بسمه تعالی
الاشكال على الجمع بين الاستدلال بروايات البراءة والاستدلال باستصحاب عدم التكليف.. 1
جواب السید الخویی ره عن الاشکال. 2
ادلة الأخباريين على وجوب الاحتياط.. 4
قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ونسبتها مع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.. 4
الجواب الرابع: ما هو الصحيح.. 8
الاستدلال على وجوب الاحتياط بالعلم الاجمالي.. 9
توجیه جریان الاحتیاط في الشبهة الحكمية الوجوبية عند الاخباریین.. 10
ادلة برائة الشرعیه
الاشكال على الجمع بين الاستدلال بروايات البراءة والاستدلال باستصحاب عدم التكليف
يوجد اشكال على الجمع بين التمسك باستصحاب عدم التكليف للتأمين عن التكليف المشكوك وبين الاستدلال بروايات البراءة مثل حديث الرفع او الحجب لاثبات البراءة الشرعية، حيث يقال: انه اذا جرى استصحاب عدم التكليف فيكون حاكما على اصل البراءة، ولا يبقى له الا موارد نادرة، كمورد توارد حالتي التكليف وعدمه في فعل، والشك في المتقدم والمتأخر منهما، وهذا يوجب لغوية أصل البراءة عرفا، او فقل ان لسان حديث الرفع ونحوه يأبى عن حمله على كونه بصدد التأمين عن التكليف في خصوص توارد الحالتين مثلا.
جواب السید الخویی ره عن الاشکال
وقد أجاب السيد الخوئي “قده” عن هذا الاشكال بوجهين:
الوجه الاول: ان دليل البراءة كحديث الرفع لا يدل على جعل اصل براءة في قبال الاستصحاب، بل يدل على اصل التأمين في الشبهات، ولعل نكتته الثبوتية في غالب الموارد هي جريان الاستصحاب.
الوجه الثاني: انه لو فرض دلالة مثل حديث الرفع على التعبد بأصالة البراءة في قبال الاستصحاب فلا يلزم من جريان استصحاب عدم التكليف وحكومته على أصالة البراءة اختصاص أصالة البراءة بالموارد النادرة، بل تجري في موارد كثيرة:
منها: مورد الدوران بين الأقل والأكثر الارتباطيين، فانه تجري البراءة فيه دون الاستصحاب، لأن استصحاب عدم تقييد التكليف بالجزء أو الشرط الزائد معارض مع استصحاب عدم إطلاقه، بعد أن كان التقابل بين الاطلاق والتقييد الثبوتيين تقابل التضاد، لكون الاطلاق امرا وجوديا، وهو لحاظ عدم اخذ القيد، وبعد تعارضهما فتجري حينئذ البراءة عن التقييد بلا معارض، لعدم جريان البراءة عن الاطلاق، لان الاطلاق موجب للتوسعة على المكلف والبراءة عنه يكون خلاف الامتنان.
ومنها: إذا كان الأثر المطلوب مترتبا على الإباحة بعنوانها فانه سوف يترتب بإجراء أصالة الحلّ والبراءة دون استصحاب عدم التكليف.
ومنها: ما إذا تعارض الاستصحابان كما إذا فرض توارد الحالتين، ويلحق به موارد تغير الموضوع، بحيث لم يجر استصحاب الإباحة ولم نلتزم بجريان استصحاب العدم الأزلي.
اقول: يلاحظ على جوابه الاول أن الظاهر من مثل حديث الرفع أن تمام النكتة في التامين عن التكليف المشكوك هي عدم العلم به لا بنكتة سبق العلم بعدمه، ولذا يشمل موارد توارد الحالتين.
ويلاحظ على جوابه الثاني أنه في الاقل والاكثر الارتباطيين لا مجال لاستصحاب عدم الاطلاق، اي استصحاب عدم الامر بالاقل لا بشرط من الجزء المشكوك، حتى يعارض استصحاب عدم التقييد، أي عدم الامر بالاكثر، وذلك لأنه لا يتنجز به الامر بالاكثر، اذ لا يثبت به موضوعه وهو الامر بالاكثر، الا بنحو الاصل المثبت، وان اريد به الترخيص في ترك الاقل فهو من الترخيص في المخالفة القطعية للعلم الاجمالي بوجوب الجامع بين الاقل والاكثر.
وأما كون اثر البراءة ترتب اثر الاباحة ففيه أن البراءة اصل غير محرز فلا يثبت بها اباحة الفعل وانما يؤَّمن بها عن التكليف الواقعي المشكوك، واستصحاب عدم التكليف احسن منه، لكفايته في ترتيب جميع آثار عدم التكليف، فلا يفيد هذا الاثر بالنسبة الى روايات البراءة مثل حديث الرفع، نعم قاعدة الحل لو قيل بجريانها في الشبهات الحكمية فهي ظاهرة في ترتيب جميع آثار الحلية الواقعية، كجواز الصلاة في وبر حيوان كالارنب مما يشك في كونه محرم الاكل او محلله، لكن تقدم اختصاص روايات قاعدة الحل بالشبهات الموضوعية.
وأما مورد توارد الحالتين فهو وان كان لا يشمله دليل الاستصحاب، لكن هذا المقدار لا يكفي في رفع اللغوية العرفية لجعل اصل البراءة، وكان ينبغي ان يضيف الى هذا المورد موارد الشك في بقاء التكليف بناء على مسلكه المشهور عنه من وصول النوبة الى البراءة عن بقاءه بعد معارضة استصحاب بقاء المجعول مع استصحاب عدم الجعل الزائد([1]) ولكن مع ذلك يبعد عرفا حمل مثل حديث الرفع على هذين الموردين فقط، نعم قد يقال كما في البحوث بأنه يمكن أن يكون اثر البراءة هو التأمين عن التكليف المشكوك باصل البراءة لمن لم يصل اليه دليل الاستصحاب، او لم تنحلّ لديه المناقشات المطروحة على استصحاب عدم التكليف.
