فهرست مطالب

فهرست مطالب


تقریرات دروس خارج مدرسه فقهی امام محمد باقر علیه السلام

بسمه تعالی

الاستدلال بالكتاب على وجوب الاحتياط.. 2

منها: قوله تعالى “ولا تقف ما ليس لك به علم”. 2

مناقشه. 2

منها: قوله تعالى “و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة”. 2

مناقشه. 2

منها: قوله تعالى “و اتقوا اللَّه حق تقاته”. 3

مناقشه. 3

منها: قوله تعالى “وجاهدوا في اللَّه حق جهاده”،. 3

مناقشه. 3

منها: قوله تعالى “و إن تنازعتم في شي‏ء فردوه إلى اللَّه والرسول”. 5

مناقشه. 5

الاستدلال بالروايات على وجوب الاحتياط.. 6

الطائفة الأولى: ما ورد بلسان “ان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة”،. 6

الايراد الاول: عدم امکان الامر بالتوقف في هذه الروايات سببا لتنجز التكليف7

الجواب الاول: 8

الجواب الثاني: 10

الجواب الثالث: 11

الايراد الثاني: أن الأصولي يستند في ارتكابه للشبهة إلى مدرك شرعي أو عقلي وليس مقتحما للشبهة. 12

الايراد الثالث: أن كلمة الشبهة معناها المثل والمماثلة. 12

الايراد الرابع: أن الشبهة على معنيين..: 14

الايراد الخامس: ان دليل حلية ارتكاب الشبهة البدوية بعد الفحص والبراءة الشرعية فيها وارد على عنوان الشبهة. 17

الطائفة الثانية: أخبار التثليث:. 19

منها: مقبولة عمر بن حنظلة. 19

مناقشه. 20

کلام السيد الامام “قده”.. 21

مناقشه. 22

استدلال صاحب الحدائق على القول بوجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية التحريمية. 24

الطائفة الثالثة: واهمها ثلاث روايات:. 26

الاول: رواية سليمان بن داود 26

الکلام فی سند الروایة. 26

الکلام فی دلالة الرواية. 27

المحتملات الثلاثه في الرواية. 28

الثانی: رواية أبي هاشم الجعفري.. 29

الثالث: صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج. 30

 

 

 

الاستدلال بالكتاب على وجوب الاحتياط

وأما الكتاب‏ فقد استدل على وجوب الاحتياط بعدة آيات:

منها: قوله تعالى “ولا تقف ما ليس لك به علم”

منها: قوله تعالى “ولا تقف ما ليس لك به علم” بتقريب أن ارتكاب ما يشك في حرمته مصداق للعمل بما ليس به علم.

مناقشه

وفيه أن من يستند في عمله الى علمه بالبراءة العقلية او الشرعية من دون أن ينفي حرمة الفعل واقعا فليس متَّبعا لما ليس له به علم، كما ان من يفتي بالحكم الظاهري من البراءة العقلية او الشرعية فليس فتواه بغير علم.

منها: قوله تعالى “و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة”

ومنها: قوله تعالى “و لا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة” بتقريب أن هذه الآية تنهى عن تعريض الإنسان نفسه للهلاك، وهذا يصدق على ارتكاب مشكوك الحرمة، فان ارتكاب الحرام الإلهي من الهلاك.

مناقشه

وفيه انه بعد وجود البراءة العقلية او العقلائية الممضاة والامن من العقاب فيكون الحرام غير منجز ولا يصدق على ارتكابه الهلاك، فضلا عن فرض وجود خطاب البراءة الشرعية، كما هو المجمع عليه في الشبهة الموضوعية التحريمية، وان شئت قلت: ان موضوع هذه الآية هو احتمال العقاب وهذا يتوقف على تنجز التكليف في الرتبة السابقة ولا يمكن ان تكون الآية سببا لتنجزه.

هذا كله بناء على ملاحظة مفاد هذه الفقرة من الآية مستقلا عما قبلها وما بعدها، ولكن حينما نلحظها مع ما قبلها وما بعدها يبدو لنا معنى آخر، فقد قال تعالى بعد آيات الجهاد “و انفقوا في سبيل الله ولاتلقوا بايديكم الى التهلكة وأحسنوا ان الله يحب المحسنين” فيمكن أن يراد به الامر بالانفاق في الجهاد وانه اذا ترك الانفاق فيكون المسلمون فی معرض الانهزام من الکفار والوقوع في الهلاك، فلا يرتبط بمثل المقام، وكذلك بناء على ما يحتمل بعيدا من أن يراد به الامر بالانفاق على الفقراء والاحسان عليهم بمقدار لا يلقي نفسه في الهلاك، كما قال تعالى ” لا تجعل يدك مغلولة الى عنقك ولاتبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا”.

نعم على أي حال يستفاد منها حرمة تعريض النفس للهلاك كالموت ونحوه، فيكون من ادلة وجوب حفظ النفس.

منها: قوله تعالى “و اتقوا اللَّه حق تقاته”

ومنها: قوله تعالى “و اتقوا اللَّه حق تقاته” وكذا قوله تعالى “اتقوا الله ما استطعتم” بتقريب أن اتقاء الله حق تقاته أي غاية التقوى وكذا التقوى بقدر الاستطاعة لا يتحقق الا مع الاجتناب عن الشبهات.

مناقشه

وفيه: أن الظاهر من اتقاء الله هو الحذر من عقابه لا مطلق الحذر عن الوقوع في ما حرَّمه وان لم تكن حرمته منجزة، وحينئذ فلا ينطبق على ارتكاب ما شك في حرمته الا بعد نتجزه في رتبة سابقة، فلا يمكن أن يكون هو السبب لتنجزه، وان شئت قلت: ان الآية ليست ظاهرة في المولوية، بل الظاهر منها الارشاد الى حكم العقل باطاعة الله، والا لزم تعدد العقاب عند عصيان اوامره تعالى.

منها: قوله تعالى “وجاهدوا في اللَّه حق جهاده”،

ومنها: قوله تعالى “وجاهدوا في اللَّه حق جهاده”، بتقريب أن الامر بالمجاهدة في الله بمعنى الامر ببذل غاية الجهد والطاقة في سبيل طاعته، ومن لم يحتط في الشبهات لم يبذل غاية جهده في طاعة اللَّه تعالى.

مناقشه

وفيه أنه لم يذكر في الآية الجهاد في طاعة الله وانما ذكر الجهاد في الله، فان قلنا بما يقرب الى الذهن من كون مدلوله العرفي هو الجهاد في طريقه وسبيله، فلا يظهر منه الجهاد في مطلق طاعته، ولعل المراد منه ما كان معروفا من الجهاد في سبيل الله وهو القتال في سبيله.

وان قلنا من نقصان مدلوله التصوري، اذ كأنه يقال بالفارسية “در خدا جهاد كنيد” فقد يقال كما في البحوث ان متعلق الجهاد حيث لا يمكن ان يكون هو الله بل لابد أن يكون شأنا من شؤونه، فلابد من تقدير، ولا يتعين ان يكون هو طاعة الله بل لعله معرفته او لعله نصرته بقتال اعداءه.

هذا وقد أضاف في البحوث أنه يمكن دعوى ظهور الآية بحسب سياقها في ارادة معرفة الله، لأنها واردة في سياق الرد على العقائد الباطلة فتكون على وزان قوله تعالى “و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا”، بل هذا المعنى هو الألصق بظاهر الآية، لأن الجهاد لمعرفة اللَّه كأنه جهاد في اللَّه لعدم الاثنينية بين الشي‏ء ومعرفته، ولو تنزلنا عن هذا الاحتمال فاحتمال ارادة نصرة الله بالقتال مع اعداءه اقرب من ارادة طاعته، لأنه أنسب مع التعبير بالجهاد([1]).

اقول: لو فرضنا نقصان المدلول التصوري عرفا من الجهاد في الله فليست قرينة السياق مناسبة مع ارادة معرفته تعالى، بل قد تؤيد كون المقدر هو طاعته تعالى، فقد قال تعالى:َ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا واسْجُدُوا واعْبُدُوا رَبَّكُمْ وافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ، وجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ ومَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وفِي هذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وآتُوا الزَّكَاةَ واعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى ونِعْمَ النَّصِيرُ([2])، كما أن ظهور الجهاد في الله في الجهاد في معرفته لعدم الاثنينية بين الشيء ومعرفته ممنوع ولذا لا يفهم من قولنا “تلاش در خدا كردن” بذل الجهد في معرفته.

هذا ولو فرض ظهور الآية في الامر ببذل الجهد في طاعته تعالى، فالامر ببذل الجهد في طاعته تعالى كبقية الخطابات الآمرة بطاعته، كقوله تعالى “اطيعوا الله” فانها ظاهرة في الارشاد الى حكم العقل الذي قد يكون هو اللزوم كما في موارد تنجز التكليف الالزامي وقد يكون هو الرجحان كما في الامر الاستحبابي او النهي الكراهتي وكذا موارد عدم تنجز التكليف الالزامي، والشاهد على ما ذكرناه عدم اختصاص هذه الخطابات بالتكاليف الالزامية، فلو اريد من الامر بطاعة الله هو لزومها فلابد من تخصيص موضوعها بالتكاليف الالزامية، وهذا خلاف الاطلاق.

منها: قوله تعالى “و إن تنازعتم في شي‏ء فردوه إلى اللَّه والرسول”

ومنها: قوله تعالى “و إن تنازعتم في شي‏ء فردوه إلى اللَّه والرسول” بتقريب أن الردّ إليهما يعني التوقف وعدم الاقتحام.

مناقشه

وفيه: أن التنازع لا يساوق الشكّ من المكلف، فقد يكون كلا الطرفين على يقين، فيتنازعان، فأمرهم القرآن بردّ ذلك الامر المتنازع فيه الى الله ورسوله، ليحكما بينهم، كما أن الامر بالردّ اليهما يقتضي التسليم لما حكما به، واين هذا من لزوم الاحتياط العملي عند الشكّ في التكليف، بل لو ورد الترخيص الشرعي في ارتكابه، فالتسليم يقتضي قبول هذا الترخيص.

وان اريد أنه في التنازع في وجوب الاحتياط وعدمه لابدّ من الرجوع الى الكتاب والسنة دون حكم العقل، فلو سلمنا دلالة الآية على ذلك فلا يمنع من الرجوع الى الدليل الشرعي للبراءة، والانصاف أن استفادة عدم الرجوع الى حكم العقل من مثل هذه الآية غريب، كيف وقد امر الله تعالى في كتابه بالتعقل.

