هذا تمام الكلام في الاشكال الاول على جريان استصحاب الحكم الشرعي الثابت بحكم العقل، والمهم في الجواب عنه ما مر من أن كون حدوث الحكم الشرعي بملاك الحسن او القبح لا يمنع من صدق بقاءه ولو كان بقاءه بملاك آخر، نظير ما لو سجد بملاك سجود التلاوة واحتمل بقاءه على السجود بملاك وداع آخر، واوضح منه كون عدم الحكم الشرعي في السابق بملاك قبح تكليف غير المميز او التكليف بما لا يطاق ونحوهما، ثم نحتمل عدم التكليف بعد التميز والقدرة بملاك عدم المقتضي للتكليف فانه بقاء لنفس ذلك العدم فلا مانع من استصحابه عند الشك في بقاءه.
ولا يخفى أن الشيخ الاعظم “قده” قد صرّح بالاشكال الاول الذي نسب اليه في التنبيه الثالث من تنبيهات الاستصحاب، فقال: ان المتيقن السابق إذا كان مما يستقل به العقل كحرمة الظلم و قبح التكليف بما لا يطاق و نحوهما من المحسنات و المقبحات العقلية فلا يجوز استصحابه، لأن الاستصحاب إبقاء ما كان، والحكم العقلي موضوعه معلوم تفصيلا للعقل الحاكم به، فإن أدرك العقل بقاء الموضوع في الآن الثاني حكم به حكما قطعيا، كما حكم أولاً، و إن أدرك ارتفاعه قطع بارتفاع ذلك الحكم و لو ثبت مثله بدليل لكان حكما جديدا حادثا في موضوع جديد، ولا يتصور الشك في بقاء موضوع حكم العقل بنحو الشبهة الحكمية، لأن العقل لا يستقل بالحكم إلا بعد إحراز الموضوع و معرفته تفصيلا، فلا يعقل إجمال الموضوع في حكم العقل، مع أن الشك في الموضوع خصوصا لأجل مدخلية شيء مانع عن إجراء الاستصحاب، والحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي حاله حال الحكم العقلي في عدم جريان الاستصحاب، لكونه بنفس ملاك الحكم العقلي، نعم لو ورد في مورد حكم العقل حكم شرعي من طريق النقل و حصل التغير في حال من أحوال موضوعه مما يحتمل مدخليته وجودا أو عدما في الحكم جرى الاستصحاب و حكم بأن موضوعه أعم من موضوع حكم العقل.
واذا كان الشك في بقاء الموضوع بنحو الشبهة الموضوعية فلا يجري استصحاب الموضوع، لأن حكم العقل هو ما علم انطباق العنوان الذي حكم بقبحه، وليس وجود العنوان واقعا موضوعا لحكم العقل حتى يتبعه حكم الشرع، فمع الشك في انطباق العنوان يعلم بارتفاع حكم العقل، وكذا الحكم الشرعي التابع له، نعم ان كان حكم العقل شاملا للظن، كما في قبح شرب السم المضر حيث يقبح شرب السم المقطوع او المظنون الضرر، وشك في ارتفاع حالة الاضرار في السم، فلابد من التفصيل بين ما لوكان اعتبار الاستصحاب من باب الظن عمل به هنا، لأنه يظن الضرر بالاستصحاب، و إن كان اعتبار الاستصحاب من باب التعبد لأجل الأخبار، فحيث لا يوجب الظن بالضرر فلا يجوز العمل به للقطع بانتفاء حكم العقل[1].
وقد تبين الجواب عما ذكره حول الشك في بقاء موضوع العقل بنحو الشبهة الحكمية، وأما ما ذكره حول المنع من جريان الاستصحاب الموضوعي بالنسبة الى الشك في بقاء موضوع العقل بنحو الشبهة الموضوعية، فقد حكي عن السيد الخوئي “قده” أنه اورد على ما ذكره من استثناء الضرر من أن الاستصحاب لا يفيد الظن الشخصي، كما صرح به الشيخ “قده” نفسه، و لا الظنّ النوعيّ كما بيناه، مضافا الى أن الميزان في الضرر غالبا[2] خوفه، لا الظن به، و هو يحصل بنفس الاحتمال العقلائي من دون احتياج إلى الاستصحاب.
