وجه تقديم الامارة على سائر الاصول العملية غير الاستصحاب.. 2
الاول: اصول العملية العقلية. 2
الثانی: الاصول العملية الشرعية. 2
وجوه لتقديم دليل حجية الخبر على مثل “رفع ما لا يعلمون”.. 2
المقام الاول: في التعارض بين استصحابين 7
الصورة الاولى: التنافی الذاتی بینهما. 7
نكتة تقديم الاصل السببي على المسببي.. 8
ثمرة تقديم الاصل السببي على الاصل المسببي الموافق.. 13
نسبة الاستصحاب مع سائر الاصول العملية. 17
وجه تقدم الاستصحاب على البراءة العقلیه. 17
وجوه تقدم الاستصحاب على حديث الرفع والحل.. 18
الوجه الثالث: ما هو الصحيح.. 21
وجوه لتقديم البراءة على الاستصحاب.. 23
الاول: البراءة واردة على موضوع استصحاب.. 23
تقديم استصحاب النجاسة على عموم قاعدة الطهارة. 25
تقديم قواعد فقهية أخرى كقاعدة الفراغ على الاستصحاب.. 28
موضوع: تنبیه 15 /تنبیهات /استصحاب
خلاصه مباحث گذشته:
متن خلاصه …
وجه تقديم الامارة على سائر الاصول العملية غير الاستصحاب
بقي الكلام حول وجه تقديم الامارة على سائر الاصول العملية غير الاستصحاب.
الاول: اصول العملية العقلية
أما الاصول العملية العقلية كالبراءة والاحتياط العقليتين، فالأمارة بعد قيام الدليل على حجيتها تكون واردة عليها، لأن الأمارة المعتبرة على التكليف تكون بيانا رافعا لقبح العقاب بلا بيان، اذ يكفي في البيان وصول ابراز المولى لاهتمامه بالتكليف الواقعي على تقدير وجوده، حيث لا يقبح معه العقاب بشهادة الوجدان، نعم لا وجه لما ذكره المحقق النائيني والسيد الخوئي “قدهما” من كون الأمارة الدالة على عدم التكليف واردة على البراءة العقلية، اذ الرافع لموضوعها البيان على التكليف لا البيان على عدمه، بل هو مؤكد لقبح العقاب بلا بيان على التكليف.
كما أن الأمارة المعتبرة على عدم التكليف رافعة لموضوع حكم العقل بالاحتياط كما في مورد العلم الاجمالي، لأن الماخوذ في موضوعه عدم الترخيص الشرعي في ترك الاحتياط.
الثانی: الاصول العملية الشرعية
أما الاصول العملية الشرعية فنقتصر منها على اصل البراءة واصالة الحل وأصالة الطهارة.
1- أصالة البراءة
أما أصالة البراءة فيمكن ان يذكر عدة وجوه لتقديم دليل حجية الخبر على مثل “رفع ما لا يعلمون”.
وجوه لتقديم دليل حجية الخبر على مثل “رفع ما لا يعلمون”
الوجه الاول: ما في الكفاية من وروده عليها حيث ان موضوعها عدم العلم من جميع الجهات اي من جهة الحكم الواقعي والظاهري معا فمع العلم بالوظيفة الظاهرية من خلال قيام الامارة يرتفع موضوع البراءة الشرعية وجدانا.
وفيه أن حمل قوله “رفع ما لا يعلمون” او “ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم” على عدم العلم بالحكم الاعم من الحكم الظاهري والواقعي خلاف الظاهر، ولذا لا يكون دليل وجوب الاحتياط واردا عليه.
الوجه الثاني: ما ذكره السيد الامام “قده” من كون العلم مثالا عرفيا لمطلق الطريق المعتبر، لا الحجة بمعنى مطلق المنجز ولو كان وجوب الاحتياط شرعا او عقلا، وقد تقدم توضيحه، وقلنا بأنه ليس ببعيد في مثل لفظ العلم في امثال المقام مما يكون بصدد بيان المنجز والمعذر.
الوجه الثالث: ما مر منا من أنه حيث لا ينحصر في المرتكز المتشرعي طرق اثبات الواقع شرعا بالعلم الوجداني فيشكل ذلك قرينة لبية متصلة مانعة من ظهور مثل قوله “رفع ما لا يعلمون” في الغاء حجية سائر الحجج، فكأنه قال “اذا شككت في التكليف ولم يصل امارة معتبرة عليه فهو مرفوع عنك”، وبذلك يتم الورود.
الوجه الرابع: الحكومة، بتقريبين:
1- التقريب الذي ذكره المحقق النائيني والسيد الخوئي “قدهما” من أن مقتضى اعتبار كون خبر الثقة مثلا علما بالواقع حكومته على البراءة التي موضوعها عدم العلم بالواقع، ولكن مر الاشكال في مسلك جعل العلمية.
2- ما يقال من أن دليل حجية خبر الثقة ظاهر في أنه بصدد رفع التأمين الثابت قبله، فيكون حاكما على البراءة المثبتة للتأمين، بالحكومة المضمونية.
توضيح ذلك أن الحكومة قد تكون تفسيرية وهي ما كانت بلسان التفسير كما لو اشتملت على اداة التفسير كلفظة “اي” او “أعني” وقد تكون تنزبلية، كقوله بعد امره بوجوب اكرام العالم “ولد العالم عالم” وقد تكون مضمونية اي يظهر منها فرض وجود حكم سابق كقوله “رتّب اثر العالم على ولد العالم”، والحكومة المدعاة في المقام من هذا القبيل.
ولكن يرد عليه ان غايته فرض وجود التأمين العقلي لا الشرعي الثابت بالبراءة، فلا يكون حاكما على دليل البراءة الشرعية.
الوجه الخامس: ما يقال من أن عمدة دليل حجية الأمارة كخبر الثقة والظهورات هي سيرة العقلاء، ولا ريب في كون المتيقن منه الأمارة الالزامية، وقد مر أن الخطابات التي تكون السيرة الواضحة العقلائية على خلاف عمومها تنصرف الى غير مورد السيرة، حيث تكون السيرة بمثابة قرينة لبية متصلة بها، وهذا وان كان تاما كبرويا، بل صغرويا في مثل الظهورات والأقارير، لكن لا نسلم ذلك صغرويا في خبر الثقة غير المفيد للوثوق، الا أن نضم الى هذا الوجه ما مر من كفاية احتمال وجود هذه السيرة، لأنه يعني احتمال قرينة حالية نوعية مانعة من احراز الظهور.
الوجه السادس: ما يقال كما في البحوث من كون دليل حجية الأمارة كخبر الثقة اخص مطلقا عرفا من دليل البراءة، فانه لو منع من حجية خبر الثقة على التكليف لأجل البراءة فيكون لازمه اختصاص حجيته بما اذا قام على نفي التكليف، وهذا يوجب لغويته لكون الشك في التكليف كافيا في المعذرية، لأجل أصالة البراءة، فلا حاجة عرفية الى جعل الحجية للخبر النافي للتكليف.
على أن أكثر أدلة حجية الأمارة واردة في مورد الأمارة على الاحكام الإلزامية التي هي مورد البراءة لولا الأمارة، كما في آية النفر و آية النبأ و صحيحة الحميري الآمرة بإطاعة الثقات “العمري ثقتي…فاسمع له وأطع فانه الثقة المأمون” فيكون أخص أو تكون الأمارة على الإلزام هو القدر المتيقن منه على أقل تقدير.
ان قلت: يوجد مورد افتراق كبير لحجية خبر الثقة على التكليف لا تجري فيه البراءة، وهو الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي بوجود تكاليف في الشريعة.
قلت: لم يكن يوجد مثل هذا العلم الاجمالي غير المنحل في زمان المعصومين الذي هو زمان صدور هذه الأدلة، فيكون حمل خطاب حجية الخبر القائم على التكليف الموجَّه الى الموجودين في ذلك الزمان على مورد العلم الاجمالي من الحمل على الفرد النادر([1]).
اقول: انكار وجود شبهات كثيرة مقرونة بالعلم الاجمالي في زمان المعصومين خلاف الظاهر، فالاولى أن نقول بأن ما كان يخبر به العمري عن الامام الهادي والعسكري (عليهما السلام) كان كثيرا ما خارجا عن اطراف الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي المنحل عادة بالآيات والروايات الصادرة عن الأئمة الماضين خصوصا وأن احمد بن اسحاق القمي الموجه اليه خطاب “فاسمع له وأطع” في صحيحة الحميري كان من الاجلاء، فيكون قد تعلّم وظائفه العامة اجتهادا او تقليدا.
على أن الظاهر من مثل صحيحة الحميري كون قيام خبر الثقة موجبا لتنجز الطاعة لا العلم الاجمالي.
وبما ذكرناه تبين وجه تقدم الأمارة على أصالة الحل المستفادة من مثل قوله “كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام”.
2- قاعدة الطهارة
وأما قاعدة الطهارة فلا يصح الاستناد في تقدم دليل خبر الثقة الدال على نجاسة شيء عليها، الى نكتة الأخصية العرفية لشمول دليل حجية خبر الثقة لموارد كثيرة ليست مورد قاعدة الطهارة، ولكن يمكن ذكر عدة وجوه لتقدم الأمارة على النجاسة عليها:
وجوه لتقدم الأمارة
الوجه الاول: الورود بنكتة كون العلم بالنجاسة الماخوذ غاية لقاعدة الطهارة في قوله في موثقة عمار “كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر” ظاهرا في كونه مثالا لمطلق الطريق المعتبر كما ادعاه السيد الامام “قده” وقد مر أنه غير بعيد، او بنكتة أن المرتكز المتشرعي عدم كونها كسائر الاصول العملية بصدد الغاء حجية سائر الطرق والأمارات غير العلم الوجداني، كما مر نظيره في الاستصحاب، وبذلك يتقيد قوله “كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر” بما لم تقم أمارة معتبرة على النجاسة.
