فهرست مطالب

فهرست مطالب

pdf

التفصيل بين استصحاب الاحكام التكليفية والاحكام الوضعية

قد يذكر تفصيل آخر في جريان الاستصحاب وهو التفصيل بين الاحكام الوضعية والتكليفية، فيمنع عن جريانه في الاول، وهذا التفصيل وان كان منقولا عن الفاضل التوني “ره” في بعض الكلمات مثل ما نقل عنه المحقق العراقي “ره” أنه منع من جريانه في الاحكام الوضعية باعتبار أنه امور انتزاعية وليست مجعولة شرعا ولا موضوعا لمجعول شرعي[1]، ولكن الصحيح عدم تمامية هذا النقل كما يظهر بمراجعة كتابه المسمى بالوافية[2]، لكن اختار المحقق الايرواني “ره” هذا التفصيل، فقال: حيث ان الصحيح عدم تعلق الجعل الاستقلالي بالاحكام الوضعية فلا يجري الاستصحاب في شيئ منها، بل الاستصحاب يتوجّه إلى منشئها و هو الحكم التكليفي، و ذلك لأنّ قضيّة جريان الاستصحاب فيه جعله استقلالا بخطاب الاستصحاب[3]،كما منع السيد الامام “قده” عن جريان استصحاب الحجية[4].

وصار هذا التفصيل منشأ لبحث الاعلام في المقام عن حقيقة الأحكام الوضعية، فاختار الشيخ الاعظم “قده” كونها منتزعة عن الاحكام التكليفية فلا واقع لها الا تلك الاحكام، فملكية المشتري للمبيع وملكية البايع للثمن مثلا منتزعتان عن جواز تصرف كل منهما في ما انتقل اليه وحرمة تصرف الآخرين -ومنهم هذا الذي انتقل عنه المال- فيه بدون اذنه، وذكر صاحب الكفاية أن الاحكام الوضعية على ثلاثة اقسام:

القسم الاول: ما لا يتطرق إليه الجعل تشريعا أصلا، لا استقلالا و لا تبعا، و إن كان مجعولا تكوينا عرضا بعين جعل موضوعه تكوينا، كالسببية لما هو سبب التكليف، كسببية زوال الشمس لوجوب صلاة الظهر، والشرطية لما هو شرط التكليف، والمانعية لما هو مانع عن التكليف والرافعية لما هو رافع للتكليف، حيث إنه لا يكاد يعقل انتزاع هذه العناوين لها من التكليف المتأخر عنها ذاتا حدوثا أو ارتفاعا، كما أن اتصافها بها ليس إلا لأجل ما عليها من الخصوصية المستدعية لذلك تكوينا، للزوم أن يكون في العلة خصوصية تكون بسببها مؤثرة في معلولها، و إلا لزم أن يكون كل شي‏ء مؤثرا في كل شي‏ء و تلك الخصوصية لا يكاد يوجد فيها بمجرد إنشاء مفاهيم العناوين و بمثل قول دلوك الشمس سبب لوجوب الصلاة إنشاء لا إخبارا، ضرورة بقاء الدلوك على ما هو عليه قبل إنشاء السببية له من كونه واجدا لخصوصية مقتضية لوجوبها أو فاقدا لها و أن الصلاة لا تكاد تكون واجبة عند الدلوك ما لم يكن هناك ما يدعو إلى وجوبها و معه تكون واجبة لا محالة و إن لم ينشأ السببية للدلوك أصلا.

و منه انقدح أيضا عدم صحة انتزاع السببية له حقيقة من إيجاب الصلاة عنده لعدم اتصافه بها بذلك ضرورة، نعم لا بأس باتصافه بها عناية و إطلاق السبب عليه مجازا كما لا بأس بأن يعبر عن إنشاء وجوب الصلاة عند الدلوك مثلا بأنه سبب لوجوبها فكني به عن الوجوب عنده.

فظهر بذلك أنه لا منشأ لانتزاع السببية و سائر ما لأجزاء العلة للتكليف إلا ما هي عليها من الخصوصية الموجبة لدخل كل فيه على نحو غير دخل الآخر.

القسم الثاني: ما لا يكاد يتطرق إليه الجعل التشريعي إلا تبعا للتكليف، كالجزئية و الشرطية و المانعية لما هو جزء المكلف به و شرطه و مانعه، حيث إن اتصاف شي‏ء بجزئية المأمور به أو شرطيته أو غيرهما لا يكاد يكون إلا بالأمر بجملة أمور مقيدة بأمر وجودي أو عدمي، و ما لم يتعلق بها الأمر كذلك لما كاد اتصف بالجزئية أو الشرطية و إن أنشأ الشارع له الجزئية أو الشرطية، و جعل الماهية و اختراعها ليس إلا تصوير ما فيه المصلحة المهمة الموجبة للأمر بها فتصورها بأجزائها و قيودها لا يوجب اتصاف شي‏ء منها بجزئية المأمور به أو شرطه قبل الأمر بها فالجزئية للمأمور به أو الشرطية له إنما ينتزع لجزئه أو شرطه بملاحظة الأمر به بلا حاجة إلى جعلها له و بدون الأمر به لا اتصاف بها أصلا و إن اتصف بالجزئية أو الشرطية للمتصور أو لذي المصلحة كما لا يخفى.

القسم الثالث: ما يمكن فيه الجعل استقلالا و تبعا للتكليف، كالحجية و القضاوة و الولاية و النيابة و الحرية و الرقية و الزوجية و الملكية، وان كان الظاهر عرفا جعلها استقلالا[5].

فحاصل كلامه الاشكال على ما ذكره الشيخ من كون الاحكام الوضعية مجعولة بالتبع بعدم تماميته في القسم الاول والثالث، وانما يتم في القسم الثاني فقط.

