فهرست مطالب

فهرست مطالب


تقریرات دروس خارج مدرسه فقهی امام محمد باقر علیه السلام

بسمه تعالی

البحث فی دلالة حديث الرفع. 2

فقه الحديث.. 2

الجهة الاولى: التعبير بالرفع ظاهر في اعدام الشيء الموجود 2

الوجه الاول: 3

الوجه الثاني: 3

الوجه الثالث: 4

الجهة الثانية: ان المحتملات في المرفوع الحقيقي في حديث الرفع خمسة. 4

الاحتمال الاول: تقدير المؤاخذة. 4

الاحتمال الثاني: تقدير الأثر. 4

الاحتمال الثالث: ارادة الرفع الادعائي للعناوين التسعة عن عالم التكوين، بغرض نفي آثارها 6

الاحتمال الرابع: ارادة الرفع الحقيقي للعناوين التسعة عن عالم التشريع. 7

الاحتمال الخامس: ما هو المختار من ارادة الرفع عن وعاء ذمة المكلف7

الجهة الثالثة: المرفوع في حديث الرفع. 9

الجواب الاول: 10

الجواب الثاني: 11

الجواب الثالث: 12

الجهة الرابعة: الحديث هل يشمل الاحكام الضمنية ام يختص بالاحكام الاستقلالية؟. 12

کلام السيد الامام “قده”.. 13

مناقشه. 14

ان حديث الرفع لا يرفع احكاما من قبيل وجوب القضاء 16

الجهة الخامسة: عدة نقوض على القول بدلالة حديث الرفع على ارتفاع جميع آثار التسعة. 18

الجواب عن النقض الاول. 19

الجواب الاول: 19

الجواب الثاني: 21

الجواب عن النقض الثاني.. 21

الجواب عن النقض الثالث23

الجواب عن النقض الرابع. 24

الجهة السادسة: ظاهر الحدیث ،وجود المقتضي للاحكام المرفوعة. 28

ثمرة هذه الجهة. 29

کلام السيد الخوئي “قده”.. 31

مناقشه. 31

الجهة السابعة: البحث عن الاختصاص البراءة الشرعية بموارد الشكّ في التكاليف الإلزامية. 33

کلام السید الخویی ره 34

الجهة الثامنة: فقرة “رفع ما استكرهوا عليه” لا تجري في التكاليف36

 

 

 

البحث فی دلالة حديث الرفع

فقه الحديث

يقع الكلام في فقه حديث الرفع ضمن جهات:

الجهة الاولى: التعبير بالرفع ظاهر في اعدام الشيء الموجود

الجهة الاولى: ان التعبير بالرفع ظاهر في اعدام الشيء الموجود، وأما المنع عن تاثير مقتضي الوجود فيسمى دفعا، وحينئذ فقد يقال: ان التعبير بالرفع في الحديث يعني ثبوت هذه الاحكام في زمانٍ سابق، مع عدم ثبوتها في أي زمان، لا في هذه الأمة ولا في الامم السابقة، فهل يعقل التكليف بما لا يطاق او العقاب على الخطأ او النسيان ونحو ذلك.

واجاب عنه المحقق النائيني “قده” على ما حكي عنه بأنه لا فرق بين الرفع والدفع، على ما هو مقتضى التحقيق من احتياج الممكن الى العلة حدوثا وبقاء، وعليه فالرفع أيضاً يزاحم المقتضي في تأثيره في الايجاد في الآنات المتجددة، وهذا هو الدفع.

وفيه ان ادخال الابحاث الفلسفية في الاستظهارات العرفية غير صحيح، فان كون الممكن بحاجة الى العلة حدوثا وبقاءا، لا يستلزم اتحاد مفهوم الرفع والدفع لغة، لإمكان أن يكون الرفع موضوعاً لخصوص المنع عن تأثير المقتضى بقاء، بعد فرض تاثيره في حدوث الشيء، وغاية ما ذكره كون الدفع صادقا على الرفع، لكنه لابد أن يثبت صدق الرفع على الدفع .

وكيف كان فالصحيح ان يجاب عنه بأحد وجوه:

الوجه الاول:

ان يقال ان إطلاق الرفع في هذا الحديث باعتبار ثبوت كل من هذه الفقرات -و لو في الجملة- في الامم السابقة، والقرينة عليه التعبير بانه رفع عن امتي او وضع عن هذه الامة، ولا يظهر من هذا التعبير الوضع على هذه الأمة سابقا، لكفاية لحاظ الأمم كمجموعة واحدة مستمرة، كما يقول الأب لولده الثاني، رفعت عنك وجوب شراء الخبز، وذلك بلحاظ أنه كان يوجب على ولده الاول ذلك سابقا، فقد كان يجب على الامم السابقة او بعضهم الاحتياط في جملة من الشبهات مع عدم وجوبه علينا، وقد كان يجب عليهم ما لا يطيقونه طاقة عرفية، ولو من باب العقوبة عليهم، فقد قال تعالى “و لا تحمل علينا اصرا كما حملته على الذين من قبلنا”، كما قد كانوا يعاقبون على ترك التحفظ من النسيان والخطأ ونحوهما، فان التحفظ منهما كثيرا ما يكون باختيار المكلف، ولكن الشارع لم‌ يوجب علينا التحفظ من ذلك وهكذا، والشاهد على عدم قبح العقاب على ذلك قوله تعالى “ربنا لاتؤاخذنا ان نسينا ا أخطأنا” فانه لو كان ذلك قبيحا لكان الدعاء به مستهجنا، وكان مثل أن يقال “ربنا لا تظلمنا”.

ولا يخفى أنه من الناحية الفقهية اذا علم المكلف بأنه لو لم يتحفظ يطرأ عليه النسيان، فيجب عليه التحفظ ان كان بعد فعلية الوجوب، بالاتفاق، وبل وقبلها على المختار من لزوم تحصيل المقدمات المفوِّتة قبل فعلية التكليف، وينصرف رفع النسيان عنه، كما ينصرف رفع ما اضطروا اليه عن الاضطرار بسوء الاختيار، وأما اذا شك في طروّ النسيان، فالظاهر التفصيل بين الواجب والحرام، ففي الواجب نلتزم بوجوب التحفظ بعد فعلية الوجوب، كما لو علم المكلف بأن عليه مقدار معين من صلاة القضاء، واحتمل أنه لو لم يكتبه في مكان فينسى ويقضي أقل من ذلك، فان مقتضى قاعدة الاشتغال واستصحاب عدم الامتثال في المستقبل لزوم التحفظ، واستصحاب عدم النسيان لا يصلح لاثبات لازمه العقلي وهو تحقق الامتثال، وأما في الحرام، فيجري استصحاب عدم تحقق الحرام في المستقبل، فلا تقتضي قاعدة الاشتغال لزوم التحفظ فيه.

الوجه الثاني:

أن يقال بأن صدق الرفع لأجل ثبوت المقتضي القريب للوضع، ولو في الجملة، فيكون نظير ما إذا تحقق المقتضي لاعدام شخصٍ، ثم عفي عنه أو حدث مانع آخر عن قتله، فيصح ان يقال عرفاً أنه ارتفع عنه القتل.

الوجه الثالث:

أن يقال بأنه باعتبار الوضع الاثباتي أي اطلاق خطابات التكاليف ولو في الجملة.

والظاهر تمامية هذه الوجوه، ويمكن أن يكون اطلاق الرفع في مجموع الفقرات بلحاظ الملفق من هذه الوجوه، فمثلاً: الوجه الاول يكون منشأ صدق رفع ما لا يطيقون، والوجه الثاني منشأ صدق رفع ما لا يعلمون، والوجه الثالث، منشأ صدق رفع ما اضطروا اليه او استكرهوا عليه او بقية الفقرات.

الجهة الثانية: ان المحتملات في المرفوع الحقيقي في حديث الرفع خمسة

الجهة الثانية: ان المحتملات في المرفوع الحقيقي في حديث الرفع خمسة:

الاحتمال الاول: تقدير المؤاخذة

تقدير المؤاخذة، ولكن اورد عليه بأنه لا يتلائم مع فقرة “ما لا يعلمون” فانه لا يؤاخذ أحد على التكليف وانما على مخالفته، بينما أنه في سائر الفقرات يمكن المؤاخذة على الفعل المضطر اليه ونحوه، وفيه أن لا حاجة الى تقدير المؤاخذة عليه، بل يمكن ارادة المؤاخذة به، أي التبعة على المكلف بسببه، الا أن المهمّ في الاشكال كون التقدير خلاف الاصل أي خلاف الظاهر، كما سيأتي توضيحه.

الاحتمال الثاني: تقدير الأثر

تقدير الأثر، كما عن الشيخ الأعظم “قده” فإما أن يراد منه جميع الآثار او يختصّ بالاثر المناسب، فان الاثر المناسب للتكليف المجهول هو وجوب الاحتياط لأجل التحفظ عليه، والعقاب على مخالفته، واشكاله ما مرّ من كون التقدير خلاف الاصل، أي خلاف الظاهر، فلايصار اليه الا مع قرينة مفقودة في المقام.

ان قلت: حيث ان الظاهر الاولي من رفع شيء هو رفعه الحقيقي عن موطنه، وهذا غير محتمل في فقرة ما لا يعلمون، ولا في سائر فقرات حديث الرفع، أما في ما لا يعلمون فلكون رفعه الحقيقي مستلزما لاختصاص الاحكام الواقعية بالعالمين، وأما في سائر الفقرات مثل “ما اضطروا اليه” فلوجوده في موطنه وهو عالم التكوين، فتكون أصالة عدم التقدير متعارضة مع أصالة الحقيقة في معنى الرفع وأصالة ظهور أخذ العناوين المذكورة في الفقرات في كونها ملحوظة بما هي فانية في وجوداتها في وعاء التكوين.

قلت: ان الوجدان العرفي شاهد على كون التقدير بحاجة الى مؤنة اكثر، بعد كون القرينة على عدم ارادة الرفع الحقيقي او كون ظرف الرفع هو وعاء التشريع او ذمة المكلف موجودة، وهي في فقرة ما لايعلمون ما مرّ منّا من أن ظاهر التعبير بما لا يعلمون، هو وجود الحكم واقعا، لكنه لا يعلم به المكلف، فيكون رفعه عن الامة ظاهرا في رفعه الظاهري أي عدم ايجاب الاحتياط، والقرينة في سائر الفقرات هي صدور هذا الخطاب من الشارع بما هو شارع مع وضوح وجود الفعل المضطر اليه ونحوه بين الأمة تكوينا، فانعقد ظهوره في الرفع غير الحقيقي.

هذا وقد اجاب في البحوث عن هذا الاشكال بجواب آخر، وهو أننّا حيث نعلم بأن المراد الجدي هو نفي الحكم عن هذه العناوين، لا نفيها تكوينا، وانما نشكّ في المراد الاستعمالي لألفاظها، وأنه هل كان بنحو المجاز في التقدير، او المجاز في الكلمة بأن لا يراد من الرفع الرفع الحقيقي، بل يراد منه الرفع الادعائي، او يراد منه الرفع عن عالم التشريع، فلا تجري أصالة الظهور في العناوين التسعة لاثبات كون المراد الاستعمالي من الرفع فيها الرفع الحقيقي، لما تقرر في محله من أن أصالة الظهور انما تجري لتشخيص المراد الجدي، وأما إذا كان المراد الجدي معلوما، وكان الشك في المراد الاستعمالي فلا تجري أصالة الظهور، ولهذا لا تجري أصالة عدم التخصيص لإثبات التخصص.

لكن توجد ميزة لأصالة عدم التقدير ولاجل ذلك تجري بلا معارض، وهي أنها تفيدنا في مجال كشف أن المرفوع في الارادة الجدية تمام الآثار، فانه بناء على التقدير لا يمكن إثبات ذلك، لان حذف المتعلق لا يفيد العموم بنظرنا([1]).

وقد اورد عليه بعض الاعلام بأن اثر أصالة ظهور الرفع في الرفع الحقيقي هو اثبات المجاز في التقدير، وحينئذ فلا يمكن اثبات أن المرفوع جميع الآثار، وبذلك تتحقق المعارضة بينها وبين أصالة عدم التقدير التي تكون بصدد اثبات أن المرفوع جميع الآثار([2]).

وفيه أن معنى كلامه أنه لو ورد في خطابٍ “أكرم كل عالم” وعلمنا بعدم وجوب اكرام زيد، ولم نعلم أنه جاهل فيكون خروجه بالتخصص او عالم فيكون خروجه بالتخصيص، فالى هنا يكون الصحيح عدم جريان اصالة عدم التخصيص في العام لاثبات كون خروج زيد عنه بالتخصص، ولكن لو ورد في خطابٍ آخر “أكرم كل هاشمي” وعلمنا اجمالا بتخصيص زيد من العام الاول او تخصيص عمرو الهاشمي من العام الثاني، فتجري أصالة عدم تخصيص العام االاول، لاثبات تخصيص العام الثاني بالنسبة الى عمرو الهاشمي، فيتعارض مع أصالة عدم تخصيص العام الثاني، فان هذا الكلام يعد غريبا، فانه بعد عدم بناء العقلاء على اجراء أصالة عدم التخصيص في “أكرم كل عالم” لاثبات خروج زيد بالتخصص، وبناءهم على اجراء أصالة عدم التخصيص في “اكرم كل هاشمي” لاثبات وجوب اكرام عمرو الهاشمي، فلا مجال للمعارضة بينهما، والمقام من هذا القبيل.

نعم يرد على ما ذكره في البحوث أن ما ذكره انما يأتي في فرض كون القرينة على ارادة خلاف الظهور اجمالا منفصلة، لكن المفروض في المقام أن القرينة متصلة فيمنع من انعقاد الظهورات المذكورة أي الظهور في عدم التقدير والظهور في ارادة الرفع الحقيقي للشيء عن موطنه.