وقد يحتمل في الآية معنى آخر، وهو ما في البحوث من أنه يحتمل قويا إرادة النزاع بين الأمة وولي الأمر في الأمور العامة، لأنها وردت بعد قوله تعالى “أطيعوا اللَّه والرسول وأولي الأمر منكم فان تنازعتم في شي‏ء فردوه إلى اللَّه والرسول” والوجه في تخصيص الرد حينئذ إلى اللَّه والرسول فقط مع حذف أولي الأمر في التفربع رغم ولايتهم والأمر بإطاعتهم في المفرع عليه يمكن ان يكون إما لأجل كون المنظور إليه النزاع في الشبهات الحكمية وفي مثل ذلك يكون المرجع هو اللَّه والرسول فقط لا أولي الأمر بما هم أولي الأمر، او لأجل كون المراد التنازع في شروط الولاة واختياراتهم كبرويا أو صغرويا، فيكون حلّ مثل هذا النزاع أيضا منحصرا في مراجعة اللَّه والرسول، فتكون الآية من أدلة أن الولاية تحدّد من قبل اللَّه والرسول لا من قبل الناس أنفسهم، وبذلك تكون الآية متعرضة لمسألة هامّة من أصول المذهب وأجنبية بالمرة عن مسألة الاحتياط في الشبهات الفرعية.

اقول: المتناسب عرفا النهي عن تنازع الأمة مع اولي الأمر، والتأكيد على طاعتهم، خاصة مع كون القدر المتيقن من اولي الامر هم الائمة (عليهم السلام) ان لم نقل بما هو المشهور المؤيد بالروايات من انحصار المراد باولي الامر في الآية بهم، لا أن يفرض تنازع الأمة مع اولي الأمر ثم يأمر كلا الطرفين على حد سواء بالرجوع الى حَكَمٍ، وان كان الحَكَم هو الله ورسوله، وأما عدم ذكر اولى الامر في ذيل الآية فلعل وجهه ان التنازع كان في الشبهات الحكمية والمرجع فيه هو الشارع والمتبع فيه هو امر المعصوم لا بما هو ولي الامر.

وأما أن تحديد اختيارات ولي الامر بيد الشارع فهو امر صحيح، حيث انه لا يخلو واقعة عن حكم الشارع، ولكنه لا ينافي أن يكون انتخاب نفس ولي الامر في غير المعصوم بيد الناس، كما اختاره السيد الصدر “قده” في بعض كتبه التي كتبها آخر حياته، وان ناقشنا في ادلته في بحث الاجتهاد والتقليد.

ثم انه لو تم الاستدلال بهذه الآيات او بعضها كان مقتضاه وجوب الاحتياط في جميع الشبهات، بلا فرق بين الموضوعية والحكمية، الوجوبية والتحريمية، مع أن الاخباريين لا يلتزمون بذلك.

الاستدلال بالروايات على وجوب الاحتياط

وأما الروايات التي استدل بها على وجوب الاحتياط فالمهم منها ثلاث طوائف:

الطائفة الأولى: ما ورد بلسان “ان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة”،

الطائفة الأولى: ما ورد بلسان “ان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة”، فيفهم منه أن من لا يقف في الشبهة فهو في معرض الاقتحام في الهلكة، ففي معتبرة جميل بن دراج عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، ان على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه([3])، ومقبولة عمر بن حنظلة حيث انه بعد فرض تساوي الخبرين من حيث المرجحات ذكر أنه اذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى امامك فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات([4])، وفي رواية ابي سعيد الزهري عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة وتركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه([5]) وفي معتبرة مسعدة بن زياد عن جعفر عن آبائه (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: لا تجامعوا في النكاح على الشبهة (و قفوا عند الشبهة) يقول إذا بلغك أنك قد رضعت من لبنها وأنها لك محرم وما أشبه ذلك، فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة([6]).

ومما يستفاد منه الامر بالوقوف عند الشبهة ما في نهج البلاغة من ذم قوم يعملون في الشبهات: فيا عجبا وما لي لا أعجب من خطأ هذه الفرق على اختلاف حججها في دينها لا يقتصون أثر نبي ولا يقتدون بعمل وصي ولا يؤمنون بغيب‌ ولا يعفون عن عيب يعملون في الشبهات ويسيرون في الشهوات المعروف فيهم ما عرفوا والمنكر عندهم ما أنكروا مفزعهم في المعضلات إلى أنفسهم وتعويلهم في المبهمات على آرائهم كأن كل امرئ منهم إمام نفسه قد أخذ منها فيما يرى بعرى ثقات وأسباب محكمات([7]).‌

وتقريب الاستدلال أنه يقال بأن مفاد هذه الروايات أن في ارتكاب الشبهة احتمال الهلاك وظاهره العقاب، وهذا لا ينسجم مع ثبوت البراءة فيها، فيلزم الاحتياط فيها.

وقد اورد على هذا الاستدلال بعدة ايرادات:

الايراد الاول: عدم امکان الامر بالتوقف في هذه الروايات سببا لتنجز التكليف

ما يقال من أن تعليل الامر بالتوقف عند الشبهة بكونه خيرا من الاقتحام في الهلكة ظاهر في ثبوت الاقتحام في الهلكة في رتبة سابقة على الامر بالتوقف، وحيث ان الظاهر من الهلكة هو العقاب، فلابد من تنجز التكليف بمنجز في الرتبة السابقة، حتى يشمله هذا الخطاب، ولا يمكن أن يكون الامر بالتوقف في هذه الروايات سببا لتنجز التكليف، وبالجملة التعليل ظاهر في ثبوت وجوب الاحتياط مع قطع النظر عن الامر بالتوقف في هذه الروايات، فلا يمكن إثبات وجوب الاحتياط بنفس هذا الامر.

كما أن بيان كبرى أن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، يعني بيان قضية حقيقية، وهي أنه كلما دار الامر بين الوقوف عند الشبهة والاقتحام في الهلكة فالاول خير من الثاني، وظاهرها بمناسبة الحكم والموضوع لزوم ترجيح الاول، ولكنها كأي كبرى وقضية حقيقية أخرى لا يمكن أن تحقق الصغرى لها، كما لا تبيِّن وجود الصغرى.

ويجاب عن هذا الايراد بثلاثة اجوبة:

الجواب الاول:

انه على مسلك حق الطاعة وانكار البراءة العقلية لا يتوقف تنجز التكليف في موارد الشبهة على الامر المولوي بالاحتياط في رتبة سابقة، فيكون هذا الخطاب صحيحا بلا اشكال، وأما بناء على مسلك البراءة العقلية فتنجز التكليف وان كان موقوفا على الامر الشرعي الطريقي بالاحتياط بل على وصوله، لكن هذا الخطاب –أي خطاب أن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة- من طرق ايصال الامر بالاحتياط عرفا، فانه لا ينبغي الريب في أنه اذا قال المولى لعبده “لئن تحتاط عند الشكّ في امري ونهيي خير من أن تقتحم في سخطي وعقابي على مخالفة امري ونهيي”، فيفهم منه عرفا كونه بصدد الزام هذا العبد بالاحتياط.

وهذا نظير أن الوعيد بالعقاب على عملٍ كالقول بغير علم ظاهر في ايصال حرمته، ولا ينافيه كون العقاب عليه مشروطا بوصول حرمته، فان نفس هذا الخطاب من طرق ايصال حرمته عرفا، فلا موجب لحمل هذا الخطاب على كون المراد به بيان العقاب على القول بغير علم الذي وصلت حرمته مع قطع النظر عن هذا الخطاب وهو القول بغير علمٍ على الله تعالى وفي الشرعيات.

نعم يوجد فرق بين مسلك البراءة العقلية ومسلك حق الطاعة في ان الامر بالاحتياط في الشبهة البدوية على المسلك الاول يكون مولويا طريقيا بداعي تنجيز الواقع، وعلى المسلك الثاني يمكن ان يكون بداعى الارشاد الى حكم العقل كما يمكن أن يكون مولويا طريقيا لابراز الاهتمام بالواقع واثره ليس احداث تنجزه وانما هو تاكد تنجزه ووضوحه فيكون محركيته نحو الاحتياط اكثر، كما يكون مؤثرا بالنسبة الى من لا يكون مسلك حق الطاعة واضحا لديه، نظير جعل البراءة الشرعية على وزان البراءة العقلية على القول بها.

وبما ذكرناه ظهر الاشكال فيما ذكره المحقق الاصفهاني “قده” من ان قوله “فان الوقوف…” ان كان تفريعا على الامر بالاحتياط، تم الاستدلال به على الامر الطريقي للاحتياط في الشبهة فيكون منجزا لكل مشتبه، الا أنه لا قرينة على تعين ارادة التفريع، بل يحتمل كونه تعليلا، بل لعله الظاهر، فيكون الامر بالاحتياط موقوفا على وجود مصحح للعقاب في رتبة سابقة حتى يكون هو العلة في الامر بالاحتياط، ومن جهة اخرى يتعين حينئذ كون الامر ارشاديا، لأن المفروض انبعاث الأمر بالاحتياط عن كون الاقدام في المشتبه اقتحاما في الهلكة، فالهلكة مفروضة بغير هذا الأمر، فكيف يكون الأمر طريقيا مصححا للمؤاخذة والعقوبة([8]).

فانه يرد عليه اولا: أن هذا الاشكال لا يتم على ما هو الحق من مسلك حق الطاعة، وانما يبتني على مسلك البراءة العقلية، ولا ينافي ذلك قبولنا للبراءة العقلائية، فانه لو تمت دلالة مثل هذه الروايات فقد تصلح للردع عنها.

وثانيا: ان هذا الاشكال يختص بالرواية التي ذكر قوله “فان الوقوف…” عقيب الامر بالوقوف عند الشبهة، بينما أنه ليس كذلك في اغلب الروايات السابقة فلاحظ.

وثالثا: وهو المهم في الجواب عن هذا الاشكال أن ظاهر قوله “فان الوقوف…” وان كان هو التعليل للامر بالوقوف عند الشبهة، فلابد من وجود منجز للتكليف مع قطع النظر عن هذا الامر المذكور في الخطاب، وينحصر المنجز في الشبهة البدوية بعد الفحص بامر المولى للاحتياط فيها، لكن يكفي في صحة هذا التعليل بعد وجود هذا الامر واقعا ايصاله الى المكلف ولو بنفس هذا الخطاب، خاصة مع كون الامر في هذا الخطاب ليس هو الامر الإلهي الطريقي بالاحتياط في الشبهات، وانما هو امر صادر من الامام (عليه السلام) بالوقوف عند الشبهة، وظاهر كلام الامام (عليه السلام) في اوامره غير الولائية كان كظاهر كلام أي عالم وفقيه يتكلم مع العوام، فيكون نظير ما لو قال الفقيه للعامي “قف عند الشك في حرمة فعل، فانه خير من ان تبتلي بالعقاب الاخروي على ارتكاب الحرام” فانه يكون اخبارا بالالتزام عن وجود امر إلهي طريقي بالاحتياط، ويكون ذلك الامر الإلهي هو المصحح للعقاب بوصوله او فقل على الاصح بمعرضيته للوصول، وحيث ان هذا الامر الإلهي في معرض الوصول الى العامي ولو بسبب فتوى هذا الفقيه فيكون هذا التعليل عرفيا جدا، وهكذا امر الامام (عليه السلام) بالوقوف عند الشبهة معللا له بان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلاكة والعذاب، يكون كاشفا بالالتزام عن امر إلهي بالاحتياط في الشبهات.

