فهرست مطالب

فهرست مطالب


تقریرات دروس خارج مدرسه فقهی امام محمد باقر علیه السلام

بسمه تعالی

ادلة برائة الشرعیه. 1

حديث السعة. 1

الجهة الاولى: عدم النقل في الكتب الروائية او الفقهية القديمة. 2

الجهة الثانية: ورود دليل وجوب الاحتياط عليها 3

المختار: الاجمال فی الروایة. 4

حديث الإطلاق‏.. 5

1-مرسله صدوق.. 5

حجية مراسيل الصدوق.. 5

2-حدیث الشیخ فی الامالی.. 6

البحث عن مدلول مرسل الصدوق.. 6

کلام صاحب الكفاية “قده”.. 6

کلام المحقق الاصفهانی ره 7

الوجه الاول: 7

الوجه الثاني: 7

المختار: عدم دلالة حديث الاطلاق على البراءة، لعدم ظهور لفظ الورود في الوصول. 19

تمامیة دلالة رواية الامالي علی البرائة. 19

 

 

 

ادلة برائة الشرعیه

حديث السعة

ومن جملة ما استدلّ به على البراءة ما اشتهر في كتب الاصوليين من قوله (عليه السلام) “الناس في سعة ما لا يعلمون” وحينئذ قد يضاف لفظ السعة الى ما لا يعلمون بأن تكون “ما” موصولة، فيعني أن الناس في سعةِ ما لا يعلمون به، وقد لا يضاف اليه، بأن تكون “ما” مصدرية زمانية، فيعني أن الناس في سعةٍ، ماداموا لا يعلمون.

وقد ذكر في الكفاية ما محصله: أنه لو كان الاحتياط واجبا لما كانوا في سعة أصلا، وليس دليل وجوب الاحتياط لو تمّ في نفسه واردا عليه ورافعا لموضوعه، بل يكون معارضا له، لأنه لم يعلم التكليف الواقعي بعد، فكيف يقع في ضيق الاحتياط من أجله، نعم لو كان الاحتياط واجبا نفسيا كان وقوعهم في ضيقه بعد العلم بوجوبه، لكن عرفت أن وجوبه طريقي، لأجل أن لا يقعوا في مخالفة التكليف الواقعي أحيانا، فافهم([1])‏.

اقول: هنا جهتان من البحث:

الجهة الاولى: عدم النقل في الكتب الروائية او الفقهية القديمة

انه لم يرد في الكتب الروائية او الفقهية القديمة رواية بهذا التعبير، وانما نقل المحقق الحلي في المعتبر([2])و العلامة الحلي في التذكرة والمنتهى ونهاية الاحكام([3]) والشهيد الاول في الذكرى([4]) وغيرهم، وكذا في غوالي اللئالي([5]) عن النبي (صلى الله عليه وآله) الناس في سعة ما لم يعلموا، وهو وان لم يختلف عن التعبير السابق، ويأتي فيه احتمال كون ما موصولة او زمانية، لكن المهم ارسال الرواية، ولا يجدي كونها من المراسيل الجزمية لهؤلاء الاعلام، كما مرّ منا مرارا، نعم روى النوفلي عن السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) أن أمير المؤمنين (عليه السلام) سئل عن سفرة وجدت في الطريق مطروحة، كثير لحمها، وخبزها، وجبنها، وبيضها، وفيها سكين، فقال أمير المؤمنين (عليه السلام) يقوّم ما فيها، ثم يؤكل، لأنه يفسد، وليس له بقاء، فإذا جاء طالبها غرموا له الثمن، قيل له يا أمير المؤمنين (عليه السلام) لا يدرى سفرة مسلم أم سفرة مجوسي، فقال هم في سعة حتى يعلموا([6])، وهذه الرواية وان كانت معتبرة عندنا، لكن لا تتم دلالتها على البراءة، لورودها في مورد خاص، والحلية الظاهرية فيه في اللحم مستندة الى أمارية بلد المسلمين للتذكية، ولولاه جرى استصحاب عدم التذكية.

وما في كتاب الأضواء من أن هذه الرواية تدلّ على أصالة الحلّ في الشبهات الموضوعية، لأن مورد الرواية ليس خصوص اللحم، حتى يقال ان الحلية الظاهرية فيه مستندة الى أمارية بلد المسلمين، بل الرواية شاملة للخبز والجبن، فهنا شبهة نجاسة سؤر المجوسي، فقال الامام (عليه السلام) هم في سعة حتى يعلموا، فالحديث يدل على الضابط الكليّ في مورد عدم العلم بالحرام ولكنه مختص بالشبهة الموضوعية([7])، ففيه اولاً: ان الرواية ان لم تختص باللحم، ولكن بعد ما ذكر الامام أنه يجوز أكل ما فيها، فقال السائل: لعلها سفرة مجوسي، فلعل شبهته كانت في خصوص تذكية اللحم، وثانيا: لعل منشأ حكم الامام بالسعة في الخبز والجبن ناش عن استصحاب طهارتهما كما أن السعة في اللحم تنشأ من أمارية بلد المسلمين، ومع احتمال الخصوصية في السؤال وكون الجواب واردا في مورد السؤال لاشتمالة على الضمير الراجع اليه فلا يمكن استظهار ضابط كلي لأصالة الحل في الشبهات الموضوعية.

الجهة الثانية: ورود دليل وجوب الاحتياط عليها

الجهة الثانية: انه بناء على كون “ما” مصدرية زمانية فالصحيح خلافا لصاحب الكفاية ورود دليل وجوب الاحتياط عليها، لأن غاية السعة هو عدم العلم، والظاهر من عدم ذكر المتعلق فيه كون موضوع السعة فيها الجهل المطلق أي الجهل بكل من الوظيفة الواقعية والظاهرية معا، حيث لا يصدق على العالم بالوظيفة الظاهرية أنه جاهل بقول مطلق، نعم بناء على كون “ما” موصولة، يتمّ كلام صاحب الكفاية، لأنه ينطبق ما لا يعلمون على التكليف الواقعي المجهول ومقتضى كون الناس في سعة منه عدم لزوم الاحتياط عليهم في مورده، فيتعارض مع دليل الاحتياط، وهذا بناء على ما هو الظاهر من كون الاضافة موردية واضح، بأن يكون المراد منه بيان السعة في مورد الحكم المجهول، وأما بناء على كون الاضافة نشوية فقد يقال بكون دليل الاحتياط واردا على الحديث، حيث ان الضيق ناشٍ من دليل الاحتياط، ولكن الظاهر العرفي هو تعارض الحديث مع دليل الاحتياط ايضا، فان العرف يرى الحديث مبرزا لعدم وجوب الاحتياط، خصوصا وأن وجوب الاحتياط طريقي ويكون ناشئا عن اهتمام المولى بالواقع المشكوك.

