التنبيه الاول: ثمرة الاختلاف بين مسلك العلية والاقتضاء. 1
الثمرة الاولى: سلامة الاصل الطولي النافي للتكليف… 4
عدة وجوه لسلامة الاصل الطولي المؤمن عن المعارضة. 5
فتحصل عدم تمامية هذه الوجوه لجريان الاصل الطولي بلا معارض…. 10
تفصيل السيد الخوئي “قده” في جريان الاصل الطولي.. 11
الثمرة الثانية: جريان الخطاب المختص على القول بالاقتضاء دون العلية. 18
کلام السيد الخوئي وشيخنا الاستاذ “قدهما”.. 20
خلاصة بحث ثمرة النزاع بين مسلك الاقتضاء والعلية. 25
تنبيهات
التنبيه الاول: ثمرة الاختلاف بين مسلك العلية والاقتضاء
التنبيه الاول:
ذكر المحقق النائيني “قده” أنه لا توجد ثمرة عملية للنزاع بين مسلك العلية والاقتضاء في وجوب الموافقة القطعية للعلم الاجمالي، فانه لو فرض أنّه كان في بعض الأطراف أصل ناف للتكليف غير معارض بمثله في الطرف الآخر فالعلم الإجمالي ينحلّ به على مسلك الاقتضاء، ولو لم يكن في الطرف الآخر أصل مثبت للتكليف، لكن هذا الفرض بعيد، بل الظاهر أنّه لا يمكن، وقد يتوهّم أنّ مثاله العلم الاجمالي ببولية مايع او نجاسة ماء آخر حيث يكون استصحاب الطهارة في الماء معارضا مع أصالة الطهارة في ذاك المايع، بعد عدم تمامية اركان استصحاب الطهارة فيه، فيتساقطان، وتصل النوبة حينئذ إلى أصالة الطهارة في الماء، فتجري بلا معارض، لسقوط أصالة الطهارة في المايع في الرتبة السابقة، وليست أصالة الطهارة في الماء في مرتبة استصحابها فيه لتسقط بسقوطه، لأنّها محكومة به، فهي في ظرف جريان الاستصحاب لا تجري، وحينما يصل ظرف جريانها لا يكون لها معارض.
ولكن لا يخفى فساد التوهّم، لأنّ تعارض الأصول إنّما هو باعتبار ما هو المجعول فيها، والمجعول في كلّ من استصحاب الطهارة وقاعدتها أمر واحد وهو طهارة مشكوك الطهارة، والمفروض عدم إمكان جعل الطهارة في كلّ من الإناءين، فكلّ من مؤدّى استصحاب الطهارة وقاعدتها في متيقّن الطهارة يعارض مؤدّى قاعدة الطهارة في الإناء الآخر، فيسقط الجميع في عرض واحد، والحاصل أنّ تعارض الأصول إنّما هو باعتبار أنّ المجعول فيها معنى يؤدّي إلى المخالفة العمليّة، فلا بدّ من ملاحظة ما هو المجعول في الأصول الجارية في أطراف العلم الإجمالي، فان كان المجعول فيها معنى يؤدّى إلى المخالفة العمليّة فلا محالة يقع التعارض بينها وتسقط، ولو فرض أنّه كان في أحد الأطراف أصول متعدّدة وفي الطرف الآخر أصل واحد، فانّ الأصل الواحد يعارض جميع تلك الاصول، ولا يلتفت إلى ما بينها من الحكومة واختلاف المراتب بعد اتّحاد المجعول فيها وعدم اختلافها في المؤدّى([1]).
کلام المحقق العراقي “قده”
وقد اورد عليه المحقق العراقي “قده” بأنه لا وجه لانكار ثمرة النزاع بين مسلك العلية والاقتضاء، حيث انه على مسلك الاقتضاء لابد أن يجري الاصل الطولي النافي للتكليف فی احد طرفي العلم الاجمالي بلا معارض، وأما ما ذكره في مثال العلم الاجمالي ببولية مايع او نجاسة ماء آخر، ففيه اولا: أنه لا محذور في جعل طهارتين طوليتين بنحو لا يكاد اجتماعهما في زمان، بل ورتبة واحدة، فينتج في المقام أن الطهارة الطولية المجعولة في الماء في ظرف عدم جريان الطهارة المجعولة في الاستصحاب تكون سليمة عن المعارض، وثانيا: مع الإغماض عن هذه الجهة يمكن ان يجعل الشارع دليلين على الطهارة الواحدة المجعولة، ويكون أحد الدليلين في مرتبة الدلالة في طول الآخر، بحيث لا يصل النوبة إلى عموم الثاني إلّا بعد سقوط العموم الأول ولو بالتعارض([2]).
وذكر في البحوث أن الجواب الثاني للمحقق العراقي وان كان تاما، لكن جوابه الاول لايتم اذا كان مقصود المحقق النائيني “قده” من المجعول روح الحكم ومبادئه، فان الحكم الظاهري روحا ولبّا واحد في المقام وان تعددت مناشئه وملاكاته([3])، ولا بأس بما افاده.
والمهم أن المحقق النائيني “قده” بنفسه ذكر في بحث ملاقي بعض اطراف الشبهة نكتة جريان اصل الطهارة في الملاقي بالكسر بلا معارض، من أنه لا تصل النوبة اليه الا بعد معارضة اصل الطهارة في الملاقى بالفتح مع اصل الطهارة في عدل الملاقى، وتساقطهما فلا يعقل معارضته مع اصل الطهارة في عدل الملاقى، نعم حيث يبدو منه وجود وجه آخر للحكم بطهارة الملاقي، وهو ما ذكره من أن العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي او عدل الملاقى بالفتح يكون مبتلى بتنجز نجاسة الطرف الثاني بمنجز آخر اسبق منه رتبة، وهو العلم الاجمالي بنجاسته او نجاسة الملاقى بالفتح([4])، فلأجل ذلك قد لا يصح جعل التزامه بجريان أصالة الطهارة في الملاقي نقضا على ما ادعاه هنا من أنه لم يجد مثالا يجري اصل مؤمن في احد طرفي العلم الاجمالي ولم يجر في الطرف الآخر اصل منجز عقلي او شرعي، ولكن النكتة التي ذكرها لتقديم الاصل الطولي في الملاقي لا يختص باختلاف مورد الاصل الطولي مع مورد الاصل الحاكم كما في مثال الملاقي، بل تأتي حتى مع وحدة المورد، كما في مثل العلم الاجمالي بنجاسة ماء او ثوب، فان اصالة الحلّ في الماء اصل طولي بالنسبة الى أصالة الطهارة فيه لكون الشك في حلية شربه ناش من الشك في نجاسته، ولا ريب في مغايرة المجعول في أصالة الطهارة والحل.
وكيف كان فحيث ذكر الاصل الطولي الجاري في بعض اطراف العلم الاجمالي، في كلام المحقق النائيني والمحقق العراقي “قدهما” ثمرة النزاع بين مسلك العلية والاقتضاء فأنكرها المحقق النائيني وقبلها المحقق العراقي، فينبغي بسط الكلام فيها كأول ثمرة للنزاع بين المسلكين.
الثمرة الاولى: سلامة الاصل الطولي النافي للتكليف
الثمرة الاولى: ما اذا كان يوجد في احد طرفي العلم الاجمالي اصل طولي نافٍ للتكليف، فيقال بأنه يجري بلا معارض بناءا على مسلك الاقتضاء، ولكن حيث يكون العلم الاجمالي منجزا فيمتنع جريانه بناءا على مسلك العلية، وأما الاصل الطولي المثبت للامتثال فلا فرق في القول بجريانه بين مسلك الاقتضاء والعلية، فان المحقق العراقي “ره” الذي هو من رموز مسلك العلية يتمسك بالاصل الطولي عند تعارض الاصول المصححة في عملين يعلم ببطلان احدهما اجمالا، كما لو علم إما ببطلان وضوءه لصلاة الظهر او بطلان وضوءه لصلاة العصر وهو بعد لم يأت بصلاة العصر، حيث قال بأنه تجري قاعدة الفراغ في صلاة الظهر لكونه اصلا طوليا، بعد تعارض القاعدة في الوضوئين([5]).
فمثال اجراء الاصل الطولى النافي للتكليف ما ذكره الشيخ الاعظم “قده” في بحث ملاقي بعض اطراف الشبهة من أن العلم بنجاسة الملاقي بالكسر او عدل الملاقى وان كان موجودا، لكن يجري في الملاقي بالكسر اصل الطهارة بلا معارض، لكون جريانه في طول معارضة أصالة الطهارة في الملاقى بالفتح مع أصالة الطهارة في عدله، حيث ان اصل الطهارة في الملاقى بالفتح اصل سببي حاكم على أصل الطهارة في الملاقي بالكسر، فلا تصل النوبة اليه الا بعد سقوط اصل الطهارة في الملاقى بالفتح بالمعارضة مع اصل الطهارة في عدله، وعليه فلا يدخل في ضمن المعارضة مع اصل الطهارة في عدل الملاقى.
هذا وقد انكر السيد الخوئي “قده” جريان الاصل الطولي واورد نقضاً على القائلين بجريانه بأنه لو علم شخص اجمالا إما ببطلان وضوءه لصلاة الصبح او بطلان صلاة الظهر لترك ركن فيها فلا يظن أن يلتزم فقيه بجريان قاعدة الفراغ في صلاة الصبح -بعد تعارض قاعدة الفراغ في الوضوء لها وفي صلاة الظهر- بدعوى أنها اصل طولي لكونها اصلا مسببيا بالنسبة الى قاعدة الفراغ في الوضوء([6]).