وأما ما ذكره من أن الامر الطريقي بالاحتياط لا يعقل الا في فرض التفريع دون التعليل ففيه أن الامر الطريقي بالاحتياط لا يتقوم بكونه هو المصحح للعقاب، بل يتقوم بكونه بداعي ابراز الاهتمام بالواقع، نعم لابد له من اثر، وقد مر بيان اثره.

ان قلت: ان ما ذكر وان كان صحيحا عقلا، لكن يصلح التعليل للقرينية عرفا على تخصيص الشبهة في الصدر بالشبهة المتنجزة بمنجز واصل بغير هذا الخطاب، كالشبهة قبل الفحص او المقرونة بالعلم الاجمالي، ولا يقاس المقام بموارد بيان حرمة فعل ببيان لازمه وهو العقاب عليه كقوله “من قتل مؤمنا متعمدا فجزاءه جهنم” قياس مع الفارق، لأنه لا يحتمل في ذلك المثال ونحوه امر أخر غير حرمة الفعل شرعا، فيتعين حمله على كونه كناية عن بيان حرمته، بخلاف المقام، حيث يمكن حمل الخطاب على مورد قيام منجز آخر عقلي كما في الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي او الشبهة قبل الفحص، دون الامر الشرعي بالاحتياط في الشبهة البدوية بعد الفحص، ومعه لا معيِّن لحملها على الكناية عن ارادة ايصال وجوب الاحتياط بهذا البيان.

قلت: الانصاف بشهادة الوجدان عدم ايجاب التعليل لاجمال الصدر، بعد فرض قبول كون الشبهة شاملة لمطلق الشك في التكليف، كما هو كذلك في مورد معتبرة مسعدة بن زياد، حيث طبّق الامام (عليه السلام) الامر بالوقوف عند الشبهة على بلوغ أن المرأة التي يريد أن يتزوجها رضيعته، ولم يفرض قيام أمارة معتبرة كالبينة على ذلك والا لم يكن شبهة عرفا، فالشبهة فيه لم تكن منجزة بمنجز سابق، وكيف كان فالمقام نظير ما مرّ من مثال “من قال بغير علم دخل النار”، حيث ان الاخبار بدخوله النار لا يصلح للقرينية على كون المراد منه ما ثبتت حرمته بدليل آخر وهو القول بغير علم على الله تعالى.

الجواب الثاني:

ما قد يقال بأن توجيه هذا الخطاب المطلق الشامل للشبهة البدوية من قبل الامام (عليه السلام) الى معاصريه يكشف عن سبق منجز في حق المخاطبين بهذا الخطاب في زمانه (عليه السلام)، وهو وصول الامر بالاحتياط في الشبهة البدوية اليهم، حيث انه لا يكفي في تنجز التكليف وجود الامر بالاحتياط واقعا، اذ ليس حاله أحسن من وجود التكليف الواقعي غير الواصل، فلابد من وصوله الى المكلف، وبضم عدم احتمال الفرق بينا وبينهم في الاحكام فيثبت في حقنا وجوب الاحتياط ايضا.

وقد اشكل المحقق العراقي “قده” على هذا الجواب بأن هذا من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية، لأن إطلاق “قف عند الشبهة” للشبهة البدوية في حق المخاطبين فرع وصول إيجاب الاحتياط إليهم، لأنه مقيَّد عقلا ولبّا بذلك، فمع الشك فيه كيف يمكن التمسك به لإثبات المدلول المطابقي ثم الالتزامي.

ولكن يندفع هذا الاشكال بأن المفروض في هذا الجواب هو افتراض كون خطاب الامر بالوقوف عند الشبهة كقضية خارجية موجَّهة الى هؤلاء المخاطبين، وقد ثبت في محله أنه يمكن التمسك باطلاق الخطاب لكشف أن المولى بنفسه لاحظ المصاديق وشخَّص وجود تمام غرضه فيها وأنها واجدة لذلك الشرط العقلي ولذلك صدر منه الخطاب العام، نظير ما لو قال المولى لعبده “اكرم جيراني” وعلم بان المولى لا يأمر باكرام عدوه فاذا شك في جارٍ هل انه عدو المولى ام لا، فيمكن التمسك بعموم الخطاب لاثبات وجوب اكرامه وانه ليس عدو المولى، وهذا ما اختاره المحقق العراقي “قده” في محله.

فالمهم في ردّ هذا الجواب أن نقول ان حمل الخطابات الشرعية على كونها بنحو القضية الخارجية وموجهة الى خصوص المخاطبين خلاف الظاهر، على ان الامر بالاحتياط في الشبهات الحكمية في ذلك الزمان الذي كان زمان حضور الامام (عليه السلام) لا يلازم الامر بالاحتياط في حقنا.

الجواب الثالث:

ان يقال ان هذا الايراد مبني على كون المراد من الهلكة في التعليل هو العقاب، وهذا لا يتلائم مع معتبرة مسعدة بن زياد حيث ورد فيها “إذا بلغك أنك قد رضعت من لبنها، أو أنّها لك محرّمة، وما أشبه ذلك، فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة” فان الهلكة فيها ليست بمعنى العقوبة بل مفسدة الوقوع في الزواج مع الأم او الاخت الرضاعية، والا فلاينبغي الاشكال في أنه ما لم يقم حجة معتبرة على تحقق الرضاع المحِّرم فيكون مقتضى استصحاب عدمه جواز الزواج منها مضافا الى موثقة مسعدة بن صدقة “كل شيء لك حلال حتى تعلم انه حرام وذلك مثل امراة تكون تحتك لعلها اختك او رضيعتك”، بضم الغاء الخصوصية عرفا عن فرض تحقق الزواج، خاصة ولعل الشك كان سابقا عليه، فتكون الهلكة اعم من العقوبة ومفسدة ارتكاب الحرام.

لكن الانصاف أن هذا البيان وان تم في الامور المهمة كالزواج بالاخت الرضاعية مثلا، حيث ان التعبير بالهلاك فيما اذا تبين أنه تزوج بأمه او اخته صحيح عرفا ولو ادعاء، لكنه لاتتم في ارتكاب مطلق الحرام غير المنجز، كأكل النجس الواقعي مع جريان اصل الطهارة فيه.

مضافا الى ما في مصباح الاصول من أن الترخيص في ارتكاب الشبهة في الشبهة الموضوعية التحريمية مما لا خلاف فيه بين الاصوليين والاخباريين، ولازم هذا الوجه شمول التعليل بكون الوقوف في الشبهة خيرا من الوقوع في مفسدة ارتكاب الحرام الواقعي لمثل الشبهات الموضوعية التحريمية فيكون مآله الى الالتزام بالتخصيص فيها، مع أنه يقال باباء هذا التعليل عن التخصيص عرفا.

الا أنه يمكن أن يقال بأن الترخيص في الشبهات الموضوعية يعنى رفع اليد عن ظهور كون الوقوف خيرا من الاقتحام في الهلكة بمعنى المفسدة في لزوم الوقوف، فيكون الوقوف فيه راجحا، وهذا ليس مستنكرا عرفا كما هو الواقع في مورد معتبرة مسعدة بن زياد.

وكيف كان فالمهم في دفع هذا الايراد هو الجواب الاول.

الايراد الثاني: أن الأصولي يستند في ارتكابه للشبهة إلى مدرك شرعي أو عقلي وليس مقتحما للشبهة

الايراد الثاني: ما في البحوث من أن الوقوف جعل مقابلا للاقتحام وليس الاقتحام بمعنى الاجتناب، مقابل الارتكاب، بل هو عبارة عن الإقدام فجأة، وبلا تريث ورويّة، فالنهي عن الاقتحام في الشبهة يكون بمعنى النهي عن الدخول بلا تريث ومبالاة، فيكون الحديث من قبيل سائر ما دلّ على انه لابد من مستند للاقتحام، ومن الواضح أن الأصولي يستند في ارتكابه للشبهة إلى مدرك شرعي أو عقلي وليس مقتحما للشبهة([9]).

وقد يستشهد لذلك ما في لسان العرب: تَقْحِيمُ‏ النفْسِ في الشي‏ء إدخالها فيه من غير رَويَّة، ولكن الظاهر أن متعلق الاقتحام في الحديث ‏حيث كان هو الهلاك فلا يناسب أن يكون بمعنى جواز الورود في الهلاك مع التريث والرويّة، بل ظاهره أن الهلاك شيء لا يرد فيه العاقل الا بدون تريث، بل لا يبعد أن يكون الظاهر عرفا من الاقتحام في الحديث هو الورود في الشيء، نظير قوله تعالى “فلا اقتحم العقبة”، وهذا هو مورد معتبرة مسعدة بن زياد.

الايراد الثالث: أن كلمة الشبهة معناها المثل والمماثلة

الايراد الثالث: ما في البحوث ايضا من أن كلمة الشبهة لا ينبغي ان تحمل على مصطلحات الأصوليين للشبهة أي‏ الشك، بل معناها اللغوي المثل والمماثلة، وباعتبار تماثل الطرفين في مورد الشك سمي بالشبهة، ومن يتتبع موارد استعمال كلمة الشبهة في الروايات يستنتج أنها كانت تستعمل بالمعنى اللغوي أي التشابه والتماثل في مورد يراد فيه بيان ان هذا المطلب بظاهره يشبه الحق ولكنه في باطنه ضلال وانحراف،

ففي نهج البلاغة “و انما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق، فاما أولياء اللَّه فضياؤهم فيها اليقين، ودليلهم سمت الهدى، واما أعداء اللَّه فدعاؤهم فيها الضلال، ودليلهم العمى([10])“، وفي بعض الروايات “ان الشبهة من الشيطان لأن الخديعة والمكر منه” وفي رواية عن الباقر (عليه السلام) انه قال قال جدي رسول اللَّه (صلى الله عليه وآله) أيها الناس حلالي حلال إلى يوم القيامة وحرامي حرام إلى يوم القيامة الا وقد بينهما اللَّه عزّ وجل في الكتاب وبينتهما في سنتي وفي سيرتي وبينهما شبهات من الشيطان وبدع بعدي فمن تركها صلح له امر دينه وصلحت له مروءته وعرضه” فساق البدع والشبهات مساقا واحدا مما يعني إرادة ذلك المعنى من الشبهة لا مجرد الشك وعدم العلم، ومما يؤيد هذا المعنى رواية أخرى عنه (عليه السلام) انه قال رسول اللَّه (صلى اللَّه عليه وآله) لأبي ذر “يا أبا ذر ان المتقين الذين يتقون اللَّه من الشي‏ء الّذي لا يتقى منه خوفا من الدخول في الشبهة” أي يكون بابا للدخول في بدعة من الدين ونحو ذلك.

