بسمه تعالی
رؤوس المطالب:
التقسيم الأول: الوضع التعييني والوضع التعيني.. 1
مناقشه: لايتصور معنىً معقول للوضع التعيني.. 2
هل يتحقق الوضع التعييني بالاستعمال؟. 6
يستحيل انطباق المجعول الاعتباري او التعهد العقلائي على نفس الاستعمال. 8
امكان ايجاد الوضع التعييني بالاستعمال. 12
التقسيم الثاني: بالنظر الى المعنى الذي يوضع بإزائه اللفظ.. 12
لااشكال في امكان القسمين الأولين.. 13
أخذ وجود الخارجي او الذهني فی المعنى الموضوع له في اسم الجنس او العلم. 14
الموضوع له فی اسم الجنس هو ما يكون بالحمل الشائع. 14
الموضوع له في الأعلام هو الوجود الخارجي للشيئ.. 15
الكلام في امكان القسمين الأخيرين.. 17
الصحیح: امكان القسم الثالث دون الرابع. 17
شمول قسم الثالث اذا كان الموضوع له معنى جزئيا اضافيا لا حقیقیا 18
وجوه فی استحالة قسم الثالث… 18
تنبيه: افتراض الوضع العام والموضوع له الخاص في الوضع التعيني.. 26
2- اقسام الوضع
ينقسم الوضع تارة بلحاظ أسباب تحقق العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى وأخرى بلحاظ المعنى الذي وضع له اللفظ وثالثة بلحاظ اللفظ الذي وضع للمعنى، فهنا تقسيمات عديدة نذكرها فيما يلي:
التقسيم الأول: الوضع التعييني والوضع التعيني
أما الوضع التعييني فيراد به جعل العلقة الوضعية بواسطة تعيين لفظ لمعنى من طريق جملة انشائية -من قبيل ان يقول الاب سميت ابني عليّا- ونحو ذلك.
وأما الوضع التعيني فيراد به نشوء العلقة الوضعية بين لفظ ومعنى بسبب كثرة استعماله فيه، وقد يناقش في كونه من اقسام الوضع لوجهين:
مناقشه: لايتصور معنىً معقول للوضع التعيني
الوجه الاول: ما ذكره بعض الاعلام “قده” من انه لايتصور معنىً معقول للوضع التعيني، اذ لاوجه لان يختص اللفظ بالدلالة على المعنى بمجرد كثرة الاستعمال مع ان الدلالة في هذه الاستعمالات الكثيرة لاينفرد بها اللفظ بل يشترك معه القرينة، فيكون الدالّ على المعنى هو اللفظ مع القرينة لااللفظ وحده، ولو كان لمثل هذا مثال معلوم وواقع ثابت لامكن ان نقول بان ملاكه شيء معقول لاتصل اليه أذهاننا، ولكنه لميتضح لدينا وجود لفظ استعمل في معنى مع القرينة كثيرا الى ان صار دالا عليه بلاقرينة، وعليه فلانستطيع الجزم بمعقولية الوضع التعيني بسهولة([1]).
وفيه ان كثرة استعمال لفظ في معنىً ان كانت مقرونة بقرينة شخصية معينة دائما تم هذا الاشكال، ولكن المفروض في الوضع التعيني كون العلقة الوضعية بين لفظ ومعنى ناشئة من كثرة الاستعمال فيه بقرينة حالية نوعية كاستعمال الخمس في معناه المصطلح دون معناه اللغوي او بقرائن مختلفة التي قد تكون حالية وقد تكون لفظية على اختلاف اساليبها، فما يكون محفوظا في جميع هذه الاستعمالات هو اللفظ فقط دون تلك القرائن، وهذا يوجب حصول أنس ذهني بين نفس اللفظ وبين المعنى الى ان تتحقق بينهما ملازمة ذهنية بحيث يوجب تصور ذلك اللفظ تصور ذلك المعنى.
الوجه الثاني:ان حقيقة الوضع هي اعتبار خاص بين اللفظ والمعنى –سواء قلنا بمسلك المحقق الاصفهاني “قده” من كونه هو اعتبار كون اللفظ موضوعا على المعنى نظير وضع العَلَم على مكان ليدل على كونه رأس الفرسخ اوقلنا بمسلك المحقق الايرواني “قده” من كون الوضع هو اعتبار الهوهوية بين اللفظ والمعنى، او قلنا بكونه اعتبار اللفظ علامة على المعنى – ويكون الغرض من هذا الاعتبار هو تحقق الملازمة الذهنية بينهما، وبعد ما تحققت هذه الملازمة الذهنية بين لفظ ومعنى بسبب كثرة استعماله فيه فيلغو بعدئذ ذلك الاعتبار حيث ان نتيجته قد حصلت بسبب كثرة الاستعمال.
وأما تسبب كثرة الاستعمال لتحقق الوضع قهرا بلاحاجة الى اي اعتبار لاحق فهو غير معقول بناء على تفسير حقيقة الوضع بالاعتبار فان الاعتبار فعل قصدي لايتحقق بدون قصد، كما لايمكن ان تكون كثرة الاستعمال انشاءا وابرازا لذلك الاعتبار لان كثرة الاستعمال قائمة باشخاص متعددين، و لميقصد كل واحد منهم باستعماله سوى الاستعمال من دون قصد لانشاء ذلك الاعتبار وابرازه.
فما ذكره المحقق الايرواني “قده” من أنه لايمكن حصول الوضع الذي هو اعتبار الهوهوية بين اللفظ والمعنى بسبب كثرة الاستعمال، نعم قد تكشف كثرة الاستعمال عن كون المستعمل بصدد اعتبار الهوهوية بين لفظ ومعنى، كما تكشف الجملة الإنشائية في الوضع التعييني عن ذلك كقول الأب: “سميت ولدي عليا”، بل ربما يكشف عنه استعمال واحد كما يقول الوالد: “جئني بولدي عليّ” فيفهم الآخرون أنه سمّى ولده عليّا([2]).
فانما يتم كلامه “قده”فيما لو كانت كثرة الاستعمال صادرة من مستعمل واحد، ولكن المفروض عادة صدورها من اشخاص متعددين، وكل واحد منهم في استعماله لميقصد سوى الاستعمال فلايمكن ان تكشف عن كونهم بصدد اعتبار الهوهوية او اي اعتبار آخر.
واما ما ذكره شيخنا الاستاذ “دامظله” من ان حقيقة الوضع هو اعتبار اللفظ علامة للمعنى، فقد يكون هذا الجعل والاعتبار ابتدائيا فيسمى بالوضع التعييني وقد يكون مسبوقا بالاستعمالات المتكررة بعلاقة المجاز فيكون الوضع تعينيا([3]).