ثم لا يخفى وجود الفرق بين الجعل بالتبع والجعل بالعرض، فان الاول مثل جعل وجوب المقدمة شرعا بتبع جعل وجوب ذيها، فانه مجعول حقيقة وان كان تبعا، بخلاف الثاني فان الجعل بالعرض يعني عدم الجعل حقيقة وانما هو بالعرض والمجاز، والظاهر أن مقصود صاحب الكفاية من كون الجزئية للواجب مجعولة بالتبع هو جعلها حقيقة لكن بجعل منشأ انتزاعها، وهو الامر بالمركب، كما يقال بأن الفوقية مجعولة حقيقة بجعل منشأ انتزاعها وهو الفوق، ولذا يجري الاصل في الجزئية كالبراءة او الاستصحاب، وعليه فتعبيره في القسم الاول بكون سببية سبب التكليف مجعولة تكوينا عرضا بعين جعل السبب تكوينا اي ايجاد الزلزال مثلا الذي هو سبب وجوب صلاة الآيات لا يخلو عن مسامحة، فانها ايضا مجعولة تكوينا بالتبع ولو بجعل منشأها وهو السبب، فالتفريق بينهما بالتعبير في الاول بالجعل عرضا وفي الثاني بالجعل بالتبع لا يخلو عن مسامحة.

والصحيح كما ذكره المحقق الاصفهاني التعبير في المقام بالجعل الانتزاعي وهو غير الجعل بالتبع او الجعل بالعرض والمجاز، بل حد وسط بينهما، فيكون نظير جعل الفوقية بجعل الفوق، حيث يدعي الفلاسفة أن الفوقية موجودة حقيقة بوجود منشأ انتزاعها، وان كان الصحيح عندنا وفاقا للسيد الصدر “قده” أنه لا يوجد في عالم الوجود الخارجي الا ذات الفوق والتحت، وفوقية الفوق وان كانت من الواقعيات لكنها ليست من الموجودات في عالم الوجود العيني الخارجي، فهي ثابتة في عالم الواقع الذي هو اوسع من عالم الوجود.

وكيف كان فمحصل ما ذكره حول القسم الاول وجهان:

احدهما: أن علاقة التكليف مع سببه او شرطه او مانعه علاقة تكوينية وليست تشريعية اعتبارية، للزوم تبعية الاحكام للملاكات، فجعل وجوب صلاة الآيات على تقدير الزلزال تابع لتأثير الزلزال في اتصاف صلاة الآيات بالمصلحة الملزمة، وهذا التأثير الذي يسمى بسببية الزلزال لوجوب صلاة الآيات تكويني وليس اعتباريا قابل للجعل الاعتباري بنحو الجعل المستقل، او بالتبع.

وثانيهما: ان جعل السببية لسبب التكليف بتبع جعل التكليف مستلزم للدور، كما صرح بذلك في حاشيته على الرسائل، لأن جعل التكليف على تقدير تحقق ذلك السبب موقوف على سببيته له في رتبة سابقة، لما مر آنفا من لزوم وجود العلاقة بين ذلك السبب و بين التكليف، فتحقق السبية بتبع جعل التكليف يكون من الدور المحال.

وقبل أن نتعرض للايرادات عليه لا بأس أن نذكر في توضيح كلامه نكتتين:

1- ذكر السيد الخوئي “قده” أنه لا فرق بين سبب الحكم وشرط الحكم الا في مجرد اصطلاح، فانه جرت العادة على التعبير بقيد الحكم التكليفي بالشرط فيقال زوال الشمس شرط وجوب الصلاة و التعبير بقيد الحكم الوضعي كالملكية والزوجية ونحوهما بالسبب فيقال البيع سبب للملكية[6]، ولكن لن نر جريان عادة الاصولين او الفقهاء بما ذكرهن بل الظاهر أنهم يعبرون بسبب الحكم فيما لو كان القيد الدخيل في ثبوت الحكم موضوعا اصليا فكأنه مقتض للحكم كاقتضاء النار لاحتراق القطنة، ويعبرون بشرط الحكم فيما لم يكن القيد موضوعا اصليا، فهو كاقتراب القطنة من النار يكون شرط التأثير عرفا، فالارث سبب ملكية الوارث واسلامه شرط لملكية الوارث، والزلزال سبب لوجوب صلاة الآيات والقدرة على تحصيل الطهارة شرط له وهكذا.

2- قد يتوهم أن تعبير صاحب الكفاية لا يأتي في مانعية المانع، فان ما اختاره من كون المانعية للتكليف كمانعية الحيض عن وجوب الصلاة مجعولة تكوينا بالجعل التكويني للمانع، ليس في قبال القول بكونها مجعولة بتبع جعل التكليف، اذ مانعية الحيض عن وجوب الصلاة لا تنتزع من الوجوب وانما تنتزع من عدم وجوب الصلاة على الحائض، بل لا يأتي حينئذ شبهة الدور، لانتزاع المانعية عن عدم الوجوب، والمتأخر عن المانعية هو الوجوب.

ولكن يندفع هذا التوهم بأن المقصود كون تقيد جعل وجوب الصلاة بعدم الحيض في طول مانعية الحيض لتبعية جعل الشارع للملاكات النفس الامرية، فلا يمكن انتزاع المانعية من هذا التقيد لاستلزامه الدور.

فلا حاجة الى ما ذكره المحقق المشكيني “ره” في حاشية الكفاية من أن مقصود صاحب الكفاية أنّ وجوب الصلاة حيث كان متأخّراً عن عدم الحيض باعتبار أنّ عدم مانع الوجوب شرط الوجوب، فيتأخر عنه الوجوب تأخر المشروط عن شرطه، فيكون وجوب الصلاة متأخرا عن الحيض ايضا، لكون النقيضين في رتبة واحدة، فالمتأخّر عن أحدهما متأخر عن الآخر ايضا، فوجوب الصلاة إذن متأخّر عن الحيض، او فقل: إنّ عدم وجوب الصلاة متأخّر عن الحيض، فعدم وجوب الصلاة متأخّر عن الحيض، و عدم وجوب الصلاة مع وجوب الصلاة نقيضان، و النقيضان في رتبة واحدة؛ فإذن وجوب الصلاة متأخّر عن الحيض[7].