ولكن لا وجه لاستبعاده التزام فقيه بذلك، فقد التزم المحقق العراقي “ره” بأنه اذا صلّى الظهر بوضوء ثمَّ أحدث وجدّد وضوء العصر، فعلم إجمالا إما بفساد صلاته السابقة من جهة فساد وضوئها أو فساد هذا الوضوء الثاني فلا شبهة في تعارض قاعدتي الفراغ بالنسبة إلى وضوئه وتبقى القاعدة بالنسبة إلى الصلاة جارية بلا معارض، نظرا إلى أن الأصل في السبب إذا تساقط بالتعارض يرجع إلى الأصل المسببي، كما هو الشأن في ملاقي الشبهة المحصورة في ظرف يكون العلم الإجمالي بين المسبب وذلك الطرف في طول العلم بين الطرفين كي به يخرج عن المؤثرية في التنجز وإلا فلا مجال لجريان الأصل المسببي في طرف العلم المنجز ولو كان بلا معارض بناء على المختار من كون العلم علة تامة في المنجزية حتى بالنسبة إلى الموافقة القطعية([7]).
ثم لا يخفى أنه على المبنى المختار من جريان الاصول المتوافقة في عرض واحد من دون حكومة بعضها على بعض فلا موضوع للبحث عن تقديم الاصل الطولي، وانما يبتني هذا البحث على مبنى المشهور من حكومة الاصل السببي على المسببي والاصل المحرز كالاستصحاب على غير المحرز كالبراءة ولو مع توافقهما في النتيجة،
عدة وجوه لسلامة الاصل الطولي المؤمن عن المعارضة
وكيف كان فقد تذكر عدة وجوه لسلامة الاصل الطولي المؤمن عن المعارضة:
الوجه الاول:
ما قد يقال من أنه حيث أخذ في موضوع الاصل الطولي عدم جريان الاصل الحاكم عليه فلا يتحقق موضوعه ولا تصل النوبة اليه الا بعد معارضة الاصل الحاكم فيه مع الاصل في الطرف الآخر وتساقطهما، فلا يعقل معارضة الاصل في الطرف الآخر معه، لأن معنى معارضة شيء لشيء آخر مانعيته عن تأثير مقتضيه في ايجاده، وبعد كون وجود مقتضي الاصل الطولي -و هو شمول الدليل له بتحقق موضوعه فيه- موقوفا على انعدام الاصل في الطرف الآخر فلا يعقل مانعية هذا الاصل عن تأثير ذلك المقتضي، كما هو واضح.
ولاجل هذا الوجه اختار جمع من الاعلام جريان الاصل الطولي، منهم بعض الاعلام “قده”([8]).
وفيه أن المعارضة بين الاصل الحاكم في طرف الاصل الطولي، والاصل في الطرف الآخر عنوان منتزع عن امرين: احدهما: مانعية مقتضي الاول عن الثاني، وثانيهما: مانعية مقتضي الثاني عن الاول، وجريان الاصل الطولي موقوف على الامر الثاني دون الاول، ومن الواضح أن ما يمنع من معارضة الاصل الطولي مع الاصل في الطرف الآخر هو أن يكون جريانه في طول الامر الاول الذي يعني توقف جريانه على سقوط الاصل في الطرف الآخر كي لا يعقل معارضته معه.
والحاصل أن تحقق مقتضي جريان الاصل الطولي موقوف على سقوط الاصل الحاكم في طرفه فقط، او فقل -على الأصح- انه موقوف على عدم وصوله، ولا يتوقف على سقوط الاصل في الطرف الآخر، وعليه فتتحقق المعارضة بينهما، فان ملاك المعارضة بين الاصلين العلم الاجمالي بكذب دليلي الاصلين لعدم احتمال جريانهما معا ثبوتا، واحتمال جريان كل منهما في حد نفسه، من دون أن يكون دليل جريان احدهما مقدَّما على الآخر بالورود او الحكومة او التخصيص، فيوجب ذلك تعارضهما في الحجية، وهذا الملاك موجود في المقام.
الوجه الثاني:
ما يقال من أن الاصل الطولي متأخر رتبة عن الاصل الحاكم عليه، حيث لا تصل النوبة اليه الا بعد سقوطه، ولما كان هذا الاصل الحاكم مساويا رتبة مع الاصل المؤمن في الطرف الآخر، فيكون الاصل الطولي المتاخر عن اصله الحاكم متأخرا رتبة عن الاصل في الطرف الآخر، لأن المتأخر عن مساوي الشيء متأخر عن ذلك الشيء ايضا.
وقد اعترض عليه السيد الخوئي “قده” بأن الاحكام الشرعية لاتترتب على اختلاف الرتب، ومن هنا يكون الماء الكر معتصما من زمان كريته، فلا يتنجس بملاقاة النجس ولوكانت الملاقاة مقارنة لزمان حدوث الكرية، ولا يمنع عنه تأخر الاعتصام عن الكرية رتبة تأخر الحكم عن موضوعه.
ولكن يرد عليه أنه لوثبت أن تحقق مقتضي الاصل الطولي في طول سقوط الاصل في الطرف الآخر فلا يعقل معارضته، فالمهم في الاشكال على هذا الوجه أن نقول اولاً: ان كبرى “المتاخر عن مساوي الشيء متأخر عن ذلك الشيء” غير تامة، فانه لابد في التقدم والتأخر الرتبي من وجود ملاك له، ككون شيء مقتضيا لشيء آخر، كالنار بالنسبة الى الحرارة، فيتوقف وجوده على وجوده، او كون شيء مانعا عن وجود شيء، كرطوبة القطنة المانعة عن احتراقها، فيتوقف وجوده على عدمه، فيكون متأخرا عنه رتبة، ومن الواضح أن مجرد ذلك لا يوجب تأخره عما هو متساوٍ مع مقتضيه او مانعه، فتقدم النار على الحرارة بملاك العلية لا يستلزم تقدم الماء -الذي هو مساو رتبة مع النار، لعدم المقتضي للتقدم والتأخر الرتبي بينهما- على الحرارة، لانتفاء ملاك العلية بين الماء والحرارة.
وثانيا: ان ملاك المعارضة بين اصلين كما تقدم هو العلم الاجمالي بكذب دليلهما، لعدم احتمال جعلهما معا ثبوتا، فيوجب ذلك تعارض الدليلين وتساقطهما، وهذا الملاك موجود بين الاصل الطولي في طرفٍ والاصل العرضي في الطرف الآخر، نعم لو كان اختلاف الرتبة بمعنى كون تمامية المقتضي للاصل الطولي موقوفا على انعدام الاصل في الطرف الآخر في رتبة سابقة فمن الواضح أنه بمنع من تحقق المعارضة بينهما، لكن لا وجه لدعواه في المقام.
الوجه الثالث:
ما قد يقال من أن المعارضة بين اصلين حيث تكون بمعنى مانعية كل منهما عن جريان الآخر، فلا يعقل معارضة الاصل الطولي مع الاصل في الطرف الآخر، حيث يلزم من مانعية الاصل الطولي عن جريان الاصل في الطرف الآخر عدم مانعيته، وما يلزم من وجوده عدمه محال، توضيح ذلك أنه بمانعيته عن جريان الاصل في الطرف الآخر ينعدم معارض الاصل الحاكم، وبجريان الاصل الحاكم ينعدم الاصل الطولي وبالتالي تزول مانعيته.
وأجاب عنه في البحوث بأن مانعية الاصل الطولي عن جريان الاصل في الطرف الآخر تعني سقوط ذلك الأصل بسبب تمامية مقتضي الأصل الطولي، وحيث ان تماميته فرع سقوط الأصل الحاكم فلا يمكن أن يكون سقوط الاصل في الطرف الآخر بسببها منشأ لرجوع الأصل الحاكم، وانما يمكن جريان الأصل الحاكم عند سقوط الأصل في الطرف الآخر بسببٍ آخر غير تمامية مقتضي الاصل الطولي([9]).
اقول: المهم أن نكتة المعارضة بين الاصلين كما تقدم هي العلم الاجمالي بكذب دليلهما لعدم احتمال جعلهما معا، واحتمال جعل كل منهما في حد ذاته، وهذه النكتة موجودة بين الاصل الطولي وبين الاصل في الطرف الآخر.
الوجه الرابع:
ما قد يقال من أنه بناء على المبنى الذي اختاره جماعة منهم المحقق النائيني “قده” في بحث ملاقي بعض الاطراف من أن العلم الاجمالي بنجاسة الملاقي بالكسر او عدل الملاقى لا يصلح للمنجزية بعد تنجز نجاسة عدل الملاقى بمنجز آخر في رتبة سابقة وهو العلم الاجمالي بنجاسة الملاقى بالفتح او عدله، فيقال في المقام ايضا انه بعد تنجز سقوط الاصل في الطرف الآخر بالعلم اجمالي بسقوط الاصل الحاكم او سقوط ذلك الاصل، فالعلم الاجمالي بسقوط الاصل الطولي او الاصل في الطرف الآخر لا يصلح للمنجزية بعد كون العلم الاجمالي الثاني في طول هذا العلم الاجمالي الاول، لكون العلم الثاني فرع تمامية المقتضي للأصل الطولي المتوقف على سقوط الأصل الحاكم بسبب تنجيز العلم الإجمالي الأول.
وفيه -مضافا الى عدم تمامية المبنى كما سيأتي توضيحه ان شاء الله تعالى- أنه لو تمّ فانما يتمّ لنفي منجزية العلم الاجمالي بالتكليف، لا لنفي المعارضة بسبب العلم الاجمالي بسقوط الدليل، فانا قد بينّا أن نكتة المعارضة منطبقة على المقام.
وأما ما في البحوث من أن العلم الاجمالي بسقوط الاصل الطولي او الاصل في الطرف الآخر ليس في طول تنجيز العلم الاجمالي الاول للطرف المشترك بين العلمين وهو سقوط الاصل في الطرف الآخر، وانما هو في طول تنجيز العلم الاول لطرفه المختص وهو سقوط الاصل الحاكم، اذ به يتم المقتضي لجريان الاصل الطولي، فهو لا يخلو عن كونه اشكالا على المبنى، اذ الامر في اشباهه كما في ملاقي بعض الاطراف ايضا كذلك فان نجاسة الملاقي في طول نجاسة الملاقى لا عدل الملاقى.