كما اورد على ما ذكره في وجه عدم جريان الاستصحاب في غير الضرر مما أخذ في موضوع الحكم المستكشف بدليل العقل، فلم يكن مترقبا منه “قده” لأن تبعية حكم الشرع لحكم العقل إنما هي في الكبريات، لا في تطبيقها على الصغريات، بل ليس للعقل فيها حكم أصلا، و إنما شأنه إدراك الأحكام الكلية، و أما اتصاف الفعل الخاصّ الصادر من الشخص المعين بالحسن أو القبح فإدراكه ليس من شأنه، اذ لا طريق للعقل الى احراز قصد الفاعل وداعيه الذي يختلف به حسن الفعل وقبحه[3].
ولم يذكر هذا الكلام الأخير في الدورته المتأخرة الاصولية في مصباح الاصول، ولعله لأجل أن مدعى الشيخ الاعظم أن موضوع حكم العقل بالحسن والقبح العلم بانطباق العنوان على الفعل، فاكل مال الغير مع الجهل بكونه مال الغير ليس قبيحا، و انما القبيح اكل ما علم انه مال الغير، وهذا لا ينافي كون حكم العقل بنحو الكبرى.
ولكن الصحيح أن يقال بالتفصيل: فانه تارة يرخص العقل في مشكوك العنوان كما في مثال اكل مال الغير فلا محالة يكون قبحه مختصا بفرض العلم بالعنوان، حتى لو اريد من القبح عدم انبغاء صدوره فضلا عن كونه بمعنى استحقاق العقاب عليه، فهنا يتم كلام الشيخ من الجزم بارتفاع القبح ومعه فلا كاشف عن ثبوت الحرمة الشرعية لواقع العنوان المجهول، حتى يجري الاستصحاب الموضوعي لبقاء العنوان لغرض اثبات حرمته الشرعية، بعد انحصار الكاشف عن الحكم الشرعي بحكم العقل، نعم يجدي ذلك بناء على قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي، فيكون مستصحب العنوان كمستصحب مال الغير بحكم معلوم العنوان، كما لا مانع من جريان الاستصحاب بنحو الشبهة الحكمية فيقال بأن هذا الفعل كان حراما سابقا حينما كان معلوم العنوان والآن كما كان، حيث ان العلم بالعنوان من الحالات فلا يوجب ارتفاعه تبدل الموضوع عرفا كي يمنع من جريان الاستصحاب.
وأخرى يمنع العقل من ارتكاب المشكوك ولو من باب لزوم الاحتياط عقلا كما في الامور المهمة فهذا يعني ثبوت القبح النفسي لارتكابه مع انطباق العنوان الواقعي القبيح عليه، فيثبت كون العنوان الواقعي محرما في فرض الشك ايضا فيمكن جريان الاستصحاب الموضوعي فيه، ككون هذا الكذب مضرا، وما في منتقى الاصول من دعوى كونه من الاستصحاب التعليقي في الموضوعات ، وهو غير جار جزما،لانه ما لم يوجد الكذب المضر لم يتحقق الاضرار، فيكون استصحابه بمعنى أنه لو وجد هذا الكذب سابقا لكان مضرا[4]، ففيه أن ترتب الضرر على وجود الكذب يكون في صدق الكذب المضر عليه ولو قبل وجوده كعنوان الفعل ذي مفسدة، نعم لو كان القبيح هو عنوان الاضرار كما في قضية شرب السم المضر فان ما هو الحرام هو الاضرار بالنفس كان استصحاب كون هذا السم مضرا او كون شربه مضرا من الاصل المثبت.