فمجموع هذه القرائن توجب الاطمئنان بأن المراد بالشبهة في الطائفة الأولى، بل في أكثر كلمات الأئمة (عليهم السلام) معنى آخر غير المعنى الأصولي لكلمة الشبهة أي المراد بها الضلالة والخديعة والبدعة التي تلبس ثوب الحق ومن الواضح ان لزوم الوقوف عند الشبهة بهذا المعنى مما لا إشكال فيه ولكنه أجنبي عن محل الكلام([11]).

اقول: ظاهر الشبهة حسب الفهم العرفي والاستعمالات الكثيرة في الروايات هو ما يوجب التردد والريب في النفس، وتستعمل عادة في اشتباه الشيء بين كونه حقا او باطلا، ففي مقبولة عمر بن حنظلة “إنما الأمور ثلاثة: أمر بين رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله وإلى رسوله؛ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) حلال بين، وحرام بين، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات، وهلك من حيث لايعلم” فترى أنه جعل ما عدا الحرام البين والحلال البين في دائرة الشبهات، وذكر أن من اخذ بالشبهات هلك –بوقوعه في المحرمات- من حيث لا يعلم، ويؤيده ظاهر التفريع في ما روي عن أمير المؤمنين (عليه السلام) حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك، والمعاصي حمى الله فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها([12])، وفي رواية فضيل بن عياض عن أبي عبد الله (عليه السلام) فإذا لم يتق الشبهات وقع في الحرام وهو لا يعرفه([13]).

وفي الاحتجاج عن الحميري عن صاحب الزمان (عليه السلام) أنه كتب إليه يسأله عن رجل ادعى عليه رجل ألف درهم وأقام به البينة العادلة وادعى عليه خمسمائة درهم في صك آخر- وله بذلك كله بينة عادلة- وادعى أيضا عليه ثلاثمائة درهم في صك آخر ومائتي درهم في صك آخر وله بذلك كله بينة عادلة ويزعم المدعى عليه أن هذه الصكاك كلها قد دخلت في الصك الذي بألف درهم، والمدعي منكر أن يكون كما زعم… فأجاب: يؤخذ من المدعى عليه ألف درهم مرة واحدة وهي التي لا شبهة فيها وترد اليمين في الألف الباقي على المدعي([14]).

وفي معتبرة معمر بن خلاد عن أبي الحسن (عليه السلام) قال: كنت جالسا عنده آخر يوم من شعبان ولم يكن هو صائما فأتوه بمائدة، فقال ادن وكان ذلك بعد العصر، فقلت له جعلت فداك صمت اليوم فقال لي ولم، قلت جاء عن أبي عبد الله (عليه السلام) في اليوم الذي يشك فيه أنه قال يوم وفق له قال: أ ليس تدرون أنما ذلك إذا كان لا يعلم أ هو من شعبان أم من شهر رمضان فصام الرجل فكان من شهر رمضان كان يوما وفق له، فأما وليس علة ولا شبهة فلا([15])، وفي رواية عن الصادق (عليه السلام) من أراد التجارة فليتفقه في دينه ليعلم بذلك ما يحل له مما يحرم عليه ومن لم يتفقه في دينه ثم اتجر تورط الشبهات([16])، وفي رواية عن ابي جعفر (عليه السلام) في حديث أنه قال لزيد بن علي: إن كنت على بينة من ربك ويقين من أمرك وتبيان من شأنك فشأنك وإلا فلا ترومن أمرا وأنت منه في شك وشبهة([17]).

الايراد الرابع: أن الشبهة على معنيين..:

الايراد الرابع: ذكر بعض السادة الاعلام “دام ظله” حول روايات الوقوف عند الشبهة أن الشبهة على معنيين:

1- قد يطلق الشبهة على ما يكون له حكاية عن الواقع ولا يدرى أنه حق او باطل، ومعنى الامر بالتوقف فيها النهي عن الاعتماد على الدليل الموصوف بالشبهة، فوزانه وزان النهي عن اتباع غير العلم، وهذا لا يرتبط بالمقام اصلا، ومن هذا القبيل رواية جميل بن دراج “الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، ان على كل حق حقيقة وعلى كل صواب نورا، فما وافق كتاب الله فخذوه وما خالف كتاب الله فدعوه” فانها تدل على لزوم الاخذ بشواهد الكتاب والسنة وأنه لا يجوز الأخذ بالحديث الا مع وجود شاهد على كونه حقا وصوابا، فالمراد بالشبهة ما اشتبه فيه الحق والباطل، وورد في مقبولة عمر بن حنظلة بعد فرض فقد المرجحات، أنه اذا كان ذلك فأرجه حتى تلقى امامك، فان الوقوف عند الشيهات خير من الاقتحام في الهلكات، فهي تعني أنه مع فقد المرجحات فلا يعتمد على أي من الحديثين المتعارضين، وفي رواية ابي سعيد الزهري عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة وتركك حديثا لم تروه خير من روايتك حديثا لم تحصه، فهي تعني ان الانسان ما لم يجزم بأن ما ينقله كلام الامام (عليه السلام) فانه لا يجوز له ان ينقله منسوبا الى الامام.

ولا يخفى أن الشبهة قد تطلق على ما من شأنه ان يلبس الحق بالباطل وان احرز أنه باطل ومنه قول علي (عليه السلام) انما سميت الشبهة شبهة لأنها تشبه الحق.

2- قد تطلق الشبهة على اشتباه الحلال بالحرام، ويكون الامر بالتوقف فيها بمعنى الامر اللزومي او الاستحبابي بالاجتناب عنها، وقد ورد في ذلك روايات كثيرة، والظاهر منها استحباب الاحتياط إما حذرا من الوقوع في ابتلاء دنيوي او من حصول الاستعداد في الوقوع في الحرام، فمن هذا القبيل معتبرة مسعدة بن زياد عن جعفر عن آبائه (عليه السلام) أن النبي (صلى الله عليه وآله) قال: لا تجامعوا في النكاح على الشبهة (و قفوا عند الشبهة) يقول إذا بلغك أنك قد رضعت من لبنها وأنها لك محرم وما اشبه ذلك، فان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، فانها تدل على أن ما يحتمل فيه الحرمة الواقعية وان علم حليته ظاهرا يحسن الاجتناب عنه حتى لا يقع في المحذور لو انكشف الخلاف، فانه لا اشكال في عدم وجوب الاحتياط في مورد المعتبرة فانه شبهة موضوعية مضافا الى جريان استصجاب عدم الرضاع فيه، وقد ورد في رواية مسعدة بن صدقة جواز ذلك.

ومن هذا القبيل ايضا رواية النعمان بن بشير “ان لكل ملك حمى وان حمى الله حلاله وحرامه، والمشتبهات بين ذلك، كما لو أن راعيا رعى الى جانب الحمى لم نثبت غنمه أن تقع في وسطه، فدعوا المشتبهات، وكذا مرسلة الصدوق، عن امير المؤمنين (عليه السلام) حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك فمن ترك ما اشتبه عليه من الإثم فهو لما استبان له أترك، والمعاصي حمى الله فمن يرتع حولها يوشك أن يدخلها، فمفاد هاتين الروايتين الترغيب في ترك ما احتملت حرمته، لأن تركه يوجب قوة الاستعداد لترك المحرمات البيّنة، ولذلك اعتبر الاقتحام في الشبهات من قبيل الرتع حول الحمى، مع أنه ليس بحرام.

ولا يخفى عدم الاشكال في عدّ الحلال في رواية النعمان بن بشير من حمى الله، لأن الحلال غير المباح، وانما هو ما حلّ عنه الاسلام عقدة الحظر الثابت له في الجاهلية او في بعض الشرايع السابقة، فالحلية بهذا المعنى حكم هدمي للاسلام، ولذا التزمنا بأن شرط تركه فاسد، بمقتضى قوله “المؤمنون عند شروطهم الا شرط احلّ حراما او حرّم حلالا.

ومما ذكرناه في هاتين الروايتين يتضح مفاد ما في مقبولة عمر بن حنظلة من أنه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) “حلال بين، وحرام بين، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات، وهلك من حيث لايعلم” فان ظاهرها كون اللام في قوله “المحرمات” للعهد الذكري، فيكون مفادها أن من اخذ بالشبهات ارتكب الحرام البين، فتدلّ على استحباب ترك الشبهات استعدادا لترك الحرام البين([18]).

اقول: -مضافا الى أننا لم نفهم القرينة التي اوجبت الفرق بين مفاد رواية جميل بن دراج وما في ذيل مقبولة ابن حنظلة ورواية ابي سعيد الزهري، وبين رواية النعمان بن بشير ومرسلة الصدوق وصدر مقبولة ابن حنظلة، بحمل الامر بالوقوف في الشبهة في الطائفة الاولى على عدم الاستناد الى الأمارة المشكوكة وان جاز العمل بمضمونها استنادا الى أصل البراءة، وحمل الطائفة الثانية على الاحتياط العملي- لم يتضح لنا نكتة حمل روايات الطائفة الثانية كصدر المقبولة على الاستحباب، فان ظاهرها خصوصا المقبولة كون نكتة النهي هي معرضية ارتكاب الشبهات لكونه ارتكابا للحرام والهلاك من حيث لا يعلم، والا فارتكاب الحرام البين ليس هلاكا من حيث لا يعلم، على أن حمل اللام في “المحرمات” على العهد الذكري خلاف الظاهر خصوصا بعد اختلاف التعبير فيه عن التعبير الذي قبله بالحرام البيّن، كما أن الرتع حول الحمى من دون تجاوز فيه وان لم يكن محرما نفسيا، لكن يمكن المنع عنه منعا طريقيا حيث يكون في معرض الوقوع في الحمى اتفاقا.