وانت ترى ابتناء كلامه على مبنى أن المتاخر عن احد المتساويين في الرتبة متاخر عن الآخر ايضا او أن المتقدم عليه متأخر على الآخر ايضا.

كما لا حاجة الى ما في تعليقة مباحث الاصول من كون المظنون أنّ مقصود صاحب الكفاية هو أنّ عدم وجوب الصلاة متأخّر عن الحيض؛ إذن لا يمكن أن تكون مانعيّة الحيض منتزعة عن عدم الوجوب[8].

وكيف كان فقد اورد على كلام صاحب الكفاية في القسم الاول عدة ايرادات:

الايراد الاول: ما ذکره المحقق الاصفهاني “قده” من أن المسبب وهو التكليف موقوف على وجود ذات السبب لا على سببيته، كما أن المعلول متأخر عن ذات العلة لا عن وصف عليته، فلا يلزم اي دور من انتزاع سببية السبب من جعل التكليف[9].

وفيه أن مقصود صاحب الكفاية أن جعل التكليف على تقدير وجود شيء يتوقف على وجود خصوصية وعلاقة في هذا الشيء مع ذلك التكليف لعدم كون حكم الشارع جزافا وقد سمى هذه الخصوصية بالسببية، كما أن ترتب الحرارة على وجود النار يتوقف على وجود خصوصية في النار تقتضي وجود الحرارة عند وجود النار، وليس المراد من السببية السببية الفعلية التي تنتزع عن صدور الحرارة بالفعل عن النار، فلعله لا توجد النار ولا الحرارة ابدا، وانما تنتزع عن تلك الخصوصية الثابتة للنار على تقدير وجودها.

الايراد الثاني: ما ذكره المحقق النائيني والسيد الخوئي “قدهما” من أنه وقع الخلط في كلامه بين الجعل والمجعول، فان ما ذكره صحيح بالنسبة إلى دواعي الجعل، فان المصالح و المفاسد أمور واقعية باعثة لجعل المولى التكليف و مبادئ له، و ليست قابلة للجعل التشريعي، لكونها من الأمور الخارجية التي لا يعقل تعلق الجعل التشريعي بها، فهي خارجة عن محل الكلام، فان الكلام في الشرطية و السببية و المانعية بالنسبة إلى المجعول، فكون وجود الزلزال خارجا شرطا في ثبوت وجوب صلاة الآيات على المكلف منتزع عن جعل الشارع لوجوب صلاة الآيات مقيدا بتحقق الزلزال، فانه لولا هذا الجعل لم يتنزع شرطية الزلزال لوجوب صلاة الآيات، كما أنه لو لم يجعل الشارع وجوب الصلاة مقيدا بعدم الحيض لم ينتزع مانعية الحيض عن المجعول اي ثبوت وجوب الصلاة، فاذن تكون السببية والشرطية والمانعية للمجعول مجعولة تبعا اي منتزعة عن كيفية جعل الشارع[10].

وهذا الايراد متجه، فان الكلام ليس في اسباب جعل المولى اي دواعي جعله، وانما الكلام في اسباب المجعول، فعلم الشارع بوجود خصوصية في الزلزال مثلا بناء على لزوم تبعية التكاليف الشرعية للمصالح والمفاسد في متعلقاتها مما لابد منه في مقام الداعوية والباعثية للمولى تحو جعل التكليف كجعل وجوب صلاة الآيات على تقدير وجود الزلزال، ولكنه ليس محل الكلام في المقام، بل الكلام في سببية الوجود الخارحي للزلزال في ثبوت وجوب صلاة الآيات عند وجوده.

وقد يقال بأن هذا الايراد على صاحب الكفاية مبني على قبول وجود مرحلة الجعل والمجعول للأحكام، كما لو قلنا بما هو الصحيح من كون الوجوب مجرد ابراز لارادة المولى لفعل العبد ولكنه ليس بتامّ، فان المهم أن هناك امورا تتعلق بالعناوين قبل وجودها، فاذا وجد فرد من العنوان في الخارج شمله ذلك الامر عرفا من دون أن يحدث شيء في عالم التكوين حقيقة، فاذا اراد المولى أن يحج المستطيع فما لم يصر الشخص مستطيعا لايقال ان المولى اراد من هذا الشخص أن يحج، فتكون الطرفية لارادة المولى بديلا عما سمي بمرحلة المجعول، فالسببية للتكليف في هذه المرحلة تنتزع عن مرحلة تعلق ارادة المولى بالحج في فرض الاستطاعة مثلا.

الايراد الثالث: ان ما ذكره صاحب الكفاية مبني على لزوم تبعية التكاليف للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، وهو غير مقبول بنظره، لكفاية كون المصلحة في الجعل، فقد يكون اخذ شيء قيدا في ثبوت حكمٍ ناشئا عن مصلحة في نفس الحكم، كما ليس بمقبول عندنا، لكفاية كون المصلحة في امتثال امر المولى، وان لم يكن في ذات الفعل اي مصلحة، مضافا الى امكان كون ملاك الواجب مطلقا وانما لم يأمر به مطلقا لمصلحة التسهيل.

فتحصل عدم تمامية ما ذكره صاحب الكفاية في القسم الاول وهو سببية سبب التكليف وشرطية شرط التكليف ومانعية مانع التكليف، والصحيح كونها مجعولة تبعا اي بالانتزاع بجعل منشأ انتزاعه.

