فهرست مطالب

فهرست مطالب


تقریرات دروس خارج مدرسه فقهی امام محمد باقر علیه السلام

 

 

التنبيه الثامن: في الاصل المثبت.. 3

کلام الشیخ ره فی وجه عدم حجية مثبتات الاستصحاب.. 4

وجوه الفرق بین الامارات و الاصول من حيث حجية مثبتات الامارات فی الامارات دون الاصول. 4

الوجه الاول: ما ذكره صاحب الكفاية. 5

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني “ره”.. 6

امتياز الأمارة عن الاصل حكما 6

اربعه جهات للعلم. 7

ملاحظات فی في كلام المحقق النائيني.. 8

الوجه الثالث: ما في البحوث.. 10

مناقشه. 11

الوجه الرابع: ما اختاره السيد الخوئي “قده”.. 12

الوجه الصحیح: الفارق بين الأمارات والاصول هو سيرة العقلاء الكاشفة عن عدم خصوصية للمدلول المطابقي للأمارات العقلائية. 12

کلام السيد اليزدي “ره”.. 13

مناقشه. 13

قصور الدليل عن افادة حجية المثبتات.. 15

کلام المحقق الايرواني “قده” و المناقشه فیها 15

كيفية اثبات الاصل للاثر الشرعي غير المباشر. 18

وجوه الفرق بين الاثر الشرعي غير المباشر والاثر الشرعي الثابت للّازم العقلي للمستصحب.. 18

الوجه الاول: 18

الوجه الثاني: 19

الوجه الثالث: 19

الوجه الرابع: 19

الوجه الخامس: 21

الوجه السادس: 22

الوجه السابع: 23

الصحیح هو الوجه الثانی.. 23

اشكال المعارضة في حجية الاصل المثبت.. 23

جواب الشيخ الاعظم “قده” عن اشكال المعارضة. 25

کلام المحقق العراقي “قده”.. 25

خفاء الواسطة وجلاءها. 29

خفاء الواسطة. 30

اشکال علی جريان الاستصحاب مع خفاء الواسطة. 31

بیان اربعه فروض فی البحوث.. 31

کلام السيد الامام “قده”.. 33

محل النزاع في بحث خفاء الواسطة. 35

الانصاف أن القول بكفاية خفاء الواسطة مشكل جدا 36

جلاء الواسطة. 37

کلام صاحب الكفاية فی حجية الأصل المثبت في جلاء الواسطة. 37

مناقشه المحقق الأصفهاني “قده”.. 38

کلام السيد الخوئي “قده”.. 39

فروع فقهية نسب الى الاصحاب التمسك فيها بالاصل المثبت.. 42

الفرع الأول: ما إذا لاقى شي‏ء نجساً، و كان الملاقي أو الملاقى رطباً قبل الملاقاة، فشككنا في بقاء الرطوبة الى حين الملاقاة. 43

الفرع الثاني: ما إذا شك في يومٍ أنه آخر شهر رمضان، أو أنه أول شهر شوال... 47

الفرع الثالث: ما إذا شك في وجود الحاجب حين صبّ الماء لتحصيل الطهارة من الحدث أو الخبث.. 50

الفرع الرابع: ما إذا وقع الاختلاف بين الجاني و ولي الميت، فادعى الولي موته بالسراية، و ادعى الجاني موته بسبب آخر. 51

الفرع الخامس: ما إذا تلف مال شخص تحت يد شخص آخر... 53

الفرع السادس: ما اذا شك في انطباق العنوان الموقوف عليه على فرد... 55

مناقشه فی صحة جريان الاستصحاب لترتيب الحكم الشرعي المجعول بالتبع. 59

 

موضوع: هشتم – اصل مثبت /تنبیهات /استصحاب

خلاصه مباحث گذشته:

متن خلاصه …

 

 

التنبيه الثامن: في الاصل المثبت

المشهور هو اختصاص حجية الاستصحاب بالأثر الشرعي المترتب على المستصحب بلا واسطة او بواسطة اثر شرعي آخر، فلو كان الاثر الشرعي مترتبا على اللازم التكويني للمستصحب، كتحقق الطهارة حيث يترتب على غسل البشرة في الوضوء والغسل، فاذا شك في وجود حاجب في مواضع الوضوء والغسل فتحقق غسل البشرة يكون لازما تكوينيا لعدم الحاجب، وحيث ان الحالة السابقة لنفس غسل البشرة عدمية فاحتيج الى اثبات غسل البشرة باستصحاب عدم الحاجب، الا أنه اعترض عليه بكونه من الاصل المثبت ومثبتات الاصول ليست حجة بخلاف الأمارات، وقد صار ذلك منشأ للبحث العام حول حجية مثبتات الأمارات والاصول، وهذا بحث مهم جدا وله دور كبير في الفقه.

کلام الشیخ ره فی وجه عدم حجية مثبتات الاستصحاب

وقد ذكر الشيخ الاعظم “قده” في وجه عدم حجية مثبتات الاستصحاب أن معنى عدم نقض اليقين و المضي عليه هو ترتيب آثار اليقين السابق الثابتة بواسطته للمتيقن، وتنزيل الشارع المشكوك منزلة المتيقن كسائر التنزيلات إنما يفيد ترتيب الأحكام و الآثار الشرعية المحمولة على المتيقن السابق، فلا دلالة فيها على جعل غيرها من الآثار العقلية و العادية، لعدم قابليتها للجعل، و لا على جعل الآثار الشرعية المترتبة على تلك الآثار، لأنها ليست آثار نفس المتيقن و لم يقع ذوها موردا لتنزيل الشارع حتى تترتب هي عليه.

فإن قلت: الظاهر من الأخبار وجوب أن يعمل الشاك عمل المتيقن بأن يفرض نفسه متيقنا و يعمل كل عمل ينشأ من تيقنه بذلك المشكوك سواء كان ترتبه عليه بلا واسطة أو بواسطة أمر عادي أو عقلي مترتب على ذلك المتيقن.

قلت: الواجب على الشاك أن يعمل عمل المتيقن بالمستصحب من حيث تيقنه به، و أما ما يجب عليه من حيث تيقنه بأمر يلازم ذلك المتيقن عقلا أو عادة، فلا يجب عليه، لأن وجوبه عليه يتوقف على وجود واقعي لذلك الأمر العقلي أو العادي أو وجود جعلي بأن يقع موردا لجعل الشارع حتى يرجع جعله الذي ليس بمعقول، إلى جعل أحكامه الشرعية، و حيث فرض عدم الوجود الواقعي و الجعلي لذلك الأمر العقلي او العادي كان الأصل عدم وجوده و عدم ترتب آثاره، و هذه المسألة تشبه ما هو المشهور في باب الرضاع من أنه إذا ثبت بالرضاع عنوان ملازم لعنوان محرم من المحرمات لم يوجب التحريم لأن الحكم تابع لذلك العنوان الحاصل بالنسب أو بالرضاع فلا يترتب على غيره المتحد معه وجودا([1]).

وجوه الفرق بین الامارات و الاصول من حيث حجية مثبتات الامارات فی الامارات دون الاصول

اقول: انه يذكر عدة وجوه لسر الفرق بين الامارات والاصول من حيث حجية مثبتات الامارات دون الاصول، اهمها ما يلي:

الوجه الاول: ما ذكره صاحب الكفاية

من أن الطريق و الأمارة حيث إنه كما يحكي عن المؤدى و يشير إليه كذا يحكي عن أطرافه من ملزومه و لوازمه و ملازماته و يشير إليها، كان مقتضى إطلاق دليل اعتبارها لزوم تصديقها في حكايتها و قضيته حجية المثبت منها، بخلاف مثل دليل الاستصحاب، فإنه لابد من الاقتصار بما فيه من الدلالة على التعبد بثبوته، و لا دلالة له إلا على التعبد بثبوت المشكوك بلحاظ أثره حسب ما عرفت فلا دلالة له على اعتبار المثبت منه.

فقضية أخبار الاستصحاب، هو إنشاء حكم مماثل للمستصحب في استصحاب الأحكام، و حكم مماثل لحكم المستصحب في استصحاب الموضوعات، فهي إنما تدل على التعبد بما كان على يقين منه فشك، بلحاظ ما لنفسه من آثاره و أحكامه، و لا دلالة لها بوجه على تنزيله بلوازمه التي لا يكون كذلك، و لا على تنزيله بلحاظ ما له مطلقا و لو بالواسطة، فإن المتيقن إنما هو لحاظ آثار نفسه، و أما آثار لوازمه فلا دلالة هناك على لحاظها أصلا، و ما لم يثبت لحاظها بوجه أيضا لما كان وجه لترتيبها عليه باستصحابه([2]).

فيظهر من كلامه أن نكتة الفرق بين الأمارات والاصول من حيث حجية مثبتات الأمارات دون الاصول نكتة اثباتية، وهي أن مفاد دليل حجية خبر العادل مثلا تصديق العادل في كل ما يحكي عنه وهو كما يحكي عن المدلول المطابقي لما اخبر به يحكي عن لوازمه، بينما أن مفاد دليل الاستصحاب عدم نقض اليقين بالشك، وعدم ترتيب الاثر الشرعي للازم المتيقن لا يعدّ عرفا نقضا لليقين بالشك، فلو لم يرتب اثر نبات لحية زيد باستصحاب بقاء حياته المتيقنة سابقا فلا يصدق أنه نقض يقينه بالشك، بخلاف ما اذا لم يرتب الاثر الشرعي لنفس حياته، ولو كان اثر شرعيا بواسطة اثر شرعي آخر مترتب عليها.

وفيه أن دليل حجية الخبر انما تدل على حجية الخبر، و الخبر و الحكاية من العناوين القصدية فلا يكون الاخبار عن الشي‏ء إخباراً عن لازمه، إلا إذا كان اللازم لازماً بالمعنى الأخص، و هو الّذي لا ينفك تصوره عن تصور الملزوم، أو كان لازماً بالمعنى الأعم، مع كون المخبر ملتفتاً إلى الملازمة، فحينئذ يكون الاخبار عن الشي‏ء اخباراً عن لازمه، بخلاف ما إذا كان اللازم لازماً بالمعنى الأعم و لم يكن المخبر ملتفتاً إلى الملازمة، أو كان منكراً لها، فلا يكون الاخبار عن الشي‏ء إخباراً عن لازمه.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني “ره”

من نكتة ثبوتية للتفصيل بين الأمارات والاصول من حيث حجية المثبتات، فقال في توضيح ذلك أن الأمارات تمتاز عن الأصول موضوعا و حكما.

أمّا موضوعا فبثلاثة أمور:

1- عدم أخذ الشكّ في موضوع الأمارة و أخذه في موضوع الأصل، فانّ التعبّد بالأصول العمليّة إنّما يكون في مقام الحيرة و الشكّ في الحكم الواقعي، فقد أخذ الشكّ في موضوع أدلّة الأصول مطلقا محرزة كانت أو غير محرزة، بخلاف الأمارات، فانّ أدلّة اعتبارها مطلقة لم يؤخذ الشكّ قيدا فيها، كقوله “العمري ثقتي فما أدّى إليك عنّي فعنّي يؤدّي”.

نعم الشكّ في باب الأمارات إنّما يكون موردا للتعبّد بها، لأنّه لا يعقل التعبّد بالأمارة و جعلها طريقا محرزا للواقع في مورد العلم بالواقع، و لكن كون الشكّ موردا غير أخذه موضوعا.

2- توجد في الأمارة جهة الكشف الناقص عن الواقع مع قطع النّظر عن التعبّد بها، و إنّما التعبّد يوجب تتميم كشفها و تكميل إحرازها بإلغاء احتمال الخلاف، بخلاف الأصول العملية.

3- الأمارة إنّما يكون اعتبارها من حيث كشفها و حكايتها عمّا تؤدّي إليه، بمعنى أنّ الشارع لاحظ جهة كشفها في مقام اعتبارها، فإنّ ألغى الشارع جهة كشفها و اعتبرها أصلا عمليّا فلا يترتّب عليها ما يترتّب على الأمارات، بل يكون حكمها حكم الأصول العمليّة، كما لا يبعد أن تكون قاعدة التجاوز و أصالة الصحّة بل الاستصحاب في وجهٍ من هذا القبيل، فانّ في هذه الأصول جهة الكاشفيّة و الأماريّة، و لكن الشارع اعتبرها أصولا عمليّة فتأمل([3]).

امتياز الأمارة عن الاصل حكما

و أمّا امتياز الأمارة عن الاصل حكما فهو أنّ المجعول في الأمارات إنّما هو الكاشفية والطريقية الى الواقع و في باب‏ الأصول العمليّة المحرزة هو اثر اليقين وهو حيث اقتضاء الجري العملي نحو الواقع، فمعنى الأصل المحرز هو البناء العملي على أحد طرفي الشكّ على أنّه هو الواقع و إلغاء الطرف الآخر، و أمّا الأصول غير المحرزة فالمجعول فيها مجرّد تطبيق العمل على أحد طرفي الشكّ من دون البناء على أنّه هو الواقع، فهو لا يقتضي أزيد من تنجيز الواقع عند المصادفة و المعذوريّة عند المخالفة.

اربعه جهات للعلم

توضيح ذلك أن للعلم اربع جهات: جهة كونه صفة نفسانية خاصة، وجهة كونه كاشفا عن الواقع، وجهة اقتضاءه للجري العملي -حيث إنّ العلم بوجود الأسد في الطريق يقتضى الفرار عنه، والعلم بوجود الماء يوجب التوجه إليه إذا كان العالم عطشانا، ولعله لذلك سمّى العلم اعتقادا، لما فيه من عقد القلب على وفق المعتقد والبناء العملي عليه– وجهة تنجيز الواقع والتعذير عنه، فالمجعول في الأمارة الجهة الثانية، وفي الاصول المحرزة -التي يعَبّر عنها ايضا بالاصول التنزيلية وهي التي تكون ناظرة الى الواقع كالاستصحاب- يكون المجعول الجهة الثالثة، أي الجري والبناء العملي على الواقع من دون أن يكون هناك جهة كشف، إذ ليس للشك الّذي أخذ موضوعا في الأصول جهة كشف عن الواقع، فلا يمكن أن يكون المجعول في باب الأصول الطريقية والكاشفية، بل المجعول فيها هو الجري والبناء العملي على احد طرفي الشك على أنه الواقع، فالإحراز في باب الأصول المحرزة غير الإحراز في باب الأمارات، فانّ الإحراز في الأمارات هو إحراز الواقع مع قطع النّظر عن مقام العمل، وأمّا الإحراز في الأصول المحرزة: فهو الإحراز العملي في مقام تطبيق العمل على المؤدّى.

والمجعول في الأصول غير المحرزة -كأصالة الاحتياط والحل والبراءة- هو مجرد البناء على أحد طرفي الشك من دون البناء على أنه الواقع، فالاصل غير المحرز لا يقتضي أزيد من الجهة الرابعة للعلم أي تنجيز الواقع عند المصادفة والعذر عند المخالفة، وهذا لا يعني أنّ المجعول في الأصول غير المحرزة نفس التنجيز والتعذير، بل المجعول فيها الجري العملي على احد طرفي الشك من دون بناء على أنه الواقع، وهذا لا يقتضي أزيد من التنجيز والتعذير، فمع حفظ الشك يحكم على أحد طرفي الشك بالوضع الظاهري في الاحتياط والرفع الظاهري في البراءة، فلو وجب الاحتياط فخالفه وانجرّ الى مخالفة الواقع فيكون عقابه على مخالفة وجوب الاحتياط، لا على مخالفة الواقع، لقبح العقاب عليه مع عدم العلم به([4]).

وبهذا ظهر سر حجية مثبتات الأمارات دون الأصول، فانّ الأمارة محرزة للواقع و كاشفة عنه كشفا ناقصا و الشارع بأدلّة اعتبارها قد أكمل جهة نقصها، فصارت الأمارة ببركة اعتبارها كاشفة و محرزة كالعلم، و كما أنّ الشي‏ء بوجوده الواقعي يلازم وجود اللوازم و الملزومات، كذلك إحراز الشي‏ء يلازم إحراز اللوازم و الملزومات عند الالتفات إليها، و بعد ما كانت الأمارة الظنّيّة محرزة للمؤدّى فيترتّب عليه جميع ما يترتّب عليه من الآثار الشرعيّة و لو بألف واسطة عقليّة أو عاديّة.

و أمّا الأصول العمليّة: فلمّا كان المجعول فيها مجرّد تطبيق العمل على المؤدّى بلا توسيط الإحراز، فهو لا يقتضي أزيد من إثبات نفس المؤدّى أو ما يترتّب عليه من الحكم الشرعي بلا واسطة عقليّة أو عاديّة، فانّه لابدّ من الاقتصار على ما هو المتعبّد به، و المتعبّد به في الأصول العمليّة مجرّد تطبيق العمل على مؤدّى الأصل، و المؤدّى إن كان حكما شرعيّا فهو المتعبّد به([5]).

ملاحظات فی في كلام المحقق النائيني

اقول: توجد في كلام المحقق النائيني عدة ملاحظات:

الملاحظة الاولى: ما ذكره من كون الشك موردا لحجية الامارة ففيه أنه لا يعقل الفرق بين كون الشك موضوعا او موردا، الا أن يراد به أنه في الأمارة لم‌ يؤخذ قيد الشكّ في موضوع خطاب حجية الأمارة، وان فرض لزوم اخذه او اخذ ما يلازمه في موضوع حجيتها ثبوتا، ولكن لا يحتمل أن يكون مجرد اختلاف التعبير في دليل الحجية كافيا في اختلاف الأمارة والاصل، فهل يحتمل أن يكون خبر الثقة او فتوى الفقيه اصلا عمليا، ان كان الدليل على حجيتهما قوله تعالى “فاسألوا اهل الذكر ان كنتم لا تعلمون” وتكون قاعدة اليد أمارة، لأن دليلها “رواية حفص بن غياث عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال له رجل أ رأيت إذا رأيت شيئا في يدي رجل أ يجوز لي أن أشهد أنه له، قال نعم” ولم يؤخذ في موضوعها الشكّ، فان ادعي انصرافها الى فرض الشكّ، كما لا يبعد فالامر كذلك حتى بالنسبة الى دليل حجية الأمارة، حتى لو كان دليلا لفظيا مطلقا، كقوله “العمري ثقتي فما ادّى اليك عني فعني يؤدي” فضلا عما لو كان دليلها السيرة ونحوها مما ليس له اطلاق لفرض العلم.

الملاحظة الثانية: ان اعتبار العلم بشيء لا يلازم اعتبار العلم بلوازمه، لا عقلا كما هو واضح ولا عرفا، وانما التلازم بين العلم التكويني بشيء والعلم التكويني بلوازمه مع العلم بالملازمة بينهما، وعليه فنحتاج في حجية مثبتات الأمارة الى قيام دليل خاصّ عليه من سيرة العقلاء او غيرها، كما يدعى السيرة العقلائية على حجية مثبتات الأمارات الحكائية، كخبر الثقة والاقرار والعموم والاطلاق.

وعليه فحتى لو استظهرنا من دليل الاستصحاب اعتبار العلم بالبقاء او استظهرنا من دليل قاعدة الفراغ والتجاوز العلم بوجود المشكوك ونقول بكونها من الامارات كما ادعى السيد الخوئي “قده” أن الأمارة هي كل ما اعتبر علما بالواقع، فمثل الاستصحاب وقاعدة الفراغ والتجاوز عنده من الأمارات، ولكنه لا يعني حجية لوازم كل ما اعتبر أمارة.

