فهرست مطالب

فهرست مطالب

pdf

وأما الايراد الثاني فان تم فلا يجدي في دفعه الالتزام بجريان استصحاب الزمان بنحو مفاد كان الناقصة، كما التزم به المحقق العراقي “قده” فانه لو فرض القول بعرفیة استصحاب أن الزمان كان نهارا، فمضافا الى ما مر من أنه لا يدفع شبهة مثبتيته لاتصاف الصلاة بكونها في زمان يكون نهارا، فقد يقال بأن عنوان الصلاة في النهار لو كان مركبا فيكون ظاهرا في الصلاة في زمان ويكون ذلك الزمان نهارا، وليس ظاهره لحاظ الزمان الموسع، ولو فرض صحة لحاظه، فان المحتمل فيه ان لم يكن ظاهرا هو لحاظ الآن الذي يقع فيه الصلاة.

فالظاهر أن يجاب عن هذا الايراد بنحو يجدي حتى لمن يقول بجريان استصحاب الزمان بنحو كان التامة فقط، وهو ما سبق منّا من أنه لاوجه لانحلال الامر بالصلاة في النهار الى الامر بالصلاة في زمان وكون ذلك الزمان نهارا” بل الظاهر منه الامر بالصلاة مع وجود النهار، فالمستفاد من حرف “في” في قولنا “الصلاة في النهار” غير المستفاد منها في قولنا “الصلاة في المسجد” فان الثانية بمعنى الصلاة في مكان وكون ذلك مسجدا، فلو كان شخص في المسجد ومشى الى مكان وشك في أنه هل خرج من المسجد ام لا، فاستصحاب بقاءه في المسجد بضم احرازه الاتيان بالصلاة لا يثبت ذلك العنوان، بل يجري استصحاب عدم كون هذا المكان مسجدا، وهكذا لو قال المولى “صل في الخيمة” فلو كان في الخيمة ومشى الى مكان يشك في امتداد الخيمة اليه او كان في نفس المكان ولكن احتمل ازالة الخيمة بعد أن دخل فيها، فاستصحاب كونه في الخيمة لا يثبت عنوان الصلاة في الخيمة، فضلا عما اذا لم يكن في الخيمة فجاء الى هذا المكان فاراد ان يستصحب بقاء الخيمة بنحو مفاد كان التامة فانه لا يثبت عنوان الصلاة في الخيمة اصلا، نعم لو قال المولى “صل وانت في الخيمة فاستصحاب كونه في الخيمة فيما كان تحت الخيمة سابقا يثبت العنوان.

وأما في الزمان فالظاهر كفاية استصحاب بقاء الزمان بنحو مفاد كان التامة، حيث لا يفهم العرف من عنوان الصلاة في النهار مثلا اكثر من تقارن الصلاة بوجود النهار، فان الانطباع العرفي عن الزمان كالنهار ليس كالمكان في كونه وعاء وظرفا حقيقيا للفعل، والشاهد عليه أنه اذا لم يرتب آثار الصلاة في النهار عند الشك في بقاء النهار يراه العرف ناقضا لليقين بوجود النهار بالشك فيه، ومجرد استعمال لفظ “في” في المكان والزمان مع احساس معنى واحد منهما لا يستلزم كون الظاهر العرفي من الجملتين واحدا، نظير استعمال “في” في الحالات كقولهم “فلان في يسر” او “في عسر” ففي نهج البلاغة “نوم على يقين خير من صلاة في شك” مع أن الشك حال محض وليس مكانا ولا زمانا.

وقد يقال: انه لا فرق بين مثال الصلاة في المسجد او الصلاة في النهار، فان ظاهرهما التركيب من صلاة شخص وكونه في المسجد او في النهار، فاستصحاب كونه في المسجد او في النهار يكفي في احراز العنوان، من دون حاجة الى احراز كون الصلاة في زمان يكون نهارا، او كون الصلاة في مكان يكون مسجدا، فان المكان او الزمان ظرف للذات الخارجية كالانسان، لا الحدث كالصلاة، وهذا نظير ما يقال في النهي عن الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه، فانه حيث لا يكون تلك الأجزاء ظرفا للصلاة فيكون ظاهره كون العنوان مركبا من الصلاة وكون الشخص لابسا لما لا يؤكل لحمه، او فقل: أن يكون معه اجزاء ما لا يؤكل لحمه ولو كان روثه او عرقه كما هو المستفاد من الروايات، ولكن الانصاف أن حمل الصلاة في النهار على المركب من الصلاة وكون الشخص في النهار خلاف الظاهر، كما أن حمل الصلاة في المسجد على الصلاة وكون الشخص في المسجد خلاف الظاهر كما مر آنفا.

وقد رأيت في المقام كلاما لبعض السادة الاعلام “دام ظله”، حاول أن يوضِّح فيه نكتة التفصيل بين الزمان والمكان، فقال: ان مفاد الحروف مختلف، فبعضها يفيد مجرد اجتماع شيئين في الزمان، مثل الباء في قوله ” لا صلاة الا بطهور” وبعضها يفيد اكثر من ذلك مثل “على”[1] و كذا “في” عند استعمالها في الظرفية المكانية، فلايجدي بحاله الاستصحاب فلو علم بأن زيدا على تقدير حياته يكون في الدار فاستصحاب حياته لا يثبت كونه في الدار الا بنحو الاصل المثبت، و حرف “في” عند استعمالها في الزمان، من قبيل الاول، اذ الزمان ليس ظرفا عرفا حتى يقع فيه الفعل، فان منشأ الزمان ليس هو حركة الشمس بل الحركة الذاتية للاشياء، ولذا يكون الزمان موجودا ولو لم توجد الشمس، ولعل منشأ استعمال “في” التي هي للظرفية في الزمان أن الانسان كان يشعر بالتغيير الزماني من خلال التغير في المكان، فكان يحسّ بالليل من خلال ظلمة الارض، فسماه بالليل الذي يعني الظلمة، وسمى الربيع للزمان الذي تتجدد اثار حياة النباتات والاشجار في مكان، فكان رؤية الانسان الابتدائي الى الزمان متأثرة بالمكان، وان شئت فسمه بالزمكان، فاستعملت “في” بنحو من العناية والتوسع في الزمان، نعم بعد تطور المجتمعات وضعوا اسماء الزمان لما لا ينشأ من احساس التغير في المكان، مثل اسماء ايام الاسبوع، فعليه يكون المطلوب في قوله “صل في النهار” اجتماع الصلاة والنهار في زمان فيمكن اثباته بضم الوجدان الى الاصل.

هذا وقد أضاف الى ذلك أن قد يلحظ الزمان مرآة لتحديد مقدار استمرار العمل، كالامر بزيارة الحسين (عليه السلام) ساعة، نظير لحاظ قيمة القماش مرآة لتحديد مقدار فيقال لبايع القماش أعطني القماش بمقدار درهم، فلا اشكال في امكان استصحاب عدم انتهاء امد الزيارة، وهذا خارج عن محل البحث، اذ محل البحث ما اذا لوحظ الزمان ظرفا للفعل، كالامر بزيارة الحسين (عليه السلام) يوم عرفة، كما أنه اذا لوحظ الزمان نعتا للفعل ، فهذا ايضا خارج عن محل البحث، كقوله “تجب عليك الصلاة النهارية” اذ استصحاب بقاء النهار لا يثبت اتصاف الصلاة به، فمحل البحث ما اذا أخذ الزمان ظرفا لا بنحو النعتية، مثل “صل في النهار” وهذا محل البحث، والظاهر جريان الاستصحاب فيه[2].

اقول: ان نكتة الفرق العرفي بين الزمان والمكان ليس هو ما ذكره من عدم كون منشأ الزمان هو حركة الشمس، وانما هو الحركة الذاتية للاشياء، فان الكلام في مثل الليل والنهار ولا اشكال في كون منشاهما حركة الشمس، دون الحركة الذاتية للاشياء، مضافا الى أنه ان اريد منها الحركة الجوهرية التي يدعيها صاحب كتاب الاسفار، فمضافا الى اختصاصها بالاجسام لم يثبت ذلك في جميع الاجسام بل غايته ثبوتها فيما يتغيير كيفيته، كالثمرة، فلو فرض أن جسما لم تتغير كيفيته فمن أين نحرز حركته الجوهرية اي حركته من القوة الى الفعل.

نعم قد يخطر بالبال معنى آخر للزمان وليس من سنخ الوجود، بل يكون من الامور الاعتبارية، او النفس الامرية، كامتناع شريك الباري او امتناع اجتماع النقيضين، ويشارك الموجودات والمعدومات، فيقال “كان العنقاء معدوما ازلا وفعلا ومستقبلا” وهكذا الممتنعات، وقد يقال بتنافي ذلك مع ما ورد في عدة من الروايات من مخلوقية الزمان، كقوله “إن الله تبارك و تعالى كان لم يزل بلا زمان و لا مكان و هو الآن كما كان[3]” وقوله “كيف يكون له قبل و هو قبل القبل بلا غاية و لا منتهى غاية و لا غاية إليها غاية انقطعت الغايات عنه فهو غاية كل غاية فقال أشهد أن دينك الحق و أن ما خالفه باطل[4]” وقوله “ان الله تبارك و تعالى لا يوصف بزمان و لا مكان و لا حركة و لا انتقال و لا سكون بل هو خالق الزمان و المكان و الحركة و السكون تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا[5]” ومن الواضح أنه تعالى فوق الزمان اي ليس له مبدأ ومنتهى ولا يؤثر فيه الزمان ابدا، وهو خالق الزمان الذي هو من سنخ الوجود، وان صح المعنى الأخير للزمان فهو ليس من سنخ الوجود، بل غايته كونه من سنخ الامور الواقعية النفس الامرية، ان لم يكن من الامور الاعتبارية، وهذا مجرد ابداء احتمال حتى يبحث عنه، والا فالمتبع ما ورد عن اهل بيت العصمة والطهارة (عليهم السلام)، والله سبحانه هو الهادي الى الصواب.

ومن جهة أخرى ان ما ادعاه من كون استعمال حرف “في” في الزمان كان ناشئا عن كون الزمان عند الانسان الابتدائي متأثرا عن المكان، ففيه أنهم يستعملون حرف “في” في الحالات ايضا كما مر آنفا، مع عدم موجب لتوهم كونها مكانا، مع أن مجرد تبدل حالات الافق في المكان الموجب لتحقق الليل والنهار لا يوجب عرفا اسراء احكام المكان الى الزمان، والا فلماذا يقال “جلست على المكان” ولا يقال “جلست على الزمان”، فارجاع الزمان عرفا الى الزمكان مما لا يعرف له وجه.

ثم انه لو فرض عدم امكان اثبات استصحاب النهار مثلا لكون الفعل واقعا في النهار، فيجري استصحاب بقاء النهار لاثبات وجوب الفعل، ونذكر لذلك مثالين:

1- اذا كان الواجب مطلق وجود الفعل في النهار، بأن يكون الواجب الفعل المستمر في جميع آنات النهار، كوجوب الصوم في نهار شهر رمضان، فلو شك في بقاء النهار إما للشك في مقداره كما لم يدر هل النهار في هذا البلد قصير او طويل، وإما للشك في انتهاء امده مع العلم بمقداره كما لو علم أن النهار في هذا البلد سبعة عشر ساعة، ففي كلا الفرضين يجري استصحاب بقاء النهار ويثبت بقاء وجوب الصوم، كما يمكن اجراء استصحاب بقاء نفس الوجوب، فيتنجز عليه الامساك في ذلك الزمان المشكوك، ودعوى أنه حيث لا يثبت به كون الامساك في هذا الزمان من الصوم في النهار، فيكون من الشك في القدرة، ففيه أنه لا محذور فيه ابدا، بعد أن كان الشك في القدرة مجرى لأصالة الاحتياط، خصوصا في ما لو كان الاصل في فرض مطابقته للواقع ملازما للقدرة على الامتثال.

هذا وقد يقال في فرض الشك في سعة مقدار النهار أنه حيث لا يثبت استصحاب النهار او استصحاب الوجوب كون الامساك في هذا الزمان المشكوك من الصوم في النهار فلا يثبت وجوبه وانما يثبت بقاء وجوب الصوم في النهار فلا تكون البراءة عن وجوب الامساك في هذا الزمان المشكوك محكومة لهذا الاستصحاب لعدم جريانها في مورده، فبجريان هذه البراءة يرتفع حكم العقل بلزوم الاحتياط من باب جريان قاعدة الاشتغال في موارد الشك في القدرة، لكون حكم العقل بالاحتياط معلقا على عدم ورود ترخيص شرعي في الخلاف، لكن حيث لا يكون الشك في بقاء النهار في الفرض الثاني الذي كان مقدار النهار معلوما من الشك في التكليف الزائد فلا مجرى فيه للبراءة.

وقد يجاب عنه كما في البحوث بأن دليل البراءة الشرعية يختص بموارد الشك في اصل التكليف، دون ما علم باصل التكليف وشك في تحقّق الامتثال، أو شك في القدرة على الامتثال، كما لو احتمل سقوط التكليف بالعجز مع علمه بأصل التكليف، أو شك كما في المقام في ثبوت قيد الواجب بعد علمه بأصل الوجوب و لو ببركة الاستصحاب.

اقول و لكن الجواب عن الإشكال في الفرض الآخر، أعني صرف الوجود لا ينحصر في هذا، بل هنا جواب آخر قبله، و هو: أنّ البراءة عن هذه الصلاة التي يؤتى بها في هذه الساعة بهذا العنوان لا معنى لها؛ إذ لا يحتمل وجوبها بما هي كذلك، و إنّما يحتمل وجوب الصلاة بين الحدّين، و البراءة عنه محكومة للاستصحاب[6].