ولا يخفى أن معنى كلام صاحب الكفاية كون عدّ هذا القسم من الاحكام الوضعية مبنيا على التسامح، حيث ادعى كونه من الامور التكوينية، هذا وقد ذکر بعض الاعلام “قده” تأييدا لصاحب الكفاية أن شرطية شرط التكليف الصادر من الحكيم- بناء على ما هو الحق من تبعية الأحكام للمصالح و الأغراض العقلائية، منتزعة عن خصوصية تكوينية، لا عن مقام الجعل و التشريع، ولم يخلط صاحب الكفاية بين مقام الجعل و المجعول، فان نظره إلى نفس المجعول و شرائطه، و أن شرطية شرط المجعول غير مجعولة، بل هي عقلية، لامتناع صدور التكليف المطلق منه تعالى بعد كون الملاك مشروطا، و يزيدك وضوحا ملاحظة شرطية القدرة للتكليف، فانها شرط عقلي يمتنع التكليف بدونه، للغويته، و لم يخطر في ذهن أحد أن شرطية القدرة تابعة للجعل و كيفيته، إذ هي شرط مع كون الجعل مطلقا من ناحيتها، فكما تكون شرطية القدرة منتزعة عن جهة واقعية، فكذلك نقول في سائر الشرائط المذكورة في لسان الشارع، فإنها شرط واقعي للتكليف بملاحظة تقيد الشارع بمقتضى الحكمة و المصلحة و عدم خروجه عنهما[11].

فان حكمة الشارع تعني أنه راعى الملاكات في جعله فان كان الملاك مشروطا بشرط فأخذ هذا الشرط في موضوع جعله، لا أنه جعله مطلقا ويتحكم عليه العقل والعقلاء فيقيِّدون حكمه، وهذا الذي ذكرناه هو معنى شرطيته الشرعية، والقول بامتناع صدور فعل منافٍ للحكمة منه تعالى -لا أنه قبيح عليه ونعلم بأنه لا يرتكبه مع قدرته على ارتكابه- كما يقال به بالنسبة الى صدور القبيح منه تعالى، لا ينافي ذلك ابدا.

وكيف كان فقد تحصل مما ذكرناه حول القسم الاول أن سببية سبب التكليف او شرطية شرطه منتزعة من جعل التكليف مقيدا به، ولو لم يصر التكليف فعليا ابدا لعدم تحقق سببه او شرطه، وما ذكره المحقق الايرواني “قده” من أنّ الشرطيّة الفعليّة منتزعة من فعليّة المشروط الذي هاهنا عبارة عن التكليف، فهي مجعولة بالتبع كشرط الواجب، و أمّا اقتضاء الشرطيّة غير المجعول بشي‏ء من الجعلين فلا ينبغي عدّه من أقسام الحكم الوضعي[12]، غير متجه، فان الشرطية الفعلية منتزعة من الجعل وان لم يكن المشروط اي المجعول والحكم فعليا، فانه قد لا يتحقق شرط التكليف كالاستطاعة للحج ابدا فلا يكون وجوب الحج فعليا، ولكن نفس جعل وجوب الحج مشروطا بالاستطاعة كافٍ في انتزاع شرطية الاستطاعة لوجوب الحج، فان الشرطية تعني توقف المشروط على الشرط، وفعلية توقف شيء على شيء لا يستلزم وجودهما بالفعل، كما هو واضح.

ثم انه اختار جماعة امكان تعلق الجعل الاستقلالي بهذا القسم ايضا، بل عن حقائق الاصول نسبته الى المشهور، وممن اختار هذا القول هو السيد الامام “قده”، فذكر أنه لا مانع من أن يقول الشارع “جعلت عقد النكاح سببا للزوجية” وبذلك يصير سببا تشريعيا للزوجية، فاذا وجد العقد فتترتب عليه الزوجية، نعم جعل المسبب على تقدير وجود السبب اقرب بالاعتبار في المجعولات القانونية[13]، وفيه أنه ان كان انشاء سببية عقد النكاح للزوجية كناية عن اعتبار الزوجية عقيب تحقق العقد كما هو الصحيح فلا كلام فيه، والا فلو صرح المولى بأني لم أعتبر الزوجية عقيب تحقق العقد وانما اعتبرت سببيته لها فلا يكفي ذلك في تحقق الزوجية، وأما اعتبارها زائدا على اعتبار الزوجية فهو لغو محض.

وهكذا ذكر السيد الداماد “قده” فيما حكي عنه أن التحقيق امكان تعلق الجعل الاستقلالي بالسببية و الشرطية للتكليف، توضيح ذلك أن المراد من التكليف ليس هو الارادة الموجودة فى نفس المولى، لانها امر تكوينى لا تناله يد الجعل التشريعى اصلا، بل المراد هو الوجوب الاعتباري الذي يوجد بالاعتبار، نعم انشاءه من حيث كونه فعلا صادرا من الحكيم ويكون لغرضٍ، يكشف عن وجود الارادة فى نفسه، فبعد ما كان نفس التكليف المنشأ امرا اعتباريا فلِمَ لا يصح اعتبار امر آخر سببا له، فكما كان هو اعتبارا محضا كانت سببية السبب له ايضا كذلك.

و لعل ما اوجب الاشتباه فى المقام توهم ان مورد البحث هو السببية الحقيقة للتكاليف الحقيقية غفلة عن ان مثل هذه التكاليف مما لا يصل اليه الجعل التشريعى بنفسها فضلا عن سببية اسبابها، و عليك بالتدبر التام‏[14][15].