الملاحظة الثالثة: قد مر في محله أنه لا دليل على اعتبار كون الأمارة كخبر الثقة علما بالواقع، بل المتيقن كونها منجزة ومعذرة بالنسبة الى جميع آثار الواقع، وما في مصباح الاصول من الاستدلال بمثل قوله (عليه السلام) ” عرف أحكامنا …” فيكون من قامت عنده الأمارة عارفا تعبديا بالاحكام، ففيه ان الاستعمال اعم من الحقيقة.

الملاحظة الرابعة: ان ما ذكره في الاصل المحرز من كون المجعول فيه الاحراز العملي والجري على احد طرفي الشك مع البناء على أنه الواقع فليس له معنى محصل، فانه اذا لم يعتبر العلم بالبقاء في الاستصحاب مثلا فكيف يقال بكون المجعول فيه الاحراز العملي الا أن يراد منه الامر بترتيب آثار اليقين، فيكون التعبير بجعل عمل المكلف وتطبيقه عمله راجعا اليه، والا فانه ليس قابلا للجعل.

وأما ما في اجود التقريرات من أن المجعول في الاصل المحرز هو العلم بالواقع من حيث الجري العملي([6]) ففيه أنه لا يمكن أن يعتبر العلمية ولا يعتبر الكاشفية، فانه نظير أن نعتبر الرجل الشجاع فردا من الاسد، لا من حيث الاسدية، بل من حيث الشجاعة، فانه غير معقول.

الملاحظة الخامسة: يرد على ما ذكره من كون اقتضاء الجري العملي من حيثيات العلم، أن الجري العملي نحو الواقع تابع لشدة الداعي نحو الاتيان بشيء او ضعفه، فقد يكون الداعي شديدا فيحرِّك نحو الشيء بمجرد احتمال انطباق الواقع المطلوب عليه، كسعي العطشان نحو الجهة التي يحتمل وجود الماء فيها، وأكل المريض ما يحتمل كونه علاجا لمرضه، هذا بالنسبة الى المحركية التكوينية، وأما المحركية التشريعية فمن الواضح أن ثبوتها تابع لحكم العقل او الشرع، فقد يحكم العقل بلزوم التحرك بمجرد الاحتمال، كما لو كانت الشبهة قبل الفحص او في مورد اهمية المحتمل.

وقد نقل المحقق الشيخ حسين الحلي “قده” في تقريره عن المحقق النائيني “قده” ما محصله أن المرتبة الاولى للعلم التكويني كونه صفة نفسانية وكاشفا بالذات عن الواقع، وموجبا لانفعال النفس وتكيّفها بالصورة المرتسمة فيها، وهذه المرتبة غير قابلة للجعل.

والمرتبة الثانية مرتبة الكشف بالعرض عن الواقع، والذي يكون العلم لأجله من مقولة الاضافة، و هي المجعولة في الأمارات.

والمرتبة الثالثة مرتبة عقد القلب على وجود الواقع، و كأنّ من فسّر العلم بالاعتقاد قد نظر إلى هذه المرتبة، و يتفرّع على هذه المرتبة أنّ ذلك الواقع المعلوم إن كان ممّا ينفر عنه تحقّقت النفرة عنه، و إن كان ممّا يرغب فيه تحقّق الميل إليه و السعي نحوه.

و الاصل المحرز يقوم مقام العلم في هذه المرتبة فالمجعول فيه عقد القلب و البناء على أحد طرفي الشكّ و أثره الجري العملي على طبق ذلك الطرف.

ثم قال المقرر: ويتوهّم من العبارة المنقولة عنه في فوائد الاصول أنّ المرتبة الثالثة هي مرتبة الجري العملي على وفق القطع، و حينئذٍ يتوجّه عليه أنّ الجري العملي من الأحكام العقلية المترتّبة على القطع، و هو غير قابل بنفسه للتعبد ليقوم الأصل المحرز مقام القطع في ذلك، ولكنه ليس بمراده قطعا([7]).

اقول: التعبد بالبناء القلبي على احد طرفي الشك لا يعني الا ايجاب هذا البناء القلبي على المكلف، فكأن قوله “من كان على يقين فشك فليبن على يقينه” امر بالبناء القلبي على وجود المتيقن، وهذا غير جعل نفس الحكم المتيقن الذي ادعى المحقق النائيني كونه مستلزما للتصويب، ولكنه حينئذ لا وجه لقيامه مقام القطع الموضوعي الظاهر في كونه العلم بما هو كاشف، على أن الظاهر من قوله “فليبن على يقينه” هو الامر الطريقي بالبناء العملي على نفس اليقين السابق، كما أن ظاهر “لا تنقض اليقين بالشك” هو النهي الطريقي عن النقض العملي لليقين.

الوجه الثالث: ما في البحوث

من أن الاختلاف بين الامارة وبين الاصل ليس في كيفية صياغة جعل الحجية، بل الاختلاف بينهما في شيء وراء ذلك، فان الأمارة ما كانت نكتة حجيته قوة الاحتمال فقط، او فقل: كاشفيته الظنية عن الواقع، ولذا تكون لوازمها حجة، لاشتراك اللازم والملزوم في هذه الدرجة من الكاشفية، بخلاف الاصل، فانه لا تكون نكتة التعبد فيه قوة الاحتمال محضاً، فان كانت نكتة التعبد قوة الاحتمال، مع نكتة نفسية غير مربوطة بالواقع المشتبه كان من الاصول المحرزة، كالاستصحاب، فانه قد جمع فيه نكتة قوة الاحتمال من ناحية اليقين بالحدوث مع نكتة أخرى، كالنكتة النفسية في جري المكلف على وفق ميله الشخصي في السير على وفق يقينه السابق، وهكذا قاعدة الفراغ، فانه قد جمع فيها نكتة قوة الاحتمال، -ولذا لا تجري في موارد العلم بالغفلة حال العمل- مع النكتة النفسية للفراغ عن العمل، وأما اذا كانت نكتة التعبد بالحكم الظاهري ترجيح نوع المحتمل فقط، كان من الاصول غير المحرزة، كجعل وجوب الاحتياط في موارد الشك في الامور المهمة، كالدماء، او جعل أصالة البراءة في غيرها([8]).

مناقشه

اقول: ان ما ذكره هنا -مضافا الى عدم امكان احراز مصاديقه عادة الا من طريق الإنّ اي من عمل العقلاء بالمثبتات، مثل ما نرى بناء العقلاء على العمل بمثبتات الاقرار، فنفهم منه أن نكتة حجية الاقرار قوة احتمال كل اقرار بنحو العموم الاستغراقي- منافٍ لما ذكره في بحث الشهرة من احتمال أنّ التزاحم الحفظي الذي هو ملاك جعل الحجية يكفي فيه في نظر الشارع أو العقلاء جعل الحجية بمقدار خبر الثقة، وأمّا في غيره فيرجع إلى القواعد والأصول الأخرى، فالملاكات المتزاحمة يستوفى الأهم منها بمقدار جعل الحجية للخبر، بلا حاجة إلى جعلها للشهرة أيضا([9])، فانه لو تمّ كلامه فلا تكون نكتة حجية خبار الثقة قوة الاحتمال محضا، بل يكون في كون قوة الاحتمال ناشئة من خبر الثقة مثلاً نكتة نفسية، كما أن كون الاصل محرزا او غير محرز لو كان مرتبطا بملاحظة قوة الاحتمال فيه وعدمه فهذا يعني ربط المسألة بما قد يصعب تشخيصه، اذ يصعب تشخيص نكتة جعل الاصول التعبدية، كالاستصحاب وقاعدة الطهارة.

الوجه الرابع: ما اختاره السيد الخوئي “قده”

من عدم الفرق بين الأمارات و الاصول، و عدم حجية المثبتات في اي منهما، فان الظن في تشخيص القبلة و ان كان من الأمارات المعتبرة بمقتضى روايات خاصة واردة في الباب، لكنه إذا ظن المكلف بكون القبلة في جهة، و كان دخول الوقت لازماً لكون القبلة في هذه الجهة لتجاوز الشمس عن سمت الرّأس على تقدير كون القبلة في هذه الجهة، فلا ينبغي الشك في عدم صحة ترتيب هذا اللازم و هو دخول الوقت، و عدم جواز الدخول في الصلاة. نعم تكون مثبتات الأمارة حجة في باب الاخبار فقط، لأجل قيام السيرة القطعية من العقلاء على ترتيب اللوازم على الاخبار بالملزوم و لو مع الوسائط الكثيرة، ففي مثل الإقرار و البينة و خبر العادل يترتب جميع الآثار و لو كانت بوساطة اللوازم العقلية أو العادية، و هذا مختص بباب الاخبار، و ما يصدق عليه عنوان الحكاية دون غيره من الأمارات([10]).

ويقرب منه ما ذكره السيد الامام “قده” حيث قال: ان وجه حجية مثبتات الأمارات ان جميع الأمارات‏ الشرعية انما هي أمارات عقلائية أمضاها الشارع، و معلوم أن بناء العقلاء على العمل بها انما هو لأجل إثباتها الواقع، لا للتعبد بالعمل بها، فإذا ثبت الواقع بها تثبت لوازمه و ملزوماته و ملازماته بعين الملاك الّذي لنفسه، و لو حاولنا إثبات حجية الأمارات بالأدلة النقليّة لما أمكن لنا إثبات حجية مثبتاتها بل و لا لوازمها الشرعية إذا كانت مع الواسطة الشرعية

وأما الأصول و عمدتها الاستصحاب فالسر في عدم حجية مثبتاتها، ان قوله “لا ينقض اليقين بالشك” غير صادق بلحاظ الاثر الشرعي الثابت للازم العقلي للمستصحب.

الوجه الصحیح: الفارق بين الأمارات والاصول هو سيرة العقلاء الكاشفة عن عدم خصوصية للمدلول المطابقي للأمارات العقلائية

وهذا الوجه هو الصحيح، فان الفارق بين الأمارات والاصول ليس الا سيرة العقلاء الكاشفة عن عدم خصوصية للمدلول المطابقي للأمارات العقلائية التي هي حكائية، كالاقرار او ظهور الكلام المعتبر ككلام المولى، وخبر الثقة المفيد للوثوق النوعي.

وأما خبر الثقة غير المفيد للوثوق النوعي فلم يثبت لدينا بناء العقلاء على حجيته، وانما نستند في حجيته الى الروايات الموثوقة الصدور كقوله (عليه السلام) “العمري وابنه ثقتان فما أديا اليك عني فعني يؤديان وما قالا لك عني فعني يقولان فاسمع لهما وأطع فانهما الثقتان المأمونان” ولكن مضافا الى أن المتفاهم عرفا من دليل الاعتبار الحاق مطلق خبر الثقة بالأمارات العقلائية -كخبر الثقة المفيد للوثوق النوعي- والتي يكون لازمها حجة بسيرة العقلاء، فيمكن أن نقول بأن مقتضى اطلاق الامر بالسماع والطاعة والتصديق ترتيب آثار صدق المخبر مطلقا حتى بلحاظ لازم الخبر او ملزومه او ملازمه.

کلام السيد اليزدي “ره”

وما ذكره السيد اليزدي “ره” من أنه لا يثبت بإطلاق التنزيل ملزوم مؤدى الأمارة، و لا ملازمه، لأنّ شيئا منهما لا يعدّ من شئون الشي‏ء و توابعه حتى يكون إثبات الشيء إثباتا لها، فلو ثبتت بالبيّنة طهارة أحد المشتبهين بالشبهة المحصورة لم يثبت ملازمها و هو نجاسة الآخر، و كذا لو ثبتت طهارة الملاقي للمائع المردّد بين الماء و البول بالبيّنة لم تثبت به طهارة المائع، اللهمّ إلّا أن يعدّ ذلك الملازم أو الملزوم مما أخبر به البيّنة عرفا، لشدّة وضوح الملازمة([11]).

مناقشه

ففيه أن التفصيل في الأمارات بترتيب الاثر الشرعي الثابت للازم مؤدى الأمارة دون الاثر الشرعي المترتب على ملزومه او ملازمه خلاف المرتكز العقلائي واطلاق الامر بالطاعة والتصديق.

نعم في حجية مثبتات الأمارات مطلقا حتى مثبتات الاطلاقات والعمومات بعرضها العريض كلام سبق في العام والخاص.

وهذا بخلاف ادلة الاصول كقوله في قاعدة الفراغ “كلما شككت فيه مما قد مضى فأمضه كما هو” اكثر من البناء على صحة العمل، وآثارها الشرعية، دون آثار لازمها العقلي، فلو شك أنه هل توضأ قبل الصلاة السابقة، فيبني على صحتها والآثار الشرعية لصحتها كالبناء على التمام فيما كانت تلك الصلاة صلاة رباعية أتى بها بعد نية الاقامة في السفر ثم عدل بعدها عن نية الاقامة، ولكن لا يستفاد منه ترتيب آثار لازمها العقلي ككونه متطهرا فعلا، فلابد أن يتوضأ للصلاة اللاحقة، وهكذا قاعدة التجاوز كقوله “اذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشككت فشكك ليس بشيء” فانه لو كان لاتيان المشكوك الذي مضى محله لازم عقلي، (كما لو علم بأن ما اتى به من الركعات كان زوجا لا فردا، فهو إما اتى بصلاة المغرب ركعتين او اذا اتى بها ثلاث ركعات فقد اتى بركعة من صلاة العشاء) فلا يستفاد من دليلها الحكم بوجود ذلك اللازم، حتى لو كان مفاده اعتبار العلم بوجود المشكوك الذي تجاوز محله، والغاء الشك فيه، فانه لا يظهر منه اعتبار العلم بلازمه.

وهكذا النهي عن نقض اليقين بالشك، فانه لا يظهر منه ترتيب اثر لازم المتيقن حيث انه ليس مقتضى بقاء اليقين بحياة زيد مثلا الحكم بوجوب الصدقة المترتب على نبات لحيته، فلا يعدّ عدم الصدقة نقضا لليقين بحياته.

الا أن السيد اليزدي “قده” خالف في ذلك في حاشية الرسائل، فقال: إنّ النهي عن نقض اليقين بالشك يفيد تنزيل المستصحب منزلة الواقع مطلقا، و هو معنى ابقاءه و عدم نقضه مطلقا، و إطلاق هذا التنزيل يقتضي البناء على بقاء المستصحب بلوازمه، سواء كان اللازم بلا واسطة أو معها، وهذا الاطلاق أقوى من الاطلاق في سائر الموارد، لأنّ سائر الاطلاقات ليست بمقتضى اللفظ من الأول، بل تحتاج إلى مؤونة من الخارج من مقدمات الحكمة، بخلافه فيما نحن فيه، فإنّ حقيقة التنزيل المستفادة من اللفظ تقتضي تنزيل لوازمه من الأول، و إلّا لم يجعل المنزّل عين المنزّل عليه، لأنّ التفكيك بين اللازم و الملزوم محال، فلو نزّل شي‏ء منزلة شي‏ء في بعض اللوازم دون بعض لم يجعل هو هو، إذ ما فرض منفكّا عن اللازم غير ذاك الملزوم.

نعم لا يثبت بإطلاق التنزيل الملزوم و لا الملازم، لأنّ شيئا منهما لا يعدّ من شئون الشي‏ء و توابعه، كما مر في الأمارات([12]).

ويرد عليه أن مفاد دليل الاستصحاب وان فرض كونه تنزيل المستصحب منزلة الواقع فتنزيل الحياة المشكوكة لزيد منزلة حياته الواقعية لا يقتضي عرفا ازيد من ترتيب الأحكام الشرعية لنفس حياته، سواء قلنا بكون المعنى الثبوتي للتنزيل هو جعل الحكم المماثل لأحكام حياته، وهذا ما يبتني عليه اشكال الشيخ الاعظم وصاحب الكفاية “قدهما” من عدم امكان تعلق الجعل الشرعي باللازم العقلي، او قلنا بما هو الصحيح من امكان كونه مجرد عملية ثبوتية ادعائية قد يتعلق بامر تكويني كما في استصحاب بقاء شرط الواجب كالستر او قاعدة التجاوز بناء على أن مفادها التعبد بالامتثال كما قد يستظهر من قوله “بلى قد ركعت” حيث يقال بأنه ليس تعبدا باي حكم شرعي وانما ادعاء تحقق الامتثال بغرض المعذرية، فانه حينئذ وان كان يمكن تعلق التنزيل بالامر التكويني كحياة زيد او نبات لحيته، لكن الظاهر من تنزيل الشارع مشكوك الحياة منزلة الحياة الواقعية ترتيب آثاره الشرعية دون تنزيل لوازمه العقلية المشكوكة منزلة الواقع او ترتيب آثارها الشرعية، بعد أن لم يكن وجود اللازم بنفسه مجري للاصل.

قصور الدليل عن افادة حجية المثبتات

وعليه فلا ينبغي الاشكال في عدم حجية مثبتات الاصول بنكتة اثباتية، وهي قصور دليلها عن افادة حجية المثبتات، فلا يصدق نقض اليقين بالشك على عدم ترتيب الاثر الشرعي للازم المستصحب.

کلام المحقق الايرواني “قده” و المناقشه فیها

وبذلك تبين الاشكال فيما ذكره المحقق الايرواني “قده” من أنّ “لا تنقض اليقين” يشمل آثار اليقين و لو مع الواسطة، كالأحكام المترتّبة على نبات اللحية المترتّب عادة على بقاء الحياة، و يكون محصّل معناه: اعمل عمل من بقي يقينه، بالالتزام بأحكام المتيقّن، و من المعلوم أنّ عمله ليس هو خصوص القيام بأحكام المتيقّن بلا واسطة، بل هو مع القيام بأحكامه مع الواسطة، فيكون نقضه عبارة عن ترك القيام بشي‏ء من تلك الأحكام المعدودة أحكاما لليقين، نعم إذا تكثّرت الوسائط و بعدت حتّى لم تعدّ أحكام الواسطة أحكاما لليقين لم يكن الأخذ بتلك الأحكام عملا باليقين، و لا عدم الأخذ بها نقضا له.

و بالجملة: الأحكام المترتّبة على الشي‏ء و لو مع الواسطة أحكام للشي‏ء كما أنّ ولد الولد ولد فكان الأخذ بها إبقاءً لليقين و عدم الأخذ بها نقضا له، و هذا بخلاف الأحكام الملازمة أو الملزومة لليقين، فإنّها ليست مترتّبة على ذلك اليقين، بمعنى تنجّزها بسبب ذلك اليقين، و إنّما تنجّزها بيقين آخر متولّد من ذلك اليقين.

لا يقال: إنّ الحال في أحكام اليقين مع الواسطة أيضا كذلك، فإنّها لا تكون مترتّبة على ذلك اليقين، بل تكون مترتّبة على اليقين بالواسطة.

فإنّه يقال: إنّ معنى ترتّبها على ذلك اليقين ليس بمعنى كون اليقين علّة تامّة في ترتّبها و إلّا لم تترتّب الأحكام بلا واسطة أيضا كوجوب الإنفاق المترتّب على الحياة؛ لأنّها أيضا لا تترتّب بمجرّد اليقين بالحياة ما لم ينضمّ إليه اليقين بالحكم، بل بمعنى دخل اليقين في ترتّبها.

و من المعلوم أنّ اليقين بالحياة دخيل في ترتّب كلّ الأحكام المرتّبة على الحياة و لو بألف واسطة؛ لأنّها أحكام مترتّبة بالأخرة على الحياة، و هذا بخلاف الملزوم و الملازم.

و دعوى عدم الإطلاق في الأخبار، و أنّ متيقّنها هو النهي عن النقض الحاصل بترك ترتيب الآثار بلا واسطة ممنوعة. و لو صحّ ذلك لزم فيما إذا كانت الواسطة حكما شرعيّا أيضا الاقتصار على ترتيب نفس الواسطة دون الآثار المترتّبة عليها إذا كانت الآثار آثارا لخصوص الحكم الواقعي دون الأعمّ منه و من الحكم الظاهري، فالصحيح هو حجية الاصل المثبت في نفسه لولا المعارضة بينه وبين استصحاب عدم اللازم([13]).

