يوم الجمعة فتصدق” وان لم يكن موضوعا للاثر، كما في مثال الجنابة، فالصحيح عدم جريان استصحابه، و ذلك: أولا: للنقض بموارد الشك البدوي، فانه يمكن تشكيل علم إجمالي انتزاعي كالعلم المذكور فيها كما إذا تيقن البول فتوضأ ثم شك في خروج البول منه ثانية، فانه يمكنه أَن يشكل علماً إجمالياً بعنوان انتزاعي هو عنوان الحدث عند آخر بول خرج منه، فانه لو كان آخر بول خرج منه البول الأول فالحدث الحاصل به مرتفع جزماً، و ان كان آخر بول خرج منه بعد الوضوء فالحدث باقٍ، فلابدَّ من القول بجريان استصحاب كلي الحدث في المقام، فيتعارض مع استصحاب الطهارة، و هذا ما لا يمكن الالتزام به بل هو خلاف مورد أدلة الاستصحاب كصحيحة زرارة.
و ثانياً: النقض أيضا بموارد الكلي من القسم الثالث، فانه يمكن تصوير جامع انتزاعي غير منحل فيه أيضاً كعنوان آخر الفرد، فانَّ هذا العنوان الإجمالي مردد بين زيد المعلوم انتفاءه، او عمرو المعلوم او المحتمل بقاءه على تقدير حدوثه.
و ثالثاً: الحل، فانه لو أُريد إجراء الاستصحاب في العنوان الذي هو موضوع الأثر الشرعي و هو الجنابة مثلا، فقد عرفت انَّ هذا العنوان علم بتحققه ضمن فرد و زواله و يشك في بقائه ضمن فرد آخر لا يقين بأصل حدوثه، و ان أُريد إجراؤه في العنوان الإجمالي الانتزاعي كعنوان الجنابة الحادثة بذلك المني، فهذا العنوان ليس موضوعاً للأثر الشرعي ليكون هو مجرى الاستصحاب، واتخاذ هذا العنوان الاجمالي مشيراً إلى الواقع لجعله محط الاستصحاب أو بتعبير آخر التعبد ببقاء نفس العلم الإجمالي بلحاظ منجزيته فهو من قبيل استصحاب الفرد المردد، و من العلم الإجمالي غير المنجز للعلم تفصيلًا بارتفاع أحد طرفيه[5].
[1] – الأصول في علم الأصول ج2 ص389
[2] – مباني الاحكام ج3ص 101
[3] – مصباح الاصول ج3ص38
[4] – الأصول في علم الأصول ج2ص390
[5] – بحوث في علم الأصول ج6 ص 267