هذا وقد نقل في البحوث الاشكال على صاحب الكفاية بعكس ما ذكرناه فقال: قيل: انه ان كانت “ما” موصولة، فغاية ما تدل عليه عندئذ انهم في سعة من ناحية ما لا يعلمونه، وهذا لا ينافي أن لا يكونوا في سعة من ناحية حكم آخر، وهو إيجاب الاحتياط، نعم ان كانت مصدرية، فيكون بمعنى أنهم في سعةٍ، ما داموا لا يعلمون بالحكم الواقعي، فان المضاف اليه للسعة مقدر، وهو الحكم، فيكون معناه أن الناس في سعة حكم لم يعلموا به، فهذا ينافي جعل وجوب الاحتياط، لأنه لا يرفع عدم العلم بالحكم الواقعي، ولكن يرد عليه عدم تقدير في البين من جهة المضاف اليه للفظ السعة، بل لما علم الناس بالوظيفة الظاهرية فيخرجون عن الجهل المطلق

ثم اورد عليه أن افتراض كون “ما” موصولة لا يعني ان تكون البراءة المستفادة من الحديث محكومة لدليل الاحتياط، إذ هذا انما يلزم لو فرض ان إضافة السعة إلى الموصول إضافة نشوية، دون ما إذا كانت الإضافة موردية، كما أنه على تقدير كون “ما” زمانية، لابد من التفصيل، حيث ان لفظ السعة حينئذ وان لم يضف الى شيء ظاهرا، لكن يقدر له مضاف اليه وهو الحكم، كأنه قال “الناس في سعة حكمٍ ما داموا لا يعلمون” وظاهره عود الضمير المقدر المفعول لقوله “لا يعلمون” الى نفس ذلك الحكم، فان كانت اضافة السعة الى الحكم اضافة موردية لم يكن محكوما لدليل الاحتياط، بخلاف ما اذا كانت اضافته نشوية([8]).

اقول: قد مرّ أنه بناء على كون “ما” موصولة فالظاهر كون الاضافة موردية لا نشوية، وأما ما ذكره في فرض كون “ما” زمانية ففيه أن الظاهر العرفي من التعبير بكون الناس في سعةٍ ماداموا لا يعلمون، هو كونهم في سعة في موردٍ، ماداموا في جهلٍ بوظيفتهم بالنسبة الى ذلك المورد، فلو علموا بوظيفتهم الظاهرية كوجوب الاحتياط ارتفعت السعة، كقوله “أي رجل ركب امرا بجهالة فلاشيء عليه” حيث انه لا يشمل مورد العلم بوجوب الاحتياط.

وما في كتاب الأضواء من أن الظاهر من الغاية هو عدم العلم بالحكم الواقعي، حيث ان كل احد يعرف أنه ما لم يعلم بحكم ولو عقلي فهو مرخصّ من جهته، فيكون بيانه لغوا عرفا([9])، ففيه أن ما ذكره يشكّل قرينة على أن المراد من الغاية العلم بالوظيفة الشرعية فلا يشمل مثل العلم بحكم العقل بحق الطاعة، ولكن يشمل مثل العلم بوجوب الاحتياط شرعا.

المختار: الاجمال فی الروایة

وكيف كان فعمدة الاشكال أن الرواية مجملة، حيث لا نعلم أن لفظ السعة هل اضيف الى “ما” حتى تكون “ما” موصولة أم لم يضَف اليها فتكون زمانية، وما ذكره السيد الخوئي “قده” من أن الظاهر هو الاحتمال الأول، لأن كلمة ما الزمانية -حسب الاستقراء- لا تدخل على الفعل المضارع، وإنما تدخل على الفعل الماضي لفظا ومعنى أو معنى فقط، ولو سلم دخولها على المضارع أحيانا فلا ريب في شذوذه، فلا تحمل عليه الا مع القرينة، فالصحيح دلالة الحديث على البراءة([10])، فان كان مقصوده أن دخول “ما” الزمانية على المضارع غلط، فهذا غير ثابت، ففي النحو الوافي أنه يقل وصل ما الزمانية بالمضارع غير المنفي بلم، مثل “لا اصبح ما تنام” أي لا اصبح مدة نومك([11])، وان قصد كونه من الندرة بمكان، بحيث يحتاج الى قرينة، فهو وان كان صحيحا، لكن لا سبيل لنا الى نفي القرينة، اذ لعل النبي (صلى الله عليه وآله) والراوي عنه تلفظا بلفظ السعة مع التنوين.

حديث الإطلاق‏

1-مرسله صدوق

من جملة الروايات التي استدل بها للبراءة، وقد ذكر الشيخ الأعظم “قده” انها أظهر روايات الباب، ما في الفقيه من أنه روي عن الصادق (عليه السلام) أنه قال كل شي‌ء مطلق حتى يرد فيه نهي([12])،

حجية مراسيل الصدوق

وقد ذكر في تهذيب الاصول والبحوث([13]) أنه من المراسيل الجزمية للصدوق واختلفا في حجية المراسيل الجزمية للصدوق فذهب الاول الى حجيتها وانكرها الثاني، وانت ترى انها من المراسيل غير الجزمية للصدوق والظاهر أن الذي اوجب وقوعهما في الاشتباه اعتمادهما على نقل صاحب الوسائل، حيث قال: قال (اي الصدوق) قال الصادق كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي([14])،

فلااعتبار بسند الرواية الا بناء على حجية كل ما في كتاب الفقيه لقول الصدوق في اوله بأنه ما اذكر فيه الا ما كان حجة بيني وبين ربي، ولكن كون خبر حجة عنده لايلازم كونه حجة عندنا لاحتمال اختلفنا معه في تحديد حجية الخبر، فيكون نظير ما لو قال شخص ان فلانا يجب تقليده، فانه لااعتبار به لاحتمال كونه يروى وجوب تقليد غير الاعلم اذا اقتضت المصلحة ذلك.

2-حدیث الشیخ فی الامالی

وقد روى الشيخ الطوسي في الامالي عن الحسين بن إبراهيم القزويني عن أبي عبد الله محمد بن وهبان عن أبي القاسم علي بن حبشي، عن أبي الفضل العباس بن محمد بن الحسين، قال: حدثنا أبي قال: حدثنا صفوان بن يحيى، عن الحسين بن أبي غندر، عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: الأشياء مطلقة ما لم يرد عليك أمر ونهي، وكل شي‌ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال أبدا، ما لم تعرف الحرام منه فتدعه([15])، وسندها ضعيف، لعدم توثيق الحسين بن ابراهيم وعلي بن الحبشي والعباس بن محمد، نعم وثق النجاشي محمد بن وهبان ويمكن اثبات وثاقة الحسين بن ابي غندر من خلال رواية صفوان عنه ان صححنا بقية رجال السند ، وهذا السند بعينه نفس سند الشيخ في الفهرست الى اصل الحسين بن ابي غندر([16])، وقد يخطر بالبال وقوع سقط بين الحسين وبين الامام (عليه السلام)، لأن اكثر رواياته عنه بواسطة ابيه او غيره، وقد قال النجاشي في حقه: كوفي يروي عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام)، ويقال: هو عن موسى بن جعفر (عليهما السلام)([17]).