اقول: يمكن في هذا الفرض اجراء الاستصحاب في نفس كون الصوم في النهار، وليس الغرض منه اثبات الوجوب، (خلافا لما ذكره صاحب الكفاية من أنه لا بأس باستصحاب نفس المقيد اي الصوم في النهار فيقال إن الإمساك كان قبل هذا الآن في النهار و الآن كما كان فيجب فتأمل[7]، فان الوجوب لا يترتب على وجود المتعلق فالاستصحاب المحرز لتحقق الواجب ليس اصلا موضوعيا بالنسبة الى الوجوب كي يثبت به) بل اثبتنا الوجوب بطريق آخر، وانما الغرض منه اثبات الواجب، فلا تصل النوبة الى البراءة اصلا، هذا مضافا الى أن الوجوب لم يتعلق بهذا الآن بما هو هو، حتى يكون مجري للبراءة وانما تعلق بعنوان الصوم في النهار، والمفروض اثبات بقاء وجوبه بالاستصحاب.

هذا ولو لم يمسك في الزمان المشكوك فيجب عليه القضاء، ودعوى انه حيث لا يثبت به عنوان الفوت فتجري البراءة عن وجوب القضاء ان تمت فتتوجه حتى على القول بكون استصحاب النهار صالحا لاثبات كون الصوم في النهار، فهو نظير ما لو شك في اثناء الوقت في اتيان الصلاة، فلم يصلّ بعد ذلك فانه لا ريب في وجوب القضاء عليه، إما لكون موضوعه اعم من فوت الفريضة الواقعية والظاهرية، وفوت الفريضة الظاهرية معلوم بالوجدان، او للملازمة العرفية بين الوجوب الظاهري للأداء والوجوب الظاهري للقضاء.

2- لو شك في وجوب اداء صلاة العصر مثلا، للشك في بقاء النهار، فتارة يراد من استصحاب النهار الى الوقت المشكوك اثبات جواز تأخير الصلاة من الوقت المتيقن الى الوقت المشكوك، فالصحيح عدم اثباته به، فانه مع قطع النظر عما هو المستفاد من الروايات من وجوب المبادرة الى الصلاة بمجرد خوف ضيق الوقت- حيث لا يثبت به تحقق الامتثال اي الصلاة في النهار فمقتضى قاعدة الاشتغال واستصحاب عدم تحقق الامتثال وجوب المبادرة اليها قبل بلوغ الوقت المشكوك. وأخرى يراد تنجيز وجوب الاتيان بها في الوقت المشكوك لمن ترك اداءها قبل ذلك، وعدم جواز العدول عنه الى القضاء، فالصحيح هو تنجيزه به وقد مر الجواب عن اشكال الشك في القدرة، نعم لا يترتب عليه الاثر الشرعي المترتب على الصلاة في النهار، بل يترتب اثر عدمها.

فمثلا لو شك في بقاء نهار يوم عيد الأضحى فبناء على وجوب ذبح الهدي نهار يوم العيد فاستصحاب بقاء وجوب الذبح بل استصحاب بقاء موضوعه وهو النهار وان كان ينجز الاتيان به لكن لا يثبت به تحقق الذبح الصحيح وهو الذبح في النهار فلابد من اعادته في اليوم الآخر حتى يترتب عليه الخروج من الاحرام.

هذا وقد يقال ايضا في هذا الفرض الثاني الذي تعلق الامر بصرف وجود الصلاة في النهار مثلا بأنه ان كان المكلف عالما بوجوب قبل زمان الشك في النهار فقد تنجز عليه الوجوب ولو آخره الى زمان الشك وجب عليه الاحتياط بلا حاجة الى الاستصحاب المثبت للوجوب وانما الحاجة اليه في فرض عدم تنجز الوجوب قبله إما لعدم بلوغه او لغفلته، وحينئذ فقد يدعى جريان البراءة عن وجوب الصلاة في هذا الزمان المشكوك من دون حكومة الاستصحاب عليه بعد أن لم يثبت كون الصلاة فيه صلاة في النهار، ويجاب عنه كما في البحوث بأنه مضافا الى ما مر من اختصاص البراءة بموارد الشك في اصل التكليف أنه بل معنى للبراءة عن وجوب الصلاة في هذا الزمان المشكوك، اذ لا يحتمل وجوبها كذلك وانما الواجب صرف وجود الصلاة في الوقت وقد اثبته الاستصحاب[8]، ولا بأس بما افاد.

ثم لا يخفى أن مفروض الكلام في استصحاب الزمان هو استصحابه في موارد الشبهة المصداقية، وأما في موارد الشبهة المفهومية كالشك في بقاء النهار بعد استتار القرص وقبل زوال الحمرة المشرقية او الشك في بقاء الليل في الليالي المقمرة بعد التبين التقديري لطلوع الفجر وقبل تبينه الفعلي، فيكون استصحاب عدم دخول الليل وبقاء النهار في المثال الاول واستصحاب عدم طلوع الفجر وبقاء الليل في المثال الثاني من قبيل الاستصحاب في الشبهات المفهومية، وقد سبق الكلام فيه في بحث الفرد المردد.

هذا كله في استصحاب الزمان، وأما استصحاب الزمانيات اي سائر الامور التي تكون تدريجية الوجود مثل الزمان، بحيث لا يوجد الجزء اللاحق الا بعد انعدام الجزء السابق، نظير التكلم والحركة ونزول المطر وخروج دم الحيض، وما شابه ذلك، فقد يناقش في جريان الاستصحاب فيها لعدة امور:

الامر الاول: دعوى كون المشكوك غير المتيقن، فمثلا لو شك في استمرار التكلم فبالنظر الدقي يكون المتيقن فردا من التكلم وهو التكلم في الزمان السابق، ويكون المشكوك فردا آخر من التكلم، خصوصا مع تخلل الفصل بين تلك الاجزاء كما في الشك في بقاء الاتصال بالمادة التي تكون من قبيل وقوع قطرات الماء من المنبع، وكذا في التكلم فانه وان كان العرف بنظره المسامحي يراه بقاء الفرد السابق، الا أنه لا عبرة بهذا النظر العرفي المبني على المسامحة، ولذا يقال بأن ما نقص عن الكر ولو بمقدار قليل لا يكون بحكم الكر، وكذا لو نقص عن اقامة عشرة ايام بدقائق لا يكون بحكم الاقامة.

الامر الثاني: دعوى معارضة استصحاب بقاء التكلم مثلا مع استصحاب عدم ايجاد التكلم الزائد في زمان الشك، نظير ما مر من معارضة استصحاب عدم الجعل الزائد مع استصحاب بقاء المجعول. الاستدراك الاول: اجاب المحقق الاصفهاني “قده” عن اشكال أن استصحاب النهار لايثبت كون الصلاة في النهار، بأنه اذا كانت الصلاة محققة بالوجدان و النهار محققاً بالتعبد، كفى في كون الصلاة في النهار، فانها صلاة بالوجدان في النهار التعبدي، و القيدية للواجب، و إن كانت تقتضي تقيد الواجب و لا تعبد بالتقيد، إلّا أنّ تقيد الصلاة بكونها في النهار التعبدي وجداني لا حاجة فيه إلى التعبد، نعم لو كان الواجب عنوان الصلاة النهارية، فانّ مجرد استصحاب النهار لا يجدي في كون الصلاة نهارية، أي معنوناً بهذا العنوان، لا بالتعبد، و لا بالوجدان، و المفروض تعلق الحكم بالمعنون بهذا العنوان، لا بالصلاة، مع وقوعها في النهار الذي هو منشأ انتزاع ذلك العنوان (نهاية الدراية ج ص).

وفيه أن قيد الواجب هو وجود النهار الواقعي لا الاعم منه ومن وجود النهار التعبدي الظاهري والا لزم صحة العمل ولو كان الاستصحاب مخالفا للواقع، فيكون رمي جمرة العقبة او ذبح الهدي مجزءا ولو تبين بعد ذلك وقوعه في الليل ولا يُلتزم به، فما يثبت بالوجدان هو تقيد العمل بالاعم من النهار الواقعي والظاهري ولكن الواجب هو تقيد العمل بالنهار الواقعي، ولو فرض كفاية التحقق الوجداني لتقيد العمل بالنهار الاعم من الوجداني و الظاهري فلماذا لم يقل به في عنوان الصلاة النهارية، فان اتصافها بالنهارية الاعم من الوجدانية والظاهرية ايضا معلوم بالوجدان.

هذا وقد أضاف في البحوث اشكالين آخرين عليه، احدهما: أن استصحاب النهار موقوف على ترتب الأثر على وجود النهار واقعا، اذ بدونه لا يصدق النقض العملي لليقين بالشك، ولكن بناء على کلامه تثبت الظرفية بين الصلاة وبين النهار التعبدي دون النهار الواقعي.

ثانيهما: انَّ النهار التعبدي ليس زماناً حقيقياً ليتعقل أَن يكون ظرفاً للصلاة، فلا يصح أن يقال بأن النهار الذي لوحظ ظرفا للصلاة في عنوان الصلاة في النهار اعم من النهار الواقعي والتعبدي الظاهري[1].

والجواب عن الاول أنه يكفي في استصحاب النهار ترتب اثر آخر عليه وهو تنجيز الوجوب، وعلى أنه قد يقال: النهار الواقعي لم يخلع عن الظرفية للصلاة اصلا بل ظرف الصلاة هو الجامع بين النهار الواقعي والتعبدي، فقد يثبت النهار الواقعي من دون ثبوت نهار ظاهري، فيكون هو المنشأ لصحة العمل، اللهم الا أن يكون مقصوده أن ما هو الموضوع للاثر هو تقيد الصلاة بالنهار وثبوت النهار الواقعي حال الصلاة وان كان كافيا في تحقق هذا التقيد، لكن المفروض أن استصحابه لا يثبت التقيد به الا بنحو الاصل المثبت فالذي يفيدنا في فرض الشك في النهار الواقعي هو نفس الاستصحاب الموجب لتحقق النهار التعبدي بالوجدان كي لأجله نحرز التقيد بالنهار التعبدي، فيختلف المقام عما اذا كان الاثر الشرعي مترتبا على الجامع بين النهار الواقعي والتعبدي، فانه يكفي في استصحاب النهار الواقعي كونه احد عدلي الواجب، الا أن موضوع الاثر هو تقيد الصلاة بالنهار و هو لازم عقلي للنهار الواقعي فلايكون ر اليد عن اليقين السابق بالنهار مصداقا للنقض العملي لليقين المتقوم بوجود اثر عملي لنفس المستصحب لا للازمه العقلي، فينحصر الجواب في ما ذكرنا من كفاية وجود اثر شرعي آخر للنهار الواقعي وهو ترتب وجوب الصلاة.

والجواب عن الثاني أنه يكفي في الظرفية كون قيد الصلاة هو زمان وجود النهار واقعا او ظاهرا، فان الظاهر من الصلاة في النهار هو الصلاة في زمان النهار وقد فرض أنه اعم من زمان النهار الظاهري، والآن المشكوك زمان النهار الظاهري بالوجدان.

الاستدراك الثاني: انه لو فرض عدم امكان اثبات استصحاب النهار مثلا لكون الفعل واقعا في النهار، فيجري استصحاب بقاء النهار لاثبات وجوب الفعل، ونذكر لذلك مثالين:

1- اذا كان الواجب مطلق وجود الفعل في النهار، بأن يكون الواجب الفعل المستمر في جميع آنات النهار، كوجوب الصوم في نهار شهر رمضان، فلو شك في بقاء النهار إما للشك في مقداره كما لم يدر هل النهار في هذا البلد قصير او طويل، وإما للشك في انتهاء امده مع العلم بمقداره كما لو علم أن النهار في هذا البلد سبعة عشر ساعة، ففي كلا الفرضين يجري استصحاب بقاء النهار ويثبت بقاء وجوب الصوم، كما يمكن اجراء استصحاب بقاء نفس الوجوب، فيتنجز عليه الامساك في ذلك الزمان المشكوك، ودعوى أنه حيث لا يثبت به كون الامساك في هذا الزمان من الصوم في النهار، فيكون من الشك في القدرة، ففيه أنه لا محذور فيه ابدا، بعد أن كان الشك في القدرة مجرى لأصالة الاحتياط، خصوصا في ما لو كان الاصل في فرض مطابقته للواقع ملازما للقدرة على الامتثال.

هذا وقد يقال في فرض الشك في سعة مقدار النهار أنه حيث لا يثبت استصحاب النهار او استصحاب الوجوب كون الامساك في هذا الزمان المشكوك من الصوم في النهار فلا يثبت وجوبه وانما يثبت بقاء وجوب الصوم في النهار فلا تكون البراءة عن وجوب الامساك في هذا الزمان المشكوك محكومة لهذا الاستصحاب لعدم جريانها في مورده، فبجريان هذه البراءة يرتفع حكم العقل بلزوم الاحتياط من باب جريان قاعدة الاشتغال في موارد الشك في القدرة، لكون حكم العقل بالاحتياط معلقا على عدم ورود ترخيص شرعي في الخلاف، لكن حيث لا يكون الشك في بقاء النهار في الفرض الثاني الذي كان مقدار النهار معلوما من الشك في التكليف الزائد فلا مجرى فيه للبراءة.

وقد يجاب عنه كما في البحوث بأن دليل البراءة الشرعية يختص بموارد الشك في اصل التكليف، دون ما علم باصل التكليف وشك في تحقّق الامتثال، أو شك في القدرة على الامتثال، كما لو احتمل سقوط التكليف بالعجز مع علمه بأصل التكليف، أو شك كما في المقام في ثبوت قيد الواجب بعد علمه بأصل الوجوب و لو ببركة الاستصحاب.

اقول و لكن الجواب عن الإشكال في الفرض الآخر، أعني صرف الوجود لا ينحصر في هذا، بل هنا جواب آخر قبله، و هو: أنّ البراءة عن هذه الصلاة التي يؤتى بها في هذه الساعة بهذا العنوان لا معنى لها؛ إذ لا يحتمل وجوبها بما هي كذلك، و إنّما يحتمل وجوب الصلاة بين الحدّين، و البراءة عنه محكومة للاستصحاب.