الوجه الثاني: الحكومة، بنكتة أن الأمارة علم تعبدي فتكون حاكمة على الغاية المأخوذة في قاعدة الطهارة، وهذا الوجه هو الذي اختاره المحقق النائيني والسيد الخوئي “قدهما”، وقد مر الاشكال في كون الأمارة علما تعبديا.
الوجه الثالث: عدم احتمال الفرق بين حجية الخبر في باب النجاسة عن غيرها شرعا وكذا لا فرق في قيام السيرة العقلائية بينهما، بناء على قبول اصل السيرة العقلائية في حجية الخبر غير المفيد للوثوق، فيكون عموم قاعدة الطهارة على خلاف السيرة، ولا ينعقد الظهور في العموم المخالف للسيرة، كما أنه لا فرق بينهما بحسب السيرة المتشرعية، فتكشف عن حجية الخبر الدال على النجاسة.
الوجه الرابع: ما في البحوث من أنه لو فرض التعارض بنحو العموم من وجه بين دليل حجية خبر الثقة مع دليل قاعدة الطهارة قدِّم دليل حجية الخبر، لكونه مستفادا من القرآن الكريم، او من السنة القطعية، اي الخبر القطعي الصدور، فيكون اطلاق دليل قاعدة الطهارة في الشبهات الحكمية، بلحاظ بقاء هذا الاصل في فرض قيام خبر الثقة على النجاسة مخالفا بالعموم من وجه مع الكتاب الكريم والسنة القطعية، فيجب طرحه، نعم خبر الثقة في الشبهات الموضوعية للنجاسة خارج عن مدلول الدليل القطعي الصدور([2]).
ولا بأس بما افاده.
الوجه الخامس: لو فرض تساقط دليل حجية خبر الثقة واطلاق قاعدة الطهارة رجعنا الى استصحاب حجية خبر الثقة الثابتة بالامضاء في اول الشريعة([3]).
وفيه اولا: ان لنا أن نمنع من احراز حدوث حجية السيرة على العمل بخبر الثقة حتى لو قبلنا قيام السيرة عليه في اوائل البعثة، فلعل موضع الشارع في ذلك الزمان كان هو الاهمال، حيث لم يكتمل الدين بعدُ، و لعله ألغى حجيتها ثبوتا، و لكنه سكت عن بيان ذلك، لكون بناءه على التدرج في البيان، و قد لا يكون مجال عرفي للردع عن السيرة غير المرضية، بعد كون الناس حديث عهد بالاسلام، و ابتلاء النبي بمشاكل عظيمة، كمحاربة المشركين.
وثانيا: أنه حيث كان دليل الامضاء لبيا فلا يحرز كونه مجعولا بنحو القضية الحقيقية، بل لعله مجعول بنحو القضية الخارجية، بحيث يكون المجعول حجية الاستصحاب لمن كان معاصرا لصدر الاسلام، فلا يمكن اسراءه الى غيره بالاستصحاب، لعدم بقاء الموضوع.
وثالثا: انه بعد تعارض دليل حجية الخبر مع دليل قاعدة الطهارة بالعموم من وجه لاتصل النوبة الى استصحاب بقاء حجية الخبر، بل ان وجدت أمارة تدل على انتفاء حجيته، فلابد من الرجوع اليها، وصحيحة زرارة الواردة في الاستصحاب بعمومها تشمل استصحاب بقاء طهارة ذاك الشيء الذي قام الخبر على نجاسته وينفي بالالتزام حجية ذلك الخبر، نعم ان لم يكن يتعارض دليل حجية الخبر مع عموم دليل قاعدة الطهارة كنا نرفع اليد عن استصحاب الطهارة، لأجل دليل حجية الخبر، لكن بعد سقوطه بالمعارضة مع دليل قاعدة الطهارة يكون دليل الاستصحاب المنتج لبقاء طهارة ذاك الشيء ظاهرا والنافي بالالتزام لحجية هذا الخبر هو المرجع الفوقاني.
وان ابيت عن ذلك فلا أقل من معارضة استصحاب طهارة ذلك الشيء الى ما بعد قيام هذا الخبر، مع استصحاب حجية الخبر القائم على نجاسة شيء، بعد عدم مرحج لتقديم احدهما على الأخر.
نعم لو احرز أنه في اول زمان تشريع الاستصحاب كان خبر الثقة على النجاسة حجة، فنحرز الحالة السابقة لاستصحاب الطهارة، وأنه كان مغيى بعدم قيام خبر الثقة على النجاسة فنستصحب كونه مغيى الى الآن وهذا موافق لاستصحاب حجية خبر الثقة، ولكن المفروض أن دليل الاستصحاب وارد في زمان الشك في بقاء حجية خبر الثقة على النجاسة.
ويأتي نظير هذا البيان على تقريب صاحب الكفاية في الورود، فان من يدعي ورود الامارة على الاستصحاب بنكتة عدم كون نقض اليقين معها من نقض اليقين بسبب الشك، فكما يصح أن يقول ان نقض اليقين بالطهارة بسبب استصحاب حجية الخبر القائم على النجاسة ليس نقضا لليقين بسبب الشك فكذلك يصح ان يقول ان نقض اليقين بحجية الخبر بسبب استصحاب الطهارة النافي بالالتزام لحجية الخبر ليس نقضا لليقين بسبب الشك فيصلح كل منهما للورود على الآخر.
نعم على تقريبنا للورود وهو وجود مقيد لبي متصل يقيد خطاب الاستصحاب بعدم امارة معتبرة أخرى على الخلاف فيثبت باستصحاب بقاء حجية خبر الثقة أن هذه الامارة القائمة على خلاف اليقين السابق بطهارة شيء أمارة معتبرة على الخلاف فلا يجري استصحاب الطهارة.
التعارض بين استصحابين
ذكر صاحب الكفاية في آخر الاستصحاب خاتمة تعرض فيها لبيان التعارض بين استصحابين، وبيان النسبة بين الاستصحاب و سائر الأصول العملية، ونحن نقتفي اثره ونتكلم في مقامين:
المقام الاول: في التعارض بين استصحابين
قد يحصل العلم الاجمالي بمخالفة احد استصحابين للواقع، فله صورتان:
الصورة الاولى: التنافی الذاتی بینهما
أن لا يمكن جعلهما معا، للتنافي بينهما بالذات كما في مورد توارد الحالتين، مثل استصحاب الطهارة والنجاسة في شيء واحد توارد فيه حالتا الطهارة والنجاسة ولم يعلم المتقدم والمتأخر منهما، او للتنافي بينهما بالعرض، كما في استصحاب طهارة ماءين علم اجمالا بتنجس احدهما، فان العلم الاجمالي بنجاسة احدهما اوجب التنافي بين استصحاب الطهارة فيهما لاداء الجمع بينهما الى الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال، وهو إما قبيح عقلاً او نقض للغرض عقلاءً، وهذا يؤدي الى تعارضهما وتساقطهما، لعدم احتمال الجمع بينهما واجراء الاستصحاب في احدهما المعين دون الآخر ترجيح بلا مرجح.
نعم ان كان المستصحب في احدهما من الآثار الشرعية للمستصحب في الآخر، فيجري الاستصحاب في الثاني بلا معارض، لكونه اصلا موضوعيا وسببيّا بالنسبة الى ذلك الاستصحاب الاول، كالشك في بقاء نجاسة الثوب المتنجس بعد غسله بماء مستصحب الطهارة، او استصحاب عدم الدين لاثبات وجوب الحج بناء على كون موضوعه عدم الدين واقعا، فانه حيث يكون استصحاب عدم الدين اصلا سببيا مثبتا لوجوب الحج، فلا يعارضه استصحاب عدم وجوب الحج، وان كان لولا ذلك يوجد تعارض بالعرض بين استصحاب عدم الدين واستصحاب عدم وجوب الحج، للعلم الاجمالي بثبوت احدهما.
نكتة تقديم الاصل السببي على المسببي
ولا اشكال عند احد في تقديم الاصل السببي على المسببي، الا أن الكلام في نكتته وحاصل ما يقال في نكتته عدة وجوه:
الوجه الاول: ما في الكفاية من ورود الاصل السببي على المسببي لكونه رافعا لموضوعه، فانه مع جريان استصحاب بقاء طهارة الماء الذي غسل به الثوب المتنجس، لا يكون نقض اليقين السابق بنجاسة الثوب بالشك في بقاء نجاسته، بل باليقين بما هو رافع لنجاسته و هو غسله بالماء المحكوم شرعا بالطهارة، وهذا بخلاف ما لو بنينا على بقاء نجاسته فانه يكون نقضا لليقين السابق بطهارة الماء بالشك فيها، نعم لو لم يجر الاستصحاب السببي لمانع لكان الاستصحاب المسببي جاريا، فإنه لا محذور فيه حينئذ مع وجود أركانه و عموم خطابه([4]).
وما ذكره وان كان لا يخلو من وجه بالنظر الى جملة “لا ينقض اليقين بالشك” فان رفع اليد عن اليقين بنجاسة الثوب المغسول بماء مستصحب الطهارة ليس لأجل الشك في بقاء طهارته وانما هو لأجل قيام الحجة عليه وهو الاصل السببي.