الاحتمال الثالث: ارادة الرفع الادعائي للعناوين التسعة عن عالم التكوين، بغرض نفي آثارها

الاحتمال الثالث: ارادة الرفع الادعائي للعناوين التسعة عن عالم التكوين، بغرض نفي آثارها، وهذا ما يظهر من اغلب كلمات المحقق النائيني “قده” حيث ذكر أن رفع ما اضطروا اليه وما استكرهوا عليه لايشمل الاضطرار او الاكراه على ترك واجب، كما لو حلف على اكرام فقير، ثم ترك اكرامه اضطرارا، فان الحديث لا يرفع وجوب الكفارة عنه، لأن مفاد حديث الرفع رفع الموجود ادعاءا، ولا معني لرفع المعدوم، اذ مآله الى وضع الوجود، فمرجعه الى الوضع، لا الرفع، وارتكازية التقابل بين الوضع والرفع تقتضي عدم شمول الرفع للمعدوم([3]).

كما اختار السيد الامام “قده” هذا الوجه في معنى الحديث، ولكن يرد عليه اولاً: أن هذا المعنى لا يتلائم مع قوله “و ما لا يطيقون” فانه لا اثر لنفيه الادعائي، بعد أن كان منتفيا حقيقة، اذ ليس لسان نفي وجود شيء ادعاءا، لسانا مناسبا لنفي وجوبه، وانما اللسان المتناسب له نفي وجود موضوعه ادعاءا.

وثانيا: ان المتناسب للنفي الادعائي أن يقال مثلا على نحو النفي البسيط بنحو مفاد ليس التامة “لا كذب مع الاضطرار” او يقال على نحو النفي التركيبي بنحو مفاد ليس الناقصة “ما قلتَه في حال الاضطرار فليس بكذب”، وأما قوله “رفع ما اضطروا اليه” فلم يعيَّن فيه أن العالم الذي يرفع الفعل الصادر عن اضطرارٍ بلحاظه، هو عالم التكوين، حتى يكون رفعه عنه ادعائيا، فلعله عالم التشريع، او عالم التبعة والمسؤولية، فيكون رفعه عنهما حقيقيا.

الاحتمال الرابع: ارادة الرفع الحقيقي للعناوين التسعة عن عالم التشريع

الاحتمال الرابع: ارادة الرفع الحقيقي للعناوين التسعة عن عالم التشريع، أي عدم كونها موضوعا للاحكام الالزامية، وهذا ما اختاره السيد الخوئي “قده”([4])، وهذا المعني وان كان يتلائم مع جميع الفقرات، فيقال ان الحكم المجهول مرفوع عن عالم التشريع رفعا ظاهريا، بلحاظ عدم ايجاب الاحتياط بالنسبة اليه، والفعل المضطر اليه مرفوع عن عالم التشريع، بلحاظ عدم كونه موضوعا للأحكام الالزامية، والفعل الذي لايطيقونه مرفوع عن عالم التشريع بلحاظ عدم تعلق الوجوب به وهكذا، الا أن هناك قرينة في الحديث على كون وعاء الرفع هو وعاء الذمة والمسؤولية، حيث ورد في الحديث “رفع عن امتي”.

الاحتمال الخامس: ما هو المختار من ارادة الرفع عن وعاء ذمة المكلف

الاحتمال الخامس: ما هو المختار من ارادة الرفع عن وعاء ذمة المكلف، بمعنى رفع تبعة المذكورات عن رقبة المكلف، فليست ذمتهم مشغولة بها، على وزان قول امير المؤمنين (عليه السلام) “ذمتي بما اقول رهينة” أي مشغولة بما اقول، فما اقول في عنقي، والدليل على ما ذكرنا أن ظاهر قوله “رفع عن امتي ما اضطروا اليه” أنه لولا هذا الحديث لكان ما اضطروا اليه موضوعا على الأمة، ومن الواضح أن الحرام -الذي هو المتيقن من شمول رفع ما اضطروا اليه- لا يوضع على الامة، وانما غايته الزجر عنه، واعتبار حرمان المكلف عنه، فيكون ذلك قرينة على أن المراد رفعه عن عالم ذمة المكلف وتبعته ومسؤوليته، ويشهد على ما ذكرناه ما عبّر في رواية ربعي من أنه عفي عن أمتي الخطأ والنسيان والاستكراه، كما يشهد على ذلك الاستشهاد في رواية عمرو بن مروان على رفع الخطاء والنسيان بقوله تعالى “ربنا لا تؤاخذنا إن نَسِينا أَوْ أَخْطَأنا.

وقد حكى في مباحث الاصول عن السيد الصدر “قده” أنه قال: ان مرادنا من الرفع عن عالم التشريع ليس عالم جعل الاحكام فقط، بل يشمل عالم الادانة والمسؤولية، والدليل على ذلك أن العرف يفهم شمول قوله “رفع ما اضطروا اليه” لفرض الاضطرار الى ترك واجب، ولا يفرق في مقام فهمه للحديث بين ترك الواجب وفعل الحرام، مع أن ترك الواجب ليس موضوعا لحكم شرعي حتى يرفع في حال الاضطرار عن كونه موضوعا لهذا الحكم، فان الامر بالشيء لا يقتضي النهي عن ضده([5]).

والظاهر عدم الحاجة الى الاستشهاد بالاضطرار الى ترك الواجب، فانه يبتني على انكار اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن تركه، وقد اختار هو ثبوت روح النهي، وهو المبغوضية فيه، بشهادة الوجدان بأن من أحبّ شيئا ابغض عدمه، بل لا يجدي هذا الاستشهاد، فانه لو ورد “رفع ما اضطروا اليه” واحتمل كون الرفع بلحاظ عالم التشريع كان ذلك صالحا للقرينية لعدم شمول الخطاب بمدلوله المطابقي للاضطرار الى ترك الواجب.

ثم انه يوجد فرق بين ما ذكرناه وبين ما ذكر في مباحث الاصول، حيث انا ذكرنا اختصاص الرفع بالرفع في عالم المسؤولية والادانة فقط، فلا يستفاد من الحديث أكثر من نفي تبعة ارتكاب الحرام مثلا عن اضطرار او عن نسيان على المكلف، فلا تكون ذمته رهينة به، فلا يؤاخذ عليه مؤاخذة دنيوية او أخروية، ولا يستفاد منه بالمطابقة نفي حرمته، او بقية الآثار، بينما أنه ذكر أن المراد ليس هو رفع المذكورات في عالم تشريع الاحكام فقط، فهو ينكر اختصاص الرفع به فقط ولاينكر شموله له، وحينئذ فلا يرى وجه لالتزامه بثبوت التكليف في حق الناسي، الا أن يقول ان الوارد في الحديث عنوان رفع النسيان لاعنوان رفع الفعل الصادر عن نسيان، او عنوان رفع ما نسوا، ورفع حكم النسيان لا ينافي بقاء حكم المنسي او الفعل الصادر عن نسيان، ولكن الانصاف أن الظاهر من رفع النسيان هو رفع ما نسوا كما ان ظاهر رفع الخطاء هو رفع ما أخطأوا، كما ورد في بعض الروايات.

هذا وقد يقال بأن الثمرة العملية بين القول الثالث والرابع والخامس تظهر في أنه بناء على القول الثالث من كون مفاد الحديث الرفع الادعائي فلا يشمل الحديث فرض الاضطرار الى ترك الواجب او الاكراه عليه، حيث ان المعدوم لايقبل الرفع الادعائي، ونتيجته أنه لا ينفى به الاثر الالزامي المترتب على ترك الواجب كالكفارة، وهذا ما ذكره المحقق النائيني “قده” بينما أنه على القول الرابع من كون مفاد الحديث الرفع عن عالم التشريع يدلّ الحديث على عدم كون ترك الواجب في حال الاضطرار او الاكراه موضوعا للحكم الالزامي، كما أنه على القول الخامس من كون مفاد الحديث الرفع عن عالم الادانة والمسؤولية فلا يكون ترك الواجب في هذا الحال مستتبعا لأية مؤاخذة وكفارة.

هذا والصحيح أنه على القول الثالث ايضا حيث ان الرفع في الحديث قد تعلق بعنوان “ما اضطروا اليه” وهذا العنوان وجودي في عالم التصور، وان انطبق خارجا على ترك الواجب احيانا، فلا مانع من ادعاء رفع ما اضطروا اليه، فيكون ترك الواجب في قوة عدم الترك، فينفى عنه آثار ترك الواجب ككفارة حنث النذر، ولكن لايثبت به آثار الوجود، فلو فرض ترتب اثر على الوفاء فلا يحكم بترتبه في هذا المثال، فلم تظهر الثمرة بين هذه الاقوال بالنسبة الى نفي آثار ترك الواجب.

نعم قد تظهر الثمرة بينها في أنه بناء على القول الثالث تترتب على الفعل المضطر اليه او المكره عليه الآثار الشرعية المترتبة على عدم ذلك الفعل، فمثلاً لو فرض أن موضوع جواز الائتمام هو العادل الذي لم‌يرتكب الزنا طول حياته، فلو اكره على الزنا فهل ينفى بحديث الرفع آثار الزنا فقط كالحرمة والحد، أم يترتب عليه آثار ترك الزنا ايضا كجواز الائتمام، فعلى القول الثالث وهو الرفع الادعائي تترتب عليه هذه الآثار ايضا، حيث نزِّل وجود الفعل المستكره عليه مثلا منزلة العدم، ولو طبِّق ذلك على الاضطرار او الاكراه على ترك الواجب لزم منه نتيجة غريبة وهو ثبوت آثار فعل الواجب، هذا بينما أنه على بقية الاقوال كالقول الرابع والخامس مثلاً لايثبت بحديث الرفع ترتب آثار نقيض ما اضطر اليه او استكره عليه، فان رفع هذا الزنا عن كونه موضوعا للآثار في عالم تشريع الاحكام او عالم المسؤولية فلا يعني ذلك الا نفي اثر الزنا، لا ثبوت اثر تركه.

وكيف كان فتحصل أن الصحيح في معنى حديث الرفع هو القول الخامس.

الجهة الثالثة: المرفوع في حديث الرفع

الجهة الثالثة: قد يقال ان نتيجة القول المختار من كون المرفوع في حديث الرفع يكون بلحاظ عالم المسؤولية والادانة، ليست الا نفي المؤاخذة الأخروية او الدنيوية من كفارة او حد او تعزير، وهذا ينافي استشهاد الامام (عليه السلام) بفقرة “رفع عن امتي ما استكرهوا عليه” لاثبات بطلان العقد او الايقاع الصادرين عن اكراه، فقد ورد في صحيحة صفوان بن يحيى وأحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي الحسن (عليه السلام) في الرجل يستكره على اليمين فيحلف بالطلاق والعتاق وصدقة ما يملك أ يلزمه ذلك فقال لا، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) وضع عن أمتي ما أكرهوا عليه‌ وما لم‌ يطيقوا وما أخطأوا([6]).

فهذه الصحيحة توافق قول من يقول بكون مفاد حديث الرفع رفع جميع الآثار الالزامية، إما بكون المقدر جميع الآثار، او بكون المراد من الرفع الرفع الادعائي للمذكورات واعتبارها كالمعدوم، او رفعها عن عالم التشريع، أي عدم اخذها موضوعا لأي حكم الزامي، ولو فرض عدم ظهور حديث الرفع في نفسه في اكثر من رفع المؤاخذة فهذه الصحيحة تكشف عن كون المراد الواقعي منه رفع جميع الآثار، لا خصوص المؤاخذة.

ويجاب عن هذا الاشكال بعدة اجوبة:

الجواب الاول:

ما نقل عن المحقق الحائري “قده” من أنه يحتمل أن يكون المراد من قوله “أ يلزمه ذلك” السؤال عن أنه هل يلزمه اثم من ارتكابه لهذا الحلف بالطلاق ونحوه، فان المستفاد من بعض الروايات حرمته النفسية، ففي معتبرة إسماعيل بن سعد الأشعري عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) في حديث قال: سألته عن رجل أحلفه السلطان بالطلاق أو غير ذلك فحلف قال لا جناح عليه.

وفي معتبرة أبي بكر الحضرمي قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) رجل حلف للسلطان بالطلاق والعتاق، فقال إذا خشي سيفه وسطوته فليس عليه شي‌ء يا أبا بكر إن الله عز وجل يعفو والناس لا يعفون.

وفي صحيحة بن أبي عمير عن أبي أيوب عن معاذ بياع الأكسية قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إنا نستحلف بالطلاق والعتاق فما ترى أحلف لهم، فقال احلف لهم بما أرادوا إذا خفت.

وفي صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قلت له إنا نمرّ على هؤلاء القوم فيستحلفونا على أموالنا وقد أدينا زكاتها فقال يا زرارة إذا خفت فاحلف لهم ما شاءوا قلت جعلت فداك بالطلاق والعتاق قال بما شاءوا([7]).

فان تقييد الجواز بفرض الخوف يدل على حرمته تكليفا في حال الاختيار، وأما حرمته الوضعية فهي ثابتة مطلقا.

ولكن هذا الجواب غير متجه، فان احتمال كون الصحيحة بصدد رفع الحرمة التكليفية في حال الاكراه غير عرفي، بعد أن كانت العامة ترى نفوذ الحلف بالطلاق ونحوه، وكانت هذه المسألة مطروحة في ذلك الزمان، كما يشهد لذلك اسئلة الرواة، بل نفس التعبير بأنه هل يلزمه ذلك، ظاهر في السؤال عن ترتب اثر وضعي على هذا الحلف.