فهو يرى حجية الاصل المثبت لولا معارضته بالاصل الجاري في نفس اللازم العقلي، وهذا ما نسب الى كاشف الغطاء وصاحب الفصول، ولكن الانصاف عدم صدق نقض اليقين بالملزوم بسبب الشك على ما لو لم يرتب آثار لازمه، كما لو لم يحكم بتحقق الغسل في فرض الشك في وجود الحاجب في اعضاء الوضوء والغسل، فانه لا يعد نقضا لليقين بعدم الحاجب بالشك، لعدم كونه مما يحرك اليقين بعدم الحاجب نحوه، ولا أقل من عدم احراز صدقه.

وقد ذكر الشيخ الاعظم “قده”: أن المعلوم من الأصحاب عدم العمل بكل أصل مثبت، فلو شك في بقاء زيد تحت اللحاف بنحو لو بقي لكان قد قدّ بالسيف الذي ضرب على اللحاف، فحيث يكون اصل القدّ الذي يتحقق به القتل مشكوكا، فلا يثبت باستصحاب بقاءه تحت اللحاف، فهل تجد من نفسك رمي أحد من الأصحاب بالحكم بأن الأصل بقاءه تحت اللحاف فيثبت القتل، مع أن الظاهر أن بناء الكل على أنه لو علم ببقاءه تحت اللحاف وشك في بقاء حياته الى زمان قدّه، فاستصحاب الحياة يثبت قتله، وانما اختلفوا في معارضته مع استصحاب عدم ضمان الدية، كما عليه الشيخ في المبسوط او حكومة الاول على الثاني كما عليه جمع من الفقهاء كالعلامة الحلي او العكس كما عليه المحقق الحلي والشهيد الثاني في المسالك.

و كذا لو وقع الثوب النجس في حوضٍ كان فيه الماء سابقا ثم شك في بقائه فيه فهل يحكم أحد بطهارة الثوب بثبوت انغساله باستصحاب بقاء الماء، و كذا لو رمى صيدا أو شخصا على وجه لو لم يطرأ حائل لأصابه فهل يحكم بقتل الصيد أو الشخص باستصحاب عدم الحائل، إلى غير ذلك مما لا يحصى من الأمثلة التي نقطع بعدم جريان الأصل لإثبات الموضوعات الخارجية التي يترتب عليها الأحكام الشرعية.

و كيف كان فالمتبع هو الدليل، فان قلنا بالاستصحاب من باب الظن النوعي كما هو ظاهر أكثر القدماء فهو كإحدى الأمارات الاجتهادية يثبت به كل موضوع يكون نظير المستصحب في جواز العمل فيه بالظن الاستصحابي، و أما على المختار من اعتباره من باب الأخبار فلا يثبت به ما عدا الآثار الشرعية المترتبة على نفس المستصحب([14]).

وعلّق عليه السيد اليزدي “ره” في حاشيته على الرسائل أننا نجد في انفسنا الفرق بين هذه الأمثلة كما يظهر من مذاق فقهائنا، ويمكن أن يكون الضابط أنّ كل مورد يكون اللازم العقلي موضوع الحكم الشرعي فلا يثبت باستصحاب الملزوم، و كل مورد يكون قيدا للموضوع المتحقق بالوجدان فيثبت بالاستصحاب، فلو شك في بقاء زيد تحت اللحاف بحيث لو بقي لكان قد قدّ بالسيف الذي ضرب على اللحاف، فحيث يكون اصل القدّ الذي يتحقق به القتل مشكوكا فلا يثبت باستصحاب بقاءه تحت اللحاف، بخلاف ما لو علم ببقاءه تحت اللحاف وشك في بقاء حياته الى زمان قدّه، ليتحقق بذلك قتله، فيثبت باستصحاب الحياة، و الدليل على هذا الضابط أنه قد يكون استلزام أمر لأمر آخر واضحا غاية الوضوح بحيث يكون تنزيل تحقق الملزوم في قوة تنزيل اللازم و يفهم من تنزيله تنزيله عرفا، أو يكون ذلك أعني شدّة وضوح الملازمة منشأ لعدّ آثار اللازم آثار الملزوم عرفا، ففي هذا القسم يحكم بترتّب آثار اللازم باستصحاب الملزوم لمساعدة العرف على أنّ تنزيل الملزوم منزلة الموجود تنزيل اللازم أيضا، أو على أنّ أثر اللازم أثر الملزوم، و لا يتفاوت الأمر على هذا البيان بين كون حجية الاستصحاب من باب التعبّد أو من باب الظن، أمّا على الأول فواضح، و أمّا على الثاني فبدعوى أنّ السيرة و بناء العقلاء اللذين يكونان منشأ للظن النوعي و دليلا عليه يساعدان على ذلك دون غيره، و قد يكون اللزوم غير واضح وبعيدا عن أفهام أهل العرف يحتاج إلى إعمال رويّة و فكر، ففي هذا القسم لا يحكم بترتّب آثار اللازم لعدم مساعدة العرف و بناء العقلاء على ذلك، و لعلّ ما ذكره المصنف في المتن من الفرق بين الواسطة الخفيّة و الجليّة يرجع إلى ما ذكرنا في الجملة([15]).

ولكن الظاهر عدم فرق بين هذه الأمثلة في عدم حجية مثبتاتها لأن عدم ترتيب الأحكام الشرعية الثابتة للوازمها ليس نقضا لليقين بالشك عرفا، نعم يأتي الكلام في خفاء الواسطة.

كيفية اثبات الاصل للاثر الشرعي غير المباشر

ثم انه قد يورد على القول بعدم حجية مثبتات الاستصحاب، بنكتة عدم اقتضاء النهي عن نقض اليقين بالشك لذلك، النقض بالاثر الشرعي غير المباشر، اي الاثر الشرعي للاثر الشرعي الثابت للمستصحب، فانه يقال ان لم يكن عدم ترتيب الاثر الشرعي للازم العقلي للمستصحب نقضا لليقين بالشك عرفا، فما هو الفرق بينه وبين الاثر الشرعي غير المباشر، وقد ذكر في سر الفرق بينهما عدة وجوه:

وجوه الفرق بين الاثر الشرعي غير المباشر والاثر الشرعي الثابت للّازم العقلي للمستصحب

الوجه الاول:

ما هو ظاهر الكفاية من أن مفاد الاستصحاب حيث يكون جعل الحكم المماثل للمستصحب ان كان المستصحب حكما والحكم المماثل لحكم المستصحب ان كان المستصحب موضوع الحكم، فاذا كان حياة زيد موضوعا لوجوب الانفاق عليه ووجوب الانفاق عليه موضوعا لحرمة اعطاء الزكاة اليه فاستصحاب حياته يوجب جعل وجوب الانفاق عليه، فيثبت بذلك موضوع حرمة اعطاء الزكاة اليه و هو من يجب الانفاق عليه، وأما اللازم العقلي كنبات لحيته فحيث لا يكون قابلا للجعل الشرعي فلابد من انصباب الجعل على اثره الشرعي كوجوب التصدق على الفقير، وهذا مما لا يقتضيه النهي عن نقض اليقين بحياة زيد بالشك فيها، كما لم يكن يقتضي هذا النهي بنفسه ترتيب الاثر مع الواسطة، بعد أن لم يكن الواسطة بنفسها متعلقة لليقين السابق.

وقد يورد عليه بأن موضوع الاثر غير المباشر هو الاثر الشرعي الواقعي المباشر، لا الاعم منه ومن الظاهري والا لكان واردا عليه او فقل كان لازم نفس الاستصحاب ولا اشكال في ثبوته، ودليل الاستصحاب لا يدل على اكثر من جعل الاثر الشرعي الظاهري المباشر، من دون أن يدل على تنزيله منزلة الاثر الشرعي الواقعي في الآثار.

ولكن يمكن الجواب عن هذا الايراد بأنه ان لم يكن دليل الاستصحاب ظاهرا في جعل الحكم المماثل بلسان أنه الواقع، فلا أقل من كون الغفلة النوعية العرفية كافية في انعقاد اطلاق مقامي لدليله في ترتيب آثار الحكم الواقعي عليه.

فالمهم في الايراد عليه اولا: انكار المبنى، فانه لا يستفاد من دليل الاستصحاب جعل الحكم المماثل، بل الظاهر منه النهي الطريقي عن النقض العملي لليقين بالشك، او النهي الكنائي عنه بغرض بيان التعبد ببقاء اليقين.

وثانيا: أن هذا الوجه اخص من المدعى، اذ قد يكون الاثر الشرعي المباشر مما لا يكون قابلا للجعل الظاهري في حق من يثبت في حقه الاثر الشرعي غير المباشر، كما لو شك شخص في حياة زيد، وكانت حياته موضوعا لوجوب انفاق ابيه عليه، ووجوب انفاق الاب عليه موضوعا لحرمة اعطاء ذلك الشخص زكاته اليه، فانه لا يعقل جعل الحكم الظاهري بوجوب انفاق الاب في حق غير الاب.

الوجه الثاني:

ما ذكره المحقق الآخند “ره” في حاشية الكفاية وصرح به المحقق النائيني “ره” من أن اثر اثر الشيء اثر للشيء عرفا مع وحدة السنخ، وهذا يعني أن عدم ترتيب الاثر الشرعي غير المباشر يعد عرفا نقضا لليقين بالشك بخلاف عدم ترتيب الاثر الشرعي الثابت للازم العقلي للمستصحب.

وهذا الوجه وان كان مشتملا على المصادرة ودعوى بلا دليل، لكن الانصاف موافقته للمرتكز العرفي.

الوجه الثالث:

ما ذكره صاحب الكفاية في حاشية الرسائل من أنه لو نوقش في صدق نقض اليقين بالشك على عدم ترتيب الاثر الشرعي غير المباشر لكن يمكن اثباته بعدم الفصل.

وهذا يعني التمسك بالاجماع الذي من الواضح كونه مدركيا، فلا اعتبار به، ودعوى القطع بعدم الفرق خارج عن البحث الفني.

الوجه الرابع:

ما ذكره في البحوث من أنّ مفاد دليل الاستصحاب هو إبقاء اليقين عملا بلحاظ نفس متعلق اليقين السابق، فلا يثبت به ترتّب الاثر الشرعي المباشر فضلا عن غير المباشر، نعم قد يقال بأنه لولا ثبوت الاثر كان الاستصحاب لغوا، فبدلالة الاقتضاء، و صونا لكلام الحكيم عن اللغوية نثبت الاثر المباشر، و لكن باقي الآثار لا تثبت و إن سلّمنا كونها آثاراً للمستصحب، من باب أنّ أثر الأثر أثر، فإنّ ثبوت الأثر الأوّل لم يكن بملاك كون مصبّ دليل الاستصحاب رأساً هو إثبات الأثر، كما هو الحال على مسلك التنزيل حتّى يقال بإنّ إطلاقه يشمل الاثر غير المباشر.

ولكن الصحيح أن الأثر المباشر أيضاً لا يثبت، إذ لا يلزم من عدم ثبوته لغوية دليل الاستصحاب، فانّ دليل الاستصحاب ليس مورده أمراً تكوينياً يلغو التعبّد به إلّا بلحاظ إثبات الأثر تعبداً، و إنّما مورده احراز الامتثال للامر بالصلاة مع الطهارة الحدثية كما في صحيحة زرارة الاولى، والطهارة الخبثية كما في صحيحة زرارة الثانية.

فينحصر الحل في أن نقول: أنّه ليست للحكم الشرعي مرحلتان: مرحلة الجعل، و مرحلة المجعول والحكم الفعلي، و إنّما هنا مرحلة واحدة، و هي مرحلة الجعل، والمجعول والحكم الفعلي امر وهمي لا واقع له، و يترتّب التنجيز العقلي على قيام الحجة على كبرى الجعل و تحقق الصغرى و هي الموضوع الخارجي.

فاستصحاب حياة زيد يكون منقحا لجزء من جزئي موضوع التنجز، فاذا كان هناك جعل آخر طولي، كما لو ورد أن من وجب الانفاق عليه يحرم اعطاء الزكاة اليه، فيكون موضوعه مركبا من كبرى الجعل الاول وتحقق صغراه اي حياة زيد، وهذا يعني أن حياة زيد التي كانت تمام الموضوع للجعل الاول صارت جزء الموضوع للجعل الثاني، فبعد احراز الجعل الاول والثاني وضم استصحاب حياة زيد يتحقق موضوع التنجيز العقلي للحكم الثاني.

وبذلك تبين الفرق بينه وبين اثر اللازم العقلي، اذ لا يود كبرى جعل شرعي مفاده مثلا أن زيدا لو كان حيا نبتت لحيته، حتى ينضم اليها والى كبرى جعل أن زيدا اذا نبتت لحيته وجب التصدق على الفقير استصحاب الصغرى وهي حياة زيد ويتنجز التكليف عقلا.

فلو كان مقصود المحقق النائيني “ره” من كون اثر الاثر اثرا عرفا مع وحدة السنخ هذا المعنى كان صحيحا، ولكنه لا ينسجم مع مبانيه من وجود حكم فعلي وراء الجعل وتحقق موضوعه ويكون هو موضوع التنجز العقلي([16]).

وفيه أنه لا وجه لانكار مرحلة المجعول والحكم الفعلي، كأمر اعتباري عرفي، والا لزم منه القول بعدم جريان استصحاب الحكم الجزئي، كما في استصحاب نجاسة الثوب المتنجس المغسول بمايع توارد فيه حالة الاطلاق والاضافة، والا فكبرى الجعل معلومة والصغرى لا يجري فيها الاستصحاب.

وقد التزم بجريانه في البحوث وقال: انه قد يتوهم أنه على مبنانا من إنكار الوجود الفعلي للمجعول وراء الجعل، عدم جريان الاستصحاب في الحكم الجزئي، لكنه غير صحيح، فان لحاظ الحكم و الجعل بالنظر العرفي يقتضي ان يكون هناك ثبوت للمجعول و فعلية عند تحقق موضوعه في الخارج، لأن الملاحظ من خلال العنوان يرى المعنون في الخارج فكأن هناك امرا يتحقق بتحقق الموضوع و يزول بزواله خارجا، و هذا و ان كان مجرد أمر اعتباري و وهمي لا حقيقي إلّا انه يكفي لصدق دليل الاستصحاب و جريانه فيه، و ان شئت قلت: ان المجعول و ان كان امرا وهميا لا حقيقيا إلّا ان هذا الأمر الاعتباري و في طول اعتباره و جعله يكون له حدوث و بقاء حقيقي فينطبق عليه دليل الاستصحاب حقيقة([17]).

فاذا كان للحكم الفعلي واقع عرفي، فلا مانع من أن يجعل موضوعا للحكم في الجعل الشرعي الآخر.

الوجه الخامس:

ما يقال من أنه وان ثبت الحكم الفعلي عرفا لكن يكفي في ثبوت الاثر العقلي من المنجزية والمعذرية قيام الحجة على كبرى الجعل الواحد او الجعول المترتبة وقيام الحجة على تحقق صغرى الجعل الاول، فاذا قامت الحجة على كبرى جعل اول وهو أنه “يجب على الولد ان ينفق على ابيه الفقير” وكبرى جعل ثانٍ وهو أنه “يجب على المكلف ان يعطي زكاة فطرة من وجب عليه الانفاق عليه” وقامت الحجة على تحقق صغرى الجعل الاول كما لو شك زيد بعد بلوغه في فقر ابيه فاستصحب فقره، كان ذلك منجزا لوجوب الانفاق عليه ثم لوجوب اعطاء فطرته، وهذا يعني كفاية الاستصحاب لتنجيز الاثر الشرعي غير المباشر.

وهذا الوجه وان كان صحيحا، لكن الاشكال في الآثار الشرعية الوضعية، كقوله “النجس منجس” فان الظاهر ولا اقل من الاحتمال أن يكون موضوع المنجسية هو النجس الفعلي لا المركب من كبرى الجعل كقوله “الثوب الملاقي للنجس ما لم يغسل بالماء نجس” وتحقق صغراه وهو ملاقاة الثوب للنجس وعدم غسله بالماء، فاذا لاقى ذاك الثوب شيئا مستصحب النجاسة، فكيف نثبت كون هذا الثوب منجسا لما يلاقيه، مع كونه اثرا شرعيا غير مباشر للاصل الموضوعي الجاري في ذلك الشيء المستصحب النجاسة.

ولو أصر أحد على استظهار كون موضوع كبرى جعل منجسية النجس هو ما كان صغرى لكبرى جعل بالنجاسة، فيرتفع الاشكال من هذه الناحية، لكن لو فرض عدم جريان اصل موضوعي في ذلك الشيء مستصحب النجاسة كما لو غسل بمايع توارد فيه حالتا الاطلاق والاضافة، فانه كيف يتنجز منجسية الثوب الملاقي لذاك الشيء مع أن الاصل لا يجري في الصغرى اي الموضوع التكويني وأما كبرى الجعل فهي معلومة لا شك فيها، وهذا وان لم يكن محذورا واضحا لا يمكن الالتزام به، لكن المهم أن استظهار كون النجس مثلا في الخطاب الشرعي مركبا من كبرى الجعل وصغراه مشكل جدا.

الوجه السادس: ما ذكره السيد الامام “قده” من أن الاستصحاب الموضوعي لا يثبت الحكم الفعلي وانما يثبته الأمارة القائمة على كبرى الجعل، فاذا كان هناك كبريات شرعية طولية فالاستصحاب يثبت صغرى الجعل الاول، والأمارات القائمة على الكبريات تثبت الاحكام الفعلية الطولية، وهذا هو الفارق بين الاثر الشرعي غير المباشر وبين الاثر الشرعي المترتب على اللازم العقلي للمستصحب، فانه لا يوجد كبرى شرعية تدل على أن اذا ثبت الشيء كحياة زيد ثبت لازمه وهو نبات لحيته([18]).

وقد ينسب ذلك في بعض الكلمات الى السيد الخوئي “قده” ايضا.

وفيه أن مفاد الامارة هو الحكم الشرعي الواقعي فكيف يثبت بها الحكم الظاهري، الا أن يراد بهذا الوجه ما ذكر في الوجهين السابقين من كون الاثر مترتبا على قيام الحجة على كبرى الجعل او الجعول المترتبة، وتحقق صغرى الجعل الاول.

الوجه السادس:

التمسك بخفاء الواسطة، فانه ولو كان الموضوع لوجوب اعطاء الفطرة بالدقة بسيطا وهو الحكم الفعلي اي من وجب عليه الانفاق عليه، لكن العرف يرى أن عدم ترتيب هذا الاثر مصداقا لنقض اليقين بالشك، بعد اليقين السابق بالصغرى اي فقر الأب واحراز كبرى الجعل، ومن الواضح أن هذا البيان لا يأتي في الاثر الشرعي المترتب على مطلق اللازم العقلي للمستصحب.

ولكن سيأتي عدم العبرة بخفاء الواسطة.

الوجه السابع:

ما عن بعض السادة الاعلام “دام ظله” من أن أخبار الاستصحاب ظاهرة في اعتبار بقاء اليقين، ولا يدل على ترتيب آثار المستصحب الا بنحو دلالة الاقتضاء وصونا للكلام عن اللغوية، فلا يثبت به الاثر الشرعي غير المباشر فضلا عن الاثر الشرعي المترتب على اللازم العقلي للمستصحب، لكن المهم أن بناء العقلاء قائم على اجراء الاستصحاب حتى في موارد الشك في المقتضي، من باب الاطمئنان الاحساسي الناشيء من اليقين بالحالة السابقة، فهم يرتبون الآثار القانونية ولو مع الواسطة القانونية للمستصحب، دون الآثار القانونية للازم العقلي للمستصحب بعد كون الحالة السابقة لهذا اللازم عدمية.