ولكن مر أن ظاهر قوله (عليه السلام) في الصحيحة الاولى لزرارة “حتى يستيقن أنه نام حتى يجيء من ذلك امر بين” هو لزوم حصول اليقين الوجداني بالنوم اي بارتفاع الحالة السابقة، حتى لا يجري استصحاب الحالة السابقة، نعم مرّ احتفاف دليل الاستصحاب بقرينة لبية متصلة تمنع من ظهور هذه الجملة في الغاء حجية الطرق والأمارات، ولكن من الواضح أن هذا البيان لا يجري في مورد تعارض الاستصحاب السببي والمسببي.
الوجه الثاني: ما ادعاه جماعة من حكومة الاستصحاب السببي على الاستصحاب المسببي، لأن الاستصحاب علم تعبدي بالواقع المستصحب وآثاره الشرعية، فيرتفع بذلك موضوع استصحاب المسبب وهو الشك فيه، ولكن استصحاب المسبب لا يرفع الشك في السبب الا بنحو الاصل المثبت.
وفيه اولا: ان ربط تقدم الاصل السببي بهذه النكتة غير متجه، فانه لا يكفي لتوجيه ما هو مسلَّم من تقدم قاعدة الطهارة في الماء الذي غسل به الثوب المتنجس على استصحاب نجاسة الثوب.
وثانيا: انه قد مرّ في محله النقاش في مبنى كون مفاد الاستصحاب هو التعبد بالعلم بالواقع، فان الظاهر أن مفاده النهي الطريقي عن النقض العملي لليقين السابق، ولا يظهر منه الارشاد الى اعتبار بقاء اليقين.
وثالثا: لو سلم ذلك فلا دليل على كون الاستصحاب تعبدا بالعلم بالآثار الشرعية للمستصحب، وان كان منجِّزا لها ولو لأجل أن قيام الحجة على الموضوع مع العلم بكبرى الجعل يكون منجزا للنتيجة.
هذا و قد يذكر ايراد رابع وهو أنه حتى لو كان استصحاب طهارة الماء مثلا تعبدا بالعلم بطهارة الثوب، فمجرد ذلك لا يقتضي حكومته على استصحاب نجاسة الثوب، وان ادعي أن موضوعه الشك في طهارة الثوب واستصحاب طهارة الماء رافع لهذا الشك تعبدا، فلنا أن نقول: ان استصحاب طهارة الماء لغرض التعبد بطهارة الثوب ايضا يتقوم بالشك في طهارة الثوب، اذ لا معنى لاستصحابها مع العلم بعدم الآثار لها([5]).
وفيه أن المأخوذ في موضوع استصحاب طهارة الماء الشك فيها، وأما الشك في ثبوت آثارها فلم يؤخذ في موضوعه وانما خرج بالمقيد اللبي فرض العلم الوجداني بعد ثبوت اثر لها، فيأتي فيه ما مرّ قريبا من توجيه عدم حكومة الاستصحاب على الامارة وان قلنا بجعل العلمية فيهما.
ثم ان من الغريب ما قد يقال من عدم الجدوى للتعبد بالعلم بطهارة الماء، لاثبات موضوع طهارة الثوب المغسول به، بل لابد من التعبد بنفس طهارة الماء، واثباتها به يكون من الاصل المثبت عندهم، فانه يرد عليه أن من الواضح أن سياق التعبد بالعلم بطهارة الماء او غيرها كونه بغرض ترتيب الآثار الشرعية للواقع، والا لكان لغوا، واين هذا من الاصل المثبت، بمعنى التعبد باللوازم العقلية لمجرى الاصل، بل هو تعبد بما هو لازم عرفي لنفس الحكم الظاهري بكونه عالما بطهارة الماء وهو التعبد بآثارها الشرعية.
نعم يبقى دعوى اختصاص ادلة الاستصحاب بالموارد المنصوصة فيها التي لا يكون الغرض فيها الا التعبد بالامتثال، ولا يترتب عليه حكم شرعي كاستصحاب الوضوء وطهارة الثوب في الصلاة في الصحيحة الاولى والثانية لزرارة، ولكنه مطلب آخر، أجبنا عنه في البحث عن ادلة الاستصحاب، وكلامنا فعلا بعد الفراغ منه.
وان شئت قلت: ان مفاد قاعدة الفراغ والتجاوز التعبد بالعلم بالعمل الصحيح لا لغرض الورود على قاعدة الاشتغال فقط، بل لغرض ترتيب الآثار الشرعية للعمل الصحيح، كجواز مس كتابة القرآن او الدخول في المسجد بعد الوضوء والغسل، اذا شك في صحتهما بعد الفراغ منهما، او وجوب البناء على التمام بعد ما صلى المسافر صلاة رباعية مع نية الاقامة، ثم عدل عن نية الأقامة وشك في صحة صلاته لاحتمال خلل فيها.
الوجه الثالث: ما ذكره السيد الخوئي “قده” في المقام من أن الأحكام مجعولة بنحو القضايا الحقيقية، فإذا ثبت الموضوع بالوجدان أو بالأمارة أو بالأصل، يترتب عليه الحكم لا محالة، فإذا ثبت كون شيء خمراً و هو الصغرى، فتنضمّ إليه الكبرى المجعولة بنحو القضايا الحقيقية، و هي قولنا “الخمر حرام”، فتترتب النتيجة لا محالة، فإذا غسلنا ثوبا متنجساً بماء مستصحب الطهارة مثلا يحكم بطهارة الثوب، لأن الموضوع للحكم بطهارته غسله بماء طاهر، و قد ثبتت طهارة الماء بالتعبد، و الغسل به بالوجدان، فيترتب عليه الحكم بطهارة الثوب في مرحلة الظاهر، و إن احتملت نجاسته في الواقع.
و هذا هو مراد صاحب الكفاية من قوله “إن من آثار طهارة الماء طهارة الثوب المغسول به” إذ ليس مراده حصول الطهارة الواقعية للثوب المتنجس المغسول بماء مستصحب الطهارة كما هو ظاهر([6]).
وفيه أنه لم يبيَّن في هذا الكلام الا كيفية ترتب الحكم بطهارة الثوب في مرحلة الظاهر وهذا مما لا كلام فيه، انما الكلام في أنه لماذا لا يجري استصحاب نجاسة الثوب وعدم طهارته، فيعارض استصحاب بقاء طهارة الماء.
الوجه الرابع: ما عن السيد الخوئي “قده” ايضا من أن أصالة الطهارة في الماء -بلا فرق بين قاعدة الطهارة التي مفادها التعبد بالطهارة وبين استصحاب الطهارة الذي مفاده اعتبار العلم بالطهارة- بقرينة لغوية جعل ذات الطهارة في الماء دون آثارها تكون ناظرة إلى آثارها لترتيبها في كل مورد تجري فيه قاعدة الطهارة و من جملة هذه الآثار طهارة الثوب المغسول بذلك الماء فانه من آثار طهارة الماء فيكون دليل أصالة الطهارة حاكماً بملاك النّظر على استصحاب النجاسة في الثوب دون العكس([7]).
وفيه أنَّ دليل أصالة الطهارة ناظر إلى الأحكام الواقعية المترتبة على الطهارة، ومنها الطهارة الواقعية في الثوب المغسول بذاك الماء، فيكون حاكما عليها حكومة ظاهرية، و اين هذا من نظرها إلى الأحكام الظاهرية و منها استصحاب النجاسة في ذلك الثوب.
الوجه الخامس: ما ذكره السيد الامام “قده” من أن الاستصحاب السببي اي الجاري في الموضوع يكون حجة على تحقق صغرى كبرى الجعل الشرعي، واثبات المسبب اي الحكم الشرعي المترتب على ذلك الموضوع يكون بالتمسك بالأمارة الدالة على تلك الكبرى، فهذا راجع الى تقدم الأمارة على الاستصحاب([8]).
وفيه أننا كيف نثبت بالأمارة على كبرى الجعل تحقق الحكم الفعلي في موضوع مشكوك، فهل هي احسن حالا من العلم الوجداني بكبرى الجعل، فاثبات الحكم الفعلي في الموضوع المشكوك كطهارة الثوب المتنجس المغسول بماء مستصحب الطهارة ليس الا ثمرة الاصل الموضوعي.
الوجه السادس: ان المسبب الشرعي كنجاسة الماء لما كان مغيىً شرعا بعدم السبب الرافع له، اي بعدم غسله بالماء الطاهر فلا مجال لاستصحابه عرفا مع التعبد بالسبب الرافع له شرعا.
وهذا البيان وان كان عرفيا، ولكن لم يذكر فيه النكتة العرفية لتقدم الاصل السببي على الاستصحاب المسببي.
الوجه السابع: ما هو الصحيح من أن نكتة تقدم الاصل السببي على المسببي هي أن العرف حيث يرى رافعية السبب لعدم المسبب واقعا، فيحكِّم ذلك على الاصل الجاري فيهما، فيرى رافعية الاصل السببي للاصل النافي للمسبب، بعد أن كان صالحا لتنقيح حاله لكونه من آثاره الشرعية.
وهذا البيان لا يحتاج الى ما تكلف في البحوث من دعوى كون الاستصحاب مغروسا في ذهن العقلاء ولو بنحو الميل الى اجراءه في امورهم، من دون أن يصل الى حد الاحتجاج، بل يكفي المناسبة العرفية بنحو لو وجه اليه خطاب الاستصحاب مثلا فهم منه ذلك قياسا له الى الاصول العملية العقلائية، كاصالة الصحة في العقد لترتيب آثارها.