الايراد الخامس: ان دليل حلية ارتكاب الشبهة البدوية بعد الفحص والبراءة الشرعية فيها وارد على عنوان الشبهة

الايراد الخامس: ان دليل حلية ارتكاب الشبهة البدوية بعد الفحص والبراءة الشرعية فيها وارد على عنوان الشبهة، فان ما ورد الترخيص القطعي من الشارع في ارتكابه لا يكون شبهة بقول مطلق، فان الشبهة ما وقع التردد بين كونه حقا او باطلا، والعمل بما رخص فيه الشارع ولو لاجل الشك في الحكم الواقعي حق وليس بباطل.

ولذا لم يستشكل احد في جريان الاصول المؤمنة في الشبهات الموضوعية التحريمية، كقاعدة اليد في مورد الشك في كون ما في ايدي الناس سرقة، او قاعدة سوق المسلمين لنفي احتمال كون اللحم غير مذكى ونحو ذلك، فبناء على الالتزام باباء قوله “فان الوقوف هند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة” عن التخصيص فيكون ذلك قرينة واضحة على ورود الاصل المؤمن على هذا الخطاب، وهذا ما ذكره السيد الخوئي “قده”([19]).

لكن قد يخطر بالبال عدم اباءه عن التخصيص، وذلك بتقريبين:

1- ان الشبهة ان كانت بمعنى مطلق مشكوك الحرمة الواقعية فالامر بالوقوف عندها ليس مما يأبى عن التخصيص، وما قد يكون آبيا عنه هو الكبرى المذكورة في ذيله من ان الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، وبوصول الترخيص في ارتكاب الشبهة الموضوعية التحريمية يرتفع موضوع هذا التعليل أي المعرضية للهلكة وجدانا.

2- ان الكبرى المذكورة في الذيل ايضا ليست آبية عن الحمل على الرحجان وعدم اللزوم، بناءا على تفسير تلك الكبرى بأن الاجتناب عن مشكوك الحرمة اولى من أن يرتكبه الانسان فيكون في معرض أن يصير متجرئا ولو تدريجا على ارتكاب الحرام القطعي فيهلك.

وهذا التقريب الثاني قد لايتلائم مع ما ورد في بعض تلك الروايات من قوله “و هلك من حيث لا يعلم” فانه لا يبعد أن يقال انه بمعنى أنه قد يصادف ارتكاب الشبهة الوقوع في المعصية والوقوع في الهلاك، وان احتمل فيه أن يكون بمعنى أن نفسه تجرّه شيئا فشيئا الى ارتكاب الحرام القطعي وان لم يكن يعلم بانجراره الى ذلك من الاول.

ان قلت: ان ما ذكر من كون الشبهة ما وقع التردد بين كونه حقا او باطلا، لا يتلائم مع معتبرة مسعدة بن زياد “لا تجامعوا في النكاح على الشبهة (و قفوا عند الشبهة) يقول إذا بلغك أنك قد رضعت من لبنها وأنها لك محرم وما أشبه ذلك فإن الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة” فان مقتضى الاستصحاب عدم تحقق الرضاع بينهما وقد ورد في رواية مسعدة بن صدقة عدم الاعتناء باحتمال الرضاع وان كان موردها المرأة التي تزوج منها الرجل، وهذه المعتبرة مطلقة.

قلت: بعد ثبوت جواز الزواج من هذه المرأة ما لم يثبت الرضاع بحجة شرعية كما دل عليه رواية مسعدة وغيرها فتطبيق الشبهة والهلكة على المورد يكون قرينة على كونه بلحاظ احتمال الوقوع في مفسدة مهمة، وهي مفسدة الزواج بالام او الاخت الرضاعية، ولا موجب لتعميم ذلك الى بقية الروايات وبالنسبة الى الامور غير المهمة.

ثم انه اتضح بهذا الجواب الاخير الجواب عما دل على لزوم التوقف عند الشبهة من دون تعليله بكون الوقوف عند الشبهة خير من الاقتحام في الهلكة، وذلك مثل قوله في ذم جماعة “و لا يقفون في الشبهات” و” لا ترومن امرا وانت منه في شك وشبهة” ونحوهما “دع ما يريبك الى ما لا يريبك” فان مضمونها امر عقلي وهو لزوم الركون الى العلم، والمفروض أن الاصولي الذي يفتي بجواز ارتكاب مشكوك الحرمة يركن في ذلك الى دليل البراءة الشرعية بل البراءة العقلائية والعقلية على القول بها، هذا مع غمض العين عن ضعف سند هذه الروايات.

هذا وقد ذكر بعض السادة الاعلام “دام ظله” في الاشكال على ورود اصل البراءة على الامر بالتوقف عند الشبهة أنه ان اريد من الشبهة ما لم يعلم فيه بالوظيفة الشرعية والعقلية معا فمع أنه خلاف ظاهر اشتباه الحلال بالحرام، لا يوجد له مورد، اذ يجب الاحتياط في الشبهة قبل الفحص والمقرونة بالعلم الاجمالي، وتجري البراءة العقلية في الشبهة البدوية بعد الفحص، وان اريد منه ما لم يعلم حليته وحرمته الواقعيتان والظاهريتان، فيقال بأنه بعد ثبوت الحلية الظاهرية لمشكوك الحرمة الواقعية فيصير من الحلال البيّن، ففيه اولا: انه متوقف على الالتزام بكون الحلية الظاهرية في روايات الحلّ مجعولة ثبوتا مع انه لا يستفاد منه أكثر من بيان المعذرية، فحلية مشكوك الحرمة ليست حكما قانونيا، وانما هي تنزيل ادبي، وثانيا: ان دليل البراءة في الشبهات الحكمية ليس هو روايات الحلّ لاختصاصها بالشبهات الموضوعية، ومثل حديث الرفع لا يستفاد منه الحلّية، وانما يستفاد منه جعل عدم الحكم الالزامي في مرحلة الظاهر.

وأما دعوى أن شمول روايات الوقوف عند الشبهة للشبهة الحكمية الوجوبية مع التسالم على عدم وجوب الاحتياط فيها يمنع من حمل الامر فيها بالوقوف على لزوم الاحتياط، ففيه أنه وان قلنا بأن الامر يقتضي النهي عن ضده العام فكان ترك الواجب حراما فمع ذلك لا يشمله التعبير بالوقوف، اذ هو يناسب الشبهة التحريمية دون الوجوبية.

اقول: نسلّم أن حكم العقل بالبراءة لا يخرج الشبهة عن كونها شبهة ويدرجه في الحلال البيّن، فان الظاهر من الشبهة في قبال الحلال البين والحرام البين هو ما اشتبه حكمه الشرعي ولو ظاهرا، ولكن الحلال البين يشمل عرفا مورد الترخيص القطعي من الشارع بالارتكاب كالشبهة التحريمية الموضوعية، وصياغة الحكم الظاهري من انشاء المعذرية او اعتبار عدم الحرمة او انشاء الحلية غير مهمة، والمهم روح الحكم الظاهري، وهي رضى المولى بالارتكاب، فانه يجعل الفعل من الحلال البين.

ثم انه لم يجب عن اشكال السيد الخوئي “قده” بالنسبة الى شمول أخبار الوقوف للشبهة الموضوعية التحريمية، الا أن يمنع من اباء لسانها عن التخصيص كما تقدم منا توضيحه.

هذا وقد يورد على ما ذكرناه من كون البراءة الشرعية يجعل المشكوك من الحلال البين، أن ما وجب الاجتناب عنه ظاهرا يصير من الحرام البين، فلا يبقى مصداق للشبهة، ولكن يرد عليه اولا: ان وجوب الاجتناب عن الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي عقلي، وهكذا على الأظهر الشبهة البدوية قبل الفحص، وقد سلمنا أن حكم العقل بالمعذرية او المنجزية لا يخرج المورد عن صدق الشبهة عرفا، وثانيا: لا يبعد أن يقال ان الامر الشرعي الطريقي بالتوقف في الشك في الحرمة قبل الفحص مثلا لا يجعل المورد عرفا من الحرام البين، والبين الغي الموجب للهلاك، فيختلف عن الحلال البين.

الطائفة الثانية: أخبار التثليث:

منها: مقبولة عمر بن حنظلة

منها: مقبولة عمر بن حنظلة فانه بعد ما امر الامام في الخبرين المتعارضين بالاخذ بالخبر المجمع عليه بين الاصحاب وترك الشاذ النادر قال (عليه السلام) “إنما الأمور ثلاثة: أمر بين رشده فيتبع، وأمر بين غيه فيجتنب، وأمر مشكل يرد علمه إلى الله وإلى رسوله؛ قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) حلال بين، وحرام بين، وشبهات بين ذلك، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات، وهلك من حيث لايعلم”([20]).

فيقال بأن مفاد هذه الرواية أن ما ليس بيّن الرشد ولا بيّن الغيّ -أي مشكوك الحرمة- امر مشكل، فيجب رد علمه الى الله والرسول، وهو الشبهة التي من اخذ بها هلك من حيث لا يعلم.

مناقشه

اقول: ان كان المراد من رد علم الامر المشكل الى الله هو لزوم الاحتياط والاجتناب العملي بترك مشكوك الحرمة اتحد حكمه مع بيّن الغيّ الذي امر بالاجتناب عنه، مع وضوح المقابلة بينهما في الرواية، فيفهم من ذلك أن رد علم الامر المشكل الى الله يعني التوقف عن اتخاذ رأي فيه لكونه مندرجا في القول بغير علم، فيكون ذلك قرينة على أن المراد من الاجتناب عن البيّن الغيّ الاجتناب عنه بعنوان أنه حرام، نعم ما استشهد به من كلام النبي (صلى الله عليه وآله) فهو ظاهر في نفسه في أن ما ليس بحلال بيّن ولا بحرام بيّن فهو من الشبهة التي لابد أن تترك، والا فيقع الانسان في المحرمات، ويهلك من حيث لا يعلم، فيكون وزانه وزان الطائفة الاولى، وقد يكون ذلك قرينة على كون الفارق بين الامر البينّ الغيّ والامر المشكل أن البين الغيّ يجتنب عنه بعنوان أنه حرام ولكن الامر المشكل الذي يكون مشكوك الحرمة يترك لا بعنوان أنه حرام جزما، بل بعنوان التوقف في حكمه.

