الدرس: 64
الأستاذ: الشيخ محمد تقی الشهيدي
المبحث: البراءة الشرعیة
دلالة الاستصحاب علی البراءة الشرعیة
التاريخ: الاثنین 19 رجب المرجب 1446 ه.ق
اعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين و صلی الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله على اعدائهم اجمعين
کان الکلام فی الاشکال الذی وجهه المحقق النائینی علی استصحاب عدم الجعل، فقال: بأن الجعل یعنی قضیة شرطیة، فقوله المستطیع یجب علیه العمرة مآله الی قضیة شرطیة مفادها أنه اذا وجد المستطیع وجبت علی العمرة.
اثبات هذه القضیة الشرطیة لا اثر لها. لأننی لو لم أکن مستطیعا فعلمی بهذه القضیة الشرطیة لا یکون منجزا، و إنما یتنجز علیّ المجعول و هو الحکم الفعلی أی وجوب العمرة علیّ بعد أن صرت مستطیعا. استصحاب عدم الجعل یعنی استصحاب عدم تلک القضیة الشرطیة اذا لم یثبت انتفاء المجعول فلا أثر له، و إذا اراد أن ثبت انتفاء المجعول فیکون من الاصل المثبت.
السید السیستانی قبل هذا الاشکال بتفصیل سیأتی، و خالف فی ذلک استاذه السید الخوئی. فإن السید الخوئی وجه علی المحقق النائینی نقضا بأن المحقق النائینی یلتزم بجریان استصحاب بقاء الجعل فی موارد الشک فی النسخ. فلماذا لا یقول هناک بأن استصحاب بقاء الجعل اذا ارید أن یثبت به وجود المجعول بعد تحقق موضوعه یکون من الاصل المثبت. هذا نقض جدلی.
و الا السید الخوئی بنفسه انکر استصحاب بقاء الجعل فی موارد الشک فی النسخ و ذکر أن الجعل الانحلالی اذا استصحب و ارید اثبات فعلیة الحکم بالنسبة الی موضوع مستحدث، لا أنه یکون من الاصل المثبت بل یکون من استصحاب القسم الثالث من الکلی. اشلون؟
قبل هذا الاسبوع کانت صلاة واجبة علی المؤمنین، احتملنا فی هذا الاسبوع أنه نسخ هذا الوجوب. ففی یوم الجمعة القادم نستصحب ماذا؟ نستصحب وجوب صلاة الجمعة فی الجمعة السابقة؟ شنو علاقة بوجوب صلاة الجمعة بالیوم الجمعة اللاحق. و اذا اردنا أن نستصحب وجوب صلاة الجمعة لیوم الجمعة اللاحق فلا حالة سابقة متیقنة له. واذا اردنا أن نستصحب جامع الوجوب فهذا یکون من الکلی القسم الثالث. لأن معنی النسخ فی الشریعة هو انتهاء أمد الحکم و لیس نسخا حقیقیا بمعنی أن الشارع جعل وجوب صلاة الجمعة الی یوم القیامة ثم الغاه. هذا مستلزم للمحال. لأن الذی ینسخ الحکم الذی جعله هذا یکون لمنشأ الجهل، ثم یرتفع جهله فینسخ ما انشأه. النسخ فی الشریعة یعنی انتهاء أمد الحکم یعنی لا یوجد حکم مجعول لما بعد انتهاء أمد الحکم. لکن کاشکال و نقض جدلی یتم.
و المهم هو الجواب الحلی.
السید الخوئی فی الجواب الحلی ذکر مطلبین متهافتین (مع کمال احترامنا لهذا المرجع العظیم الذی له حق کبیر علی الحوزات العلمیة): نقول یا سیدنا الخوئی ما عرفنا، حینما تقولون:
تارة النسبة بین الجعل و المجعول کنسبة الایجاد و الوجود، فهما متحدان حقیقتا و مختلفان اعتبارا.
و تارة اخری تقولون: الجعل هو وجوب العمرة علی المستطیع قبل وجود المستطیع و المجعول هو وجوب العمرة علی المستطیع بعد وجوده. الحکم الانشائی اذا تحقق موضوعه فهو حکم فعلی ولیس مغایرا له.