الجواب الثاني:

انه بعد ضرورة بطلان الحلف بالطلاق ونحوه حتى في فرض صدوره عن اختيار، فلا يكون هذا المورد من موارد تطبيق حديث “رفع ما استكرهوا عليه”، لأن مفاده رفع الاثر الثابت للفعل لولا الاكراه، والا فلو كان الفعل فاقدا للاثر في نفسه فتعليل عدم ترتب الاثر عليه بكونه مكرها عليه، وقد رفع ما استكرهوا عليه يكون بلا وجه، نظير تعليل من لايسافر للتجارة لعدم مال له بأني لم ‌اسافر للتجارة، لأن الطريق غير مأمون، وعليه فلابد من حمل استشهاد الامام (عليه السلام) في هذه الصحيحة بقول رسول الله (صلى الله عليه وآله) على التقية، فلا يمكن الاستدلال باستشهاد الامام على كون المراد من حديث الرفع رفع جميع الآثار.

واورد على هذا الجواب بأنه يستفاد من هذا الاستشهاد في الصحيحة امران: احدهما: كبروي وهو كون المراد من حديث الرفع رفع جميع الآثار، ثانيهما: صغروي وهو كون الحلف بالطلاق عن اكراه من صاديق هذه الكبرى، وما علم تفصيلا بعدم كونه مرادا جديا للامام (عليه السلام) هو الظهور الثاني، وأما الظهور الاول فيحتمل كونه ناشئا عن الارادة الجدية، فيكون حجة بلا معارض.

ولكن الظاهر عدم تمامية هذا الايراد، فانه ليس هناك ظهوران مستقلان، فعلم بالتقية في احدهما تفصيلا، وشكّ في الآخر، وانما يوجد في الصحيحة ظهور مطابقي واحد، وهو تطبيق الامام حديث الرفع على المورد، واستفادة الكبرى منها تكون بنحو الدلالة الالتزامية، والدلالة الالتزامية تابعة على المسلك الصحيح للدلالة المطابقية في الحجية.

والصحيح ان نقول في الايراد على هذا الجواب أن تطبيق حديث الرفع على المقام ليس تطبيقا مخالفا للواقع، حتى يكون غير مطابق للمراد الجدي، وانما هو تطبيق تنزلي، نظير ما ورد من استشهاد امير المؤمنين (عليه السلام) على لزوم طاعته ببيعة الناس معه بعد عثمان وأنه يحرم نكث بيعته، مع أنه قد ثبتت امامته بالنصّ، ووجب على الأمة طاعته من غير تأثير للبيعة في ذلك، ولكن لايعني ذلك حملها على الجدل المحض، بل يمكن ان يكون لإمامته ووجوب طاعته سببان: احدهما النصّ، والآخر البيعة، فيوجب اجتماعهما تأكد وجوب طاعته، فسكت الإمام (عليه‌السلام) عن بيان الأول، وتعرض لبيان الثاني لأجل كونه اقرب الى قبول عامة الناس في ذلك الزمان، وأبعد عن الاختلاف، فكذلك الحكم ببطلان الحلف بالطلاق عن اكراه يكون له سببان: احدهما: عدم نفوذه في نفسه، وثانيهما: كونه صادرا عن اكراه، فالاستناد الى السبب الثاني لوجود تقية في الاستناد الى السبب الاول، لا يعني كون هذا الاستناد غير مطابق للواقع، فالتقية في عدم الاستناد الى السبب الاول دون الاستناد الى الثاني.

الجواب الثالث:

ان استشهاد الامام (عليه السلام) في هذه الصحيحة بحديث الرفع لاثبات عدم نفوذ الحلف الصادر عن اكراه، غايته أنه يفهم منه كون المراد من الحديث شاملا لنفي الامر بالوفاء بعقد او ايقاع صادر عن الاكراه، ولعل منشاه نحو توسعة في المؤاخذة بحيث تشمل الزام من التزم بشيء من عقد او ايقاع بوفاءه بما التزم به، فلا يستفاد منه نفي جميع الآثار خاصة بالنسبة الى غير المذكورات في هذه الصحيحة.

ومن ذلك تبين أنه لا يمكن استفادة ارتفاع الحكم الواقعي في مورد النسيان، وانما يستفاد منه ان ما صدر في حال النسيان لايسجَّل على عاتق المكلف، ولا يكون مسؤولا عنه، وأما دعوى لغوية تكليف الناسي فجوابها أن شمول التكليف له حيث يكون باطلاق الجعل، فلا يوجد له مؤونة زائدة توجب لغوية شموله للناسي والغافل، ولو كان انتفاء الأثر موجبا للغوية شمول التكليف لزم عدم شمول التكليف لكل مورد لايترتب عليه الاثر، كما لو قامت الامارة او الاصل على حكم الزامي مخالف للحكم الواقعي، وكذا في بعض دوران الأمر بين المحذورين، كما لو علم اجمالا ان هذا الفعل اما واجب او حرام، وفُرض تساوي الوجوب والحرمة احتمالا ومحتملا، مع فرض وحدة الواقعة، بنحو لا يمكن المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال، وأما اقتضاء خطاب التكليف فليس هو كونه بداعي المحركية الفعلية حتى ينتفي هذا الداعي في مورد الناسي، بل هو كونه بداعي تحريك المكلف نحو الفعل على تقدير وصوله اليه، وهذا الداعي موجود في مورد الناسي، لأنه يتمكن من التحرك نحو الفعل على تقدير وصول التكليف اليه، نعم لايوجد هذا الداعي في حق العاجز، لأنه في فرض العجز لايمكن تحرّك المكلف نحو الفعل، حتى على تقدير وصول التكليف اليه.

وعليه فالتكليف الواقعي ثابت في حق الناسي والغافل والمعتقد بالخلاف خلافا للسيد الخوئي وشيخنا الاستاذ “قدهما”، فمن يرى امتناع اجتماع الامر والنهي فيشكل حكمه بصحة الوضوء بالماء المغصوب في حال نسيان الغصب او الصلاة في المكان المغصوب كذلك.

الجهة الرابعة: الحديث هل يشمل الاحكام الضمنية ام يختص بالاحكام الاستقلالية؟

وقع الكلام في انه بناء على استفادة رفع جميع الأحكام من الحديث هل يشمل ذلك الاحكام الضمنية ام يختص بالاحكام الاستقلالية؟.

توضيح ذلك: أنه قد يترك المكلف جزءا او شرطا او يوجد مانعا في مركب ارتباطي، كالصلاة، خطأ او نسياناً او اضطراراً او اكراهاً، فهل يمكن تصحيح صلاته بحديث الرفع، ام لا؟، فاختار ذلك جماعة من الاعلام، بدعوى أن حديث الرفع يرفع اثر المنسي او المكره على تركه، ونحو ذلك، وهو الجزئية والشرطية والمانعية، وحيث ان حديث الرفع حاكم على الخطابات الاولية، فتكون حاكمة على ادلة الاجزاء والشرائط والموانع، فتقيِّدها بغير هذه الحالات، وبذلك يحكم بصحة العمل، وانما قال صاحب الكفاية بذلك في فرض النسيان والخطاء والاكراه والاضطرار، دون عجز المكلف عن اتيان جزء من المركب، حيث ان رفع جزئيته بقوله “ما لا يطيقون” خلاف الامتنان، فان معناه ثبوت التكليف بالباقي([8])، وكان ينبغي له أن يخصّ كلامه بالعجز العقلي، فان العجز العرفي كالاضطرار العرفي، حيث انه لو لم يجر دليل رفع ما لا يطيقون –والذي ذكرنا أن مورده العجز العرفي والا ففي العجز العقلي لا معنى للامتنان برفع التكليف- لكان يجب الاتيان بتمام المركب، فيكون جريانه موافقا للامتنان.

کلام السيد الامام “قده”

وقد ذكر السيد الامام “قده” أنه لامانع من التمسك بقوله “رفع عن امتي ما اضطروا اليه” لرفع مانعية المانع الذي صدر منه عن اضطرارٍ، كزيادة السجدة عند قراءة آية السجدة الواجبة، او التكتف او قول آمين ونحوها، وأما ترك الجزء او الشرط عن اضطرارٍ، فقد ذكر ابتداءا أن الحديث لا يشمل ذلك، لانه ليس لترك الجزء او الشرط اثر شرعي، وانما اثر تركهما بطلان الصلاة عقلا، ثم اجاب عنه بأنه بعد ظهور الحديث في رفع ما اضطروا اليه ادعاء فاذا رأى الشارع أن ترك الجزء او الشرط عن اضطرار لا اثر له في التشريع، وأن الحكم معه الصحة وعدم الاعادة والقضاء، صحّ منه دعوى رفع ما اضطروا اليه، حيث يرى عدم الاثر له مطلقا، على ان رفع الاثر العقلي برفع منشأه ممكن، فلا وجه لرفع اليد عن اطلاق الحديث، مع ان الرفع قد تعلق فيه بعنوان ما اضطرّ اليه وهو من العناوين الوجودية([9]).

مناقشه

و فيه اولا: انه على القول المختار في حديث الرفع من رفع الفعل الصادر عن اضطرار ونحوه عن عالم مسؤولية المكلف، فلا يستفاد منه أكثر من عدم مؤاخذته على ذلك الفعل، فلا يدل على الاجتزاء به في مقام الامتثال وسقوط الاعادة والقضاء به.

وثانيا: ان ظاهر التعبير بـ “رفع عن امتي” في حديث الرفع هو رفع الأمر الثقيل عن ذمة الأمة، والجزئية والشرطية والمانعية ليس فيها أي ثقل على المكلف، فان الشرطية المطلقة للطهارة من الحدث بالنسبة الى الصلاة مثلا لا تنتزع من الامر الفعلي بالصلاة مع الطهارة، وانما تنتزع من قضية شرطية، وهي أنه كلما تعلق الامر بالصلاة فيتعلق بالصلاة مع الطهارة،

فمعنى شرطيتها المطلقة لحال العجز سقوط الامر الفعلي بالصلاة بالنسبة الى فاقد الطهورين، فترى أن ما يوجب الثقل ليس هو الشرطية، وانما هو الامر الفعلي، فاطلاق شرطية الطهارة للصلاة في حال العجز ليس فيه أي ثقل عليه، بل نتيجته هو سقوط التكليف بالصلاة في حقه، بخلاف ما لو فرض عدم شرطيته في هذا الحال؛ وبناء على ذلك فلابد ان يكون المرفوع هو التكليف بالمركب التام في حال نسيان جزء او شرط او الاضطرار الى تركهما ونحو ذلك، وعليه فالاضطرار الى ترك الجزء او الشرط او ايجاد المانع ان كان مستمرا الى آخر الوقت بحيث ادّى الى ترك الواجب، فيوجب ذلك ارتفاع التكليف بالمركب التام، ولكن لا يقتصي تعلق الامر بالمركب الناقص الفاقد لذلك الجزء او الشرط المضطر الى تركهما، الا اذا دل دليل من الخارج على ذلك كقاعدة الميسور على فرض تماميتها او ما استفيد من الروايات في خصوص الصلاة من أنها لا تترك بحال،

ولتوضيح ذلك نقول: ان متعلق التكليف بالصلاة مثلا هو صرف وجود الصلاة، والصلاة التي يأتي بها المكلف في اول الوقت ليست متعلقة للامر، فلو اضطر الى ترك قراءة الفاتحة في هذه الصلاة فهو ليس مضطرا الى ترك الجزء، فان الواجب الاستقلالي لما كان هو صرف وجود المركب وهو الصلاة، فالواجب الضمني ايضا والذي يكون جزءا للواجب الاستقلالي هو صرف وجود الفاتحة المقترن بسائر الاجزاء والشرائط، فهو ليس مضطرا الى ترك ما ثبت له الجزئية، حتى يقال بأن مفاد حديث الرفع رفع حكم ما اضطروا اليه، الذي هو الجزئية في المقام، نعم لو اضطر الى ترك قراءة الفاتحة في الصلاة الى آخر الوقت، فهو مضطر الى ترك ما ثبتت له الجزئية، ولكن نقول لا اشكال في ارتفاع حكمها الشرعي الذي هو الامر الفعلي الضمني بها في الصلاة، وأما الجزئية فليست حكما شرعيا، فان جزئيتها في حال الاضطرار تنتزع عن عدم افتراض بقاء الامر الاستقلالي الفعلي بالصلاة بعد ارتفاع الامر الضمني بقراءة الفاتحة فيها في حال الاضطرار، وحديث الرفع وان كان يدل على ارتفاع هذا الامر الضمني، لكنه لا يدل على ثبوت الامر بالصلاة الفاقدة لها، وما ذكرناه يجري في الاضطرار الى ايجاد مانع كلبس النجس في الصلاة، فانه في الاضطرار غير المستوعب لا يكون هو مضطرا الى ايجاد المانع في الواجب، وهو صرف وجود الصلاة، ودعوى كون مقتضى انحلالية المانعية ثبوت المانعية لكل فرد من افراد لبس النجس، فهذا الفرد من لبس النجس المضطر اليه له حكم شرعي، فيرتفع بحديث رفع ما اضطروا اليه، غير متجهة، فانه -مضافا الى أن لازمه جواز المبادرة الى الصلاة في سعة الوقت مع العلم باضطراره في ذلك الزمان بايجاد مانع فيها، ولا أظن أن يلتزم به فقيه- ان معنى انحلالية المانعية هو الامر بصرف وجود صلاة مشروطة بعدم اقترانها بأي فرد من افراد لبس النجس، فلا يفرض في الاضطرار غير المستوعب حصول الاضطرار الى مخالفة الحكم الشرعي.