الوجه الخامس:
ما قد يقال من أن تعارض الأصلين يختص بما اذا لزم من الالتزام بكليهما الترخيص في المخالفة القطعية ومن إجراء أحدهما دون الآخر الترجيح بلا مرجح، فإذا وجد في أحدهما محذور آخر مستقل، وراء محذور الترجيح بلا مرجح فليس الأصلان متساويين محذورا، لأن مورد المحذور المستقل لا يمكن الأخذ به بحسب الفرض ولو أريد الترجيح بلا مرجح فلا معنى للمعارضة بينهما بل يتعين مورد المحذور المستقل للسقوط عند دوران الامر بينه وبين جريان الاصل الآخر.
ففي المقام الالتزام بجريان الأصل في الطرف الآخر تقديما له على الأصل الطولي ينحصر محذوره بالترجيح بلا مرجح، وأما الأصل الطولي فبقطع النظر عن محذور الترجيح بلا مرجح يستحيل جريانه عند دوران الامر بينه وبين الاصل في الطرف الآخر، وذلك لأنه إذا بني على إسقاط الأصل في الطرف الآخر في مقابل معارضه، لفرض عدم المحذور في الترجيح بلا مرجح، يدور الأمر حينئذ بين تقديم الأصل الطولي عليه أو تقديم الأصل الحاكم عليه، وفي هذه الحالة يكون اختيار الأصل الطولي للتقديم بدلا عن الأصل الحاكم عليه واجدا لمحذور آخر غير محذور الترجيح بلا مرجح وهو محذور تقديم المحكوم على حاكمه في مقام الاجراء.
ونتيجة ذلك عدم إمكان إيقاع المعارضة بين الأصل الطولي والأصل في الطرف الآخر، وعليه فلابد من اخراج الأصل الطولي عن طرفية المعارضة وبعد تعارض الاصل الحاكم مع الاصل في الطرف الآخر وتساقطهما تصل النوبة الى الاصل الطولي.
وذكر في البحوث أن هذا الوجه لسلامة الأصل الطولي عن المعارضة تامّ فنيّاً، نعم يمكن ردّه بدعوى أن الارتكازات العرفية التي هي المقياس في تشخيص المعارضة بين إطلاقات دليل الأصل لا تساعد على مثل هذه المداقّة، بل النظر العرفي الّذي هو المحكم في حجية الظهور وفي تمييزه يرى المعارضة بين إطلاق دليل الأصل في شمول الأصل الطولي وبين إطلاقه في شمول الأصل العرضي في الطرف الآخر([10]).
اقول: بل هذا الوجه غير تامّ فنيا، فانه ان كان المحذور المستقل في الاصل الطولي يوجب الجزم بعدم جريانه فلا معنى لوصول النوبة الى اجراءه بعد تعارض الاصل الحاكم فيه مع الاصل في الطرف الآخر، وان لم يكن يوجب الجزم بعدم جريانه فمجرد وجود محذورين في تقديمه على الاصل في الطرف الآخر لا يرفع المعارضة بينه وبين ذلك الاصل، نظير ما لو علمنا بنجاسة اناء كبير او انائين صغيرين، فان ابتلاء اصل الطهارة في الاناء الكبير بمحذورين: محذور العلم الاجمالي بنجاسته او نجاسة الاناء الصغير الاول، وفي الطرف الآخر، ومحذور العلم الاجمالي بنجاسته او نجاسة الاناء الصغير الثاني لا يوجب عدم معارضته مع أصالة الطهارة في الانائين الصغيرين، بعد أن كان ضابط التعارض منطبقا عليه وهو شمول دليل اصل الطهارة لكل من الاناء الكبير والانائين الصغيرين، والعلم بعدم جعل اصل الطهارة للجميع وتعيين جعله لكل من الاناء الكبير او الانائين الصغيرين يكون من التمسك بالدليل بلا معيِّن ولا يكفي ترجيح احد الطرفين بمرجح ظني، فان الظن لا يغني من الحق شيئا.
الوجه السادس:
ما في تعليقة البحوث من أن التعارض معناه انتفاء فعلية الحجية في الدليلين مع تمامية مقتضيها لكل منهما أي ان مقتضي الحجية في كل منهما يمنع عن فعليتها في الآخر.
وحينئذ اذا كان مقتضي الحجية لأحد الدليلين متوقفا على تمامية مقتضي الآخر استحال ان يكون ذلك الدليل معارضا معه، لأن المعارضة كما تقدم تعني مانعية مقتضي كل من المتعارضين عن تاثير مقتضي الآخر في الحجية، فإذا كان أحد المقتضيين في طول الآخر استحال ان يكون مانعا عن تأثيره لأن المانع في عرض المقتضي ويستحيل ان يكون معلولا له، وإلّا كان كل من المانع والممنوع معلولا لشيء واحد وهو محال.
ويترتب على ذلك استحالة معارضة الأصل الطولي مع الأصل في الطرف الآخر، لأن جريانه في طول عدم فعلية الحجية للأصل الحاكم عليه وعدم فعلية الحجية للأصل الحاكم متوقف على تمامية المقتضي للأصل في الطرف الآخر فيكون تمامية مقتضي الأصل الطولي متوقفا على تمامية مقتضي الأصل في الطرف الآخر، فيستحيل أن يكون مانعا عن تأثيره، ومع عدم التمانع بين المقتضيين يستحيل التعارض بين الأصلين.
ويمكن تقرير هذا الوجه ببيان آخر، وهو أن الأصل في الطرف الآخر يستحيل ان يعارض الأصل الطولي لأن معنى معارضته له مانعية مقتضيه عن مقتضى الأصل الطولي مع أن المفروض ان مقتضي الأصل في الطرف الآخر علة وجود المقتضي للأصل الطولي فيكون مقتضيا لمقتضاه أيضا لأن علة العلة علة في النهاية والعلة يستحيل ان تكون مانعة عن اقتضاء معلولها.
والجواب عنه كما ذكره بنفسه أن مقتضي الاصل الطولي وهو شمول الخطاب له متحقق وانما مقتضي الاصل في الطرف الآخر يرفع مانعه وهو فعلية حجية الاصل الحاكم، فلم يلزم محذور كون شيء واحد مقتضيا لشيء ومانعا عنه.
الوجه السابع:
ما في تعليقة البحوث ايضا من أنه بناء على وجود دليل لفظي لحجية الظهور، فحيث ان شمول دليل حجية الظهور لظهور خطاب الاصل الحاكم في طرف يوجد فيه الاصل الطولي وظهور خطاب الاصل في الطرف الآخر موجب للترخيص في المخالفة القطعية وهذا خلاف المرتكز العقلائي فيوجب ذلك اجمالا في دليل حجية الظهور وفي طول هذا الاجمال يتحقق موضوع جديد لدليل حجية الظهور وهو ظهور خطاب الاصل الطولي في شموله لطرف معين، حيث تحقق موضوعه -و هو الشك الذي لم يصل الى المكلف جريان الاصل الحاكم فيه- بعد ذلك الاجمال، فلا يعقل مانعية اقتضاء هذا الظهور للحجية عن حجية ظهور خطاب الاصل في الطرف الآخر، بلحاظ شمول دليل الحجية لهما، بعد أن كان تحقق هذا الظهور فرع عدم شمول دليل حجية الظهور لظهور خطاب الاصل في الطرف الآخر ذاتا لابتلائه بالاجمال.
واجاب عنه بأننا إذا قبلنا اباء الارتكازات العرفية عن قبول سلامة الأصل الطولي عن المعارضة فلا ينعقد اطلاق في الدليل اللفظي على حجية الظهور لشمول الأصل الطولي، بعد كونه إمضاءا لبناء العقلاء، وليس تأسيسيا.
اقول: اولا: ان فرض وجود دليل لفظي على حجية الظهور بنحو يكون له اطلاق يقتضي الشمول لمثل المقام، ويكون هذا الظهور الاطلاقي قطعي الحجية فرض محض لا واقع له.
وثانيا: ان تحقق الظهور في خطاب الاصل الطولي موقوف على اجمال دليل حجية الظهور بالنسبة الى خطاب الاصل الحاكم دون الاصل في الطرف الآخر، فلا طولية بينهما، وحينئذ فنكتة اجمال دليل حجية الظهور حيث تكون هي المعارضة والمعارضة موجودة بينهما فيصير دليل حجية الظهور مجملا بالنسبة الى ظهور الاصل العرضي ايضا.
وثالثا: ان هذا الوجه لا يتم في ما كان الاصل الطولي مسانخا مع الاصل العرضي في الطرف الآخر، كما في مثال اصل الطهارة في الملاقي حيث انه مسانخ مع اصل الطهارة في عدل الملاقى، او مثال العلم الاجمالي بنجاسة ماء مستصحب الطهارة او ماء توارد فيه حالة الطهارة والنجاسة فلم يجر فيه استصحاب الطهارة، حيث ان اصل الطهارة في الاول وان كان اصلا طوليا لكنه مسانخ مع الاصل في الطرف الآخر، فلا ينعقد لخطابه المشترك ظهور في الاصل الطولي، كما هو حال كل خطاب مشترك.
فتحصل عدم تمامية هذه الوجوه لجريان الاصل الطولي بلا معارض
فتحصل عدم تمامية أي من هذه الوجوه لجريان الاصل الطولي بلا معارض، بل قد حكي عن المحقق النائيني “قده” وجه للمنع من جريان الأصل الطولي وهو أن جريانه حيث يكون في طول سقوط الأصل الترخيصي الحاكم عليه، وسقوط ذلك الأصل يكون في طول منجزية العلم الإجمالي، فإذا جرى هذا الأصل الطولي أوجب انحلال العلم الإجمالي وارتفاع منجزيته التي كانت هي السبب في سقوط ذلك الأصل الحاكم، وهذا يعني انه يلزم من جريان الأصل الطولي عدم جريانه وارتفاع موضوعه وهو محال.
واجيب عنه بأن الأصل الطولي انما يرفع منجزية العلم الإجمالي بالنسة الى الموافقة القطعية، وما كان موجبا لسقوط الأصل الحاكم عليه هو منجزية العلم الإجمالي لحرمة المخالفة القطعية وكون جريان الاصل العرضي في طرفٍ معيَّنٍ منهما ترجيحا بلا مرجح.