اقول: يمكن في هذا الفرض اجراء الاستصحاب في نفس كون الصوم في النهار، وليس الغرض منه اثبات الوجوب، (خلافا لما ذكره صاحب الكفاية “من أنه لا بأس باستصحاب نفس المقيد اي الصوم في النهار فيقال إن الإمساك كان قبل هذا الآن في النهار و الآن كما كان فيجب فتأمل” فان الوجوب لا يترتب على وجود المتعلق فالاستصحاب المحرز لتحقق الواجب ليس اصلا موضوعيا بالنسبة الى الوجوب كي يثبت به) بل اثبتنا الوجوب بطريق آخر، وانما الغرض منه اثبات الواجب، فلا تصل النوبة الى البراءة اصلا، هذا مضافا الى أن الوجوب لم يتعلق بهذا الآن بما هو هو، حتى يكون مجري للبراءة وانما تعلق بعنوان الصوم في النهار، والمفروض اثبات بقاء وجوبه بالاستصحاب.

هذا ولو لم يمسك في الزمان المشكوك فيجب عليه القضاء، ودعوى انه حيث لا يثبت به عنوان الفوت فتجري البراءة عن وجوب القضاء ان تمت فتتوجه حتى على القول بكون استصحاب النهار صالحا لاثبات كون الصوم في النهار، فهو نظير ما لو شك في اثناء الوقت في اتيان الصلاة، فلم يصلّ بعد ذلك فانه لا ريب في وجوب القضاء عليه، إما لكون موضوعه اعم من فوت الفريضة الواقعية والظاهرية، وفوت الفريضة الظاهرية معلوم بالوجدان، او للملازمة العرفية بين الوجوب الظاهري للأداء والوجوب الظاهري للقضاء.

2- لو شك في وجوب اداء صلاة العصر مثلا، للشك في بقاء النهار، فتارة يراد من استصحاب النهار الى الوقت المشكوك اثبات جواز تأخير الصلاة من الوقت المتيقن الى الوقت المشكوك، فالصحيح عدم اثباته به، فانه مع قطع النظر عما هو المستفاد من الروايات من وجوب المبادرة الى الصلاة بمجرد خوف ضيق الوقت- حيث لا يثبت به تحقق الامتثال اي الصلاة في النهار فمقتضى قاعدة الاشتغال واستصحاب عدم تحقق الامتثال وجوب المبادرة اليها قبل بلوغ الوقت المشكوك. وأخرى يراد تنجيز وجوب الاتيان بها في الوقت المشكوك لمن ترك اداءها قبل ذلك، وعدم جواز العدول عنه الى القضاء، فالصحيح هو تنجيزه به وقد مر الجواب عن اشكال الشك في القدرة، نعم لا يترتب عليه الاثر الشرعي المترتب على الصلاة في النهار، بل يترتب اثر عدمها.

فمثلا لو شك في بقاء نهار يوم عيد الأضحى فبناء على وجوب ذبح الهدي نهار يوم العيد فاستصحاب بقاء وجوب الذبح بل استصحاب بقاء موضوعه وهو النهار وان كان ينجز الاتيان به لكن لا يثبت به تحقق الذبح الصحيح وهو الذبح في النهار فلابد من اعادته في اليوم الآخر حتى يترتب عليه الخروج من الاحرام.

هذا وقد يقال ايضا في هذا الفرض الثاني الذي تعلق الامر بصرف وجود الصلاة في النهار مثلا بأنه ان كان المكلف عالما بوجوب قبل زمان الشك في النهار فقد تنجز عليه الوجوب ولو آخره الى زمان الشك وجب عليه الاحتياط بلا حاجة الى الاستصحاب المثبت للوجوب وانما الحاجة اليه في فرض عدم تنجز الوجوب قبله إما لعدم بلوغه او لغفلته، وحينئذ فقد يدعى جريان البراءة عن وجوب الصلاة في هذا الزمان المشكوك من دون حكومة الاستصحاب عليه بعد أن لم يثبت كون الصلاة فيه صلاة في النهار، ويجاب عنه كما في البحوث بأنه مضافا الى ما مر من اختصاص البراءة بموارد الشك في اصل التكليف أنه بل معنى للبراءة عن وجوب الصلاة في هذا الزمان المشكوك، اذ لا يحتمل وجوبها كذلك وانما الواجب صرف وجود الصلاة في الوقت وقد اثبته الاستصحاب،

ولا بأس بما افاد.

استدراك

وقد اجيب عن الامر الاول بعدة اجوبة:

الجواب الاول: ما ذكره صاحب الكفاية “ره”: من أنه لا مانع من جريان الاستصحاب في مثل الحركة و لو بعد تخلل العدم إذا كان يسيراً، لأن المناط في الاستصحاب هو الوحدة العرفية و لا يضر السكون القليل بوحدة الحركة عرفا،كما أنه إذا شك في بقاء قراءة السورة من جهة الشك في اتمامها لسورة معينة فيجري استصحاب الشخص ، ولو شك في بقاءها لترددها بين القصيرة و الطويلة كان‏ من القسم الثاني من استصحاب الكلي، ولو شك في قراءته لسورة أخرى مع القطع بأنه قد تمت قراءة السورة الأولى كان من القسم الثالث من استصحاب الكلي[9].

وقد اورد عليه السيد الخوئي “قده” بأن بقاء الموضوع في الاستصحاب و إن لم يكن مبنياً على الدقة العقلية، بل على المسامحة العرفية و نظر العرف أوسع من لحاظ العقل في أكثر الموارد، إلا أنه لا فرق بين العقل و العرف في المقام، فالمتحرك إذا سكن و لو قليلا لا يصدق عليه أنه متحرك عرفا، لصدق الساكن عليه حينئذ، و لا يمكن اجتماع عنواني الساكن و المتحرك في نظر العرف أيضا، و عليه فلو تحرك بعد السكون لا يقال عرفا أنه متحرك بحركة واحدة، بل يقال إنه متحرك بحركة أخرى غير الأولى، فلو شككنا في الحركة بعد السكون، لا يمكن جريان الاستصحاب، لأن الحركة الأولى قد ارتفعت يقيناً، و الحركة الثانية مشكوكة الحدوث، نعم قد يؤخذ في موضوع الحكم عنوان لا يضر في صدقه السكون في الجملة، كعنوان المسافر، فان القعود لرفع التعب مثلا بل النزول في المنازل غير قادح في صدق عنوان المسافر فضلا عن السكون ساعة أو ساعتين، فإذا شك في بقاء السفر لا إشكال في جريان الاستصحاب فيه و لو بعد السكون، بخلاف ما إذا أخذ عنوان الحركة في موضوع الحكم، فانه لا يجري الاستصحاب بعد السكون، بل يجري فيه استصحاب السكون، و يجري جميع ما ذكرناه في الحركة في مثل الجريان و السيلان.

اقول: الظاهر تمامية ما ذكره صاحب الكفاية، فان تخلل العدم في الحركة والجريان ونحوهما لا يمنع من صدق البقاء عرفا، فانه كثيرا ما يكون المفهوم العرفي لبقاء الامر التدريجي مما اشرب فيه تخلل العدم بمقدار لا يخل بالوحدة العرفية، كحركة عقربة الساعة او سقوط مادة الماء عليه بنحو القطرات، بل لو كان عادة شخص المشي كل يوم ساعة فانه يمكن استصحاب بقاء مشيه كل يوم ساعة، نعم لو كان الاثر مترتبا على مشيه في هذا اليوم المشكوك لم يمكن اثباته بذاك الاستصحاب.

نعم يرد على ما ذكره صاحب الكفاية حول قراءة السورة (من أنه لو بدأ شخص بقراءة سورة وشككنا في أنه قرأ سورة أخرى بعدها فلا يمكننا أن نستصحب قراءته للقرآن الا بنحو القسم الثالث من الكلي والذي لا نقول به) أن العرف يراه من الشك في بقاء قراءة القرآن، ويكون استصحابه من قبيل استصحاب الشخص، نعم لا يثبت به أنه قرأ سورتين مثلا كما لا يثبت باستصحاب بقاء الطواف تحقق سبعة اشواط الطواف.

الجواب الثاني: ما ذكره المحقق النائيني “قده” ان وحدة الامر التدريجي تكون بوحدة مقتضي الحدوث والبقاء، فلو استند حدوث جريان الماء او سيلان الدم الى مادة، قد نفدت يقينا ولكن قامت مادة أخرى مكانها بلا فصل، فيتعدد بذلك جريان الماء وسيلان الدم، وحيث ان المقتضي للفعل الاختياري هو الداعي فمع تغاير داعي الحدوث والبقاء يتعدد التكلم و المشي، ومع وحدة الداعي يعتبر امرا واحدا مستمرا، فلو بدأ شخص بالمشى بداعي رؤية زيد واحتملنا أنه حينما رأى زيدا استمر في مشيه بداع آخر، فلا يجري استصحاب المشي، لتعدد المشي بتعدد الداعي[10].

وقد اورد عليه السيد الخوئي “قده” بالنقض بأن لازمه أنه لو بقي المصلي في حال السجود في الصلاة بداعي الاستراحة فتبطل صلاته بزيادة السجدة[11].

وفيه أن المحقق النائيني لم يدع ذلك مطلقا وانما ادعاه في خصوص الامور غير القارة، فلا يتم النقض بالسجود، وما ذكره بعض السادة الاعلام “دام ظله” من أنه انما يتم النقض لو كان السجود بمعنى الاعتماد على الارض، وأما لو كان بمعنى هيئة خاصة في الشخص فهو من الامور القارة، ففيه أن الاعتماد على الارض ليس من الامور التدريجية.

وكيف كان فالصحيح في الاشكال على المحقق النائيني “قده” أن يقال بأن ما ذكره ليس بجامع ولا مانع، فانه قد يتعدد الداعي ولكن لا يوجب تعدد الفعل التدريجي عرفا، بل هو بقاء للوجود السابق بداع جديد، فلو بدأ شخص بالكلام من زوال الشمس واستمر في تكلمه لأجل حضور شخص في المجلس في الاثناء، فيقال: انه لا يزال يتكلم منذ زوال الشمس، كما أنه في مثال جريان الماء لأجل مادة جديدة او حركة الجسم بسبب محرك آخر غير المحرك الاول يعتبر جريانا مستمرا وحركة مستمرة، كما أنه قد يتحد الداعي ولكن يكون الموجود بقاء فردا آخر، كما لو استؤجر شخص على مجموع قراءة القرآن وقراءة الدعاء فلا تعدان قراءة واحدة.

الجواب الثالث: ما ذكره المحقق العراقي “قده” من أنه يتصور في الامر التدريجي خمس صور:

الصورة الاولى: أن يشك في بقاء الامر التدريجي للشك في وصوله الى منتهاه. فيجري فيه الاستصحاب.

الصورة الثانية: أن يحتمل طرو مانع عن استمراره مع القطع بتمامية مقتضي الاستمرار، كما لو علمنا بكون داعي الشخص التكلم ساعة واحتمال طرو مانع عنه في الاثناء، فيجري فيه الاستصحاب.

الصورة الثالثة: أن نشك في مقدار استعداده كما لم نعلم مقدار استعداد الرحم لسيلان الدم، فيجري فيه الاستصحاب، لأن الصحيح جريان الاستصحاب مع الشك في المقتضي.

الصورة الرابعة: أن نعلم بانتفاء العلة المحدثة ونحتمل وجود علة مبقية قائمة مقام العلة المحدثة، كما لو علمنا بكون داعيه تكلم ساعة واحتملنا طرو داع آخر له في تكلم ساعة أخرى بعدها، و يوجب العلة الجديدة تبدل عنوان الامر التدريجي، كتبدل التكلم من قراءة القرآن الى الدعاء، فلا يجري الاستصحاب لعدم الوحدة العرفية بينهما.

الصورة الخامسة: نفس الصورة الرابعة، مع اختلاف أن لا يوجب ذلك تبدل العنوان، فيجري الاستصحاب، ولعل منه احتمال استمرار جريان الماء عند العلم بانعدام المنبع الاول واحتمل قيام منبع آخر مكانه[12].

فكانه قبل من المحقق النائيني الجانب الايجابي من كلامه وهو وحدة الامر التدريجي مع وحدة المقتضي والداعي، وانما ادعى امكان وحدة الامر التدريجي مع تعدد مقتضي الحدوث والبقاء، فيرد عليه ما اوردناه على المحقق النائيني من أنه قد يتحد الداعي ولكن يكون الموجود بقاء فردا آخر، كما لو استؤجر شخص على مجموع قراءة القرآن وقراءة الدعاء او على خطابتين متصلتين فلا تعدان قراءة واحدة او خطابة واحدة، نعم لم ينكر المحقق العراقي أنه قد لا يكون تغاير داعي بقاء التكلم كونه فردا آخر من التكلم كما لو استمر في قراءته للقرآن او خطابته او مشيه بداع آخر جديد.

الجواب الرابع: ما ذكره السيد الخوئي “قده” من أن اجزاء الموجود غير القار اذا كانت متصلة كحركة السيارة فيكون اتصالها مساوقا لوحدتها، وبذلك يصدق كونها باقية ومستمرة، فيتم استصحابها عند الشك في بقاءها، وأما التكلم فحيث انه ليست له وحدة حقيقية من جهة تخلل السكوت و لو بقدر التنفس في أثنائه لا محالة بحسب العادة، فلابد في استصحابه من الوحدة الاعتبارية، فتعدُّ عدة من الجملات موجوداً واحداً باعتبار أنها قصيدة واحدة أو سورة واحدة مثلا، فإذا شرع أحد بقراءة قصيدة مثلًا، ثم شككنا في فراغه عنها، لم يكن مانع من جريان استصحابها سواء كان الشك مستنداً إلى الشك في المقتضي، كما إذا كانت القصيدة مرددة بين القصيرة و الطويلة، فلم يعلم أنها كانت قصيرة فهي لم تبق أم هي طويلة فباقية، أو كان الشك مستنداً إلى الشك في الرافع. كما إذا شككنا في حدوث مانع خارجي عن إتمام القصيدة التي بدأ بقراءتها، و كذا الكلام في الصلاة فانها و إن كانت مركبة من أشياء مختلفة، فبعضها من مقولة الكيف المسموع كالقراءة، و بعضها من مقولة الوضع كالركوع، و هكذا إلا أن لها وحدة اعتبارية، فان الشارع قد اعتبر عدة أشياء شيئاً واحداً و سماه بالصلاة، فإذا شرع أحد في الصلاة و شككنا في الفراغ عنها، لم يكن مانع من جريان استصحابها و الحكم ببقائها سواء كان الشك في المقتضي، كما إذا كان الشك في بقاء الصلاة لكون الصلاة مرددة بين الثنائية و الرباعية مثلا، أو كان الشك في الرافع، كما إذا شككنا في بقائها لاحتمال حدوث قاطع كالرعاف مثلا[13].