وأما في الاضطرار المستوعب فما يرتفع هو النهي الفعلي الضمني عن لبسه، وذلك بتبع ارتفاع الامر بالصلاة المقيدة بعدم لبسه، لكن ارتفاعه لا يساوق ثبوت الامر الفعلي بالصلاة اللا بشرط من عدم لبس النجس، حتى ينتزع عنه ارتفاع المانعية في حال الاضطرار، نعم لو قلنا بأن مفاد حديث الرفع هو الرفع الادعائي فهو يعتبر عدم ما اضطر اليه، فلو اضطر الى ايجاد مانع فيعتبر نقيضه وهو عدم المانع، وأما لو اضطر الى ترك جزء الواجب فقد مرّ عن السيد الامام “قده” أنه استفاد من الحديث اعتبار عدم ترك ذلك الجزء، لغرض نفي اثر الترك، وهو بطلان العمل، لكن يرد عليه أنه ما لم‌ يعتبر تحقق الجزء، فلا يتحقق الامتثال، فيحكم العقل بوجوب اعادة العمل لتحقق الامتثال، ولا معنى للبطلان الا ذلك، ولم أر من التزم بانه يعتبر وجود ذلك الجزء، حتى تكون نتيجته الحكم بالصحة، والا لكان لازمه أن من اراد اتيان عمل من عقد او ايقاع، او واجب، وأكره او اضطرّ الى تركه، فيعتبر أنه اتى به، فيرتب عليه آثار وجوده، ولا أظنّ احدا يلتزم بذلك، وهذا يكشف إما عن عدم تمامية القول بكون مفاد الحديث الرفع الادعائي، او يكشف عن عدم اعتبار وجود الفعل عند الاضطرار الى تركه، إما يلحاظ أن اعتبار رفع الترك المضطرّ اليه لا يساوق اعتبار الوجود، او بلحاظ أن الاثر الشرعي مترتب على عدم ذلك الشيء ولو لم‌ يستند تركه الى المكلف والحديث كما سيأتي لايرفع الا الحكم الشرعي المترتب على فعل المكلف بما هو فعل مستند اليه، فلو اكره على الجماع فلا يرتفع وجوب غسل الجنابة، لأن موضوعه التقاء الختانين او خروج المني، ولو من دون استناد الى المكلف، وهنا ايضا لو اكره على ترك الطلاق فالاثر الشرعي المترتب على تركه وهو بقاء الزوجية ليس مترتبا على خصوص تركه المستند الى الزوج، بل على عدمه، ولو لم ‌يستند اليه.

ان حديث الرفع لا يرفع احكاما من قبيل وجوب القضاء

وبما ذكرناه اتضح أنه لا يمكن نفي وجوب القضاء في فرض الاضطرار المستوعب (بتقريب أن وجوب القضاء من احكام ما اضطر اليه، وهو ترك الواجب فيشمله حديث الرفع، فيكون العمل معه صحيحاً، إذ لا نعني بالصحّة الا إسقاط القضاء) وذلك لأن حديث الرفع لا يرفع احكاما من قبيل وجوب القضاء، ولو لأجل أن موضوعه فوت الفريضة وان لم يستند الى المكلف، كما سيأتي ان شاء الله تعالى، والشاهد عليه أنه لم ‌يشك أحد في وجوب قضاء الصلاة فيما إذا اضطر إلى تركها او اكره عليه رأسا.

ان قلت: ان ما ذكر من البيان في طرو عنوان الخطاء والنسيان والاضطرار ونحوه على ترك جزء في الصلاة مثلا من أن حديث الرفع لايثبت الامر بالمركب الفاقد له يجري بالنسبة إلى طرو عنوان ما لا يعلمون أيضاً، فإذا لم ‌يعلم المكلف بجزئية شي‏ء للصلاة مثلا، فحديث الرفع وان دل على ارتفع التكليف الفعلي بالمركب الواجد لذلك الجزء المشكوك، لكن لا يثبت التكليف الفعلي بالمركب الفاقد له.

قلت: ان سنخ الرفع في فقرة ما لا يعلمون يختلف مع سنخ الرفع في سائر الفقرات، حيث ان رفع ما لا يعلمون ليس الا بمعنى الرفع الظاهري وعدم ايجاب الاحتياط، فالمكلف حينما يعلم إجمالا بثبوت تكليف مردد بين الاقل لا بشرط من ذلك الجزء المشكوك، والاكثر، فحديث الرفع حيث يطبق على الامر المشكوك بذلك الجزء المشكوك، فيحصل بذلك التبعيض في التنجز، حيث يكون وجوب الاقل متنجزا على أي تقدير، سواء كان الامر الواقعي متعلقا بالاقل لا بشرط او الاكثر، ولا يكون الامر بالاكثر متنجزا بلحاظ هذا الجزء المشكوك، أي لو خالف هذا الامر من جهة تركه للجزء المشكوك مع اتيانه بالباقي كان معذورا، بخلاف ما لو خالفه من جهة ترك سائر الأجزاء والشرائط.

بل بناء على ما يظهر من صاحب الكفاية من كون المرفوع في جميع الفقرات بمعنى واحد، وهو رفع الفعلية نقول حيث يعقل التبعض في الفعلية في تكليف واحد بالمركب بلحاظ اجزاءه، فظاهر خطاب الامر وان كان هو الفعلية على أي تقدير، الا أن حديث رفع الامر الضمني بالجزء المشكوك يكون حاكما عليه، ونتيجته أن التكليف اذا كان متعلقا بالاقل لا بشرط كان فعليا، وان كان متعلقا بالاكثر كان فعليا بلحاظ غير الجزء المشكوك، أي لا يرضى بمخالفة هذا الامر من ناحية ترك سائر الاجزاء والشرائط، وان اذن في مخالفته من ناحية ترك الجزء المشكوك.

وكيف كان فتحصل عدم تمامية القول بحكومة رفع النسيان وما اضطروا اليه وما استكرهوا عليه، على ادلة الجزئية والشرطية والمانعية، ولا يؤثر في هذا البحث القول بامكان جعل الجزئية والشرطية والمانعية، كما عليه السيد الامام “قده” حيث ذكر أنه يمكن للشارع أن يأمر بالصلاة على نحو الاهمال ثم يقول “جعلت الركوع جزءا للصلاة”، أو القول بعدم امكان جعلها، كما هو المختار، فان قول المولى بعد امره بالصلاة بأني جعلت الركوع جزءا للصلاة، مجرد تعبير اثباتي وبيان عرفي لجعل الامر بالصلاة مع الركوع، والا فمع عدم الامر بالصلاة مع الركوع ثبوتا لا يمكن صيرورة الركوع جزءا من الواجب، كما أنه ليس جزءا مقوما لماهية الصلاة لصدق الصلاة بدونه.

فانه لولا اشكال عدم كون الجزئية ونحوها امرا ثقيلا فلا يشملها حديث الرفع لم يكن أي محذور في شمول الحديث لها، فانه بناءا على المبنى الثاني فالجزئية ونحوها للواجب، وان لم تكن قابلة للجعل، ولكن يكفي في شمول حديث الرفع لها كون امرها بيد الشارع ولو بلحاظ كون منشأ انتزاعها بيده، فاذا امر المولى بالمركب المشتمل على جزء، ولم يأمر المضطر او المكره على ترك ذلك الجزء، بما عداه، انتزع منه جزئيته في حال الاضطرار والاكراه، سواء بقي امره بالمركب التام او سقط رأسا، فان امر المولى بالمركب الناقص في حال الاضطرار او الاكراه صدق أنه رفع الجزئية في هذا الحال.

وعليه فلا يتّجه ما في مباحث الاصول من أن الجزئية ونحوها حيث لا تكون قابلة للجعل الشرعي، وانما تنتزع الجزئية للمركب عن الامر بالمركب المشتمل على ذلك الجزء، وتنتزع الشرطية للشرط من الامر بالمشروط به، وتنتزع المانعية من الامر بالمشروط بعدم شيء، وعليه فلا تكون قابلة للرفع كذلك، فلا يشملها حديث الرفع([10])، مضافا الى ما في هذا التعبير من المسامحة، فان الجزئية تنتزع من قضية شرطية، وهي أنه كلما كان هناك امر بالمركب فهو متعلق بالمركب المشتمل على هذا الجزء، لا من الامر الفعلي بالمركب المشتمل على هذا الجزء، وهكذا الشرطية، ولذا مرّ أن مقتضى الشرطية المطلقة للطهارة من الحدث انتفاء الامر بالصلاة في حق فاقد الطهورين.

الجهة الخامسة: عدة نقوض على القول بدلالة حديث الرفع على ارتفاع جميع آثار التسعة

انه قد ذكرت عدة نقوض على القول بدلالة حديث الرفع على ارتفاع جميع آثار التسعة المذكورة في الحديث، سواء بنحو المجاز في التقدير او بنحو الرفع الادعائي او الرفع عن عالم التشريع، حيث ادعي أن هناك احكاما قام النص او الضرورة او الاجماع على ثبوتها في حال صدور الفعل عن الخطاء او النسيان او الاضطرار او الاكراه، وامثلتها كثيرة نذكر أهمها:

1- ان هناك نصوص كثيرة دلت على ثبوت الحكم في خصوص بعض الافعال الخطأية، كقوله تعالى “و من قتل مؤمنا خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة الى اهله” حيث يستفاد منه ومن الروايات وجوب كفارة قتل الخطأ او وجوب الدية على القاتل خطأ في غير الخطاء المحض الذي تكون الدية فيه على العاقلة على مسلك المشهور (خلافا للسيد الخوئي “قده” حيث استفاد من الادلة أن الدية فيه على القاتل ايضا، لكن يجب على عاقلته اداءها) وكذا ما دلّ على وجوب سجدتي السهو عند تحقق موجباته كنسيان التشهد في الصلاة مثلا، وكذا ما دل على وجب قضاء الصوم عند نسيان عسل الجنابة في صوم شهر رمضان، او وجوب اعادة الصلاة اذا صلى في النجس نسيانا، او وجوب ذبح الشاة عند الاضطرار الى التظليل في حال الاحرام.

2- قامت الضرورة او الاجماع على صحة بيع المضطر مع أن وزان فقرة “رفع ما اضطروا اليه” نفس وزان فقرة “رفع ما استكرهوا عليه” ويستدلّون بها على عدم نفوذ بيع المكره.

3- لم ‌يلتزم المشهور فيما نعلم بانه لو اضطر شخص الى اكل مال الغير لحفظ حياة نفسه أنه يرتفع عنه الضمان، كما لم‌ يلتزموا برفع الضمان في اتلاف مال الغير خطأ او نسيانا.

4- لم‌ يلتزم احد بارتفاع النجاسة او الجنابة عند تحقق سببهما –و هو الملاقاة مع النجس والجماع- خطأ او نسيانا او اضطرارا او اكراها، وهكذا لم‌ يلتزموا بارتفاع وجوب القضاء عند ترك الاداء كذلك.

وحينئذ فيقال: انه من كثرة هذه الموارد يستكشف عدم ارادة رفع جميع الآثار من حديث الرفع بل خصوص المؤاخذة ونحوها.

وقد اجيب عن هذه النقوض بعدة وجوه:

الجواب عن النقض الاول

أما النقض الاول فقد اجيب عنه بجوابين:

الجواب الاول:

ما ذكره جمع من الأعلام، كصاحب الكفاية من أن حديث الرفع ناظر الى الاحكام الثابتة للافعال بعناوينها الأوّلية، فيدل على كون عنوان الخطاء او النسيان او الاكراه او الاضطرار مانعا عن تأثير تلك العناوين الاولية في ثبوت هذه الأحكام، وذلك بأحد تقريبين:

1- ما ذكره صاحب الكفابة من أنه اذا كانت نفس هذه العناوين المذكورة في حديث الرفع مقتضية لثبوت احكامٍ، كالخطأ في القتل والنسيان في ترك التشهد، فلا يعقل أن تكون في نفس الوقت مانعة عنها، وهذا يعني أنه لو احتمل ثبوت حكم جزائي مثلا على الخطأ في موردٍ، فلا يمكن التمسك بحديث الرفع لنفيه([11]).

وفيه أنه بعد اطلاق حديث الرفع اثباتا فغاية ما يحاول في منع هذا الاطلاق هو دعوى وجود مقيد لبي عقلي، وهو امتناع كون عنوان واحد مقتضيا لحكم، ومانعا عنه معا، ولكن الصحيح أنا نستكشف من دليل مانعية عنوان الخطأ عن الحكم، عدم كونه مقتضيا له، وهذا واضح، اذا اريد من كون هذه العناوين مقتضية لحكم كونها موضوعا له شرعا، ومن كونها مانعة عنه هو عدم ثبوت ذلك الحكم عند وجودها، بل ان اريد من كونه مقتضيا كونه علة لملاك الحكم، فنقول: مضافا الى ذلك، أن اخذ عنوان موضوعا لحكم لا يعني كون ذلك العنوان علة لملاك ذلك الحكم، كما أنه لا يظهر من بيان انتفاء الحكم عند وجوده كونه علة لارتفاعه، فمثلا لا يدل حديث الرفع على كون الخطاء مثلا علة لارتفاع احكام الفعل الصادر خطأ، بل علته هو مصلحة التسهيل، فقد يكون نفس الفعل الصادر خطأ علة لملاك حكمٍ، ولكن مصلحة التسهيل هي التي تكون علة لرفع ذلك الحكم.

2- ما ذكره في البحوث من أن هذه العناوين الثانوية المذكورة في حديث الرفع تارة تؤخذ كمعرِّف للعنوان الأولي، فيكون المرفوع هو العنوان الأولي، والحيثيات التسعة الثانوية حيثيات تعليلية في الرفع كما هو الصحيح، ولا يشمل الآثار المترتبة على نفس هذه العناوين الثانوية، إذ ليس الحكم فيه مرتبا على العنوان الأولي، وأخرى تؤخذ موضوعا وقيدا في المرفوع، فلا يشمل الحديث الأحكام المترتبة على العنوان الأولي، وبما أنه غير محتمل ولا مناسبٍ عرفا مع ظاهر الحديث، فيتعين الأول([12])، وهذا هو المائز عنده بين المقام وبين دليل لاحرج ولا ضرر حيث يتمسك بعمومهما لنفي جعل الحكم الحرجي او الضرري([13]).