ولا يخفى أن هذه النكتة المذكورة في الوجه السابع، لا يختص بما لو كان الاصل المسببي هو الاستصحاب، بل تأتي في سائر الاصول العملية كقاعدة الفراغ، فلو تزوج بأختين في زمانين واحتمل وجود خلل في احدهما او كليهما فقاعدة الفراغ في الزواج الاول تجري كأصل سببي وتحكم بكون الزواج الثاني زواجا باخت الزوجة وكذا لو تزوج بأم وبنتها في زمان واحد وشك او علم بخلل في احدهما في حد ذاته، فان قاعدة الفراغ في الزواج بالبنت اصل سببي توجب الحكم بكون الزواج بأمها زواجا بام الزوجة وعنوان ام الزوجة من المحرمات الأبدية بمقتضى قوله تعالى “وامهات نسائكم” وليست كذلك قاعدة الفراغ في الزواج بالام، لأن العنوان المحرم هو بنت الزوجة المدخول بها.
وما ذكرناه لا ينافي وجود وجه آخر لجريان قاعدة الفراغ في العمل الاول بلا معارض، وهو فيما اذا كان العلم الاجمالي بالخلل في احد العملين يؤدي الى العلم التفصيلي ببطلان العمل الثاني، لكونه صحته مشروطة بصحة العمل الاول، كما اذا علم اجمالا بخلل إما في وضوءه او في صلاته فانه حيث يؤدي الى العلم التفصيلي ببطلان الصلاة فتجري قاعدة الفراغ في الوضوء بلا معارض.
ومن جهة أخرى لا يأتي هذا الوجه السابع في تعارض الأمارة على وجود السبب، مع الأمارة على عدم المسبب، كما اذا اخبر ثقة بطهارة الماء وأخبر ثقة آخر بنجاسة الثوب بعد غسله بذاك الماء، فان الأمارة على السبب لا تقدم على الأمارة على عدم المسبب، بعد ان كانت حجية الأمارة بملاك الكاشفية ولوازمها حجة، فتقع بينهما المعارضة.
هذا وقد ذكر في البحوث أن لتقديم قاعدة الطهارة في الماء على استصحاب نجاسة الثوب وجها آخر، وهو أنه لو لم يكن الملحوظ فيها ترتيب مثل هذا الأثر لم يكن وجه عرفي للعدول عن بيان جواز شرب الماء المشكوك الطهارة الى بيان كونه طاهرا بقول مطلق.
وفيه أنه ان تم فانما يتم في الخطاب المختص بقاعدة الطهارة في الماء وهو رواية حمّاد بن عثمان عن أبي عبد اللّه (عليه السلام) قال: الماء كلّه طاهر حتّى يعلم أنّه قذر([9])، لكنها ضعيفة سندا، وأما موثقة عمار فهي واردة في مطلق الشيء “كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر”.
ثم انه لا باس أن نذكر هنا مطلبا استطرادا، وهو أنه اذا كان الاصل السببي والمسببي متوافقين في النتيجة، فالمنسوب الى المشهور منع الاصل السببي عن جريان الاصل المسببي، فاذا شك المتوضئ في أنه هل نام أم لا، فاستصحاب عدم النوم يكون مقدما على استصحاب بقاء الطهارة، ولكنه مبني على كون نكتة تقديم الاصل السببي حكومة الاصل السببي على موضوع الاصل المسببي بالغاء الشك فيه تعبدا.
وفيه -مضافا الى عدم تمامية مبنى الحكومة كما تقدم وجهه آنفا- أن الظاهر من خطاب الاستصحاب كون موضوعه عدم اليقين بارتفاع الحالة السابقة، فالتعبد بالعلم ببقاء الحالة السابقة لا يكون رافعا لموضوعه ويشهد على ما ذكرناه أن الامام (عليه السلام) أجرى في الصحيحة الاولى والثانية الاستصحاب الحكمي اي استصحاب بقاء الوضوء واستصحاب بقاء الطهارة من الخبث، مع وجود اصل موضوعي، وهو استصحاب عدم النوم وعدم اصابة النجس، ودعوى عدم ظهور بيان الامام (عليه السلام) في البيان الاصولي الفني، وانما كان بصدد تفهيم الحكم ببيان مسامحي، لكونه اسهل واقرب الى فهم العرف، خلاف الظاهر جدا.
ثمرة تقديم الاصل السببي على الاصل المسببي الموافق
والثمرة التي يدعى ترتبها على تقديم الاصل السببي على الاصل المسببي الموافق، هي ما ذكره الشيخ الاعظم “قده” من جريان الاصل المسببي في احد طرفي العلم الاجمالي بعد تعارض الاصل السببي فيه مع الاصل في الطرف الآخر ، مثال ذلك: أن اصل الطهارة في الملاقي لبعض اطراف الشبهة اصل مسببي بالنسبة الى اصل الطهارة في الملاقى بالفتح، ولا تصل النوبة اليه الا بعد تساقط اصل الطهارة في الملاقى بالفتح واصل الطهارة في عدل الملاقى بالمعارضة في رتبة سابقة، فلا يكون اصل الطهارة في الملاقي بالكسر طرفا لمعارضة اصل الطهارة في عدم الملاقى.
فمع انكار طولية الاصل المسببي عن الاصل السببي الموافق له، يرتفع موضوع هذا البحث، حيث يكون الاصلان في رتبة واحدة، فيتعارضان مع اصل الطهارة في عدل الملاقى، ويتساقط الجميع، ولا يقاس بالرجوع الى الاصل الحكمي، مع كون الموضوع مبتلى بتوارد الحالتين، كما لو تعارض استصحاب كون ما غسل به الثوب المتنجس ماء مطلقا مع استصحاب كونه مضافا حيث يجري بعد ذلك استصحاب نجاسة الثوب، او كان مبتلى بتعاقب الحادثين كما لو شك في تقدم الفسخ على افتراق المتبايعين و تأخره عنه حيث يرجع -بعد معارضة استصحاب عدم افتراقهما الى زمان الفسخ مع استصحاب عدم الفسخ الى زمان افتراقهما- الى استصحاب بقاء ملكية كل منهما لما انتقل اليه، حيث لا يعقل المعارضة بين الاصل السببي والمسببي المخالف له.
هذا كله في ما لو كان المستصحب في أحدهما من الآثار الشرعية للآخر، و أما لو لم يكن المستصحب في أحدهما من الآثار الشرعية للآخر فتستقر المعارضة بين الاستصحابين في ما اذا أدّى جريانهما الى المناقضة في المؤدى كما في توارد الحالتين حيث يستحيل قيام المنجز والمعذر معا بالنسبة الى شيء واحد، او لزم من جريانهما الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف الفعلي المعلوم بالاجمال، كاستصحاب طهارة اناءين علم اجمالا بنجاسة احدهما، او لزم من جريانهما الترخيص القطعي في المخالفة الواقعية للتكليف المعلوم بالاجمال كما في استصحاب عدم حرمة ضدين يعلم اجمالا بحرمة احدهما.
الصورة الثانية:
ما اذا لم يلزم من جريان الاستصحابين في طرفي العلم الاجمالي الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالإجمال، ولا الترخيص القطعي في المخالفة الواقعية للتكليف المعلوم بالاجمال فالصحيح وفاقا لصاحب الكفاية عدم مانع من جريانهما معا، نظير استصحاب نجاسة اناءين علم اجمالا بحصول الطهارة لاحدهما، واثره الحكم بنجاسة ملاقي اي منهما.
لكن منع الشيخ الاعظم والمحقق النائيني “قدهما” من جريانهما، وان ذكر الشيخ في موضع من الرسائل أنه يجري استصحاب عدم الحلف على الوطء واستصحاب عدم الحلف على تركه في فرض العلم الاجمالي بأحدهما، كما يجري استصحاب طهارة البدن و بقاء الحدث لمن توضّأ غفلة بمائع مردّد بين الماء و البول([10]).
كما ذكر في موضع من المكاسب في ما لو علم اجمالا بتذكية احد الحيوانين وعدم تذكية الآخر أن الأصل في كلّ واحد من المشتبهين عدم التذكية، غاية الأمر العلم الإجمالي بتذكية أحدهما، و هو غير قادح في العمل بالأصلين([11]).
وكيف كان فمنشأ اشكال الشيخ هو المانع الاثباتي، وهو ابتلاء خطاب الاستصحاب بمعارضة الصدر والذيل، حيث ان صدره وهو “لاتنقض اليقين بالشك” يشمل كل واحد من طرفي العلم الاجمالي، لكنه يتعارض مع شمول ذيله وهو “و لكن انقضه بيقين آخر” للمعلوم بالاجمال المردد بين الطرفين، فمثلا لو علم بنجاسة اناء زيد المردد بين الاناءين فكل منهما مشمول للصدر، ولكن اناء زيد المردد بينهما مشمول للذيل، فتقع بينهما المعارضة من باب مناقضة السالبة الكلية مع الموجبة الجزئية.
وأما مدعى المحقق النائيني فهو المانع الثبوتي، اي عدم معقولية التعبد بالعلم على خلاف العلم الوجداني، فانه بعد علم المكلف بطهارة احد اناءين كيف يعتبره الشارع عالما بنجاسة كلا الاناءين.
ولكن الصحيح عدم تمامية أي من الاشكالين:
أما اشكال الشيخ الاعظم فالجواب عنه اولا: أن غايته كون ذلك موجبا لاجمال خطاب الاستصحاب المشتمل على الذيل، اي صحيحة زرارة الاولى، فلا يسري هذا الاجمال الى الخطابات التي لا تشتمل على هذا الذيل، كصحيحة زرارة الثانية.
وثانيا: ان الظاهر من الذيل كونه تأكيدا للنهي عن نقض اليقين بغير اليقين، لا الامر بنقض اليقين باليقين بحيث يكون له مفاد منافٍ لعموم النهي عن نقض اليقين بالشك.