ففيه ما مر من انه بعد حصول الملازمة الذهنية بين اللفظ والمعنى بسبب كثرة الاستعمال فيه فيلغو اعتبار كون اللفظ علامة على ذلك المعنى، لان الغرض منه هو حصول هذه الملازمة الذهنية، والمفروض انها قد حصلت من قبل بسبب كثرة الاستعمال، نعم يرى اهل اللغة هذا اللفظ علامة على المعنى نتيجة الملازمة الذهنية الحاصلة لديهم من كثرة الاستعمال ولكنه لايساوق الجعل والاعتبار، فانه نظير ان اهل اللغة يرون جميع الالفاظ من لغتهم علامة على معانيها مع ان الجعل والاعتبار لميصدر الا من الواضع فقط.
وعليه فلو كانت حقيقة الوضع هي الاعتبار لميصح تقسيم الوضع الى الوضع التعييني والتعيني، لان الوضع التعيني لايشتمل الا على نتيجة الوضع، وهي الملازمة الذهنية بين اللفظ والمعنى بسبب كثرة الاستعمال، نعم لو التزمنا بمسلك التعهد وان حقيقة الوضع هي التعهد بعدم استعمال اللفظ الا عند إرادة تفهيم معناه، ففي موارد الوضع التعيني أيضا يكون هناك تعهد ضمني من كل مستعمل بعدم استعمال اللفظ الا عند إرادة تفهيم معناه، ولأجل ذلك ذكر السيد الخوئي “قده” انه لايمكن تقسيم الوضع الى الوضع التعييني والتعيني الا بالالتزام بمسلك التعهد، فانه بناء على ذلك يصح ان يقال بان التعهد ان كان ابتدائيا فهو وضع تعييني وان كان ناشئا من كثرة الاستعمال فهو وضع تعيني، ولكن مرّ النقاش في هذا المسلك.
وكذا لو التزمنا بان الوضع هو الاقتران الأكيد بين اللفظ والمعنى فهذا الاقتران الأكيد قد يحصل بموجب عامل كيفي كقول الأب سميت ابني عليّا، وهذا هو الوضع التعييني، وقد يحصل بموجب عامل كمّي، وهو كثرة استعمال لفظ في معنى بقرائن مختلفة، فيحصل الأنس الذهني بين ذاك اللفظ وذاك المعنى تدريجا فيحصل بينهما اقتران أكيد.
ولكن مرّ ان هذه العلقة الوضعية التي عبّر عنها بالاقتران الأكيد ليست شيئا وراء الملازمة الذهنية بين اللفظ والمعنى التي تحصل بعد العلم بالوضع، فليست هي عين الوضع وانما تكون نتيجة الوضع ومن آثاره، والشاهد على ذلك ما مر من ان العلقة الوضعية بين لفظ ومعنى ليست بنظر العرف حالة نسبية توجد في ذهن العالم بالوضع دون الجاهل به، بينما ان الملازمة الذهنية حالة نسبية دائما، ففي موارد الوضع التعيني لاتوجد الا ملازمة ذهنية بين لفظ ومعنى بموجب كثرة استعماله فيه، وهذه الملازمة الذهنية هي نتيجة الوضع.
الا انه تقدم امكان ان يلحظ ذلك بلحاظ عرفي مسامحي فيسمى تحقق الملازمة الذهنية بين لفظ ومعنى لدى اهل لغة ولو في الجملة علقة وضعية بين اللفظ والمعنى، وكذا يسمى حصول الملازمة الذهنية لدى عائلة في مورد وضع الاعلام علقة وضعية، فان الملازمة الذهنية بين اسم عليّ وبين مولود معين لدى عائلته قد تنشأ من عامل كيفي وهو قول الأب” سميت ابني عليّا” وقد تنشأ من عامل كمّي وهو كثرة استعمال هذا اللفظ للدلالة على ذاك المولود من دون ان يقصد بذلك تحقق العلقة الوضعية بينهما، الا انه حصلت ملازمة ذهنية لدى عائلته بين ذاك الاسم وذاك المولود تدريجا، وبهذا اللحاظ يصح تفسيم الوضع الى الوضع التعييني والتعيني، ويشهد على ذلك صحة تقسيم العلقة الوضعية بين لفظ ومعنى الى العلقة الوضعية الناشئة من تخصيصه به او من كثرة استعماله.
كما انه بناء على مسلك الهوهوية بين اللفظ والمعنى فلااشكال في صحة تقسيمها الى الوضع التعييني والتعيني لانهاقدتنشأمن انشاء الوضع وقدتنشأمن كثرة الاستعمال.
هل يتحقق الوضع التعييني بالاستعمال؟
ذكر صاحب الكفاية “قده” في اول بحث الحقيقة الشرعية ان الوضع التعييني كما يحصل بالتصريح بإنشائه كذلك قد يحصل باستعمال اللفظ في غير ما وضع له، بان يقصد الحكاية عنه والدلالة عليه بنفسه لابقرينة، كما يقول الوالد “جئني بولدي الحسين” مع ظهور حاله في كونه بصدد وضع اسم على ولده.
وقد أورد عليه بعدة ايرادات:
1- ما ذكره المحقق النائيني “قده” من انه مستلزم لاجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي في لفظ واحد، حيث أنه في مقام الاستعمال يلحظ اللفظ فانيا في المعنى وفي مقام الوضع يلحظ اللفظ مستقلا ليوضع على المعنى، فلو كان المستعمل في مقام الوضع ايضا لزم اجتماع اللحاظ الآلي والاستقلالي في لفظ واحد وهو محال([4])، ووجه استحالة اجتماع اللحاظين في لفظ واحد ان مرجعه الى التناقض لان معنى اللحاظ الآلي عدم اللحاظ الاستقلالي.
وقرب المحقق الاصفهاني “قده” هذا الإيراد بانه يستلزم اجتماع لحاظين في حكاية اللفظ عن المعنى، حيث أنه في مقام الاستعمال تلحظ حكاية اللفظ عن المعنى بلحاظ فنائي –حيث تلحظ فانية في المحكي –ولكنه في مقام الوضع تلحظ حكاية اللفظ عن المعنى بلحاظ استقلالي كي توجد هذه الحكاية والدلالة بالوضع واجتماع الحاظ الفنائي والاستقلالي في موردواحدمحال([5]).