ومع قطع النظر عن لزوم حمل دليل البراءة على الفرد النادر فقد يقال -كما عن بعض السادة الاعلام “دام ظله”- ان تقديم دليل الاستصحاب عليه بعد توافقهما في النتيجة في التأمين عن التكليف المشكوك يكون من قبيل تخصيص دليل عام بخاص يكون مثله في الحكم، وهو مستهجن، مثل ان يرد في خطابٍ “يجب اكرام كل عالم الا العالم الشاعر” ويرد في خطاب آخر “يجب اكرام العالم الشاعر”.
وفيه أنه انما يتم لو لم يكن تقدم الاستصحاب بنحو الحكومة والا فلا يستهجن، فان دليل الاستصحاب يقول “العلم بحدوث الشيء علم ببقاءه ما لم تتيقن بارتفاعه” فتكون نتيجة تطبيقه على مورد الشك في حدوث التكليف اعتبار العلم بعدم التكليف، فيكون رافعا لموضوع حديث الرفع.
هذا والذي يسهل الخطب ان هذا الاشكال كان على اساس تقدم الاستصحاب على البراءة بالورود او الحكومة، وأما بناء على ما هو الصحيح من انكار الطولية بينهما والقول بجريان الأمارات والاصول المتوافقة كلها في عرض واحد، فالاشكال مرتفع من الاساس، وليس هناك أي استهجان عرفي في جعل الاستصحاب بشكل عام، وجعل البراءة عن التكليف ايضا بعد أن كانت النسبة بينهما عموما من وجه، وكون مورد افتراق البراءة الشرعية نادرا لو سلم فلا يوجب استهجان جعلها مطلقا.
هذا ويمكن لمن يرى تقدم استصحاب عدم التكليف على البراءة إما بنكتة الورود او الحكومة أن يقول بأنه بعد تمامية مثل حديث الرفع سندا ودلالة، وفرض تمامية دعوى إباءه عن الحمل على مورد افتراقه عن دليل الاستصحاب، او حمله على من لم يصل اليه دليل الاستصحاب، فلابد أن يقال إما بتخصيص دليل الاستصحاب في مورد الشك في التكليف، وهذا ليس مستهجنا، حيث يرى أن عدم التعبد باستصحاب عدم التكليف لنكتة اقوى وهي كفاية الشك في التكليف في المعذرية من دون حاجة الى ملاحظة اليقين السابق بعدم حدوث التكليف، ومما يزيد في وضوح عدم استهجان هذا التخصيص وان كانت نتيجة التخصيص ثبوت نفس النتيجة التي كانت تثبت بعموم دليل الاستصحاب عدم ورود البيان اللفظي في الدلالة على هذا التخصيص، وانما هو بدالّ عقلي، وإما برفع اليد عن حكومة الاستصحاب عليه فيلتزم بجريان الاستصحاب والبراءة معا.
ادلة الأخباريين على وجوب الاحتياط
قد يستدلّ على وجوب الاحتياط بحكم العقل، وقد يستدلّ له بالكتاب والسنة.
أما وجوب الاحتياط بحكم العقل فهو واضح على مسلك حق الطاعة، ولكن كما مرّ سابقا يكون دليل البراءة الشرعية او البراءة العقلائية غير المردوعة واردا عليه، وهذا هو المسلك الذي اخترناه سابقا خلافا للمشهور حيث اختاروا مسلك البراءة العقلية، وقد مرّ الكلام في ذلك في اول بحث البراءة.
قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل ونسبتها مع قاعدة قبح العقاب بلا بيان
لكن بقي الكلام في دفع شبهةٍ، وهي أنه لو سلم وجود قاعدة عقلية تعني قبح العقاب بلا بيان، فهناك قاعدة اخرى عقلية ايضا تعني وجوب دفع الضرر المحتمل، ولنفرض فعلاً كون الضرر هنا بمعنى العقاب، فتصلح هذه القاعدة الثانية أن تكون بيانا رافعا لموضوع القاعدة الاولى، إذ مع حكم العقل بوجوب التحفظ على الحكم الواقعي حذرا من الوقوع في الضرر المحتمل، كان هذا بيانا، فتسقط قاعدة قبح العقاب بلا بيان بارتفاع موضوعها، وهو عدم البيان، وتكون نتيجته وجوب الاحتياط، وان ادعي كون القاعدة الاولى ايضا صالحة لأن ترفع موضوع القاعدة الثانية وهو احتمال العقاب، قلنا بانه حينئذ لا ترجيح لتقديم اي من القاعدتين على الأخرى بعد أن كان كل منهما صالحا لرفع موضوع الأخرى، وحينئذ فلا يوجد مؤمِّن من العقاب على ارتكاب مشكوك الحرمة.
وقد اجيب عن هذه الشبهة بعدة اجوبة:
الجواب الاول:
ما ذكره صاحب الكفاية “قده” من أنه بعد استقلال العقل بقبح العقاب فلا يحتمل العقاب، ولا يكون مجال حينئذ لقاعدة وجوب دفع العقاب المحتمل كي يتوهم أنها تكون بيانا، كما أنه مع احتمال العقاب فلا حاجة إلى القاعدة، بل في صورة المصادفة استحقّ العقوبة على المخالفة، ولو قيل بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل([2]).
ويلاحظ عليه أن هذا الجواب لا يكفي لدفع هذه الشبهة، اذ يقال في ردّه بأنه لِمَ لا يعكس، بأن تكون قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل رافعة لموضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان.
الجواب الثاني:
ما ذكره صاحب الكفاية في حاشية الرسائل من أن كون قاعدة دفع الضرر المحتمل بيانا مستلزم للدور، لأن بيانيّتها فرع تحقق موضوعها، وتحقق موضوعها فرع عدم جريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وعدم جريانها فرع بيانية قاعدة دفع الضرر المحتمل فبيانيتها دورية([3]).