فهذا یعنی أنکم حینما قلتم بأن الجعل و المجعول نسبتهما کنسبة الایجاد و الوجود لاحظتم عملیة الجعل، و حینما ذکرتم أن الجعل هو الحکم الانشائی قبل وجود موضوعه و المجعول هو الحکم الفعلی بعد وجود موضوعه، فلاحظتم القضیة الشرطیة المجعولة لا عملیة الجعل. و هذا الثانی هو الذی رکّز علیه المحقق النائینی. فلا علاقة له بالایجاد و الوجود. الایجاد و الوجود الاختلاف بینهما اعتباری من باب ان الایجاد هو الوجود الملحوظ فیه انتسابه الی الفاعل. و لأجل ذلک تقولون فی الایجاد و الوجود التکوینی یستحیل انفکاک زمان الایجاد عن زمان الوجود. لکن فی الجعل الذی هو ایجاد اعتباری یمکن انفکاک المجعول عنه، فأنا الان اوصی بأنی اذا مت فداری ملک لزید. فتحقق منی عملیة الانشاء والجعل للوصیة، و لکن المجعول و هو ملکیة زید لداری سوف یتحقق هذا المجعول بعد وفاتی. فصار هناک فصل زمانی بین انشاء الوصیة و بین المنشأ فیها و هو الملکیة لزید بعد وفاتی.
اما بالنسبة الی ما ادعیتم من أن عملیة الجعل نسبتها الی المجعول نسبة الایجاد الی الوجود، فقد یناقش فی کلامکم. فإن الشیخ الوحید دام ظله ذکر أن النسبة بین الجعل و المجعول نسبة العلة الی المعلول. المجعول یتحقق بسبب الجعل، فالجعل علة للمجعول، و العلة لا یمکن أن تتحد مع المعلول.
لکن انا اری أن کلام السید الخوئی فی محله. فإن العلة للمجعول هو الجاعل. الجاعل علة للجعل و للمجعول. الجعل هو الایجاب و المجعول هو الوجوب. علة الایجاب هو المولی الذی ینشأ الایجاب. فالجعل حتی بمعنی عملیة الجعل یعنی الایجاب. و الایجاب لیس علة للوجوب. الایجاب و الوجوب نسبتهما کنسبة الایجاد و الوجود.
و لکن اشکالی علی السید الخوئی أن کلامه هنا متهافت. تارة یقول الجعل نسبته الی المجعول نسبة الایجاد الی الوجود، و هذا یعنی أنه نظر الی عملیة الجعل و التی تحدث بلحظة و تنعدم. فی لحظة المولی یقول اذا وجد المستطیع وجبت علیه العمرة. انتهت عملیة الجعل. المولی العرفی یروح و ینام. خلاص بعد.
لکن هذه القضیة الشرطیة التی انشأها المولی تبقی فی عالم الوجود الاعتباری کقانون. و لأجل ذلک یقال حلال محمد صلی الله علیه وآله حلال الی یوم القیامه و حرامه حرام الی یوم القیامة، یعنی لا ینسخ. هذا الجعل الکلی و الذی یکون مآله الی قضیة شرطیة هذا الجعل حدث بعملیة الجعل و یبقی مادام عدم النسخ.
فعلیه لابد أن نرکز علی هذه القضیة الشرطیة و نجیب عن اشکال المحقق النائینی. اشکال المحقق النائینی واضح. یقول الجعل بمعنی الحکم الانشائی و الذی قلنا بأن مآله الی قضیة شرطیة اذا وجد المستطیع وجبت علیه العمرة، کیف یکون الاستصحاب الجاری بلحاظها منقحا لحال وجود الجزاء أو انتفاء الجزاء؟ لماذا لا یکون من قبیل ما لو استصحبنا حالة الملازمة بین زید و عمرو؟ سابقا کانت هناک ملازمة بین مجیء زید و مجیء عمرو، رحمت الله علی العلماء الماضین فی النجف بعض الاخوة کانوا متلازمین، اخوین متلازمان اذا تشوف هذا الأخ یکون تفحص عن اخوه. اخوه قریب منه بعد و لا یفارقه فی المجیء و الذهاب فهما متلازمان. سابقا کانا کذلک، اذا جاء زید فیجیء عمرو معه. هذه الحالة شکیت فی بقاءها، تستصحب بقاء هذه الملازمة أی أنه اذا جاء زید فیجیء عمرو معه. ثم بعد ما استصحبت هذه الحالة رأیت زیدا فی الشارع، فهل یثبت بذاک الاستصحاب وجود العمرو بالفعل؟ لا. واضح اشکال المحقق النائینی. لا یثبت. استصحاب تلک القضیة الشرطیة لو ارید أن یثبت وجود الجزاء بالفعل فهذا اصل مثبت. کما أنه یکون استصحاب عدم القضیة الشرطیة لنفی وجود الجزاء بالفعل، استصحاب عدم الملازمة بین مجیء الاخوین لاثبات عدم مجیء عمرو مثلا یکون من الاصل المثبت. سابقا لم یقترن مجیء أحدهما بالآخر، لأن کل واحد منهما یجیء فالثانی یبقی فی البیت کی یراعی امه مثلا. حالة عدم المقارنة بین مجیئهما. لو تشوف هذا الأخ تجزم بأن اخوه لیس هنا بل یکون فی البیت. فتستصحب عدم المقارنة بینهما. فهل اذا رأیت هذا الأخ تحکم بعدم مجیء اخیه تمسکا باستصحاب عدم المقارنة بین مجیئهما؟ لا، هذا اصل مثبت.