وفيه أنه انما يوجد المجال لهذا البيان في خصوص عنوان النسيان والخطاء من العناوين التسعة في الحديث، فيقال بأنه إما أن يكون الملحوظ في قوله “رفع عن امتي النسيان” هو نفس النسيان فينفى ثبوت اثر له، كاحتمال حرمة نسيان القرآن بعد حفظه، او يكون الملحوظ فيه هو المنسيّ، او فقل: الفعل الصادر عن نسيان، فينفى ثبوت اثر له، وحينئذ يتم ما ذكر من اختصاص الحديث بالثاني، فانه لا يبعد أن يقال انّ عنوان الخطأ والنسيان في حديث الرفع ظاهر في كونه كناية عما صدر خطأ او نسيانا، كما يشهد على ذلك ما في صحيحة صفوان من التعبير بدل الخطاء بأنه وضع عن أمتي… ما أخطأوا، كما عبر في رواية ربعي بانه عفي عن أمتي الخطأ والنسيان والاستكراه، ومن الواضح أن ما يعفى عنه هو ما صدر عن الخطاء والنسيان والاستكراه، كما يشهد على ذلك الاستشهاد في رواية عمرو بن مروان على رفع الخطاء والنسيان بقوله تعالى “ربنا لا تؤاخذنا إن نَسِينا أَوْ أَخْطَأنا، فان من الواضح أن المراد من الآية عدم المؤاخذة على ما صدر عن نسيان او خطأ، وعليه فلا ينفى بحديث الرفع الحكم الذي يحتمل ترتبه على نفس النسيان من دون ملاحظة صدور شيء عن نسيان.

ولولا هذه النكتة التي ذكرناها لم يكن أي مانع عرفي من شمول “رفع عن امتي النسيان” لنفي آثار نفس النسيان، فان مقتضى اطلاق رفع النسيان نفي الآثار التي لو ثبتت على ذمة المكلف كان للنسيان دخل في فعلية تلك الآثار عرفا، فكان ينفي ترتب الاثر على نفس النسيان، كحرمة نسيان القرآن بعد حفظه، او ايجابه الكفارة، كما ينفي ترتب الاثر على الفعل الصادر نسيانا كارتكاب محرمات الاحرام نسيانا.

هذا كله بلحاظ عنوان النسيان والخطاء، وأما عنوان “ما اضطرّوا اليه” او “استكرهوا عليه” وكذا عنوان “ما اخطأوا” الوارد في بعض روايات حديث الرفع، فمن الواضح عدم شمولها لآثار نفس الاضطرار او الاكراه او الخطاء، فلا يمكن أن ينفى بها احتمال كون الاكراه على شيء او الاضطرار اليه موضوعا لوجوب الصدقة، سواء صدر عنه الفعل المكره عليه او المضطرّ اليه ام لا، ولكنها كما يمكن أن ينفى بها الاثر الثابت للفعل المضطر اليه، او المكره عليه، او الصادر خطأ بعنوان عام، كذلك يمكن أن يتفى بها الاثر المحتمل ثبوته لخصوص هذه الأقعال، فيمكن أن ينفى بها الكفارة المحتمل ثبوتها على الافطار الاكراهي لصوم شهر رمضان، كما ينفى بها الكفارة العامة الثابتة لطبيعي افطار صوم شهر رمضان، وهكذا يستفاد منها أن القتل الخطائي ليس موضوعا لحكم ثابت لمطلق القتل، وهو الحرمة او القصاص مثلا، ولا لحكم يحتمل جعله لخصوص القتل الخطائي، فيكون دليل وجوب الكفارة على القتل الخطائي مخصصا له.

الجواب الثاني:

ما هو الصحيح من أن الجواب عن هذا النقض ينحصر بالالتزام بالتخصيص، فيكون مثل ما دل الدليل الخاص على عدم ارتفاع الحكم الثابت للعنوان الأولي بسبب الاضطرار كما في التظليل في حال الاحرام، فانه يوجب كفارة شاة في حال العمد والاضطرار، للدليل الخاص، وانما لايوجب الكفارة في حال الجهل والنسيان لعموم قوله “أي رجل ركب امرا بجهالة فلاشيء عليه” كما ان الصيد حال الاحرام يوجب الكفارة اذا صدر عمدا او خطأ، للدليل الخاص، ومن الواضح أنه لا مجال في مثل ذلك للالتزام بالتخصص، والمهم أن موارد التخصيص ليست كثيرة حتى يوجب الالتزام بالتخصيص فيه وهن العموم، خصوصا بعد ما سيأتي من اختصاص حديث الرفع في غير فقرة ما لا يعلمون برفع المؤاخذة الأخروية او الدنيوية كالكفارة، فلا يشمل مثل ثبوت الدية في القتل الخطائي، ونحوها،

ونظير المقام دليل نفي الحرج والضرر، فان قيام الدليل الخاص على ثبوت حكم حرجي او ضرري، يكون من تخصيص عمومهما، وتظهر ثمرة الفرق بين التخصص والتخصيص في ما اذا تعارض خبران في اثبات حكم حرجي كوجوب الجهاد الابندائي وعدمه، فبناءا على التخصيص يمكن جعل قوله تعالى “ما جعل عليكم في الدين من حرج” مرجحا للخبر النافي، بينما أنه على القول بالتخصص فقد تصل النوبة الى عام متوسط روائي يدل بعمومه على وجوب الجهاد الابتدائي، وتظهر ثمرته ايضا في أنه لو كان فعل حرجي مورد دوران الامر بين المحذورين، فبناءا على القول بالتخصص يكون مخيرا بين فعله وتركه، بينما أنه على القول بالتخصيص يثبت حرمته تمسكا بعموم دليل لاحرج النافي لاحتمال وجوبه الحرجي.

الجواب عن النقض الثاني

أما النقض الثاني وهو النقض بصحة بيع المضطر، كما لو كان ولده مريضا فاحتاج الى مال لاجل علاجه او اجبره ظالم باعطاء مال اليه فاضطر الى بيع داره لتهيئة ذلك المال، فاجاب عنه الاعلام أن حديث الرفع امتناني، بقرينة كلمة “رفع عن” الظاهرة في رفع الامر الثقيل، وايضا التعبير بالأمة او أمتي في بيان الرفع عنهم، فانه من ألسنة التحبّب والتلطف، فلا يشمل المورد الذي يلزم من جريانه خلاف الامتنان في حقّ من يجري الحديث بالنسبة اليه، والمقام من هذا القبيل، اذ لو حكم بعدم نفوذ بيع المضطر حُرِم من التصرف في الثمن ولم يتوصل الى غرضه، وهذا خلاف الامتنان في حقه، بخلاف المكره، ولذا لو فرض كون رفع صحة بيع المضطرّ موافقا للامتنان في حقه جرى الحديث بالنسبة اليه، ومثّل له السيد الخوئي “قده” بما لو اكره شخص على الجامع بين بيع داره وطلاق زوجته، بأن قال له ظالم “إما بع دارك او طلق زوجتك والا فسوف اسجنك” فاختار البيع او اختار طلاق زوجته، فان ما اختاره وان لم‌ يكن مصداقا لما أكره عليه، لانه لا يقال انه أكره على بيع داره مثلا، ولكن لمّا باعه فيصدق انه اضطرّ الى بيع داره، لدفع شر الظالم، وهكذا لو اختار طلاق زوجته، ورفع صحة هذا البيع او الطلاق المضطر اليه موافق للامتنان عليه، فلا يقاس بسائر موارد الاضطرار، حيث ان رفعها فيها خلاف الامتنان على المضطر([14]).

ويمكن أن يمثّل لموارد امتنانية رفع صحة عقد المضطر، بالبيع مع توهم الاكراه من دون اكراه واقعا، او ما اذا باع شخص داره لاجل الخوف من ظلم الظالم لو لم ‌يبعه مع أنه لم ‌يهدده بشيء، فانه يصدق الاضطرار دون الاكراه، ولكن مع ذلك يكون الحكم ببطلان بيعه موافقا للامتنان.

كما أنه قد يكون الشخص مكرَها ولكن يكون الحكم ببطلان عقده او ايقاعه خلاف الامتنان في حقه، كما لو هدّدت الزوجة زوجها، فقالت له: ان لم‌تطلّقني حتى اتزوج من فلان فأزني، فطلقها زوجها من اجل الاحتراز عن وقوع زوجته في الزنا، فلو حكم الشارع ببطلان هذا الطلاق لم‌ يفرح ابدا، لفوات غرضه من عدم وقوع زوجته في محذور الزنا، وهكذا لو أكره الاب على تزويج ابنته من شخص، والاب في طول الاكراه يريد تحقق الزوجية، حتى لا تقع البنت في الزنا، فيكون الحكم ببطلان هذا الزواج خلاف الامتنان في حقه.

اقول: الصحيح أن ملاك الحكم في جميع هذ الموارد هو لزوم رضا من ينشأ العقد او الايقاع بالنتيجة القانونية لانشاءه، وهذا هو المستفاد من اعتبار التراضي في قوله تعالى “تجارة عن تراض منكم” وفي غالب موارد الاكراه ينتفي هذا الرضا، كما أنه في غالب موارد الاضطرار هذا الرضا موجود، فلو انعكس الحال ورضي المكرَه بالنتيجة القانونية كالزوجية او الطلاق لم يشمله قوله “رفع عن امتي ما استكرهوا عليه” بل ولا قوله “لا يمين مع استكراه” فان سيافه سياق الامتنان ايضا، فلا يشمل المقام.

وكيف كان فيرد على المثال الاول الذي ذكره السيد الخوئي “قده” أنه كما لا يصدق الاكراه على الفرد في مورد الاكراه على الجامع، كذلك لا يصدق الاضطرار الى ذلك الفرد، فانه قبل اختيار بيع الدار لم‌ يكن يصدق عليه انه مضطر الى بيع الدار، وانما كان مضطرّا الى الجامع بين بيع الدار وطلاق الزوجة، فكيف انقلب الاضطرار الى الجامع الى الاضطرار الى الفرد بعد اختياره، فان اختيار الفرد لا يوجب انقلاب الواقع عما عليه، فهو نظير الاضطرار الى شرب احد الماءين النجسين لا بعينه، فان اختيار واحد منهما لدفع الاضطرار لا يجعله مصداقا للمضطر اليه، والا لكان يجري هذا البيان في الاكراه ايضا، نعم نلتزم ببطلان ما يختاره من العقد لفقد الرضا المعاملي فيه.

الجواب عن النقض الثالث

وأما النقض الثالث، وهو الحكم بضمان من اتلف مال الغير خطأ او نسيانا او اضطرارا او اكراها، فاجيب عنه بثلاثة اجوبة:

1- ما ذكره جماعة كالسيد الخوئي “قده” من أنه يعتبر في جريان حديث الرفع عدم كونه خلاف الامتنان في حق الغير، والحكم بعدم الضمان في المثال منافٍ للامتنان على المالك.

وفيه اولا: النقض بمورد الاكراه، حيث انه لو أكره ظالم شخصا على بيع داره، فباعه من زيد، فالحكم ببطلان بيعه يكون خلاف الامتنان في حق زيد المشتري، مع أنه لم‌ يستشكل احد في شمول حديث الرفع له، وكذا اذا أتلف مسلم مال ذمي، خطأ او اضطرارا، فان المالك ليس من الأمة حتى يكون رفع الضمان عن المسلم الذي اتلف ماله منافيا للامتنان على الامة، ويبعد التزامه بعدم الضمان في مثله.

وثانيا: ان مفاد حديث الرفع وان كان هو الامتنان على الامة، لكن صدقه العرفي لا يتقوم بعدم كون رفع الحكم عمن شمله حديث الرفع منافيا للامتنان على غيره، فانه يكفي في كون الرفع امتنانا على الامة جميعا، أن ذلك الغير ايضا لو ابتلي بمثل ذلك انحلّت مشكلته بسبب حديث الرفع، وهذا نظير كون قاعدة لا حرج امتنانا على الامة حيث قال تعالى “ما جعل عليكم في الدين من حرج، ملة ابيكم ابراهيم” بينما أنه لا ينبغي أن يشكّ احد في رفع وجوب التمكين عن الزوجة اذا كان ذلك حرجيا عليها مع كونه باللحاظ الذي ذكروه خلاف الامتنان في حق الزوج، بل قد يقال كما عليه السيد الامام “قده” بأن غاية ما يدل عليه حديث الرفع ونحوه كون الامتنان فيه نوعيا لا شخصيا، ولكن الانصاف أنه ان كان المقصود منه دعوى جريانه وان لزم منه خلاف الامتنان في موردٍ، فهو خلاف ظاهر سياق الحديث.

وأما النقض الذي اورده السيد الخوئي “قده” على القول بجريان مثل حديث الرفع او قاعدة لا حرج ولا ضرر مع كونه خلاف الامتنان في حق الغير بأن لازمه أنه لو رأى مالك البذر أنه لو لم يزرع في ارض فسوف يتلف ماله، ويتضرر بذلك، ولكنه لم يجد ارضا مباحة لذلك، فيجوز له غصب ارض شخص مع اعطاءه اجرة المثل، ولا أظن أن يلتزم به فقيه([15])، ويمكن أن يجاب عنه بأنه من مورد تعارض الضررين عرفا، حيث ان حرمان المالك عن ملكه ضرر عقلائي عليه، ولا اشكال في عدم شمول قاعدة لا ضرر لمثله.