وقد تبين الاشكال فيما ذكره من امكان الجعل الاستقلالي بالقسم الاول، ولا ينقضي العجب منه أنه كيف التزم في القسم الاول بامكان الجعل الاستقلالي للسبية او الشرطية للحكم، وانكر امكان الجعل الاستقلالي في القسم الثاني للجزئية الشرطية والمانعية في المكلف به، كما يرد على ما ذكره حول ارادة المولى أن الصحيح –كما افاده المحقق الحائري في الدرر[16]– كون خطاب الامر موضوعا لابراز الارادة نحو فعل المأمور، ولا يشتمل على اي اعتبار، والمراد من سببية شيء لارادة المولى ما مر من سببيته لطرفية المكلف لارادته، فان ارادته تعلقت بصدور الحج من المستطيع، فتحقق استطاعة اي مكلف سبب لطرفيته لهذه الارادة فيقال بعد ذلك ان المولى يريد منه الحج.

هذا كله حول ما ذكره صاحب الكفاية في القسم الاول من الاحكام الوضعية.

وأما ما ذكره حول القسم الثاني وهو الجزئية والشرطية والمانعية للمكلف به (من عدم امكان جعلها استقلالا، فجزئية شيء للواجب انما تنجعل بتبع جعل وجوب المركب من ذلك الشيء، اذ لولم يجعل هذا الوجوب فمجرد انشاء جزئية الشيء للواجب لا يوجب جزئيته له، كما أن شرطية شيء للواجب تنجعل بتبع جعل وجوب المقيد بذلك الشيء، ومانعية شيء في الواجب تنجعل بتبع جعل وجوب المقيد بعدم ذلك الشيء) فقد وافق معه في هذا الرأي كثير من الاعلام، ولكن يورد عليه عدة ايرادات:

الايراد الاول: ما ذكره السيد الامام “قده” من امكان الجعل الاستقلالي للجزئية والشرطية والمانعية في المكلف به، بدعوى أنه لا مانع من جعل الوجوب للطبيعة المطلقة بحسب الجعل الأولي، ثم يجعل شيئا شرطا لها او مانعا فيها بجعل مستقل، كما غيَّر اللَّه قبلة المسلمين إلى المسجد الحرام، فهل كان قوله “فولّ وجهك شطر المسجد الحرام‏” من قبيل نسخ حكم الصلاة رأسا و إبداء حكم آخر، و مجرد كون المنتزعات التكوينية تابعة لمناشئ انتزاعها لا يوجب ان تكون الشرائط و الموانع التشريعية كذلك، و كذا الكلام في إسقاط شرط أو مانع، و بالجملة تلك الأمور الاعتبارية و الجعلية كما يمكن جعلها بتبع منشأ انتزاعها يمكن جعلها مستقلا بلا إشكال وريب كما يمكن إسقاطها كذلك.

نعم ان الإرادة الواقعية إذا تعلقت بطبيعة لا يمكن ان تنقلب عما هي عليه من زيادة جزء أو شرط أو مانع أو إسقاطها مع بقائها على ما هي عليه، لأن تشخصها بتشخص المراد، فلا يمكن بقاء الإرادة مع تغير المراد، بخلاف الأمور القانونية، فانها تابعة لكيفية تعلق الجعل بها.

وأما حال جعل الجزئية فتوضيحه ان الأوامر المتعلقة بالطبائع المركبة انما تتعلق بها في حال لحاظ الوحدة، و لا يكون الأمر بها متعلقا بالاجزاء بحيث ينحل الأمر إلى أوامر، و لا الأمر الّذي هو بسيط منبسطا على الاجزاء، بل لا يكون في البين الا امر واحد متعلق بنفس الطبيعة في حال الوحدة، و هذا لا ينافي كون الطبيعة هي نفس الاجزاء في لحاظ التفصيل، فإذا امر المولى بالصلاة لا يلاحظ إلا نفس طبيعتها و تكون الاجزاء مغفولا عنها، فحينئذ نقول ان الأمر بالطبيعة يدعو إلى نفس الطبيعة بالذات، و إلى الاجزاء بعين دعوته إلى الطبيعة، فإذا جعل المولى جزءا للطبيعة، فقال: لا صلاة الا بفاتحة الكتاب أو اقرأ في الصلاة أو جعلت الفاتحة جزءا لها يدعو الأمر المتعلق بالطبيعة إليها بنفس دعوته إلى الطبيعة، كما إذا أسقط جزءا منها يكون دعوة الأمر إلى الطبيعة دعوة إلى بقية الاجزاء، و بالجملة لا أرى وجها لامتناع تعلق الجزء الاستقلالي على ما ذكر الا توهم كون التشريع كالتكوين، و الا فلو لم يرد من المولى الا الأمر بطبيعة ثم صدر منه امر آخر يدل على اشتراطها بشي‏ء أو جعل شي‏ء جزءا منها، فهل يجوز للعبد ترك الشرط أو الجزء قائلا بأنه لابد من صدور امر متعلق بالطبيعة المتقيدة بالشرط أو المركبة من هذا الجزء و لم يصدر منه الا الأمر بالطبيعة، و الدليل الدال على الاشتراط أو الجزئية[17].

اقول: اذا امر المولى بالصلاة مثلا فإما أن يكون بشرط شيء من السورة او من الطهارة، فهو المطلوب، وينتزع من ذلك الجزئية والشرطية للواجب، وإما أن يكون لابشرط منهما فلابد أن يتحقق الامتثال ويسقط الامر بالاتيان بالصلاة بدونهما، وهذا لا يجتمع مع جزئية السورة وشرطية الطهارة، الا أن ينسخ ذلك الامر الذي كان لا بشرط، ويبدِّله الى الامر بشرط شيء، وما ذكر من عدم كون تبديل القبلة من بيت المقدس الى المسجد الحرام نسخا لأصل وجوب الصلاة، فهو لايعدو عن كونه نظرا عرفيا تسامحيا، حيث ينظر العرف الى مقام الاثبات فيرى بقاء طبيعي الامر بالصلاة، والا فلا يعقل بقاء شخص الامر السابق.