اقول: ما ذكره من أنه اذا تخلل السكون في آنات الحركة فالعرف بنظره الدقي يلتفت الى ذلك ولا عبرة بنظره المسامحي، متين جدا، لكن قد يكون المفهوم العرفي للامر التدريجي مما اشرب فيه تخلل العدم بمقدار لا يخل بالوحدة العرفية، كحركة عقربة الساعة او كون الماء مما له مادة حيث يصدق على سقوط المادة النابعة عليه بنحو القطرات، ولو مع تخلل فاصل يسير.

وأما ما ذكره من أنه لو شك في أن قارئ القرآن هل بدأ بقراءة سورة قصيرة او سورة طويلة فيجري استصحاب بقاء قراءته للقرآن بنحو القسم الثاني من الكلي ففيه أن لازمه أنه لو علم بانهاءه قراءة سورة واحتمل شروعه في قراءة سورة أخرى أن يكون استصحاب قراءته للقرآن من استصحاب القسم الثالث من الكلي، مع أنه خلاف الوجدان، فان العرف يرى وحدة عرفية لقراءة القرآن، فيمكن استصحاب قراءته للقرآن، بنحو استصحاب الفرد، نعم لو احتملنا أن قارئ القرآن قد اشتغل بعد فراغه من قراءة القرآن بقراءة الاشعار، فلا يجري استصحاب بقاء التكلم، لأنه يعتبر فردا جديدا من التكلم.

الجواب الخامس: ما ذكره السيد الصدر “قده” من أن مناشئ الوحدة في الامور التدريجية تكون احد امور اربعة:

1- الاتّصال الحقيقي، فالحركة باعتبار اتّصالها عقلًا و عرفاً تعتبر أمراً واحداً و يجري فيها الاستصحاب.

2- الاتّصال بالنظر العرفي الكاذب و غير المطابق للواقع، فإنّ هذا أيضاً يحقّق الوحدة التي تشترط في الاستصحاب من قبيل ما إذا فرضنا أنّ عقارب الساعة في دورانها و حركتها لها وقفات و سكنات ضئيلة لا ترى بالنظر السطحي، و بما أنّ هذه الوقفات و السكنات لا تلحظ عرفاً لا ترى الحركة إلّا واحدة ممتدة متّصلة، و بذلك تتحقّق الوحدة المعتبرة، و لا يتصوّر أنّ هذا من باب اشتباه العرف و خطئه في تشخيص المصداق، و هو غير متّبع، و إنّما المتّبع نظر العرف في المفاهيم، فإنّ هذه القاعدة لو سلّمت بشكل عام لا يسلّم بها في المقام بالخصوص؛ لأنّ اعتبار الوحدة في جريان الاستصحاب ليس من باب الفهم العرفي للوحدة و التعدد، حتّى لا يكون نظره محكّماً في تشخيص مصداقها، و إنّما هو بنكتة صدق مفهوم نقض اليقين بالشك عرفا.

3- الاتّصال الادّعائي العرفي، بأن يوسّع في المفهوم بحيث يعمّ تخلل العدم الواقع في البين الذي يدركه بنظره السطحي، ومنه مفهوم التكلم والخطابة، فانه يقال “خطب أو تكلّم فلان ساعة كاملة” مع أنّه إذا اريد استثناء الوقفات المتخللة لكان الزمان أقلّ من ساعة في المثال، فيكون لا محالة شيئاً واحداً عرفاً له حدوث و بقاء.

4- ما اذا كان يتكرّر العمل و لو بفواصل زمنية واسعة، غير أنّ التكرار المتواصل و التعاقب المستمرّ يؤدّي إلى أن يعتبر العرف وحدة بلحاظ هذه الوقائع المتعدّدة، يجعل لها حدوثاً واحداً و بقاءً لذلك الأمر الواحد، كما إذا اعتاد أن يباحث شخص في كلّ يوم، أو اعتاد على المشي فجر كلّ يوم، فإنّ زمن البحث أو المشي لا يقاس‏ بالزمن المتخلل بين البحثين و الواقعتين، لكنّه مع ذلك يرى العرف أن هنالك أمراً واحداً هو الدرس المستمر المتواصل، أو المشي كذلك، يعبّر عن ذلك بأنّه ما زال يدرس و أنّه باق على عمله و مشيه، وما قد يقال من أنّ استصحاب بقاء هذا البحث مثلًا معارض باستصحاب عدم البحث الثابت قبل هذا الوقت المعين أنّ الشي‏ء المشكوك لو كانت له حالة سابقة مركّبة، أي: كانت لحالته السابقة حالةٌ و صفةٌ سابقة أيضاً، يكون الجاري هو الاستصحاب بلحاظ تلك الحالة السابقة الثانية لا الاولى، ففي مثال الدرس و إن كانت الحالة السابقة قبل الدرس المشكوك هي العدم غير أنّ هذا العدم حالته سابقاً أنّه كان ينتقض بالوجود في كلّ يوم سابق و تخلل الوجود بين العدم في هذا اليوم و العدم في الأيّام السابقة لا يضرّ بالوحدة العرفية كما قلنا، فتكون الحالة السابقة المعتبرة في مثل هذا هي حالة انتقاض العدم بالوجود، لا حالة العدم، فلا معارضة في البين على شرح موكول إلى محلّ آخر.

فيتلخّص من كلّ ما ذكر: أنّ هنالك مناشئ اربعة لتحقّق الوحدة العرفية في الامور التدريجية، نعم ربما يعرض في البين مانع آخر يخل بالوحدة بنكتة مستقلّة، بحيث يحدث في البين عنوان جديد يرى أنّه موضوع آخر غير الأوّل و إن كان منشأ الوحدة بالنظر الدقّي موجوداً، مثلاً إذا انتقل الباحث إلى كلام آخر غير بحثي‏ كالمجاملات و التعارفات في المجلس بعد انتهاء البحث، فمثل هذه توجب أن يرى العرف انتهاء موضوع و بدء أمر و كلام جديد مستقل منفصل، فلا يجري الاستصحاب عند الشكّ في بقاء الحركة في كلام جديد مثلًا. فإنّ هذا يرى عند العرف فرداً جديداً يشكّ في حدوثه، و لا يرى نفس الأمر الأوّل و بقاءه، و لهذا يكون جريان استصحاب الحركة أو الكلام من استصحاب القسم الثالث من الكلي الذي لم يكن جارياً[14].

وفيه مع غمض العين عن المناقشة في مثال القسم الثاني بحركة عقربة الساعة حيث يلحظ العرف الوقفات المتخللة بالنظر العرفي الدقي غير المسامحي، وهو المعيار في حجية نظر العرف، أن ما ذكره من المنشأ الرابع لازمه الالتزام بأنه لو كان كل يوم في ساعة معينة يتصل الماء الكر بالمخزن الماء في البيت الذي هو اقل من الكر، أن يحكم بكرية ماء المخزن ولو مع الشك في يوم ما في اتصاله به او أنه لو كان من عادته أن يتوضأ كل ما أحدث او في كل يوم في ساعة معينة وشك في يوم في ذلك أن يحكم بطهارته، ومن البعيد الالتزام به، فان ما هو متيقن هو جريان العادة واستصحابه لا يثبت الوقوع في هذا اليوم.

نعم ذكر الشيخ الاعظم “قده” كلاما يستفاد منه أنه يوافق اجراء الاستصحاب في مثله، حيث قال: إذا ثبت في يومٍ وجوب فعل عند الزوال ثم شككنا في الغد أنه واجب اليوم عند الزوال فلا يحكمون باستصحاب ذلك و لا يبنون على كونه مما شك في استمراره و ارتفاعه بل يحكمون في الغد بأصالة عدم الوجوب قبل الزوال، أمّا لو ثبت ذلك مرارا ثم شك فيه بعد أيام فالظاهر حكمهم بأن هذا الحكم كان مستمرا و شك في ارتفاعه فيستصحب، و من‏ هنا ترى‏ الأصحاب‏ يتمسكون باستصحاب وجوب التمام عند الشك في حدوث التكليف بالقصر و باستصحاب وجوب العبادة عند شك المرأة في حدوث الحيض لا من جهة أصالة عدم السفر الموجب للقصر و عدم الحيض المقتضي لوجوب العبادة حتى يحكم بوجوب التمام لأنه من آثار عدم السفر الشرعي الموجب للقصر و بوجوب العبادة لأنه من آثار عدم الحيض بل من جهةكون التكليف بالإتمام و بالعبادة عند زوال كل يوم أمرا مستمرا عندهم و إن كان التكليف يتجدد يوما فيوما فهو في كل يوم مسبوق بالعدم فينبغي أن يرجع إلى استصحاب عدمه لا إلى استصحاب وجوده، و الحاصل أن المعيار حكم العرف بأن الشي‏ء الفلاني كان مستمرا فارتفع و انقطع و أنه مشكوك الانقطاع و لو لا ملاحظة هذا التخيل العرفي لم يصدق على النسخ أنه رفع للحكم الثابت أو لمثله فإن عدم التكليف في وقت الصلاة بالصلاة إلى القبلة المنسوخة دفع في الحقيقة للتكليف لا رفع، و نظير ذلك في غير الأحكام الشرعية ما سيجي‏ء من إجراء الاستصحاب في مثل الكرية و عدمها و في الأمور التدريجية المتجددة شيئا فشيئا و في مثل وجوب الناقص بعد تعذر بعض الأجزاء فيما لا يكون الموضوع فيه باقيا إلا بالمسامحة العرفية[15].

ومن جهة أخرى يرد على ما ذكره أخيرا أنه لا يتقوم المانع عن جريان الاستصحاب بتبدل العنوان بل يكفي تبدل الفرد عرفا كما في مثال فردين متصلين من الخطابة، وهذا الاستثناء الأخير يعني عدم اعطاء ضابط عام لصدق بقاء الفرد في الامر التدريجي نعم فهم منه امكان بقاءه بأحد المناشئ الاربعة.

الجواب السادس: ما ذكره بعض السادة الاعلام “دام ظله” من أن الاستصحاب في الامور التدريجية يتوقف على الوحدة فيها والوحدة إما وحدة حقيقية ناشئة من الاتصال، كما في الزمان، وبعض الحركات، وإما وحدة اعتبارية بين وجودات منفصلة، والوحدة الاعتبارية تنشأ من عدة امور:

1- وحدة العنوان، مثل قراءة القرآن، فلو بدأ بقراءة الشعر بعد انتهاءه من قراءة القرآن فالعرف لا يعتبرهما قراءة واحدة.

2- وحدة الداعي فلو كان داعي المتكلم من كلامه الوعظ ثم صار له داع الى تعقيبه بالبحث العلمي فلا يعتبرهما العرف تكلما واحدا.

3- وحدة المقتضي: فلو خرج الدم من رحم امرأة فلو تحول من نشوءه من عرق خاص منه الى نشوءه من عرق آخر فلا يعتبرهما العرف خروجا واحدا للدم ولذا يكون دم استحاضة بعد ما كان الدم الاول حيضا.

ثم قال: في مثال السفر ان كان الشخص في حال الحركة المستمرة التي لا توقف في أثناءها فوحدته حقيقية، وان كان له توقف في اثناءها فوحدته تكون اعتبارية ويختص اعتبار الوحدة له بوحدة الغرض والداعي فان علمنا بكون غرضه السفر من النجف زيارة الحسين (عليه السلام) ولكن احتملنا أنه بدا له أن يسافر من كربلا الى بغداد لغرض آخر فلا يجري استصحاب بقاء سفره، لأن هذا يعتبر سفرا جديدا فيكون استصحابه من استصحاب القسم الثالث من الكلي، كما افادة المحقق النائيني “قده”.

اقول: في مثال فردين من الخطابة، فوحدة العنوان ثابتة مضافا الى وحدة الداعي اذا كان له داع واحد عرفا الى المجموع، بل قد يكون الاتصال بين جزء من الخطابة الاولى والخطابة الثانية حقيقيا ولكن مع ذلك لا يصدق بقاء الفرد السابق من الخطابة وانما هو فرد جديد.

وأما مثال السفر فان اريد منه الابتعاد عن البلد فهو امر قار ولا ينثلم وحدته الا بالرجوع الى البلد، وان اريد منه طي المسافة فلا يصدق مع التوقف في الطريق، وهل ترى أنه لو ركب السيارة من النجف بقصد زيارة كربلاء من داخل السيارة من دون أن تتوقف ثم بدا له أن يذهب من كربلا الى بغداد فيصدق أنه سفر واحد ولكن لو مكث في كربلا يسيرا فهنا يلحظ العرف أنه هل كان داعيه من النجف الذهاب الى بغداد ام عرض له ذلك في كربلا؟، الانصاف أنه بعيد، والظاهر أن السفر بمعنى الابتعاد عن البلد ولذا نقول فيمن كان كثير السفر لو اقام في بلده مثلا عشرة ايام فحيث انه عند المشهور يقصر في سفره الاول مطلقا او في خصوص المكاري فذهابه وايابه يكون من السفر الاول، خلافا لما عن بضهم من كونه مسيرة ثمانية فراسخ الاولى او ما ذكره شيخنا الاستاذ “قده” من أنه لو كان له مقصد وغرض في اثناء الطريق فينتهي السفر الاول حين الوصول اليه.