وأما ما ورد في مصباح الاصول من كون الظاهر من اليقين في الذيل هو اليقين التفصيلي لظهور السياق في تعلق هذا اليقين بنفس ما تعلق به اليقين السابق، والمفروض تعلق اليقين السابق بالعنوان النفصيلي، فيكون الامر بنقض اليقين السابق بنجاسة هذين الاناءين باليقين اللاحق بطهارة احدهما خلاف الظاهر([12]).
ففيه أن مدعى الشيخ الاعظم أن اطلاق الذيل يدل على نقض اليقين السابق بنجاسة اناء زيد المردد بين الاناءين باليقين اللاحق بطهارته، ولذا عبَّر بمناقضة السالبة الكلية والموجبة الجزئية، والا فتقريب المصباح يكون من مناقضة السالبة الكلية والموجبة الكلية حيث انه لو كانت المعارضة ناشئة من اطلاق اليقين لليقين الاجمالي بالجامع فيتعارض مع اطلاق الشك الشامل للشك المقرون بالعلم الاجمالي فيكون مقتضى الذيل نقض كل واحد من اليقينين التفصيليين باليقين الاجمالي بالخلاف.
وأما اشكال المحقق النائيني فالجواب عنه -مضافا الى عدم تمامية مبنى كون الاستصحاب علما تعبديا بالبقاء، وانما هو نهي طريقي عن النقض العملي لليقين بالشك- أن العلم الاجمالي بطهارة احد الاناءين، ليس بمانع عقلا وعقلاءً عن اعتبار العلم بنجاسة هذا الاناء واعتبار العلم بنجاسة الاناء الآخر، بعد أن كان الغرض من هذا الاعتبار تنجيز آثار نجاسة هذا الاناء او ذاك الاناء، نعم لا يجري استصحاب واحد للتعبد بنجاستهما، للعلم بكون مفاده خلاف الواقع.
ويشهد على ما ذكرناه أنه التزم بجريان استصحاب الحدث والطهارة من الخبث فيما لو توضأ بمايع مردد بين كونه ماء او عين نجاسةٍ، كما التزم بأنه لو كان جنبا فصلى ثم شك في أنه هل اغتسل قبلها من الجنابة ام لا، فتجري قاعدة الفراغ بالنسبة الى الصلاة واستصحاب بقاء الجنابة بالنسبة الى الصلوات الآتية، مع أن قاعدة الفراغ ايضا كالاستصحاب من الاصول المحرزة.
وقد تعرض بنفسه لوجه الفرق بين جريان الاستصحاب في الفرع الاول وبين مثال استصحاب نجاسة الانائين فقال: ان الفرق بينهما اختلاف مؤدى الاستصحابين في الوضوء بالمايع المردد، واتحاده في استصحاب نجاسة الاناءين([13])، ولكنه مما لا يرجع الى محصل، فانه ان كان يجدي اختلاف مؤدى الاستصحابين فيقال بأن مفاد احدهما نجاسة هذا الاناء ومفاد الآخر نجاسة الاناء الآخر فمؤداهما ايضا مختلف.
هذا وقد حكي عن الشيخ الاعظم أنه ايضا التزم بجريان الاستصحاب في هذا المثال ولذا اورد عليه في مصباح الاصول بأنه لا يتطابق مع مبناه، لكن يمكن الدفاع عن الشيخ الاعظم بأن اشكاله كان ناشئا عن تطبيق قوله (عليه السلام) “ولكن انقضه بقين آخر” على اليقين السابق بنجاسة اناء زيد المردد بين الاناءين حيث حصل اليقين اللاحق بطهارته، وهذا لا يأتي عرفا في كل مورد من موارد العلم الاجمالي بمخالفة احد الاسنصحابين للواقع، كمثال الوضوء بالمايع المردد.
ثم ان صاحب الكفاية ذكر قسما آخر لتعارض الاستصحابين، وهو تنافيهما في مقام الامتثال كاستصحاب وجوب فعلين لا يتمكن من الجمع بينهما في زمان الاستصحاب، وبذلك يدخل في باب التزاحم([14]).
ولكن لا وجه لعدّ هذا القسم من اقسام التعارض، بل هو داخل في التزاحم، ولابد فيه من الرجوع الى مرجحات باب التزاحم، من تقديم الاهم ونحوه، وليس التزاحم بين فردين من حرمة نقض اليقين بالشك حتى يقال بأنهما من سنخ واحد، وليس فرد منها اهم من الفرد الآخر، بل التزاحم بين الوجوبين الواقعيين المتنجزين بالاستصحاب.
ولعل وجه عدّه هذا القسم من اقسام التعارض، أنه يرى امتناع الترتب، فيدخل خطابا المتزاحمين بلحاظ دلالتهما على الحكم الفعلي في كبرى التعارض، بعد عدم امكان اجتماعهما لانتهاءه الى التكليف بغير المقدور، نعم الفارق عنده بين التعارض والتزاحم أنه في التزاحم يحرز وجود الملاك في المتزاحمين، وانما لايمكن جعل الوجوب لهما معا.
كما أن المحقق العراقي “قده” وان كان يرى امكان الترتب، لكن يرى وقوع التعارض بين اطلاق المتزاحمين، فان قيِّد كلاهما او احدهما بعدم امتثال الآخر فيرتفع التعارض، فان الذي يستحيل هو بقاء الاطلاقين بحالهما، لاستلزامه التكليف بغير المقدور، ومع رفع اليد عن كلا الاطلاقين او احدهما يرتفع المحذور، وذكر ان الفارق بين التزاحم والتعارض المصطلح هو احراز الملاك في المتزاحمين([15])،
ولكن سيأتي في باب التعارض أن الفارق بين التعارض والتزاحم أن التعارض هو التكاذب بين الدليلين، لتنافي مدلوليهما في مقام الجعل، والتزاحم ليس من هذا القبيل، لعدم التنافي بين المتزاحمين في مقام جعل الوجوب، إما لامكان اجتماعهما عقلا وعقلاء وان لم يتنجزا معا، او لأجل أن وجوب أي فعلٍ مقيَّدٌ ولو بمقيد شرعي على نحو القضية الحقيقية بعدم صرف القدرة في امتثال واجب لايقل عنه اهمية، فمع صرف القدرة فيه ينكشف عدم وجوب ذلك الفعل.
نسبة الاستصحاب مع سائر الاصول العملية
وجه تقدم الاستصحاب على البراءة العقلیه
لا ريب في أن وجه تقدم استصحاب التكليف على البراءة العقلية هو الورود، فان موضوعها عدم البيان، و مع وصول حكم الشارع بلزوم البناء على الحالة السابقة للتكليف فيتحقق البيان، وقد مر أن البيان يشمل ابراز اهتمام المولى بالتكليف الواقعي المشكوك على تقدير وجوده، ولذا يكفي وصول الامر بالاحتياط في استحاق العقاب على مخالفة التكليف الواقعي المشكوك.
وقد ذكر بعض السادة الاعلام “دام ظله” ان البراءة العقلية تختص بموارد لا تكون فيها قوة احتمال التكليف او قوة المحتمل، وقوة الاحتمال اعم من التكوينية والتنزيلية، والاستصحاب حيث نزل فيه الشك في البقاء منزلة العلم فيكون من قوة الاحتمال التنزيلية، كما أن العقل حاكم بلزوم الاحتياط في موردين:
احدهما: العلم الاجمالي لأن احتمال التكليف المقرون بالعلم الاجمالي يكون بنظر العقلاء من قوة الاحتمال، نعم لو جرى في احد الطرفين استصحاب مثبت للتكليف، وفي الآخر استصحاب نافٍ له، فيوجب كون الطرف الاول ملحقا بالعلم بالتكليف، والطرف الآخر ملحقا بالعلم بالترخيص.
ثانيهما: مورد اهمية المحتمل، فيختلف الامر باختلاف مراتبها، فقد تكون بمرتبة شديدة من الاهمية بحيث لا يعمل العقلاء فيها بالحجج العقلائية، فلا يكون الاستصحاب حجة حينئذ وقد لا تكون بهذه المرتبة فيعمل فيها العقلاء بالحجج العقلائية ومنها الاستصحاب.
اقول: ان كان المراد من قوة الاحتمال الظن فما لم يكن معتبرا لا يمنع من جريان البراءة العقلية او العقلائية، كما أن المهم في البيان الرافع لحكم العقل بالعقاب ابراز المولى لاهتمامه بالواقع كما في امره بالاحتياط، فلا يهم صياغة مفاد الاستصحاب.
وما ذكره أخيرا فقد نقلناه في الكلام حول التفاصيل في الاستصحاب، وأشكلنا عليه، فراجع.
وأما البراءة الشرعية، فقد ذكر الشيخ الاعظم في وجه تقدم الاستصحاب عليها أن استصحاب الحرمة حاكم على الغاية، في قوله “كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي”، و اورد عليه المحقق النائيني بأن بيانه لا يأتي في حديث الرفع والحل، وما ذكره في محله.
وجوه تقدم الاستصحاب على حديث الرفع والحل
ولأجل ذلك نذكر الوجوه التي يقال لأجلها بتقدم الاستصحاب على حديث الرفع والحل، وهي عدة وجوه.
الوجه الاول: الورود
الوجه الاول:ما في الكفاية من وروده عليها، حيث ان موضوعها عدم العلم من جميع الجهات اي من جهة الحكم الواقعي والظاهري معا فمع العلم بالوظيفة الظاهرية من استصحاب التكليف يرتفع موضوع البراءة الشرعية وجدانا.
وفيه ما مر من أن حمل قوله “رفع ما لا يعلمون” او “ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم” على عدم العلم بالحكم الاعم من الحكم الظاهري والواقعي خلاف الظاهر، ولذا لا يكون دليل وجوب الاحتياط واردا عليه.