ولكن يمكن ان يجاب عن هذا الايراد اولا: بانكار تقوّم الاستعمال بلحاظ اللفظ فانيا في المعنى فانه لامانع من لحاظ اللفظ حين الاستعمال استقلالا، كما نرى ان الخطيب يختار كلمات جميلة في مقام الاستعمال، وهذا لاينافي قصد حكايته للمعنى، كما لامانع وجدانا من لحاظ حكاية اللفظ عن معناه -حين استعماله فيه- باللحاظ الاستقلالي.
وثانيا: بما حكي عن المحقق العراقي “قده” من ان ما وضع للدلالة على المعنى هو طبيعي اللفظ فيكون هو الملحوظ استقلالا وما استعمل في المعنى انما هو شخص هذا اللفظ المستعمل في الكلام فيكون هو الملحوظ آليا، فلم يجتمع اللحاظ الآلي والاستقلالي في مورد واحد وهو متين.
2- ما حكي عن المحقق العراقي “قده” من ان استعمال اللفظ في معنى للدلالة عليه يتوقف على كون اللفظ مستعدّا لدلالته على ذلك المعنى، واستعداده لها يتوقف على الوضع وهو لايحصل الا باستعماله فيه فيلزم الدور.
ثم أجاب عنه بان الاستعمال يتوقف على كون اللفظ مستعدّا للدلالة على المعنى في ظرف الاستعمال، وهذا المقدار من الاستعداد حاصل في ظرف هذا الاستعمال الذي توجد قرينة على كون المستعمل في مقام تحصيل الوضع به أيضا، وذلك لان القرينة تؤهل اللفظ في وقته للدلالة على المعنى([6])، وما افاده متين جدّا.
3-ما قد يقال من ان الاستعمال المذكور ليس حقيقيا ولامجازيا، اذ الاستعمال الحقيقي موقوف على الوضع، والمفروض عدم وضع اللفظ على هذا المعنى سابقا، والاستعمال المجازي موقوف على العلاقة بين المعنى المجازي والحقيقي، والمفروض عدم ملاحظتها في المقام، وعليه فيكون الاستعمال غلطا.
ولكن يجاب عنه اولا بما ذكره صاحب الكفاية “قده” من ان ذلك غير ضائر بعد ما كان هذا الاستعمال مما يقبله الطبع ولايستنكره والميزان في صحة الاستعمال موافقة الطبع([7])، والحاصل انه لايعتبر في الاستعمال ان يكون حقيقيا او مجازيا، بل يكفي استحسان الطبع له.
وثانيا: ان هذا الاستعمال يكون استعمالا حقيقيا لانه لايعتبر في الاستعمال الحقيقي اكثر من تقارنه للوضع زمانا، وان تأخر عنه الوضع عنه رتبة.
4- ما ذكره في البحوث من انه بناء على المسلك الصحيح في تفسير حقيقة الوضع من كون الوضع هو القرن الأكيد بين اللفظ والمعنى، فيمكن ان يتحقق ذلك باستعمال واحد فلايكون فيه اشكال.
يستحيل انطباق المجعول الاعتباري او التعهد العقلائي على نفس الاستعمال
ولكن تصويره على المسالك الأخرى في تفسير حقيقة الوضع من كونها أمرا اعتباريا او تعهدا عقلائيا فلايخلو من اشكال، لان المجعول الاعتباري او التعهد العقلائي امر نفساني ويستحيل انطباقه على نفس الاستعمال او ايجاده بالاستعمال، بل لابد من افتراض عناية زائدة على مجرد الاستعمال يستكشف بها اعتبار المستعمل او تعهده.
كما انه بناء على مسلك صاحب الكفاية من كون الوضع التعييني هو تخصيص اللفظ بالمعنى فلايعقل ان يكون الاستعمال بنفسه مصداقا للوضع.
اذ اولا: لو فرض تصوير ذلك بنحو يكون الاستعمال مصداقا لتعيين اللفظ على معنىً فلايتصور كونه كذلك الا بالاضافة الى شخص اللفظ المستعمل، فان المستعمل دائما يكون جزئيا، فلايكون الاستعمال الا مصداقا لوضع شخص اللفظ المستعمل بينما ان المطلوب هو وضع طبيعي اللفظ على المعنى.
وثانيا: ان كون اللفظ دالابنفسه على المعنى بلاحاجة الى شيءآخر أمر غير ممكن، الا بناء على توهم الدلالة الذاتية للالفاظ، وحينئذ فلابد لكل لفظٍ مستعملٍ في معنىً من وجود سبب لدلالته عليه، والسبب احد امرين:اما الوضع او المناسبة والعلاقة بين المعنى الموضوع له وبين المعنى المستعمل فيه مع وجود قرينة على ارادته، والمفروض في المقام انتفاء كلا السببين.
وان شئت قلت: ان كون الاستعمال محققا للوضع يتوقف على كون اللفظ المستعمل دالا بنفسه على المعنى دلالة فعلية، وكون اللفظ دالا بنفسه على المعنى يتوقف على الوضع، ويستحيل ان يكون ما هو موقوف على الوضع محققا للوضع للزوم الدور.
نعم لو كان المحقّق للوضع هو قصد دلالة اللفظ بنفسه على المعنى أمكن ان يقال بان قصد الدلالة ليس موقوفا على تحقق الوضع في الرتبة السابقة وانما هو موقوف على تحقق الوضع في زمان فعلية الدلالة وهو نفس زمان الاستعمال، الا ان قصد دلالة اللفظ على المعنى ليس محققا للوضع جزما اذ ليس هذا القصد تخصيصا للّفظ بالمعنى وانما هو إرادة للتخصيص، والا لزم تحقق الوضع بمجرد إرادة الواضع تخصيص لفظ لمعنى وان لميخصصه بالفعل([8]).
ويلاحظ عليه: انه تارة يفرض كون الاستعمال مجردا عن أيّة قرينة على كون المستعمل بصدد الوضع فلايحصل به الوضع حتى على مسلك القرن الأكيد، اذ القرن الأكيد لايحصل باستعمال واحد بدون القرينة، وأخرى يفرض وجود قرينة حالية على كون المستعمل بصدد الوضع، وحينئذ فلايكون ايّ مانع من تحقق الوضع بهذا الاستعمال، كما يقول الأب “جئني بولدي الحسين” مع ظهور حاله في كونه بصدد تسميته.
واما ماذكره من انه بناء على تفسير الوضع بكونه امرا اعتباريا او تعهدا عقلائيا يكون الوضع امرا نفسانيا ويستحيل انطباقه على نفس الاستعمال او ايجاده به، ففيه انه لاينبغي الاشكال في تقوم عنوان الوضع على ابراز ذاك الاعتبار او التعهد ويكون “قول الاب جئني بولدي الحسين” مبرزا عرفا لذاك الاعتبار او التعهد النفساني، وبذلك يتحقق عنوان الوضع والتسمية كما انه ما لميبرز المالك تمليك ماله لشخص آخر فلايصدق عرفا انه باعه او وهبه ذلك المال، ودعوى الفرق بينه وبين المقام بوجود أثر عقلائي وشرعي على تحقق عنوان البيع والهبة بخلاف عنوان الوضع والتسمية غير متجهة، لان الكلام فيما يتحقق به الوضع والتسمية وان لميترتب عليه أيّ أثر عقلائي او شرعي.