فأورد عليه المحقق الاصفهاني “قده” بأنه -بعد أن كان ظاهر عبارة الكفاية صلاحية قاعدة دفع الضرر المحتمل في نفسها لأن تكون بيانا، غاية الأمر أن قاعدة قبح العقاب بلا بيان حيث تكون رافعة لموضوع تلك القاعدة فتسقط عن البيانية- يمكن إجراء الدور في طرف قاعدة قبح العقاب بلا بيان أيضا، بتقريب أن جريان قاعدة قبح العقاب موقوف على تحقق موضوعها، وهو عدم البيان، وهذا موقوف على عدم بيانية قاعدة دفع الضرر، وعدم بيانيتها موقوف على عدم موضوعها، وعدم موضوعها موقوف على جريان قاعدة قبح العقاب، والمفروض أن جريانها موقوف على عدم بيانية قاعدة دفع الضرر، فعدم بيانيتها أيضا موقوفة على عدم بيانيتها، فكما أن بيانيتها دورية كذلك عدمها([4]).
وما ذكره لا باس به، وقد ذكرنا مرارا ان دعوى الدور في هذه المجالات تبتني على نوع من مغالطة لابد من كشفها.
الجواب الثالث:
ما ذكره المحقق الاصفهاني “قده” من أن المراد بالبيان المأخوذ في موضوع قاعدة قبح العقاب ما يصحح العقاب على مخالفة التكليف، كالعلم التفصيلي والاجمالي، والخبر المجعول منجزا للواقع، وأشباه ذلك، وهذا المعنى غير متحقق بقاعدة دفع الضرر المحتمل.
فانه ان اريد منه الوجوب العقلي من باب الحسن والقبح العقليين ففيه أن الحسن والقبح العقليين يعني كون الفعل ممدوحا عليه أو مذموما عليه عند العقلاء، ومدح الشارع ثوابه وذمه عقابه، ومن الواضح أن الاقدام على الممدوح أو المذموم ليس موردا لمدح آخر أو ذم آخر، والاقدام على الثواب أو العقاب ليس موردا لثواب آخر أو عقاب آخر، بل لا يترتب على العدل الممدوح عليه إلا ذلك المدح، ولا يترتب على الظلم المذموم إلا ذلك الذم، وكذا في الثواب والعقاب، فالاقدام على مقطوع العقاب فضلا عن محتمله خارج عن مورد التحسين والتقبيح العقليين، مضافا إلى خروجه عنه لوجه آخر، وهو أن ملاك البناء العقلائي على مدح فاعل بعض الأفعال، وذم فاعل بعضها الآخر كون الأول ذا مصلحة عامة موجبة لانحفاظ النظام وكون الثاني ذا مفسدة مخلّة بالنظام، فلذا توافقت آراء العقلاء على مدح فاعل ما ينحفظ به النظام، وذم فاعل ما يخل به، والاقدام على العقاب إقدام على ما لا يترتب، إلّا في نشأة أخرى أجنبية عن انحفاظ النظام واختلاله.
كما أن وجوبه ليس من البناءات العقلائية غير المربوطة بالتحسين والتقبيح العقليين، كالبناء على العمل بالظهور مثلا، لأن تلك البناءات منبعثة عن حكمة نوعية في نظر العقلاء تدعوهم إلى العمل بالظهو، وليس هناك مفسدة مترتبة على الاقدام على مقطوع العقاب او محتمله زيادة على ذلك العقاب، حتى تبعث العقلاء على البناء على دفعه، ليكون إمضاء الشارع لهذا البناء مقتضيا لايجاب دفعه بحيث يترتب عليه عقاب آخر على الاقدام، وإلا فنفس ذلك العقاب المقطوع أو المحتمل غير منوط ترتّبه ببناء العقلاء على دفعه.
فليست قاعدة دفع العقاب المحتمل عقلية ولا عقلائية، نعم كل ذي شعور بالجبلة والطبع حيث إنه يحبّ نفسه يفر عما يؤذيه،
وان اريد منه الوجوب الشرعي فهو إما وجوب غيري مقدمي او طريقي او نفسي، إما الوجوب الغيري فهو غير محتمل، إذ الوجوب الغيري يكون لمقدمة واجب نفسي، ودفع العقاب ليس مقدمة لاي واجب نفسي، وأما الوجوب الطريقي فهو غير معقول في المقام، إذ الوجوب الطريقي هو الذي يترتب عليه احتمال العقاب ويكون منشأ له، فلا يمكن أن يكون متوقفا على احتمال العقاب في رتبة سابقة من باب توقف الحكم على موضوعه.
وأما الوجوب النفسيّ فانه على تقدير ثبوته يوجب كون العقاب على مخالفة نفسه، لا على مخالفة التكليف الواقعي المجهول، فلا يكون بيانا للتكليف الواقعي ومصححا للعقاب عليه، هذا مضافا إلى ان الوجوب النفسيّ يستلزم تعدد العقاب عند مصادفة احتمال التكليف للواقع، ولا يمكن الالتزام به، فان احتمال التكليف لا يزيد على القطع به، ولا تعدد للعقاب مع القطع بالتكليف، فكيف مع احتماله.
فإذاً ليس التكليف الواقعي واصلا إلى المكلف لا بنفسه ولا بطريقه، فتجري قاعدة قبح العقاب بلا بيان، وبها يرتفع موضوع قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل بعد عدم صلاحيتها لأن تكون بيانا في نفسها([5]).