البحث عن مدلول مرسل الصدوق

کلام صاحب الكفاية “قده”

وينبغي البحث اولاً: عن مدلول مرسل الصدوق، فقد اورد عليه صاحب الكفاية “قده” بما محصله أن دلالته تتوقف على عدم صدق الورود إلا بعد وصول النهي الى المكلف، مع أنه ممنوع، لوضوح صدق الورود على صدور النهي من الشارع، سيما اذا كان قد بلغ إلى غير واحد، وخفي على هذا المكلف، فمفاد هذه الرواية هو الاباحة في فعل لم يصدر فيه نهي واقعا، واين هذا من البراءة والاباحة الظاهرية التي موضوعها الشك في الحرمة، واستصحاب عدم صدور النهي وان كان ينقّح موضوع الحكم بالاطلاق، وبذلك يثبت الاباحة تعبدا في موارد الشك في الصدور، لكنه لا يجدي فيما اذا لم يجر الاستصحاب، كما في مورد توارد الحالتين، بأن ورد النهي عنه في زمانٍ والترخيص فيه في زمان آخر، واشتبه المتقدم والمتأخر، فانه وإن لم يكن بين افراد ما اشتبهت حرمته فرق من ناحية جريان الاباحة الظاهرية، لكنه أنه إنما يجدي فيما كان المثبت للحكم بالإباحة في بعضها الدليل لا الأصل فافهم([18]).

کلام المحقق الاصفهانی ره

وقد اجاب المحقق الاصفهاني “قده” عن اشكال صاحب الكفاية من كون الورود بمعنى الصدور بأنه يتعين أن يكون الورود في الرواية بمعنى الوصول، وذلك لوجهين:

الوجه الاول:

ان التعبير عن الوصول بالورود تعبير شايع لا ينسبق الى أذهان أهل العرف غيره، بل الظاهر كما يساعده تتبع موارد الاستعمالات أن الورود ليس بمعنى الصدور، بل هو معنى متعدٍّ بنفسه، فالوارد وهو الحكم يقتضي وجود مورود، وليس موضوع الحرمة هو المورود، ولذا لا يقال الخمر قد ورده النهي وانما يقال ورد فيه النهي، بل المورود هو المكلف، كما يقال وردني كتاب من فلان، وقد يقال ورد عليه كتاب من فلان، بلحاظ اشراف الوارد على المورود، فتحقق أن الورود ليس بمعنى الصدور، حتى لا يحتاج في ذاته إلى مكلّف يكون مورودا، بل بمعنى الوصول إليه، لتضايف الوارد والمورود، فتدبّر جيدا.

الوجه الثاني:

وهو يبتني على مقدمتين:

المقدمة الاولى: ان ظاهر الاطلاق والاباحة في الرواية هو الاباحة الشرعية دون الاباحة العقلية بمعنى اللاحرج العقلي -أي عدم لزوم كون تصرف العبد باذنه تعالى، وانما يلزمه اطاعة امره ونهيه- في قبال الحظر العقلي الذي يعني لزوم كون تصرف العبد باذنه تعالى، لكونه عبدا مملوكا له، فإن حمل الاباحة على الاباحة العقلية التي يحكم بها عقل كل عاقل بعيد غير مناسب لشأن لامام (عليه السلام) المعدّ لتبليغ الاحكام، خصوصا بملاحظة أن الخبر مروي عن الصادق (عليه السلام) بعد ثبوت الشرع، واكمال الشريعة خصوصا في المسائل العامّة البلوى التي يقطع بصدور حكمها عن الشارع، فلا فائدة في الاباحة، مع قطع النظر عن الشرع.

المقدمة الثانية: ان الاباحة التي يمكن تكون مغياة بعدم صدور النهي واقعا هي الاباحة العقلية، وأما الاباحة الشرعية فلا يمكن أن تكون مغياة بذلك، سواء كانت الاباحة الشرعية واقعية او ظاهرية، والوجه في ذلك أن الاباحة الشرعية الواقعية ناشئة عن عدم المفسدة الغالبة في الموضوع، فلا يعقل ورود حرمة فيه، اذ لازمه فرض المفسدة الغالبة فيه، وهذا خلف.

ان قلت: ان عدم المفسدة الغالبة فيه من حيث ذاته لا ينافي عروض عنوان عليه يقتضي الحرمة، قلت: نعم، إلا أن الذي يرد فيه نهيٌ هو ذلك العنوان الذي له اقتضاء الحرمة، والغاية في الرواية هو ورود النهي في مورد الاباحة، فالماء مثلا مباح والغصب حرام، وانطباق عنوان الغصب على الماء لا يقتضي صدق ورود النهي في الماء المغصوب، بل من انطباق العنوان الذي ورد فيه النهي على مورد الاباحة.

هذا إذا أريد ما هو ظاهر الرواية من جعل الاباحة في كل مورد مغيّاة بورود النهي فيه بحيث كانت هناك إباحة مستمرة تزول بالنهي.

وأمّا إذا أريد من الرواية تقييد الاباحة بعدم صدور النهي أي بيان أن ما لم يرد فيه نهي فهو مباح، وأن ما ورد فيه نهي ليس بمباح، فان كان ذلك بنحو المعرفية، أي مجرد اخبار عن الواقع، فالاخبار يكون لغوا، حيث يكون اخبارا عما هو كالبديهي الذي لا يناسب شأن الامام (عليه السلام).

وإن كان بنحو الموضوعية أي بمعنى جعل الاباحة لكل شيء مشروطا بعدم حرمته، كان معناه اشتراط وجود الضدّ بعدم ضدّه وهذا غير معقول: لأن عدم الضدّ ليس شرطا لوجود ضدّه، فان الضدّ ليس بمانع عن وجود ضدّه حتى يلزم منه توقف وجود الضدّ على عدمه توقف المعلول على عدم مانعه، كما هو منقّح في بحث الضدّ.

وأمّا الاباحة الشرعية الظاهرية، فالوجه في عدم امكان جعلها مغيّاة بعدم صدور النهي في موضوعها أن الاباحة الظاهرية التي موضوعها المشكوك لا يعقل أن تكون مغيّاة إلّا بالعلم، لا بأمر واقعي يجامع الشّك، وإلّا لزم تخلف الحكم عن موضوعه التامّ، فإنه مع فرض كون الموضوع وهو المشكوك موجودا كيف يرتفع حكمه بصدور النهي المجامع مع الشكّ واقعا، فلا يعقل أن تتقيد إلا بورود النهي على المكلف، ليكون مساوقا للعلم المرتفع به الشكّ.