ثم انه يمكن استثناء فرض واحد من طرفية الاصل الطولي للمعارضة، وهو ما اذا كان في الطرف الآخر للعلم الاجمالي مانع يوجب العلم بعدم جريان الاصل المؤمن فيه تفصيلا، فيوجب ذلك جريان الاصل الطولي بلا معارض، مثال ذلك ملاقي بعض اطراف الشبهة فيما لم يحتمل في عدل الملاقى أية مزية ثبوتية توجب أن يختار الشارع جعل أصالة الطهارة فيه دون الملاقى بالفتح، كما لو علم اجمالا بنجاسة احد مائين وحصل ملاق لاحدهما ولم يكن احتمال كون الملاقى بالفتح هو النجس المعلوم بالاجمال اقوى فانه لا يحتمل ثبوتا جعل اصل الطهارة في عدل الملاقى، ولكن احتمال جعله في الملاقي بالكسر عرفي فيمكن التمسك بعموم دليله بالنسبة اليه، هذا مضافا الى أنا عرفنا من مثل موثقة سماعة “في انائين وقع في احدهما قذر قال يهريقهما ويتيمم” عدم جريان اصالة الطهارة في المائين المشتبهين وما شابههما فتجري أصالة الطهارة في ملاقي احدهما بلا معارض، بل هذا البيان تامّ حتى لو قلنا بما هو الصحيح من جريان الاصول المتوافقة جميعا من دون أية طولية بينهما.
تفصيل السيد الخوئي “قده” في جريان الاصل الطولي
ان السيد الخوئي “قده” التزم بسلامة الاصل الطولي عن المعارضة فيما اذا كان الطرف الآخر مجرى لاصل عقلي او شرعي طولي منجز للتكليف من قاعدة الاشتغال او الاستصحاب، كما اذا علم اجمالا بنقصان ركعة من صلاة المغرب او عدم الاتيان بصلاة العصر حيث ذكر أن قاعدة الفراغ في المغرب وقاعدة الحيلولة في العصر تسقطان بالمعارضة، ويرجع الى استصحاب عدم الاتيان بالركعة المشكوكة في المغرب وأصالة البراءة من وجوب قضاء صلاة العصر([11]).
مناقشه
اقول: تارة يتكلم وفق مسلك الاقتضاء وأخرى وفق مسلك العلية.
أما بناء على مسلك الاقتضاء، فلا وجه لاخراج البراءة عن وجوب قضاء صلاة العصر عن طرفية المعارضة مع قاعدة الفراغ في صلاة المغرب، وحينئذ فبعد سقوط الاصول المؤمنة الشرعية وجريان الاستصحاب وقاعدة الاشتغال في صلاة المغرب، يكون المرجع الحكم العقلي والعقلائي في مورد العلم الاجمالي الذي قام على احد طرفيه منجز تفصيلي، والصحيح أنه يشترط في منجزية العلم الاجمالي بالتكليف كونه سببا لتنجز هذا التكليف في أي طرف كان، ومع وجود المنجز التفصيلي في احد طرفيه فيستند تنجز التكليف المعلوم بالاجمال على تقدير كونه في ذلك الطرف الى هذا المنجز التفصيلي دون العلم الاجمالي، فيكون هذا العلم الاجمالي من حيث تنجيز الواقع بحكم العدم، فلا يوجد مانع عن جريان الاصل المؤمن في الطرف الآخر، وهذه الدعوى اثيرت اولاً من قبل اصحاب مسلك العلية كالمحقق العراقي “قده” وهي دعوى وجدانية وليست برهانية، لامكان استناد تنجز الواقع على تقدير كونه في الطرف الذي قام عليه المنجز التفصيلي الى كل من العلم الاجمالي والمنجز التفصيلي، فمآلها الى مصادرة وجدانية في كون هذا العلم الاجمالي من حيث اثر تنجيز الواقع بحكم العدم، الا أنه لا يبعد تمامية هذه الدعوى من ناحية المرتكزات العقلائية، فلا يرى العقلاء هذا العلم الاجمالي منجزا للتكليف على تقدير كونه في الطرف الذي لم يقم عليه المنجز التفصيلي، وعليه فلا يتم ما في البحوث من انكار هذه الدعوى والالتزام بمنجزية هذا العلم الاجمالي، لو لم يجر اصل مؤمن بلا معارض في بعض اطرافه.
فعلى ما ذكره في البحوث يكون العلم الاجمالي منجزا للطرف الآخر بناءا على كون العلم الاجمالي منجزا بالنسبة الى الموافقة القطعية، ولكن بناء على ما ذكرناه فتجري البراءة العقلية -على القول بها حتى في الشبهات الموضوعية مطلقا او مشروطا بالفحص- او تجري البراءة العقلائية، كما هو المختار عن وجوب قضاء صلاة العصر، نعم بناءا على مسلك حق الطاعة ومنجزية احتمال التكليف للمولى الحقيقي وان لم يكن العلم الاجمالي منجزا لأكثر من الجامع دون خصوصية الطرفين كما هو مختار البحوث فلابد من الاحتياط بقضاء صلاة العصر لسقوط الاصل المؤمن الشرعي فيه، ولا يوجد في الخطابات الشرعية ما يكون مساوقا للبراءة العقلية في الشبهات الموضوعية، بحيث لا تتعارض في اطراف العلم الاجمالي.
نعم نقل في البحوث عن السيد الخوئي “قده” مثالا آخر، وهو العلم الإجمالي بزيادة ركوع في الصلاة السابقة أو نقيصة في ركوع الصلاة التي بيده بعد تجاوز المحل فان قاعدة الفراغ في الأولى مع قاعدة التجاوز في الثانية تتساقطان وتصل النوبة إلى استصحاب عدم الزيادة في الصلاة السابقة المثبت لصحتها واستصحاب عدم الإتيان بركوع الصلاة التي بيده المثبت للبطلان([12])، ففي هذا المثال يكون المرجع في كلتا الصلاتين بعد تعارض الاصول المصححة فيهما قاعدة الاشتغال.
ولا يخفى أنه لابد أن يفرض في هذا المثال كون الصلاتين غير مترتبتين، كمن اتى بصلاة الظهر الأدائية ثم اشتغل بصلاة ظهر قضائية، وفي اثناءها وبعد مضي المحل الذكري للركوع وقبل تجاوز محله الركني حصل له العلم الاجمالي المذكور، حيث يأتي فيه كلام السيد الخوئي “قده” من تعارض قاعدة الفراغ في الاولى مع قاعدة التجاوز في الثانية، قم جريان استصحاب عدم الزيادة في الاولى بلا معارض، وأما اذا كانت الصلاتان مترتبتين، كما اذا علم المكلف بأنه إما زاد ركوعا في صلاة ظهره او نقص ركوعا من صلاة عصره، فلا تتعارض فيه الاصول في غالب الفروض، حيث ان للمسألة ثلاث صور:
الصورة الاولى: ما اذا كان العلم الاجمالي بعد صلاة العصر فبناء على المختار من ان من اتى بالعصر قبل الظهر الصحيح احتسب له ظهرا، بمقتضى قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة: اذا نسيت الظهر حتى صليت العصر فذكرتها وانت في الصلاة او بعد فراغك فانوها الاولى ثم صل العصر فانما هي اربع مكان اربع([13])، فيعلم بأنه قد امتثل الامر بالظهر جزما -و لو ببركة جريان قاعدة الفراغ في احدى الصلاتين لا بعينها فيما اذا احتمل بطلان كلتيهما- ولم يمتثل الامر بالعصر كذلك، فيعيد صلاة العصر، وبناء على مسلك المشهور من عدم قبول هذه الصحيحة بالنسبة الى ما بعد الفراغ من الصلاة فتتعارض الاصول المصححة في الصلاتين، ولكنه يكفيه أن ياتي بصلاة واحدة بنية ما في الذمة.
نعم لو بدّلنا المثال الى مثال صلاة المغرب والعشاء، بأن علم اجمالا إما بزيادة ركوع في المغرب او نقصانه في العشاء بعد الفراغ عنهما، فلابد من اعادة كلتا الصلاتين، وما ذكره السيد الخوئي “قده” من أنه بعد تعارض قاعدة الفراغ فيهما تصل النوبة الى استصحاب عدم زيادة الركوع في المغرب فيحكم بصحتها وعدم الاتيان بركوع العشاء فيحكم ببطلانها([14])، ففيه أن قاعدة التجاوز ايضا خطاب مختص بصلاة العشاء لأنها لا تجري في موارد الشك في الزيادة.
ودعوى (أنه حيث تكون قاعدة الفراغ وقاعدة التجاوز في رتبة واحدة فتتعارضان مع قاعدة الفراغ في المغرب وتصل النوبة الى الاصل الطولي المؤمن في المغرب وهو استصحاب عدم الزيادة والاصل المنجز الطولي في العشاء وهو استصحاب عدم الاتيان بالركوع الواجب) غير متجهة، فانه -مضافا الى أن الصحيح كون المدار في التقديم على الخطاب المختص دون الاصل الطولي- أنا لا نلتزم بكون الاستصحاب اصلا طوليا بالنسبة الى قاعدة الفراغ -حتى لو اعترفنا بالطولية بين الاصول المتوافقة- لأن تقديمها على الاستصحاب النافي للامتثال انما هو بنكتة الاخصية عرفا كما ذكره بنفسه في محله، لا بنكتة الحكومة، فلا وجه لتقديمها على الاستصحاب المثبت للامتثال، بل يجريان في عرض واحد.
الصورة الثانية: ما اذا حصل العلم الاجمالي في اثناء صلاة العصر ولكن بعد فوت المحل الركني للركوع كما لو كان بعد الدخول في السجدة الثانية، فيعلم ببطلانها عصرا، اذ لو بطلت الصلاة الاولى بزيادة ركوع وجب العدول بهذه الصلاة الى الظهر ولم تصحّ عصرا لفقدان الترتيب، وان صحت تلك الصلاة فهذه الصلاة باطلة لفقدان الركوع، وعليه فلا اثر لجريان قاعدة التجاوز في ركوع هذه الصلاة او قاعدة الفراغ في ما أتى به من هذه الصلاة، فتجري قاعدة الفراغ واستصحاب عدم الزيادة في الصلاة الاولى بلا معارض، بلا فرق في ذلك بين مسلك العلية او الاقتضاء كما هو ظاهر، هذا ولو احتمل زيادة ركوع الاولى ونقيصة ركوع الثانية معا يمكنه احراز صحة احداهما لا بعينها لكي تقع ظهرا صحيحا باجراء قاعدة الفراغ فيها، فيكون بحكم ما لو علم بصحة احداهما اجمالا.