فالانصاف عدم امكان اعطاء ضابط معين لصدق الوحدة في الامر التدريجي، نعم مع الاتصال الحقيقي فالوحدة ثابتة عادة، وكيف كان فلابد من احراز صدق الوحدة الفردية في اجراء الاستصحاب.

وكيف كان فبما ذكر اندفع الاشكال الاول على استصحاب الامور التدريجية، وهو دعوى تغاير المتيقن والمشكوك.

وأما الاشكال الثاني وهو معارضة استصحاب بقاء الامر التدريجي كالتكلم والمشي وجريان الماء وسيلان الدم مع استصحاب عدم ايجاده في الآن اللاحق، فجوابه أنه بعد وحدة الامر التدريجي حدوثا وبقاء، فلا يكون الشك الا في بقاء الفرد السابق، فلا معنى لاستصحاب عدم التكلم الزائد مثلا، فان ايجاد هذا الفرد من التكلم معلوم الحدوث وانما يشك في بقاءه، ولا يقاس المقام بمعارضة استصحاب عدم الجعل الزائد للحكم مع استصحاب بقاء المجعول، كما في الشك في بقاء نجاسة الماء بعد زوال تغيره بنفسه، فان جعل نجاسة الماء بعد زوال تغيره في عرض جعل نجاسة الماء حين تغيره، وليس في في طوله وبقاءً له، بخلاف ايجاد التكلم في الآن الثاني امتداد واستمرار لايجاد هذا التكلم في الآن الاول.

وقد يقال في ما اذا تخلل العدم بين اجزاء الامر التدريجي، كحركة عقربة الساعة، بأنه كما يمكن للعرف لحاظ حركتها كأمر تدريجي واحد فيستصحب بقاءها، كذلك يمكن له لحاظ السكون المتخلل فيستصحب هذا السكون، وكلا النظرين عرفييان وبذلك تتم المعارضة بينهما، ولكن يرد عليه أنه بعد أن كانت هذه الحركة بالنظر العرفي موجودا واحدا مستمرا فقد اشرب فيه هذه السكونات بحيث لا تتنافى عرفا مع الحركة العرفية فلا معنى لاتصاف عقربة الساعة بعدم الحركة العرفية حين ذلك السكون الدقي، وفرض اتصافها بعدم الحركة عرفا في ذاك الآن مساوق لتعدد الحركة فيرجع الى الاشكال الاول وهو تغاير المتيقن والمشكوك.

ثم انه ذكر صاحب الكفاية أنه اذا شك في كون الامر بالصلاة في النهار مثلا على نحو وحدة المطلوب بحيث يكون القضاء بامر جديد، او على نحو تعدد المطلوب، بحيث ينحل الى امر بطبيعي الصلاة وامر بالصلاة في النهار، فيكون القضاء بالامر الاول فيجري استصحاب بقاء كلي الوجوب بعد خروج الوقت، ووافقه السيد الخوئي “قده” في ذلك فقال: بناء على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية لا مانع من جريان هذا الاستصحاب، و الوجه في ذلك أن تعلق طبيعي الوجوب بالجامع بين المطلق و المقيد معلوم على الفرض، و التردد إنما هو في أن الطلب متعلق بالمطلق و إيقاعه في الزمان الخاصّ مطلوب آخر ليكون الطلب باقياً بعد مضيه، أو أنه متعلق بالمقيد بالزمان الخاصّ ليكون مرتفعاً بمضيه؟ و عليه فيجري فيه الاستصحاب، و يكون من القسم الثاني من أقسام استصحاب الكلي. و من ثمرات جريان هذا الاستصحاب تبعية القضاء للأداء و عدم الاحتياج إلى أمر جديد. و ليكن هذا نقضاً على المشهور، حيث إنهم قائلون بجريان الاستصحاب في الأحكام الكلية[16].

وفيه اولا: أن استصحاب بقاء الوجوب بعد خروج الوقت من قبيل استصحاب القسم الثالث من الكلي حيث يعلم بارتفاع الفرد المتيقن حدوثه وهو وجوب الفعل في الوقت ويشك في حدوث فرد آخر من الوجوب وهو وجوب طبيعي الفعل او وجوب اتيان الفعل خارج الوقت والصحيح عدم جريانه.

وثانيا: ما كنا نقول سابقا من أن استصحاب بقاء الوجوب بعد خروج الوقت لايثبت كون متعلقه طبيعي الفعل الا بنحو الاصل المثبت ومالم يثبت ذلك فلايصلح لتنجيز الاتيان بالفعل خارج الوقت لما مر في محله من عدم جريان استصحاب ما يكون جامعا بين ما يقبل التنجيز وما لايقبله، بل يجري البرائة عن وجوب طبيعي الفعل بلامعارض، فالمقام نظير ما لو علمنا اجمالا بعد اكرام زيد بانه إما كان يجب اكرامه او يجب اكرام عمرو، فان استصحاب بقاء وجوب احدهما اجمالا يكون جامعا بين ما يقبل التنجيز وهو وجوب اكرام عمرو وما لايقبله وهو وجوب اكرام زيد، حيث انه خرج عن محل الابتلاء باكرامه قبل زمان العلم الاجمالي.

وقد يخطر بالبال جواب عن هذا الايراد الثاني وهو أن العرف يرى معروض الوجوب ذات الصلاة فيقول ان الصلاة كانت واجبة في النهار ونشك بعد مضي النهار في وجوبها وان كان متعلق الجعل هو الصلاة في النهار فان المدار في متعلق الوجوب كموضوع الاحكام على معروض الحكم بالنظر العرفي دون مقام الجعل كما مر توضيحه في بحث الاستصحاب في الشبهات الحكمية.

التنبيه السادس: استصحاب الحكم التعليقي

قسموا استصحاب الحكم الى ثلاثة اقسام، ومنشأ التقسيم أن الشك في الحكم الشرعي تارة يرجع الى الشك في نسخ الجعل، فيكون الاستصحاب فيه جاريا في بقاء الجعل، وسيأتي الكلام فيه في التبيه الآتي حول استصحاب عدم النسخ، و أخرى يرجع الى الشك في سعة الحكم لفرض تبدل بعض حالات الموضوع، وحينئذ قد يفرض أن الحكم قد صار الحكم فعليا بتحقق الموضوع بجميع قيوده وقيود الحكم، ثم شك في بقاءه، فيجري استصحاب الحكم التنجيزي، بناء على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية، كما لو غلى العنب فصار شربه محرما ثم ذهب ثلثاه بنفسه لا بالنار، فشك في بقاء حرمته، وقد يفرض عدم صيرورة الحكم فعليا، وذلك فيما لم يتحقق جميع قيود الموضوع والحكم، وانما تحقق بعضها، ولكن علم بقضية تعليقية وهي أنه لو وجد القيد الذي لم يوجد فعلا لثبت الحكم، مثال ذلك أنا كنا نعلم بأن العالم يجب اكرامه لو كان عادلا، ثم طرأت حالة عليه شككنا في بقاء هذه الملازمة بين ثبوت عدالته ووجوب اكرامه، كما لو ابتلي زيد العالم بمرض النسيان، فيشار الى زيد فيقال: انه كان يجب اكرامه لو صار عادلا، ونشك الآن في أنه لو صار عادلا فهل يجب اكرامه، فنستصحب بقاء ذلك، بناء على جريان استصحاب الحكم التعليقي، ونتيجته الحكم بوجوب اكرامه بعد صيرورته عادلا، وقد توجد هذه القضية التعيلقية في نفس الخطاب الشرعي، كما لو قال الشارع “العالم يجب اكرامه ان كان عادلا” وهذا هو القدر المتيقن من جريان استصحاب الحكم التعليقي، وقد تكون مجرد انتزاع عقلي، كما لو قال الشارع “يجب اكرام العالم العادل”، حيث يتنزع من ثبوت الحكم لكل موضوع مركب أنه لو انضم الجزء الثاني الى الجزء الاول ثبت الحكم، وهل قوله “العالم ان كان عادلا فيجب اكرامه” او قوله “ان كان العالم عادلا فأكرمه” من قبيل الاول او الثاني، فيهما كلام سيأتي بيانه.

وقد مثلوا للاستصحاب التعليقي باستصحاب الحرمة المعلقة على الغليان، كما لو قال الشارع “العنب يحرم اذا غلى” حيث ان هذا الحكم متيقن الحدوث في العنب، ومشكوك البقاء في حال صيرورته زبيبا، فيكون استصحاب بقاء هذا الحكم من استصحاب الحكم التعليقي وقد وقع فيه النزاع، نعم لو كانت الشبهة موضوعية بأن شككنا في تبدل حالة عنبيته فيجري الاستصحاب الموضوعي لبقاء عنبيته بلا اشكال ويثبت به حرمته بعد غليانه.

ولا يخفى أن هذا المثال مجرد فرض فقهي لا واقع له، فان الوارد في الروايات أن العصير اذا غلى حرم، والزبيب لم يكن عصيرا في زمان، نعم يمكن التمثيل للاستصحاب التعليقي باستصحاب كون الماء طهورا، فانه يعني انه اذا غسل به المتنجس لطهر، او استصحاب جواز البيع وضعا فانه يعني انه لو تحقق البيع لكان نافذا.

وكيف كان فالمشهور قبل المحقق النائيني “قده” كان جريان هذا الاستصحاب، لكن المحقق النائيني ناقش في جريانه لعدم تمامية اركان الاستصحاب فيه، كما ناقش جمع فيه لأجل معارضته مع استصحاب ضده التنجيزي، كمعارضة استصحاب الحلية الثابتة قبل غليان الزبيب مع استصحاب الحرمة المعلقة على الغليان، فيقع الكلام فی مقامین: المقام الاول: في جريان استصحاب الحكم التعليقي في نفسه، والمقام الثاني: في ابتلاءه بالمعارضة.

أما المقام الاول: فقد ذكر المحقق النائيني “قده” -وتبعه في ذلك السيد الخوئي وشيخنا الاستاذ “قدهما”- أن استصحاب الحكم التعليقي حيث يكون راجعا الى استصحاب بقاء المجعول، لعدم كون الشك في النسخ حتى يجري استصحاب بقاء الجعل، فيختل ركن اليقين بالحدوث في جريان استصحاب بقاء المجعول، اذا ما لم يتحقق جميع قيود الحكم فلا يتحقق المجعول، ولا يصير الحكم فعليا، فان قيود الحكم كلها راجعة في مقام الثبوت إلى موضوع الحكم، فان القيد إما أن يفرض وجوده في مقام جعل الحكم، فيكون ثبوت الحكم متوقفا على وجوده، وهذا هو الموضوع، وإما لا يفرض وجوده بل يطلب ايجاده او تركه فيكون من قيود المتعلق، وفي هذا الفرض لا يتوقف وجود الامر والنهي على تحققه، بل يكون الامر بداعي ايجاده والنهي بداعي تركه، ولا ريب في عدم كون الغليان في قوله “العنب يحرم اذا غلى” من هذا القبيل، فيكون راجعا الى موضوع الحرمة، ويكون مآله الى أنه اذا وجد العنب ووجد غليانه فيثبت حرمة شربه، وعليه فلا فرق ثبوتي بينه وبين قوله “العنب المغلي حرام” والذي يكون مآله الى قضية شرطية مفادها أنه “اذا وجد العنب المغلي فيحدث حرمة شربه، فتحصل مما ذكر عدم جريان الاستصحاب التعليقي، لعدم تمامية اركانه.

نعم يوجد يقين سابق بالملازمة بين غليان العنب وحرمته او فقل بسببية غليان العنب للحرمة، وهذه الملازمة او سببية الغليان للحرمة ليست معلقة على تحقق الغليان في الخارج، لأن الملازمة او السببية منتزعة من جعل الشارع حرمة العنب إذا غلا، والجعل ثابت ولو لم يتحقق الموضوع، ولكن اثبات الحرمة به من الاصل المثبت[17].

وقد اورد على هذا البيان عدة ايرادات:

الايراد الاول: ما ذكره السيد الحكيم “قده” من أن ما استشكل بعض الأعاظم من مشايخنا -اي المحقق النائيني “ره”- على الاستصحاب التعليقي فيما إذا ورد في لسان الشارع “العنب إذا غلى يتنجس” (من أن الشرط المنوط به النجاسة وهو الغليان في المثال المذكور راجع في الحقيقة إلى قيد الموضوع، و مرجع قولنا “العنب إذا غلى تنجس” الى قولنا “العنب المغلي نجس” فاذا وجد العنب، و لم يغل فلا وجود للحكم لانتفاء موضوعه بانتفاء قيده فلا مجال لاستصحابه) يرد عليه أن إرجاع القضايا الشرطية إلى القضايا الحملية، للبرهان القائم على أن موضوعات الاحكام علل تامة لها- لو تمَّ في نفسه- لا يتضح ارتباطه بما نحن فيه، ضرورة أن المدار في صحة جريان الاستصحاب على المفاهيم التي هي مفاد القضايا الشرعية، سواء أ كانت نفس الأمر الواقعي، أم لازمه، أم ملازمه، أم ملزومه، و لذلك يختلف الحال في جريان الاستصحاب و عدمه، باختلاف ذلك الأمر المتحصل. مثلا: لو كان الدليل قد تضمن أنه إذا وجد شهر رمضان وجب الصوم، جرى استصحاب رمضان عند الشك في هلال شوال، و كفى في وجوب الصوم يوم الشك. و لو كان الدليل تضمن وجوب الصوم في رمضان، لم يجد استصحاب شهر رمضان في وجوب صوم يوم الشك، لأنه لا يثبت كون الزمان المعين من شهر رمضان، فهذا المقدار من الاختلاف في مفهوم الدليل كاف في تحقق الفرق في جريان الاستصحاب و عدمه، مع أنه- في لب الواقع و نفس الأمر- لابد أن يرجع المفاد الأول الى الثاني لأنه مع وجود شهر رمضان لا يكون الصوم في غيره، و لا بد أن يكون فيه، و كذلك مثل “إذا وجد كر في الحوض” و “إذا كان ما في الحوض كراً” فإن الأول راجع الى الثاني، و مع ذلك يختلف الحكم في جريان الاستصحاب باختلاف كون أحدهما مفاد الدليل دون الآخر، فالمدار في صحة الاستصحاب على ما هو مفاد القضية الشرعية، سواء ا كان هو الموافق للقضية النفس الأمرية أم اللازم لها أم الملازم.