على أن موضوع الإباحة الظاهرية إذا كان هو عدم صدور النهي فهو مشكوك، فلا يمكن إثبات الإباحة الظاهرية في مورد الشك، لأنه من التمسك بالدليل مع الشك في موضوعه، والتمسك باستصحاب عدم الصدور لا يجدي إما لكفايته بنفسه بلا احتياج إلى الخبر، أو عدم فائدته وعدم صحة الاستدلال به، كما يأتي توضيحه.

هذا مضافا الى أن ظاهر الخبر جعل ورود النهي غاية رافعة للاباحة الظاهرية المفروض حدوثها، وهذا يعني عدم جعل الحرمة حدوثا وبذلك يرتفع الشك في الحرمة من أول الأمر، فما معنى جعل الاباحة الظاهرية المتقوّمة بالشك في الحرمة.

فان قلت: هذا إذا كان المراد صدور النهي منه تعالى، وأمّا إذا أريد صدوره من النبي او الوصي (عليهما السلام) على طبق ما أوحي به النبي أو الهم به الوصي، فيندفع هذا المحذور، لتقوّم الشك باحتمال صدوره منه تعالى، فيجعل له الحلية الظاهرية مغياة بعدم صدور النهي من النبي أو الوصي، فيساوق رواية “ما حجب اللّه علمه عن العباد”، فيفيد أن الحرمة الواقعية لا تؤاخذ بها، إلّا بعد صدور النهي على طبقها من النبي أو الوصي.

قلت: ان الحكم الذي لم يقم النبي أو الوصي بتبليغه لا أثر لمقطوعه حتى يحتاج إلى جعل الاباحة الظاهرية في مشكوكه.

وبهاتين المقدمتين ثبت لزوم حمل الورود في الرواية على ارادة الوصول الى المكلف فتكون دليلا على البراءة الشرعية.

هذا وقد ذكر بالنسبة الى فرض توارد الحالتين في كلام صاحب الكفاية أن الاباحة الواقعية المستفادة من قوله عليه السلام (كل شي‏ء مطلق)، إما أن تكون مغيّاة حقيقة بعدم صدور النهي واقعا، بحيث كانت هناك إباحة مستمرة تزول بالنهي، وإما أن تكون مقيدة بعدم صدوره، بحيث كان المراد أن ما لم يصدر فيه نهي مباح، وما صدر فيه نهي ليس بمباح، فان أريد الاولى فحينئذ لا يعقل فرض الشك في التقدم والتأخر؛ لأن هذه الاباحة متقدمة على النهي لفرض ثبوتها واستمرارها إلى أن يرد النهي، والاباحة الاخرى لا يعقل ورودها على موضوع محكوم بالاباحة، فلا محالة لو فرضت إباحة أخرى غير الاولى فهي متأخرة عن صدور النهي.

وإن أريد الثانية ففرض الشك في التقدم والتأخر معقول؛ لاحتمال أن يكون المورد كان مما لم يصدر نهي فيه، فكان مباحا ثم ورد فيه نهي، أو كان المورد مما صدر فيه نهي، فلم يكن مباحا من الاول، ثم زال النهي وصار مباحا، إلا أن مثل هذا الفرض لا يكون في نفسه مشمولا للرواية، لا أنه يكون مشكوك الشمول لكن لا يجري الاستصحاب لاحراز شمولها له، كما هو ظاهر سياق العبارة، فان مفاد الرواية أن ما لم يصدر فيه نهي مباح، وأن ما صدر فيه نهي ليس بمباح، لا ما صدر فيه نهي وزال مباح، أو ما لم يصدر فيه نهي ثم صدر ليس بمباح([19]).

مناقشه

اقول: أما ما ذكره في الوجه الاول من كون الورود غير الصدور، فهو وان كان صحيحا لغة، لما لوحظ فيه حيثية انتهاء الوارد عند المورود، وحضوره عنده، ومنه فوله تعالى “و لما ورد ماء مدين” وقوله تعالى ” فاوردهم النار وبئس الورد المورود” وقوله تعالى ” وان منكم الا واردها” وفي لسان العرب: العرب تقول ورَدْنا ماء كذا ولم يَدْخُلوه، وورد بلد كذا إِذا أَشرف عليه، دخله أَو لم يدخله، وقال الجوهري: ورَدَ فلان حَضَر([20])، ولكن لا يعني ذلك كون التعبير بورود النهي في الفعل مساوقا لوصوله الى المكلف، وذلك إما لما يقال من أن “ورد فيه” قد يكون بمعنى “ورده” كما يقال “ورد في المشرعة” أي ورد المشرعة([21])، ولكن -مضافا الى ما نحس به من عدم عرفية التعبير بأنه ورد شرب الخمر نهي، بخلاف التعبير بأنه ورد فيه نهي- لم نجد له في الاستعمالات العربية التعبير بأنه ورد في مكان كذا، او لما هو الظاهر من أن تكون حرف “في” ظرفا للورود، أي ورد في شأنه نهي، وأما كونها متعلقة بالنهي، كما في قولنا “ورد نهي عنه” فهو بعيد عن الذهن، وحينئذ يقال: أنه لا يلحظ في قولنا “ورد في شأنه نهي” مورود معيّن، فيمكن أن يكون المورود عالم الشرع والقانون، او نفس ذلك الفعل، وهذا لا ينافي عدم معهودية التعبير بأنه ورد الفعل نهي، والشاهد على ما ذكرناه أنه لو صدر خطاب النهي من المولى عن شرب الخمر قبل شهر، فكتبه المولى في محلّ الاعلانات، ولم يطلع عليه احد من العبيد الا بعد شهر، فيصح أن يقال انه ورد من المولى قبل شهر نهي في الخمر، فالوجدان العرفي لا يفهم من هذه الجملة اكثر من صدور نهي من المولى متوجهٍ الى فعلٍ من دون لحاظ وصوله الى أي احد.

هذا مضافا الى أنه لو فرض كون قوله “يرد فيه نهي” ظاهرا في وروده على شخص او اشخاص، فهذا لا يستلزم أن يكون هو المكلف بنحو الانحلال، فلعله هو النبي (صلى الله عليه وآله) باعتبار أنه يوحى اليه احكام الله تعالى واوامره ونواهيه، او أنه هو الأمة بالنظر المجموعي، لا الانحلالي، فيكفي وصوله الى جمع معتد به من الامة وان خفي علينا.

على أنه يمكن أن يكون الورود على المكلف باعتبار كونه هو الموجَّه اليه خطاب النهي، فخطاب النهي يصدر منه تعالى، ويقع على عاتق المكلف، فلا يستلزم علمه به.