وأما ما ذكره من ان اللفظ المستعمل جزئي دائما ولامعنى لاستعمال طبيعي اللفظ، فيكون الاستعمال على هذا محققا لوضع شخص ذلك اللفظ وتخصيصه بالمعنى، بينما ان المطلوب هو وضع طبيعي اللفظ للمعنى، ففيه: أنه حينما يقول الوالد مثلا “جئني بولدي الحسين” مع ظهور حاله في كونه بصدد الوضع، فهذه القرينة الحالية توجب كون هذا الاستعمال تخصيصا لطبيعي لفظ الحسين على ولده، اذ العرف يلغي الخصوصية عن شخص هذا اللفظ المذكور في استعمال الوالد.
واما ما ذكره من لزوم الدور ففيه: انه بعد ما افترض من وجود قرينة على كون المستعمل في مقام الوضع فيكون محقق الوضع هو استعمال اللفظ في معنى مع وجود قرينة حالية على كون المستعمل بصدد الوضع، وهذا الاستعمال لايتوقف على فعلية الوضع في الرتبة السابقة، وانما يتوقف على تحقق الوضع مقارنا للاستعمال المقرون بقرينة على الوضع، ولو كان الوضع متأخرا عنه رتبة.
وان شئت قلت: ان تحقق الوضع بهذا الاستعمال لايتوقف على كون اللفظ بنفسه –وبلاحاجة الى اية قرينة – دالا على المعنى في رتبة سابقة، بل يكفي فيه ان يفهم المعنى من هذا اللفظ في ظرف الاستعمال ولو بالاستعانة بالقرينة، مع وجود قرينة حالية على كونه بصدد وضع هذا اللفظ على المعنى.
ان قلت: لو كان مراد صاحب الكفاية “قده” من تفسير الوضع التعييني بكونه تخصيص اللفظ بالمعنى هو تخصيصه به خارجا لااعتبارا فقد يقال بان استعمال اللفظ في المعنى انما يوجب تخصيصه به خارجا فيما اذا كان مجردا عن القرينة، والمفروض ان استعمال لفظ في معنى ليدل عليه بنفسه بلاحاجة الى أية قرينة يتوقف على تحقق الوضع في رتبة سابقة، فيلزم الدور.
قلت: لاوجه لذلك بتاتا فانه يكفي في تخصيص اللفظ بالمعنى خارجا وجود قرينة على ارادته لمعنى وأنه بصدد وضع هذا اللفظ على ذلك المعنى، ولايحتاج الى دلالة هذا اللفظ بنفسه على ذاك المعنى في رتبة سابقة.
امكان ايجاد الوضع التعييني بالاستعمال
فالصحيح هو امكان ايجاد الوضع التعييني بالاستعمال على جميع المسالك في الوضع.
التقسيم الثاني: بالنظر الى المعنى الذي يوضع بإزائه اللفظ
وقد يقسم الوضع بالنظر الى المعنى الذي يوضع بإزائه اللفظ على اربعة أقسام:
1- الوضع العام والموضوع له العام
2- الوضع الخاص والموضوع له الخاص
3- الوضع العام والموضوع له الخاص
4- الوضع الخاص والموضوع له العام
ومنشأ هذا التقسيم ان المعنى الذي يراد وضع اللفظ بإزاءه قد يكون كليّا بان لايمتنع صدقه على كثيرين كمفهوم الانسان وقد يكون جزئيا يمتنع صدقه على كثيرين كصورة مولود معين، ومن جهة أخرى ان هذا المعنى الذي يراد وضع اللفظ بإزاءه قد يتصور بنفسه او بعنوان آخر مشير اليه إجمالا لكنه يكون مثل ذلك المعنى من حيث الكلية والجزئية، وقد يتصور بعنوان آخر مشير اليه اجمالا لكنه يخالفه من حيث الكلية والجزئية.
فاذا كان المعنى الموضوع له كليّا وتصوره الواضع بنفسه او بعنوان كليّ مشير اليه اجمالا (كما لو تصور مفهوم الإنسان فوضع له لفظ الإنسان او رأى شبحا من بعيد و لميعرف نوعه ولكنه وضع لفظا لما هو نوع هذا الشبح واقعا فقد اتخذ عنوان “نوع هذا الشبح” مشيرا اجماليا الى واقعه) فيكون من الوضع العام والموضوع له العام.
واذا كان ذلك المعنى جزئيا وتصوره الواضع بنفسه او بعنوان جزئي آخر مشير اليه اجمالا (كما لو رأى شبحا من بعيد و لميعرف ما هو ولكنه وضع لفظا بإزاءه فانه قد تصوره بوجه اجمالي الذي يكون جزئيا أيضا) فيكون من الوضع الخاص والموضوع له الخاص.
واذا كان المعنى جزئيا و لميتصوره الواضع بنفسه وانما تصور مفهوما كليا وجعله مشيرا الى ذاك المعنى الجزئي اجمالا فيكون من الوضع العام والموضوع له الخاص.
واذا كان المعنى كليا واراد الواضع ان يجعل تصور بعض افراده عنوانا مشيرا اليه اجمالا فيكون من الوضع الخاص والموضوع له العام.
وبذلك تكون الاقسام اربعة.
لااشكال في امكان القسمين الأولين
ثم انه لااشكال في امكان القسمين الأولين اي الوضع العام والموضوع له العام والوضع الخاص والموضوع له الخاص، بل لاريب في وقوعهما في جميع اللغات، فالوضع في اسماء الأجناس يكون من قبيل الوضع العام والموضوع له العام حيث ان الصورة التي يلحظها في مقام الوضع صورة كلية، ويكون المعنى الموضوع له نفس هذه الصورة الكلية، فالواضع حينما يريد وضع لفظ الاسد على الحيوان المفترس فيلحظ الصورة الكلية للحيوان المفترس ويضع بإزائها هذا اللفظ، فيكون المعنى الموضوع له للفظ الاسد كليا وتكون افراد الاسد مصاديق لذلك المعنى الموضوع له؛ والوضع في اسماء الأعلام يكون من الوضع الخاص والموضوع له الخاص، حيث ان الأب مثلا حينما يريد ان يضع اسم عليّ على ولده فيلحظ صورة ولده التي هي صورة جزئية ويضع بإزائها هذا اللفظ.