اقول: قد مر في محله انكار كون مفاد أخبار الاستصحاب اعتبار بقاء اليقين كما مر عدم ثبوت بناء العقلاء على الاستصحاب، خصوصا في موارد الشك في المقتضي.

الصحیح هو الوجه الثانی

وكيف كان فالصحيح في بيان الفرق بين الاثر الشرعي غير المباشر والاثر الشرعي الثابت للّازم العقلي للمستصحب هو ما مر في الوجه الثاني من كون اثر الاثر اثرا عرفا مع وحدة السنخ فالعرف يرى أن عدم ترتيب الاثر الشرعي المترتب على الاثر الشرعي للمستصحب نقض عملي لليقين بالشك.

اشكال المعارضة في حجية الاصل المثبت

ثم انه حكي عن صاحب الفصول تبعا لكاشف الغطاء أن أخبار الاستصحاب كما لا تقصر عن اثبات الاثر الشرعي غير المباشر، كذلك لا تقصر عن اثبات الاثر الشرعي للّازم العقلي للمستصحب، الا أن الفرق بينهما في حكومة استصحاب بقاء الملزوم على استصحاب عدم اللازم الشرعي دون استصحاب عدم اللازم العقلي، فان استصحابه النافي لاثره الشرعي يكون معارضا مع استصحاب بقاء الملزوم المثبت لذاك الاثر.

وعليه فاستصحاب عدم الحاجب مثلا وان كان يكفي لاثبات حصول الطهارة المترتبة على غسل البشرة في الوضوء والغسل، لكن يعارضه استصحاب عدم غسل البشرة.

وقد يورد عليه كما في حاشية السيد اليزدي “ره” على الرسائل بكونه اخص من المدعى، اذ هذا الذي يكون لازما عقليا او عاديا لبقاء المستصحب، قد لا تكون حالته السابقة العدمية معلومة، فلا يكون استصحاب عدمه معارضا مع استصحاب بقاء الملزوم، كما لو كان لازم بقاء المايع فعلا هو انجماده لبرودة الجوّ، وعلمنا بانجماده في زمان وعدم انجماده في زمان آخر، وشككنا في المتقدم و المتأخر منهما.

وفيه أن هذا الاشكال مبني على القول بعدم المقتضي لجريان الاستصحاب في توارد الحالتين مع الجهل بتاريخهما، فيكون استصحاب بقاء الملزوم جاريا بلا معارض، وهذا المبنى وان كان هو مختاره وفاقا لصاحب الكفاية، لكن سيأتي في محله أن الصحيح استناد عدم جريانهما الى التعارض بينهما، فيكون استصحاب عدم اللازم طرفا لمعارضة كل من استصحاب اللازم واستصحاب الملزوم.

ولا يقاس المقام بما لو علمنا اجمالا بنجاسة احد ماءين توارد في احدهما المعين حالة الطهارة والنجاسة، حيث قلنا بكون استصحاب طهارة الماء الآخر خطابا مختصا جاريا بلا معارض، بعد كون خطاب قاعدة الطهارة فيهما خطابا مشتركا مبتلىً بالتعارض الداخلي الموجب لاجماله، ولم نقبل كون خطاب الاستصحاب ايضا خطابا مشتركا بدعوى جريان استصحاب الطهارة في الماء الثاني ايضا في حد ذاته لولا المعارض.

والفرق بين المقام وذاك المثال، أن منشأ المعارضة بين استصحاب الطهارة في كل من الماءين هو ارتكاز المناقضة العقلائية في جريانهما معا مع الغرض الواقعي المعلوم بالاجمال من الامر بالاجتناب عن النجس منهما، وهذا الارتكاز انما يتم فيما لو كان استصحاب الطهارة في كل منهما قابلا للوصول الى المكلف لولا المحذور في الجمع بينهما، ومع ابتلاء استصحاب الطهارة في الماء المبتلى بتوارد الحالتين بالمعارضة مع استصحاب النجاسة لمانع عقلي وهو المناقضة في المؤدى، فحيث لا يكون قابلا للوصول فلا يكون الجمع بين جريانه واقعا وبين استصحاب الطهارة في الماء الآخر مخالفا للارتكاز العقلائي.

هذا وأما بناء على كون محذور الجمع بين استصحاب الطهارة فيهما قبح الترخيص في المعصية عقلا، فقد ذكر السيد الخوئي “قده” أنه محذور عقلي ثابت بالحكم العقلي غير البديهي، فيكون بمثابة قرينة منفصلة غير مانعة عن انعقاد الظهور، بخلاف محذور المناقضة في المؤدى فانه ثابت بحكم العقل البديهي، فيكون بمثابة القرينة المتصلة المانعة عن الظهور، فلا يتشكل ظهور في خطاب الاستصحاب بلحاظ الماء المتوارد فيه الحالتان، بخلاف استصحاب الطهارة في الماء الآخر، فيكون خطابا مختصا، اللهم الا أن يمنع من احراز انعقاد ظهور خطاب الاستصحاب فيه ايضا.

واين هذا من المقام الذي يكون المحذور هو المناقضة في المؤدى مطلقا سواء كان في معارضة استصحاب عدم اللازم مع استصحاب بقاء الملزوم او في معارضته مع استصحاب وجود اللازم.

جواب الشيخ الاعظم “قده” عن اشكال المعارضة

هذا وقد اجاب الشيخ الاعظم “قده” عن اشكال المعارضة بأنه لو كان استصحاب بقاء الملزوم كافيا لاثبات اثر لازمه العقلي فيكون حاكما على استصحاب عدم لازمه.

واورد عليه المحقق الايرواني “ره” بأن توهّم الحكومة هنا في غاية الفساد، فإنّ مجرى الاستصحاب الثاني اي عدم اللازم ليس من الآثار الشرعيّة المترتّبة على الاستصحاب الأوّل كي تتمّ الحكومة، و يرتفع الشكّ فيه، و إنّما حكمه يترتّب على الأوّل كما يترتّب على الثاني أيضا، فهناك أصلان متعارضان أحدهما في موضوع قريب و الآخر في موضوع بعيد([19]).

وقد يخطر بالبال الدفاع عن مدعى الشيخ الاعظم بما مر منّا مرارا من أنه اذا كان هناك اصلان وكان مورد جريان احدهما ناسخا بوجوده الواقعي لمورد جريان الآخر، فيُسري العرف هذه الناسخة الواقعية الى الاصل الجاري فيهما، فيرى الاصل الجاري في الحالة الناسخة ناسخا ومقدما على الاصل الجاري في الحالة المنسوخة، بشرط أن يكون الاصل الاول منقحا لحال الحالة المنسوخة، وهذا هو السر في تقدم مثل اصل الطهارة في الماء على استصحاب نجاسة الثوب المتنجس المغسول به، فان قلنا بحجية الاصل المثبت فيتحقق هذا الشرط في المقام ايضا.

ولكن الانصاف أنه حيث لا يثبت باستصحاب الملزوم تحقق اللازم وانما يثبت به تحقق اثره الشرعي، فلا موجب لترجيحه على استصحاب عدم اللازم النافي لذلك الاثر الشرعي، كما هو مختار البحوث وفاقا لجمع من الاعلام.

کلام المحقق العراقي “قده”

هذا وقد ذكر المحقق العراقي “قده” ما محصله أن هنا احتمالات ثلاثة تتم الحكومة بناء على الاحتمال الثاني منها فقط، وهذه الاحتمالات ما يلي:

الاحتمال الأول: أن يبنى على حجية مثبتات الاستصحاب مطلقا، فكما أن استصحاب الملزوم يثبت اللازم كذلك استصحاب عدم اللازم يثبت عدم الملزوم، فيصلح استصحاب حياة زيد لاثبات نبات لحيته، كما يصلح استصحاب عدم نبات لحيته لاثبات عدم حياته، فبناءً عليه يحصل التوارد بين الاستصحابين، لأن كل واحد منهما ينفي موضوع الآخر تعبدا، فيؤدي الى تعارضهما.

الاحتمال الثاني: ان يبنى على حجية الاستصحاب المثبت بمعنى إثباته للازم المستصحب دون ملزومه.

و بناء عليه يكون الأصل المثبت حاكما على‏ استصحاب عدم اللازم، لأنه يرفع الشك في تحقق ذلك اللازم تعبدا دون العكس.

الاحتمال الثالث: ان يبنى على حجية الأصل المثبت، لا بمعنى إثبات اللازم العقلي و التعبد به، بل بمعنى إثبات اثره الشرعي ابتداء و كأنه لا واسطة عقلية في البين.

و بناء عليه يقع التعارض بين الاستصحابين، لأن شيئا منهما لا يرفع مورد الشك في الآخر([20]).

وقد علّق في البحوث على ما ذكره المحقق العراقي في الاحتمال الاول أنه قد يناقش فيه بأن استصحاب عدم نبات اللحية لا يرفع الشك في حياة زيد، لأنه لو أريد نفي حياته لترتب أثر آخر غير المترتب على نبات لحيته فهذا خارج عن البحث، و قد يفرض أنه لا أثر آخر مترتب على حياته، و ان أريد نفي حياته لنفي نبات لحيته استطراقا إلى نفي اثره من وجوب التصدق مثلا، فهذا لا معنى له، لأن نفي نبات لحيته بنفسه مدلول مطابقي للاستصحاب، بلا حاجة إلى الرجوع إلى الوراء و إثباته بالملازمة فانه أشبه بتحصيل الحاصل، و عليه فيكون استصحاب الحياة حاكما على استصحاب عدم نبات اللحية، لأنه يرفع الشك فيه دون العكس.

ثم أجاب عن هذه المناقشة بأن استصحاب الحياة بناء على هذا الفرض يثبت جميع اللوازم و الملازمات و منها وجوب التصدق المترتب على نبات اللحية، لأنه من ملازمات الحياة، فاستصحاب الحياة يثبت وجوب التصدق رأسا لكونه ملازما له بلا حاجة إلى إثبات نبات لحيته استطراقا إلى إثباته، نعم بناء عليه يكون الأصلان متعارضين لا متواردين كما تصور المحقق العراقي “قده”.

وقد اورد في كتاب الأضواء على هذا الجواب بأن استصحاب حياة زيد وان كان يثبت ملازمها وهو وجوب التصدق لكن لا مانع من اثباته للازمها ايضا وهو نبات لحية زيد، فيكون حاكما على استصحاب عدم نبات اللحية.

ثم قال: نعم يمكن ان يجاب عن هذه المناقشة بجوابين آخرين:

احدهما: أن اثر استصحاب عدم نبات اللحية ايضا التعبد بعدم حياة زيد، ولكن لا مقدمة للتعبد بعدم نبات اللحية حتى يقال بكونه تحصيلا للحاصل، بل لنفي ملازم الحياة وهو وجوب التصدق، فيرجع اشكال التوارد، اي صلاحية كل من الاستصحابين للحكومة على الآخر.

ثانيهما: أنه لو فرض تمامية هذا النقاش مع ذلك يكفي في جريان استصحاب عدم نباب اللحية معارضته لاستصحاب حياة زيد، فانه بعد حجية مثبتات الاستصحاب يكون نظير تعارض الامارة النافية لنبات لحية زيد مع الامارة المثبتة لحياته([21]).

اقول: أما ايراده على جواب البحوث عن المناقشة، ففيه أن دليل الاستصحاب له تطبيق واحد على اليقين السابق بحياة زيد بلسان النهي عن نقضه العملي بعدم ترتيب التصدق، وأما كونه مشتملا على التعبد بنبات لحيته، ومن خلاله يتعبد بوجوب التصدق او يتعبد بوجوب التصدق مباشرة فهو ساكت عنه، والمتيقن هو الثاني.

كما يرد هذا الاشكال على ما ذكر في الجواب الاول من الجوابين الآخرين اللذين ذكرهما، وكذا على الجواب الثاني، حيث ان استصحاب عدم نبات اللحية انما يجري حيث ينتهى الى أثر عملي وهو نفي وجوب التصدق، وقد اتضح أن جريانه بلحاظ هذا الاثر ليس له لسان التعبد بعدم حياة زيد، على أنه لا يكون جوابا آخر غير الجواب الاول، لأن جريانه لابد من أن يكون لأثر عملي وهو نفي وجوب التصدق، ولو بتوسيط التعبد بنفي حياة زيد.

وبذلك اتضح تمامية ما ذكره في البحوث من المعارضة بين استصحاب حياة زيد لاثبات ملازمها وهو وجوب التصدق مع استصحاب عدم نبات لحيته لنفي وجوب التصدق.

ثم ذكر في البحوث أن ما افاده المحقق العراقي حول الاحتمال الثاني صحيح على المباني المشهورة في تقدم الأصل السببي على المسببي.

ثم علّق على ما ذكره حول الاحتمال الثالث من أنه صحيح، الا اذا قيل بأنه إذا دار الأمر بين تخصيص عموم دليلٍ بإخراج فرد من موضوعه أو تقييد إطلاقه الأحوالي بإخراج حالة من أحوال فردٍ، تقدم العموم الأفرادي على الإطلاق الأحوالي، فحينئذ بناء على تمامية العموم الأفرادي في بعض أدلة الاستصحاب و لو مثل ما جاء في الصحيحة الثالثة “و لا يعتد بالشك في حال من الحالات” يقال بأنه يدور الأمر في المقام بين رفع اليد عن العموم الأفرادي في هذه الصحيحة للاستصحاب الجاري في نفي اللازم العقلي أو الإطلاق فيها للأصل المثبت بلحاظ إثبات أثر الواسطة فيما لو فرض وجود أثر آخر له غير هذا الأثر، و حيث ان العموم مقدم على الإطلاق يتعين التقييد دون التخصيص فيجري الاستصحاب في نفي الواسطة العقلية دون ان يعارضه الأصل المثبت فضلا من ان يحكم عليه([22]).

هذا وقد وافق السيد الخوئي “قده” مع المحقق العراقي “قده” فيما ذكره في الاحتمال الثاني والثالث واغفل الاحتمال الاول، لكن ذكر مكانه احتمالا آخر، وهو أن يقال باعتبار الأصل المثبت من جهة القول بأن حجية الاستصحاب لأجل إفادته الظن بالبقاء، و أن الظن بالملزوم يستلزم الظن باللازم لا محالة، و عليه فلا معنى للمعارضة بين الاستصحابين، لأنه بعد حصول الظن باللازم بجريان الاستصحاب في الملزوم لا يبقى مجال لاستصحاب عدم اللازم، و لا يمكن حصول الظن بعدمه من الاستصحاب المذكور، لعدم إمكان اجتماع الظن بوجود شي‏ء مع الظن بعدمه. فما ذكره الشيخ “ره” صحيح على هذا المبنى([23]).

اقول: المستحيل هو اجتماع الظن الشخصي بوجود الملزوم مع الظن الشخصي بعدم اللازم، بينما أن الذي يرى حجية الاستصحاب من باب افادة الظن يكون نظره الى الظن النوعي، كما في سائر الأمارات، و لامانع من اجتماع ظنين نوعيين مخالفين، كما لو اخبر ثقة بحياة زيد وأخبر ثقة أخرى بعدم نبات لحيته، فيتعارضان، ولا موجب لدعوى حكومة الظن النوعي في الملزوم الذي يكون بمثابة العلة على الظن النوعي في اللازم الذي يكون بمثابة المعلول، على وزان حكومة الاصل السببي على الاصل المسببي، ولذا لم يدع احد أن اخبار الثقة بوجود حياة زيد حاكم على اخبار ثقة آخر بعدم نبات لحيته.

على أن امتناع اجتماع الظن بوجود الملزوم مع الظن بعدم اللازم لا يعني جعل حصول الظن بالملزوم كالحياة مفروغا عنه، مع وجود المقتضي لحصول الظن بعدم نبات اللحية، فانه مع حصوله ايضا يستحيل معه الظن بوجود الحياة.

هذا ويمكن أن يذكر توجيه لكلام السيد الخوئي و هو -ما في البحوث بتقريب منا- أنه بناء على كون حجية الاستصحاب من باب افادة اليقين بالحدوث للظن النوعي أو الشخصي بالبقاء فهذا الظن بالبقاء ليس ناشئا من الاستقراء كقضية خارجية، والا لكان اشكال المعارضة في محله، كما لا يقاس بالظن النوعي في خبر الثقة، حيث انه قد يخبر ثقة عن حياة زيد بالفعل، ويخبر ثقة آخر عن عدم نبات لحيته بالفعل، فيتعارضان، ولا وجه لتقدم الخبر الاول على الثاني، لكون منشا الظن النوعي كون احتمال خطأ الثقة او كذبه موهوما بحساب الاحتمالات، والخبران متساويان في هذا الملاك.

وانما منشأ افادة اليقين بالحدوث للظن بالبقاء اقتضاء طبيعة الشيء لاستمرار حالته السابقة، فطبيعة عدم نبات اللحية مقتضية للاستمرار، ولكن تأثير هذا المقتضي يختص بما لم يوجد مقتض اقوى يقتضي تبدل ذلك العدم الى الوجود، والمقتضي الأقوي هو علته اي بقاء حياة زيد، فكما يكون بقاء حياته ناسخا لعدم نبات لحيته ولا يوجد منافاة بينهما، فكذلك يرى العرف تقدم استصحاب الحياة بناء على الامارية على استصحاب عدم نبات اللحية، نظير ما لو اخبر ثقة باشتعال النار في البيت وأخبر ثقة أخرى بنزول مطر غزير في وقت لاحق، فانه لا منافاة بين اقتضاء النار لاحتراق البيت مع حدوث مانع عن الاحتراق.

وان شئت قلت: ان الغالب في المعلولات انتقاض حالتها السابقة العدمية فيما كانت الحالة السابقة وجود عللها وذلك لغلبة بقاء وجود تلك العلل الى أن تؤثر في ايجاد تلك المعلولات، فقاعدة أن الأشياء غالبا تبقى على حالتها السابقة يستثنى منها المعلولات، فانها تابعة لعللها و غلبة بقاءها([24]).

وكيف كان فالامر سهل بعد عدم كون حجية الاستصحاب من باب افادة اليقين بالحدوث للظن بالبقاء.

ثم ان معنى كلام البحوث هو التفصيل بين مبنى أمارية الاستصحاب لأجل افادته الظن فيقدم على استصحاب عدم اللازم، وبين مبنى حجيته من باب الأصل العملي والأخبار فيتعارض استصحاب بقاء الملزوم كحياة زيد المثبت للاثر الشرعي المترتب على نبات لحيته مع استصحاب عدم نبات لحيته النافي لذاك الاثر.

خفاء الواسطة وجلاءها

قد استثني من عدم حجية الاصل المثبت خفاء الواسطة وجلاءها، ويعنى بخفاء الواسطة ما اذا كان العرف في نظره التسامحي ينسب اثر اللازم الى الملزوم لكون المغايرة بين اللازم والملزوم بحاجة الى التدقيق ولو كان التدقيق عرفيا، فالعرف بنظره المسامحي لا يحسّ بالمغايرة بينهما فينسب اثر احدهما الى الآخر.

ويعنى بجلاء الواسطة أن العرف وان كان يحس بالمغايرة بين اللازم والملزوم، ولكن لشدة التصاقهما ووضوحه لا يقبل التفكيك بينهما حتى في التعبد الظاهري، فاستصحاب احدهما ملازم عرفا للتعبد الظاهري بالآخر.

خفاء الواسطة

أما خفاء الواسطة فقد استثناه الشيخ الاعظم “ره” من عدم حجية الأصل المثبت‏، كما ذكر صاحب الكفاية “ره” أنه لا يبعد ترتيب خصوص ما كان محسوبا بنظر العرف من آثار نفس المستصحب لخفاء ما بوساطته، بدعوى أن مفاد الأخبار عرفا ما يعمه أيضا حقيقة فافهم([25]).