نعم الانصاف أنه لو ورد في صريح الخطاب ورود النهي -اي خطاب النهي- على المكلف كان ظاهرا في وصوله اليه وعلمه به، فان ظاهر التعبير بورود الخطاب الى شخصٍ هو ذلك، ولا يقاس بالورود المادّي الذي لا يساوق علم المورود عليه بالوارد، نظير ما يقال “ورد عليه الضيف ولكنه لم يلتفت لكونه نائما” فقياس المقام بهذا المثال، كما فعله بعض الاعلام “قده” في المنتقى في غير محله.

ومن هنا تبين تمامية دلالة رواية الشيخ الطوسي في اماليه عن ابي عبد الله (عليه السلام) الاشياء مطلقة ما لم يرد عليك امر او نهي([22])، ولكن اذا لم يذكر في الخطاب ورود النهي على المكلف، فصرف وجود قرينة عقلية على كون المكلف هو المورود للنهي لا يوجب ظهور الخطاب في أكثر من كونه مورودا بمعني أنه من توجه اليه خطاب النهي.

هذا كله هو تعليقنا على الوجه الاول المذكور في كلام المحقق الاصفهاني “قده” ويرد على الوجه الثاني المذكور في كلامه عدة اشكالات:

الاشكال الاول:

ان ما ذكره من كون ارشادية الرواية الى حكم العقل باباحة ما لم يصدر فيه نهي من المولى، غير معقول، لكونه امرا بديهيا لا يحتاج الى بيان، فيرد عليه أنه كيف يكون ذلك امرا بديهيا، وقد وقع الخلاف الشديد فيه بين علماء العامة والخاصة، وقد توقف فيه بعض علمائنا الكبار كالمحقق الحلي “ره” في المعارج، وأما كونه خلاف ظاهر شأن الامام (عليه السلام) ففيه أن بيان الوظيفة العقلية تجاهه تعالى، خصوصا مع عدم وضوحها لعامة الناس واختلافهم فيها ليس خلاف شأن الامام (عليه السلام)، فانه من جملة شؤونه، كما أن بيان الحكم الشرعي من جملة شؤونه، ولذا ذكرنا سابقا أنه لايظهر من خطاب الامر الوارد في الروايات بتعلم الاحكام او بالاحتياط في الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي بل الشبهة الحكمية البدوية قبل الفحص، كونه بصدد جعل الوجوب الشرعي الطريقي، فانه لا يظهر من مثل قوله في اناءين وقع في احدهما قذر “يهريقهما ويتيمم” امر مولوي طريقي بالاجتناب عن كلا المائين المشتبهين، حيث يحتمل فيه عرفا أن يكون مجرد بيان للوظيفة العقلية مع عدم رافع شرعي لها، كما لا يستفاد من معتبرة مسعدة بن زياد (من أنه يؤتى بالعبد يوم القيامة فيقال له هلّا عملت فان قال لم ‌اكن اعلم يقال له أ فلا تعلمت حتى تعمل) كون وجوب التعلم شرعيا مولويا طريقيا، بل لعله ارشاد الى ما استقلّ به العقل من وجوب تعلم الاحكام، نعم هو ظاهر في الحكم العقلي الفعلي، اي الذي لا يكون مورودا لدليل شرعي.

نعم قد يقال: انه بناء على هذا لا يبقى لبيان الاباحة العقلية من قبل الصادق (عليه السلام) ثمرة عملية، حيث انه في زمانه كان قد اكتملت الشريعة، وثبت حكم شرعي في كل واقعة، فلا يوجد مورد لم يصدر فيه نهي ولا رخصة من المولى حتى يلحظ حكم العقل فيه، ولكن يمكن ان يجاب عنه اولاً: بكفاية الثمرة العلمية، وبيان ما هو الحقّ في هذه المسألة المختلف فيها، وثانيا: انه يوجد له ثمرة عملية بالنسبة الى كثير من الناس الذين لا يعلمون بثبوت حكم شرعي لكل واقعة، فيكون وزانها وزان قوله “ان الله سكت عن اشياء عن اشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها”.

الاشكال الثاني:

ان ما ذكره من امتناع جعل الاباحة الشرعية الواقعية لفعلٍ، مغياة بعدم صدور النهي عنه، للزوم الخلف، ففيه اولاً: أن الاباحة لا تكون ناشئة دائما عن عدم الاقتضاء، بل قد يكون المقتضي للحرمة موجودا، لكن يوجد مانع مؤقت عن التحريم، كما كان الامر كذلك في الخمر، وثانيا: ان النهي عن عنوان لا يلازم نشوء النهي عن مفسدة في هذا العنوان، بل قد ينشأ عن مفسدة مقترنة به، فينهى عن فعل بعد أن كان مباحا بحكمة صيرورته شعارا للكفار، وليس ذلك علة، حتى يقال بان النهي متعلق حقيقة بعنوان ارتكاب ما هو شعار الكفار، بل مرّ مرارا ان النهي قد لا ينشأ عن مفسدة، بل تكون المصلحة في امتثال النهي، كما لو كان غرض المولى تقوية روح العبودية في عبده فينهاه عن بعض ما يشتهيه من دون أية مفسدة فيه، فلا يوجد أي مانع من جعل الشارع الاباحة لكل شيء مغياة بعدم صدور النهي عنه.

ان قلت: انه ان كانت هذه الرواية صادرة عن النبي (صلى الله عليه وآله) قبل اكتمال التشريع كان له فائدة، حيث كان يعني انه ما دام لم يصدر من الشارع خطاب النهي عن شيء فقد ابيح لهم فلا يجب عليهم أن يسألوا النبي عن حكمه، ولكن المفروض صدور هذه الرواية عن الامام الصادق (عليه السلام) وقد انتهى زمان التشريع في عصره، فلا يوجد فائدة لبيان جعل الاباحة الشرعية الواقعية لكل شيء مغياة بعدم صدور النهي عنه، حيث انه في فرض الشك في صدور النهي واقعا كان التمسك بهذا الدليل تمسكا بالعام في شبهته المصداقية، واذا علم بعدم صدور النهي عن فعلٍ، وقد اكتملت الشريعة فيعلم بحليته، ولا يشكّ احد في جواز ارتكابه.

قلت: لم يعلم جعل حلية خاصة في كل موردٍ، موردٍ، من الأفعال التي لم يصدر فيها نهي، فلعل المجعول هو مضمون هذه الرواية، وأن كل شيء مباح شرعا الى ان يصدر فيه نهي، والامام (عليه السلام) قد بيّن ذلك وثمرته أن المكلف اذا رأى عدم خطاب النهي في موردٍ فيطبِّق هذه الإباحة عليه.