على انه يلزم من الجمع بين الورود الذي ذكره هنا مع الورود الذي ذكره في الاستصحاب من أن نقض اليقين السابق بسبب اليقين بالحكم الظاهري ليس من نقض اليقين بسبب الشك هو التوارد من كلا الطرفين.
الوجه الثاني: الحكومة
الوجه الثاني: الحكومة، وذلك بتقريبين:
1- دعوى المحقق النائيني والسيد الخوئي “قدهما” من أن مفاد دليل الاستصحاب اعتبار العلم بالبقاء بحيث يشمل الآثار الشرعية المترتبة على العلم ومنه البراءة المأخوذ في موضوعها عدم العلم بالتكليف، لكن هذا المبنى غير تام عندنا كما بيّناه سابقا.
2- دعوى المحقق العراقي “قده” من أن مفاد دليل الاستصحاب الامر بترتيب آثار اليقين، ونحن وان ناقشنا سابقا في هذا المبنى بلحاظ كونه بصدد ترتيب آثار القطع الموضوعي، لكن نقول في المقام ان مفاده ترتيب آثار القطع الطريقي المحض من المنجزية والمعذرية للواقع وهذا المقدار من الحكومة المضمونية كافٍ في حكومة دليل الاستصحاب على دليل البراءة.
وبذلك اتضح عدم جريان الوجه الذي ذكرناه سابقا لعدم قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي في المقام، حيث قلنا: ان نكتة الاستصحاب هو عدم جواز نقض اليقين بغير اليقين وهذه النكتة لا تجري بالنسبة الى آثار القطع الموضوعي لكون رفع اليد عنها بعد زوال القطع من نقض اليقين باليقين، مضافا الى انه حتى لو ورد النهي عن نقض اليقين بالشك في مورد خاص كالوضوء، فقيل “لاتنقض اليقين بالوضوء بالشك” فمع ذلك لا يظهر منه اكثر من لزوم ترتيب آثار المتيقن، بعد أن كان اليقين حين النهي عن نقضه او الامر بالبناء عليه ملحوظا عرفا بما هو مقتضٍ للجري العملي ومحرك نحو متعلقه.
كما تبين الاشكال في الوجوه التي استدل بها في البحوث لنفي حكومة الاستصحاب على البراءة:
احدها: انه قد مر سابقا أن النقض ضد الإبرام و مصحح اسناده إلى اليقين التفاف اليقين و شدة تعلقه بالمتيقن، و هذه العلاقة انما تكون بلحاظ الآثار الطريقية لليقين، لأنّ الإبرام العملي لليقين بمتيقّنه إنّما يكون باعتبار اقتضائه للعمل بمتيقّنه، لا باعتبار ما لليقين من أثر شرعي.
ثانيها: حتى لو كان النقض بمعنى رفع اليد، فالظاهر أن اسناد النقض العملي إلى اليقين انما يكون بلحاظ ما يقتضيه من التنجيز و التعذير أي الآثار الطريقية لا بلحاظ ما قد يقع اليقين موضوعا له من الآثار الشرعية، لأن ما يقتضي الجري العملي ليس هو ذات الموضوع للحكم الشرعي و انما هو إحرازه و اليقين به، و لهذا لا يناسب ان يقال لا تنقض الماء بالتغير او لا ترفع اليد عن الماء بالتغير، بمعنى لا ترفع اليد عن أحكامه و آثاره، و السرّ في عدم شمول النقض العملي لرفع اليد عن الآثار الشرعية هو: أنّ موضوع الحكم ليس مقتضياً للعمل على طبق الحكم حتّى يكون عدم العمل به رفعاً عملياً له، فإنّ اقتضاء شيء للجري العملي إمّا عبارة عن الاقتضاء العقلي له، و هو منحصر في مسألة التنجيز و التعذير، فاليقين يقتضي عقلًا جري العمل وفق متعلقه بالتنجيز و التعذير، و إمّا عبارة عن الاقتضاء التشريعي له، و هذا الاقتضاء إنّما يكون لنفس الحكم و التشريع لا لموضوعه، فالحكم له اقتضاء تشريعي ذاتاً و مباشرةً للعمل بمتعلّقه، و إسناد الاقتضاء إلى موضوعه يكون بشيء من المسامحة الواضحة التي لا تصحّح إسناد النقض العملي إليه.
و كون اليقين الواقع موضوعا لأثر شرعي مستلزما لإحراز ذلك الأثر، لكون اليقين باليقين عين اليقين نفسه لا يصحح اسناد النقض إلى اليقين بما هو موضوع لأثر شرعي بل بما هو طريق، فإنّ ما ذكر من الفرق بين اليقين و غيره ليس شيئاً عرفياً يعتمد عليه العرف، و يصحّح بذلك إسناد النقض العملي إلى اليقين باعتبار أحكامه الشرعية.
ثالثها: انه قد يقال ان استفادة جعل العلمية للاستصحاب مستحيل ثبوتا، لأن الشك قد أخذ موضوعا لهذا الجعل في لسان دليل الاستصحاب، ولابد من أن ينظر الى الموضوع مفروغا عنه، و هذا يتهافت مع كون النظر إلى إلغاءه و جعله علما([16]).
فانه ان تمت هذه الوجوه فانما تتم في القطع المأخوذ موضوعا لأحكام نفسية كجواز الاخبار، لا مثل المقام، على أنه يرد على الوجه الاول أن صدق النقض ظاهر في كونه بلحاظ ما يتصور فيه من ابرام واستحكام، والا فلوكان وجهه التفاف اليقين بمتعلقه صح أن يقال مثلا “انتقض اليقين عن الوضوء” او ينهي عن نقضه عن الوضوء، مع انه غير صحيح عرفا، مضافا الى أن متعلق النقض هو مجموع الشيء المفتول كالحبل، فلا يقال نقضت طرف الحبل اذا حله عن الطرف الآخر.
كما يرد على الوجه الثاني أنه لا محذور في اسناد النقض الى بعض الموضوعات كالوضوء والصلاة، لما يرى فيها تصورا من الابرام كأنه حبل فتل بعض اجزاءها ببعض او فقل فتل بقاءها بحدوثها، واليقين من هذا القبيل.
ويرد على الوجه الثالث، أنه لا استحالة في اخذ الشك الوجداني موضوعا لالغاءه تعبدا، كما هو مختاره في مفاد قاعدة التجاوز “اذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشككت فشكك ليس بشيء” ولذا جعله حاكما على قاعدة الشك في الركعات كما لو شك في التشهد الاول أنه في الركعة الاولى او الثانية، نعم الانصاف أنه خلاف الظاهر فلا يصار اليه الا بقرينة واضحة.
الوجه الثالث: ما هو الصحيح
الوجه الثالث: ما هو الصحيح من أنه حيث يكون تقديم البراءة على الاستصحاب المثبت للتكليف موجبا للغوية دليل الاستصحاب عرفا، فيصير دليل الاستصحاب كالنص في شموله لمورد الاستصحاب المثبت للتكليف، ومنشأ اللغوية أنه لو كان الشك في التكليف مجرى للبراءة سواء كانت الحالة السابقة هي عدم التكليف او وجود التكليف او لم يعلم الحالة السابقة فيلغو التركيز على اليقين بالحالة السابقة في روايات الاستصحاب.
ومن ذلك تبين الخلل فيما قد يقال من أن النسبة لما كانت بين الاستصحاب والبراءة هي العموم من وجه، فيتعارضان في مورد الاجتماع، وهو مورد سبق العلم بالتكليف، وليس مورد افتراق الاستصحاب نادرا، لجريانه في استصحاب الاستحباب والكراهة واستصحاب عدم التكليف، مضافا الى المنع من كون ندرة مورد الافتراق لاحد العامين من وجه موجبة لتقدمه على الآخر عرفا.
الوجه الرابع: دلالة الاستصحاب بالعموم الوضعي لأجل اشتماله على كلمة “ابدا” فيقدم على اطلاق دليل البراءة.
الوجه الرابع: ما يقال من أن النسبة بين دليل الاستصحاب ودليل البراءة وان فرض كونها العموم من وجه، لكن حيث ان دلالة الاستصحاب بالعموم الوضعي لأجل اشتماله على كلمة “ابدا” فيقدم على اطلاق دليل البراءة.
وفيه -مضافا الى ما سيأتي ان شاء الله من المنع عن كبرى تقدم العام الوضعي على المطلق- ان كلمة “ابدا” لا تدل على استيعاب الاستصحاب لجميع الموارد، وانما تدل على استمرار النهي عن نقض اليقين بالشك في مورد جريانه، فيكون كقوله تعالى “انّا لن ندخلها ابدا ماداموا فيها”.
ثم انه قد يقال في المنع من تقدم استصحاب الحرمة على قاعدة الحل بأن مدلول الاستصحاب ثابت بنحو الاطلاق لا العموم، فان كلمة “ابدا” في دليل الاستصحاب ظاهرة في العموم الأزماني لا الافرادي، ولكن قاعدة الحل ثابتة بنحو العموم الوضعي “كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام” ولا مانع من الالتزام بعدم جريان الاستصحاب المثبت للحرمة، بخلاف الاستصحاب النفي لها.
وفيه اولا: ان دلالة حديث الحل على الحلية الظاهرية لكل شيء وان كانت بنحو العموم الوضعي، لكن بلحاظ حالات الشيء من حيث اليقين السابق بحرمته وعدمه تكون بالاطلاق.
وثانيا: ان شمول دليل الاستصحاب لحرمة الشيء بالاصل الموضوعي كاستصحاب عدم التذكية او الاصل الحكمي يجعله داخلا في قسم الحرام عرفا، وقد ورد في حديث الحل “كل شيئ فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه” فيكون واردا عليه.