وبما ذكرناه تبين بعض الخلل فيما اورد بعض الاعلام على كلام السيد الخوئي من أن أحكام العقل العملي يكون العلم بالصغرى مأخوذاً فيها، فالعلم بكون الفعل خيانة مثلًا شرط في حكم العقل بقبح ذلك الفعل، و العلم بأنّ هذا مولاه و مخالفته شرط في حكم العقل بقبح مخالفة أمره و حسن اطاعته جزماً، وعليه فيكون الحكم الشرعي المستكشف بمثل هذا الحكم العقلي العلمي أيضاً منوطاً و مشروطاً بالعلم بالصغرى، فمع الشك فيه يرتفع- مع قطع النظر عن الاشكال السابق[5].
الاشکال الثاني: ما قد يقال من أن الحيثيات التعليلية لحكم العقل راجعة الى الحيثیات التقييدية، فاذا حكم العقل بقبح الكذب لكونه مضرا، كان موضوع القبح هو الكذب المضر، لا ذات الكذب، فاذا ارتفعت حالة اضرار الكذب كان ذلك من تبدل الموضوع، فلا معنى لاستصحاب بقاء قبحه، كما انه بعد عدم استفادة حرمته الشرعية من خطاب لفظي وانما استفيد حرمته من الدليل العقلي اي قاعدة الملازمة، فاحتمال كون ذلك القيد المرتفع مأخوذا في موضوع الحكم كاف في المنع من جريان استصحاب الحرمة بعد ارتفاع القيد للشك في بقاء الموضوع.
ولا يخفى أن هذا الاشكال مختص بالشك في بقاء حكم العقل بنحو الشبهة الحكمية، دون الشبهة الموضوعية.
وفيه ان كون الخصوصية حيثية تقييدية لحكم العقل بأن يكون موضوع القبح مثلا الكذب المضر، وعلم او احتمل نتيجة ذلك كون موضوع حكم الشرع ايضا هو ذلك، فحيث ان المهم في استصحاب الحكم بقاء معروض الحكم في نظر العرف، فلا يلحظ موضوعه بنظر العقل او بجعل الشرع، لكفاية بقاء المعروض بنظر العرف في استصحاب المجعول، ولذا يجري استصحاب بقاء نجاسة الماء الذي زال تغيره ولو احتمل كون الموضوع في جعل الشارع للنجاسة هو الماء المتغير، حيث يصدق نقض اليفين بالشك عرفا، وعليه فيكفي في المقام كون معروض القبح العقلي والحرمة الشرعية بنظر العرف في حال الاضرار هو ذات الكذب، والا لكان يمنع ذلك من الاستصحاب حتى لو كان دليل حرمة الكذب النقل، وكان المتيقن منه الكذب المضر ثم ارتفع اضراره، كما لو كان موجبا لتعدد الكذب عرفا. واوضح من ذلك ما اذا كانت الخصوصية دخيلة في الموضوع فقط دون نفس الفعل، كما لو حكم العقل بقبح الخيانة في امانة الانسان غير الظالم ثم صار هذا الانسان ظالما فشك في بقاء قبح الخيانة في امانته، فان كونه ظالما او غير ظالم من حالاته ولا يوجب تبدل الموضوع عرفا، فلا مانع من استصحاب حرمته.
فانه حتى لو كان في علم الله موضوع القبح هو الكذب المضر وقلنا بتبعية حكم الشرع له فكان موضوع الحرمة ايضا هو الكذي المضر صح أن يقال عرفا .
الاشكال الثالث: ما ذكره بعض الاعلام “قده” من أن موضوع القبح العقلي ليس الا الظلم، والحكم بقبح الكذب المضر مثلا من باب أنه مصداق للظلم، وموضوع الحكم الشرعي بالحرمة الثابتة بالحكم العقلي ايضا يكون هو الظلم، فلو فرض زوال عنوان الظلم عن الكذب بعد زوال اضراره، و مع هذا احتمل أن يبقى على حرمته، فانه لا معنى لاستصحاب حرمته، إذ متعلق الحرمة السابقة زال قطعا، و هذا الكذب فعلا ليس من افراده جزما، فيمتنع صدق البقاء، والتأمل في كلام الشيخ يقتضي أن يستظهر ان مراده ما ذكرناه، لا ما فهمه الأعلام [6].