2- ما هو الصحيح كما سيأتي من انصراف حديث الرفع الى رفع الاحكام التي يكون لقصد المكلف دخلا عرفا في ثبوت تلك الاحكام كثبوت المجازاة على فعل، او ترتب الاثر على العقود والايقاعات، فيلحق الحديث ضعف الارادة في موارد العذر بفقد الارادة.

3- أن يلتزم بتخصيص حديث الرفع، لو قام دليل قطعي على الضمان من تسالم الاصحاب ونحوه.

الجواب عن النقض الرابع

وأما النقض بمثل النجاسة والجنابة فقد اجاب عنه السيد الخوئي “قده” بأن الظاهر من حديث الرفع رفع الآثار المترتبة على فعل المكلف بما هو فعل مستند اليه، والنجاسة موضوعها ملاقاة النجس، وان لم ‌تستند الى المكلف، وكذا الجنابة موضوعها التقاء الختانين او خروج المني وان لم‌ يستند الى المكلف، وهكذا وجوب القضاء موضوعه فوت الفريضة وان لم‌ يستند الفوت الى المكلف.

فتحصل من مجموع كلمات السيد الخوئي أنه يشترط في جريان حديث الرفع في فقرة “رفع الخطاء وما اضطروا اليه وما استكرهوا عليه اربعة شروط: أن يكون موضوع الاثر الذي يراد رفعه هو الفعل المستند الى المكلف، وكون الاثر الذي يراد نفيه ثابتا للعناوين الاولية كما تقدم في الجواب عن النقض الاول، وعدم كون جريانه خلاف الامتنان بالنسبة الى من يجري في حقه، كما تقدم في الجواب عن النقض الثاني، وعدم كون جريانه منافيا للامتنان في حق الغير، كما تقدم في الجواب عن النقض الثالث.

اقول: الظاهر أن نكتة الانصراف لا تختص بما ذكره، ويشهد لذلك أنه ذكر هذا البيان في حديث رفع القلم عن الصبي والمجنون والنائم، مع أنه لا توجد فيه قرينة على كون الحكم المرفوع فيه مختصا بالفعل المستند الى المكلف، مثل ما ادعي من القرينة في حديث الرفع من كون ما اضطروا اليه او استكرهوا عليه منطبقا على فعل المكلف.

بل نكتة الانصراف أن مفاد حديث الرفع ليس تعبديا محضا، بل موافق للمرتكزات العقلائية، ومغروس في ذهن العرف في الجملة، فالعرف يفهم من هذا الخطاب الحاق الشارع ضعف الارادة في مورد الخطأ والنسيان والاضطرار والاكراه بفقد الارادة، فلو كان الأثر مترتبا على الفعل المستند الى المكلف، ولكن كان مقتضى اطلاق دليله عدم دخل قصد المكلف وارادته في ترتب ذلك الأثر، فبكون حديث الرفع منصرفا عنه، كما في مثال “من اتلف مال الغير فهو له ضامن” فانه لا اشكال في أن موضوع الضمان هو الاتلاف المستند الى المكلف، ولكن ينصرف عنه الحديث، لكون ضمان مال الغير بملاك احترامه الثابت حتى لو كان الاتلاف بغير ارادة المتلف، وهذا الانصراف ليست نكتته كون سياق حديث الرفع سياق الامتنان على الأمة، فلابد أن لا يكون جريانه منافيا للامتنان في حق بقية افراد الأمة، بل نكتته ما ذكرناه، ولذا تجري هذه النكتة في مثل حديث رفع القلم عن الصبي مع أنه ليس سياقه سياق الامتنان على غير الصبي ونحوه، فلو اتلف الصبي مال الغير يكون ضامنا له كما هو فتوى الفقهاء، ولا يخفى أن فقد الارادة لا ينافي استناد الفعل الى المكلف، فلو وقع النائم على مال الغير فكسره فيقال انه اتلف ذلك المال، مع عدم تعلق ارادته به، وهذا كما في الاحكام المجازاتية، فانها بمناسبة الحكم والموضوع تترتب على الفعل الصادر عن قصد وارادة، وكذا الالزام بالوفاء بالعقود والايقاعات، فانه يترتب على ارادة المكلف لتحقق نتيجة العقد او الايقاع.

وبذلك يظهر عدم شمول حديث الرفع لمثل ما لو ورد أن من يدخل مكة فليكن محرما، وفرض اضطراره او اكراهه على دخول مكة، فلا يرتفع وجوب الاحرام عنه، مع أن دخول مكة فعل مستند الى المكلف، وأما تحريم دخول مكة بغير احرام، فمن الواضح عدم ارتفاعه به، لانصباب الحرمة على حصة من فعل المكلف وهو ليس مضطرا او مكرها عليها، ونحوه حرمة مسّ كتابة القران بغير وضوء فانها لا ترتفع بالاضطرار او الاكراه على اصل المسّ اذا تمكن من الوضوء قبله.

ومما ذكرناه ظهر أنه لابد من التفصيل في نفي الكفارة في موارد تحقق سببها عن اضطرار ونحوه بأنه ان كان ظاهر دليلها كونها بملاك العقوبة فنلتزم بارتفاعه في حال صدور سببها عن اضطرار، بخلاف ما احتملنا كونها بملاك جبر النقص الحاصل من ترك فعل او ارتكابه، ككفارة تأخير قضاء صوم شهر رمضان او ترك المبيت بمنى، ولذا نقول ان ضمان مال الغير ليس بملاك العقوبة عرفا، وانما هو بملاك احترام ماله وان شئت قلت لا يكون لقصد المتلف أي دخل عرفا في ثبوت الضمان، فلا يرفعه الحديث وهكذا وجوب قضاء ما فات.

هذا وقد ذكر بعض الاعلام في كتاب الأضواء والأراء أن الموفوع بحديث الرفع الآثار التي تعتبر نحو مؤاخذة وعقوبة وادانة، لا مطلق الآثار، فحديث الرفع لايدل على بطلان بيع المكره، بل بطلانه من جهة أدلّة اشتراط طيب النفس في صحة المعاملات، وما في صحيحة صفوان من تطبيق حديث الرفع على الحلف بالطلاق والعتاق مكرهاً، لاينافي ما ذكرناه، فان المذكور في مورد الروايات جعل طلاق الزوجة وعتق العبد عقوبة على حنث اليمين، وهذه نحو عقوبة ومؤاخذة ترتفع بالاكراه، فلا يقاس بصحة المعاملة.

والسيد الصدر “قده” في الدورة السابقة جعل الميزان كون الأثر مترتباً على الفعل المنتسب إلى المكلّف بما هو منتسب إليه، بخلاف الآثار المترتبة على عنوان كيفما اتفق ولو من غير انتساب إلى المكلف كالنجاسة بالملاقاة، وهو ظاهر السيد الخوئي أيضاً في بعض تقريراته؛ ولهذا فصّل السيد الخوئي في باب قضاء الصلاة، وأنّه إذا كان موضوعه الفوت فلا يشمله الحديث، أمّا إذا كان موضوعه الترك المنتسب الى المكلّف فيشمله الحديث.

ويورد عليه اولاً: النقض بمثل الاتلاف في باب الأمانات، حيث لا يكون التلف فيها موجباً للضمان، بخلاف الاتلاف حتى إذا وقع نسياناً أو اضطراراً، وهو فعل منسوب إلى المكلف، فينبغي أن لا يترتب فيه الضمان طبقاً لهذا الميزان، مع انّه لا يكون مشمولاً للحديث جزماً- مع قطع النظر عن حيثية منافاته للامتنان في حق المالك- وكذلك من اضطرّ أو نسي فأخرج حيواناً أو نبتاً من داخل الحرم إلى خارجه، فإنّه يجب عليه ارجاعه إليه، مع أنّ موضوعه الاخراج المنتسب إلى المكلف، لا الخروج([16])، وكذلك عنوان الافطار الموجب للقضاء في الصوم، إلى غير ذلك، بل وضوح عدم الفرق بين أن يكون القضاء موضوعه ترك الفريضة أو فوتها في عدم شمول الحديث لمثل هذا الحكم.

وثانياً: عدم وضوح نكتة لهذا المعيار، فإن كانت نكتته أنّ عنوان الاضطرار والاكراه صفة للفعل المضطرّ إليه والمنتسب إلى المكلف، لا مثل الملاقاة من العناوين التي ليست عناوين لفعل المكلف، فهذا لئن تمّ في مثل فقرة “ما اضطرّوا إليه وما استكرهوا عليه” فلا يتم في فقرة “ما لا يعلمون والنسيان”.

وإن كان من جهة ما ذكره السيد الصدر “قده” في الدورة السابقة من أنّ العناوين التسعة تجعل اسناد الفعل الصادر من المكلّف إلى الشخص ضعيفاً في نظر العرف، فلا يترتب عليه الأثر، فلابد وأن يكون موضوع الأثر الفعل المنتسب إلى المكلف بما هو منتسب إليه، فهذا ممنوع جداً؛ إذ الانتساب تام حتى في موارد الاضطرار أو الاكراه أو النسيان والخطأ، ولهذا يكون القاتل خطأً قاتلاً حقيقةً، نعم هذه النكتة توجب اختصاص الحديث بالفعل المنتسب إلى المكلف بما هو صادر عن اختياره وارادته، ولعلّه لهذا عدل في الدورة الثانية عن جعل المعيار كون الأثر مترتباً على الفعل المنتسب إلى المكلف، وجعل المعيار أضيق من ذلك، بأن يكون الفعل بما هو صادر عن ارادة المكلف واختياره موضوعاً لذلك الأثر، فإنّ العناوين المذكورة توجب ضعف الارادة والاختيار أو زوالها بالمرّة.

إلّا أنّ هذه النكتة أيضاً لا يمكن المساعدة عليها، وذلك: أولاً: انّ بعض العناوين المذكورة لا تنافي الاختيار أصلًا، كما في (ما لا يعلمون) بل والنسيان أيضاً، خصوصاً إذا كان نسياناً للحكم، لا للموضوع، فإنّ الفعل المشكوك حكمه أيضاً يصدر عن المكلف بكامل وعيه واختياره.

وثانياً: انّ الأثر إذا كان مترتباً على الفعل الاختياري والعمدي كان ارتفاعه في موارد الاضطرار والاكراه والخطأ على القاعدة، حتى لولم يكن حديث الرفع؛ لزوال قيد العمد والاختيار بطروّ ذلك([17]).

اقول: أما ما ذكره حول صحيحة صفوان ففيه أن ترتب الطلاق على الحلف بالطلاق عند العامّة ليس من باب العقوبة، وانما هو من باب ترتب الأثر حيث تداول بينهم أن الرجل كان يقول للعشار مثلاً “ان كان عندي مال فزوجتي طالق” فكانت العامة تقول بأنه اذا كان عنده مال فتكون زوجته طالقاً، وهذا يعني نفوذ هذا الحلف، لا العقوبة على حنث الحلف.

وأما ما ذكره (من أن دعوى اختصاص حديث الرفع بالحكم الثابت للفعل بما هو صادر عن ارادة المكلف واختياره، لكون العناوين المذكورة توجب ضعف الارادة والاختيار أو زوالها بالمرّة لا تتم في عنوان “ما لا يعلمون” بل والنسيان أيضاً، خصوصاً إذا كان نسياناً للحكم لا للموضوع، فإنّ الفعل المشكوك حكمه أيضاً يصدر عن المكلف بكامل وعيه واختياره) ففيه أن نكتة اختصاص الحديث بالأثر الذي اخذ في موضوعه القصد والارادة، هو عدم كون مفاد الحديث تعبديا محضا، بل هو موافق للمرتكز العقلائي، ومن الواضح أن هذه النكتة لا تجري في الرفع الظاهري لما لايعلمون، وأما النسيان فان اريد به الفعل الصادر عن نسيان فهو صادر عن ضعف ارادة، حتى لو كان نسيانا للحكم، اذ ليس المراد من ضعف الارادة معناه اللغوي، بل المراد أن من كان ناسيا لتحريم المولى لفعلٍ، فارتكبه، فان ارتكابه مع عدم رادع مولوي في مورد الجهل والنسيان ليس كارتكابه مع رادع مولوي، فالمراد من ضعف الارادة ما يعمّ عدم الرادع المولوي.

وأما ما ذكره (من أنّ الأثر إذا كان مترتباً على الفعل الاختياري والعمدي كان ارتفاعه في موارد الاضطرار والاكراه والخطأ على القاعدة، حتى لو لم يكن حديث الرفع، لزوال قيد العمدية والاختيار بطروّ ذلك) ففيه أن من المحتمل جدّا أن يكون مراد السيد الصدر أن حديث الرفع ناظر الى الاثر المرتبط بالقصد والارادة، ولو كان هذا الارتباط ثابتا بالمناسبات العقلائية، فالتكليف المتعلق بالافعال حيث يكون لأجل تحريك الارادة بعثا وزجرا، فيدخل في حديث الرفع، كما أن العقوبة الدنيوية او الأخروية على ارتكاب المحرمات او ترك الواجبات تختصّ بحسب المرتكزات العقلائية بمورد صدور الفعل عن ارادة المكلف، وصحة العقود والايقاعات تابعة لارادة ايجاد النتيجة القانونية، ومن الواضح أن الفعل الصادر عن الارادة يشمل الفعل الصادر عن اكراه او اضطرار، اذ يختلف ذلك عن عنوان العمد المقابل للاكراه او الاضطرار، فلا يعني ذلك اخذ عنوان العمد في موضوع الاثر.

والحاصل أن ما ذكره من أن المرفوع في الحديث هو العناوين التسعة عن عالم التبعة والادانة والمسؤولية وان كان هو الظاهر، كما مرّ منا مرارا، لكن لو فرض اختيار الرفع الادعائي او الرفع عن عالم التشريع كان مقتضى المقيِّد اللبي الارتكازي هو ما ذكره السيد الصدر “قده”.