اقول: أما ما ذكره من عدم كون وجوب دفع العقاب المحتمل عقليا فانما يتمّ على مبناه من كون حسن العدل وقبح الظلم بمعنى تطابق آراء العقلاء على جعل استحقاق الثواب والعقاب من المولى عليهما، وأما بناء على كونهما من الامور الواقعية النفس الأمرية وبمعنى انبغاء صدور العدل وعدم انبغاء صدور الظلم، فالظاهر أنه مضافا الى كونه مما يقتضيه الجبلة والفطرة من باب حبّ الذات، يدرك العقل عدم انبغاء الاقدام على محتمل العقاب الأخروي فضلا عن مقطوعه، نعم لا يترتب على هذا الاقدام عقاب آخر غير ذلك العقاب المحتمل، فان انتفى سبب ذلك العقاب المحتمل فلا يصح عقابه بسبب اقدامه عليه، لشهادة الوجدان بأنه مما لا يصحّ أن يستند اليه المولى لعقاب العبد لو تبين ان احتماله لوجود مصحح العقاب لم يكن في محله، والا لزم منه التسلسل بلحاظ الاقدام على العقاب المقطوع.
كما يرد على ما ذكره حول عدم معقولية وجوب الطريقي أن احتمال العقاب فرع احتمال وجود المصحح للعقاب، لا فرع وجود المصحح واقعا، فلا مانع من هذه الجهة أن تكون هي المصحح للعقاب.
نعم ما ذكره حول عدم مصححية وجوبه النفسي للعقاب على مخالفة التكليف المحتمل تامّ، ويضاف اليه أنه لا دليل على هذا الوجوب النفسي شرعا،
الجواب الرابع: ما هو الصحيح
من أن التوارد بين قاعدتين عقلييتين يعني وقوع التعارض بين حكمين عقليين وجدانيين، وهذا مستحيل، فانه لا يتصور التعارض الا بين دليلين لفظيين ظنيين سندا او دلالة او جهة، دون دليلين قطعيين من جميع الجهات، فلابد من الرجوع الى الوجدان في مورد الشك في تكليف المولى الحقيقي بعد الفحص، وأنه هل يحكم بقبح العقاب لمن ارتكبه او لا يحكم به، او يشكّ في حكم العقل ، كما لا يبعد، فان حكم بقبح العقاب لم يتحقق موضوع القاعدة الثانية، وان حكم بعدم قبحه او شككنا في حكمه فيتحقق موضوع تلك القاعدة، ولم يتحقق موضوع القاعدة الاولى او كان مشكوك التحقق فلا نكون مأمونين عن العقاب، ومما يزيد في ذلك وضوحا ما مرّ منّا من أنه ان اريد من البيان في قاعدة قبح العقاب بلا بيان خصوص تبين الواقع، فالقاعدة ليست وجدانية، وان اريد به الحجة فليس هو الا المصحح للعقاب فتخرج عن كونها قاعدة، بل تصير من القضية الضرورية بشرط المحمول، حيث تصير مفادها قبح العقاب في مورد لا يوجد مصحح له، أي المورد الذي يقبح فيه العقاب، فحكم العقل ينصبّ على موارد متفرقة، وان امكن انتزاع جامع لها، ولكنه غير مهم، فلابدّ من ملاحظة حكم العقل في كل مورد -كالشك في التكليف بعد الفحص- بخصوصه، فإما ان يحكم بقبح العقاب فلا موضوع للقاعدة الثانية او لا يحكم فيتحقق موضوعها ويعني ذلك عدم صلاحية تلك القاعدة الثانية، لأن تكون بيانا ومصححا للعقاب.
هذا كله بالنسبة الى وجوب دفع العقاب المحتمل، وأما لو اريد من الضرر في قاعدة دفع الضرر المحتمل الضرر الدنيوي، فيرد عليه أنه لا ملازمة بين ارتكاب الحرام وترتب الضرر الدنيوي للمجتمع فضلا عن الفرد، ولو وجد احتمال الضرر في موردٍ، فلا يستقلّ العقل بوجوب دفعه، بل لا يستقلّ بوجود دفع الضرر المقطوع، نعم هناك كلام في حرمة الاضرار بالنفس شرعا، والمنسوب الى المشهور حرمته، ولكن لا دليل عليه، وما استند اليه مثل السيد الامام “قده” من قوله (عليه السلام) في معتبرة طلحة بن زيد (الذي قال الشيخ الطوسي “ره”في حقه أن كتابه معتمد، وهذا يكشف عن وثاقته) “الجار كالنفس غير مضارّ ولا آثم([6])” حيث يقال بأنه جعل حرمة الاضرار بالنفس مفروغا عنها وقاس الجار به، فقد أجبنا عنه في محله اولا: بأن الظاهر كون المشبَّه به هو الامر الفطري من أن الانسان لا يُلحق ضررا بنفسه، مع قطع النظر عن حرمته، والشاهد عليه أن النفس ليس في قبال المال، بل هو اعم منه ويطلق على ما يسمى في الفارسية ب “خود”، فالاضرار بالنفس يشمل اضرار الشخص بامواله ولا اشكال في عدم حرمته ما لم يكون اسرافا او تبذيرا.
وثانيا: يحتمل ان يكون “جملة غير مضارّ” حالا من الجار بمعنى ان الجار حرمته كحرمة النفس ما لم يكن مضارّا فلا يرتبط بالمدعى.
وثالثا: ان حرم الضرار لا تدل على حرمة الاضرار، فلعلها بمعنى ايجاد فعل بداعي الاضرار، لا أن يفعل شيئا يعلم بترتب الضرر عليه.
واما إن كان المراد بالضرر المفسدة، فاحتمال المفسدة وان كانت موجودة في مشكوك الحرمة عادة، لكن العقل لا يحكم بوجوب دفع المفسدة المحتملة، كيف؟ وقد اتفق العلماء من الأصوليين والأخباريين على عدم لزوم الاجتناب عما يحتمل وجود المفسدة فيه في الشبهة الموضوعية، ولو كان العقل مستقلا بوجوب دفع المفسدة المحتملة كان الاحتياط واجبا فيها أيضا، إذ لا فرق بين الشبهة الحكمية والموضوعية من هذه الجهة.