أنا اشوف کلام السید الخوئی هنا یحتاج الی تعمیق. أنا بالتالی اقبل کلام السید الخوئی لکن لا بسهولة بل یکون نفکر و نتأمل و نتعمق، لأن ظاهر اشکال المحقق النائینی اشکال متجه.
فی البحوث ذکر السید الصدر قال: أنا اقبل اشکال المحقق النائینی من جهة و ما اقبله من جهة اخری. من قبیل نؤمن ببعض و نکفر ببعض. الذی تقبله ماذا؟ یقول أنا اقبل استصحاب عدم الجعل لا یمکن أن یثبت انتفاء المجعول، لأنه اصل مثبت. هذا کلام صادق. کما أن استصحاب بقاء الجعل لاثبات وجود المجعول اصل مثبت، هذا کلام صادق. لماذا لا نقبل هذا الاشکال الصحیح من المحقق النائینی. فأنا آمنت بهذا الشیء.
لکن کفرت بشیء آخر. یقول: ابدا ما نحتاج الی اثبات حال المجعول. المنجز هو اجتماع امرین: ثبوت الجعل و تحقق الموضوع. هذا هو. العقل یقول: اذا وجد الجعل یعنی تلک القضیة الشرطیة التی تستصحبها اذا وجد المستطیع وجبت علیه العمرة، اذا قامت الحجة علی هذه القضیة الشرطیة و التی نعبر عنها بالجعل، و قامت الحجة الوجدانیة أو التعبدیة علی وجود الموضوع و هو تحقق الاستطاعة، فالعقل یحکم بلزوم الطاعة.
العقل لا یرکّز علی أنه لابد أن یصدق أنه وجبت علیّ العمرة. لا، یکفی فی تنجز التکلیف علیّ قیام الحجة علی أمرین مستقلین. حجة تقوم علی ثبوت تلک القضیة الشرطیة (اذا وجد المستطیع وجبت علیه العمرة) و حجة تقوم علی وجود الموضوع و هو تحقق الاستطاعة. خلاص بعد. فالعقل اذا أنا لم أذهب الی العمرة یری أنی مستحق للعقاب.
ونفی التنجز یکون بنفی أحد الجزئین لهذا الموضوع المرکب للتنجز. فإذا تستصحب عدم الجعل نفیت التنجز بنفی أحد جزئی المرکب. کما أنک لو نفیت الموضوع ایضا تنفی التنجز بنفی الجزء الثانی للموضوع المرکب للتنجز. یعنی نحن لا نحتاج الی اثبات حال المجعول یا محقق النائینی کی تقول قولا حقا و هو أن استصحاب عدک الجعل لاثبات انتفاء المجعول اصل مثبت. هذا قول حق و ما هو بالهزل، لکن لا نحتاج الیه، یکفینا لحاظ حال الجعل ولو بأصل عملی و احراز حال الموضوع. اذا قامت الحجة علی اجتماع کلیهما، تجقق التنجز العقلی، اذا قامت الحجة علی انتفاء أحدهما انتفی ذاک التنجز العقلی.
تأملوا فی هذا المطلب هل هو صحیح أم لا، و بعد ذلک إن شاءالله نذکر کلام السید السیستانی بتفصیله فإنه کلام لا یخلو عن دقة و إن شاء الله نری أن کلامه تام أو فیه ملاحظات نتکلم عن جمیع ذلک فی اللیالی القادمة إن شاءالله.
والحمد لله رب العالمین.