وعليه فلابد من انتزاع جزئية السورة للصلاة الواجبة من الامر بالصلاة مع السورة، نعم قد يكون الكاشف عن هذا الامر قول الشارع “جعلت السورة جزءا للصلاة الواجبة، هذا ولو قلنا بمقالة السيد البروجردي “قده” من كون الصلاة المأمور بها ماهية جعلية، ثم يجعل الشارع مصاديقها، فتنتزع الجزئية لمصداق الصلاة من اعتبار المركب من السورة مصداقا لتلك الماهية الجعلية.

الايراد الثاني: ما يقال من أن المهم جزئية السورة مثلا في الصلاة ومن الواضح أنها لا تنتزع عن وجوب الصلاة مع السورة، بل هذه الجزئية ثابتة في رتبة سابقة على تعلق الوجوب، وأما توقف جزئية السورة في الواجب او فقل في الصلاة الواجبة، على تعلق الوجوب فهو امر بديهي، لكنه نظير أن يقال ان مقدمية نصب السلم للصعود الواجب الى السطح موقوف على وجوب الصعود، مع أن مقدميته لذات الصعود الى السطح وهو في رتبة سابقة على وجوب الصعود، وهكذا كون المسجد مثلا مكان الصلاة الواجبة موقوف على وجوب الصلاة، مع أنه كونه مكان الصلاة ليس موقوفا عليه، وفي المقام ايضا المهم جزئية السورة في ذات الموصوف وهو الصلاة، وقد اتضح عدم توقفها على الوجوب.

اقول: لا ريب في أنه لو تصور الشارع هيئة اجتماعية من عدة امور، منها قراءة السورة، وسماها بالصلاة فتنتزع من هذا المتصوَّر للشارع جزئية السورة للصلاة من دون حاجة الى الامر بالصلاة مع السورة، وانما تنتزع من وجوب المركب من السورة جزئية السورة للواجب، وما يكون الفقيه بصدد اثباته او نفيه بأمارة او اصل هو الجزئية للواجب لا الجزئية للمسمى او المتصور.

الايراد الثالث: ما ذكره المحقق العراقي “قده” من أنه لابد من التفصيل بين الجزئية وبين الشرطية والمانعية، فالجزئيّة منتزعة من التكليف، لكن الشرطيّة أو المانعيّة ثابتتان قبل التكليف، و الوجه في ذلك أن المحقق العراقي “قده” يرى أن جزئية اجزاء الواجب تنتزع من وحدة الوجوب المتعلق بعدة امور متكثرة، من دون لحاظ وحدة بينها في متعلق الوجوب، لأن هذه الوحدة لأجزاء الواجب الارتباطي الناشئة من وحدة الوجوب تكون متأخرة عن الوجوب فيستحيل أخذها في متعلقه، فلم يتقيد في الرتبة السابقة كل جزء بسائر الأجزاء، حتى ينتزع من هذا التقيد عنوان الجزئية، فينحصر الامر في انتزاع جزئية اجزاء المركب من وجوب المركب.

بينما أنه في الشرط والمانع فحيث ان الامر يتعلق بالمقيد بالشرط وعدم المانع فلابد أن يلحظ المولى في رتبة سابقة من الامر الصلاة المقترنة بالطهارة ثم يأمر بها، فحصل تقيد الصلاة بالطهارة قبل الامر، ومنه انتزعت شرطية الطهارة في الصلاة، وهكذا المانعية، مثلا: مانعية القهقهة في الصلاة تنتزع عن لحاظ الصلاة متقيدة بعدم القهقهة، وفي هذه الرتبة تنتزع المانعية[18].

اقول: لا يخفى أن ما ذكره في الجزئية مبني على مسلكه في المركب الارتباطي، في قبال مسلكين آخرين:

احدهما: ما اختاره جماعة منهم السيد الخوئي “قده” من كون المركب الارتباطي هو ما لوحظ تقيد كل جزء بانضمام بقية الأجزاء، بدعوى أنه لا يمكن اطلاق بعض اجزاء الواجب الارتباطي و لا بشرطيته بالنسبة الى فرض وجود الأجزاء الأخر، و عدمه، و الا لزم أن يسقط الامر به و لو اتى به وحده، و هذا خلف ضمنيته، و الاهمال غير معقول، فيتعين تقييده بوجود سائر الأجزاء.

ثانيهما: ما في البحوث من أنّ روح الوجوب حيث تكون هي حب المولى و شوقه بفعل العبد، فلابد أن يكون المتعلق بالذات للوجوب الارتباطي عنوانا وحدانيا ذهنيا[19].

وهذا التفصيل الذي ذكره المحقق العراقي في المقام وارتضاه بعض الاعلام “قده”[20]، انما يكون له مجال بناء على مسلكه دون هذين المسلكين، على أنه قد مرّ أن المهم للفقيه تشخيص الشرطية والمانعية في الواجب، لا في المسمى او المتصور، والشرطية تنتزع من كون الواجب بشرط شيء من الشرط، كما أن المانعية في الواجب تنتزع من كونه بشرط لا من شيء، لا من تصر صلاة خالية عن القهقهة.

فما ذكره صاحب الكفاية في القسم الثاني هو الصحيح.