هذا كله بلحاظ عدم صلاحية قاعدة وجوب دفع الضرر المحتمل لرفع موضوع قبح العقاب بلا بيان، لو قيل به، الا أنه مر عدم تمامية البراءة العقلية، وأن الصحيح هو مسلك حق الطاعة، الا أن البراءة الشرعية بل البراءة العقلائية الممضاة تكون واردة عليه.
الاستدلال على وجوب الاحتياط بالعلم الاجمالي
قد يستدل على وجوب الاحتياط في الشبهات بوجود علم اجمالي بالتكليف في دائرة الشبهات، ولا يخفى انه لو تمّ هذا البيان لم يختص بالشبهة الحكمية التحريمية، بل جرى في الشبهة الحكمية الوجوبية، مع أن الاخباريين لا يرون وجوب الاحتياط فيها.
توجیه جریان الاحتیاط في الشبهة الحكمية الوجوبية عند الاخباریین
وكيف كان فقد اجيب عنه تارة بدعوى الانحلال الحقيقي للعلم الاجمالي واخرى بالانحلال التعبدي وثالثة بالانحلال الحكمي.
الف) الانحلال الحقيقي
أما الانحلال الحقيقي فهو أنه يقال بأنه يوجد علم اجمالي صغير بمطابقة بعض الأمارات المعتبرة المثبتة للتكليف للواقع بمقدار لا يقلّ عن مقدار المعلوم بذلك العلم الاجمالي الكبير، وهذا ما ذهب اليه جماعة كصاحب الكفاية “ره” خلافا للشيخ الاعظم “ره” وقد وافق السيد الخوئي “قده” مع القول بالانحلال الحقيقي، بدعوى أن الميزان في الانحلال ان لا يكون المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الصغير أقل عدداً من المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير، بحيث لو أفرزنا من أطراف العلم الإجمالي الصغير بالمقدار المتيقن لم يبق لنا علم اجمالي في بقية الأطراف، ولو انضم إليها غيرها من أطراف العلم الإجمالي الكبير، وهذا منطبق على المقام([7]).
ولكن منعنا في بحث الانسداد من الانحلال الحقيقي ببيان أنه كما يوجد علم اجمالي صغير بوجود تكاليف في ضمن اخبار الأمارات المعتبرة، بمقدار لا يقل عن المقدار المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الكبير، كذلك يوجد علم اجمالي صغير في ضمن الأمارات غير المعتبرة كالشهرات والاجماعات المنقولة بمطابقة بعضها للواقع، فان قلنا بأنها ايضا لا تقلّ عن المقدار المعلوم بالاجمال في العلم الاجمالي الكبير، كان انحلال العلم الاجمالي الكبير بالعلم الاجمالي الصغير الاول دون الثاني ترجيحا بلا مرجح، وان قلنا بأنها تقلّ عن ذلك المقدار فلا يمكن أن ينحلّ به العلم الاجمالي الكبير، ولكن لو ضممنا الى تلك الامارات غير المعتبرة طائفة من الأمارات المعتبرة صار المقدار المعلوم بالاجمال من التكليف في هذا المجموع مساويا للمقدار المعلوم بالاجمال الكبير، وحينئذ يكون انحلال العلم الاجمالي الكبير بالعلم الاجمالي الصغير في دائرة اخبار الثقات دون هذا العلم الاجمالي الصغير ترجيحا بلا مرجح.
وان شئت قلت: ان الانحلال الحقيقي يتوقف على شرطٍ مفقود في المقام، ولنوضِّح ذلك بمثالٍ للانحلال الحقيقي، وهو العلم الاجمالي بوجود شياه محرمة في قطيع غنم، فانه لو كانت مأة شاة، نصفها بيض، ونصفها سود، وعلم اجمالا بوجود عشرة شياه محرمة في هذه الماة، وعلم اجمالا بوجود عشرة شياه محرمة في ضمن الشياه السود، فانه لو عزل شاة واحدة من هذه السود فلا يعلم بوجود العشرة المحرمة في بقية السود، وضمّ الشياه البيض الى هذه الطائفة من السود، لا يوجب حصول العلم الاجمالي بوجود عشرة شياه محرمة في هذا المجموع، وهذا يعني الانحلال الحقيقي للعلم الاجمالي الكبير بوجود عشرة شياه محرمة في قطيع غنم، بالعلم الاجمالي الصغير بوجود شياه محرمة في الشياه السود، ولكن المقام ليس من هذا القبيل، فانه لو فرض كون المعلوم بالعلم الاجمالي الكبير هو ثبوت الف تكليف في مجموع الأمارات الظنية، وعزلنا من أخبار الثقات مقدارا لا يبقى العلم الاجمالي بوجود الف تكليف في الطائفة الباقية، فيتوقف الانحلال الحقيقي على أن لا يكون ضمّ سائر الأمارات التي لا يكون على وفقها أخبار الثقات الى تلك الطائفة الباقية مؤثرا في زيادة المقدار المعلوم بالاجمال من التكاليف في هذا المجموع، ولكن الامر ليس كذلك، فانه لو عزل خبر ثقة عن مجموعة اخبار الثقات، ولوحظت بقية أخبار الثقات فلا محالة لا يبقى العلم بوجود الف تكليف في هذه الطائفة، لاحتمال أن يكون تكليف واحد من الف تكليف معلوم بالاجمال موجودا في ذلك الخبر المعزول.
فلا يقبل الوجدان بحساب الاحتمالات أن لا يكون ضمّ مئات من الأمارات الظنية كأخبار غير الثقات والشهرة والاجماع المنقول الى تلك الطائفة من أخبار الثقات قائما مقام ذلك الخبر المعزول في ايجاب العلم الاجمالي بوجود الف تكليف في هذا المجموع، والفارق بين مثال الشياه والمقام أن العلم الاجمالي في الشياه لم ينشأ عن حساب الاحتمالات، بل نشأ من العلم بوجود شياه محرمة اجمالا بسبب اخبار مخبر صادق ونحو ذلك، بينما أن العلم الاجمالي بمطابقة الأمارات الظنية للواقع ينشأ من حساب الاحتمالات كما في جميع موارد التواتر اللفظي او المعنوي او الاجمالي، أي كلما كثر الخبر ضعف احتمال كذب الجميع الى أن ينتفي هذا الاحتمال لضئالته.