وفيه اولا: ما مر من أن قضية “قبح الظلم” ان كانت بمعنى عدم انبغاء فعله فهي قضية ضرورية بشرط المحمول، اذ الظلم ليس الا ما لا ينبغي فعله، فهي تجميع لاحكام عقلية موضوعها العناوين التفصيلية كالخيانة في الامانة ونحوها، وان كانت بمعنى استحقاق العقاب عليه فهي وان كانت قضية عقلية لكن طرف الملازمة بين حكم العقل والشرع هو القبح بالمعنى الاول.
وثانيا: ان ما ذكره اخص من المدعى، اذ لا يجري فيما لو شك في كون الفعل ظلما، فانه يستصحب بقاء كونه ظلما، فيثبت به حرمته.
وثالثا: لو فرض العلم بارتفاع الظلم عن الكذب بعد زوال اضراره فعلم بارتفاع قبحه فلا ينافي ذلك بقاء حرمته الشرعية لاحتمال كون موضوع الحرمة هو ذات الكذب وكونه ظلما حال اضراره من الحالات غير المقومة لمعروض الحرمة فانه حتى لو كان موضوع الحرمة في الجعل الشرعي في علم الله هو الظلم فيصح أن يقال عرفا ان الكذب حال اضراره كان حراما شرعا فيستصحب، و هكذا بالنسبة الى الخيانة في امانة من كان غير ظالم للمكلف فصار ظالما له.
فاتضح عدم تمامية التفصيل في جريان استصحاب الحكم الشرعي بين ما ثبت بالنقل او بالعقل.
تنبيه
ذكر السيد اليزدي “قده” في حاشية الرسائل أن ظاهر كلام الشيخ “ره” اختصاص عنوان هذا البحث بالمستقلات العقلية، و بما كان منها مبنيا على قاعدة التحسين و التقبيح، و الظاهر أنه لا وجه لهذا الاختصاص، بل يجري أيضا في الاستلزامات العقلية كما إذا علم بوجوب شيء من جهة كونه مقدمة لواجب أو حرمته لكونه ضدا لواجب ثم شك في بقاء ذلك الوجوب أو الحرمة، و كذا يجري في المستقلات غير المبنية على قاعدة التحسين و التقبيح كما إذا علمنا بعدم وجوب شيء من جهة كونه موردا لنهي فعلي منجز يمتنع معه الأمر به لعدم جواز اجتماع الأمر و النهي على القول بأنه من قبيل التكليف المحال بالمحال، ثم لو فرضنا الشك في تعلق الأمر به بزوال النهي عنه مثلا فإنه محل البحث أيضا[7].
وفيه أن مصب اشكال الشيخ الاعظم هو ما اذا علم بارتفاع الملاك العقلي للحكم السابق وشك في ثبوت مثله بملاك جديد تعبدي، فمنع من جريان الاستصحاب فيه لكونه شكا في حكم جديد، واين هذا من الامثلة التي ذكرها السيد اليزدي “ره” فانه مع احتمال بقاء الوجوب النفسي لذي المقدمة فلا مانع من استصحاب وجوب مقدمته، ان ترتب عليه اثر، ومع العلم بارتفاع الوجوب النفسي له يعلم بارتفاع الوجوب الغيري الثابت لمقدمته، فلا مجال لاستصحابه وان احتمل كونه مقدمة لواجب نفس آخر، وفي مثال العلم بعدم الامر بشيء للعلم بحرمته، فعدم الامر به لم يكن بملاك حرمته او فقل لا يعلم بكونه بهذا الملاك، وانما كان العلم بحرمته كاشفا عن عدم ثبوت الامر به، فلا يأتي فيه اشكال الشيخ من المنع عن جريان استصحاب عدم الامر به بعد ارتفاع حرمته، فيختص اشكاله بموارد التحسين والتقبيح العقليين.
[1] – ص فرائد الاصول ج2ص 650
[2] – اي في الاضرار على النفس.
[3] – دراسات في علم الاصول ج4ص 61
[4] -منتقى الاصول ج6ص 20
[5] – اضواء وآراء ج3ص 235
[6] – منتقى الاصول ج6ص 19
[7] – حااشية فرائد الاصول ج3ص 243