وبما ذكرناه ظهرت الخدشة فيما قد يقال من أنه على مبنى الشيخ الاعظم “قده” من كون مفاد كل من الاستصحاب وقاعدة الحل جعل الحكم المماثل فلا وجه لتقدم الاستصحاب مخدوش.
ثم ان هناك بحث مهم في النسبة بين البراءة الجارية عن التكليف الزائد في دوران الامر بين الاقل والأكثر الارتباطي ودوران الامر بين التعيين والتخيير وبين استصحاب بقاء التكليف المغيى بالاتيان بمتعلق ذاك الأمر، مثال ذلك ما اذا تردد الامر في غسل الجنابة بين تعلقه بالغسل اللابشرط من الترتيب بين الجانب الأيمن والجانب الأيسر او الغسل المشروط بالترتيب بينهما، فالبراءة عن الأمر بالغسل المشروط بالترتيب وان كانت تجري في حد ذاتها، لكن اذا اكتفى بالغسل الفاقد للترتيب، فيوجد في قبالها استصحاب بقاء الجنابة ومحرمات الجنب، كحرمة الدخول في المسجد، بناءً على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية، فقد يقال بأنه حيث لا تثبت البراءة عن الأمر بغسل الجنابة المشروط بالترتيب ثبوت الامر بالغسل اللا بشرط، وأنه هو الموضوع لارتفاع الجنابة، فلا تكون حاكمة على استصحاب بقاء الجنابة، فيجري هذا الاستصحاب لاثبات بقاء حرمة محرمات الجنب عليه، وهذا ما يظهر من السيد الصدر “قده” في بحوثه في الفقه التزامه بذلك([17]).
وهكذا لو اكتفى في نسك الحج او العمرة بالعمل الفاقد للجزء او الشرط المشكوك، كما لو طاف خارج مقام ابراهيم استنادا الى اصل البراءة، ونظيره كل عمل يتوقف خروجه عن الاحرام على اتيانه به صحيحا كالسعي والذبح والحلق والتقصير، فحيث يشك حينئذ في خروجه عن الإحرام بذلك، فبناء على مسلك المشهور من جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية فيجري استصحاب بقاءه في الإحرام او استصحاب بقاء محرمات الإحرام عليه.
وجوه لتقديم البراءة على الاستصحاب
ولكن توجد ثلاثة بيانات لتقديم البراءة على الاستصحاب:
الاول: البراءة واردة على موضوع استصحاب
اولها: ما يقال من أن ارتفاع الجنابة او الاحرام من آثار صحة العمل الاعم من الصحة الواقعية والظاهرية، فتكون البراءة واردة على موضوع استصحاب بقاء الجنابة والاحرام.
ولكنه خلاف الظاهر، فان العناوين ظاهرة في وجوداتها الواقعية، كما ذكره كثير من الاعلام في دليل شرطية الطهارة الحدثية والخبثية في الصلاة، من أن ظاهره شرطية الطهارة الواقعية، ولذا لو توضأ بماء نجس واقعي اعتمادا على اصل الطهارة ثم تبين الخلاف وجبتت اعادة الصلاة والطواف وحكم ببقاء احرامه، ولذا لا يحتمل فقهيا ارتفاع الجنابة واقعا بالغسل الباطل واقعا وان كان محكوما بالصحة ظاهرا.
الثانی
ثانيها: ما يقال من أنه بناء على ما هو الصحيح من كون التقابل بين الاطلاق والتقييد الثبوتيين تقابل السلب والإيجاب فاستصحاب عدم تقييد موضوع الجعل يكون بنفسه مثبتا للاطلاق وأن الأقل لابشرط هو المتعلق والموضوع للحكم، واستصحاب عدم التقييد اي عدم أخذ القيد الزائد في موضوع الحكم او متعلقه استصحاب بالعدم المحمولي وليس من الاستصحاب بالعدم الأزلي كي يناقش فيه من لايرى جريان هذا الاستصحاب، حيث أن استصحاب العدم الأزلي يكون من السالبة بانتفاء الموضوع، والموضوع في القضية المستصحبة في المقام ليس هو الجعل، حتى يكون استصحاب عدم تقييده من السالبة بانتفاء الموضوع، وانما الموضوع في القضية المستصحبة هو الشارع، فيقال ان الشارع لميأخذ هذا القيد الزائد في الجعل، ولاتكون هذه القضية من السالبة بانتفاء الموضوع.
وهكذا بناء على مسلك المحقق النائيني “قده” من كون التقابل بينهما تقابل العدم والملكة، حيث يكون الاطلاق هو عدم التقييد في محل قابل له، فانه يجري استصحاب عدم التقييد فيضم الى احراز قابلية المحل للتقييد بالوجدان فيثبت بذلك واقع الاطلاق، ولايهمّنا عنوان الاطلاق كي يناقش فيه بان استصحاب العدم بضمّ احراز قابلية المحل لايثبت عنوان عدم الملكة فلايثبت عنوان العمى باستصحاب عدم البصر للمولود بضم احراز قابليته للبصر فعلا، فان الأثر لايترتب في المقام على عنوان الاطلاق بل على واقعه، وحينئذ فيرتفع الاشكال عن الأمثلة التي ذكرت سابقا.
نعم بناء على مسلك من يرى كالسيد الخوئي”قده” كون التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل التضاد حيث يرى تقوم الاطلاق بلحاظ عدم التقيد فيكون اثبات الاطلاق باستصحاب عدم التقييد من الاصل المثبت، لانه من اثبات احد الضدين باستصحاب عدم الضد الآخر، على انه يكون معارضا باستصحاب عدم الاطلاق، ولكن هذا المبنى غير تام، كما بيِّن في محله.
وفيه أن الظاهر أنه بناء على كون التقابل بين الاطلاق والتقييد تقابل السلب والايجاب او تقابل العدم والملكة ايضا يكون اثبات الاطلاق باستصحاب عدم التقييد من الاصل المثبت، ولو لأجل ان العرف يرى أن النسبة بين الاطلاق والتقييد نسبة التباين لا الأقل والاكثر وان فرض كون النسبة بينهما الاقل والاكثر بالنظر العقلى.
والا فلازم ذلك أن يلتزم بانه كلما دار الأمر بين كون المطلق موضوعا لحكم او كون المقيد موضوعا له فباستصحاب عدم اخذ القيد في موضوع الجعل يثبت الاطلاق، كما لو علم بنجاسة الدم ولكن لميعلم هل الموضوع للنجاسة هو مطلق الدم او الدم الأحمر، فاستصحاب عدم التقييد بالأحمر يثبت كون الدم تمام الموضوع للحكم بالنجاسة، فيحكم بنجاسة الدم الأصفر أيضا، وهكذا لو لميعلم انه هل أوجب المولى اكرام العالم او اكرام العالم العادل فلازم ذلك ان يثبت باستصحاب عدم التقييد وجوب اكرام العالم، لان استصحاب عدم التقييد يثبت كون المطلق هو الموضوع للحكم فيترتب عليه جميع الآثار.
الثالث
ثالثها: ما حاولنا في بحث البراءة من الجواب عن هذه الشبهة بأن الغفلة النوعية عن هذه التدقيقات تساعد على انعقاد الاطلاق المقامي لأدلة الأصول العملية، حيث ان البراءة لما أثبتت الصحة الظاهرية للعمل الفاقد للجزء المشكوك ورخّصت في الاكتفاء به في مقام الامتثال فيرتب عليه العرف آثار الصحة الواقعية، من إباحة دخول المسجد بذاك الغسل والتحلل من الاحرام بعد الطواف او السعي الفاقدين للشرط المشكوك، واباحة مس الكتاب بالوضوء الفاقد للشرط المشكوك، فلو صلى رباعية مع هذا الوضوء ثم عدل عن نية الإقامة وجب عليه البناء على التمام في الآتية وهكذا، ولعله لأجل ذلك لميستشكل الفقهاء في ترتيب آثار الصحة الواقعية على الأقل في جميع موارد دوران الأمر بين الأقل والأكثر الارتباطيين.
هذا كله في نسبة الاستصحاب مع البراءة، وقد اتضح تقديم استصحاب التكليف على البراءة عن التكليف.
تقديم استصحاب النجاسة على عموم قاعدة الطهارة
أما تقديم استصحاب النجاسة على عموم قاعدة الطهارة فلعدة وجوه:
الوجه الاول:
ما يقال من أنه حيث يحتمل كون كلمة “قذر” في قوله “كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر” بصيغة الفعل الماضي لا الصفة المشبهة فلا يعلم باطلاقه لفرض سبق العلم بالنجاسة، فموضوع قاعدة الطهارة كل شيء لم يعلم بحدوث النجاسة الواقعية له في زمانٍ مع احتمال بقاءها.
وقد يجاب عنه باجوبة مختلفة:
1- ما يقال من أن ظاهر المقابلة بين كلمة “نظيف” قبله، وبين كلمة “قذر” كون الثاني ايضا صفة مشبهة.
وفيه هذا القياس ليس باولى من القياس الى كلمة “قذر” في قوله “فاذا علمت فقد قذر” ولا ريب في كونها من الفعل الماضي.
2- ما قيل من أنه حتى لو صارت هذه الفقرة من موثقة عمار مجملة، فيكفي في عموم قاعدة الطهارة فقرة أخرى من الموثقة، حيث ورد فيها “وسئل عن ماء شربت منه الدجاجة قال إن كان في منقارها قذر لم تتوضأ منه و لم تشرب و إن لم تعلم أن في منقارها قذرا توضأ و اشرب([18])، وحيث لا خصوصية لمنقار الدجاجة فيستفاد منها عموم قاعدة الطهارة.