وما في البحوث (من أن الاخذ بالشبهة يناسب الاعتماد عليها دون مجرد ارتكاب المشتبه، فيكون المراد من تركها هو عدم الاستناد اليها لا الاحتياط والا لم يناسب ذكره علة للحكم المذكور في كلام الامام (عليه السلام) من رد علم الامر المشكل الى الله ورسوله([21]) ففيه أن ظاهر قوله “فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات، ومن أخذ بالشبهات ارتكب المحرمات، وهلك من حيث لايعلم” هو أن العمل بالشبهات في معرض الوقوع في الحرام من حيث لا يعلم، بخلاف ترك الشبهات، وأما الالتزام بالحكم المشكوك فهو من التشريع والحرام القطعي، على أنه لا يساوق المعرضية للوقوع في المحرمات، فقد يلتزم هو بحرمة فعلٍ ومن الواضح انه لا يكون في معرض ارتكاب المحرم، ولعل استشهاد الامام (عليه السلام) به بلحاظ أن العمل بالخبر المجمع عليه كان من الحلال البين وكان مندرجا في القسم الاول من كلام النبي (صلى الله عليه وآله) والعمل بالخبر الشاذ قد يؤدي الى ارتكاب الشبهة، وذلك فيما اذا دلّ على حلية شيء مشكوك الحرمة، وهذا لا يمنع من اطلاق امر النبي (صلى الله عليه وآله) بترك الشبهات للشبهة قبل الفحص.

وعليه فينحصر الجواب عنها بما مرّ من أنه بعد ورود النص على الترخيص الشرعي لارتكاب مشكوك الحرمة الواقعية فيدخل في بيّن الرشد، بل قد يقال انه بعد حكم العقل او العقلاء بجواز ارتكاب الشبهة البدوية بعد الفحص فيكون من بيّن الرشد، ويخرج عن الشبهة التي هي بمعنى المشتبه بين الحق والباطل، والا فماذا يقال عما هو المسلّم عند الكلّ من جواز ارتكاب الشبهات الموضوعية التحريمية، فانه لا يمكن الالتزام بتخصيصه، اذ الكبرى المذكور في كلام النبي (صلى الله عليه وآله) آبية عن التخصيص.

کلام السيد الامام “قده”

هذا وقد ذكر السيد الامام “قده” ان هذه الفقرة من المقبولة حيث وردت في مورد تعارض خبر مجمع عليه بين الاصحاب مع خبر شاذ نادر، والذي ذكر الامام (عليه السلام) أن المجمع عليه يؤخذ به، ويترك الشاذ النادر الذي ليس بمشهور عند الاصحاب، فان المجمع عليه لا ريب فيه، وقد ثبت في محله أن المراد من الشهرة في المقبولة هي الشهرة العملية دون مجرد الشهرة الروائية، (اذ الخبر المشهور شهرة عملية بمرتبة صار مقابله من الشاذ النادر هو الذي يصدق عليه بقول مطلق أنه ما لا ريب فيه، والا فالخبر المشهور شهرة روائية اذ لم يشتهر العمل به بين الاصحاب او اعرضوا عنه فلا يصدق عليه أنه مما لا ريب فيه بل يكون فيه كل الريب) فلا محالة يكون الخبر الشاذ المضاد لهذا الخبر المشهور شهرة عملية مما لا ريب في بطلانه، لكونه مضادا لما لا ريب في صحته، فيكون بيّن الغيّ، ولا يكون من الأمر المشكل الذي يردّ حكمه إلى اللَّه، فيكون مثال الأمر المشكل هو الخبر الذي ليس مجمعا على صحته او بطلانه، وهذا هو الذي عبّر عنه في رواية جميل بن صالح بأمر اختلف فيه، ولا أظنّ أنّ الأخباري يلتزم فيه بوجوب التوقّف والردّ إلى اللَّه تعالى، فإنّه لا يجتنب عن الإفتاء في المسائل التي اختلف فيها الأصحاب، وإن كان الأرجح عقلًا هو التوقّف والاحتياط وإرجاع الأمر فيه إلى اللَّه.

وبما ذكرنا يظهر المراد من قوله “حلال بيّن وحرام بيّن وشبهات بين ذلك، فمن‏ اجتنب الشبهات نجى عن المحرّمات” فإنّ الحلال البيّن والحرام البيّن ما اجتمعت الامّة على حلّيته وحرمته، والمشتبه ليس كذلك، فهو ممّا يحسن فيه الاحتياط بالاجتناب، ويشهد على كون الاحتياط راجحا في المقام لا واجبا، التعليل بأنّ من أخذ بالشبهات وقع في المحرّمات؛ بمعنى أنّ النفس مهما تعوّدت على ارتكاب المشتبه فلا محالة تحصل فيه جرأة الارتكاب بالمحرّمات، ولكن مجرد ذلك لا يوجب حرمة ارتكاب المشتبه، وما أحسن وأبلغ ما في بعض الروايات من تشبيه مرتكب الشبهات بالراعي حول الحمى لا يطمئنّ عن هجوم القطيعة على نفس الحمى‏، وإلّا فالرعاية حول الحمى من دون تجاوز إليه ليس أمراً محرّماً بلا إشكال([22]).

مناقشه

اقول: يلاحظ عليه اولاً: ان ما ذكره من كون المراد من الشهرة في المقبولة وان كان هو الشهرة العملية، ولكن يمكن ان يندرج الخبر الشاذ النادر في الامر المشكل الذي يرد علمه الى الله، بأن يلحظ هذا الخبر في حد ذاته من دون فرض كونه مبتلىً بالمعارضة مع الخبر المشهور، فهو وان كان لا يتبع، لعدم حجيته، لكن لا يجتنب عنه أي لا يحكم ببطلان مضمونه.

وثانيا: ان اندراج الخبر الشاذ في البيّن الغيّ لا يختص بتفسير الشهرة في المقبولة بالشهرة العملية، بل بناء على ما اختاره جماعة، كالسيد الخوئي “قده” من كون المراد من الشهرة في المقبولة الشهرة الروائية، بأن يكون الخبر واضح الصدور، كما يقال شهر سيفه أي اظهره، فيقال بأن الخبر المشهور مما لا ريب في صدوره، فيكون صدوره بيّن الرشد، كما أن اتباعه ايضا بيّن الرشد حيث يقطع بحجيته، وان لم يكن مضمونه مقطوعا به، وأما الخبر الشاذ النادر المعارض له فيقطع بعدم حجيته، لكونه مخالفا للسنة القطعية أي الكلام القطعي الصدور من المعصوم (عليه السلام) فيكون اتباعه بيّن الغيّ، وان كان يحتمل أن يكون مضمونه هو المطابق للواقع لا مضمون الخبر القطعي الصدور، لكن لا يصح أن ندرجه بلحاظ مضمونه في الامر المشكل الذي يرد علمه الى الله، حيث انه بعد حجية الخبر المشهور والالتزام بمضمونه فيتعبد بعدم صحة مضمون الخبر الشاذ، فلا يكون امرا مشكلا حتى يرد علمه الى الله.

وثالثا: ما ذكره من أن الخبر الذي ليس مجمعا على صحته او بطلانه يكون من الامر المشكل ومن الواضح أنه لا يجب التوقف فيه وانما يستحب، ففيه ان الاختلاف في صحة شيء وبطلانه ليس له موضوعية، فلو اتضح الحق للانسان فلابد أن يتبعه وان وقع فيه الخلاف، وعليه فمن الواضح أن ما هو مصداق للامر المشكل هو الخبر الذي لا يتبين للانسان صحة مضمونه او بطلانه ولا يكون واجدا لشرائط الحجية، فلا يقبل مضمونه كما لا ينكر، بل يلزم التوقف فيه.

ورابعا: ما ذكره من أن من يرتع حول الحمى من دون تجاوز فيه ليس محرما، ففيه انه وان لم يكن محرما نفسيا، لكن يمكن المنع عنه منعا طريقيا حيث يكون في معرض الوقوع في الحمى اتفاقا.

ومنها: رواية الحسن بن سعيد عن الحارث بن محمد بن النعمان الاحول (لا يبعد وثاقته لرواية ابن ابي عمير عنه) عن جميل بن صالح (وثقه النجاشي) عن الصادق عن آبائه (عليهم السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) الأمور ثلاثة أمر تبين لك رشده فاتبعه وأمر تبين لك غيه فاجتنبه وأمر اختلف فيه فرده إلى الله عز وجل([23]).

اقول: قد يورد على الاستدلال بها على وجوب الاحتياط في الشبهات بما في البحوث من أن عنوان بين الرشد وبين الغي انما يناسب مدركات العقل العملي، أي ما يكون رشدا وحسنا وهداية في قبال ما يكون ظلما وضلالة، فتكون دالة على ان ما لم يدرك العقل العملي حسنه بشكل بين فلا تحكم فيه ذوقك واستحساناتك، بل رد حكمه إلى اللَّه والرسول فتكون من أدلة النهي عن إعمال الرّأي في الدين ولا أقل من احتمال ذلك، كما يحتمل ان يكون المراد بيّن الرشد وبيّن الغي المجمع على جوازه والمجمع على حرمته، بقرينة جعل القسم الثالث ما اختلف فيه لا ما شك فيه فان المختلف فيه قد يكون بين الرشد أو الغي لدى الإنسان وهذا ان لم يكن هو الظاهر فلا أقل من احتماله وبناء عليه تكون الرواية أجنبية عن محل الكلام.

وفيه أن حمل بيّن الرشد او الغيّ على خصوص مدركات العقل العملي بلا وجه، وهكذا حمل قوله “تبين لك رشده” و” تبين لك غيه” على خصوص المجمع عليه، على انه لو كان جواز شيء واضحا لدى المكلف فلا يناسب أن يؤمر برده الى الله، بمجرد اختلاف جمع من الناس فيه.

فالصحيح في الجواب عنه أن يقال -مضافا الى ما مر آنفا من ورود دليل الترخيص الشرعي عليه حيث يصير بذلك بين الرشد- أن الظاهر من رد الامر المختلف فيه -أي المشكوك بقرينة مقابلته مع قوله تبين لك رشده وقوله تبين لك غيه- الى الله هو التوقف عن اظهار الرأي بالنسبة الى حكمه الشرعي الواقعي لا الاحتياط بالاجتناب العملي عنه والا اتحد مع بيّن الغيّ الذي امر بالاجتناب عنه.

ومنها: ما في غوالي اللئالي عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: حلال بين وحرام بين وبينهما شبهات لا يعلمها كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه ألا إن لكل ملك حمى وإن حمى الله تعالى محارمه([24]).

وتقريب الاستدلال بها أنها قسّمت الوقايع الى الحلال الواقعي البين والحرام الواقعي البين والشبهات، ثم نهت عن ارتكاب الشبهات نهيا ظاهريا طريقيا، ولكن يرد عليه -مضافا الى ضعف سندها- أنه لا يستفاد منها النهي الشرعي عن ارتكاب الشبهات، بل لعلها ارشاد الى ما هو نتيجة ارتكاب الشبهات من كونه موجبا للوقوع في الحرام احيانا، ولو من باب أنه قد يوجب الجرأة على الحرام، على أنه لا وجه لتخصيص الحلال البين بالحلال الواقعي البين، بل يشمل الحلال الظاهري البين، وورود الترخيص في ارتكاب الشبهات الموضوعية التحريمية بل الحكمية بعد الفحص يدرج الواقعة في الحلال البين، والشبهة تختص بالشبهة بعد الفحص والمقرونة بالعلم الاجمالي حيث لم يعلم بتحريمه ولا ترخيصه ولو ظاهرا، وانما حكم العقل فيه بالاحتياط.