أخذ وجود الخارجي او الذهني فی المعنى الموضوع له في اسم الجنس او العلم
نعم يقع الكلام في أن المعنى الموضوع له في اسم الجنس او العلم هل أخذ فيه الوجود الخارجي او الذهني ام لميؤخذ فيه أيٌّ منهما.
فذكرالمحقق الاصفهاني “قده” ان الموضوع له هو ذات المعنى من دون أخذ الوجود الخارجي او الذهني فيه، وذلك لان تصور المعنى يوجب صيرورته موجودا ذهنيا، فلو أخذ في المعنى الوجود الخارجي لزم اتصاف الوجود الخارجي بالوجود الذهني، وهو محال، لان المقابل لايقبل المقابل، كما انه لو أخذ فيه الوجود الذهني لزم منه اتصاف الوجود الذهني بالوجود الذهني، وهو محال، لان المماثل لايقبل المماثل([9])، وقد تبعه السيد الخوئي “قده” في ذلك([10]).
الموضوع له فی اسم الجنس هو ما يكون بالحمل الشائع
والظاهر ان الموضوع له لاسم الجنس كالماء هو ما يكون ماءً بالحمل الشائع، يعني ما لو وجد في الخارج كان ماءًا وكذا الموضوع له للفظ العنقاء او التناقض هو ما لو وجد في الخارج لكان عنقاء وتناقضا، وان كان المفروض عدم وجود العنقاء في الخارج واستحالة وجود التناقض، والذي يشهد على ذلك صحة السلب عرفا فان الصورة الذهنية للماء مثلا ليست ماءً عرفا، نعم كما ذكر السيد الإمام “قده” ان نكتة عدم صدق هذه المفاهيم على ما لميكن بالحمل الشائع مصداقا لها ان الطبيعة لمتكن طبيعة حال العدم، فحينما نقول كل نار حارة فنخبر عن مصاديق النار، والمعدوم ليس مصداقا للنار كما ان الموجود الذهني ليس نارا بالحمل الشائع، فينحصر الصدق على الافراد الموجودة في ظرف وجودها من غير ان يكون الوجود قيدا([11]).
الموضوع له في الأعلام هو الوجود الخارجي للشيئ
هذا كله بلحاظ اسماء الأجناس، وأما في أسماء الأعلام فلايبعد ان يكون الموضوع له فيها هو الوجود الخارجي للشيئ، فالوالد حينما يسمي ولده باسم عليّ فيكون لحاظه واسطة في اعتباره هذا الاسم علامة على هذا المولود الخارجي، وهذا لاينافي كون القرن الأكيد بين تصور اللفظ وتصور المعنى، فان الصورة الذهنية للمعنى قد لاتكون معنى بالحمل الشائع.
وما ذكره المحقق الاصفهاني “قده” من البرهان ففيه: انه لامانع من وضع لفظ بإزاء الوجود الخارجي فيكون الوجود الخارجي مأخوذا في المعنى الموضوع له، وما يوجد في الذهن حين تصور هذا المعنى يكون شبح المعنى وصورته لانفسه، كمفهوم النسبة الابتدائية الذي يكون شبحا لواقع النسبة الابتدائية، كما انه لامانع من وضع لفظ بإزاء الوجود الذهني لمعنى فحينما يلحظ ذات المعنى يتحقق قيده وهو وجوده الذهني في النفس قهرا بنحو العلم الحضوري، فلايكون من تلبس الوجود الذهني بوجود ذهني آخر.
هذا وقد ذكر السيد الإمام “قده” ان في النفس من التمثيل بالاعلام للوضع الخاص والموضوع له الخاص شيئا، فان المناسب للارتكاز هو وضع لفظ زيد للماهية المخصصة بحدود لاتنطبق الا على فرد معين لا على الموجود الخارجي، والا لزم كون قولنا زيد موجود ضروريا وقولنا زيد معدوم مجازا([12]).
ويلاحظ عليه اولا: ان الظاهر -كما مر- هو كون الموضوع له في الأعلام هو الموجود الخارجي وقولنا “زيد موجود” يعني ان هذا الفرد الموجود خارجا في زمانٍ ما موجود فعلا، فليست هذه القضية ضرورية كما ان قولنا “زيد معدوم” يعني ان هذاالفرد معدوم فعلا.
وثانيا: ان ما ذكره “قده” لاينافي كون وضع الأعلام من قبيل الوضع الخاص والموضوع له الخاص، غايته انه يرى كون الموضوع له فيها هو الصورة الجزئية.
ثم إنه بناء على ما ذكرنا ففي اسماء الاعلام يكون الوجود الخارجي هو الموضوع له وفي أسماء الأجناس يكون الموضوع له ما موطن وجوده هو الخارج وان لميوجد فعلا كالعنقاء بل وان امتنع وجوده كاجتماع النقيضين ويكون لحاظ الواضع للمعني واسطة في اعتباره اللفظ علامة علي ذاك المعنى من ذون ان يوجد نفس المعنى في ذهنه، فانه لامانع من اعتبار امر على الخارج ويكون لحاظ الخارج واسطة في الثبوت، ويختلف ذلك عن مثل العلم والحب ونحوهما من الصفات النفسانية التي تحتاج الى متعلق لها في موطن النفس.
وان أبيت عن ذلك فلامحيص من الالتزام بانه في أسماء الأعلام يكون الموضوع له بالنظر العرفي هو الوجود الخارجي ويعبر عنه بالموضوع له بالعرض، ويكون الموضوع له بالذات –اي بالنظرالعقلي-هو الصورة الذهنية لكن لابما هي هي بل بما هي فانية في الخارج.
هذا كله بلحاظ مرحلة الوضع، وأما مرحلة الاستعمال فحيث انه عملية تكوينية فيكون المستعمل فيه بالذات -والذي يكون محفوظا في موارد الصدق والكذب- الصورة الذهنية بما هي فانية في الخارج ويكون الخارج هو المستعمل فيه بالعرض، ويأتي نظير هذا الكلام في أسماء الأجناس، حيث ان الموضوع له بالعرض للفظ الماء هو ما يكون بالحمل الشائع ماءا مثلا.
وكيف كان، فالمتحصل انه لااشكال ولاكلام في امكان القسمين الاولين بل وقوعهما في جميع اللغات.