الصورة الثالثة: لو حصل له العلم الاجمالي المذكور قبل فوت المحل الركني من ركوع صلاة العصر، بأن لم يدخل بعد في السجدة الثانية، والظاهر ان هذه الصورة هي المفروض في المثال الذي نقله في البحوث عن السيد الخوئي “قده”، حيث فرض انحصار الاصل المصحح فيه بقاعدة التجاوز دون الفراغ، فنقول: الظاهر لغوية جريان قاعدة التجاوز في ركوع هذه الصلاة، اذ اثرها مضيه في هذه الصلاة عصرا بلا تدارك الركوع، والمفروض أنه يعلم ببطلانها عصرا حينئذ كما تبين وجهه مما ذكرناه في الصورة الثانية، واجراء قاعدة التجاوز بلحاظ جواز العدول بها الى الظهر بدون تدارك ركوع لا يحقق المعارضة بينه وبين الاصل المصحح في صلاة الظهر، اذ لا يلزم من جريانهما معا الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف، على أن قاعدة الفراغ رافع لموضوع الحاجة الى العدول شرعا فتكون حاكمة على قاعدة التجاوز الجارية في صلاة العصر لغرض العدول بها الى الظهر، بل لا حاجة اليها وجدانا اذا علم بعدم الخلل في كلتا الصلاتين، فانه لو اتم الصلاة الثانية بنية الظهر احرز اتيانه بصلاة الظهر وجدانا إما بالصلاة الاولى او الثانية، بل ولو تدارك الركوع فلا يجديه في امتثال صلاة الظهر، فانه ان كانت صلاته الاولى صحيحة فلا يبقى محل للعدول في الصلاة الثانية، وان كانت الاولى باطلة بأن كان الخلل المعلوم بالاجمال فيها فلم يكن خلل في الثانية، فبطلت بزيادة الركوع.
وحيث كان جريان قاعدة التجاوز في الصلاة الثانية لغوا لا اثر له فتجري قاعدة الفراغ واستصحاب عدم زيادة الركوع في صلاة الظهر بلا معارض حتى على مسلك الاقتضاء، ويتدارك ركوع هذه الصلاة الثانية وتجزيه عصرا ظاهرا كما تجزيه الصلاة الاولى ظهرا ظاهرا.
هذا وقد ذكر بعض الاعلام أن ما ذكره السيد الخوئي “قده” من أنه اذا علم بانه إما زاد ركوعا في الصلاة الاولى او نقص ركوعا من الصلاة الثانية التي بيده من أنه بعد تعارض قاعدة الفراغ في الاولى مع قاعدة التجاوز في الثانية ثم جريان استصحاب عدم زيادة الركوع في الاولى هو الصحيح، ولكن بتقريب آخر، وهو أن التعارض يكون بين الاصل المصحح المطلق في الصلاة الاولى مع قاعدة التجاوز في الصلاة الثانية، ولكن يوجد مصداق آخر للاصل المصحح في الصلاة الاولى من غير فرق بين قاعدة الفراغ فيها او استصحاب عدم زيادة الركوع، وهو الاصل المصحح المقيد بجريان الاصل المنجز في الصلاة الثانية، وهذا الاصل ليس له معارض ابدا، حيث لا يلزم من الجمع بينه وبين أي اصل مؤمن في الصلاة الثانية ترخيص في المخالفة القطعية، فيجري هذا الاصل على مسلك الاقتضاء ايضا([15]).
وفيه اولاً: ان الاصل المصحح المقيد ليس فردا آخر لدليل الاصل المصحح، فان الصلاة الاولى ليست مصداقا لفردين من قاعدة الفراغ او استصحاب عدم الزيادة، فان موضوع قاعدة الفراغ مثلا الشك في صحة الصلاة الاولى وهو شك واحد فيكون المحمول وهو التعبد بالصحة واحدا ايضا، وما ذكر ليس الا تقييدا لنفس الاصل المصحح المطلق، وحينئذ نقول انه مرّ أنه يوجد -بنكتة المناقضة العقلائية في الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال- مدلول التزامي عقلائي للخطاب المختص بكل طرف من اطراف العلم الاجمالي وهو لزوم الاحتياط في الطرف الآخر، وعليه فالمدلول الالتزامي لقاعدة التجاوز في الصلاة الثانية لزوم الاحتياط باعادة الصلاة الاولى فيتعارض مع الاصل المصحح في الصلاة الاولى بأصله لا باطلاقه فقط، للمناقضة بينهما.
على أنه كما مر في جملة الاشكالات على استفادة الترخيص التخييري من الاطلاقات، ان فهم مثل هذا الاصل المقيد من الخطاب المطلق للاصول العملية يحتاج الى مؤونة وقرينة زائدة لا يساعد عليها العرف، نظير استفادة الحجية التخييرية من اطلاق دليل الحجية، حيث لا يراها العرف مدلولا تضمنيا للخطاب المطلق.
وثانيا: لو فرض كون الاصل المصحح المقيد فردا آخر مستفادا من دليل الاصل، فنقول انه لا مرجح لجريان الاصل المصحح المقيد في الصلاة الاولى، فلماذا لا يجري الاصل المصحح المقيد في الصلاة الثانية، بعد كون الصلاة الاولى ايضا مجرىً لمنجز تفصيلي طولي، وهو قاعدة الاشتغال، فان جريان الاول يكون ترجيحا بلا مرجح، وجريانهما معا محال، اذ يلزم من وجودهما عدمهما، وجريان الاصل المصحح في الصلاة الاولى مقيدا بجريان الاصل المنجز الشرعي في الصلاة الثانية وهو استصحاب عدم الاتيان بالركوع، معارض بجريان الاصل المصحح في الثانية مقيدا بجريان قاعدة الاشتغال في الصلاة الاولى.
نعم لو بدّل هذا الفرع بفرع آخر، وهو ما لو علم في وقت صلاة المغرب إما بنقصان ركعة من صلاة المغرب او فوت صلاة العصر فقد يقال بأنه لا يرد عليه هذا الاشكال الثاني، حيث ان وجوب قضاء صلاة العصر لا يكون مجرى لمنجز تفصيلي عقلي او شرعي بخلاف صلاة المغرب فيكون الاصل المؤمن عن وجوب قضاء العصر من قاعدة حيلولة او اصل البراءة مقيدا بجريان المنجز التفصيلي في صلاة المغرب بلا معارض.
ولكن نقول فيه ايضا بأن معارضه الاصل المصحح في صلاة المغرب مقيدا باحد نحوين:
1- كونه مقيدا بجريان حق الطاعة في قضاء العصر، ومعه فيكون الاصل المؤمن عن قضاء العصر المقيد بجريان الاصل المنجز في المغرب مستلزما للمحال، حيث ان الجريان الفعلي لهذا الاصل المؤمن يتوقف على وجود اصل منجز في المغرب ووجود هذا الاصل المنجز في المغرب يتوقف على أن لا يجري فيها الاصل المصحح المقيد بجريان حق الطاعة في قضاء العصر، وهو متوقف على الجريان الفعلي للاصل المؤمن عن وجوب قضاءه حتى يكون رافعا لحق الطاعة فيه.
2- كونه مقيدا بعدم الجريان الفعلي للاصل المؤمن الشرعي في قضاء العصر، وحينئذ فيكون الاصل المؤمن المقيد في قضاء العصر مستلزما للمحال، حيث ان جريانه الفعلي موقوف على المنجز في المغرب ووجود المنجز فيها يكون موقوفا على عدم جريان الاصل المصحح فيها، وعدم جريانه يكون موقوفا على جريان الاصل المؤمن في قضاء العصر، فيتوقف جريان الاصل المؤمن في قضاء العصر على نفسه، ولا يلزم هذا المحال من جعل احد الاصلين المقيدين بعينه وانما يلزم من الجمع بينهما وهذا يوجب المعارضة في دليلهما.
الصحيح كون الاصل الطولي المؤمن في احد طرفي العلم الاجمالي طرف للمعارضة مع الاصل المؤمن العرضي في الطرف الآخر
من جميع ما ذكرناه أن الصحيح كون الاصل الطولي المؤمن في احد طرفي العلم الاجمالي طرف للمعارضة مع الاصل المؤمن العرضي في الطرف الآخر، وان كان الاصل الطولي في هذا الطرف الثاني منجزا للتكليف، نعم ان كان الطرف الاول مجري للبراءة العقلية او العقلائية في حد ذاته مع قطع النظر عن العلم الاجمالي جرت البراءة فيه والا جرت قاعدة الاشتغال.
هذا كله على المسلك المختار وهو مسلك الاقتضاء، وأما على مسلك العلية فيقال في مثال العلم الاجمالي في وقت صلاة المغرب بنقصان ركعة منها او ترك صلاة العصر -كما يظهر من البحوث([16])– بعدم جريان قاعدة الفراغ في صلاة المغرب جزما، حتى بعد انحلال العلم الاجمالي حكماً بجريان الاصل المنجز للتكليف فيها، لأنه يلزم من جريان قاعدة الفراغ في المغرب عدم جريان الاصل المنجز فيها فيزول بذلك المانع عن منجزية العلم الاجمالي، ومع منجزيته لا يبقى مجال على مسلك العلية لجريان الاصل المؤمن كقاعدة الفراغ ولو في بعض اطراف العلم الاجمالي فهو مما يلزم من وجوده عدمه فيكون محالا، وعليه فتجري جميع الاصول المؤمنة في قضاء صلاة العصر، وهذا يعني صيرورة نتيجة مسلك الاقتضاء في هذا الفرع اشدّ من نتيجة مسلك العلية.