وبما ذكرناه اتضح الجواب عما في امالي الشيخ الطوسي عن النعمان بن بشير قال سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول إن لكل ملك حمى وإن حمى الله حلاله وحرامه والمشتبهات بين ذلك كما لو أن راعيا رعى إلى جانب الحمى لم تثبت غنمه أن تقع في وسطه فدعوا المشتبهات([25])، فانه مضافا الى ضعف سنده يكون دليل الترخيص في ارتكاب المشتبه موجبا لاندراج الفعل في حلال الله، نعم مجرد البراءة العقلية لا يكفي في ذلك فانه يختلف عن عنوان بين الرشد، نعم لا مانع من دعوى كفاية البراءة العقلائية غير المردوعة لكونه رخصة شرعية في الحقيقة.

استدلال صاحب الحدائق على القول بوجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية التحريمية

هذا وقد استدل صاحب الحدائق على القول بوجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية التحريمية بأنه لو تم ما ذكره الاصوليون من البراءة دخل المشتبه في الحلال البين، وتعين القول بالتثنية وهو الحلال والحرام([26]).

وأجاب عنها بعض السادة الاعلام “دام ظله” بأن الاصولي لاينكر التثليث، فان التزامه بجواز ارتكاب المشتبه لا يجعله من قبيل الحلال البين، كما أن التزام الاخباري لا يجعله من الحرام البين.

ثم قال: ان مقبولة عمر بن حنظلة ورواية الحارث بن محمد الاحول (الذي ناقش في وثاقته ولكنه غير متجه لرواية ابن ابي عمير عنه وهو يعترف بالتوثيق العام لمشايخه) عن جميل بن صالح، دلتّا على أن الامور ثلاثة بين رشده وبين غيه وامر مشكل يرد علمه الى الله، ومفاده انه لا يجوز اتباع ما يحكي عن الواقع من دون أن يقترن بشواهد تجعله من بين الرشد، بل لابد من رده الى الله ورسوله وخلفاءه حتى يبينوا الحق عن الباطل، وقد طبقت المقبولة ذلك على مورد الخبرين المتعارضين، ولا نظر له الى وجوب الاحتياط في المشتبه.

وقد ورد تثليث آخر في المقبولة حيث ورد فيها “قال رسول الله (صلی الله علیه وآله) حلال بين وحرام بين وشبهات، فمن ترك الشبهات نجا من المحرمات ومن أخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم” ولا ظهور له في حد ذاته في وجوب الاحتياط في الشبهات، بل لا يبعد أن يكون مفاده حسن الاحتياط استعدادا لترك المحرمات.

لكن قد يقرب دلالته على اللزوم بما اشار اليه الشيخ الأعظم “ره” من أن هذا التثليث ذكر استشهادا على التثليث المتقدم، وهذا يعني كون القسم الثالث فيهما متناسبا، وحيث أن الحكم بوجوب رد علم الامر المشكل الزامي فيكون الامر بالاجتناب عن المشتبه الزاميا، (الا أنه تمسك في اثبات كون الامر برد المشكل الزاميا بأنه طبق على الخبر الشاذ والذي لا ريب في وجوب طرحه، ولكنه لا حاجة اليه لان المراد بالمشكل ما اشتبه فيه الحق بالباطل، ولا ريب في لزوم التوقف في مثله) ثم اجاب عنه الشيخ بانه يكفي في مناسبة ذكر كلام النبي (صلى الله عليه وآله) ولو لم يكن الامر بترك الشبهات الزاميا أنه اذا الاحتياط فيه راجحا حذرا من الوقوع في مفسدة الحرام فكذلك طرح الخبر الشاذ واجب لوجوب التحري عند تعارض الخبرين في تحصيل ما هو اقرب الى الواقع.

وما ذكره لا يخلو من وجه، فان الامام (عليه السلام) لم يذكر كلام النبي (صلى الله عليه وآله) استدلالا، لاختلافهما موضوعا، وانما ذكره استيناسا من باب ذكر شواهد وأشباه من الكتاب والسنة القطعية، لبيان موافقة الحكم الذي ذكره مع الكتاب والسنة روحا، وان لم يكونا ظاهرين في ذلك الحكم المذكور، ويوجد لهذا امثلة كثيرة في الروايات([27]).

اقول: قد مر آنفا ظهور قوله في المقبولة “حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك فمن ترك الشبهات نجى من المحرمات ومن اخذ بالشبهات وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم” في لزوم ترك الشبهات، لأنه ان ارتكبها فقد يصادف كونها الحرام فيهلك من حيث لا يعلم، والا فكون ارتكاب الشبهة غير المتنجزة موجبا لجرأة النفس على ارتكاب الحرام البيّن، لا يوجب كون ارتكاب الحرام البيّن موجبا للهلاك من حيث لا يعلم.

الطائفة الثالثة: واهمها ثلاث روايات:

الاول: رواية سليمان بن داود

الرواية الاولى: رواية سليمان بن داود عن عبد الله بن وضاح قال: كتبت الى العبد الصالح (عليه السلام) يتوارى القرص ويقبل الليل ثم يزيد الليل ارتفاعا وتستتر عنا الشمس وترتفع فوق الليل (هكذا في الاستبصار وفي الوسائل، ولكن في التهذيب: فوق الجبل) حمرة ويؤذن عندنا المؤذنون فأصلي حينئذ وأفطر إن كنت صائما أو أنتظر حتى تذهب الحمرة التي فوق الليل (هكذا في الاستبصار وفي الوسائل، ولكن في التهذيب: فوق الجبل)، فكتب إلي أرى لك أن تنتظر حتى تذهب الحمرة وتأخذ بالحائطة لدينك([28]).

الکلام فی سند الروایة

وليس في السند من يتأمل فيه عدا سليمان بن داود المنقري، فانه وان وثقه النجاشي، لكن نقل العلامة الحلي في رجاله عن ابن الغضائري أنه قال انه ضعيف جدا لا يلتفت اليه، يوضع كثيرا على المهمات، فمن يرى اعتبار نقل العلامة لكلام ابن الغضائري ويرى حجية تضعيفات ابن الغضائري فيتعارض مع توثيق النجاشي، الا أنه يبدو في الذهن عدم اعتبار نقل العلامة، حيث ان احتمال وصول كتاب ابن الغضائري الى العلامة بطريق حسي، بنحو تجري أصالة الحس في نقله بأن نحتمل كونه من الكتب المشهورة، موهوم جدا، لا لأجل عدم ذكر العلامة لهذا الكتاب في اجازاته الكبيرة المحكية عنه في اجازات البحار، لعدم قرينة على كونه في مقام حصر ما وجده من الكتب، بل لأجل ما ذكره الشيخ في اول الفهرست من أن أحمد بن الحسين بن عبيد الله كان له كتابان، ذكر في أحدهما المصنفات وفي الآخر الأصول، غير أن هذين الكتابين لم ينسخهما أحد من أصحابنا واخترم (أي مات فجعة، ولعله كناية عن موته في ايام شبابه) هو “ره” وعمد بعض ورثته إلى إهلاك هذين الكتابين وغيرهما من الكتب على ما حكى بعضهم([29])، وأما عدم تعرض النجاشي له (مع أنه كان بصدد بيان الكتب التي صنفها الإمامية، حتى أنه يذكر من الكتب ما لم يره وإنما سمع اسمه من غيره أو رآه في كتاب، وقد تعرض لترجمة الحسين بن عبيد الله وذكر كتبه، ولم يذكر فيها كتاب الرجال، كما أنه حكى عن ابنه أحمد بن الحسين في عدة موارد، ولم يذكر أن له كتاب الرجال) فلعله لأجل كونه كتاب احمد بن الحسين، والنجاشي وان كان ينقل عنه في مجالات مختلفة من رجاله، لكن حيث كان زميله (فقد ذكر في مورد “قرأته أنا وأحمد بن الحسين ره على أبيه([30]) فلم يترجمه لأنه لم يعهد منه ترجمة لمعاصريه، ولذا لم يترجم الشيخ الطوسي، وعليه فيطمأن بعدم اشتهار كتاب رجال ابن الغضائري الى زمان العلامة ولا وصوله اليه بواسطة مشايخه الذين كانت سلسلتهم تصل الى الشيخ الطوسي، فيبقى توثيق النجاشي بلا معارض، وبذلك يثبت تمامية سند الرواية.

الکلام فی دلالة الرواية

وأما دلالة الرواية على وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية فتقريبها أن السؤال كان عن مبدأ وقت صلاة المغرب وافطار الصوم وأنه هل هو استتار القرص او ذهاب الحمرة المشرقية، فالامام (عليه السلام) لم يبيِّن فيه الحكم الواقعي رعاية لظروف التقية، واكتفى ببيان الوظيفة الظاهرية في الشبهة الحكمية، فامر بالاحتياط، وهذا ايضا وان كان فيه نحو مخالفة للعامة، حيث ان تسالمهم على كفاية استتار القرص، لكن عدم بيان الحكم الواقعي المخالف لهم والتنزل الى الامر بالاحتياط الذي هو في مورد الشك اقرب الى مدارة العامة، ولا يكون منافيا لشأن الامام (عليه السلام) وخلاف المتوقع منه من بيان الأحكام، لا بيان الوظيفة الظاهرية عند التحيّر عن معرفة الحكم الواقعي.

المحتملات الثلاثه في الرواية

ولكن الانصاف عدم تمامية هذا التقريب، فان المحتملات في الرواية ثلاثة:

1- أن يكون المراد من الحمرة الحمرة المغربية، وقد جعله في المستمسك أقوى الاحتمالات، فانه بعد ما قال بأن الحمرة التي ترتفع فوق الجبل ليست ظاهرة في الحمرة المشرقية، ذكر أن ظاهر‌ قوله “و يُقبِل الليل، ثمَّ يزيد الليل ارتفاعاً” تبدل الحمرة المشرقية بالسواد، وزوالها عن المشرق، فتكون الرواية مناسبة لمذهب الخطابية من كون وقت صلاة المغرب زوال الحمرة المغربية([31]).

وعليه فتسقط هذه الرواية عن الاعتبار لموافقتها لمذهب الخطابية لعنهم الله.