نعم لو كان المراد من الإرجاع إلى القضية الحملية، كون المراد من القضية الشرطية هو القضية الحملية- مجازاً أو كناية- على نحو لا يكون المراد من الكلام إلا مفاد القضية الحملية، كان لما ذكر وجه. لكن هذا خلاف‌ الظاهر، و كيف يمكن دعوى أن معنى قولنا “العنب إذا غلى يتنجس” هو معنى قولنا: “العنب المغلي نجس” مع وضوح الفرق بين العبارتين مفهوما، وعليه فلا مانع من من جريان الاستصحاب التعليقي في المثال الاول بخلاف المثال الثاني[18] وامكان فرض قضية تعليقية فيه بأن يقال “العنب لو انضم اليه الغليان تنجس” لا يفيد، فانه مضافا الى كونه لازما عقليا، يكون مقطوع البقاء، في كل مركب وجد أحد جزئيه، لا أنه مشكوك‌ كي يجري فيه الاستصحاب.[19].

و فيه أن مقصود المحقق النائيني هو كون مآل هاتين القضيتين في مقام الجعل الى شيء واحد، حيث ان قيد الحكم راجع فی مقام الجعل الى الموضوع، وان اختلف عن موضوع الخطاب، فان کل قید في الخطاب المتضمن للحكم إما أن يؤخذ مفروض الوجود في مقام الجعل، فيكون من قيود موضوع الحكم، حيث يكون ثبوت الحكم على تقدير وجوده، فلا يثبت قبله، وإما أن لا يؤخذ مفروض الوجود بل يكون مما يقتضي الحكم تحصيله فيكون من قيود متعلق التكليف، حيث يكون التكليف ثابتا قبله فيقتضي ايجاده مقدمةً لتحصيل الواجب وهو المقيد بهذا القيد كالصلاة مع الطهارة، وحيث ان الغليان ليس من قبيل الثاني فينحصر كونه من قبيل الاول، فيكون مآل قوله “العنب يحرم اذا غلى” الى قوله “العنب المغلي حرام” فما لم يحصل الغليان لم يتحقق الحكم الشرعي وهو الحرمة، نعم الاختلاف بين القضيتين بلحاظ عدم كون الغليان مأخوذا في موضوعا في الخطاب، بل كان شرطا معلَّقا عليه ثبوت الحرمة للعنب، مؤثر في ما يتعلق بشؤون الخطاب، كثبوت مفهوم الشرط للجملة الاولى دون الثانية، واين هذا من الاختلاف بين قوله “اذا كان شهر رمضان فيجب الصوم” و قوله “صم في شهر رمضان” او الاختلاف بين قوله “اذا كان ماء كر في الحوض فتصدق” وبين قوله “اذا كان ماء الحوض كرا فتصدق” فانه اختلاف في كيفية الجعل، وليس مجرد اختلاف في التعبير، فالقياس مع الفارق.

وأما ما ذكره في مثال “العنب المغلي نجس” فيسأتي الكلام فيه.

الايراد الثاني: ما ذكره ايضا ومحصله أن الاشكال انما يتوجه لو قلنا بأن وجود الشرط خارجا هو الذي انيط به الحكم، فلا حكم قبل وجوده حتى يستصحب، لكن الحكم منوط بوجوده اللحاظي، والا يلزم التفكيك بين الجعل و المجعول، الذي هو أوضح فساداً من التفكيك بين العلة و المعلول، لأن الجعل عين المجعول حقيقة، و انما يختلف معه اعتبارا فيلزم من وجود الجعل بدون المجعول التناقض، فعليه لا مانع من الاستصحاب، لليقين بثبوت الحكم، و الشك في ارتفاعه، و كون المجعول حكما منوطا بشي‌ء لا يقدح في جواز استصحابه بعد ما كان حكما شرعياً و مجعولا مولويا[20].

وفيه أن الوجود اللحاظي للشرط فانيا في الخارج وان كنا هو الذي يناط به الجعل والمجعول بالذات، الا أن المجعول بالعرض الذي له وجود وهمي عرفي منوط بتحقق موضوعه، نظير ملكية الموصى له لمال الموصي حيث انها متوقفة على وفاته حسب انشاء الموصي نفسه، فلا توجد قبل وفاته، ولا يلزم من ذلك محذور انفكاك الجعل عن المجعول بالذات والذي يعني كون الجعل بلا مجعول بالذات، والا فما ذا يقول في مثال “العنب المغلي نجس” حيث قبل أن وجود الحكم فيه متوقف على وجود الغليان، والمفروض ان المحقق النائيني “قده” يدعي ان مآل “العنب اذا غلى تنجس” اليه.

الايراد الثالث: ما ذكره المحقق العراقي “قده” كنقض على المنع من جريان استصحاب الحكم التعليقي، من أنه بناء على اعتبار لزوم كون الحكم المستصحب فعليا شاغلا لصفحة الوجود خارجا، فيلزم عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية أيضا قبل وجود موضوعاتها فيما لو شك فيها لأجل احتمال نسخ أو تغيير بعض حالات الموضوع، مع أن المستشكل المزبور -اي المحقق النائيني “قده”- ملتزم بجريانه في الأحكام الكلية قبل وجود موضوعاتها، و بالجملة احتياج الاستصحاب في جريانه إلى وجود الموضوع خارجا بما له من الاجزاء و القيود يستلزم المنع عنه حتى في الأحكام الكلية قبل تحقق موضوعاتها سواء كان الشك فيها من جهة الشك في النسخ أو من جهة أخرى[21].

وهذا لا يخلو من غرابة، فان الفقيه حينما يجري الاستصحاب في الحكم الكلي كنجاسة الماء الذي زال تغيره يلحظ الوجود العنواني للماء المتغير بالفعل مع توفر جميع القيود الدخيلة في حدوث نجاسته، وان لم يوجد بالفعل خارجا، فيرى ثبوت النجاسة له، ثم يفرض زوال التغير مثلا فيش في بقاء نجاسته فيستصصحبها، واين هذا من الاستصحاب التعليقي الذي لا معنى لأن يفرض الفقيه في الحالة السابقة المتيقنة تحقق جميع قيود الحرمة او النجاسة ومنها الغليان، اذ المفروض ان العنب في الاستصحاب التعليقي لم يغلِ في حال عنبيته ابدا.

واغرب من ذلك نقضه باستصحاب عدم النسخ، فانه استصحاب في بقاء الجعل، ومن الواضح أن تمامية اركان الاستصحاب في الجعل من اليقين بحدوثه والشك في بقاءه لا يتوقف على لحاظ حدوث الموضوع وبقاءه، وان كان استصحاب بقاء المجعول بحاجة اليه كما في استصحاب نجاسة الماء بعد زوال تغيره.

الايراد الرابع: ما ذكره المحقق العراقي “قده” ايضا ويختص باستصحاب الحكم التكليفي دون الحكم الوضعي كقوله “العنب اذا غلى تنجس” ومحصله أنه يوجد فرق بين القيد الراجع إلى الحكم و التكليف، و بين القيد الراجع إلى موضوعه، فان‏ الاول شرط في أصل الاحتياج إلى الشي‏ء و اتصافه بكونه صلاحا، و بذلك يكون من الجهات التعليلية لطرو الحكم على الموضوع، بخلاف الثاني، فان دخله انما يكون في وجود ما هو المتصف بكونه صلاحا و محتاجا إليه فارغا عن أصل اتصافه بكونه صلاحا، و من الواضح حينئذ أنه لو ثبت في موردٍ قيدية شي‏ء للوجوب الذي هو مفاد الخطاب في الواجبات المشروطة لا يكون صالحا لأن يكون قيدا لموضوعه، لاستحالة تقييد الموضوع بحكمه أو بعلل حكمه، نعم تقييد الحكم به موجب لضيق قهري في موضوعه، للزوم تطابق سعة دائرة كل حكم مع موضوعه، كما هو الشأن في كل معروض بالنسبة إلى عرضه، و لكنه غير تقييده به، فإرجاع قيد الحكم الى الموضوع، ناشٍ عن الخلط بين نحوي القيد في كيفية الدخل في مصلحة المتعلق.

وذكر ايضا ان حقيقة الحكم التكليفي المستفاد من الخطابات الشرعية ليست إلّا الإرادة المبرزة، فالحكم التكليفي أجنبي عن الامور الاعتبارية والجعلية، بخلاف الحكم الوضعي كالملكية و الزوجية و نحوهما، فان روح الجعل في الحكم الوضعي عبارة عن تكوين حقيقته بالإنشاء و القصد، و بما ذكرناه انقدح أن ما اشتهر في بعض الأذهان من أن الأحكام التكليفية من سنخ القضايا الحقيقية التي تكون فرض وجود الموضوع فيها موجبا لفرض الحكم، فلا يكون الحكم فيها فعلياً الا في ظرف فعلية موضوعه بقيوده مما لا أساس له، وعليه فمرجع الإناطة و الاشتراط في الاحكام التكليفية إلى اشتياق فعلى منوط بوجود الشرط في لحاظ المولى، لا إلى اشتياق تقديري، نعم ما لم يتحقق هذا الشرط خارجا لا يكون لارادة المولى محركية وفاعلية نحو اتيان العبد بالفعل، وعليه فلا قصور في جريان الاستصحاب التعليقي في الحكم التكليفي المشروط ولو قبل وجود شرطه خارجا، لكونه فعليا ولو قبل وجود شرطه، من غير فرق بين أن تكون الإناطة و التعليق فيه بوجود موضوعه، أو بأمر خارج عنه، فلو علم حينئذ بترتب الحرمة على العنب في ظرف غليانه أو على العنب المغلي، فشك بعد تبدله بالزبيب قبل غليانه في بقاء تلك الحرمة الثابتة للعنب على تقدير غليانه، يجري فيها الاستصحاب لا محالة، بعد جعل وصف العنبية و الزبيبية من حالات الموضوع لا من مقوماته[22].

وفيه اولاً: أن قيد الحكم ليس دائما شرط الاتصاف، فقد يكون شرط الاستيفاء كالقدرة او يوجد مانع عن التكليف من غير ان يكون مانعا عن الاتصاف بالمصلحة كالحرج فيقيد التكليف بعدمه، فلا يتم ما افاده باطلاقه في قيد الحكم باطلاقه، كما أنه لا يتم ما ذكره في قيد الحرمة، اذ يرجع دائما الى تضييق متعلق الحرمة، فقوله “العنب يحرم اذا غلى” ابراز لتعلق بغض المولى بحصة خاصة من الشرب وهو شرب العنب المغلي.

وثانيا: ان فعلية ارادة المولى ولو قبل تحقق الموضوع خارجا لا تعني الا تعلق ارادته بالعنوان الكلي، فحينما يقول المولى “المكلف يحج ان استطاع” فارادته متعلقة بحج المكلف المستطيع، فاذا احتملنا أن الشيخ الكبير السن اذا استطاع لا يجب عليه الحج، فكيف نستصحب بقاء ارادة المولى لصدور الحج منه، بعد أن كنا نحتمل أنه كان يريد الحج من الشاب المستطيع، وهذا لم يكن شابا مستطيعا في زمانٍ، فلم يرد المولى منه الحج في شبابه لعدم استطاعته آنذاك، والحاصل أن ارادة المولى كالجعل وان كانت موجودة، لكن لا نشك في بقاء ارادته الكلية حيث لا نحتمل النسخ، وانما نشك في شمول ارادته للمكلف الذي لم يصر مستطيعا الا بعد شيخوخته، وليس له حالة سابقة الا بنحو القضية التعليقية، بأن نقول: ان الله كان يريد من المكلف حينما كان شابا أن يحج ان استطاع فاذا صار شيخا نستصحب ذلك، لكن مدعى المحقق النائيني أن مآل هذا التعبير ثبوتا الى القول بأن الله يريد الحج من الشاب المستطيع، والمفروض عدم استطاعة هذا المكلف الا بعد شيخوخته.

كما أنه اذا اراد المولى من عنده اكرام العالم اذا كان عادلا، فمصب ارادته اكرام العالم العادل، من لم يصر عادلا الا بعد ان زال علمه، لا يعلم بسبق شمول ارادة المولى لاكرامه، حتى يستصحب.

وهكذا في المحرمات فاذا قال المولى “العنب يحرم اذا غلى” فمصب كراهة المولى شرب العنب المغلي، فاذا صار العنب زبيبا فلابد من استصحاب كونه مكروها، ولكن لا حالة سابقة وجودية له لأنه لم يكن مغليا حال عنبيته، وأما بقاء الكراهة الكلية فهو معلوم لعدم احتمال النسخ.