الكلام في امكان القسمين الأخيرين
انما الكلام والاشكال في امكان القسمين الأخيرين، والمشهور هو امكان القسم الثالث بل وقوعه واستحالة القسم الرابع، وخالف في ذلك المحقق الايرواني “قده” حيث ذهب الى استحالة كلا القسمين وذكر أن أقسام الوضع لا تتجاوز الاثنين كما حكى عن القدماء.([13])، بينما أن المحقق الحائري “قده” اختار امكان كلا القسمين([14]).
الصحیح: امكان القسم الثالث دون الرابع
والصحيح ما عليه المشهور من امكان القسم الثالث دون الرابع فان لحاظ العام يكفي في وضع اللفظ بإزاء افراده حيث انه وجه اجمالي لها، ولكن لايكفي لحاظ الفرد في وضع لفظ بإزاء العام، فلايكفي لحاظ زيد في وضع لفظ الانسان بإزاء المعنى الكليّ الذي يراد ان يحكي عنه لفظ الانسان، فانه لايستلزم تصور زيد تصور مفهوم الانسان لااجمالا ولاتفصيلا، وان شئت قلت: ان الخاص هو الكليّ في ضمن الخصوصية والكليّ يكون لابشرط عن تلك الخصوصية فلايكون وجها له، وهذا واضح بالوجدان، نعم لو كان تصور الخاص موجبا لانتقال الذهن الى العام اتفاقا فهو امر آخر، ويندرج حينئذ في الوضع العام والموضوع له العام، ولكنه خلف الفرض.
ومثال القسم الثالث ما لو وضع زعيم في يوم عيد الغدير اسم “عليّ” لكل مولود ولد في ذلك اليوم، فلم يتصور هذا الزعيم مواليد ذلك اليوم بالتفصيل، وانما تصور مفهوما كليّا وهو المولود في هذا اليوم ولكنه لميضع اسم “عليّ” لهذا المعنى الكليّ، والا لكان مرادفا لقولنا “المولود في هذا اليوم”، وانما وضع هذا الاسم لتلك الافراد، فكل مولود يكون موضوعا له ويكون اسم “عليّ “مشتركا لفظيا بينهم، لاانه وضع لمعنى عامّ ويكون كل مولود مصداقا للمعنى الموضوع له.
شمول قسم الثالث اذا كان الموضوع له معنى جزئيا اضافيا لا حقیقیا
هذا ولايخفى ان القسم الثالث لايختص بما اذا كان الموضوع له معنى جزئيا حقيقيا، بل يشمل ما لو كان جزئيا اضافيا بالقياس الى العنوان الملحوظ حين الوضع، كما لو وضع لفظ العين مثلا لكل معنى منقوش في الدفتر مع عدم لحاظ تلك المعاني بتفاصيلها، فان لفظ العين لميوضع لهذا المفهوم الكلي، كي يكون معناه مرادفا لقولنا “المعنى المنقوش في الدفتر”، وانما وضع لواقع هذا المعنى، فيكون من الوضع العام والموضوع له الخاص وان كانت المعانى الموضوع لها معان كلية في نفسها([15]).
وجوه فی استحالة قسم الثالث
هذا ولكن استدل على استحالة القسم الثالث بوجهين:
1-عدم حكاية المفهوم الكلي عن الخصوصيات الفردية كي يكون تصوره كافيا للوضع
الوجه الاول: ان المفهوم الكلي كمفهوم الانسان انما ينتزع من افراده بعد تجريدها عن خصوصياتها الفردية، وإبقاء ما به الاشتراك بينها، فلايصلح للحكاية عن تلك الخصوصيات الفردية كي يكون تصوره كافيا لوضع لفظ بإزاء تلك الخصوصيات، وان شئت قلت: ان الكلي جزء تحليلي للفرد، حيث ان الفرد مركب من الكلي والعوارض المشخصة، ولايمكن الاكتفاء بتصورالجزء لوضع لفظٍ على الكل، لانه نظير وضع لفظٍ بإزاء النوع بمجرد تصور جنسه، كأن يكتفى بتصور مفهوم الحيوان مثلا في وضع لفظٍ بإزاء الانسان.
وقد أجاب عنه المحقق العراقي “قده” بانه وان كانت المفاهيم الكلية الذاتية كمفهوم الانسان لاتحكي عن الخصوصيات، ولكن يمكن للذهن ان يخترع مفهوما كليا يحكي عن الخصوصيات أيضا كمفهوم فرد الانسان او جزئي الانسان او مصداق الانسان ونحو ذلك، فمفهوم “مصداق الانسان” مثلا ينطبق على كل فرد من افراد الانسان بتمامه بماله من الخصوصيات الفردية([16]).
اقول: ما ذكره من حكاية مفهوم “مصداق الانسان” مثلا عن الخصوصيات الفردية بمعنى انطباقه على الفرد بما له من الخصوصيات الفردية، وان كان صحيحا نظير مفهوم “النوع من الحيوان”، فانه ينطبق على الانسان والفرس وغيرهما من انواع الحيوان بتمامها، فيمكن تصور هذا المفهوم للإشارة به الى واقع تلك الانواع بغرض وضع لفظ بإزاءها، فيكون هذا اللفظ مشتركا لفظيا بين تلك الأنواع، كما كان يمكن تصور مفهوم المنقوش في الدفتر لوضع لفظ العين مثلا بإزاء واقع المنقوش في الدفتر من العين الجارية والباصرة وغيرهما.
ولكن لايبعد ان يقال انه يكفي تصور ايّ مفهوم كلي لأجل وضع لفظ بإزاء أفراده، فلو أريد وضع اسم “علي” مثلا على الإنسان المولود في هذا اليوم فيمكن تصور هذا المفهوم لوضع هذا الاسم بإزاء كل فرد من افراده، ولاحاجة الى تصور مفهوم “مصداق الانسان…” ونحو ذلك، ويختلف ذلك عن مثال الاكتفاء بتصور الحيوان لوضع لفظ بإزاء نوعه كالانسان، فان مفهوم الحيوان لاينطبق على مفهوم الانسان بتمامه حيث أنه هو الحيوان الناطق، بينما ان الكلي ينطبق على فرده بتمامه، سواء اريد من الفرد وجوده الخارجي او اريد منه المفهوم الجزئي –كما هو مسلك من يرى ان اللفظ لابد ان يوضع بإزاء المفهوم دائما- اذ ليس المفهوم الجزئي الا نفس المفهوم الكلي المشار به الى وجود معين.