والحاصل أنه لايكفي في الانحلال ما يظهر من جماعة كالسيد الخوئي “قده” (من أنه يعلم في اخبار الثقات بوجود مقدار من التكليف لا يقل عددا عن المقدار المعلوم بالاجمال الكبير، بحيث اذا عزلنا منها مقدارا نحتمل وجود تمام التكليف المعلوم بالاجمال الكبير فيه، لا نعلم بوجود تكليف آخر في بقية أخبار الثقات المنضمة اليها سائر الأمارات الظنية كالشهرات، ولا ينحلّ العلم الاجمالي الكبير بالعلم الاجمالي الصغير بوجود مقدار من التكليف في دائرة الشهرات مثلا، لأن المقدار المعلوم بالاجمال فيها ليس مساويا للمقدار المعلوم بالاجمال الكبير) فان العلم الاجمالي الصغير الآخر يلحظ في مجموعة بقية اخبار الثقات ما عدا الخبر المعزول مع سائر الامارات الظنية، والمقدار المعلوم بالاجمال فيها لا يقل عددا عن المعلوم بالاجمال الكبير، مثل ما في دائرة اخبار الثقات، وهذا يمنع من انحلال العلم الاجمالي الكبير بالعلم الاجمالي الصغير الاول، لكونه ترجيحا بلا مرجح.
فانحلال العلم الاجمالي الكبير بوجود تكاليف في الشريعة بالعلم الاجمالي الصغير في دائرة الامارات المعتبرة ممنوع، نعم يتم انحلاله الحقيقي بلحاظ الشبهات الفاقدة حتى للأمارة غير المعتبرة.
ب)الانحلال التعبدي
يبقى الكلام في الانحلال التعبدي والانحلال الحكمي، والفرق بينهما أن الانحلال التعبدي هو التعبد بالانحلال بما هو كالعلم التفصيلي، والانحلال الحكمي هو زوال اثر العلم الاجمالي أي التنجيز بقيام المنجز التفصيلي على طرف معيَّن.
أما الانحلال التعبدي فقد ادعاه السيد الخوئي “قده”، ومحصل بيانه أنه لو منع القائل بوجوب الاحتياط من الانحلال الحقيقي وادعى عدم العلم بمطابقة الأمارات المعتبرة مع الواقع بمقدار المعلوم بالإجمال في العلم الإجمالي الكبير، فنقول: ان العلم الإجمالي متقوم دائما بقضية منفصلة مانعة الخلو، ففي العلم الإجمالي بنجاسة أحد الإناءين يصدق قولنا إما هذا الإناء نجس واما ذاك، وقد يحتمل نجاستهما معا، والمدار في تنجيز العلم الإجمالي على هذا الترديد حدوثا وبقاء، فإذا فرضنا أن القضية المنفصلة انقلبت إلى قضيتين حمليتين، إحداهما متيقنة، والأخرى مشكوكة بنحو الشكّ الساري، فلا محالة ينحلّ العلم الإجمالي ويسقط عن التنجيز، والسرّ في ذلك أن تنجيز العلم الإجمالي ليس امرا تعبديا، وإنما هو بحكم العقل، لكاشفيته عن التكليف، كالعلم التفصيليّ، فإذا زالت كاشفيته بطروّ الشك الساري، زال التنجيز لا محالة، وعليه فبناء على القول المختار بأن المجعول في باب الأمارات هو نفس الطريقية والعلمية فقيام الأمارة يوجب العلم بالواقع تعبدا، وكما تنقلب القضية المنفصلة إلى قضيتين حمليتين بالعلم الوجداني، كذلك تنقلب إليهما بالعلم التعبدي، فقيام الأمارة على ثبوت التكليف بمقدار المعلوم بالإجمال يوجب انحلال العلم الإجمالي لا محالة.
ج) الانحلال الحكمي
وأما الانحلال الحكمي فقد ذكروا أن شرطه هو اقتران حدوث العلم الاجمالي بقيام المنجز التفصيلي على طرف معين، فلو كان قيام المنجز التفصيلي متاخرا عنه زمانا، لم يمنع من تنجيزه، أما على مسلك علية العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية فيمتنع جريان الاصل المؤمن ولو في بعض اطرافه، فلأن شرط منجزيته عندهم هو صلاحيته لأن يكون هو المنجز للواقع في أي طرف كان، ولو في فترة من الزمان وهو قبل حصول المنجز التفصيلي، وهذا الشرط متحقق، بخلاف ما لو كان المنجز التفصيلي مقارنا مع حدوث العلم الاجمالي، فانه مع وجود هذا المنجز التفصيلي فالواقع على تقدير وجوده في هذا الطرف لا يصلح لأن يتنجز بالعلم الاجمالي، فان المتنجز لا يتنجز ثانيا، فلا يكون شرط منجزية العلم الاجمالي متحققا، وهذا البيان اصل مسلم عند اصحاب مسلك العلية وان لم يتم عندنا.
وأما على مسلك اقتضاء العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية فلأن شرط منجزيته تعارض الاصول وتساقطها في اطرافه، -و الا فلو كان هناك اصل مؤمن في بعض اطرافه بلا معارض فيجري بلا اشكال- فالمفروض تعارض الاصل الجاري في ذلك الطرف –الذي قام عليه منجز تفصيلي في وقت لاحق- في فترة ما قبل قيام ذلك المنجز التفصيلي مع الاصل الجاري في الطرف الآخر مطلقا، وعليه فلو علم اجمالا بنجاسة احد انائين، فان اقترن حدوث هذا العلم الاجمالي مع جريان اصل منجز لنجاسة احدهما المعين كالاستصحاب لم يكن منجزا، لجريان أصالة الطهارة في الطرف الآخر بلا معارض، وكذا لو اقترن حدوثه مع قيام امارة على نجاسة ذاك الطرف، بناء على كون المجعول في باب الأمارات هي المنجزية والمعذرية مثلا لا الطريقية والعلمية.