وفيه أن الكلام في عموم القاعدة لموارد اليقين بسبق النجاسة، ولا اطلاق لهذه الفقرة بالنسبة الى هذا الفرض.
3- ما قيل من أن المشهور في السنة الفقهاء لما كان هو قراءة هذه الكلمة بصيغة الصفة المشبهة فيطمأن بوصولها اليهم من طريق السماع عن الرواة مشافهة.
وفيه أنه لا شاهد عليه، فلعلها وصلت اليهم من طريق الكتابة وتعارف قراءتها بنو الصفة المشبهة للأنس الذهني.
4- ما يقال من أنه حتى لو كانت بصيغة الفعل الماضي كان ظاهرها العلم بأنه صار قذرا بالفعل، ويشهد له عدم شمول الغاية لما علم بتطهيره بعد ما حدثت له القذارة.
وفيه أن انصرافه عن فرض العلم بالتطهير بعد حدوث القذارة لا يستلزم انصرافه الى العلم بالقذارة الفعلية، فهو نظير ما لو ورد “لا بأس بأن تخطب امرأة حتى تعلم بأنها تزوجت” فالغاية تشمل الشك في الطلاق.
الوجه الثاني:
ما يقال من أن خطاب الاستصحاب بناء على كونه تعبدا بالعلم بالبقاء حاكم على موضوع قاعدة الطهارة، سواء كان المأخوذ في موضوعها بقرينة “حتى تعلم أنه قذر” عدم العلم بالقذارة او الشك فيها، وسواء كان مفاد قاعدة الطهارة اعتبار الطهارة في الفرد المشكوك او تنزيل مشكوك الطهارة منزلة الطاهر الواقعي في احكامه،
هذا وكان شيخنا الاستاذ “قده” يقول بأن دليل التعبد بطهارة مشكوك الطهارة يحقق العلم بالطهارة بالوجدان، وحينئذ فقد يورد عليه بأن لازمه ورود قاعدة الطهارة على موضوع استصحاب النجاسة، وهو الشك في بقاءها، وأما الاستصحاب فغايته كونه حاكما على موضوع قاعدة الطهارة بالغاء الشك تعبدا، والوارد مقدم على الحاكم، لكونه رافعا للموضوع وجدانا، فلا يبقى مجال للتعبد ولو بنحو الحكومة، ولا أقل من معارضتهما، مع أنه يرى حكومة الاستصحاب على قاعدة الطهارة.
ويندفع هذا الايراد بأن استصحاب النجاسة على مسلكه يعني اعتبار بقاء اليقين بالنجاسة، فيكون حاكما على موضوع قاعدة الطهارة، وهو الشك في النجاسة، فيمنع عن المدلو المطابقي لدليل قاعدة الطهارة وهو التعبد بالطهارة، فلا يتحقق يقين بالطهارة، كي يكون واردا علي موضوع الاستصحاب، وأما خطاب قاعدة الطهارة فلا يتضمن مدلوله الغاء موضوع الاستصحاب.
الا أن اصل مبناه “قده” غير متجه، فان التعبد بالطهارة الظاهرية لا يوجب الا العلم بالطهارة الظاهرية فلا يبثت موضوع الاحكام وهو العلم بالطهارة الواقعية.
الوجه الثالث:
حيث يكون تقديم قاعدة الطهارة على استصحاب النجاسة موجبا للغوية دليل الاستصحاب عرفا، فيكون دليل الاستصحاب كالنص في جريانه، ومنشأ اللغوية أنه لو كان الثوب محكوما بالطهارة الظاهرية ولو مع اليقين السابق بالنجاسة فكان يلغو حينئذ التركيز على اليقين السابق بالطهارة في صحيحة زرارة حيث علل الامام (عليه السلام) الحكم بعدم اعادة الصلاة لمن شك في نجاسة ثوبه فصلى ثم وجد فيه النجاسة بأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك أن تنقض اليقين بالشك”.
ثم انه اختار جماعة منهم السيد الخوئي “قده” تقدم استصحاب الطهارة على قاعدة الطهارة، لكونه حاكما عليه بعد أن كان مفاده العلم بالطهارة فيرفع موضوع القاعدة.
وفيه -مضافا الى أنه مبنيّ على مسلك جعل العلمية في الاستصحاب، ولا نقول به- ان المأخوذ في موضوع القاعدة بقرينة التقابل مع قوله “حتى تعلم أنه قذر” عدم العلم بالنجاسة، والتعبد بالعلم بالطهارة لا يرفع هذا الموضوع، نعم المقيد اللبي اخرج العلم الوجداني بالطهارة، لعدم امكان جعل الحكم الظاهري مع العلم الوجداني بالواقع لكن المقيد اللبي لا يكشف عن كون عنوان القيد هو عدم العلم بالطهارة، فلعله عدم العلم الوجداني بها او عنوان آخر كعنوان امكان جعل الحكم الظاهري، ومن الواضح عدم حكومة التعبد بالعلم بالطهارة عليه كما مر نظيره سابقا، وما ذكرناه من عدم اخذ الشك في الطهارة في موضوع القاعدة لا ينافي ما نستظهره من مناسبات الحكم والموضوع من اختصاصها كأي حكم ظاهري آخر بالملتفت دون الغافل، فانه غير اخذ عنوان الشك المنافي للعلم بالوجود او العدم.
وقد يذكر اشكال آخر على حكومة استصحاب الطهارة على قاعدتها، وهو أنه يوجب اختصاصها بالفرد النادر وهو مورد توارد الحالتين، والجواب عنه بأن مفاد موثقة عمار جامع الطهارة الظاهرية، فلا ينافي أن تكون نكتتها الثبوتية استصحاب الطهارة في غير مورد توارد الحالتين، غير متجه، لأن ظاهر الموثقة كون نكتتها عدم العلم بالنجاسة لا سبق اليقين بالطهارة.
تقديم قواعد فقهية أخرى كقاعدة الفراغ على الاستصحاب
وأما الاستصحاب مع قواعد فقهية أخرى كقاعدة الفراغ و التجاوز واصالة الصحة والقرعة فلا اشكال في تقدمها على الاستصحاب، لأن هذه القواعد اخص عرفا منه، لثبوت الاستصحاب المخالف لها في مواردها عادة بحيث لا يمكن تخصيصها بغير ذلك، بل قد وردت جملة منها في مورد الاستصحاب المخالف فيكون دليلها كالنص في تخصيص حكم الاستصحاب.
وقد يقال بحكومة مثل قاعدة الفراغ والتجاوز على الاستصحاب، ان لم نقبل كون مفاد الاستصحاب اعتبار العلم بالبقاء ولكن ادعينا كون مفاد دليل قاعدة الفراغ والتجاوز الغاء الشك.
ويمكن أن نقول بورود القاعدة على الاستصحاب، لعدم كون نقض اليقين بعد جريان القاعدة من نقض اليقين بسبب الشك، بل بسبب التعبد بقاعدة الفراغ، وأما ما في صدر الصحيحة الاولى لزرارة من قوله “لا حتى يستيقن أنه نام” حيث نفى وجوب الوضوء عند الشك في النوم مطلقا فلا علاقة له لمورد قاعدة الفراغ والتجاوز كما هو واضح.
هذا ولا فرق في تقدم هذه القواعد على الاستصحاب بين كون الاستصحاب جاريا في السبب او في نفس المشكوك الذي جرى فيه تلك القواعد، مثلا لو عقد على امراة، ثم شك في انقضاء عدتها حال العقد، فاستصحاب بقاء العدة اصل سببي، ولكن قاعدة الفراغ في العقد تقدم عليه لأن اطلاق الخطاب الخاصّ مقدم على عموم العام، كما أنه لو قلنا بالورود فاطلاق الدليل الوارد رافع لموضوع الدليل المورود.
ثم ان نتيجة الاخصية العرفية لدليل هذه القواعد على الاستصحاب او ورودها عليه، تقديمها عليه في موارد الاختلاف في النتيجة دون اتحادهما فيها، كما في استصحاب الوضوء بعد الصلاة فانه موافق لقاعدة الفراغ.
كما أن نتيجة اخصية قاعدة الفراغ مثلا من الاستصحاب او ورودها هو تقدمها عليه في مورد التعارض بالذات لا مورد التعارض بالعرض، ولنوضح ذلك في ضمن مثال:
وهو أنه لو كان جنبا فصلّى ثم شكّ في انه هل اغتسل من الجنابة ام لا، فانه لو احدث بالأصغر فيعلم اجمالا بوجوب اعادة الصلاة السابقة او وجوب الوضوء للصلاة الآتية، فقاعدة الفراغ تتعارض مع استصحاب بقاء الجنابة بلحاظ انه أصل موضوعي ينفي الحاجة الى الوضوء، وكون دليل قاعدة الفراغ اخص من دليل الاستصحاب عرفا، لايوجب تقدمها على استصحاب بقاء الجنابة بلحاظ نفيه لوجوب الوضوء للصلاة الآتية، حيث ان التعارض بينهما ليس بالذات وانما هو بالعرض بمقتضى العلم الإجمالي ببطلان احدى الصلاتين في الفرض المذكور، والعرف لايقدم في مثله اطلاق الدليل الخاص على عموم الدليل العام الا في مدلوله المطابقي الذي يكون التعارض فيه بالذات، فان تقديم الخاص على العام اما بنكتة الاظهرية او بنكتة القرينية النوعية، وكلتاهما مفقودتان في المقام، كما أنه لا يتم ورود قاعدة الفراغ الجارية في احد طرفي العلم الاجمالي على الاستصحاب الجاري في الطرف الآخر.
هذا تمام الكلام في الاستصحاب، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
20 / شعبان المعظم/ 1438
محمد تقي الشهيدي