لكن هذا الاحتمال بعيد جدا، ولا يتناسب مع قوله بعد ذلك “و يؤذّن عندنا المؤذّنون، فأصلّي حينئذ او أنتظر حتى تذهب الحمرة”، فان اذان العامة للمغرب كان بمجرد زعمهم لاستتار القرص.

2- أن يكون المراد من الحمرة، الحمرة في أعلى الجبل، لا الحمرة المشرقية، ويكون ذلك موجبا لاحتمال بقاء الشمس وراء الجبل، وعدم استتارها تحت الافق، ولا فرق في ذلك بين كون الجبل في المغرب او في المشرق، فامر الامام (عليه السلام) بالاحتياط، وهو المطابق لاستصحاب عدم استتار الشمس.

3- أن يكون المراد من الحمرة، الحمرة المشرقية، وهذا ما اختاره المحقق الهمداني “قده” فذكر أن احتمال كون المراد بالحمرة المرتفعة فوق الجبل- أو الليل في خبر ابن وضاح- الصفرة الحاصلة في الأماكن العالية عند إشراف الغروب، التي هي عبارة عن اصفرار الشمس، أو حمرة عارضيّة موجبة للشكّ في غيبوبة القرص، حتّى يكون الأمر بالاحتياط بواسطة كونه شبهة موضوعية، في غاية البعد عن سياق السؤال، إذ المقصود بذكر ارتفاع الحمرة، كذكر ارتفاع الليل، وسائر الفقرات المذكورة في السؤال ليس إلّا تأكيد ما ذكره أوّلا من مواراة القرص، فغرضه ليس إلّا الاستفهام عن أنّه هل تجوز الصلاة والإفطار عند مواراة القرص، أم يجب الانتظار إلى أن تذهب الحمرة التي يتعارف ارتفاعها بعد الغروب وهي الحمرة المشرقيّة؟، نعم بناء على أن يكون متن الرواية “فوق الجبل” كما في بعض النسخ، لا “الليل” كما في بعضها الآخر، لا يبعد أن يكون المراد بها الحمرة الحادثة في الأماكن العالية بواسطة انعكاس الحمرة الحاصلة في ناحية المغرب بعد غيبوبة القرص، وعلى هذا التقدير أيضا تدلّ على المطلوب([32]).

اقول: ان المذكور في سؤال السائل هو تواري الشمس واستتارها عن نظرهم، وهذا لا يعني احراز استتارها تحت الأفق، وهذا واضح بناء على ما في التهذيب من لفظ الجبل، وعليه فالاحتمال الثالث ليس بمتعين في قبال الاحتمال الثاني.

هذا مضافا الى أنه بناء على الاحتمال الثالث فالذي يتوقع من الامام (عليه السلام) بيان الحكم الواقعي، فلا يظهر من الامر بالأخذ بالحائطة للدين هو وجوب الاحتياط في الشبهات الحكمية بعد الفحص، فان الاخذ بالحائطة للدين انما هو بمعنى جعل الوقاية والحافظ للدين، من باب حاط الشيء اذا تعاهده وحفظه، نعم لو استعمل في مورد الشك صار ظاهر في الاحتياط بمعناه المعروف، ويشهد على ما ذكرناه أن مورد الرواية من الشبهة الحكمية الوجوبية، ولم يلتزم مشهور الاخباريين بوجوب الاحتياط فيها، على أنه لا يستفاد منه عموم بالنسبة الى الشبهات الحكمية بعد الفحص، وانما امر بالاحتياط في خصوص المورد، والذي قد يكون من الشبهة قبل الفحص، ويكون الداعي منه ايصال وجوب التأخير الى زوال الحمرة المشرقية بهذا البيان الذي هو ألطف في مخالفة العامة من بيان الحكم الواقعي مباشرة.

هذا وقد ذكر بعض السادة الاعلام “دام ظله” أن التشويش الموجود في متنها (حيث ان قوله “يتوارى عنا القرص” و “ويستر عنا الشمس” و “يؤذن عندنا المؤذنون” يناسب كون مورد السؤال هو القول بكون الميزان زوال الحمرة المشرقية، ولكن قوله “و يقبل الليل –اي الظلمة- ويزيد الليل ارتفاعا” يناسب كون مورد السؤال هو القول بكون الميزان زوال الحمرة المغربية، و كذا قوله “ويرتفع فوق الجبل حمرة” اذا اريد به الجبل في طرف المغرب”) فانه يمنع من الوثوق بالصدور الذي هو المعتبر عندنا([33])، ولكن قد مرّ أن الصحيح حجية خبر الثقة.

الثانی: رواية أبي هاشم الجعفري

الرواية الثانية: رواية أبي هاشم الجعفري عن الرضا (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال لكميل بن زياد “أخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت”([34]).

وتقريب الاستدلال بها على لزوم الاحتياط واضح، والجواب عنها -مع غمض العين عن ضعف سندها- أولا: ما مر آنفا من أن الاحتياط للدين يعني حفظ الدين وتعاهده، ولا علاقة له بالاحتياط المصطلح، ويكون قوله “بما شئت” بناءا عليه بمعنى “بأية طريقة تراه مناسبا لذلك” وثانيا: انه لو فرض كون المراد منها الامر بالاحتياط في الشبهات فلا يظهر منها الوجوب لمكان قوله “بما شئت”، بعد كونه صالحا للقرينية على ذلك.

وذكر الشيخ الاعظم “قده” (بعد ما قال بأن حملها على الوجوب حيث يستلزم خروج اكثر الشبهات مما اتفق الاصحاب على عدم وجوب الاحتياط فيها، فإما أن يحمل على جامع الطلب او الارشاد الى حكم العقل المختلف حسب اختلاف الموارد) أن الذي يقتضيه دقيق النظر أن الأمر المذكور بالاحتياط استحبابي، لأن المقصود منه بيان أعلى مراتب الاحتياط، لا جميع مراتبه ولا المقدار الواجب، والمراد من قوله “بما شئت” ليس التعميم من حيث القلة والكثرة، والتفويض إلى مشية الشخص، لأن هذا كله مناف لجعله بمنزلة الأخ، بل المراد أن أي مرتبة من الاحتياط شئتها فهي في محلها، وليس هنا مرتبة من الاحتياط لا يستحسن بالنسبة إلى الدين، لأنه بمنزلة الأخ، وليس بمنزلة سائر الأمور التي لا يستحسن فيها بعض مراتب الاحتياط كالمال وما عدا الأخ من الرجال فهو بمنزلة قوله تعالى‏ فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُم‏([35])، والانصاف أن التعبير بالمشية مما يصلح لأن يكون منبها على مجرد الترغيب الى الاحتياط من دون الزام، فيختلف عن التعبير بالاستطاعة.

الثالث: صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج

الرواية الثالثة: صحيحة عبد الرحمن بن الحجاج قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجلين أصابا صيدا وهما محرمان الجزاء بينهما أو على كل واحد منهما جزاء فقال: لا، بل عليهما أن يجزي كل واحد منهما الصيد، قلت: إن بعض أصحابنا سألني عن ذلك فلم أدر ما عليه، فقال إذا أصبتم بمثل هذا فلم تدروا، فعليكم بالاحتياط حتى تسألوا عنه فتعلموا([36]).

والاستدلال بها مبني على كون المراد من قوله “إذا أصبتم بمثل هذا” هو الابتلاء بمثل هذا الصيد فلا تدرون ما هي وظيفتكم”، وهذا غير واضح، اذ يحتمل أن يراد به الابتلاء بمثل هذا السؤال عن حكم شيء، فلا تدرون ما الجواب فيكون مفاد الحديث النهي عن القول بغير علم في الاحكام الشرعية، بل هذا الاحتمال اظهر، بمقتضى السياق حيث ان المخاطب كان مبتلى بعدم معرفة جواب ما سُئل عنه، فتدل على لزوم الاحتياط في الجواب وان كان القول بغير العلم حراما قطعيا لعدم كون الاحتياط بمعناه المصطلح.

هذا مضافا الى أنه لا يدل على اكثر من لزوم الاحتياط في الشبهة الحكمية قبل الفحص، اذ الخطاب كان متوجها الى جماعة كانوا يتمكنون من سؤال الامام (عليه السلام)، ولا يمكن الغاء الخصوصية عنهم الى مثلنا في الشبهات الحكمية بعد الفحص، حيث لسنا قادرين على السؤال والتعلم، بل قد ينصرف قولنا ” اذا ابتلي المكلف بواقعة ولم يعرف حكمها فيجب عليه الاحتياط حتى يسأل عن حكمها فيعلم به” الى فرض القدرة على السؤال والتعلم ولو في المستقبل، فلا يشمل عصر الغيبة.

 

 



[1] – بحوث في علم الاصول ج 5ص85

[2] – سورة الحج :78و77

[3] – وسائل الشيعة ج‌27 ص 119

[4] الكافي(طبع دار الحديث) ج1ص171

[5] – وسائل الشيعة ج‌27 ص 155

[6] – وسائل الشيعة ج‌20 ص 259

[7] – نهج البلاغة الخطبة 87

[8] – نهاية الدراية ج‏4 ص101

[9] – بحوث في علم الاصول ج5 ص91

[10]– نهج البلاغة، الخطبة 87.

[11] -بحوث في علم الاصول ج5ص93

[12] – وسائل الشيعة ج‌27 ص 175

[13] – وسائل الشيعة ج‌27 ص 162

[14] – وسائل الشيعة ج‌27 ص 273

[15] – وسائل الشيعة ج‌10 ص 24

[16] – وسائل الشيعة ج‌17 ص 382

[17] – وسائل الشيعة ج‌27 ص 157

[18] – التقرير المخطوط

[19] – مصباح الاصول ج2ص299

[20] – وسائل الشيعة ج‌27 ص 157

[21] – بحوث في علم الاصول ج5ص99

[22] – تهذيب الأصول ج‏3 ص105

[23] – وسائل الشيعة ج‌27 ص 162

[24] – مستدرك الوسائل ج‌17، ص: 323

[25] – وسائل الشيعة ج‌27 ص 167

[26] – الحدائق الناضرة ج1ص46

[27] – التقرير المخطزط

[28] – وسائل الشيعة ج‌10 ص 124

[29] – الفهرست ص22

[30] – رجال النجاشي ص83

[31] – مستمسك العروة الوثقى ج‌5 ص 75

[32] – مصباح الفقيه ج‌9 ص 154‌

[33] – التقرير المخطزط

[34] – وسائل الشيعة ج‌27 ص 167

[35] – فرائد الاصول ج 1ص349

[36] – وسائل الشيعة؛ ج‌13، ص: 46