ومثّل له الشيخ الأعظم بعدة امثلة:

منها: ما إذا استصحب رطوبة النجس، فإنه لا يبعد الحكم بتنجس ملاقيه، مع أن تنجسه ليس من أحكام ملاقاته للنجس رطبا، بل من أحكام سراية رطوبة النجاسة إليه و تأثره بها، و من المعلوم أن استصحاب رطوبة النجس لا يثبت تأثر الثوب، فهو أشبه بمسألة بقاء الماء في الحوض المثبت لانغسال الثوب به.

و حكى في الذكرى عن المحقق الحلي “ره” تعليل الحكم بطهارة الثوب الذي طار الذباب عن النجاسة إليه بعدم الجزم ببقاء رطوبة الذباب، و ارتضاه، فيحتمل أن يكون لعدم إثبات الاستصحاب لوصول الرطوبة إلى الثوب كما ذكرنا، و يحتمل أن يكون لمعارضته باستصحاب طهارة الثوب.

و منها: ما اذا استصحب عدم دخول هلال شوال في يوم الشك المثبت لكون غده يوم العيد، فإن مجرد عدم الهلال في يومٍ لا يثبت كون غده اول الشهر اللاحق، لكن العرف لا يفهمون من وجوب ترتيب آثار عدم انقضاء رمضان و عدم دخول شوال إلا ترتيب أحكام أولية غده لشهر شوال، فالأول عندهم ما لم يسبق بمثله.

و ربما يتمسك في بعض موارد الأصول المثبتة بجريان السيرة أو الإجماع على اعتباره هناك، مثل إجراء أستصحاب عدم الحاجب لإثبات غسل البشرة و مسحها المأمور بهما في الوضوء و الغسل، و فيه نظر([26]).

فما نقل عنه في مصباح الاصول من أنه مثّل لخفاء الواسطة باستصحاب عدم الحاجب، وان رفع الحدث و ان كان في الحقيقة أثراً لوصول الماء إلى البشرة، إلا أنه بعد صب الماء على البدن يعد أثراً لعدم الحاجب عرفاً، في غير محله.

ويمكن التمثيل باستصحاب عدم الاتيان بالفريضة الى آخر الوقت لاثبات فوتها، فيقال بأن العرف وان كان يفهم من الخطاب كون موضوع وجوب القضاء هو الفوت، ويعترف بكون الفوت عنوانا بسيطا منتزعا عن مضي وقت الفريضة مع عدم استيفاء ملاكها (از دست رفتن) لكنه يتسامح في مقام اجراء الاستصحاب فينسب وجوب القضاء -الذي يعترف في نظره الدقي بكونه اثر الفوت- الى عدم الاتيان، او يطبق عنوان الفوت على عدم الاتيان، فيستصحب عدم الاتيان، ويثبت به الفوت.

اشکال علی جريان الاستصحاب مع خفاء الواسطة

وقد اورد المحقق النائيني والسيد الخوئي “قدهما” على القول بجريان الاستصحاب مع خفاء الواسطة بأنه انما یرجع الى العرف في تشخيص المفاهيم، دون المصاديق، فلا عبرة بالمسامحات العرفية في مقام التطبيق، كمسامحته في تطبيق اقامة عشرة ايام او الكرّ على ما يقلّ منهما يسيرا، فانه لا يجوز الأخذ بها و الحكم بكفاية قصد الاقامة ذاك في التمام او اعتصام ذلك الماء، ففي مثل استصحاب عدم الاتيان بالفريضة الى آخر الوقت لاثبات وجوب القضاء إن كان العرف يستظهر من الأدلة أن موضوع وجوب القضاء هو عدم الاتيان ولو لأجل استظهار كون الفوت هو عدم الاتيان، فلا يكون هذا استثناءً من عدم حجية الأصل المثبت، لكون الأثر حينئذ أثراً لنفس المستصحب دون لازمه، و إن كان العرف معترفا بأن المستظهر منها أن موضوع وجوب القضاء هو الفوت وأن مفهومه امر وجودي فيختلف عن مفهوم عدم الاتيان، فلا فائدة في خفاء الواسطة بعد عدم كون الأثر أثراً للمستصحب([27]).

بیان اربعه فروض فی البحوث

وذكر في البحوث أن هنا فروضا اربعة:

1- أن نقول بكون الاستصحاب ناظرا إلى الأثر المباشر، دون الأثر مع الواسطة، لا لمجرد الانصراف، بل لقصور دليل الاستصحاب عنه في نفسه، فتجيء شبهة وهي أنّ مسامحة العرف تجعل الأثر المترتّب على الواسطة الخفيّة كأنّه الأثر المباشر؛ لأنّه لا يرى الواسطة لخفاءها، و حلّ الشبهة أنّ العرف إنّما يكون حجّة في باب المفاهيم و الظهورات، دون مقام التطبيق، الا اذا كان المصداق امرا اعتباريا قد اعتبره العرف المعاصر للشارع كمصاديق الضرر الحقي، ومن الواضح ان رؤية العرف الأثر الشرعي أثرا للمستصحب، لعدم رؤيته للواسطة لخفاءها ليس من هذا القبيل.

2- أن نقول: إنّ دليل الاستصحاب لولا الانصراف يشمل كلّ الآثار و لو كانت مع الواسطة، إلّا أنّه منصرف عن فرض رؤية العرف للأثر مع الواسطة، لا عدم وجودها واقعا، فالاستصحاب في المقام يكون حجّة، لأنّ المفروض أنّ العرف لم ير الواسطة.

ولكن لا وجه لهذا الفرض.

3- بناء على ما اخترناه من أنّ الاستصحاب لا ينظر في لسانه إلى التعبّد بالأثر و لو كان مباشراً، و إنّما يثبت نفس المستصحب، فاذا ضم ذلك الى احراز كبرى الجعل يترتّب التنجيز العقلي.

فمن الواضح حينئذ عدم جريان الاستصحاب في موارد خفاء الواسطة، إذ إنّ خفاء الواسطة لا يجعل الأثر الشرعي أحسن حالًا من الأثر المباشر، و الاستصحاب بمدلوله اللفظي لا يثبت الأثر المباشر، غاية ما هناك أنّ العقل يحكم بترتّب التنجيز عند إحراز صغرى التكليف و كبرى التكليف معاً، و من الواضح أنّ العقل لا يحكم بالتنجيز حينما احرزت الكبرى و لكن لم تحرز الصغرى، و إنّما احرز تعبداً شي‏ء تكون الصغرى اثرا ولازما تكوينياً خفيّاً له، و المفروض أنّ التعبّد الاستصحابي بالشي‏ء ليس مساوقاً للتعبّد بأثره.

4- بناء على ما يقال من أنّ الاستصحاب لما يثبت الصغرى ونضمه الى كبرى الجعل فيثبت الحكم الفعلي، فهو كالفرض السابق، حيث ان المفروض أنّ الاستصحاب لا ينظر إلى الآثار، و الكبرى التي تثبت الأثر قد فرضنا أنّها تثبته على الواسطة الخفية، و أنّه ليس هناك ما يوجب استظهار العرف من خطاب الكبرى كون الأثر للمستصحب.

فلم يوجد وجه لكفاية خفاء الواسطة عدا الوجه الثاني الذي تقدم ضعفه([28]).

اقول: الظاهر من كلمات الاعلام أن المراد من خفاء الواسطة بنظرهم فرض التفات العرف بنظره العرفي الدقي الى الواسطة وعدم كون الاثر ثابتا للمستصحب وانما هو ثابت للواسطة، ولذا شُبِّه المقام بالتسامح العرفي في تطبيق الكر على ما يقلّ عن حده بمقدار يسير، مع أن من الواضح أن العرف بنظره العرفي الدقي يعترف بنقصانه من الكر، فيقال حينئذ بأن العرف نفسه لا يستند الى مسامحاته في مقام الاحتجاج والاغراض اللزومية.

فالتقريب المعروف لخفاء الواسطة هو أن العرف بنظره المسامحي يرى اثر الواسطة اثر المستصحب، فيرى العرف اثر الفوت اثرا لعدم الاتيان، والتقريب الآخر هو أن العرف بنظره المسامحي يرى أن الفوت هو عدم الاتيان وبتبعه يرى اثر الفوت اثرا له.

وحيث ان التقريب الاول هو المذكور في البحوث فذكر أنه على مبناه من أن الاستصحاب لا نظر له الى اثر المستصحب ابدا، فلا معنى لأن يقال بأن العرف يرى في تطبيق الاستصحاب على هذا الاثر كونه اثر المستصحب وان كان اثر الواسطة، ولو فرض تسامح العرف بأن يرى جعل كبرى “من فاتته فريضة فليقضها” جعلا لكبرى “من ترك فريضة فليقضها” فلا اثر له في تحقق الموضوع للتنجيز العقلي، و لكنك ترى أنه بناء على التقريب الثاني لا يرد هذا الاشكال.

وذكر في تعليقة البحوث أنه قد يقال بأن خفاء الواسطة يجعل ترتيب ذلك الأثر من مقتضيات اليقين بالمستصحب ابتداءً، لخفاء الواسطة فيكون التعبد ببقاء اليقين بحسب الحقيقة إسراءً لنفس ذلك الأثر في مورد الاستصحاب، لأن ترتب الأثر على كل حال لابد من استفادته من نفس دليل التعبد ببقاء اليقين لا من دليل آخر، إذ ليست الحكومة واقعية أو ورودا، بل حكومة ظاهرية تنزيلية([29]).

وفيه أنه يمكن أن يجيب البحوث عن ذلك بأن اليقين بمجموع الصغرى وكبرى الجعل هو المحرك لا اليقين بالصغرى، مع عدم انطباق كبرى الجعل عليه.

کلام السيد الامام “قده”

هذا و قد ذكر السيد الامام “قده” أن المراد من خفاء الواسطة هو أن العرف و لو بالنظر الدّقيق لا يرى وساطة الواسطة في ترتب الحكم على الموضوع و يكون لدى العرف ثبوت الحكم للمستصحب من غير واسطة، و انما يرى العقل بضرب من البرهان كون الأثر مترتبا على الواسطة لبّا، و ان كان مترتبا على ذي الواسطة عرفا، مثاله أن الشارع إذا قال “حرِّم عليكم الخمر” يكون الموضوع للحرمة هو الخمر عرفا، لكن العقل يحكم بأن ترتب الحرمة على الخمر لا يمكن إلاّ لأجل مفسدة قائمة به تكون تلك المفسدة علة واقعية للحرمة، ثم لو فرض ان العقل احاط بجميع الخصوصيات الواقعية للخمر و حكم أن العلة الواقعية للحرمة هي كونه مسكرا مثلا، فيحكم بان إسكار الخمر علة لثبوت الحكم بالحرمة، ثم حكم بأن موضوع الحرمة ليس هو الخمر، بل الموضوع هو المسكر بما انه مسكر، و لما كان هو متحدا في الخارج مع الخمر حكم بحرمته بحسب الظاهر، و لكن الموضوع الواقعي ليس الا حيثية المسكرية، لأن الجهات التعليلية هي الموضوعات الواقعية لدى العقل، فإذا علم أن مائعا كان خمرا سابقا و شك في بقاء خمريته فلا إشكال في جريان استصحاب الخمرية و ثبوت الحرمة له.

و ليس المراد بخفاء الواسطة أن العرف يتسامح و ينسب الحكم إلى الموضوع دون الواسطة، مع رؤيتها، لأن الموضوع للأحكام الشرعية ليس ما يتسامح فيه العرف بل الموضوع للحكم هو الموضوع العرفي حقيقة و من غير تسامح.

ثم ان ما وقع في كلام صاحب الكفاية و تبعه بعضهم من أن تشخيص المفاهيم موكول إلى العرف لا تشخيص مصاديقها فانه موكول إلى العقل غير متجه، ضرورة أن الشارع لا يكون في خطاباته الا كواحد من العرف و لا يمكن ان يلتزم بأن العرف في فهم موضوع أحكامه و مصاديقه لا يكون متبعا بل المتبع هو العقل([30]).

ويرد عليه أنه اذا كان العرف الدقيق يرى كون الاثر الشرعي اثرا للمستصحب فلا محالة يعني ذلك استظهاره من الخطاب أن الموضوع هو ذلك العنوان الذي جرى فيه الاستصحاب، فلو كان يرى أن وجوب القضاء الذي رتب في الدليل الشرعي على عنوان الفوت اثر عدم الاتيان فلا محالة يستند ذلك الى الاستظهار من ذلك الدليل كون موضوعه عنوان عدم الاتيان، ولو من باب أنه هو الفوت، واين هذا من خفاء الواسطة، وهكذا مثال اسناد العرف حصول الطهارة الى صب الماء مع عدم الحاجب مع أنه رتب في الدليل الشرعي على عنوان غسل البشرة، فلابد أن يستظهر اتحاد مفهوم الغسل معه، فيكون خارجا عن بحث خفاء الواسطة.

وما ذكره من مرجعية العرف الدقيق غير المسامحي في تشخيص المصاديق، ففيه أنه لا دليل على جواز الرجوع الى العرف في تشخيص المصاديق ما لم يرجع ذلك الى تحديد سعة المفهوم وضيقه، فلو ترتب حكم شرعي على رؤية جسمٍ في حال الحركة، فان العرف وان كان يرى أن الشمس تتحرك حول الارض، ولكن من يعلم او يحتمل خطأ العرف في ذلك، وأن الارض هي التي تتحرك حول الشمس فلا يسعه أن يرتِّب ذاك الحكم على رؤيته الشمس حال طلوعها مثلا.

ولا وجه لقياسه بما اذا كان تشخيص العرف راجعا حقيقة الى تحديد سعة المفهوم او ضيقه، ومن هنا تبين أنه لا يتم مثاله للرجوع الى العرف في تشخيص المصاديق بنظر العرف في عدم كون لون الدم مصداقا للدم، مع أن العقل يكشف من بقاء لون الدم عن بقاء نفس الدم، ببرهان امتناع بقاء العرض بلا محلّ، او انتقاله من محلّه الى محلّ آخر.

فان نظر العرف في هذا المثال راجع الى تحديد مفهوم الدم، وهكذا نظره في نفي الدم عن اجزاء الدم التي لا ترى الا بالأجهزة الحديثة، فانه راجع الى تضييق مفهوم الدم عرفا بما يمكن رؤية عينه بالعين المجردة فالمفهوم الموضوع له لفظ الدم أي ما يفهم منه العرف هو ما ينطبق على ما يكون مصداقا له بالنظر الدقي العرفي، و لو سلّم صدقه عليه حقيقة فلا ريب في انصراف الخطاب المتوجه الى العرف، المشتمل على جعل احكام تكليفية و وضعية على الدم عنه، فهذا ايضا يدخل في المفهوم، لكنه مفهوم مستفاد من كل الجملة، لا من كلمة الدم.

وسيأتي أن الرجوع الى نظر العرف في تشخيص بقاء الموضوع في الاستصحاب لأجل دخله في مفهوم العنوان المعلوم الحدوث كالتكلم، وكذا الماء الذي شك في بقاء كريته لاجل اخذ مقدار منه، حيث العرف وصف الكرية ثابتا لمعظم الماء، الباقي بعد اخذ جزء يسير منه، فيرى انطباق مفهوم نقض اليقين بالشك عليه.

محل النزاع في بحث خفاء الواسطة

وعليه فالظاهر أن محل النزاع في بحث خفاء الواسطة هو أنه هل يجوز الاخذ بتسامح العرف في عدم لحاظ الواسطة واسناد الاثر الى المستصحب، لأجل غفلته النوعية، وان كان لو التفت وحكم في مقام الاحتجاج لاعترف بتغاير الواسطة وذيها .

فقد ذكر بعض الاجلاء “دام ظله” بشكل عام أن المرجع في تشخيص المصداق، هو النظر العرفي غير المبني على التدقيق([31])، فيطبق ذلك على خفاء الواسطة.

ولكن يرد عليه أنه لا دليل على الأخذ بما يتسامح فيه العرف مع اعترافه بكونه تسامحا منه، و لذا لا يقبل العرف نفسه هذا التسامح في مقام الاحتجاج.

نعم قد يقال: ان العرف ولو بعد التفاته الى كون الاثر مترتبا على الواسطة وتغايرها عن المستصحب يرى أن عدم ترتيب هذا الاثر عند اليقين بحدوث المستصحب من نقض اليقين بالشك، كما يدعى في استصحاب القيد لاثبات التقيد، مثل ما لو كان الواجب هو الصلاة في النهار، فان العرف يرى عدم ترتيب اثر الصلاة في النهار على الاتيان بالصلاة في الزمان المستصحب كونه نهارا نقضا لليقين بالشك، بنظره الدقيق غير المسامحي، مع أن وجود النهار مما لا يمكن تعلق الامر به لخروجه عن الاختيار، فيكون الواجب هو اتصاف الصلاة بوقوعها في النهار فيقال كما في البحوث ان اثباته باستصحاب بقاء النهار من الاصل المثبت، وكذا لو وجب أن نكرم عالما، وشككنا في بقاء عدالة زيد، فيثبت باستصحابه تحقق اكرام العالم.

وهكذا استصحاب الجعل لاثبات المجعول واستصحاب الحرمة التعليقية لاثبات الحرمة الفعلية، واستصحاب الحكم الفعلي لاثبات ما اذا كان الموضوع مركبا من كبرى الجعل وتحقق صغراها وبالعكس.

فيقال بأن نكتة عدم حجية الاصل المثبت، قصور الدليل الاثباتي، اي عدم صدق نقض اليقين بالشك عليه، فان فرض صدقه لم يكن وجه لعدم حجيته.

الا أن الانصاف عدم تمامية هذا البيان، فان الجمع بين الاعتراف بأنه حسب النظر العرفي غير المسامحي يكون الاثر ثابتا للواسطة التي هي مغايرة مع المستصحب، وبين دعوى صدق نقض اليقين بالشك عليه بالنظر العرفي غير المسامحي مشتمل على مجازفة واضحة، ولا دليل على كفاية صدق نقض اليقين بالشك بالنظر المسامحي.

الانصاف أن القول بكفاية خفاء الواسطة مشكل جدا

ودعوى أن الغفلة النوعية في تطبيق دليل الاستصحاب على موارد خفاء الواسطة توجب انعقاد الاطلاق المقامي للدليل، حيث ان الشارع لو كان مخالفا لكان سكوته اخلالا بالغرض غير واضحة، للمنع من الغفلة النوعية لعامة الفقهاء المتصدين لتعليم الناس لتطبيق الاستصحاب على هذه الموارد، مضافا الى أن كون الغفلة النوعية في بعض الموارد موجبة لانعقاد الاطلاق المقامي للخطاب العام محل اشكال، فالانصاف أن القول بكفاية خفاء الواسطة مشكل جدا.

هذا وقد ذكر المحقق الايرواني أن اشكال معارضة الاستصحاب في سائر موارد الاصل المثبت يأتي في خفاء الواسطة ايضا، فكما أن استصحاب عدم الاتيان يثبت وجوب القضاء الذي موضوعه الفوت لخفاء الواسطة، كذلك استصحاب عدم الفوت ينفي وجوب القضاء فيتعارضان([32]).

اقول: الظاهر أن مقصوده أن العرف يرى عدم ترتيب وجوب القضاء مثلا على اليقين السابق بعدم الاتيان بالفريضة نقضا لليقين به بالشك، ويرى ترتيب وجوب القضاء ايضا نقضا لليقين السابق بعدم فوت الفريضة بالشك، فلا مرجح للتمسك بعموم الاستصحاب بالنسبة الى احدهما دون الآخر.