ولكن يمكن أن يقال بأنه على مسلك العلية حسب تقريب المحقق العراقي “ره” لا مانع من جريان الاصل المحرز للامتثال في احد اطراف العلم الاجمالي، لكون مدلوله المطابقي جعل البدل اي التعبد الظاهري بامتثال التكليف بخلاف الاصل النافي للتكليف في الطرف الآخر، فانه يتوقف جريانه على وصول جعل البدل ووصوله دوري كما ادعاه المحقق العراقي “ره”، وعليه فلا مانع من جريان قاعدة الفراغ في المغرب، بخلاف البراءة عن وجوب قضاء العصر، نعم لو قلنا بأن قاعدة الحيلولة ايضا تعبد بالامتثال وليست مجرد مؤمن عن وجوب القضاء تعارضت مع قاعدة الفراغ ووجب الاحتياط باعادة المغرب ايضا.
وهكذا ذكر في البحوث في مثال العلم الاجمالي بزيادة ركوع في الصلاة السابقة او نقصان ركوع في الصلاة التي بيده بأنه على مسلك العلية تجري قاعدة الفراغ في صلاة الظهر فضلا عن استصحاب عدم زيادة الركوع فيها، وذلك لعدم منجزية العلم الإجمالي بعد وجود منجز تفصيلي في أحد الطرفين وهو قاعدة الاشتغال واستصحاب عدم الاتيان بالركوع في صلاة العصر، حيث يستحيل جريان قاعدة التجاوز فيها، اذ لو فرض عدم جريان الاصل المنجز في صلاة العصر، كان العلم الاجمالي منجزا على نحو العلية، فيستحيل جريان الاصل الترخيصي ولو في بعض اطرافه ومنه قاعدة التجاوز، ولو فرض جريان الاصل المنجز فيها فيكون مساوقا للقطع بعدم جريان الاصل الحاكم عليه وهو قاعدة التجاوز.
لا يقال: نحن نعكس الأمر، فنقول بأن جريان الأصل المنجز في صلاة العصر في طول منجزية العلم الإجمالي المانعة عن جريان الأصل الترخيصي الحاكم على ذلك الاصل المنجز فيستحيل أن يكون علة لعدم منجزية العلم الاجمالي.
فانه يقال: حلّ هذا التوقف من الجانبين انما يكون بما ذكرناه مرارا في أمثال المقام من أن جريان الأصل المنجز في صلاة العصر متوقف على منجزية العلم الإجمالي مع قطع النظر عن جريان ذلك الاصل المنجز، أي متوقف على قضية شرطية وهي أنه لو لم يجر الاصل المنجز لكان العلم الاجمالي منجزا، وهذه القضية الشرطية ثابتة حتى لو لم يكن العلم الاجمالي منجزا بالفعل لجريان الاصل المنجز، ومع جريان الاصل المنجز الموجب لعدم منجزية العلم الاجمالي بالفعل يجري الأصل الترخيصي في صلاة الظهر بلا محذور، وهذه نتيجة غريبة صار الامر على مسلك الاقتضاء اشدّ فيها من مسلك العلية([17]).
وفيه اولا: ما مرّ منّا من أن مسلك العلية لا يمنع من جريان الاصل المثبت للامتثال في كل طرف من اطراف العلم الاجمالي في حد ذاته، فلا يختلف مسلك العلية والاقتضاء في جريان الاصل المصحح للامتثال اذا كان بلا معارض وعدم جريانه مع الابتلاء بالمعارض، فلا وجه لدعوى امتناع جريان قاعدة التجاوز في الصلاة الثانية على مسلك العلية، نعم من يقبل جريان الاصل الطولي فيمكنه اجراء استصحاب عدم زيادة الركوع في الاولى بناءا على كونه اصلا طوليا، كما مرّ عن المحقق العراقي “ره” أنه لو علم إما ببطلان وضوءه لصلاة الظهر او بطلان وضوءه لصلاة العصر وهو بعد لم يأت بصلاة العصر، حيث قال بأنه تجري قاعدة الفراغ في صلاة الظهر لكونه اصلا طوليا، بعد تعارض القاعدة في الوضوئين([18]).
وثانيا: ان جريان المنجز التفصيلي بسقوط الاصل المصحح الحاكم لا يختص بالصلاة الثانية، بل يمكن جريانه بسقوط الاصلين المصححين الحاكمين في الصلاة الأولى، فلا معيِّن لانحلال العلم الاجمالي حكما بالاول وجريان الاصل المصحح في صلاة الظهر بعد امكان العكس وهذا يوجب المعارضة بين تلك الاصول جميعا، الا لمن يقبل كبرى سلامة الاصل الطولي مطلقا، ويرى كون الاستصحاب المصحح للامتثال في طول قاعدة الفراغ، لا في عرضه، ولكن الكبرى والصغرى ممنوعتان.
الثمرة الثانية: جريان الخطاب المختص على القول بالاقتضاء دون العلية
الثمرة الثانية: انه لو كان يوجد خطاب مختص ببعض اطراف العلم الاجمالي كما لو علم اجمالا بنجاسة ماء او ثوب، حيث يختص الماء بخطاب أصالة الحل للتامين عن حرمة شربه، حيث تختص أصالة الحل بالتأمين عن احتمال الحرمة التكليفية والثوب النجس ليس مما يتعلق به حرمة تكليفية، فبناءا على مسلك العلية لا يمكن جريان هذا الخطاب المختص، لكونه مستلزما للترخيص في ترك الموافقة القطعية للعلم الاجمالي المنجز، بينما أنه على مسلك الاقتضاء يمكن جريانه، وان اختار المحقق النائيني “ره” سقوطها بالمعارضة مع قاعدة الطهارة في الثوب، وقد اجاب عنه السيد الخوئي “قده” بأنه لا يكون الخطاب المشترك وهو أصالة الطهارة في المثال المذكور مانعا عن جريانه، لابتلاءه بالتعارض الداخلي، للعلم الاجمالي بتخصيصه في احد طرفي العلم الاجمالي على الاقل، بخلاف الخطاب المختص حيث لا يوجد علم اجمالي بتخصيصه، لاحتمال جريانه في الطرف الذي يختص به، فيكون الشك في تخصيصه بدويا غير مقرون بالعلم الاجمالي بخلاف الخطاب المشترك([19]).
وانت ترى أنه لا موجب لهذا الكلام على مسلكه من كون قبح الترخيص في المخالفة القطعية بمثابة قرينة لبية منفصلة لا متصلة، لعدم كون قبحه امرا بديهيا يعتمد عليه المولى في مقام تفيهم مراده([20])، فيكون المقام نظير ما لو ورد في خطابٍ “يجب اكرام كل عالم” وورد في خطاب آخر “يجب اكرام كل هاشمي” ثم علمنا اجمالا بعدم وجوب اكرام زيد العالم غير الهاشمي او عدم وجوب اكرام عمرو العالم الهاشمي، فلا نحس بوجداننا العرفي تقدّم ظهور الخطاب الثاني لاختصاصه بأحد طرفي العلم الاجمالي وهو عمرو، فيكون الشك في تخصيصه بدويا، على ظهور الخطاب الاول، للعلم الاجمالي بتخصيصه؟، بل يكون ظهور الخطاب الاول في وجوب اكرام اكرام زيد متعارضا مع كل من ظهوره وظهور الخطاب الثاني في وجوب اكرام عمرو.
فتقديم الخطاب المختص يبتني على دعوى انصراف خطاب الاصل الترخيصي المشترك عن اطراف العلم الاجمالي، لكون ارتكاز المناقضة العقلائية في الترخيص في المخالفة القطعية للعلم الاجمالي قرينة لبية متصلة مانعة عن انعقاد الظهور في الخطاب المشترك في شموله لاطراف الشبهة المحصورة، حتى مثل صحيحة عبد الله بن سنان الواردة في مورد العلم الاجمالي، ولا أقل من شبهة الاجمال فيه، فلا يتعارض مع الخطاب المختص لعدم مانع عن انعقاد ظهوره، فيكون مبيَّنا، والمجمل لا يعارض المبين.
وبذلك يقوى تقديم الخطاب المختص بأحد اطراف العلم الاجمالي على الخطاب المشترك.
ولا فرق في تقديم الخطاب المختص بين ما لو جرى في احد الطرفين اللذين يكون فيهما خطاب مشترك، او كان هناك علمان اجماليان يوجد طرف مشترك بينهما، وجرى الخطاب المختص في احد الطرفين المختصين، كما لو علم اجمالا بوقوع قطرة دم في احد اناءين، وعلم ايضا بوقوع قطرة دم في احدهما المعين او غصبية اناء ثالث، فأصالة الطهارة خطاب مشترك بين الاناءين الأولين، وأصالة الحلّ خطاب مختص بالاناء الثالث.
كما أن الظاهر عدم الفرق في تقديم الخطاب المختص بين ما لو كان في مرتبة الخطاب المشترك (كما لو علم اجمالا بنجاسة ماء او ثوب حيث تكون أصالة البراءة عن حرمة شرب الماء متعارضة مع أصالة البراءة عن مانعية الصلاة في ذلك الثوب ولكن تكون قاعدة الحل خطابا مختصا يجري لغرض اثبات حلية شرب الماء) او كان في مرتبة متأخرة عنه بأن كان محكوما لذلك الخطاب المشترك، (كما في تعارض أصالة الطهارة في الماء والثوب في هذا المثال وقاعدة الحل حيث تكون اصلا حكميا فيكون بنظر المشهور في طول اصالة الطهارة التي هي اصل موضوعي) او كان الخطاب المختص في مرتبة متقدمة عليه بأن كان حاكما على ذلك الخطاب المشترك، كما لو علم بنجاسة احد شيئين وكان يجري في احدهما قاعدة الطهارة دون استصحاب الطهارة لتوارد حالتي الطهارة والنجاسة فيه قبل ذلك بينما أن الآخر مجري استصحاب الطهارة ايضا فيكون استصحاب الطهارة فيه خطابا مختصا حاكما على الخطاب المشترك وهو قاعدة الطهارة بنظر المشهور، وهكذا لو علم اجمالا إما بنجاسة ماء او غصبية ماء آخر فأصالة الطهارة في الماء الاول خطاب مختص حاكم عى قاعدة الحل فيهما.