الاشكال الثالث:

ما ذكره بالنسبة الى كون عدم صدور الحرمة قيدا في موضوع الاباحة الشرعية الواقعية (من أنه ان كان بنحو المعرفية أي الإخبار بأن كل ما ليس بحرام فهو مباح شرعا، فهو اخبار عن امر بديهي فيكون لغوا، وان كان بنحو الجعل والانشاء فيكون محالا، لأن لازمه توقف وجود الشيء وهو الاباحة على عدم ضده وهو الحرمة) ففيه أن بالامكان الالتزام بالمعرفية، ولا يكون اخبارا عن امر بديهي، بل يكون دفعا لتوهم بعض الاشخاص اهمال الشرع للوقايع التي لا نص فيها من الكتاب والسنة، فأخبر الامام (عليه السلام) بأن ما لم يصدر فيه نهي فالشارع قد جعل له الحلية، كما تصدى الامام (عليه السلام) لابطال هذا التوهم بمثل قوله “ما من شيء الا وفيه كتاب او سنة”، كما أن بالامكان الالتزم بالموضوعية.

ولا يرد عليه اشكال توقف وجود الضد على عدم ضده، فانه انما يكون في التوقف التكويني الذي تكون نكتته العقلية الناشئة عن التضاد موجودة في جميع الاضداد، فيلزم منه الدور حيث يكون الجلوس موقوفا على عدم القيام توقف الشيء على عدم مانعه، كما يكون عدم القيام موقوفا على الجلوس او غيره من اضداد القيام توقف عدم الشيء مع تمامية مقتضيه على وجود مانعه، وهذا بخلاف أن يجعل الشارع الحلية للشيء مشروطا بعدم حرمته، فحليته وان توقفت على عدم حرمته، لكن عدم حرمته لا يتوقف على حليته، الا اذا فرض جعل الشارع الحرمة لما لم يجعل له الحلية، ولكنه ليس كذلك فقد جعل الحرمة لعناوين تفصيلة كالخمر ونحوها، فلا يلزم منه محذور عقلي ابدا، وهكذا لو كره المولى اشياء، ثم صبّ رضاه على كل ما لم تتعلق به كراهته، ولعل من هذا القبيل لزوم الوفاء بالشرط الذي ليس محللا للحرام، فالموقوف عليه لجواز الوفاء او وجوبه هو عنوان الشرط غير المحلل للحرام، فيريد اكرام عالم لم يكن اكرامه حراما، ولا تتوقف هذه الارادة على فعلية عدم الحرمة، حيث ان القضية حقيقية، نعم فعلية الارادة تتوقف على فعلية الموضوع ولكنها خارج عن مصب الارادة.

الاشكال الرابع:

ان ما ذكره من عدم معقولية جعل الاباحة الشرعية الظاهرية مغياة بعدم صدور النهي، لان موضوع الحكم الظاهري هو عدم العلم ولا يعقل ارتفاع الحكم مع بقاء موضوعه، ففيه أنه لا مانع من جعل الحكم الظاهري على حصة خاصة من عدم العلم، وهو عدم العلم المقرون بعدم صدور خطاب النهي، فيمكن ان يكون هناك تحريم، ولكن وجد مانع عن تصدي الشارع لتوجيه خطاب النهي الى المكلفين، فيكون من قبيل ما عن امير المؤمنين (عليه السلام) “ان الله سكت عن اشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها” بناء على تفسيره بالسكوت الاثباتي عن ابراز خطاب التحريم، ولو احتملنا جعل التحريم واقعا، نعم الانصاف أن مناسبة الاباحة الظاهرية مع مطلق الشك في النهي ولو كان بعد صدور النهي واقعا، يوجب ظهور الرواية بناءا على ارادة الاباحة الظاهرية منه في كون موضوعها مطلق الشك في النهي.

الاشكال الخامس:

ان ما يظهر منه من أنه لو كانت الغاية هو وصول النهي فيتعين أن تكون الاباحة ظاهرية، فان كان المراد منه مجرد الاستظهار العرفي، فلا بأس به، وان كان المراد منه تعينه عقلاً ففيه أنه يمكن جعل الاباحة الواقعية مغياة بوصول خطاب النهي، فتكون الحرمة الواقعية مشروطة بوصول خطاب النهي، وقد مر في اول مباحث القطع امكان اخذ وصول خطاب الحكم في موضوع الحكم.

ومما ذكرناه تبيّن الاشكال فيما ذكره السيد الخوئي “قده”، حيث قال: ان الورود وان صح استعماله في الصدور، إلا ان المراد به في الرواية هو الوصول، إذ على تقدير ان يكون المراد منه الصدور لا مناص من ان يكون المراد من الإطلاق فيها هو الإباحة الواقعية، فيكون المعنى أن كل شي‏ء مباح واقعا ما لم يصدر النهي عنه من المولى، ولا يصح أن يكون المراد من الإطلاق هي الإباحة الظاهرية، إذ لا يصح جعل صدور النهي من الشارع غاية للإباحة الظاهرية، فان موضوع الحكم الظاهري هو الشك وعدم وصول الحكم الواقعي إلى المكلف، فلا تكون الإباحة الظاهرية مرتفعة بمجرد صدور النهي من الشارع، ولو مع عدم الوصول إلى المكلف، بل هي مرتفعة بوصوله إلى المكلف، فلا مناص من أن يكون المراد هي الإباحة الواقعية، وحينئذ فإما أن يراد من الإطلاق الإباحة في جميع الأزمنة أو الإباحة في خصوص عصر النبي (صلى اللَّه عليه وآله) لا سبيل إلى الأول، إذ مفاد الرواية على هذا أن كل شي‏ء مباح واقعا حتى يصدر النهي عنه من الشارع. وهذا المعنى من الوضوح بمكان كان بيانه لغوا لا يصدر من الإمام (عليه السلام) فانه من جعل أحد الضدين غاية للآخر، ويكون من قبيل ان يقال كل جسم ساكن حتى يتحرك، وكذا المعنى الثاني، فانه وان كان صحيحا في نفسه، إذ مفاد الرواية حينئذ ان الناس غير مكلفين بالسؤال عن حرمة شي‏ء ووجوبه في زمانه (صلى اللَّه عليه وآله) بل هو يبيِّن الحرام والواجب لهم، والناس في سعةٍ ما لم يصدر النهي منه.

فمفاد الرواية أن الناس ليس عليهم السؤال عن الحرام في عصر النبي، بل كل شي‏ء مطلق ومباح ما لم يصدر النهي عنه من الشارع، بخلاف غيره من الأزمنة، فان الأحكام قد صدرت منه (صلى اللَّه عليه وآله) فيجب على المكلفين السؤال والتعلم، كما ورد في عدة من الروايات فاتضح الفرق بين عصر النبي، وغيره من العصور من هذه الجهة، إلا أن هذا المعنى خلاف ظاهر الرواية، فان ظاهر قول الصادق (عليه السلام) كل شي‏ء مطلق، هو الاطلاق والإباحة الفعلية، بلا تقييد بزمان دون زمان، لا الاخبار عن الإطلاق في زمان النبي، وأن كل شي‏ء كان مطلقا في زمانه ما لم يرد النهي عنه، فتعين أن يكون المراد من الإطلاق هي الإباحة الظاهرية لا الواقعية. وعليه فلا مناص من أن يكون المراد من الورود هو الوصول، لأن صدور الحكم بالحرمة واقعا لا يكون رافعا للإباحة الظاهرية ما لم تصل إلى المكلف، كما هو ظاهر، فتحصل تمامية دلالة الرواية على البراءة([23]).