الايراد الخامس: ما ذكره المحقق العراقي “قده” في المقالات، من أن يقين الشخص بالملازمة بين الغليان والحرمة مثلا مستتبع لليقين بوجود الحرمة نعم هذا ليس يقينا مطلقا بل يقين منوط بلحاظ الغليان، كما هو الشأن في جميع موارد اليقين بالملازمة او الاخبار بها حتى في التكوينيات، فمثلًا حينما يقول: إن طلعت الشمس فالنهار موجود، فالمخبر به هو وجود النهار في فرض طلوع الشمس، فكأنه قال: اعلم في فرض طلوع الشمس بوجود النهار، و توهم أنّ ذلك إخبار عن الملازمة بين طلوع الشمس و وجود النهار، غلط واضح، بل هو إخبار عن وجود النهار، نعم هذا ليس إخباراً مطلقا عنه، وانما هو اخبار منوط بلحاظ طلوع الشمس، دون وجوده الخارجي لتحقق الاخبار ولو لم يطلع الشمس، كما أن طلوع الشمس ليس قيداً في المخبر به، بأن يخبر عن وجود النهار المقيد بطلوع الشمس، و إلّا لكان‏ إخباراً عن وجود المقيّد و القيد، فيلزم منه كذب الاخبار عن فساد السموات والارض عند تعدد الآلهة، فانحصر كونه بوجوده اللحاظي في ذهن المخبر والمتيقن قيدا للاخبار واليقين‏.

والحاصل أن اليقين -بالحرمة- المنوط والمشروط بالغليان الذي لحقه الشك المنوط والمشروط مشمول لعموم النهي عن نقض اليقبن بالشك، فيجري فيه الاستصحاب المنوط والمشروط بالغليان، نعم هذا البيان مبني على تعلق النهي بنقض اليقين دون ما لو اريد منه ترتيب آثار المتيقن.

ولا يخفى أنّ مثل هذا البيان أيضا جارٍ في التعليقات الخارجية غير الشرعية التي يكون الأثر الشرعي فيها مترتبا على الوجود المنوط، و ربّما يتفرع على مثل هذا البيان الحكم بوجوب التيمم في فرض كون الشخص مقرونا بوجود ماء و واجدا لمائع آخر شك في إضافته على وجه ليس له حالة سابقة، ثم فقد الماء الأوّل، فان مقتضى الاستصحاب التعليقي هو الحكم بفقدان الماء على تقدير تلف الماء الأوّل قبل حصول مشكوك المضافية، و الآن كما كان فيترتب عليه حكم الفقدان من صحة تيممه[23].

و فيه أنه لا يعقل معنى آخر للعلم بوجود النهار في فرض طلوع الشمس الا العلم بالملازمة بين وجود النهار وطلوع الشمس، والا فأي معنى لأن يكون الانسان عالما في الليل بوجود النهار علما مشروطا بطلوع الشمس، نعم العلم بالملازمة يجعل الانسان بحيث كلما علم بالملزوم اي طلوع الشمس فيتولد له منهما العلم باللازم، وهو وجود النهار، والحاصل أنه لا معنى لكون العلم كأي وجود تكويني آخر مشروطا بشيء عدا كون ذلك الشيء من اسبابه ودخيلا في وجوده، وسبب العلم باللازم كوجود النهار ليس هو واقع طلوع الشمس حتى يناط به، وانما هو العلم بطلوع الشمس بضم العلم بالملازمة بينهما، فالعلم بالحرمة في مثال “العنب يحرم اذا غلى” يكون منوطا بالعلم بالغليان والعلم بالملازمة بينه وبين الحرمة، فما هو موجود فعلا قبل العلم بالغليان انما هو العلم بالملازمة و كذا العلم بأنه لو علم بالغليان فسوف يحصل له العلم بالحرمة، وأما العلم الفعلي بالحرمة قبل الغليان فغير معقول.

الايراد السادس: ما ذكره المحقق الأصفهاني “قده” فانه -بعد ما نقل عن حاشية المحقق الخراساني “ره” على الرسائل أن القيد إذا كان راجعاً إلى المادة بأن كان العنب المغلي حراماً، فالأمر في صحة الاستصحاب أوضح، إذ لا تقدير للحكم بل للموضوع- قال: انَّ حرمة العنب المغلي مجعولة على نهج القضية الحقيقية لا الخارجية، و هذا يعني انها مجعولة على الافراد المقدرة الوجود، فالحرمة فعلية على العنب المغلي المقدر، فكلما تكون الافراد الخارجية للغليان مشمولة للحكم كذلك تكون افراده المقدرة مشمولة للحكم، فنستصحب تلك الحرمة الجزئية الثابتة بلحاظ الغليان المقدر الوجود، فتدبره فانه حقيق به[24].

اقول: نعم هذا مقصود المحقق الخراساني، بل صريح كلامه حيث انه بعد ما اجرى استصحاب الحكم التعليقي في مثل “العنب يحرم اذا غلا” قال: لو كان القيد راجعاً إلى الموضوع بأن يكون العنب المغليّ حراماً، فالأمر في صحّة الاستصحاب أوضح، لأنّه يكون استصحاباً لما ثبت من الحكم التنجيزي للمغليّ من‏ العنب، غاية الأمر انه لم يوجد سابقاً، لكنّه كان بحيث لو وجد كان متّصفاً به بالفعل[25]،

ولكن يرد عليه أن معنى كون القضية الحقيقية شاملة للأفراد المقدرة كقولنا “النار حارة” أن المحمول شامل لكل ما فرض كونه مصداقا لموضوعه، فاذا كان الموضوع للحرمة “العنب المغلي” فيلحظ الموضوع فانيا فيما لوحظ كونه عنبا مغليا، ولا نشك في حرمته حتى نحتاج الى الاستصحاب، واين هذا من اثبات الحرمة لعنب لم يغلِ حال عنبيته ابدا.

وما في البحوث من أن المحقق الخراساني فرض كون العنب المغلي متعلق المتعلق، بأن تكون الحرمة فعلية ولو قبل وجود العنب المغلي وانما تعلقت الحرمة بحصة خاصة من الشرب، وهي شرب العنب المغلي، فيجري استصحاب بقاء هذه الحرمة بعد صيرورة العنب زبيبا، إلّا انه كما أشار بنفسه يكون من الاستصحاب التنجيزي لا التعليقي[26]، ففيه -مضافا الى عدم قرينة في عبارة حاشية الرسائل على ما ذكر- أن صيرورة العنب المغلي قيدا في متعلق الحرمة لا توجب تحسن حال الاستصحاب فيه بل يصير اسوء، اذ لا تتم اركان استصحاب بقاء المجعول فيه، فان شرب العنب المغلي معلوم الحرمة حدوثا وبقاء، وشرب الزبيب المغلي مشكوك الحرمة حدوثا، ولو كان حراما لكان حراما آخر في عرض الاول ولم يكن بقاء له.

فلابد أن يتشيث بذيل استصحاب قضية تعليقية وهي أن هذا كان يحرم شربه على تقدير غليانه، فيكون من الاستصحاب التعليقي.

الايراد السابع: ما يقال من أن البرهان الذي أقامه المحقق النائيني “قده” على كون قيد الحكم قيد موضوع الجعل بمعنى أخذه مفروض الوجود في مقام ترتب الحكم عليه فلا يثبت الحرمة قبل وجود الغليان وان كان تاما، لكن لا دليل على لزوم اخذ جميع القيود مفروضة الوجود في عرض واحد فيمكن للمولى أن يلحظ غليان العنب مفروض الوجود ويلحظ ثبوت الحرمة بعد تحقق الغليان وبذلك تتشكل جملة “حرام اذا غلا” ثم يلحظ العنب مفروض الوجود في مقام اعتبار مفاد هذه الجملة له، فصارت الحرمة المعلقة على وجود الغليان معتبرا شرعيا ثابتا لكل عنب، ولو لم يكن مغليا، فيجري استصحابه على وزان استصحاب المجعول، وهذا بخلاف ما اذا لوحظ القيدان في عرض واحد كما في قوله “العنب المغلي حرام” او قوله “اذا وجد العنب ووجد غليانه فهو حرام”.

وهذا التفصيل قد صرح به في البحوث، وذكر ان الفارق على هذا المبنى ليس هو ما يظهر من جماعة كالسيد اليزدي والسيد الحكيم “قدهما” من التفصيل بين الجملة الشرطية والحملية، وانما هو طولية القيدين وعرضيتهما، فيجري الاستصحاب التعليقي في مثال “العنب يحرم المغلي منه” مع كونه قضية حملية، لظهوره في طولية القيدين، كما يجري في مثال “العنب اذا غلى حرم” لظهوره في كون العنب موضوعا لقضية شرطية وهي أنه اذا غلا حرم[27].

ويؤيده ما يقال من اباء العرف عن المنع من شمول دليل الاستصحاب لاستصحاب طهورية الماء او الجواز الوضعي للبيع، او نفوذ الوصية اذا طرات حالة في حال حياة الموصي اوجبت الشك في بقاء نفوذ وصيته، مع عدم ترتب اثر فعلي على الوصية الا بعد وفاة الموصي، مع أن هذه الاستصحابات تعليقية لكن بنحو طولية القيدين، ولذا التجأ شيخنا الاستاذ “قده” الى أن يقول ان استصحاب مطهرية الماء استصحاب تنجيزي كاستصحاب ضمان الغاصب وان كان ذات الحكم بالطهرية مستبطنا لامر تعليقي وهو أنه اذا غسل المتنجس به طهر، كما أن الضمان مستبطن للحكم باشتغال الذمة بالبدل على تقدير التلف، مع أنا لم نجد لهذه الدعوى معنى واضحا.

وقد يورد عليه عدة ايرادات:

1- ما ذكره بعض السادة الاعلام “دام ظله” من أن مفاد الجملة الشرطية في مثل قولنا “العنب اذا غلى حرم” هو تعليق ثبوت الحرمة للعنب على غليانه ومفهومه انتفاء الحرمة عن العنب عند انتفاء غليانه، فلا تدل على ثبوت حرمة معلقة على الغليان لمطلق العنب.

وفيه أنه لا يرى اي مانع ثبوتي من جعل الرمة المعلقة على الغليان لطبيعي العنب، وهذا لا ينافي كون الحكم المجعول اولا وبالذات هو الحرمة لكن الحرمة المعلقة على الغليان ايضا يصح أن يرى مجعولا ثابتا لطبيعي العنب.

2- ما ذكره بعض الاعلام في تعليقة البحوث من أن الحكم التكليفي ابراز لارادة المولى وكراهته، فما يكون داخلا في عهدة المكلف ويكون هو الصالح للتنجز هو ارادة المولى وكراهته، وتغيير كيفية التقييد التي هي مجرد تلاعب بالاعتبار والانشاء لا يغير من ذلك فقد تعلقت كراهة المولى بشرب العنب المغلي على تقدير وجود قيد العنبية والغليان، ومعه فيتم اشكال المحقق النائيني “قده” على الاستصحاب التعليقي بهذا اللحاظ[28].

وفيه اولا: انه اخص من المدعى، لعدم ورود هذا الاشكال في الحكم الوضعي، كما في مثال استصحاب المطهرية والجواز الوضعي.

وثانيا: لنا أن نمنع من عدم امكان اختلاف صياغة ارادة المولى وكراهته، حسب مشية المولى، بعد أن لم يكن المراد منهما الحب والبغض غير الاختياريين، بل تعلق غرض المولى بفعل العبد او تركه، ومطالبة العبد بذلك وتحميله المسؤولية عنه، فيتعلق غرضه بأن يكون المكلف يأتي بالحج لو استطاع، ويجتنب عن شرب العنب اذا غلى، وهكذا.

وثالثا: انه اذا صار الحكم الانشائي ان كل عنب محكوم بانه يحرم اذا غلا فهذا يوجب تمامية اركان الاستصحاب في هذا الحكم الانشائي وبذلك يثبت الحرمة المعلقة على الغلثيان للزبيب، فيكون ذلك منجزا لكراهة المولى بالنسبة اليه، وان لم يتم اركان الاستصحاب بلحاظ عالم الارادة والكراهة.

3- ما يقال من ان ما يقبل التنجيز انما هو الحكم الفعلي، والمفروض أنه ما لم يتحقق الغليان لا تكون الحرمة فعلية بل تبقى مشروطة، و إثبات فعلية الحرمة بعد تحقق الغليان باستصحاب الحرمة المشروطة بالغليان اصل مثبت، لكونه لازما عقليا له، فانه من اثبات وجود الجزاء عند احراز تحقق الشرط باستصحاب الملازمة بين الشرط والجزاء.

و قد أجاب عنه في البحوث أولاً: انَّ دليل الاستصحاب إذا بنينا على تكفله لجعل الحكم المماثل كان مفاده في المقام ثبوت حكم مشروط ظاهري، و تحول هذا الحكم الظاهري إلى فعلي عند وجود شرطه لازم عقلي لنفس التعبد الظاهري المذكور لا للمستصحب، وهذا ليس من الاصل المثبت.

و ثانياً: بالنقض بموارد استصحاب بقاء الجعل و عدم النسخ عند الشك فيه مع انَّ المستصحب فيه القضية الحقيقية الشرطية و التي لا تتحول إلى الحكم الفعلي عند وجود شرطها إلّا بناءً على الأصل المثبت.

و ثالثاً: بالحل بأنَّ هذا الاعتراض نشأ من تصور أنَّ فعلية المجعول أمر يتحقق وراء مرحلة الجعل، و أنَّ المنجز عقلًا انَّما هو إحراز المجعول الفعلي، مع انه قد تقدم انه لا واقع حقيقي وراء الجعل و انَّ مرحلة فعلية المجعول مرحلة وهمية تصورية تنشأ من ملاحظة الجعل بمنظار الحمل الأولي، و انَّ التنجيز يكفي فيه إيصال الحكم المشروط مع إحراز الشرط لأنَّ وصول الكبرى و الصغرى معاً كاف لحكم العقل بوجوب الامتثال فكلما كان أحدهما محرزاً صحّ إحراز الآخر بالتعبد لترتب التنجيز عليه بحسب الفرض[29].

اقول: الانسب أن يقال ان اللازم العرفي للتعبد الظاهري بالحكم التعليقي المجعول شرعا كمطهرية الماء او الحرمة المعلقة على الغليان هو التعبد الظاهري بنتيجته وهو ثبوت الحكم التنجيزي عقيب حصول المعلق عليه، كطهارة المغسول به او حرمة الزبيب بعد غليانه، وليس مجرد لازم عقلي له.