والجواب عنه بأنه ان كان المقصود من خفاء الواسطة أن العرف يرى بالنظر المسامحي أن الفوت هو عدم الاتيان وهذا النطر حجة في مقام تطبيق عموم الاستصحاب فلا معنى لحجية النظر الدقي المخالف له الموجب لتضيق مفهوم الفوت، وان كان المقصود أن العرف يرى كون وجوب القضاء الذي هو اثر الفوت اثر عدم الاتيان ايضا فيكون موضوعه بالنظر المسامحي الجامع بين الفوت وعدم الاتيان واستصحاب عدم الفوت لا ينفي الجامع، بخلاف استصحاب عدم الاتيان فانه يثبت الجامع.

جلاء الواسطة

ذكر صاحب الكفاية أنه لا يبعد ترتيب ما كان بوساطة ما لا يمكن التفكيك عرفا بينه و بين المستصحب تنزيلا، كما لا تفكيك بينهما واقعا، أو بوساطة ما لأجل وضوح‏ لزومه له أو ملازمته معه بمثابة عد أثره أثرا لهما، فإن عدم ترتيب مثل هذا الأثر عليه يكون نقضا ليقينه بالشك أيضا بحسب ما يفهم من النهي عن نقضه عرفا فافهم([33]).

کلام صاحب الكفاية فی حجية الأصل المثبت في جلاء الواسطة

و حاصل كلامه حجية الأصل المثبت في جلاء الواسطة، وذكر لذلك تقريبين:

احدهما: أن العرف قد لا يتعقل التفكيك بين المستصحب ولازمه الموضوع للاثر الشرعي حتى في مقام التعبد الظاهري، وذلك لشدة الالتصاق بينهما، فالأبوة و البنوّة لا يمكن ان يكون بينهما تفكيك حتى في مرحلة التعبد و الحكم الظاهري فيكون الدليل على أحدهما دليلًا على الآخر.

ثانيهما: قد يكون وضوح التلازم بين المستصحب ولازمه بحيث يرى العرف أثر اللازم أثراً للمستصحب، فيرى الاثر الشرعي الثابت لابوة زيد لعمرو اثر بنوة عمر لزيد، و مثّل له في حاشية الرسائل بالعلة و المعلول و المتضائفين، فإذا دل دليل على التعبد بأبوّة زيد لعمرو مثلا، فيدل على التعبد ببنوة عمرو لزيد، فكما يترتب أثر أبوة زيد لعمرو كوجوب الإنفاق لعمرو مثلا، كذا يترتب أثر بنوة عمرو لزيد كوجوب إطاعة زيد مثلا، لأنه كما يجب على الأب الإنفاق للابن، كذلك يجب على الابن إطاعة الأب، و الأول أثر للأبوة، و الثاني أثر للبنوة مثلا، أو نقول إن أثر البنوة أثر للأبوة أيضا، لوضوح الملازمة بينهما، فكما يصح انتساب وجوب الإطاعة إلى البنوة، كذا يصح انتسابه إلى الأبوة أيضا، و كذا الكلام في الأخوة، فإذا دل دليل على التعبد بكون زيد أخاً لهند مثلا، فيدل على التعبد بكون هند أختاً لزيد، لعدم إمكان التفكيك بينهما في التعبد عرفاً، أو نقول يصح انتساب الأثر إلى كل منهما لشدة الملازمة بينهما، فكما يصح انتساب حرمة التزويج إلى كون زيد أخاً لهند، كذا يصح انتسابها إلى كون هند أختاً لزيد.

والتزم بجريان الاستصحاب في هذين الفرضين، لأنه يكون من اثبات لازم نفس الاستصحاب بدليل الاستصحاب الذي هو من الامارات كصحيحة زرارة، ويخرج عن بحث الاصل المثبت.

مناقشه المحقق الأصفهاني “قده”

وقد استشكل فيه المحقق الأصفهاني “قده” ‏بأن جلاء الواسطة و ان سلم كبرويا، لكنه صغرويا لا مورد له، فأما مورد العلة و المعلول فهو خارج عن محل الكلام، لأن اليقين بحدوث العلة التامة يستلزم اليقين بالمعلول، فكما تكون العلة التامة مجرى الاستصحاب كذلك يكون المعلول بنفسه لاجتماع أركانه بالنسبة إليه، و هكذا الحال بالنسبة إلى المتضايفين، لأنهما متكافئان قوة و فعلية خارجا و علما، فاليقين بالأبوة مستلزم اليقين بالبنوة، فمع فرض تحقق اليقين بأحدهما لابد أن يفرض اليقين بالآخر، فيكون كلاهما مجرى الاستصحاب([34]).

کلام السيد الخوئي “قده”

كما ذكر السيد الخوئي “قده” أنه لا نقاش في كبرى جلاء الواسطة، لكن لم يثبت له صغرى، و ما ذكره في المتضايفين من الملازمة في التعبد فهو مسلم، إلا أنه خارج عن محل الكلام، إذ الكلام فيما إذا كان الملزوم فقط مورداً للتعبد و متعلقاً لليقين و الشك، و المتضايفان كلاهما مورد للتعبد الاستصحابي، فانه لا يمكن اليقين بأبوة زيد لعمرو بلا يقين ببنوة عمرو لزيد، و كذا سائر المتضايفات فيجري الاستصحاب في نفس اللازم بلا احتياج إلى القول بالأصل المثبت، هذا إن كان مراده عنوان المتضايفين كما هو الظاهر، و إن كان مراده ذات المتضايفين، بأن كان ذات زيد و هو الأب مورداً للتعبد الاستصحابي، كما إذا كان وجوده متيقناً فشك في بقائه و أردنا أن نرتب على بقائه وجود الابن مثلا، بدعوى الملازمة بين بقائه إلى الآن و تولد الابن منه، فهذا من أوضح مصاديق الأصل المثبت، و لا تصح دعوى الملازمة العرفية بين التعبد ببقاء زيد و التعبد بوجود ولده، فان التعبد ببقاء زيد و ترتيب آثاره الشرعية، كحرمة تزويج زوجته مثلا، و عدم التعبد بوجود الولد له بمكان من الإمكان عرفاً، فانه لا ملازمة بين بقائه الواقعي و وجود الولد، فضلًا عن البقاء التعبدي.

و هكذا الحال في مورد العلة و المعلول، فان المراد من العلة ان كان العلة التامة فلا يمكن اليقين بالعلة التامة بلا يقين بمعلولها، فتكون العلة و المعلول كلاهما متعلقاً لليقين و الشك و مورداً للتعبد بلا احتياج إلى القول بالأصل المثبت، و إن كان المراد المقتضي بأن يراد بالاستصحاب إثبات بقاء المقتضي مع احراز الشرط فعلا، فبضم الوجدان إلى الأصل يثبت وجود المعلول و يحكم بترتب الأثر، ففيه أنه لا ملازمة بين التعبد بالعلة الناقصة و التعبد بالمعلول عرفا، كيف؟ و لو استثني من الأصل المثبت هذا، لما بقي في المستثنى منه شي‏ء، و يلزم الحكم بحجية جميع الأصول المثبتة، فان الملزوم و لازمه إما أن يكونا من العلة الناقصة و معلولها، و إما ان يكونا معلولين لعلة ثالثة. و على كلا التقديرين يكون استصحاب الملزوم موجباً لإثبات اللازم بناء على الالتزام بهذه الملازمة، فلا يبقى مورد لعدم حجية الأصل المثبت([35]).

وقد أجاب بعض الاعلام “قده” عن ذلك فقال: يمكن فرض موردٍ يتحقق اليقين بالعلة التامة و لا يمكن إجراء الأصل في المعلول، كما لو فرض أن فعلا واحدا تدريجيا يكون علة لحصول موجودات متكثرة و متعددة بحسب استمرار وجوده، كما لو فرض ان حركة اليد علة للقتل مادامت مستمرة، ففي كل آن يحصل فرد للقتل، فمع الشك في بقاء العلة التامة و هي الحركة يمكن استصحابها، و لا يمكن إجراء الأصل في المعلول لتكثره و تعدد افراده، فهو في هذا الآن مشكوك الحدوث، و ما تعلق به اليقين قد تصرم و انتهى و لا شك في بقائه.

و أما في المتضايفين، فما أفيد من التلازم بين الوجود الفعلي لهما تام بالنسبة إلى مثل الأبوة و البنوة، و اما مثل التقدم و التأخر و السبق و اللحوق، فوجود السابق متقدم زمانا على وجود اللاحق كما هو واضح جدا، و كون التقدم و التأخر من المتضايفان مما لا يقبل الشك و التردد.

و عليه، فمع اليقين بتحقق الوجود السابق على وجود آخر، فإذا شك في‏ زمان في بقاء ذلك الوجود بوصف كونه سابقا يستصحب كونه سابقا على الوجود الآخر، و لازمه تأخر الوجود الآخر عنه بلحاظ ذلك الزمان، فيمكن ان يدعى أن التعبد بسابقية أحد الوجودين لا ينفك عن التعبد بتأخر الوجود الآخر، و لذا قد يعبر عن اشتراط البعدية باشتراط القبلية، كما ورد بالنسبة إلى صلاة الظهر و العصر التعبير بأن هذه قبل هذه، مع ان الشرط هو كون صلاة العصر بعد الظهر لا كون صلاة الظهر قبلها، فالمناقشة الصغروية غير وجيهة.

و تحقيق الحال في المتضايفين ان يقال: ان العناوين المتضايفة كالأبوة و البنوة و الفوقية و التحتية و نحو ذلك عناوين انتزاعية عن خصوصية واقعية و نسبة خاصة متحققة في ذاتي المتضايفين. فمن ملاحظة الوجودين بنحو خاص ينتزع عنوان الفوق و التحت.

و لا يخفى ان الخصوصية الواقعية التي ينتزع عنها الفوقية و التحتية واحدة، و انما التعدد في طرفي النسبة و الربط و في العنوان المنتزع، لا أن خصوصية الفوقية غير خصوصية التحتية، نظير الملكية التي هي ربط خاص و علاقة واحدة ذات طرفين و منشأ لانتزاع العناوين المتعددة.

و عليه، نقول: ان موضوع الأثر الشرعي ان كان هو منشأ انتزاع العناوين المتضايفة و هي تلك الخصوصية الواقعية و الربط الخاصّ -كما هو الصحيح حيث ان الدخيل هو منشأ الانتزاع لا نفس العنوان- كان التعبد بأحد المتضايفين غير التعبد بالآخر بلا أن تكون ملازمة في البين، لأن مرجع التعبد بالأبوة إلى التعبد بتلك الإضافة الخاصة التي تكون منشأ لانتزاعها و التعبد بها، كما يقتضي ترتيب آثار الأبوة يقتضي ترتيب آثار البنوة، لأن الموضوع واحد و قد تحقق التعبد به.

و أما ان كان موضوع الأثر هو نفس العنوان الانتزاعي و هو مجرى التعبد الشرعي، فلا ملازمة بين التعبد بأحد المتضايفين و التعبد بالآخر، إذ لا وجه‏ لدعوى التلازم بين التعبدين بعد فرض تعدد العنوانين و تباينهما، فاستصحاب الأبوة لا يقتضي التعبد بالبنوة([36]).

اقول: ما ذكره بالنسبة الى فرض استصحاب العلة من دون حالة سابقة للمعلول، غريب، لأنه يعني استصحاب بقاء المقتضي لاثبات المقتضى بالفتح، ولا ريب في كونه من الاصل المثبت.

كما أن ما ذكره حول السبق واللحوق وكذا التقدم والتأخر غير متجه، فان ما ينفك بينهما في الوجود هو ذات المتقدم والمتأخر، فيوجد اليوم قبل وجود غد، ولايوجد فيهما جلاء الواسطة، وما فيه جلاء الواسطة لا يعقل التفكيك فيه خارجا، فمن الآن الذي يصدق أن اليوم متقدم على غد يصدق على غد أنه متأخر.

ولكن مع ذلك نحن لا ننكر وجود صغرى لجلاء الواسطة، ويمكن التمثيل له بماء قليل متنجس القي عليه ماء قليل طاهر فصار المجموع كرا، وامتزجا، فالعرف لا يتعقل وقوع التعبد الظاهري بطهارة مستصحب الطهارة مع عدم التعبد بطهارة مستصحب النجاسة، ولا أقل من أنه لا يتعقل الجمع بين التعبد الظاهري بطهارة مستصحب الطهارة و التعبد الظاهري بنجاسة مستصحب النجاسة، كما يمكن التمثيل له بناء على مغايرة الجعل والمجعول باستصحاب بقاء الجعل عند الشك في النسخ لاثبات حدوث المجعول والحكم الفعلي، وكذا استصحاب عدم الجعل الزائد لنفي المجعول، حيث يقال بمعارضته مع استصحاب بقاء المجعول، لعدم تعقل العرف التفكيك بينهما ظاهرا، ويكون جريان استصحاب عدم الجعل مع استصحاب بقاء المجعول يعد متناقضا عرفا، وهكذا استصحاب بقاء القيد لاثبات تقيد الواجب واتصافه به، كاستصحاب النهار لاثبات اتصاف الصلاة بكونها في النهار، او استصحاب الحكم التعليقي كاستصحاب الحرمة او النجاسة المعلقة على الغليان لاثبات الحرمة او النجاسة الفعلية بعد تحقق الغليان.

وقد يمثل له باستصحاب عدم ابوة زبد لعمرو حيث يثبت به عدم بنوة عمرو لزيد، بينما أنه لا يجري استصحاب عدم بنوة عمرو له لكون من استصحاب العدم الازلي ولكن يرد عليه أن الاستصحاب الاول ايضا من استصحاب العدم الازلي فانه قبل وجود زيد لا يصح ان يقال ان عمرا لم يكن اباه الا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

هذا وقد ذكر في البحوث أنه بناء على التقريب الاول في كلام الكفاية فلابد من ترتب أثر عملي على المستصحب كالأبوة مثلاً، حتى كي يصدق نقض اليقين بالشك بلحاظه، فيجري استصحابها، ثم نثبت به لازمه الجلي، أما إذا لم يكن الأثر مترتباً إلّا على اللازم كالبنوة، فلا يمكن إثباتها باستصحاب الأبوة لعدم تمامية أركان الاستصحاب في البنوة ابتداءً و عدم ترتب أثر عملي على الأبوة ليثبت لازمه.

نعم بناء على التقريب الثاني يكون أثر البنوة أثراً للأبوة المستصحبة نفسها، لكنه يرد عليه الاشكال المتوجه على خفاء الواسطة من أنه بعد أن لم يستظهر العرف كون الموضوع للاثر هو الابوة فلا عبرة بمسامحاته في مقام التطبيق([37]).

وما ذكره لا يخلو من وجه، وان كنا ننقض عليه سابقا بأنه ذكر في بحوثه في الفقه في الماء النجس المتتمم كرا أنه بناء على إباء العرف عن التفكيك بين حكم اجزاءه ظاهرا من حيث الطهارة والنجاسة، فيتعارض استصحاب الطهارة في الطاهر مع استصحاب النجاسة في النجس، و بعد التساقط تجري قاعدة الطهارة في جميع أجزاء الماء عند المشهور، وفي الماء الطاهر بناء على المختار من قصور المقتضي في شمول قاعدة الطهارة لمورد اليقين السابق بالنجاسة، و لكنه يدل بالالتزام على الطهارة الظاهرية للماء الآخر أيضا، لأن المفروض عدم إمكان اختلاف المائين في الحكم و لو ظاهرا، فالدليل الاجتهادي الدال بالمطابقة على الطهارة الظاهرية لأحدهما دال بالالتزام على الطهارة الظاهرية للآخر([38]).

فكنا نقول: ان التعبد بالطهارة الظاهرية في الماء الطاهر الممتزج مع النجس ليس له اثر عملي، ما لم يتعبد بطهارة الماء النجس الممتزج معه، فبناء على ما ذكره هنا فلابد أن يجري استصحاب النجاسة في الماء النجس بلا معارض، فيثبت به نجاسة الماء الطاهر الممتزج معه.

ولكن الظاهر أنه في هذا المثال يوجد اثر عملي لطهارة مستصحب الطهارة وهو جواز شربه، ولا ينافيه عدم امكان شربه الا مع شرب الماء النجس، فلا يقاس به موارد عدم اقتضاء المستصحب للاثر الشرعي.

فروع فقهية نسب الى الاصحاب التمسك فيها بالاصل المثبت

ذكرت عدة فروع فقهية تمسك فيها الفقهاء بالاصل المثبت ولو لأجل خفاء الواسطة، نذكر اهمها:

الفرع الأول: ما إذا لاقى شي‏ء نجساً، و كان الملاقي أو الملاقى رطباً قبل الملاقاة، فشككنا في بقاء الرطوبة الى حين الملاقاة

ما إذا لاقى شي‏ء نجساً، و كان الملاقي أو الملاقى رطباً قبل الملاقاة، فشككنا في بقاء الرطوبة الى حين الملاقاة، فنسب اليهم أنهم تمسكوا باستصحاب الرطوبة و حكموا بنجاسة الملاقي، مع موضوع منجسية الملاقي هو سريان الرطوبة من النجس اليه واستصحاب الرطوبة لا يثبت السريان الا بنحو الاصل المثبت.

ولكن من المحتمل أنهم انما حكموا بالنجاسة لما فهموا من الروايات أن موضوعها مركب من الملاقاة مع النجس ووجود الرطوبة، او عدم اليبوسة، ففي صحيحة علي بن جعفر عن أخيه قال: سألته عن الفراش يصيبه الاحتلام كيف يصنع به، قال اغسله و إن لم تفعل فلا تنام عليه حتى ييبس، فإن نمت عليه و أنت رطب الجسد، فاغسل ما أصاب من جسدك([39]).

وفي مرسلة حريز عمن اخبره ورواية علي بن ابي حمزة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الكلب يصيب الثوب، قال انضحه و إن كان رطبا فاغسله([40])، وفي صحيحة محمد بن مسلم في حديث أن أبا جعفر (عليه السلام) وطئ على عذرة يابسة فأصاب ثوبه فلما أخبره قال أ ليس هي يابسة فقال بلى فقال لا بأس([41])، وفي صحيحته الأخرى في الرجل يمس أنفه في الصلاة فرأى دما أ ينصرف، قال: ان كان يابسا فليرم ولا بأس([42])، وفي موثقة ابن بكير قلت: لأبي عبد الله (عليه السلام) الرجل يبول ولايكون عنده الماء فيمسح ذكره بالحائط، قال: كل شيء يابس ذكي([43]).

ولكن ذكر جمع من الاعلام كالسيد الخوئي “قده” أنه حيث لم يرد بيان من الشارع يستفاد منه موضوع التنجس، فلا محالة يكون بيانه موكولا إلى العرف، و من الظاهر أن العرف لا يحكم بالقذارة العرفية إلا في مورد السراية، فلا يمكن اثباتها باستصحاب بقاء الرطوبة، ولكن قد يشكل كلامهم مع ما ترى من بيان موضوع التنجس في هذه الروايات، ولعله لأجل ذلك او لخفاء الواسطة احتاط بعض الاجلاء لزوما في كفاية استصحاب بقاء الرطوبة لاثبات تنجس الملاقي([44]).

وقد فصّل شيخنا الاستاذ “قده” بين استصحاب رطوبة الجسم النجس فالتزم بكونه اصلا مثبتا لما يعتبر من سريان الرطوبة منه الى الجسم الطاهر، وبين استصحاب رطوبة الجسم الطاهر فالتزم بكفايته، لعدم اعتبار سريان الرطوبة منه الى النجس.

ولكن لا يبعد أن نلتزم بمثبتية استصحاب الرطوبة مطلقا، حيث ان اطلاقات تنجيس النجس لملاقيه منصرفة عن فرض جفاف الملاقي والملاقى معا، بارتكازية أن سبب تنجيسه له سريان القذارة منه اليه، وحيث لا لسان له فيحتمل كون العنوان المأخوذ ثبوتا هو سريان الرطوبة ولايثبته استصحاب بقاء الرطوبة بلا فرق بين استصحابها في الملاقى او الملاقي.