ولذا ذكر السيد الخوئي “قده” بأنه لو قيل باشتراط منجزية الأمارات بالوصول، فيصعب الانحلال الحكمي بوصول تلك الامارات، لأن العلم الإجمالي الموجود في أول البلوغ قد أثَّر اثره من تنجيز التكاليف الواقعية، وقيام منجز آخر بعد ذلك على الحكم في بعض الأطراف لا يوجب سقوط المنجز السابق، نعم ان قلنا كما هو الصحيح بأن مجرد كون الأمارة في معرض الوصول كافٍ في التنجيز في الشبهات الحكمية تم الانحلال الحكمي للعلم الإجمالي، فان المكلف في أول بلوغه حين يلتفت إلى وجود التكاليف في الشريعة المقدسة يحتمل وجود أمارات دالة عليها، فيتنجز عليه مؤدياتها بمجرد ذلك الاحتمال، وحيث ان هذا الاحتمال مقارن لعلمه الإجمالي بالتكاليف، فلا يكون علمه منجزا لجميع أطرافه، لتنجز التكليف في بعض أطرافه بمنجز مقارن له([8]).
واورد السيد الصدر “قده” على ما ذكره السيد الخوئي حول الانحلال التعبدي بأنه لا يرجع إلى محصل، فان منجزية العلم الإجمالي ليست مترتبة على عنوان العلم الإجمالي (حتى يقال بأن العلم الاجمالي بالتكليف مثلا حيث يكون مركبا من علم بالتكليف في احد فعلين، وشك تفصيلي بالتكليف في هذا الفعل وشك تفصيلي في ذلك الفعل، فدليل اعتبار العلمية للأمارة القائمة على التكليف في الفعل الاول مثلا يلغي العلم الاجمالي تعبدا بالغاء احد مقوماته) بل هي مترتبة على العلم بالجامع مع عدم أصل مؤمن في الأطراف، وفي المقام ان تم تقريب الانحلال الحكمي من جريان الاصل بلا معارض في الطرف الذي لم يقم عليه امارة معتبرة فهو، وإلّا فمنجزية العلم الاجمالي باقية، فالمتعين هو الجواب بالانحلال الحكمي.
ثم قال: انه يمكن أن نذكر في تقريب الانحلال الحكمي بيانا آخر لا يختص بفرض منجزية الامارة بمجرد كونها في معرض الوصول ولو لم تصل الى المكلف فعلا، ولذا يجري هذا البيان في الشبهات الموضوعية مع ان منجزية الامارة على التكليف فيها تتقوم بالوصول، لعدم وجوب الفحص فيها، مثال ذلك أنه لو علم المكلف اجمالا بغصبية احد المائين وتقارن العلم الاجمالي مع شهادة بينة على غصبية احدهما المعين، ولكن لم يعلم به المكلف الا متاخرا عن حدوث العلم الاجمالي، فبناء على المسلك المختار من تنافي الاحكام الظاهرية ولو قبل وصولها فتكون حجية تلك البينة غير الواصلة منافية مع جريان اصل البراءة عن حرمة ذلك الماء، لان روح حجيتها ليست هي منجزيتها، حتى يقال بأن منجزيتها تتقوم بالوصول، فلا تمنع من جريان البراءة حينئذ، كما هو رأي المشهور، بل روح حجيتها هي اهتمام المولى بالاجتناب عن ذلك الماء والبراءة تعني عدم اهتمامه به، وهما لا يجتمعان، وعليه فمتى وصلت تلك البينة، يتبين للمكلف عدم جريان البراءة في ذلك الماء واقعا من زمان قيام تلك البينة فكانت البراءة في الماء الآخر بلا معارض.
نعم هذا البيان لا يتم على مسك أصحاب علية العلم الاجمالي لوجوب الموافة القطعية، لأن المانع من منجزية العلم الاجمالي عندهم هو اقتران حدوثه بمنجز تفصيلي على احد الطرفين، والمفروض أن تلك البينة لم تكن منجِّزة الا بعد وصولها المتأخر عن حدوث العلم الاجمالي([9]).
وقد اورد بعض الاعلام في تعليقة البحوث على ما ذكره السيد الصدر بما محصله أن البراءة عن حرمة الماء الآخر وان لم تتعارض مع البراءة العرضية عن حرمة الماء الذي قامت البينة على حرمته واقعا، ولكن تتعارض مع الاصل الطولى الجاري في مرحلة الشك في وجود تلك البينة كاستصحاب عدم قيام البينة الذي هو اصل موضوعي ينقح به جريان البراءة الشرعية في هذا الماء المشكوك قيام البينة على حرمته، او البراءة عن اهتمام المولى بالاجتناب عن هذا الماء في فرض الشك في قيام البينة، وتسمى بالبراءة الطولية، ونكتة معارضتهما أنهما يؤديان إلى الترخيص في المخالفة القطعية للعلم الاجمالي.