کلام السيد الخوئي وشيخنا الاستاذ “قدهما”
ويظهر من السيد الخوئي وشيخنا الاستاذ “قدهما” اختصاص تقديم الخطاب المختص بالفرضين الاولين دون الثالث، واليك محصل ما ذكره السيد الخوئي “قده” في المقام:
فقال: ان الاصلين الجاريين اولاً في طرفي العلم الاجمالي تارة: يكونان من سنخ واحد، ولكن اختص أحد الطرفين بأصل طولي، كما إذا علم إجمالا بنجاسة الماء أو الثوب، فيوجد فيهما أصلان من سنخ واحد، وهو أصالة الطهارة كما يوجد اصل طولي في الماء وهو أصالة الحل بلحاظ جواز شربه، فتجري قاعدة الحلّ بلا معارض، وذلك لأن الأصل الجاري في الطرفين اذا كان من سنخ واحد كأصالة الطهارة في المثال المذكور، فلا مناص من القول بعدم شموله لكلا الطرفين لاستلزامه الترخيص في المعصية، ولا لأحدهما، لأنه ترجيح بلا مرجح، وأما الأصل الطولي المختص بأحد الطرفين، فلا مانع من شمول دليله للطرف المختص به، إذ لا يلزم منه ترجيح من غير مرجح، لعدم شمول دليله للطرف الآخر في نفسه.
وثانية: يكون الأصل الجاري اولاً في أحد الطرفين مغايرا في السنخ مع الأصل الجاري في الطرف الآخر، ويكون أحد الطرفين مختصا بأصل طولي موافق في المؤدى مع الأصل الجاري في مرتبة سابقة عليه، مثل ما إذا علمنا بنجاسة أحد الماءين أو غصبية الآخر، فان الأصل الجاري في محتمل النجاسة هو أصالة الطهارة، وفي محتمل الغصبية هي أصالة الحل، وفي فرض سقوط أصالة الطهارة في محتمل النجاسة تصل النوبة إلى أصالة الحل، ففي مثل ذلك كان العلم الإجمالي منجزا للواقع، لأن الأصلين الجاريين في الطرفين وان كانا مختلفين، إلّا ان العلم الإجمالي بوجود الحرام في البين مانع عن الرجوع إلى الأصل، باعتبار ان الترخيص في كلا الطرفين ترخيص في مخالفة التكليف الواصل، وفي أحدهما ترجيح بلا مرجح، بلا فرق في ذلك بين ان يكون الأصل من الأصول الحاكمة أو الأصول المحكومة.
توضيح ذلك ان الأصل الجاري في أحد الطرفين- وهو المائع المحتمل غصبيته- هو أصالة الحل، والأصل الجاري في الطرف الآخر- وهو المائع المحتمل نجاسته- هو أصالة الطهارة. ويترتب عليها جواز الشرب والعلم الإجمالي بوجود الحرام يمنع من جريانهما لا لخصوصية فيهما، بل لأن جريانهما مستلزم للترخيص في المعصية، فكما ان أصالة الطهارة المترتب عليها جواز الشرب إذا انضمت إلى أصالة الحل في الطرف الآخر لزم الترخيص في المعصية، كذلك أصالة الحل إذا انضمت إليها أصالة الحل في الطرف الآخر، فإذا علم حرمة أحد المائعين كان الترخيص في كليهما ترخيصا في المعصية، وفي أحدهما ترجيحا بلا مرجح سواء كان الترخيص بلسان الحكم بالطهارة المترتب عليه الحلية أو بلسان الحكم بالحلية من أول الأمر، وبعبارة أخرى الأمر في المقام دائر بين سقوط أصالة الإباحة في محتمل الغصبية، وسقوط أصالة الطهارة وأصالة الإباحة في محتمل النجاسة، وبما انه لا ترجيح في البين يسقط الجميع لا محالة.
ومن هذا القبيل ما إذا علم إجمالا ببولية أحد المائعين أو بتنجس الآخر بنجاسة عرضية، فان الأصل الجاري فيما يحتمل نجاسته بالعرض وإن كان هو الاستصحاب، والأصل الجاري في الطرف الآخر هو أصالة الطهارة، إلا انه مع ذلك لا مجال لجريان أصالة الطهارة فيما يحتمل نجاسته العرضية، بعد سقوط الاستصحاب فيه، لأن العلم بالنجس الموجود في البين مانع عن جعل الطهارة الظاهرية في الطرفين بأي لسان كان، لاستلزامه المخالفة القطعية، وكذا في أحدهما، للزوم الترجيح بلا مرجح.
وثالثة: يكون الأصل الجاري اولاً في أحد الطرفين مغايرا في السنخ مع الأصل الجاري في الطرف الآخر، ويكون أحدهما مختصا بأصل طولي مخالف في المؤدى مع الأصل الجاري في مرتبة سابقة عليه، فيرجع إليه بعد تساقط الأصول العرضية، بلا فرق بين ان تكون الأصول العرضية متماثلة أو متخالفة.
مثال الأول: ما إذا علم إجمالا بزيادة ركوع في صلاة المغرب أو نقصانه في صلاة العشاء، بعد الفراغ عنهما، فقاعدة الفراغ في كل من الصلاتين تسقط بالمعارضة، وبعد تساقطهما يرجع إلى استصحاب عدم الإتيان بالركوع المشكوك فيه من صلاة العشاء، فيحكم ببطلانها، واستصحاب عدم الإتيان بالركوع الزائد في صلاة المغرب، ويحكم بصحتها.
ومثال الثاني: ما إذا علم إجمالا بنقصان ركعة من صلاة المغرب أو عدم الإتيان بصلاة العصر، فان قاعدة الفراغ في صلاة المغرب وقاعدة الحيلولة في صلاة العصر تسقطان للمعارضة، ويرجع إلى استصحاب عدم الإتيان بالركعة المشكوك فيها في صلاة المغرب، فيحكم ببطلانها ووجوب إعادتها، وإلى أصالة البراءة من وجوب قضاء صلاة العصر([21]).
مناقشه
اقول: مآل ما ذكره في القسم الاول والمثال الاول من القسم الثالث هو سلامة الخطاب المختص المحكوم عن المعارضة، ومآل ما ذكره في القسم الثاني هو طرفية الخطاب المختص الحاكم للمعارضة، وأما ما ذكره في المثال الثاني في القسم الثالث فلا يرتبط بالخطاب المختص، بل مرتبط بما مرّ في الثمرة الاولى من بحث الاصل الطولي، وهو لم يتعرض للبحث عن الخطاب المختص العرضي، ولكن لا يبعد أن يكون رأيه فيه جريانه بلا معارض، والا لزم الاشكال في جريان أصالة الحل في الماء في مثال القسم الاول، لكون البراءة عن حرمة شرب الماء ومانعية الصلاة في الثوب خطابا مشتركا عرضيا، فلا يوجد مخرج لجريان أصالة الحل بلا معارض، بعد كونها مستفادة من خطاب مختص عرضي.
وما يتوهم أن يكون مانعا عن تقديم الخطاب المختص الحاكم احد امرين:
1- انه يلزم من حجية الخطاب المختص عدم حجيته وما يلزم من وجوده عدمه فهو محال، والوجه في كون حجيته موجبة لعدم حجيته أنه لو كان حجة علم تفصيلا بعدم جريان الخطاب المشترك في هذا الطرف لجريان الاصل الحاكم وارتفاع موضوع الخطاب المشترك به، وبذلك صار الخطاب المشترك مختصا بالطرف الآخر، وبذلك تنتفي نكتة تقديم ذلك الخطاب المختص، اذ يصير من تعارض خطابين مختصين.
وفيه أنه بناء على اجمال الخطاب المشترك بالتعارض الداخلي، فانعقاد ظهوره في الطرف الفاقد للخطاب المختص موقوف على وصول حجية الخطاب المختص، ومعه فيقطع بعدم حجية ظهور الخطاب المشترك في ذلك الطرف الفاقد للخطاب المختص، ومعه فلا معنى للمعارضة بينهما.
وأما بناء على كون مانعية الترخيص في المخالفة القطعية بمثابة قرينة منفصلة غير هادمة للظهور، فيقال بأن مآل ذلك الى توقف المعارضة بين الخطاب المختص والمشترك على وصول حجية الخطاب المختص، اذ الخطاب المختص الحاكم بوصوله يكون موجبا للعلم بعدم جريان الاصل المحكوم، فيصير الشك بعد ذلك في تخصيص الخطاب المشترك في الطرف الآخر من الشك البدوي، ولكن المعارضة بينه وبين الخطاب المختص حينئذ تكون مستحيلة، اذ مع وصول حجية الخطاب المختص يقطع بعدم حجية الخطاب المشترك في الطرف الآخر، فلا معنى للمعارضة بينهما.
2- ان الاصل المشترك غير مجعول جزماً في الطرف الذي له خطاب مختص، إما لجعل الاصل المشترك في الطرف الآخر او لجعل الاصل المختص في نفس هذا الطرف، اذ لا يحتمل ان يعبِّدنا الشارع بالاصل المحكوم دون الاصل الحاكم او معه، فيعلم تفصيلا بتخصيص الخطاب المشترك فيه ويكون الشك في تخصيصه في الطرف الآخر بدويا ولا يكون حينئذ وجه لتقديم الخطاب المختص عليه.
وفيه أن الاصل الحاكم حاكم بوصوله لا بوجوده الواقعي، وعليه فيحتمل قبل وصول جريان الاصل المختص جعل الشارع للاصل المحكوم الثابت بالخطاب المشترك، ولا يترتب عليه أي محذور.
هذا ويستشكل في تقديم الخطاب المختص المحكوم ايضا لأحد وجهين:
1- ان الخطاب المختص المحكوم مما يلزم من جريانه في المقام عدم جريانه، وهو محال، اذ بجريانه في احد طرفي العلم الاجمالي يكشف عن عدم جريان الاصل المشترك في الطرف الآخر، لعدم جواز الجمع بينهما بعد اداءه الى الترخيص في المخالفة القطعية، ومعه يصبح الأصل الحاكم المشترك في الطرف الذي يوجد فيه الاصل المختص المحكوم بلا معارض، فيجري حينئذ، وبجريانه يرتفع موضوع الاصل المختص المحكوم.