استدراك

ذكر في تعليقة مباحث الاصول اشكالا: وهو أن السببية الحقيقية لا يمكن أن تنتزع من جعل، فان الجعل أمر اعتباري، و الأمر الاعتباري لا يؤثّر أثر التكوين، بل هي بحاجة إلى نكات تكوينيّة، فكيف تنتزع من جعل وجوب صلاة الآيات عند الزلزال السببية الحقيقية للزوال بالنسبة الى المجعول وهو وجوب صلاة الآيات، ثم ذكر في حلّه أنّ الجعل بما هو جعل امر تكويني صادر من المولى، و هذا يخلق مصداقاً للأسباب، و لا يخلق السببيّة، ففرقٌ بين خلق مصداق الأسباب و بين خلق السببيّة، فالسببيّة لا تُخلَق بالجعل، و لكنّ الجعل يخلق المصداق، و هذا شبيه بما يقال في الجعول التكوينية أيضاً، كما يقول الفلاسفة: إنّ النار هي سبب للإحراق، و حتّى الخلق التكويني للنار ليس خلقاً للسببية، و إنّما هو خلق لمصداق السبب، أمّا السببيّة فهي ثابتة قبل خلق النار، و كذلك دلوك الشمس في المقام سبب بشكل كبروي قبل خلق الوجوب لفعلية كلّ وجوب مقيّد بدلوك الشمس، هذه ككبرى ثابتة قبل الجعل، و جعل هذا الحكم خلق، و الجعل بالنسبة لنفس ما يجعل تكوين، و يكون محقّقاً لمصداق هذه الكبرى، و عندئذ نقول: هذه السببيّة منتزعة من هذا الجعل[21].

اقول: لا اشكال في أن علاقة المجعول بموضوعه ليست علاقة تكوينية، بل الموضوع ظرف للوجود الوهمي للحكم، نظير موت الموصي فانه ظرف للوجود الوهمي لملكية الموصى له، وهذا هو المراد من سببية الموضوع للحكم، ولا مانع من أن يكون الجعل الذي هو السبب للوجود الوهمي للمجعول عقيب تحقق الموضوع موجبا لانتزاع سببية الموضوع لوجود المجعول، وهذه السببية ليست سببية تكوينية لعدم كون طرفها امرا تكوينيا، فان اريد من كون السببية عنائية هذا المعنى فهو صحيح، ولكن كما أن للمجعول وجود وهمي استقلالي عقيب وجود الموضوع فلسببية الموضوع بالنسبة الى المجعول ايضا وجود وهمي انتزاعي اي وجود عرفي لا تكويني.

وأما ما ذكره من أن سببية زوال الشمس للوجوب المقيد بالزوال حقيقية ثابتة قبل جعل الوجوب، وانما يخلق الجاعل المصداق فمراده من المصداق هو الوجوب المقيد بالزوال والا فالشارع بما هو شارع لا يجعل السبب اي الزوال، بينما أنه في السببية التكوينية الخالق يخلق ذات السبب وهو النار مثلا، والمهم ان الجعل ليس تكوينا للمجعول، كما ان زوال الشمس ليس سببا تكوينيا للوجوب المقيد بالزوال، وانما هو موطن لوجوده الوهمي كما اتضح آنفا. تم الاستدراك

وأما القسم الثالث وهو كل حكم وضعي لا يكون من القسم الاول او الثاني فقد اختار الشيخ الاعظم “قده” امتناع جعله استقلالا وانما يكون مجعولا بالانتزاع بتبع جعل الاحكام التكليفية المتناسبة له، بينما أن صاحب الكفاية اختار امكان جعله استقلالا بل ذكر أنه الظاهر من الأدلة، ووافقه عليه كثير من الاعلام، والانصاف أن ما ذكره موافق للارتكاز العرفي وظاهر الادلة مثل قوله تعالى “فلابويه لكل واحد منهما السدس” وقوله (عليه السلام) فاذا قالت نعم فهي زوجتك” و قوله “اني جعلته عليكم قاضيا” والمستفاد من قوله “الناس مسلطون على أموالهم” أن جواز التصرف من آثار الملكية، كما أن المستفاد من قوله (عليه السلام) “لا يحل مال امرء إلا بطيبة نفسه” أن حرمة التصرف من آثار ملكية الغير، لا أن ملكية الشخص منتزعة من جواز تصرف، وحرمة تصرف غيره، وهكذا جواز الاستمتاع من آثار الزوجية ومتفرع عليها، لا أن الزوجية منتزعة من جواز الاستمتاع له، أو عدم جواز الاستمتاع للغير.

وقد يستشكل على ذلك بدعوى لغوية جعل الحكم الوضعي حيث انه بدون جعل الاحكام التكليفية، لا يترتب عليه اثر، ومع جعلها فيتنزع العرف منها الحكم الوضعي ولا حاجة الى جعله الاستقلالي، نعم لا مانع من التعبير في مقام الاثبات بوجود الحكم الوضعي لتسهيل فهم الاحكام والقوانين، ولكن المدعى لغوية جعله في مقام الثبوت، وقد اعترف بعض الاعلام “قده” بتمامية هذا الاشكال، وانما تخلص منه ببيان أن الملكية و الزوجية و نحوهما ليست من المجعولات الشرعية التأسيسية، بل هي من المجعولات الإمضائية، بمعنى انها مجعولة لدى العقلاء و الشارع أمضى اعتبارهم، و من الواضح انه ليس لدى العقلاء أحكام تكليفية من وجوب و تحريم، بل ليس لديهم الا الحكم بالحسن و القبح، و هما يتفرعان على الظلم و عدمه، و الظلم لديهم هو التعدي عن الحقوق الثابتة لديهم، و عليه فقبح التصرف بالمال لديهم يتفرع على أن يكون التصرف تعديا عن الحق، وهذا يتوقف على اعتبار ملكية المتصرف، فاعتبارهم للملكية لأجل تحقيق موضوع التحسين و التقبيح، هذا شأن العقلاء، و اما الشارع فهو قد أقر العقلاء على اعتبارهم الملكية و ليس لديه جعل جديد، و رتب على ذلك أحكاما تكليفية من وجوب و حرمة و غيرهما نسبتها إلى الملكية نسبة الحسن و القبح اللذين يحكم بهما العقلاء، فالملكية العقلائية التي أقرها الشارع هي موضوع أحكامه التكليفية و دخيلة في تحققها، و في مثل ذلك لا محذور من لغوية أو غيرها، فلا مانع من الالتزام بمجعولية مثل الملكية بعد ان كان مقام الإثبات يساعد عليه[22]، وفيه أن الجواز او المنع او اللزوم القانوني موجود لدى العقلاء، على أن المهم أن اعتبار الحكم الوضعي في موارده كاعتبار ملكية الولد لمال ابيه بعد وفاته، مع جعل الملكية بشكل عام موضوعا لاحكام تكليفية يوجب سهولة فهم الناس للقانون، وتنظيم سلوكهم وفقه.