الفرق بين الوضع العام والموضوع له العام وبين الوضع العام والموضوع له الخاص
والذي يخطر بالبال ان الفرق بين الوضع العام والموضوع له العام وبين الوضع العام والموضوع له الخاص هو انه عندما يتصور الواضع مفهوما كليا فتارة يكون غرضه وحدة الوضع بان يكون اللفظ موضوعا بإزاء هذا المفهوم الكلي، فيكون ذلك من الوضع العام والموضوع له العام، وأخرى يكون غرضه انحلال الوضع بان يكون كل فرد من افراد هذا المفهوم الكلي موضوعا له باستقلاله فيكون ذلك من الوضع العام والموضوع له الخاص، بلافرق بين ان يكون المفهوم الكلي هو “الانسان” مثلا او “مصداق الانسان”، فان تصور مفهوم “مصداق الانسان” لايعيِّن كون الوضع من قبيل الوضع العام والموضوع له الخاص، ولذا نشاهد الفرق بين مدلول الحرف كلفظة “من” وبين مثل جملة “مصداق النسبة الابتدائية”.
وبما ذكرناه اتضح عدم الحاجة الى ما حكي عن السيد الصدر”قده” في الجواب عن هذا الوجه من ان الفرد له مصطلحان:
احدهما: الفرد الخارجي بما له من العوارض المشخصة كالحجم واللون وغير ذلك، وطبعا الفرد بهذا المعنى يجب تجريد الخصوصيات عنه كي ينتزع عنه الجامع، فلايكون الجامع حاكيا عنه بخصوصياته، لانها امور اضافية، لابد من غض النظر عنها عند ارادة انتزاع الجامع.
وثانيهما: الفرد بمعنى الحصة المعينة من الجامع، فمفهوم الانسان مثلا هوالجامع وافراده بالمعنى الثاني عبارة عن تلك الحصة من الانسانية الموجودة في زيد، وتلك الحصة الموجودة في عمرو وهكذا، فان كل حصة من هذه الحصص مباينة مع الحصة الأخرى ذاتا بغض النظر عن الخصوصيات الطارئة على الحصة من حجم او لون او غير ذلك، وانما هذه الخصوصيات تطرأ على الحصة فيجب ان تكون ذات الحصة في الرتبة السابقة مباينة مع الحصة الأخرى، حتى يطرأ على هذه الحصة الوصف الفلاني وعلى الحصة الأخرى الوصف الآخر، والمفهوم الجامع بين هذه الحصص ينطبق على كل حصة بتمامها، اذ ليس فيها خصوصية زائدة على اصل طبيعة الانسانية حتى نحتاج الى تجريدها عنها، فيعقل الوضع العام والموضوع له الخاص بمعنى تصور المفهوم العام والوضع لهذه الحصص([17]).
2- تصور المفهوم الكلي لاجل وضع لفظٍ بازاء المفهوم الجزئي غير معقول
الوجه الثاني: ان المفهوم الجزئي كمفهوم زيد والمفهوم الكلي كمفهوم الانسان متباينان من حيث المفهوم وان كانا متحدين خارجا، فتصور المفهوم الكلي لاجل وضع لفظٍ بازاء المفهوم الجزئي غير معقول الا ان يفرض ان تصور المفهوم الكلي صار حيثية تعليلية للانتقال الى تصور المفهوم الجزئي الذي يراد وضع اللفظ بإزاءه، لكنه كما ترى يرجع الى الوضع الخاص والموضوع له الخاص ولايحقق المقصود، والا ففي فرض كون المفهوم الجزئي غائبا عن الذهن مطلقا فكيف يضع الواضع لفظا بازاءه، فان الوضع من قبيل الحكم، والحاكم حينما يحكم على شيء يجب ان يكون موضوع حكمه حاضرا في نفسه.
وقد اجاب عنه السيد الصدر “قده” تارة بما حكي عنه في البحوث من ان المفهوم العام قد ينتزع من الخارج ابتداء كمفهوم الانسان، فهذا لايصلح ان يكون فانيا الا في الواقع الخارجي المنتزع منه، وقد ينتزع من نفس المفاهيم الجزئية التي يراد الوضع لها كمفهوم فرد الانسان او جزئي الانسان، فان هذا مفهوم منتزع عن مفهوم زيد وعمرو وخالد وهكذا، ولأجل ذلك يكون صالحا لان يلحظ فانيا في تلك المفاهيم الجزئية ويكون حاكيا عنها([18]).
وأخرى بما حكي عنه في المباحث من انه يمكن ان يتصور الواضع المفهوم الكلي ويضع اللفظ له ولكن بحيث يستقر الوضع على المفاهيم الجزئية، فيصير الوضع عاما والموضوع له خاصا، فان المفهوم الكلي على قسمين:احدهما ما لايكون بالنظر التصوري خاصا وجزئيا كعنوان الانسان، وهذا مما لايعقل فيه الوضع العام والموضوع له الخاص، وثانيهما ما يكون بالنظر التصوري خاصا وجزئيا وان كان بالنظر التصديقي كليا، كما في عنوان فرد الانسان او مصداق الانسان او جزئي الانسان، وهذا مما يعقل فيه الوضع العام والموضوع له الخاص، ونكتة الفرق بينهما انه حيث يراد اصدار الحكم على موضوع فلابد ان يكون العنوان المتصور موضوعا للحكم إما بالنظر التصديقي (اي بالحمل الشائع) او بالنظر التصوري (اي بالحمل الاولي).
فحينما نقول الجزئي يمتنع صدقه على كثيرين فعنوان الجزئي وان كان بالنظر التصديقي كليا اذ لايمتنع صدقه على كثيرين لكنه بالنظر التصوري جزئي، وهذا يكفي في اصدار الحكم وان كان استقرار الحكم على الجزئي بالحمل الشائع، وفي المقام ايضا اذ اريد وضع لفظ بإزاء الجزئي بالحمل الشائع فلايكفي تصور مفهوم الانسان مثلا لانه لايكون بالنظر التصوري جزئيا، كما انه ليس بالنظر التصديقي كذلك، بخلاف عنوان جزئي الانسان مثلا، فانه حيث يكون بالنظر التصوري جزئيا فيكفي هذا المقدار في مقام انشاء الوضع، فان الوضع وان أنشيء على عنوان الجزئي ولكن استقراره وثبوته على مصاديق هذا العنوان، كما كان الأمر في الحكم بان الجزئي يمتنع صدقه على كثيرين من هذا القبيل.
وبهذا الجواب يندفع الوجه الاول لاثبات استحالة القسم الثالث ايضا بلاحاجة الى تفسير الفرد بالحصة([19]).