وفيه اولاً: انه لا يكشف جريان الاصل المحكوم عن عدم جعل الاصل المشترك في الطرف الآخر، اذ يمكن جعل الاصل المشترك في الطرف الآخر ثبوتا، وجريان الاصل المختص المحكوم في هذا الطرف على تقدير عدم وصول جعل ذلك الاصل، فلا يكشف جريان الاصل المحكوم عن عدم جعل ذلك الاصل، كي يرتفع المعارض عن قبال الاصل المشترك الحاكم على الاصل المختص.
وثانيا: ان حجية مثبتات الامارات ثابتة بسيرة العقلاء ولم يثبت لهم سيرة على البناء على لوازم الاطلاق بعرضه العريض، حتى يدّعى أن لازم اطلاق دليل الاصل المحكوم عدم جعل الاصل المشترك في الطرف الآخر، فتبقى معارضته مع الاصل المشترك الحاكم.
2- ان جعل الاصل المختص المحكوم غير محتمل، إما لجعل الاصل المشترك الحاكم في الطرف الآخر او لأجل جعل الاصل المشترك الحاكم في نفس هذا الطرف، اذ لا وجه لتعبد الشارع بالاصل المحكوم مع امكان التعبد بالاصل الحاكم.
وفيه ما مر من أن الاصل الحاكم يكون حاكما بوصوله فيحتمل جعل الاصل المحكوم في فرض عدم وصول الاصل الحاكم ولو لأجل معارضته مع مسانخه في الطرف الآخر، على أنه لا مانع من عدم جعل الشارع الاصل الحاكم المشترك في هذا الطرف بعد وجود الموضوع له في الطرف الآخر المعارض له فتصل النوبة الى الاصل المحكوم.
وعليه فالظاهر تقديم الخطاب المختص مطلقا، ولا يلزم كون مدلوله اصلا ثابتا بنكتة أخرى غير نكتة الاصل الثابت بالخطاب المشترك، بل لو علم اجمالا بنجاسة ماء او شيئ آخر، وتم سند رواية “الماء كله طاهر حتى تعلم أنه قذر” امكن جريانها في الماء وتقديمها على الخطاب المشترك المستفاد من قوله (عليه السلام) في موثقة عمار “كل شيء لك نظيف حتى تعلم أنه قذر” وان علمنا بان نكتة الرواية الأولى الدالة على قاعدة الطهارة في الماء نفس نكتة قاعدة الطهارة الثابتة بمقتضى موثقة عمار في كل شيء، لأن نكتة اجمال الخطاب المشترك وأن المجمل لا يعارض المبين تأتي فيه ايضا، ما دام يحتمل وجود مرجح ثبوتي لتقديم قاعدة الطهارة فيه على الطرف الآخر، ونحوه ما اذا علم بانتقاض الوضوء او انتقاض شيء آخر له اثر شرعي، فان خطاب الاستصحاب مشترك بينهما، ولكن موثقة ابن بكير “اياك أن تحدث وضوءا حتى تستيقن أنك احدثت”، فما ذكره السيد الصدر “قده” من لزوم اختلاف نكتة الاصل المختص مع نكتة الاصل المشترك حتى يقدَّم عليه فلم يفهم له وجه واضح.
نعم قد تثار شبهة انصراف خطاب الاصل الترخيصي عن اطراف العلم الاجمالي رأسا، فلا يحرز ظهور الخطاب المختص في شموله لبعض اطراف العلم الاجمالي، خصوصا مثل حديث الرفع حيث يكون التكليف في مورد العلم الاجمالي مما يعلمون، الا اذا كان قام منجز تفصيلي في الطرف الآخر، ولكن الظاهر اندفاع هذه الشبهة، ولا موجب لانصراف الخطاب المختص عن بعض اطراف العلم الاجمالي، فلو علم اجمالا في وقت فريضة المغرب مثلا ببطلان صلاة المغرب او بطلان صلاة العصر فتعارضت قاعدة الفراغ فيهما فتجري البراءة عن وجوب قضاء العصر، لأن شكه في صلاة المغرب شك في الامتثال دون التكليف فليس التكليف معلوما بخلاف موارد العلم الاجمالي بوجوب احد فعلين مثلا فانه يمكن أن يقال بعدم شمول حديث الرفع له اصلا، لكون التكليف معلوما وانما متعلقه مجهول.
والحاصل أن الظاهر تقديم الخطاب المختص مطلقا، حتى فيما لو كان حاكما على الخطاب المشترك، بناء على ما هو المشهور من حكومة الاصول المتوافقة بعضها على بعض، وأما بناء على ما هو الصحيح من جريانها جميعا في عرض واحد فلا يبقى موضوع للبحث عن فرض كون الخطاب المختص حاكما او محكوما.
هذا وينبغي أن نشير في ختام هذا البحث الى ما ذكره السيد الخوئي “قده” بعد ما اختار جريان قاعدة الحل في الماء بلا معارض في مثال العلم الاجمالي بنجاسة الماء او الثوب، والذي ذكرنا أن مآله الى تقديم الخطاب المختص المحكوم، حيث قال: ان هذا أحد الموارد التي يرجع فيها إلى الأصل المحكوم بعد سقوط الأصل الحاكم، ونظير ذلك في الفروع الفقهية كثير، منها ما لو علم بنجاسة شيء في زمان وطهارته في زمان آخر، وشك في المتقدم والمتأخر منهما، فانه بعد تساقط الاستصحابين بالمعارضة يرجع إلى قاعدة الطهارة، ومنها ما إذا علم حلية شيء في زمان وحرمته في زمان آخر، وشك في المتقدم منهما، فانه بعد تساقط الاستصحابين يرجع إلى أصالة الحل، إلى غير ذلك من الموارد التي يرجع فيها إلى الأصل المحكوم، بعد سقوط الأصل الحاكم.
وفيه أن جريان قاعدة الطهارة والحل في مورد توارد الحالتين، لا يبتني على جريان الخطاب المختص، اذ قاعدة الطهارة مثلا في توارد الحالتين ان تعارضت فلابد أن تتعارض مع استصحاب النجاسة، ولكن مضافا الى أنه حاكم عليها ولا يعقل المعارضة بين الحاكم والمحكوم، ان اجمال دليل الاستصحاب بالنسبة الى مورد توارد الحالتين اوضح من اجمال الخطاب المشترك بالنسبة الى اطراف العلم الاجمالي، وقد صرح السيد الخوئي “قده” في الفقه باجمال دليل الاستصحاب لمورد توارد الحالتين دون اطراف العلم الاجمالي، لما ذكره من كون محذور المناقضة في المؤدى محذورا بديهيا عقليا فيمنع من الظهور، بخلاف محذور قبح الترخيص في المخالفة القطعية([22])، فعليه فعدم معارضة المجمل مع المبين فيه اوضح وأجلى، بخلاف سائر موارد الخطاب المختص، ومما يشهد على ما ذكرناه أنه قد يتعارض الاستصحاب الموضوعي في مورد توارد الحالتين كغسل المتنجس بمايع توارد فيه حالتا الاطلاق والاضافة، حيث تصل النوبة الى استصحاب نجاسة الثوب بلا معارض، مع أن خطاب الجميع مشترك، وكذا في مورد تعاقب الحادثين، كما لو شك المتبابعان أن فسخ البايع مثلا كان قبل التفرق او بعده مع الجهل بتاريخ كليهما، فانه بعد تعارضهما على الاصحّ يكون المرجع استصحاب ملكية البايع للثمن والمشتري للمثمن.
خلاصة بحث ثمرة النزاع بين مسلك الاقتضاء والعلية
الثمرة التي قبلناها للنزاع بين مسلك الاقتضاء والعلية هي جريان الخطاب المختص، وأما سلامة الاصل الطولي فقد منعنا عنها بشكل عام، كما تبين في طيّ هذه الأبحاث عدم تمامية ما في البحوث من ثمرة أخرى، وهي أنه لو كان احد طرفي العلم الاجمالي مجرى لأصل مثبت للتكليف، وكان هذا الاصل حاكما على جميع الاصول المؤمنة فيه، كما اذا علم اجمالا بوقوع قطرة دم في أحد إنائين، مع كون احدهما المعين مستصحب النجاسة، من أنه بناءا على مسلك الاقتضاء لا اشكال في جريان الاصل النافي كأصالة الطهارة في الإناء الآخر، لكونه بلا معارض، وأما بناء على مسلك العلية فلابد من الالتزام بمنجزية هذا العلم الاجمالي لكلا طرفيه في عرض منجزية المنجز التفصبلي لأحد الطرفين، وان لم يقبل أصحاب مسلك العلية ذلك، وادّعوا أنه يشترط في منجزية العلم الاجمالي بالتكليف كونه سببا لتنجز هذا التكليف في أي طرف كان، ومع وجود المنجز التفصيلي في احد طرفيه فيستند تنجز التكليف المعلوم بالاجمال على تقدير كونه في ذلك الطرف الى هذا المنجز التفصيلي دون العلم الاجمالي، فيكون هذا العلم الاجمالي من حيث تنجيز الواقع بحكم العدم، فلا يوجد مانع عن جريان الاصل المؤمن في الطرف الآخر([23])، فذكرنا أن هذه الدعوى من اصحاب مسلك العلية كالمحقق العراقي “قده” ترجع الى مصادرة وجدانية في كون هذا العلم الاجمالي من حيث اثر تنجيز الواقع بحكم العدم، ولا يبعد تمامية هذه الدعوى من ناحية المرتكزات العقلائية، فلا يرى العقلاء هذا العلم الاجمالي منجزا للتكليف على تقدير كونه في الطرف الذي لم يقم عليه المنجز التفصيلي، فلا يرونه مانعا عن جريان الاصل المؤمن في هذا الطرف، ولا أقل من عدم احراز مانع من جريانه فيه بعد احراز شمول ظهوره له، لعدم احتمال ارتكاز واضح يمنع من انعقاد ظهوره.