الجهة السادسة: ظاهر الحدیث ،وجود المقتضي للاحكام المرفوعة

الجهة السادسة: ادعى جماعة منهم المحقق النائيني “ره” أنه بعد كون حديث الرفع واردا مورد الامتنان فظاهره وجود المقتضي لتلك الاحكام المرفوعة، اذ من الواضح أنه لا يصحّ الامتنان الا مع وجود المقتضي والملاك، فلا يصحّ أن يقول الاب لابنه: اني لا أطلب منك أن تسقيني الماء امتنانا مني عليك، الا اذا كان المقتضي لطلب سقي الماء موجودا، فلو لم‌ يكن الاب عطشانا فلا يصحّ هذا البيان.

ثمرة هذه الجهة

وقد رتِّب عليه آثار:

منها: إثبات رجحان الفعل الواجب الذي صار مما لا يطيقون عرفا او اضطرّ او اكره على تركه، فذكر المحقق النائيني “ره” أنه لو اتى به مع ذلك فيكون مجزءا لاستيفاء الملاك به وان لم‌ يكن واجبا، ويقال بمثله في مورد الحرج والضرر، لظهور دليل نفي الحرج والضرر في الامتنان.

ومنها: ما ذكره المحقق النائيني “ره” ايضا من أن مقتضى امتنانية مثل قوله “رفع عن امتي النسيان وما اضطروا اليه وما استكرهوا عليه” رفع الحرمة مع وجود المقتضي والملاك لها، وهو المفسدة والمبغوضية، وهذا يمنع من التقرب به، فيما اذا كان التركيب بين الواجب والحرام اتحاديا كما في الوضوء او الغسل بماء مغصوب قد ارتفعت حرمته لنسيان او اكراه ونحو ذلك.

ومنها: أن الاكراه على الحرام يكون محرما من باب التسبيب الى مبغوض المولى ولا يكون مثل الاكراه على المباح، وهكذا يحرم تسبيب الناسي الى ارتكاب الحرام، كتقديم الطعام النجس اليه حتى يأكل.

ولكن الظاهر أنه لا يستكشف وجود الملاك التام في كل مورد جري فيه حديث الرفع، اذ اولا: يكفي في كون نفي التكليف في مورد الاضطرار مثلا امتنانا على الامة وجود قضية شرطية، وهي أنه لو كان هناك مقتضٍ للتكليف في مورد الاضطرار، فالشارع رفع التكليف تسهيلا للامة، ولا يلزم وجود المقتضي للتكليف في جميع الموارد التي كانت العمومات تدل على ثبوت التكليف فيها والتزم بارتفاعه لحكومة حديث الرفع، نعم ظاهر رفع تكليف معيَّنٍ هو وجود المقتضي لذاك التكليف، بلا فرق بين كونه في خطاب المولى العرفي الذي يراعي مصلحة نفسه، كمثال سقي الماء او المولى الحقيقي الذي يراعي مصلحة الأمة، كما لو قال النبي (صلى‌الله‌عليه‌وآله) “رفع عن امتي وجوب الحج عند الحرج”، فلا يتجه ما في البحوث (من أن كلام المحقق النائيني “قده” مبني على قياس المولى الحقيقي على الموالي العرفية لكنه بلا موجب، فانَّ امتنان المولى الحقيقي ليس لمصلحة له في التكاليف، وانما المصالح والمفاسد كلها راجعة للعباد أنفسهم، وهي تكون بملاحظة مجموع الحيثيات واختيار الأصلح لهم بعد الكسر والانكسار فيما بينها، فليس رفع المولى الحقيقي للحكم من باب أنَّ المقتضي للطلب أي المبغوضية موجود، ومع هذا لا يطلب بنكتة الامتنان، بل من جهة اختيار ما هو اصلح واسهل لهم).

وثانيا: ان سياق الامتنان غاية ما يكشفه هو وجود المقتضي التام للتكليف قبل الامتنان برفع المولى للتكليف، وأما بقاء المقتضي التام بعد الامتنان، فهذا غير معلوم، اذ من المحتمل أن يكون الامتنان برفع التكليف مانعا عن الاتصاف بالملاك الفعلي، من باب كون الفعل بعدئذ مصداقا لردّ هديته تعالى، فقد ورد في موثقة السكوني أنه قال رسول الله (صلى‌الله‌عليه‌وآله) قال إن الله أهدى إليّ وإلى أمتي هدية لم‌ يهدها إلى أحد من الأمم كرامة من الله لنا، قالوا وما ذاك يا رسول الله، قال الإفطار في السفر والتقصير في الصلاة، فمن لم‌ يفعل ذلك فقد ردّ على الله عزّ وجلّ هديته([18]).

هذا مضافا الى أنا ذكرنا مرارا أن من المحتمل كون الملاك او الدخيل في الملاك امتثال امر المولى، ويؤيده ما ورد في صحيحة زرارة ومحمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إنما الوضوء حدّ من حدود الله ليعلم الله من يطيعه ومن يعصيه وإن المؤمن لا ينجِّسه شي‌ء([19])، وعليه فمع ارتفاع امر المولى فلا يبقى الملاك حينئذ.

ثم ان ما ذكرناه من أن حديث الرفع لا يكشف عن وجود الملاك في مورد الاكراه والاضطرار، لا ينافي ما التزمنا به من ظهور اصل خطاب التكليف من فعلية الملاك في حال ارتفاع التكليف بسبب الاعذار العقلائية، كالاكراه والاضطرار، وهذا الظهور ناشٍ من تعارف كون القدرة والاختيار شرطا لاستيفاء الملاك في الخطابات المطلقة العرفية، وهذا يشكّل قرينة في الخطابات الشرعية على ان القدرة والاختيار فيها أيضا كذلك، أي تكون شرطا لاستيفاء الملاك فقط، وعليه فمع سقوط اطلاق خطاب التكليف لحال العجز او الاكراه والاضطرار يبقى هذا الظهور بحاله، والشاهد على ذلك أنهم يقولون بحرمة الاكراه على الحرام كالغصب، مع أن الاكراه رافع للحرمة، ويكون فعل المكرَه حلالا، فكيف يكون الاكراه عليه حراما؟ -ولنفرض عدم كونه ايذاءا له لكي يحرم من أجل ذلك- ولا وجه له الا ما ذكرنا من أن طروّ العنوان الثانوي كالاكراه لا يرفع الملاك والمفسدة الثابتة باصل خطاب التحريم، ومن هنا لو قال المالك مثلا: لا أرضى أن يتوضأ من هذا الماء الا المكرَه، ففي مثله لا يحرم الإكراه لكون الإكراه موجبا لتبدل عنوان الحرام، وهو الغصب الى عنوان آخر بلا حاجة الى دليل خاص، حيث انّا نحسّ بالفرق بينه وبين مثال الاكراه على الغصب، وليس هو الا من جهة انه لم ‌يرفع الاكراه المفسدة والمبغوضية عن ذات الغصب، وان لم‌يكن حيث صدوره عن المكره مبغوضا.

ولكن ما ذكرناه لا يعني أنه لو اكره على ترك واجب، ولكنه لم يتركه فيكون عمله صحيحا ومجزءا، فان فعلية الملاك لا تلازم امكان استيفائه، فترى أن من يتضرر من الوضوء والتيمم معاً يكون من قبيل فاقد الطهورين، فمع أنه يفوت منه ملاك الصلاة ولذا يجب عليه قضاؤها فمع ذلك لو اراد أن يتحمل الضرر وتوضـأ وصلى لم تصح صلاته.

نعم قد يذكر وجه آخر لاثبات مشروعية العبادة في مورد الاضطرار اوالاكراه او العجز العرفي، غير وجه امتنانية حديث الرفع، وهو ما يقال من أنه حيث لا يرفع الحديث الا الامر الثقيل وهو الوجوب، فيبقى دلالة خطاب الامر على اصل البعث والطلب بحالها، نعم لا يتم هذا البيان بناءا على القول بوضع خطاب الأمر على الوجوب، حيث يلزم من استعماله في الوجوب في غير مورد الاكراه او الاضطرار اوالعجز العرفي واستعماله في الاستحباب في هذه الموارد استعمال اللفظ في معنيين، لكن الصحيح كون دلالته على الوجوب بالاطلاق النافي لاقتران البعث بالترخيص في الترك، ولا مانع من تقييد الاطلاق في بعض الموارد دون بعض، واوضح منه مسلك كون الوجوب بحكم العقل، حيث ان رفع الوجوب في هذه الموارد لا مساس له بمدلول خطاب الأمر بأي وجه، وانما ينافي الوجوب الثابت بحكم العقل، فتكون واردة عليه.

کلام السيد الخوئي “قده”

ولكن ذكر السيد الخوئي “قده” ما محصله انه بناء على مسلك حكم العقل بالوجوب فليس أمر الوجوب بيد الشارع حتى يكون قابلا للرفع شرعا، وما يكون قابلا للوضع والرفع شرعا هو اعتبار الفعل على ذمة المكلف، فيكون حديث الرفع دالا على رفعه([20]).

مناقشه

ويلاحظ عليه: ان مفاد حديث الرفع هو رفع حصة خاصة من اعتبار الفعل على الذمة اي الاعتبار غير المقرون بالترخيص دون الاعتبار المقرون بالترخيص بعد اعترافه “قده” بعدم شمول حديث الرفع للاحكام الاستحبابية عرفا، وعليه فلا يقتضي حديث الرفع الا نفي المجموع من اعتبار الفعل على الذمة وعدم الترخيص في الترك، ويكفي في نفي المجموع نفي احد أجزاءه، والقدر المتيقن حينئذ هو نفي عدم الترخيص في الترك، فيثبت بذلك الترخيص في الترك، وحينئذ فيتمسك باطلاق خطاب الأمر لإثبات اصل اعتبار الفعل على الذمة، ولايخفى انه يمكن تطبيق حديث الرفع على نفس الوجوب وان كان الوجوب بحكم العقل، اذ يمكن للشارع رفعه برفع موضوعه ومنشأه، وان أبيت عن ذلك فيمكن تطبيقه على موضوع حكم العقل بالوجوب الذي قلنا بأنه مركب من اعتبار الفعل على الذمة وعدم الترخيص في الترك.

ان قلت: ان موضوع حكم العقل بالوجوب هو اعتبار الفعل في الذمة وعدم العلم بالترخيص، لا عدم الترخيص، وكما أن أمر الوجوب وضعا ورفعا ليس بيد الشارع فكذلك أمر عدم العلم بالترخيص ليس بيد الشارع، فينحصر تطبيق حديث الرفع على نفس اعتبار الفعل في الذمة.

قلت: انه يمكن للشارع رفع جهل المكلف بالترخيص في الترك ببيان عدم وجوب الفعل فبهذا اللحاظ يكون امر وضعه ورفعه بيد الشارع.

الا أن الذي يمنعنا من اختيار هذا الوجه هو ما يقال من أن ظاهر حديث الرفع كونه ناظرا الى الخطابات الأولية وحاكما عليها، فيدل على ان تلك الخطابات الأولية التي تكون في حد ذاتها الزامية مقيدة بغير مورد العجز العرفي، وهذا هو الظاهر من قوله “رفع عن امتي ما لا يطيقون”، فيكون نظير ما لو ورد في خطاب “اكرم العالم” وورد في خطاب آخر “ما جعل ذلك الحكم الإلزامي في مورد العالم الفاسق”، وهذا يختلف عما لو ورد في الخطاب “لا يجب اكرام العالم الفاسق”.

نعم يمكن التمسك بأصالة البراءة لاجزاء الاتيان بالواجب في حال الاكراه او الاضطرار الى تركه، فلو اكره على ترك صوم شهر رمضان، لكن مع ذلك تحمل الضرر وصام رجاءا، فتجري البراءة عن وجوب قضاءه، وكذا لو اكره على ترك الصلاة قائما، فتجري البراءة عن تعين الصلاة جالسا بناءا على ما هو الصحيح من البراءة عن التعيين في موارد دوران الامر بين التعيين والتخيير، فان حديث الرفع انما دلّ على ارتغاع الحكم الاولي وهو الوجوب التعييني للواجب ولم يدل على الوجوب التعييني للقضاء او للصلاة جالسا.

ثم انه اجاب السيد الخوئي “قده” عن المثال الثاني وهو مثال الوضوء بالماء المغصوب نسيانا او اضطرارا او اكراها بأن المفسدة والمغوضية وإن كانتا باقيتين في صورة الاضطرار والاكراه والنسيان، لما ذكر من نكتة الامتنان، إلا أنهما غير مؤثرتين في الحرمة كما هو المفروض، لعدم حرمة العمل بحسب الواقع، ولا أنهما مانعتان عن ترخيص الشارع في ذلك العمل، وحينئذ لا يمنعان عن التقرّب به([21]).

ولكن كان ينبغي أن يذكر في الجواب عنه أن المانع عن صحة العبادة هو كون حيث صدور الفعل من هذا المكلف مبغوضا، لا كون ذات الفعل مبغوضا، ففي مورد الاكراه على الغضب لا يكون حيث صدوره عن المكرَه مبغوضا، بل قد يكون واجبا لدفع الضرر المهم عن النفس، ولكن ذات الفعل مبغوض، ولذا يعاقب المكرِه -بالكسر- على ايقاعه المكرَه في عمل مبغوض، فالمهم في صحة فرد من العبادة كالوضوء مضافا الى وفاءه بملاك طبيعة الوضوء أن لا يكون حيث صدوره عن الفاعل مبغوضا، وهذا حاصل في المقام، فيختلف عن مثل الوضوء بماء مغصوب نسيانا مع كونه بنفسه هو الغاصب، ولذا التزم فيه السيد الخوئي “قده” ببطلان الوضوء، مع أنه يرى سقوط حرمته لأجل النسيان، الا أنه اعترف بأن مبغوضيته تمنع من التقرب به([22]).