ولكنه عدل بعد ذلك عن هذا الاشكال في خصوص الاستصحاب الموضوعي دون البراءة الطولية، ببيان أن هذا الاصل الموضوعي يحرز لنا ظاهرا وجود المعارض للبراءة في الماء الشرقي مثلا، وهو البراءة في الماء الغربي المشكوك قيام البينة عليه، فاذا وصلت البينة فيتبين لنا عدم المعارضة واقعا، وأنه كانت البراءة عن حرمة الماء الشرقي جارية بلا معارض، ويستحيل أن يكون هذا الاصل الموضوعي طرفا لمعارضة تلك البراءة في الماء الشرقي، لأنه في فرض جريان هذا الاصل الموضوعي يتحقق التعبد الظاهري بوجود معارض لتلك البراءة وبالتالي التعبد بعدم جريانها لابتلاءها بالمعارض، وكل اصل يكون اثره التعبد الظاهري بعدم اصل آخر فيستحيل أن يكون معارضا له، لان المعارضة فرع جريان ذلك الأصل الآخر حين جريان هذا الأصل([10]).
اقول: هنا نكتتان:
النكتة الاولى: ان ما ذکره من الاشكال على الانحلال التعبدي وان كان صحيحا، فان التعبد بالعلم التفصيلي بطرف معين لا يكون تعبدا بما هو لازم العلم الوجداني التفصيلي من انحلال العلم الاجمالي به، فان التعبد بكون الامارة علما بالواقع لا يعني التعبد بلوازم العلم، وان فرض استلزامه للتعبد بلوازم الواقع، لكن الظاهر بناء العقلاء على معاملة العلم الاجمالي الذي يوجد طريق معتبر تفصيلي في احد طرفيه معاملة الانحلال، فيكون انحلاله عقلائيا، والشاهد عليه أننا لو علمنا يوم الجمعة بتكليف المولى باحد شيئين اجمالا، ثم صدر من المولى خطاب ظاهر في وجوب احدهما المعين ولنفرض أن هذا الظهور لم يكن مفيدا للوثوق فمع ذلك لا يرون لزوم الاحتياط باتيان الفعل الآخر، من غير فرق بين صياغات حجية الأمارة والطريق العقلائي، وتفصيل الكلام في محله.
النكتة الثانية: الظاهر تمامية الاشكال في تعليقة البحوث، فان اثر استصحاب عدم قيام البينة على غصبية الماء الغربي هو احراز جريان البراءة العرضية فيه في حد ذاتها، وليس اثره عدم جريان البراءة في الماء الشرقي، فليس حاكما عليه، والمعارضة بينهما انما ترتفع فيما اذا لم يكن بينهما تناف في الجعل، ولكن التنافي موجود، لأن روح الاستصحاب الموضوعي المثبت لحكم ظاهري ليس هو التأمين او التنجيز بالنسبة الى ذلك الحكم الظاهري، فانه ليس قابلا للتنجيز او التعذير، بل بالنسبة الى الحكم الواقعي مباشرة، كما هو المحقق في بحث الاخبار مع الواسطة، فاستصحاب عدم قيام البينة على غصبية الماء الغربي يريد أن يؤمن في شرب هذا الماء ويلزم من الجمع بينه وبين البراءة عن شرب الماء الغربي الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف الواقعي المعلوم بالاجمال، وملاك المعارضة شمول دليل التعبد لكل منهما في حد ذاته مع عدم امكان جعل كليهما معا، وهذا موجود في المقام.
نعم وقوع المعارضة بين هذا الاستصحاب وبين استصحاب عدم قيام البينة في الماء الشرقي ايضا، فيما اذا احتمل فيه قيام البينة ايضا، (كما هو المفروض في المقام حيث يحتمل قبل الفحص قيام الامارة المعتبرة في كل شبهة) يوجب كون البراءة العرضية في الماء الشرقي الذي لم يقم فيه البينة واقعا خطابا مختصا فيجري بلا معارض، الا أنه مبني على عدم جريان البراءة الطولية عن اهتمام المولى بالواقع في حال الشك في قيام البينة والا فتكون هي طرفا للمعارضة للبراءة العرضية الجارية في الماء الشرقي، وكون تك البراءة الطولية في الماء الغربي الذي قام البينة واقعا عليه اصلا طوليا لا يجدي شيئا، لأنها ليست في طول البراءة العرضية في الماء الذي لم يقم عليه البينة واقعا وهو الماء الشرقي، فما ذكره بعض الاعلام في تعليقة المباحث من انّ جريان هذا الأصل الطولي متوقف على البراءة العرضية فيستحيل أن يكون معارضاً معها([11])غير متجه، فانه يرد عليه ما اورد على القول بسلامة الاصل الطولى عن المعارضة، من أن الاصل الطولي في طرفٍ كملاقي بعض اطراف الشبهة المحصورة ليس في طول الاصل العرضي الذي في الطرف المعارض له، وهو اصل الطهارة في عدل الملاقى، وان فرض كونه في طول اصل الطهارة في الملاقى بالفتح نفسه، على انه ليس في طول اصل الطهارة في الملاقى بالفتح ايضا بل في طول عدم وصوله، فليس موقوفا على سقوطه واقعا، بل على عدم وصوله، ففي المقام ايضا ليس الاصل الطولي في الاناء الذي قام عليه البينة واقعا في طول معارضه وهو البراءة العرضية في الاناء الذي لم تقم البينة عليه واقعا.
[1] – هذا على المبنى المشهور منه ولكن على ما نسب اليه من أنه عدل في اواخر حياته من عنه وقال بحكومة استصحاب عدم الجعل الزائد على استصحاب بقاء المجعول فلا يكون هذا المورد من موارد افتراق دليل البراءة، راجع كتاب القضاء والشهادات ج1ص186، وهكذا كتاب القضاء تقرير المرحوم آغا رضا الخلخالي “ره” فقد ورد فيه ان الحكم اذا كان ثابتا في زمان وشك في بقاءه بعد ذلك الزمان كما لو علم بحرمة وطئ الحائض ما دامت حائضا فبعد انقطاع الدم يشك في بقاء الحرمة ما لم تغتسل، فذكرنا في محله ان بقاء الحرمة وعدم بقاءها ناش من الشك في مقدار الجعل، فاذا كان الاستصحاب جاريا بالنسبة الى الجعل لا يبقى مجال لاستصحاب الحرمة.