فانا ذكرنا أن بيان أن كل شيء لم يصدر فيه نهي فهو مباح شرعا، ليس لغوا ابدا، فهو بيان لعدم اهمال الشارع حكم أية واقعة، فان بيان وجود احد الضدين عند عدم ضده انما يلغو لو كانا ضدين ليس لهما ثالث وكان ذلك واضحا لدى العرف، كقولنا “ما ليس بساكن فهو متحرك” فانه لغو قطعا، بخلاف ما لو كانا ضدين لهما ثالث أي امكن ارتفاعهما معا كالمقام حيث انه في فرض اهمال الشارع لحكم بعض الوقايع فيصدق انه ليس ليس مما حرّمه الله ولا مما رخّص فيه، بل اهمل امره، وكذا اذا كانا ضدين ليس لهما ثالث، ولكن لم يتضح ذلك لعامة الناس، كما لو قيل بأن من لايصدق عليه أنه مسافر في بلد كمن يريد أن يبقى فيه سنتين فيصدق عليه أنه متوطن فيه، فيجب عليه التمام.

كما أنه لا مانع عقلا من جعل الاباحة الظاهرية في مورد شكٍ خاصّ في الحرمة الواقعية وهو الشك فيها قبل صدور خطاب النهي، فان من المحتمل حرمة فعل ومبغوضيته واقعا، وانما يوجد مانع عن ابراز خطاب النهي عنه، ولكن -كما مرّ آنفا- الانصاف أنه خلاف الظاهر، والمناسب لجعل الاباحة الظاهرية أن يكون موضوعها عدم وصول خطاب النهي الى المكلف، لكن لا دافع لاحتمال بيان الرواية للاباحة الشرعية الواقعية او الاباحة العقلية في ما لم يصدر فيه نهي.

الاشكال السادس:

على المحقق الاصفهاني “قده” أن ما ذكره كوجه ثانٍ لعدم معقولية كون الاباحة الشرعية الظاهرية مغياة بعدم صدور النهي (من أنه حيث يشكّ عادة في صدور النهي فيكون التمسك بالرواية تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية، وسيجيء ان شاء الله تعالى أن التمسك باستصحاب عدم صدور النهي ليس مجديا، إما لكفايته بنفسه بلا احتياج إلى هذه الرواية، أو عدم كفايته لو اردنا ترتيب مضمون الرواية عليه تعبدا([24])، أنه عين المصادرة بالمطلوب، حيث ان ما جاء منه بعد ذلك هو أنه ان كان الغرض من الاستصحاب التعبد بالاباحة، فقد مر أن الاباحة الظاهرية المغياة بعدم صدور النهي غير معقولة.

وان كان الغرض منه نفي الحرمة فلا حاجة الى الحكم بالاباحة([25])، فترى أنه كرّر نفس دعوى امتناع جعل الاباحة الظاهرية مغياة بعدم صدور خطاب النهي، ومن الواضح أن عدم صدور خطاب النهي لا يلازم انتفاء الحرمة والمبغوضية فلعله لم يصدر خطاب النهي لمفسدة في صدور خطاب النهي او لعدم تحقق موضوعه في زمان الشارع، كربطة العنق، او شرب التتن، نعم لا يعقل جعل الاباحة الظاهرية مشروطة بعدم الحرمة واقعا، للغوية جعله، بل يتنافى مع روحها التي هي عدم الاهتمام بالحرمة الواقعية على تقدير وجودها، او عدم تنجزها.

قد يكون كلامه ناظرا الى ما ذكره في بحث الاستصحاب من أن وجوب صلاة الاحتياط ليس موضوعه الشك بين الثلاث والاربع مع عدم الاتيان بالركعة الرابعة واقعا، إذ لو كان كذلك فلا محالة لا يعقل بلوغه إلى درجة الفعلية، (و هي عنده بوصول الحكم كبرى وصغرى أي وصول وجود موضوعه) إذ مع فعلية موضوعه بوصوله المنوط به فعلية حكمه يرتفع الشك، فلا يبقى مجال لفعلية حكمه،.و حيث لا يعقل أن يكون وجوب صلاة الاحتياط مرتباً على عدم الإتيان بالرابعة، فلا مجال للتعبد الظاهري بعدم الاتيان بالرابعة، لترتيب هذا الوجوب([26])، فيقول في المقام ايضا: بأنه لو كان موضوع الاباحة الظاهرية عدم النهي واقعا فلا يعقل ثبوتها بعد وصول موضوعها، اذ بوصول عدم النهي يرتفع موضوع الحكم الظاهري، ولكنك عرفت أن وصول عدم خطاب النهي لا يعني العلم بعدم الحرمة والمبغوضية، نعم لو فرض كون عدم خطاب النهي مساوقا مع عدم الحرمة واقعا فعدم معقولية

كونه موضوعا للاباحة الظاهرية بديهي، وليس بحاجة الى هذا التكلف، اذ يرد على اسندلاله على عدم معقولية ترتب وجوب الاحتياط على عدم الاتيان بالركعة الرابعة، أنه يكفي في الخروج عن لغوية جعل الحكم امكان وصوله بوصول موضوعه تعبدا، فاذا امكن وصوله بالاستصحاب امكن جعله، ولا وجه لاشتراط امكان وصوله بوصول موضوعه وجدانا او بالأمارة.

ثم انه بما ذكرناه (من أنه وان لم يمكن جعل الحرمة الواقعية غاية للاباحة الظاهرية، ولكن يمكن جعل صدور خطاب النهي من الشارع للناس غاية لها، ويمكن للمكلف أن يقطع بعدم صدور خطاب النهي، ولكن يحتمل تعلق الحرمة به واقعا، وان لم يوجِّه الشارع خطاب النهي الى الناس لمانع يمنعه من ذلك، فلا يكون حدوث الاباحة الظاهرية مساوقا للقطع بعدم الحرمة واقعا،حتى يرتفع موضوع الاباحة الظاهرية) ظهر الاشكال فيما ذكره المحقق الاصفهاني من أن ظاهر الخبر جعل ورود النهي غاية رافعة للاباحة الظاهرية المفروض حدوثها، وهذا يعني عدم جعل الحرمة حدوثا وبذلك يرتفع الشك في الحرمة من أول الأمر، فما معنى لجعل الاباحة الظاهرية المتقوّمة بالشك في الحرمة.