الجهة السابعة: البحث عن الاختصاص البراءة الشرعية بموارد الشكّ في التكاليف الإلزامية

الجهة السابعة: لا اشكال في ان البراءة العقلية تختصّ بموارد الشكّ في التكاليف الإلزامية، ولا تجري في موارد الشكّ في التكاليف غير الإلزامية، لأنها تعني قبح العقاب بلا بيان، والتكليف غير الإلزامي المعلوم مما لا عقاب في مخالفته، فكيف بمشكوكه، وأما البراءة الشرعية ففي اختصاصها بموارد الشكّ في التكاليف الإلزامية وجوه واقوال، وفد فصّل السيد الخوئي “قده” بين موارد الشكّ في الاحكام الاستحبابية الاستقلالية، وموارد الشكّ في الاحكام الضمنية للمستحبات، فاذا شكّ في استحباب شيء فلا تجري البراءة الشرعية، وان شكّ في كون شيء جزءا او شرطا او مانعا في المستحب، فيلتزم فيه بجريان البراءة الشرعية، والوجه في ذلك أن المراد من رفع ما لا يعلمون هو الرفع في مرحلة الظاهر عند الجهل بالواقع، وبذلك ينتفي وجوب الاحتياط، وهذا المعنى غير متحقق في مورد الشكّ في الاستحباب، إذ لا معنى فيه لوجوب الاحتياط، وأما استحباب الاحتياط فلايرتفع بجريان حديث الرفع، لكون موضوعه الشكّ الوجداني، وهذا بخلاف الشكّ في كون شيء جزءا او شرطا او مانعا في المستحب، فان الوجوب التكليفي وان لم‌ يكن محتملا في المقام، إلّا أن الوجوب الشرطي -المترتب عليه عدم جواز الإتيان بالفاقد للشرط بداعي الأمر- مشكوك فيه، فيصح رفعه ظاهراً بحديث الرفع([23]).

کلام السید الخویی ره

وقد ذكر في البحوث أن ما ذكره السيد الخوئي “قده” من عدم جريان البراءة الشرعية في مورد الشك في الاستحباب الاستقلالي، صحيح بالنظر الى ظاهر ادلة البراءة الشرعية كحديث الرفع من كونها بصدد نفي الكلفة والإلزام والدخول في العهدة، كما أن سياق الامتنان قرينة على الاختصاص بالتكاليف الإلزامية المشكوكة، وأما بالنظر الى مقام الثبوت فلا اشكال في امكان تعلق الرفع الظاهري بالاستحباب الاستقلالي المشكوك، ويكون ذلك بغرض نفي استحباب الاحتياط فيه شرعا، وما ذكره من قطعية استحباب الاحتياط فيه غير متجه، فانا لا نسلم ثبوت استحباب الاحتياط فيه شرعا، لعدم دليل عليه، وان كان هذا الاحتياط حسنا عقلا.

وأما ما ذكره من جريان البراءة الشرعية في الشكّ في جزئية شيء او شرطيته او مانعيته للمستحب، فيرد عليه أنه إن أريد إثبات جواز الإتيان بالفاقد لذلك الجزء او الشرط المشكوك، فهو يبتني على صلاحية البراءة عن الاكثر لاثبات تعلق الامر بالاقل لا بشرط، او فقل اثبات البراءة عن التقييد، اطلاق الامر، ولكنه ممنوع، لكونه من الأصل المثبت، وان أريد نفي حرمة التشريع في الإتيان بالباقي بقصد الأمر الجزمي، ففيه أنه يكفي في حرمة التشريع بذلك مجرد الشكّ في الامر به، بعد أن لم‌ تكن البراءة عن الاكثر مثبتة للامر بالباقي([24]).

اقول: ما ذكره في البحوث من الاشكال الاثباتي في حديث الرفع وغيره من ادلة البراءة بالنسبة الى شمولها للمستحبات، حيث ان ظاهرها نفي الكلفة والثقل، خاص بمثل حديث الرفع بالنسبة الى الشك في اصل الاستحباب، ولا يأتي في استصحاب عدم الحكم الذي هو من جملة ادلة البراءة، لعدم اختصاصه برفع الكلفة، الا أن الانصاف انصراف دليل الاصل النافي حتى الاستصحاب عن مورد الشك في اصل الاستحباب، لعدم اثر عملي عرفي له، بعد عدم وجوب الاحتياط جزما وحسن الاحتياط جزما، ولذا لو علم اجمالا باستحباب فعل، او وجوب فعل آخر، فيجري استصحاب عدم وجوب الفعل الثاني بلا معارض، بينما أنه مبنى البحوث يتعارض الاستصحابان ويكون جريان البراءة عن الوجوب مبتنيا على القول بتقديم الخطاب المختص.

وأما اذا علم باستحباب شيء وشك في كون شيء جزءا او شرطا له، فلو وجب عليه الاحتياط وجوبا وضعيا أي لم‌يحكم بصحة عمله بدون ذلك المشكوك جزئيته او شرطيته كان في ذلك نحو كلفة وثقل عليه، فلا ينصرف عنه حديث الرفع ابدا، نعم لو قلنا بـأن اثر اصل البراءة عن الاكثر ليس الا التعذير عن الامر بالاكثر او فقل نفي الاهتمام المولوي بالاحتياط بالنسبة اليه، دون اثبات آثار الصحة للاقلّ اتجه اشكال البحوث على السيد الخوئي “قده”، حيث لايكون لجريانها في المستحبات أي اثر عملي، وأما بناءا على اثباته آثار صحة الاقل كما لا يبعد، فيعني ذلك وجود أثر لجريان البراءة عن الاكثر في المستحبات وهو اثبات صحة الاقل، فيكون كسائر الاصول المصححة الجارية في مقام الامتثال كقاعدة الفراغ والتجاوز، حيث لا ينبغي الاشكال في جريان الاصول المصححة في المستحبات كاستصحاب بقاء الوضوء او جريان قاعدة الفراغ والتجاوز فيها، وليس اثرها المعذرية، اذ ليس هناك تنجز للحكم الاستحبابي، حتى مع العلم بعدم امتثاله لعدم لزوم امتثاله، فكيف بفرض الشك في امتثاله، حتى يراد من اجراء الاصل المصحح نفي تنجزه، فيكون مفاده الاكتفاء بذلك العمل في مقام الامتثال ظاهرا، وروح هذا الاصل المصحح الظاهري هي عدم اهتمام المولى بحفظ غرضه الاستحبابي في هذا الفرض، أي لم‌ تتعلق ارادته المولوية الاستحبابية بالاحتياط، واثر هذا الاصل هو اعطاء ثواب العمل الصحيح على هذا العمل المشكوك الصحة.

والوجه في ما ذكرناه من عدم البعد في اثبات البراءة عن الاكثر آثار صحة الاقل هو أن البراءة لما أثبتت الصحة الظاهرية للعمل الفاقد للجزء المشكوك ورخّصت في الاكتفاء به في مقام الامتثال فيرتب عليه العرف آثار الصحة الواقعية، لغفلته النوعية عن تدقيقات من قبيل أن البراءة عن الاكثر لا تثبت تعلق الامر بالاقل لا بشرط، وهذا يوجب انعقاد الاطلاق المقامي لدليل البراءة، ويشهد على ما ذكرناه أنه لولا ذلك يلزم منه نتائج يصعب الالتزام بها، ولنذكر لذلك امثلة:

1- اذا شك في اعتبار جزء او شرط في الوضوء او الغسل مثلا، فبلحاظ الأمر بالصلاة مع الوضوء يمكن اجراء البراءة عن الأكثر أي التقيد بالجزء او الشرط المشكوك، وبذلك يكون المكلف معذورا في مخالفته، ولكن لايثبت بهذه البراءة كون الأقل لابشرط متعلقا للأمر، وعليه فاذا كان الوضوء موضوعا لحكمٍ فيشكل اثبات ترتب هذا الحكم على الوضوء الفاقد للجزء او الشرط المشكوك، فلو اكتفى المحدث بهذا الوضوء فيجري استصحاب بقاء الحدث وحرمة مس كتابة القرآن عليه، كما أنه لو اكتفى بالغسل الفاقد للشرط المشكوك كالترتيب بين الجانب الايمن والايسر فيجري استصحاب بقاء الجنابة وحرمة دخوله في المسجد، بناء على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية، ويظهر من السيد الصدر في بحوثه في الفقه التزامه بذلك([25]).

2- لو نوى المسافر الإقامة عشرة أيام في بلد فأتى بصلاة رباعية مع الاخلال بالجزء او الشرط المشكوك فيها مما لا يجري فيه حديث لاتعاد إما لأجل رأي المشهور من عدم جريانه في حق الجاهل بالحكم ولو كان قاصرا، او لفرض كون المورد ركنا على تقدير جزئيته او شرطيته، كما لو صلى مع الوضوء الفاقد للجزء او الشرط المشكوك، ثم عدل عن نية الاقامة، فحيث ان البراءة عن التكليف بالأكثر لا تثبت كون الاقل لا بشرط متعلقا للتكليف، وانما تؤمّن عن التكليف بالأكثر فحسب، فلا يكون إتيان الأقل كافيا للحكم بوجوب البناء على التمام في الصلوات الآتية، ويكون مقتضى العلم الاجمالي هو لزوم الاحتياط بالجمع بين القصر والتمام فيها.

3- لو اكتفى في نسك الحج او العمرة بالعمل الفاقد للجزء او الشرط المشكوك، كما لو طاف خارج مقام ابراهيم استنادا الى اصل البراءة، ونظيره كل عمل يتوقف خروجه عن الاحرام على اتيانه به صحيحا كالسعي والذبح والحلق والتقصير، فحيث يشك حينئذ في خروجه عن الإحرام بذلك، فبناء على مسلك المشهور من جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية فيجري استصحاب بقاءه في الإحرام او استصحاب بقاء محرمات الإحرام عليه.

وأما دهوى كون آثار الصحة آثار الاعم من الصحة الواقعية والظاهرية فهو خلاف الظاهر، فان العناوين ظاهرة في وجوداتها الواقعية.

الجهة الثامنة: فقرة “رفع ما استكرهوا عليه” لا تجري في التكاليف

الجهة الثامنة: ذكر المحقق العراقي “قده” أنه كما لا تجري فقرة “رفع ما اضطروا اليه” في المعاملات لكون رفع صحتها خلاف الامتنان، كذلك فقرة “رفع ما استكرهوا عليه” لا تجري في التكاليف، فان الاكراه على عصيان التكليف لا يكون موجبا لارتفاع حرمته، ما لم‌ يندرج تحت عنوان الاضطرار، ولذا لو اكره شخص على أن يشرب الخمر، والا لأخذ الظالم منه فلسا، فلا يلتزم احد بجواز شربه للخمر، بمقتضى رفع ما استكرهوا عليه([26]).

اقول: لا وجه للمنع من شمول فقرة “رفع ما استكرهوا عليه” للتكاليف، بعد شمول اطلاقها له، وما ذكره من النقض لا يختص بالمقام، بل يرد في التمسك بالعناوين الثانوية الرافعة للتكليف، كالحرج والضرر والاضطرار العرفي، فانه لا يلتزم بحلية المحرمات المهمة والمعاصي الموبقة، او ترك الواجبات المهمة، بمجرد طرو هذه العناوين، بل لابد من ملاحظة مناسبة الرافع والمرفوع، فان مصلحة التسهيل الموجبة لرفع حرمة الفعل المكره عليه او المضطر اليه او الذي يكون تركه حرجيا لا تقاوم في المرتكز المتشرعي المفسدة العظيمة المترتبة على ذلك الفعل لو كان من المعاصي الموبقة، كشرب الخمر او الزنا وما شابه ذلك الا أن يكون الاكراه او الاضطرار بمرتبة شديدة، وهذا ما حكي عن المحقق الحائري “ره” ايضا.

 

 



[1] – بحوث في علم الاصول ج 5ص 48

[2] – اضواء وآراء ج2 ص360

[3] – فوائد الاصول ج3ص128

[4] – مصباح الاصول ج 2ص300

[5] – مباحث الاصول ج3ص180

[6] – وسائل الشيعة ج‌23 ص 226

[7] – وسائل الشيعة ج‌23 ص: 227

[8] – كفاية الاصول ص 369

[9] – الخلل في الصلاة ص16

[10] – مباحث الاصول ج 3ص342

[11] – كفاية الاصول ص 341

[12] – بحوث في علم الأصول ج‏5 ص 52

[13] – بحوث في علم الاصول ج 4ص439

[14] – مصباح الفقاهة ج 3ص312

[15] – موسوعة الامام الخوئي ج ص )مصباح الاصول ج2ص567)

[16] – المستفاد من الروايات أنه لا يجوز اخراج مثل الطير الذي يصفّ من الحرم، راجع: وسائل الشيعة ج 13ص82، والمتفاهم منه حرمة اخراجه حدوثا وبقاء، فالاضطرار او الاكراه على الاخراج حدوثا لا يرفع حرمته بقاء ، ولم يرد في الروايات أن من أخرجه يجب عليه ارجاعه، فالمثال فرضي.

[17] – اضواء وآراء ج‏2 ص 368

[18] – وسائل الشيعة، ج‏8 ص 520

[19] – وسائل الشيعة ج‌1 ص 484

[20] – محاضرات في اصول الفقه ج4ص24

[21] – موسوعة الامام الخوئي ج5ص321

[22] – موسوعة الامام الخوئي ج5 ص317

[23] – مصباح الاصول ج2ص270

[24] – بحوث في علم علم الاصول ج5ص149

[25] – بحوث في شرح العروة الوثقى ج1ص151 و152

[26] – نهاية الافكار ج3 ص224