ولكن اورد عليه في تعليقة المباحث بان هذا البيان لايتم الا بعد فرض استبطانه لروح الجواب المذكور في البحوث لان انتقال الوضع من المعنى العام الى المفاهيم الجزئية لايكون الا بنكتة فناء ذلك المعنى العام في تلك المفاهيم الجزئية، وذلك لايكون الا بفرض انتزاعه منها لامن الخارج ابتداءا، كما انه لايرفع الاشكال الاول لانه لو انتزع المعنى العام من تلك المعاني الجزئية فيأتي اشكال انه كيف يمكن ان يحكي الجامع المنتزع عن الخصوصيات عن هذه الخصوصيات مع ان الجامع لاينتزع الا بالتجريد عن الخصوصيات مع إبقاء ما به الاشتراك بينها، فنحتاج في الجواب عنه بما مر من تفسير الفرد بالحصة([20]).
ان المفهوم الجزئي ليس مباينا للمفهوم الكلي
اقول: الانسب ان يقال في الجواب عن الوجه الثاني لاثبات استحالة القسم الثالث بان المفهوم الجزئي ليس مباينا للمفهوم الكلي، فانه نفس المفهوم الكلي المشار به الى وجود معين، وعليه فيمكن تصور مفهوم كلي ويشار به الى وجوداته المعينة، فيوضع لفظ بإزاءها، سواء كان الموضوع له المفهوم الجزئي كما هو مختار جماعة في وضع اسماء الأعلام، او الوجود الخارجي على ما هو المختار في أسماء الأعلام، كما في مثال تصور عنوان المولود في هذا اليوم لغرض وضع اسم “عليّ” على واقع المولود في هذا اليوم، وكذا تصور عنوان المنقوش في الدفتر لوضع لفظ بإزاء افراده، فانه حينما يتصور مفهوم كمفهوم المنقوش في الدفتر فكما يمكن وضع لفظٍ بازاء هذا المفهوم الكلي فيكون من الوضع العام والموضوع له العام، فكذلك يمكن وضع لفظ بازاء كل فرد من افراده بخصوصه، كما لو قال الواضع وضعت لفظ العين على المنقوش في الدفتر، فيكون من الوضع العام والموضوع له الخاص، من دون حاجة الى لحاظ جامع انتزاعي كعنوان مصداق المنقوش في الدفتر ونحو ذلك.
هذا، وقد ذكر في البحوث ان امكان الوضع العام والموضوع له الخاص بالطريقة المذكورة انما يعقل بناء على مسلك المشهور في حقيقة الوضع من كونه امرا اعتباريا او تعهدا نفسانيا، واما بناء على المسلك الصحيح من كونه امرا واقعيا وهو القرن الأكيد بين اللفظ والمعنى خارجا فلابد للواضع لاجل تحقيق هذا الهدف من استحضار المعنى الخاص بنفسه لكي يحقق القرن الأكيد بينه وبين اللفظ، فلايكفي في ذلك مجرد قول الواضع وضعت لفظة من لواقع النسبة الابتدائية في حصول القرن الأكيد بينهما، بل لابد من استحضار واقع النسبة الابتدائية في الذهن كي يتحقق الاقتران الاكيد بينه وبين لفظة من، ولايكفي تصور مفهوم النسبة الابتدائية والذي لايكون نسبة ابتدائية بالحمل الشايع.
فالتوصل الى نتيجة الوضع العام والموضوع له الخاص بناء على مسلك القرن الأكيد انما يعقل عن طريق تكرر الاقتران بين اللفظ وبين المعاني الخاصة بنحو ينتج الاقتران بين اللفظ وبين كل فرد من تلك المعاني، فيقال تارة سرت من البصرة ويقال أخرى ذهبت من قم ويقال ثالثة جاء عمرو من طهران فيكون الوضع في هذه الكلمات من الوضع الخاص والموضوع له الخاص حتى يحصل في الذهن حالة القرن الأكيد بين لفظة من وبين طبيعي مفهومين اسميين اللذين يكونان طرفين لواقع النسبة الابتدائية، بحيث اذا سمع المخاطب “جئت من المسجد” انتقل منه الى هذا المعنى ايضا، فبذلك تحصل نتيجة الوضع العام والموضوع له الخاص، فيكون المقام نظير ما اذا افترضنا طائفتين فرأينا مرة فردا من الطائفة الأولى يقابل فردا من الطائفة الثانية ورأينا مرّة أخرى فردا آخر من الطائفة الأولى يقابل فردا آخر من الطائفة الثانية وهكذا… الى ان تحققت الاستجابة الشرطية في ذهننا بحيث لو تصورنا اي فرد من افراد الطائفة الأولى لانتقل ذهننا الى وجود فرد آخر من الطائفة الثانية في قباله([21]).
وفيه: أنه يكفي في حصول الاقتران الأكيد لدى العالم بالوضع بين لفظة “من” مثلا وواقع النسبة الابتدائية بمجرد قول الواضع” وضعت لفظة من للدلالة على واقع النسبة الابتدائية ” فلو سمع العالم بالوضع بعد ذلك من احد أنه قال” سرت من البصرة “فينقدح في ذهنه واقع النسبة الابتدائية بين السير والبصرة.
هذا، واما ما ذكره المحقق الحائري “قده” من امكان القسم الرابع ايضا بدعوى أنه كما يكون العام وجها اجماليا لأفراده لاتحادها خارجا فكذلك الخاص وجه اجمالي للعام لاتحادها خارجا ايضا، نظير ما لو رأينا شبحا من بعيد و لمندر انه جماد او نبات او حيوان ووضعنا لنوعه لفظا فهذا يكون من الوضع الخاص والموضوع له العام([22]).
ففيه: ان لحاظ الجزئي بمجرده لايكفي في وضع اللفظ بإزاء الكلي بعد ما لميكن الجزئي وجها للكلي ولو اجمالا، والمثال الذي ذكره “قده” من فرض رؤية شبحا من بعيد ووضع لفظ بازاء نوعه ليس من قبيل الوضع الخاص والموضوع العام لان المفروض هو لحاظ عنوان “نوع هذا الشبح” مرآة اجمالية لواقع نوعه، ولولا لحاظ هذا العنوان لميمكن الوضع بمجرد تصور نفس ذاك الشبح.
تنبيه: افتراض الوضع العام والموضوع له الخاص في الوضع التعيني
تنبيه:قد يخطر بالبال عدم امكان افتراض الوضع العام والموضوع له الخاص في الوضع التعيني، حيث انه لايوجد فيه عملية وضع كي يقال بان الملحوظ حال عملية الوضع هو عنوان اجمالي قد وضع اللفظ بإزاء مصاديقه، وهذا وان كان صحيحا لكنه يتم في الوضع التعيني نتيجة الوضع العام والموضوع له الخاص، اي بتكرر استعمال لفظ “من” مثلا في عدد من مصاديق النسبة الابتدائية يحصل القرن الاكيد بين لفظ “من” والنسبة الابتدائية مطلقا.