الاشكال السابع:

إن ما ذكره حول توارد الحالتين فيرد عليه أولا: انه يمكن فرض توارد الحالتين في فرض كون الحلية مغياة، وذلك بأن نعلم بأن النبي (صلى الله عليه وآله) حرّم لحم الفرس والحمير مثلا في غزوة خيبر واحلّه في سنة أخرى علامتها كذا، كالسنة التي مات فيه عثمان بن مظعون مثلا، وشكّ في المتقدم والمتأخر منهما ولنفرض کون كليهما مجهولي التاريخ، فنقول ان هذه الحلية ان كانت قبل غزوة خيبر فهي تلك الحلية المغياة، وقد ارتفعت، وان كانت بعدها فهي حلّية جديدة ولا تزال باقية.

وثانيا: ان نفس البيان الذي ذكره في فرض جعل الحلية على كل فعل مقيد بعدم صدور نهي فيه من استظهار أن القيد هو صدور النهي، وهو محرز في مورد توارد الحالتين، يأتي في فرض جعل الحلية على كل فعل الى أن يصدر فيه نهي، ايضا، حيث يستظهر ان الغاية صدور النهي وقد حصلت الغاية، فان الاختلاف في كون عدم صدور النهي قيدا في الموضوع او غاية للحلية لا يوجب الاختلاف في هذا الاستظهار.

هذا وأما ما اجاب في البحوث عنه من أن الاباحة المغياة بعدم صدور النهي اباحة ظاهرية، فيمكن اجتماعها مع اباحة أخرى واقعية، فلا يتلائم مع ما هو الظاهر من صاحب الكفاية من أن الاباحة المغياة بعدم صدور النهي تكون اباحة واقعية.

ثم لا يخفى أن ما ذكره صاحب الكفاية أنه حيث ثبت موضوع الاطلاق والاباحة في مورد الشك في صدور خطاب النهي بالاصل وهو استصحاب عدمه فلا يمكن التعدي منه الى مورد توارد الحالتين، فيختلف عما لو ثبتت البراءة في المورد الاول بالأمارة، غير متجه، فان الصحيح أنه لا ملازمة بين التعبد الظاهري بثبوت الإباحة في مورد الشك في صدور النهي بالتعبد بموضوعها وهو عدم صدور النهي، وبين التعبد الظاهري بثبوتها في مورد توارد الحالتين مما لا تعبد فيه بعدم صدور النهي حيث لم يتم اركان الاستصحاب المنقّح لموضوع البراءة فيه، من غير فرق بين أن يكون التعبد بعدم صدور النهي في المورد الاول بالاصل او الأمارة، فانه لا وجه لتوهم ثبوت هذه الملازمة بين الموردين ابدا بعد احراز موضوع البراءة في الاول دون الثاني، والحاصل أن ما يثبته الأمارة دون الاصل انما هو لوازم الواقع الذي ثبت بالدليل او الاصل، وفي المقام الواقع هو الاباحة الشرعية في فعل لم يصدر فيه نهي، وليس لازم الاباحة في فعل يشك في صدور النهي فيه هو الاباحة في فعل توارد فيه الحالتان، لامكان عدم صدور النهي في الاول وصدور النهي في الثاني، بحيث لو فرض قيام الامارة على عدم صدور النهي في الاول لم يثبت عدم صدوره في الثاني.

والا فلو تمت الملازمة بين التعبد الظاهري بالبراءة في ما يشك في صدور النهي فيه والتعبد الظاهري بها في متوارد الحالتين كان دليل حجية الاستصحاب الذي هو من الأمارات وهو قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة “لا تنقض اليقين بالشك” دالّا بالمطابقة على التعبد الاول وبالالتزام على الثاني وهذا من مثبتات الامارة، وبذلك اتضح الفرق بين المقام وبين ما مرّ من التمسك بعدم الفصل -اي الملازمة- لاثبات البراءة في الشبهة الوجوبية بحديث الحلّ مع كونه واردا في الشبهة التحريمية([27]).

المختار: عدم دلالة حديث الاطلاق على البراءة، لعدم ظهور لفظ الورود في الوصول

وكيف كان فبجميع ما ذكرناه حول حديث الاطلاق تبين عدم دلالته على البراءة، لعدم ظهور لفظ الورود في الوصول، ولو فرض تمامية دلالته فظاهر التعبير بورود النهي أي خطاب النهي هو فرض الشبهة الحكمية، كما أن ظاهره ورود النهي عن ذات الشيء فلا يرتفع موضوعه بدليل وجوب الاحتياط.

تمامیة دلالة رواية الامالي علی البرائة

وأما رواية الامالي وهي قوله “الاشياء مطلقة ما لم يرد عليك امر او نهي”، فالظاهر تمامية دلالتها على البراءة، خاصة وأنه ورد في ذيلها ما هو صريح في الاباحة الظاهرية، وهو قوله “وكل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه ابدا فتدعه” وظاهر الصدر هو خصوص الشبهة الحكمية، وظاهر الذيل الشبهة الموضوعية، مضافا الى امكان أن يقال بأنها حيث لا تكون بلسان “ما لم يرد عليك فيه امر او نهي” فتشمل الغاية كل امر او نهي وارد بشأن ذلك الشيء، ولو بلسان الامر بالاحتياط في بعض الموارد بالنسبة الى ذلك الشيء اذا شك في حرمته الواقعية، فلا تتعارض مع دليل الاحتياط في الجملة.

 

 



[1] – كفاية الأصول ؛ ص342

[2] – المعتبر ج‌2، ص: 478

[3] – تذكرة الفقهاء ج‌4، ص: 407 منتهى المطلب ج‌6، ص: 368نهاية الإحكام ج‌2، ص: 184

[4] – ذكرى الشيعة ج‌3، ص: 181

[5] – عوالي اللئالي العزيزية؛ ج‌1، ص: 424

[6] – وسائل الشيعة ج‌3 ص 493

[7] – الأضواء والآراء ح 2ص385

[8] – بحوث في علم الاصول ج5ص63 ، مباحث الاصول ج3ص262

[9] – الاضواء والآراء ج2 ص385

[10] – مصباح الاصول ج2ص278

[11] – النحو الوافي ج1 ص372

[12] – من لا يحضره الفقيه ج‌1 ص 317

[13] – تهذيب الاصول ج2ص343، بحوث في علم الاصول ج5ص37

[14] – وسائل الشيعة ج6ص389

[15] – الأمالي ص666

[16] – الفهرست ص 59

[17] – رجال النجاشي ص: 55

[18] – كفاية الأصول ص342

[19] – نهاية الدراية ج4ص81

[20] – لسان العرب ج‌3 ص 457

[21] – مباحث الاصول ج3 ص131

[22] – امالی الشیخ الطوسی ص 669

[23] – مصباح الاصول ج2 ص281

[24] – نهاية الدراية ج 4ص 74

[25] – نهایة الدراية ج 4ص78

[26] – نهاية الدراية ج5 ص83

[27] – كفاية الأصول ص342