هذا وقد اورد السيد الخوئي “قده” على ما ذكره الشيخ الاعظم من انتزاع الملكية عن جواز تصرفه وحرمة تصرفه بغير اذنه، أنه لا تلازم بين الملكية و جواز التصرف، و لا بينها و عدم جواز تصرف الغير، فان النسبة بين الملكية و جواز التصرف هو العموم من وجه، إذ قد يكون الشخص مالكا و لا يجوز له التصرف كالسفيه و العبد، على القول بملكه، و كذا في العين المرهونة، و قد يجوز التصرف له مع عدم كونه مالكا كما في المباحات الأصلية، و كذا النسبة بين الملكية و عدم جواز تصرف الغير أيضا هو العموم من وجه، فقد يكون الشخص مالكا لشي‏ء و يجوز لغيره التصرف فيه، كما في حق المارة و الأكل عند المخمصة، و قد لا يجوز للغير التصرف مع عدم كون هذا الشخص مالكا كما في العين المرهونة، فانه لا يجوز التصرف فيها للراهن مع عدم كونها ملكا للمرتهن، فكيف يمكن القول بأن الملكية منتزعة من جواز التصرف أو من عدم جواز تصرف الغير[23]، فان اراد أن يجعل ذلك منبها للوجدان العرفي فهو والا فقد يقال بأن ما انتزع منه الملكية هو الحكم بجواز التصرف على تقدير البلوغ والرشد وعدم حالة الرهن، وحرمة تصرف الغير بدون اذنه في غير حالات الاستثناء كاكل المارة او الضرورة، فانه لا مانع عرفا من انتزاع الملكية من ثبوت هذه الاحكام المشروطة واللولائية، -فانه انتزاع عرفي وعقلائي وليس انتزاعا تكوينيا حتى يمنع من انتزاع امر فعلي عن شيء اقتضائي وشأني كانتزاع الفوقية الفعلية عن الفوق الشأني- بل ثبت في مورد الصبي والسفيه حكم فعلي وهو جواز تصرف الولي في مالهما مع رعاية مصلحتهما، وحرمة تصرف الغير فيه بدون اذن الولي مع رعاية مصلحتهما.

ثم ان السيد الخوئي ذكر ثمرة فقهية في المقام، وهو أنه يلزم على ما ذكره الشيخ “ره” عدم جريان الاستصحاب فيما إذا تزوج أحد صغيرة، ثم بلغت و شك في أنه طلقها أم لا، فانه لا يجري الاستصحاب في الحكم الوضعي، و هو الزوجية، لكونه منتزعاً من التكليف، فيكون تابعاً لمنشإ الانتزاع حدوثاً و بقاءً، و لا في الحكم التكليفي، و هو جواز الوطء لكونه مسبوقا بالعدم، لعدم جواز وطء الزوجة الصغيرة، إلا أن يقال: إنه يجري الاستصحاب في الحكم التكليفي بنحو التعليق بناء على حجية الاستصحاب التعليقي فيقال: إن هذه المرأة لو بلغت سابقاً، كان وطؤها جائزاً و الآن كما كان، و على ما ذكرنا من كون الزوجية مجعولة بالاستقلال، يجري الاستصحاب فيها بلا إشكال و يترتب عليه جواز الوطء[24].

اقول: كان ينبغي أن يذكر مثال الشبهة الحكمية كما لو طلق بالفارسي ولم يكن اطلاق يثبت بقاء الزوجية، والا ففي الشك في صدور الطلاق يجري استصحاب عدمه، وكيف كان فقد اتضح أنه يكفي في انتزاع زوجية الصغيرة جواز سائر الاستمتاعات منها ما عدا الوطء، بل جواز وطئها المشروط ببلوغها، نعم لو كان مبنى الشيخ مانعا عن جريان استصحاب الحكم الوضعي كما قال به بعضهم، ووصول النوبة الى استصحاب الحكم التكليفي فيكون مقتضى الاستصحاب حرمة الوطء، الا مع جريان الاستصحاب التعليقي في جواز وطئها عند بلوغها.


[1] – نهاية الافكار ج4ق1ص 87

[2] – الوافية في اصول الفقه ص 201

[3] – الاصول في علم الاصول ج2ص383

[4] – الرسائل 2ص 154

[5] -كفاية الاصول ص 400

[6] – مصباح الاصول ج3ص

[7] – الكفاية مع حاشية المشكيني ج2ص بتوضيح منا.

[8] – مباحث الاصول ج 5ص 346

[9] –  نهاية الدراية ج ص

[10] – فوائد الاصول ج 4ص 386مصباح الاصول ج3ص 80

[11] – منتقى الاصول ج6ص 140

[12] – الاصول في علم الاصول ج 2ص383

[13] – الرسائل ج1ص 118

[14] محقق داماد، محمد، المحاضرات ( مباحث اصول الفقه ) – اصفهان، چاپ: اول، 1382 ش.

[15] – المحاضرات اصول الفقه ج 3ص50

[16] – درر الفوائد ج1ص 43

[17] – الرسائل ج1ص116

[18] – نهاية الافكار ج 3ص377 وج 4 القسم الاول ص 90

[19] – مباحث الاصول ج4 ص

[20] – منتقى الاصول ج 6ص 143

[21] – مباحث الاصول ج5ص 255

[22] – منتقى الاصول ج 6ص 149

[23] – مصباح الاصول ج3ص 82

[24] – مصباح الاصول ج3ص82