ولولا هذا الجواب كان يمكن الاعتراض على جوابه الاول بعدم ملائمته مع ما تكرر منه من أن شمول عموم الدليل لموردٍ ان كان بحاجة الى التعبد بلازم عقلي له فلا يمكن التمسك بعمومه لاثباته، خصوصا بعد أن كان صدق نقض اليقين بالشك عليه موقوفا على التعبد بلازمه، بينما أن التعبد بلازمه فرع صدق نقض اليقين بالشك، وسيأتي قريبا أنه اشكل بمثل هذا الاشكال على المحقق العراقي حيث ذكر أن لازم استصحاب السببية التعبد بالمسبب.

كما يعترض على جوابه الثاني بأنه يري أن المستصحب في الجعل هو الجعل بمعنى المجعول الكلي الذي يرى وصفا للموضوع فيقال العنب المغلي كان حراما في ابتداء الاسلام والآن كما كان، على أن استصحاب بقاء الجعل ليس من المسلمات فقد ناقش فيه السيد الخوئي “قده”.

كما يعترض على جوابه الثالث بأن الاثر لا ينحصر بالأثر العقلي اي المنجزية والمعذرية حتى يقال يكفي فيه التعبد الظاهري بالحرمة المعلقة على الغليان، مع احراز الغليان، فقد يكون الاثر شرعيا مترتبا على ثبوت الحكم الفعلي كالحكم بمنجسة الملاقي فان موضوعه كون الملاقى بالفتح نجسا، ولا يكفي استصحاب النجاسة المعلقة على الغليان بضم احراز الغليان ما لم يبت كونه نجسا.

وكيف كان فهذا التفصيل المذكور في البحوث حول جريان استصحاب الحكم التعليقي وان كان لا بأس به، لكن الذي يمنعنا من ذلك امران:

احدهما: أن العرف لا يستظهر من اختلاف التعبير بين كلمات الأئمة (عليهم السلام) كقوله مثلا “العنب يحرم اذا غلا” او قوله “العنب المغلي حرام او قوله “العنب اذا غلى حرم” او قوله “العنب يحرم المغلي منه” اكثر من تعاببر عرفية لا تكشف عن اختلاف كيفية الجعل ثبوتا، فلعل المجعول في مقام الثبوت حرمة العنب المغلي، الا أن الامام (عليه السلام) بيّنه بلسان أن العنب يحرم المغلي منه او يحرم اذا غلا، او العنب اذا غلا يحرم، وهذا الذي ذكرناه في مثال “العنب اذا غلى حرم” او “العنب يحرم المغلي منه” اوضح، من مثال “العنب يحرم اذا غلا” وان كان الصحيح عدم ظهوره ايضا في كون الحكم المجعول فيه مختلفا ثبوتا عن قوله “العنب المغلي حرام.

وقد ذكرنا نظير ذلك في خطاب النهي عن الصلاة في النجس او الامر بكون الثوب حال الصلاة طاهرا، من ان العرف لا يفهم من مثل هذه التعابير التنبيه الى مانعية النجاسة او شرطية الطهارة.

ثانيهما: حتى لو فرض كون اختلاف التعبير في كلمات الامام ظاهرا في اختلاف كيفية الجعل، فمع انتشار ظاهرة النقل بالمعنى بين الرواة وعدم التفاتهم الى هذه الدقائق، لا ينعقد ظهور في روايتهم في كشف اللفظ الدقيق الصادر عن الامام (عليه السلام)، نعم لا ياتي هذان الاشكالان عرفا في مثال استصحاب الطهور ونحوه بأن يكون الخطاب الصادر عن الشارع أنه اذا غسل المتنجس بالماء طهر، فغيّره الامام او الراوي فقال: الماء طهور.

تبديل استصحاب الحكم التعليقي باستصحاب الملازمة او السببية

قد يقال بأنه لا مانع من استصحاب بقاء الملازمة بين الغليان والحرمة او بقاء سببيته للحرمة:

أما استصحاب الملازمة فقد ذكر المحقق العراقي “ره” في تقريب جريانه حتى في مثل “العنب المغلي حرام” أنه لا قصور في أدلة الاستصحاب للشمول لها، ثم ذكر ايرادين وأجاب عنهما.

احدهما: أنها ليست شرعية، لأنها عبارة عن الملازمة بين وجود الغليان ووجود الحرمة فهي اعتبار عقلي منتزع من جعل الشارع لحرمة العنب المغلي، و دليل الاستصحاب غير ناظر إلى مثله.

ثانيهما: ان الملازمة انما هي بين الحكم و تمام الموضوع، و لا يعقل الشك في بقاءها الا من جهة الشك في نسخ الملازمة، و هو خلف الفرض.

أما الايراد الاول فجوابه أنه يكفي في باب الاستصحاب كون امر المستصحب رفعا ووضعا بيد الشارع و لو بواسطة جعل منشأ انتزاعه، خصوصا على المبنى المختار في “لا تنقض اليقين بالشك” من كونه ناظراً إلى نفس اليقين بلحاظ ما يترتب عليه من الأعمال، لا إلى المتيقن بنحو جعل المماثل.

وأما الايراد الثاني فجوابه أن ما هو المعلوم هو الملازمة بين الحرمة والغليان حال الزبيبية ونشك في بقاء هذه الملازمة بينهما الى زمان الزبيبية[30].

وفيه أن محذور استصحاب الملازمة هو أن اثبات الحكم الشرعي الفعلي باستصحابها يكون من الاصل المثبت، ولم يجب المحقق العراقي عن هذا الاشكال الا بناء على مسلك جعل الحكم المماثل في الاستصحاب، -كما هو مختار صاحب الكفاية- فقال: ان جعل الملازمة الظاهرية حيث لا يمكن أن يكون بالاستقلال بل لابد أن يكون بتبع جعل منشأ انتزاعها، فيكون جعل الملازمة الظاهرية بتبع جعل الحرمة الظاهرية عند غليان الزبيب، فهذا من لوازم نفس الاستصحاب لا المستصحب حتى يندرج في الاصل المثبت[31].

ولكن يرد عليه أن الكلام في انطباق عنوان نقض اليقين يالشك على استصحاب الملازمة، فانه محل المنع، فانه لم يرد دليل خاص على جريان استصحاب الملازمة وانما يراد استفادته من عموم النهي عن نقض اليقين بالشك، فلابد من ملاحظة صدق هذا العنوان عليه، ومن الواضح أنه لا ينطبق عليه بما هو، بل بلحاظ لازمه العقلي وهو ثبوت الحرمة عقيب الغليان، لكون الاثر العقلي وهو المنجزية مترتبا عليه، فيكون من الاصل المثبت.

على ان جعل الحرمة الظاهرية عقيب غليان الزبيب منشأ لانتزاع الملازمة الواقعية بين الغليان والحرمة الظاهرية واين هذا من الملازمة الظاهرية المماثلة للملازمة الواقعية، فالملازمة الظاهرية ليس لا تعبدا ببقاء الملازمة الواقعية وهو قابل للجعل الاستقلالي لولا اشكال المثبتية.

وقد حكي عن السيد اليزدي “ره” أنه خص استصحاب بقاء الملازمة بما اذا كان الخطاب “العنب اذا غلى حرم” دون “العنب المغلي حرام” بدعوى أنّ لسان القضية الشرطية يعني جعل الملازمة، لأنّ القضية الشرطية مفادها الملازمة بين الشرط و الجزاء، فتصبح الملازمة شرعية و تستصحب، و لو اخذ بلسان القضية الحملية فهذا جعل للمحمول على الموضوع و الملازمة لا تكون إلّا عقلية انتزاعية، ويكون اثبات الحكم الشرعي باستصحابها من الاصل المثبت، و فيه أنه لا يعقل جعل الملازمة شرعا، وينحصر الحال في جعل الشارع احد طرفي الملازمة وهو الحكم الشرعي على تقدير وجود الطرف الآخر، ومنه ينتزع عنوان الملازمة بلا فرق بين الفرضين..

وأما جواب المحقق العراقي عن الايراد الثاني فهو تام.

وأما اجراء الاستصحاب في سببية الغليان للحرمة فقد حكي جريانها عن الشيخ الاعظم “قده”، وقد اورد عليه السيد الخوئي “قده” اولا: بأن السببية من الأحكام الوضعيّة، و هي منتزعة على مبنى الشيخ الاعظم “ره” من الأحكام التكليفية، فلا معنى للالتزام بعدم جريان الاستصحاب في منشأ الانتزاع و هو التكليف، و جريان الاستصحاب في الأمر الانتزاعي و هو السببية، مع أن الأمر الانتزاعي تابع لمنشإ الانتزاع، بل الامر كذلك على مسلكنا، فانا و إن قلنا بأن بعض الأحكام الوضعيّة مجعول بالاستقلال على ما تقدم تفصيله، إلا أنه قد ذكرنا أن السببية و الشرطية و الملازمة من الأمور الانتزاعية قطعاً، و تنتزع السببية و الشرطية عن تقييد الحكم بشي‏ء في مقام الجعل[32].

وفيه أن منشا انتزاع السببية او الملازمة ليس هو المجعول وانما هو الجعل فبمجرد جعل الشارع لحرمة العنب اذا غلا ينتزع منه سببية غليان العنب للحرمة او الملازمة بينهما.

واورد عليه ثانيا: بأنه لا يمكن جريان الاستصحاب في السببية و لو قيل بأنها من المجعولات المستقلة، لأن الشك في بقاء السببية إن كان في بقاءها في مرحلة الجعل لاحتمال النسخ، فلا إشكال في جريان استصحاب عدم النسخ فيه، و لكنه خارج عن محل الكلام، و إن كان في بقاءها بالنسبة إلى مرتبة الفعلية، فلم تتحقق السببية الفعلية بعد حتى نشك في بقائها، لأن السببية الفعلية إنما هي بعد تمامية الموضوع بأجزاءه، و المفروض في المقام عدم تحقق بعض اجزائه و هو الغليان[33].

وفيه أن فعلية السبية اي كون الغليان سببا للحرمة ليست متوقفة على وجود السبب خارجا، وانما تتوقف على ثبوت قضية شرطية مفادها أن اذا وجد غليان العنب فتوجد الحرمة، كما أن علية النار للحرارة لا تتوقف على وجود النار، وعليه فيشار الى الزبيب فيقال: ان الغليان كان سببا لحرمة هذا في حال عنبيته ونشك في بقاء سببيته فعلا للحرمة، فنستصحبها.

فينحصر الايراد عليه بأن يقال: ان السببية بعد ما لم تكن مجعولة شرعا وانما هي منتزعة عن جعل الحرمة على تقدير الغليان، فتكون السببية قضية انتزاعية عقلية واثبات الحرمة الفعلية بعد الغليان به يكون من الاصل المثبت.

وقد يقال بأنه يوجد ملازمة ظاهرية بين استصحاب السببية والاثبات الظاهري للمسبب، حيث يأبى العرف عن قبول التفكيك بينهما، كما أن العرف يأبى عن التفكيك بين الحكم الظاهري بمطهرية الماء والحكم الظاهري بطهارة الثوب المتنجس المغسول به، وهكذا لو استصحب جواز بيع شيء وضعا فانه لازم عرفا التعبد الظاهري بملكية المشتري للمبيع والبايع للثمن، فهكذا الحال لو قال المولى غليان العنب سبب لحرمته وشك في بقاء هذه السببية بعد ما طرأت حالة الزبيبية له، فاستصحبنا ذلك.


[1] – فاستصحاب بقاء الفرش في مكان لا يثبت كون الجلوس على ذاك المكان جلوس على الفرش، اذ الجلوس على الفرش يعني الجلوس على شيء وكون ذاك الشيء فرشا، كما أنه لو كان واقفا على فرش واحتمل ازالة الفرش من تحت رجليه او مشى خطوة فاحتمل خروجه عنه ثم جلس، فاستصحاب بقاءه على الفرش الى زمان جلوسه لا يثبت جلوسه على الفرش، بخلاف ما لو كان شيئ فرشا سابقا واحتمل استحالته فيجدي استصحاب كونه فرشا، في اثبات هذا العنوان.

[2] – الاستصحاب ص

[3] – توحيد الصدوق ص 173

[4] – توحيد الصدوق ص 176

[5] – توحيد الصدوق ص 184

[6] – بحوث في علم الاصول ج6ص 278

[7] – كفاية الاصول ص 409

[8] – بحوث في علم الاصول ج6ص 278

[9] – كفاية الاصول ص 408

[10] – فوائد الاصول ج 4ص بتوضيح منا.

[11] – مصباح الاصول ج 3ص

[12] – نهاية الافكار ج4ق2ص

[13] – مصباح الاصول ج3ص 128

[14] – مباحث الأصول، ج‏5، ص: 372

[15] – فرائد الاصول ؛ ج‏2 ؛ ص611

[16] – مصباح الاصول ج3ص 134

[17] – فوائد الاصول ج4ص

[18] – هذا التفصيل منقول عن السيد اليزدي “ره” ايضا في رسالة منجزات المريض.

[19] – مستمسك العروة ج1ص

[20] – مستمسك العروة ج‌1 ص 415

[21] – نهاية الافكار ج4ق1ص 168

[22] – نهاية الأفكار ج‏4قسم‏1 ص162

[23] – مقالات الأصول ج‏2 ص398

[24] – نهاية الدراية ج ص

[25] – درر الفوائد ص347

[26] – بحوث في علم الاصول ج6ص

[27] – ولعل قولنا “اذا غلى العنب حرم” ايضا من هذا القبيل بنظره.

[28] – بحوث في علم الاصول ج6ص 290 التعليقة.

[29] – بحوث في علم الاصول ج6ص

[30] – نهاية الافكار ج4ق1 ص168

[31] – مقالات الاصول ج 2ص

[32] – مصباح الأصول ج‏3 ص 138

[33] – مصباح الأصول ج‏3 ص 138