ويمكن أن يستشهد على ذلك بصحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى بن جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يصيب ثوبه خنزير فلم يغسله فذكر و هو في صلاته كيف يصنع به- قال إن كان دخل في صلاته فليمض و إن لم يكن دخل في صلاته فلينضح ما أصاب من ثوبه إلا أن يكون فيه أثر فيغسله([45])، حيث اشترط في وجوب غسل الثوب وجود اثر الخنزير فيه، واستصحاب الرطوبة لا يثبت ذلك.

وأما ما ورد في صحيحة علي بن جعفر عن أخيه موسى (عليه السلام) قال: سألته عن الدود يقع من الكنيف على الثوب، أ يصلى فيه قال لا بأس إلا أن ترى أثرا فتغسله([46])، فهو وان اخذ فيه وجود الأثر في الثوب واستصحاب الرطوبة النجسة في الدودة لا يثبته، ولكن يحتمل خصوصية في الحيوان الطاهر بالذات، ولذا يقال بأنه إذا وقعت ذبابة على النجاسة الرطبة، فطارت و وقعت على الثوب، و شككنا في بقاء رطوبتها حين الملاقاة، فإن قلنا بأن الحيوان لا ينجس أصلا كما هو المختار([47])، فالمنجس انما هو تلك الرطوبة النجسة في الذباب، دون نفس الذباب، واستصحاب بقاءها لا يثبت ملاقاة الثوب لها الا بنحو الاصل المثبت، و أما إذا قلنا بما هو المشهور من أن الحيوان يتنجس بملاقاة النجس و لكنه يطهر بزوال العين‏ و جفاف الرطوبة بلا احتياج إلى الغسل، فان كانت الرطوبة في الملاقي مثلا معلومة كما لو وقعت الذبابة في الماء فاستصحاب بقاء الرطوبة النجسة فيها يجري لاثبات بقاء نجاسة الذبابة، من دون شبهة المثبتية، فما ذكره المحقق النائيني “ره” من عدم الفرق بين القولين في غير محله([48]).

ثم انه ذكر في البحوث أنه حتى لو قيل بكون موضوع التنجيس ملاقاة النجس مع وجود الرطوبة، فمع ذلك لا يمكن الحكم بنجاسة الملاقي باستصحاب بقاء الرطوبة فيما اذا كانت الرطوبة المحتمل بقاءها هي التي تكون لها جرم، لا بمرتبة أخف تعتبر عرضا للجسم، حيث يعلم بعدم تنجس الجسم الطاهر بملاقاة هذا الجسم المستصحب الرطوبة، فانه إما لا يكون رطبا او اذا كان رطبا فقد تنجس ذلك الجسم الطاهر بملاقاته لتلك الرطوبة قبل ملاقاته للجسم النجس.

وهذا نظير ما قلنا في الماء الملاقي لجسد الحيوان الذي يشك في بقاء عين النجاسة فيه، بأنه حتى على مسلك المشهور من تنجس جسد الحيوان لا يحكم بنجاسة الماء فييما اذا كان لعين النجاسة حجم معتد به عرفا، بحيث يلاقي الماء قبل جسد الحيوان، فان جسده وان كان يتنجس، بنظر المشهور، ويبقى نجسا مادامت عين النجس موجودة عليه، ولكن يعلم بعدم كون جسد الحيوان منشأ لتنجس ذلك الماء، فانه ان كان قد زالت عين النجاسة فقد طهر جسد الحيوان وان لم يكن قد زالت فهو يلاقي الماء قبل أن يلاقي ذلك الجزء من جسد الحيوان الملتصق به عين النجس، فيتنجس بها فلا يؤثر ملاقاته لجسد الحيوان في نجاسته، لأن المتنجس لا يتنجس ثانيا، فلا يكون استصحاب نجاسة جسد الحيوان اصلا موضوعيا يحرز به تنجس ملاقيه، كما أن استصحاب بقاء عين النجاسة لا يثبت ملاقاة الماء له، فهو نظير استصحاب بقاء عين النجاسة في الفرش الى زمان اصابة الماء لذلك الفرش فانه لا يثبت ملاقاة الماء لعين النجاسة.

و قد أجاب السيد الخوئي “قده” عن هذا الإشكال بانه يكفي في الاصل الموضوعي اثبات ملاقاة النجس وبقاء الرطوبة، مع احتمال وجود النجاسة في الملاقي، وان لم يحتمل نشوء نجاسة الملاقي من ملاقاته لهذا النجس.

وناقش في البحوث في هذا الجواب بما محصله أن عدم احتمال نشوء نجاسة الملاقي من ملاقاته لهذا الجسم، يعني العلم بعدم كون ملاقاته له موضوعا للتنجيس، لأن موضوعه الملاقاة الاولى للنجس، وهنا يعلم بأنه إما تكون الرطوبة منتفية أو اذا وجدت رطوبة فهذه الملاقاة للنجس ليس ملاقاة اولى للنجس، ودعوى ان اطلاق منجسية الملاقاة للنجس يشمل الملاقاة الثانية للنجس في المقام، لعدم كونه لغوا بعد ترتب اثر عليه مندفعة، بأنه مضافا الى عدم خطاب مطلق يشمل الملاقاة الثانية أن اثر التنجيس الواقعي لابد وأن يكون امرا واقعيا، ولا يكفي في الخروج عن اللغوية عرفا مجرد وجود اثر له في الحكم الظاهري، فهو نظير أن يحكم بوجوب القضاء عند عدم الاتيان بالفريضة مضافا الى الحكم بوجوب القضاء عند فوت الفريضة ويقال بأن اثر الجعل الاول ثبوت وجوب القضاء في موارد الشك في الاتيان حيث يجري استصحاب عدم الاتيان لاثبات وجوب القضاء([49]).

اقول: يمكن المنع من لزوم كون ما يجرى فيه الاصل الموضوعي هو الفرد الذي يحتمل نشوء الحكم منه، لعدم دليل على ذلك، بل يكفي قيام الحجة على تحقق العنوان المأخوذ في موضوع الحكم الشرعي، وهو عنوان الملاقى للنجس مع الرطوبة، ولم يؤخذ فيه عنوان الملاقاة الاولى، وانما لا يتنجس المتنجس ثانيا لعدم تعدد الملاقي للنجس وان تعددت الملاقاة، وقد افتى الاعلام بأنه لو شك بعد الفراغ من الطواف وقبل صلاته في الوضوء له فانه وان كان تجري قاعدة الفراغ في الطواف لكنه حيث لا تثبت الوضوء لصلاة الطواف فلابد من الوضوء لها، مع أنه يعلم المكلف بعدم نشوء صحة عمله من هذا الوضوء الذي يأتي به احتياطا، اذ لو كان متوضئا للطواف فوضوءه باق والا فطوافه باطل وبتبعه تبطل صلاة طوافه.

نعم قد يؤدي ذلك في بعض الفروع الى العلم بانتفاء الامر بالعمل العبادي الذي يأتي به فلا يتمكن من قصد القربة، كما ادعى السيد الخوئي “قده” ذلك في بعض فروع العلم الاجمالي مثل ما لو توضا بمايع مردد بين الماء او البول، فذكر أنه لابد أن يحدث او يغسل جسده قبل الوضوء، والا فيعلم بعدم الامر به إما لكونه متطهرا او لكون جسده متنجسا فلا يصح وضوءه([50]).

الفرع الثاني: ما إذا شك في يومٍ أنه آخر شهر رمضان، أو أنه أول شهر شوال..

ما إذا شك في يومٍ أنه آخر شهر رمضان، أو أنه أول شهر شوال، فلا ريب في أنه يجب صومه بمقتضى استصحاب بقاء شهر رمضان، وقد حكم الفقهاء بترتب احكام يوم العيد على اليوم الذي بعده، وهكذا في ذي الحجة حكموا بكون اليوم التاسع بعد اليوم الذي حكم بكونه اليوم الثلاثين من ذي القعدة يوم عرفة واليوم العاشر بعده يوم عيد الاضحى، الا أنه يشكل على ذلك بأن اثبات ذلك بالاستصحاب يكون من الاصل المثبت، اذ عنوان اول شوال مثلا عنوان بسيط منتزع عن كون اليوم من شوال وعدم كون امس منه، نعم لو كان مركبا منهما امكن اثباته بضم الوجدان الى الاصل، ودعوى خفاء الواسطة قد مر الجواب عنها.

ولذا يتوسل الى اثبات ذلك بأحد وجوه ثلاثة:

الوجه الأول: ما ذكره السيد الخوئي “قده” بعد الاعتراف بكون استصحاب بقاء شهر رمضان امس لاثبات كون اليوم اول شوال من الاصل المثبت، من أنه يمكن لحاظ العلم الاجمالي بوجود يوم العيد إما في يوم السبت المحكوم ظاهرا بكونه اليوم الثلاثين من شهر رمضان مثلا او في اول يوم الأحد فيستصحب بقاء يوم العيد الى غروب يوم الأحد، و بذلك يترتب أحكام يوم العيد عليه، فاورد عليه في البحوث بأنه كذلك يعلم بعدم يوم العيد في احد هذين اليومين، فيتعارض استصحاب عدم يوم العيد مع استصحاب وجوده([51]).

و قد كان يجيب السيد الخوئي “قده” عن اشكال المعارضة سابقا بأن استصحاب العدم من قبيل القسم الثالث من الكلي، حيث ان هناك فردا متيقنا من عدم العيد و هو ما قبل دخول شهر شوال، و قد علم بارتفاعه، و يشك في حدوث فرد جديد.

و لكنه عدل عن هذا الاشكال في بحث الصوم، فقبل المعارضة، ببيان أنه حيث يتعنون المستصحب بعدم يوم العيد في احد هذين اليومين و انطباقه على ذلك العدم المتيقن مشكوك فيختلف عن القسم الثالث من الكلي، و يكون من القسم الرابع من الكلي الذي كان يعترف بجريانه، و هو ما اذا علم بحدوث فرد من الكلي و ارتفاعه، و علم بحدوث فرد آخر معنون بعنوان معيَّن لا يدرى هل ينطبق على ذلك الفرد الاول ام على فرد آخر محتمل البقاء([52]).

و لكن مر سابقا أنه من القسم الثاني من الكلي، حيث ان عدم يوم العيد في احد هذين اليومين اي يوم السبت والأحد في مفروض المثال، ان كان منطبقا على يوم السبت فهو وان كان استمرارا لعدم يوم العيد في شهر رمضان وبقاء له، لكنه غير ما هو المتيقن وهو عدم يوم العيد في يوم الجمعة، فلا يكون من قبيل القسم الرابع، بل ذكر في البحوث أن مجرد تردد زمان وجود الفرد بين زمانين لا يجعل استصحابه من قبيل استصحاب الكلي الذي يعني تردد الحادث بين فردين، ولو كان كليا فهو مجرد تردد زمان وجود الفرد بين زمانين، فيكون استصحابه من قبيل استصحاب الفرد.

وكيف كان فمعارضة استصحاب بقاء يوم العيد مع استصحاب عدمه تامة.

هذا مضافا الى ما قد يقال من أن استصحاب يوم العيد او يوم عرفة مثلا لا يثبت وقوع الفعل كالوقوف في عرفات في يوم عرفة، لأنه لو كان مركبا فهو مركب من الوقوف في زمان ويكون ذلك الزمان يوم عرفة، نظير الامر بالصلاة في المسجد، حيث يكون بمعنى الصلاة في مكان وكون ذلك مسجدا، فلو كان شخص في المسجد ومشى الى مكان وشك في أنه هل خرج من المسجد ام لا، فاستصحاب بقاءه في المسجد بضم احرازه الاتيان بالصلاة لا يثبت ذلك العنوان، على أنه قد مر أن التركيب فيما لو كان الزمان قيدا في الواجب يعني تعلق الامر الضمني بالزمان، وهو غير معقول، لخروجه عن الاختيار، فلابد فيه من الالتزام بالامر بالمقيد كما فعله في البحوث فيعود اشكال المثبتية، ولكن حاولنا في بحث استصحاب الزمان أن نجيب عن هذا الاشكال، فراجع، فالمهم اشكال المعارضة.

هذا وقد اورد بعض الاعلام “قده” على استصحاب بقاء اليوم الاول من شوال الذي هو يوم العيد، اولا: أن اليوم الأول لا واقع له خارجي إلا ذات النهار مع خصوصية فيه، و ليس له وجود وراء النهار مع تقيده بالخصوصية التي يتصف بها.

و من الواضح ان ذات النهار لا يشك فيها، و انما يشك في اتصافه بالخصوصية التي ينتزع عنه عنوان الأولية، فلا شك لديه الا في كون هذا النهار هل هو أول أو ليس بأول؟، و اما الشك في بقاء اليوم الأول فهذا مما لا أساس له، إذ عرفت ان اليوم الأول لا واقع له الا النهار المتصف بالخصوصية، فلا وجود له وراء ذلك، فلا معنى لأن يكون وجود اليوم الأول مشكوكا وراء الشك في تحقق‏ الخصوصية و اتصاف النهار المعلوم وجوده بها، إذ لا وجود للمجموع غير واقع اجزاءه كي يكون متعلقا لليقين و الشك بنفسه.

و بالجملة: موضوع الأثر ليس هو عنوان اليوم الأول، بل هو واقعه، و قد عرفت انه لا يعدو الذات مع تقيدها بالخصوصية، فالشك و اليقين اللذان يتعلقان باليوم الأول، انما يتعلقان بالذات مع التقيّد، فإذا فرض أن الذات كانت معلومة فالمشكوك ليس إلّا تقيدها بالخصوصية، فلا محصل لدعوى تعلق اليقين بوجود اليوم الأول و الشك في بقائه كي يستصحب.

نعم، اليقين و الشك يتعلقان بعنوان اليوم الأول، و انطباقه، لكن العنوان بما هو لا أثر له و لا حكم يترتب عليه، و انما المدار على المعنون، و قد عرفت انه ليس إلا الذات مع تقيدها بالوصف و ليس هناك وراء ذلك شيء موجود و لو اعتبارا.

وثانيا: الاستصحاب ههنا من استصحاب الفرد المردد، و ذلك لأن المستصحب مردد حدوثا و في مرحلة اليقين بين ما هو منتفٍ و ما هو باقٍ، و لا جامع بين هذين كي يقال انه متعلق اليقين بحيث يمكن الإشارة إليه على إجماله([53]).

ويرد عليه أن الشك يكون في بقاء العنوان الموضوع للأثر الشرعي وهو اليوم الاول من شوال، ويكون الشك في واقعه التكويني، حيث لا نعلم برؤية الهلال ليلة السبت حتى يكون يوم السبت اول شوال او ليلة الأحد حتى يكون يوم الاحد اول شوال ويكون اول الشارع باقيا الى غروب يوم الأحد، وتردد زمان حدوثه بين زمان يكون على تقدير حدوثه فيه مرتفعا قطعا وبين زمان يكون باقيا قطعا لا يمنع من تحقق اركان الاستصحاب فيه فهو نظير ما لو شككنا في بقاء زيد لدوران امره بين أن يكون مولودا قبل مأة سنة حتى يكون ميتا الآن او قبل خمسين سنة حتى يكون حيا، فهل يتوهم عدم صلاحية جريان استصحاب بقاء حياته، وهذا لا يخرجه عن استصحاب الفرد، المعين، ولو خرج عنه فيكون من قبيل استصحاب القسم الثاني من الكلي، -الذي بنى المشهور على جريانه وان هو خالفهم في ذلك- لكون صرف وجود يوم العيد وجودا وعدما موضوعا للحكم الشرعي، فلا يكون من قبيل الفرد المردد.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني “قده” من أن إثبات كون المشكوك فيه أول شوال انما هو لأجل النص الدال على ثبوت العيد برؤية الهلال، أو بمضي ثلاثين يوماً من شهر رمضان، فكلما مضى ثلاثون يوماً من شهر رمضان، فيحكم بكون اليوم الذي بعده يوم العيد([54]).

والانصاف تمامية هذا الجواب، وما في مصباح الاصول من أن النص مختص بيوم عيد الفطر، فلا يثبت به أول شهر ذي الحجة مثلا، إلا أن يتمسك فيه بعدم القول بالفصل([55])، ففيه أنه يمكن استفادة التعميم لكل شهر مما ورد في صحيحة الحلبي قال: سألته عن الأهلة فقال (عليه السلام) هي اهلة الشهور فاذا رأيت الهلال فصم واذا رأيت الهلال فأفطر([56])، فان ظاهر التفريع على قوله هي اهلة الشهور، التعميم لكل شهر.

الوجه الثالث: التمسك بالسيرة القطعية المتشرعية في اثبات يوم العيد او يوم عرفة ونحوهما باكمال العدة في الشك السابق عند عدم رؤية الهلال ولو لأجل الغيم ونحوه.

الفرع الثالث: ما إذا شك في وجود الحاجب حين صبّ الماء لتحصيل الطهارة من الحدث أو الخبث

الفرع الثالث: ما إذا شك في وجود الحاجب حين صبّ الماء لتحصيل الطهارة من الحدث أو الخبث، كما إذا احتمل وجود المانع عن وصول الماء إلى البشرة حين الاغتسال، أو احتمل خروج المذي بعد البول و منعه عن وصول الماء إلى المخرج، فربما يقال فيه بعدم الاعتناء بهذا الشك، نظراً إلى جريان أصالة عدم الحاجب، و لكنه اصل مثبت لما هو الواجب وهو غسل البشرة او المخرج، ولا أثر لخفاء الواسطة.

نعم قد يدعى قيام السيرة المتشرعية على عدم الفحص -كما هو المذكور في كلام المحقق الهمداني “ره”- و يرد عليه كما افاد السيد الخوئي “قده” أولا: بعدم احراز هذه السيرة، فان عدم الفحص من المتدينين لعله لعدم التفاتهم إلى وجود الحاجب، أو للاطمئنان بعدمه، فلم يعلم تحقق السيرة على عدم الفحص مع احتمال وجود الحاجب.

و ثانياً: أنه مع فرض تسليم تحقق السيرة لم يعلم اتصالها بزمان المعصوم (عليه السلام)، لتكون كاشفة عن رضاه، فلعلها حدثت في الأدوار المتأخرة لأجل فتوى جمع من الاعلام به تمسكاً باستصحاب عدم الحاجب، فالصحيح وجوب الفحص مع الاحتمال العقلائي لوجود الحاجب.

الفرع الرابع: ما إذا وقع الاختلاف بين الجاني و ولي الميت، فادعى الولي موته بالسراية، و ادعى الجاني موته بسبب آخر

الفرع الرابع: ما إذا وقع الاختلاف بين الجاني و ولي الميت، فادعى الولي موته بالسراية، و ادعى الجاني موته بسبب آخر كشرب السم مثلا، و كذا الحال في الملفوف باللحاف الّذي قدّ نصفين، فادعى الولي أنه كان حياً قبل القدّ، و ادعى الجاني موته، فنسب إلى الشيخ الطوسي “ره” التردد، نظراً إلى معارضة أصالة عدم سبب آخر في المثال الأول، و أصالة بقاء الحياة في المثال الثاني بأصالة عدم الضمان في كليهما، و عن العلامة الحلي “ره” القول بالضمان، و عن المحقق الحلي “ره” اختيار عدم الضمان.

و ذكر السيد الخوئي “قده” أن ما ذكره المحقق الحلي من عدم الضمان هو الصحيح، لأن موضوع الضمان هو تحقق القتل لترتب القصاص و الدية في الآيات و الروايات عليه، و لا يمكن إثباته باستصحاب عدم سبب آخر و لا باستصحاب الحياة، إلا على القول بالأصل المثبت.

نعم إن قلنا بأن الموضوع مركب من الجناية و عدم سبب آخر في المثال الأول، و من الجناية و الحياة في المثال الثاني، فلا إشكال في جريان الاستصحاب و إثبات الضمان، فان أحد جزئي الموضوع محرز بالوجدان و الآخر بالأصل، لكن هذا خلاف الواقع، لعدم كون الموضوع مركباً من الجناية و عدم سبب آخر و لا من الجناية و الحياة، بل الموضوع شي‏ء بسيط و هو القتل، و أما العلامة الحلي فلعله قائل بحجية الأصل المثبت، و أما ما عن الشيخ من التردد، فلا وجه له أصلا، فانه على تقدير القول بالأصل المثبت لا إشكال في الحكم بالضمان، و على تقدير القول بعدم حجيته لا إشكال في الحكم بعدمه، إلا أن يكون تردده لأجل تردده في حجية الأصل المثبت، لكنه خلاف التعليل المذكور في كلامه من تساوي الاحتمالين أي احتمال كون القتل بالسراية، و احتمال كونه بسبب آخر([57]).

اقول: الموجود في المبسوط هكذا: رجل قطع يدي رجل و رجليه، ثم مات بعد مدة فاختلف القاطع وولي الميت فقال مات من السراية فعليّ دية واحدة، و قال الولي مات من شرب السم او قتله شخص فعليك كمال الديتين، فمع كل واحد منهما ظاهر يدل على ما يدعيه: لأن الأصل أنه ما شرب السم، وهو ظاهر موافق للقاطع و الأصل وجوب الديتين على القاطع، و هذا ظاهر موافق مع الولي، و يجري مجرى مسئلة الملفوف في الكساء إذا قطعه قاطع بنصفين ثم اختلفا فقال القاطع كان ميتا حين القطع، و قال الولي كان حيا حين القطع، فإنه يقول بعضهم: القول قول القاطع لأن الأصل براءة ذمته، و قال غيره: القول قول الولي، لأن الأصل بقاء الحيوة، كذلك ههنا([58]).

فترى أن منشأ تردده أن مع كل من القاطع وولي الميت -في مسألة السراية او احتمال موت المجني عليه قبل قده نصفين- ظاهرا يوافقه، فتردد ولم يجزم بالحكم، ولا يظهر منه كون منشأه التردد في حجية الأصل المثبت، فلعله ناشٍ من بحث آخر في تشخيص المدعي والمنكر.

توضيح ذلك أنه بناء على كون المدعي من خالف مصبّ دعواه الاصل الشرعي كما هو مختار جماعة منهم صاحب العروة “قده”، فالجاني حيث يدعي شرب الميت للسم او زوال حياته قبل وقوع الجناية عليه يكون مدعيا، وكذا بناء على أن المدعي من كان ملزما بالاثبات عند العقلاء، وان كان قوله موافقا للاصل الشرعي، كما هو مختار حماعة منهم الشيخ مرتضى الحائري “قده” وبعض السادة الاعلام “دام ظله” فقد يقال بأن من يدعي موت المجني عليه قبل وقوع الجناية او يدعي كون موته مستندا الى سبب سابق على تأثير جنايته في قتله يكون ملزما بالاثبات عند العقلاء وان كان الاصل الشرعي وهو عدم استناد الموت اليه موافقا لقوله.

ولازم ذلك أنهما لو شكا في ذلك وارادا العمل بالوظيفة الشرعية للشاك، فيجري استصحاب عدم استناد موت المجني عليه الى الجاني، ولكن في مقام التنازع يقبل قول ولي المجني عليه بيمينه، وهذا بعيد جدا.

والصحيح أن المدعي من كان غرض دعواه مخالفا للاصل الشرعي، وحيث لا يكون الاصل المثبت حجة فيكون قول ولي الميت مخالفا للاصل حيث يدعي استناد القتل الى الجاني،، بل لا يبعد أن يقال بأن من يدعي استناد القتل اليه هو الملزم بالاثبات عقلاء.

الفرع الخامس: ما إذا تلف مال شخص تحت يد شخص آخر..

الفرع الخامس: ما إذا تلف مال شخص تحت يد شخص آخر، فادعى المالك ضمانه لعدم اذنه بكونه تحت يده، و ادعى من تلف المال عنده عدم الضمان، فالمشهور هو الحكم بالضمان، واورد عليه بكونه مبنيا على القول بحجية الأصل المثبت، فان أصالة عدم اذن المالك لا يثبت موضوع الضمان وهو كون اليد عادية، إلا بنحو الأصل المثبت.

و قد يقال بالضمان لقاعدة المقتضي و المانع، حيث ان اليد مقتضية للضمان، و اذن المالك مانع عنه، او للتمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية، فان عموم “على اليد ما أخذت حتى تؤدي” يقتضي ضمان كل يد، و قد خرج عنه المأخوذ بإذن المالك، و المقام من الشبهة المصداقية له، ولكن كلا المبنيين ضعيفان.

وذكر المحقق النائيني “قده” في رد اشكال مثبتية استصحاب عدم رضا المالك، أن موضوع الضمان مركب من الاستيلاء على مال الغير، و عدم رضا المالك، فيمكن احرازه بضم الوجدان الى الاصل.

و اورد عليه بعض الاعلام “قده” بأنه منافٍ لمبناه من أن العام المخصص بمخصص منفصل يكون معنونا بغير الخاصّ بنحو العدم النعتيّ لا المحمولي، و عليه بنى عدم صحة جريان استصحاب العدم الأزلي في الشبهة المصداقية للمخصص، و ما نحن فيه من هذا القبيل، لأن عموم “على اليد” مخصص بما إذا رضى المالك بالمجانية، و مقتضاه تقيد موضوع الضمان بعدم رضا المالك بنحو التوصيف و العدم النعتيّ لا التركيب و العدم المحمولي، فالموضوع للضمان هو الاستيلاء غير المرضي به، و لا يخفى ان أصالة عدم تحقق رضا المالك لا يثبت اتصاف اليد بعدم الرضا إلّا بالملازمة، اذن فما أفاده غير تام على مبناه.

و قد يدعى أن المحقق النائيني انما يذهب إلى تقيد العام بالعدم النعتيّ إذا كان عنوان الخاصّ بالنسبة إلى العام من قبيل العرض و محله، كالعالم العادل، لا ما إذا كانا عرضين لمعروض واحد او معروضين، و ما نحن فيه كذلك، لأن الاستيلاء عرض قائم بالمستولي، و الرضا عرض قائم بالمالك و ليس قائما بالاستيلاء، فلا يلحظان إلّا بنحو التركيب.

وتندفع هذه الدعوى بأن الرضا و ان كان قائما بالمالك الراضي، إلّا أنه ذو محل، و هو متعلقه لأنه من الصفات ذات الاضافة كالعلم، و عليه فالاستيلاء و التصرف معروض للرضا و عدمه، و لا يعتبر في القيام أن يكون قيام الفعل بفاعله بل أعم من ذلك، كما في الضرب القائم بالضارب و المضروب باعتبارين، اذن فيمكن كون الموضوع للضمان اليد المتصفة بعدم الرضا، لا واقع الاقتران بين اليد وعدم الرضا([59])

اقول: يرد عليه اولا: أن الرضا يتعلق بالعنوان قبل وجوده، فالاستيلاء قبل وجوده يكون متصفا بكونه مرضيا للمالك او عدم كونه مرضيا له نظير الحسن والقبح.

وثانيا: ان احتمال كون موضوع الضمان هو الاستيلاء المتصف بعدم كونه مرضيا للمالك، غير عرفي، فان الرضا عرض قائم بالمالك ولا يقاس بالضرب الذي هو بمعنى المضروبية عرض قائم بالمضروب.

وذكر السيد الخوئي “قده” أنه انما يتم ما ذكره المحقق النائيني “ره” فيما كان الضمان المحتمل ضمان يد، وأما في ضمان المعاوضة، كما لو ادعى المالك أنه باعه منه وادعى من تلف المال في يده أنه وهبه منه، فان الرضا فيه محقق إجمالا إما في ضمن البيع أو الهبة، فلا يمكن الرجوع إلى أصالة عدمه، بل لا بد من الرجوع إلى أصل آخر، و لا يمكن التمسك باصالة عدم الهبة لإثبات الضمان، ضرورة أنه غير مترتب على عدم الهبة، بل مترتب على وجود البيع و هي لا تثبته، و لو قلنا بحجية الأصل المثبت، لمعارضتها بأصالة عدم البيع، فان كلًا من الهبة و البيع مسبوق بالعدم، فالمتعين في هذا الفرض اجراء أصالة عدم الضمان([60]).

اقول: قد يقال بأنه يستفاد من معتبرة إسحاق بن عمار قال سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن رجل استودع رجلا ألف درهم فضاعت، فقال الرجل: كانت عندي وديعة، وقال الآخر: إنما كانت لي عليك قرضا، فقال: المال لازم له إلا أن يقيم البينة أنها كانت وديعة([61])، كون الاصل في اليد على مال الغير هو كونها على وجه الضمان، فترى أن الامام (عليه السلام) حكم بكون مدعي الوديعة لنفي اشتغال ذمته بالبدل ملزما بالاثبات، مع أن مقتضى الاستصحاب عدم اشتغال ذمة من ضاعت عنده المال ببدله، حيث يجري استصحاب عدم القرض، لنفي ضمانه العقدي، كما يعلم وجدانا بعدم ضمانه اليدي لعدم استيلائه على مال الغير عدوانا، فتلغى الخصوصية عن مورد الرواية الى مثال الاختلاف بين من انتقل منه المال حيث يدعي البيع حتى يثبت ضمان المنتقل اليه، بينما أن المنتقل اليه يدعي الهبة حتى ينفي الضمان عن نفسه، بل قد يقال بموافقته للمرتكز العقلائي على أصالة الضمان في الاموال، كما لو ادعى مالك الدار أن من سكن داره قد استأجرها منه وقال الساكن بل أعرتني اياها.

الفرع السادس: ما اذا شك في انطباق العنوان الموقوف عليه على فرد..

الفرع السادس: ما اذا شك في انطباق العنوان الموقوف عليه على فرد، حيث ان المشهور امكان اثبات شمول الوقف له بالاستصحاب، كما لو وقف الدار على العالم العادل ثم شك في عدالة شخص مع احراز كونه عالما بالفعل، فيورد عليه أن الاثر الشرعي وهو جواز انتفاعه من الدار مترتب على اللازم العقلي للمستصحب وهو شمول الوقف له، فلا يفيد الاستصحاب الا اذا تعلق اليقين السابق بنفس شمول الوقف له.

وهكذا لو فرض في هذا المثال تعلق النذر بأن يكرم العالم العادل او بأن يكرم عالما عادلا، او رضي المالك بتصرف العالم العادل في ملكه.

فيقال بأن عدم ترتيب الاثر على الاستصحاب في مثل هذه الموارد خلاف ظاهر الفقهاء والمرتكز الفقهي، وهذا يعني حجية الاصل المثبت لو لأجل خفاء الواسطة.

والجواب عنه يكون بأحد وجهين:

1- ما ذكره المحقق الخراساني “قده” في حاشيته على الرسائل من أن ظاهر دليل امضاء النذر مثلا جعل الشارع حكما مماثلا لما أنشأه الناذر، فيثبت وجوب اكرام العالم العادل او يثبت جواز التصرف لعنوان العالم العادل لا لعنوان الموقوف عليه([62]).

وذكر المحقق الحائري “قده” نظير ذلك في الدرر([63]) وكذا اختاره في البحوث([64]) وحاصل هذا الوجه أن العرف يعتبر عنوان الوفاء بالنذر مثلا حيثية تعليلية لعروض الوجوب على اكرام العالم اذا تعلق النذر به، وهكذا.

وهذا الوجه وان كان قريبا الى الذهن، لكن قد يصعب تصوير ذلك في جواز التصرف في مال الغير باذنه، حيث يقال: ان موضوعه امر تكويني وهو طيب نفس المالك، ويترتب عليه حكم شرعي، كما ان حرمة التصرف موضوعها عدم طيب نفسه، وليس جواز التصرف حكما امضائيا لعدم كون موضوعه امر انشائيا، بل قد يقال بعدم ظهور قوله “الوقوف على حسب ما يوقفها اهلها” او “اوفوا بالنذر” في كونه مشيرا الى جعل حكم مماثل لمضمون الوقوف والنذور.

2- أن نستظهر كون الموضوع لجواز الانتفاع من الوقف حسب ظهور الخطاب الشرعي الموافق للمرتكز العقلائي مركبا من الوقف وكون الفرد مصداقا له، واصل الوقف محرز بالوجدان، وكون الفرد مصداقا له محرز بالاستصحاب.

وهكذا الحال في النذر وجواز التصرف برضى المالك وما شابه ذلك.

هذا وقد مثل في البحوث للنذر مثالا وهو ما لو نذر التصدق مادام حياة ابنه، فاجاب عن شبهة مثبتية استصحاب حياته، بأنه لو فرص عدم كون النذر حيثية تعليلية لتعلق حكم الشرع بوجوب التصدق مادام حياة ابنه، بل تعلق بوجوب الوفاء بعنوان النذر فمع ذلك فحيث يكون للنذر بقاءا عرفيا ببقاء مورده وهو حياة ابنه في مفروض النذر، فيمكن استصحاب نفس النذر لاثبات وجوب الوفاء به([65]).

وفيه أن ما هو الموضوع لوجوب الوفاء بالنذر حسب ما هو المستفاد من الخطابات الشرعية هو انشاء المكلف، وهو امر حدوثي لا بقاء له.

هذا كله في الفروع التي نسب الى المشهور التزامهم باجراء الاصل المثبت فيها ولو لأجل خفاء الواسطة وقد تبين الجواب عنه، وهناك موارد أخرى وقع الكلام -او يمكن ان يقع الكلام- في مثبتية الاستصحاب فيها، كاستصحاب عدم الاتيان بالجزء السابق في الصلاة لاثبات كون الجزء اللاحق المأتي به فيها زيادة في الصلاة، حيث يقال بأنه لا يثبت كونه زيادة الا بنحو الاصل المثبت، فان عنوان الزيادة ليس عنوانا مركبا من الاتيان بشيء بقصد الجزئية مع عدم الامر به حيث يمكن احرازه بضم الوجدان الى الاصل، بل هو عنوان بسيط انتزاعي، وهكذا استصحاب ملكية الميت لمالٍ لاثبات انتقاله الى الورثة حيث يقال بأن موضوع الارث عنوان ما تركه الميت، وهذا مما لا يثبت باستصحاب بقاء ملكية الميت له الا بنحو الاصل المثبت، وان كان الظاهر أن يقال ان المرتكز العقلائي كون موضوع الارث هو نفس ملك الميت وعنوان التركة مشير اليه.

وهكذا لو شك في اثناء الوقت في اتيانه بالصلاة فلم يأت بها الى أن خرج الوقت فيقال بأن بناء الاصحاب على اثباته لوجوب القضاء مع ان موضوعه الفوت، والجواب عنه إما بأن يقال انه ورد في صحيحة الفضلاء “متى شككت في وقت فريضة أنك لم تصلها صلّيتها([66])” وهذا يقتضي باطلاقه قضاءها ان لم يؤدها في الوقت، ولا اقل من التلازم العرفي بين وجوب الاتيان بها عند الشك في داخل الوقت وبين وجوب قضاءها لو لم يؤدها في الوقت، او يقال بأن اطلاق قوله “من فاتته فريضة فليقضها” أن فوت الفريضة الظاهرية ايضا موضوع لوجوب القضاء وهذا الوجوب بمناسبة الحكم والموضوع يكون ظاهريا، وفوت الفريضة الظاهرية في هذا الفرض الذي حصل الشك داخل الوقت محرز بالوجدان.

ثم انه ذكر صاحب الكفاية أنه لا تفاوت في الأثر المترتب على المستصحب بين أن يكون مترتبا عليه بلا وساطة شي‏ء أو بوساطة عنوان كلي ينطبق و يحمل عليه بالحمل الشائع و يتحد معه وجودا، كان منتزعا عن مرتبة ذاته أو بملاحظة بعض عوارضه مما هو خارج المحمول، لا المحمول بالضميمة، فإن الأثر في الصورتين إنما يكون للفرد حقيقة، حيث لا يكون بحذاء ذلك الكلي في الخارج سواه، و ذلك لأن الطبيعي إنما يوجد بعين وجود فرده، كما أن العرضي كالملكية و الغصبية و نحوهما لا وجود له إلا بمعنى وجود منشإ انتزاعه، فالفرد أو منشأ الانتزاع في الخارج هو عين ما رتب عليه الأثر لا شي‏ء آخر، فاستصحابه لترتيبه لا يكون بمثبت كما توهم.

كما أن استصحاب الشرط والمانع لاثبات الشرطية والمانعية ليس من الاصل المثبت كما ربما توهم دعوى أن الشرطية والمانعية ليست من الآثار المجعولة الشرعية بل من الامور الانتزاعية، فيكون اثباتها باستصحاب بقاء الشرط والمانع من الاصل المثبت([67])

اقول: أما ما ذكره من عدم كون استصحاب الفرد لاثبات اثر الكلي من الاصل المثبت، لكون الكلي عين الفرد، لا لازمه، فقد ذكر السيد الخوئي “قده” أن الصحيح عدم كون الوجه فيه ما ذكره من اتحاد الكلي و الفرد، بل الوجه فيه أن الأثر أثر لنفس الفرد لا للكلي، لأن الأحكام و ان كانت مجعولة على نحو القضايا الحقيقية، إلا أن الحكم فيها ثابت للافراد لا محالة. غاية الأمر أن الخصوصيات الفردية لا دخل لها في ثبوت الحكم، و إلا فالكلي بما هو لا حكم له، و إنما يؤخذ في موضوع الحكم ليشار به إلى أفراده، مثلا إذا حكم بحرمة الخمر، فالحرام هو الخمر الخارجي لا الطبيعة الكلية بما هي، فإذا كان في الخارج خمر و شككنا في صيرورته خلا، فباستصحاب خمريته نحكم بحرمته و نجاسته([68]).

ومن الواضح أن كلام السيد الخوئي “قده” لا يشمل ما لو كان الاثر الشرعي مترتبا على صرف وجود الطبيعة، حيث لا يصح فيه دعوى كون اثر الكلي اثر افراده، ولذا قد يقال بكون اثبات اثر الكلي فيه باستصحاب الفرد من الاصل المثبت.

والصحيح أن الاستصحاب دائما يجري في الواقع المتشخص، وانما الاختلاف في استصحاب الفرد والكلي أن العنوان الذي يشار به الى ذلك الواقع قد يكون عنوانا تفصيليا فيسمى باستصحاب الفرد وقد يكون عنوانا اجماليا، كما لو علمنا بوجود زيد او عمرو في الدار امس، فاليوم نقول عنه بأن ذلك الانسان الذي كان موجودا باق ظاهرا، ولذا مر أن الصحيح عدم جريان استصحاب القسم الثالث من الكلي، لأن الواقع الذي كنا نشير اليه حين وجود زيد في الدار قد ارتفع جزما لخروج زيد عن الدار، ووجود عمرو في الدار واقع آخر لم يتعلق اليقين بحدوثه.

فعليه فحيث إن الاثر ثابت لعنوان الطبيعة فيضاف الاستصحاب الى هذا العنوان، فان كان عنوان الفرد مغايرا له كعنوان المولود في ساعة فلان، ففي البحوث أن اثبات اثر الطبيعة به يكون من الاصل المثبت، وان كان مشتملا على عنوان الطبيعة ويزيد عليه بعناوين أخرى تكون من العوارض المشخصة للفرد، كعنوان الانسان المولود في ساعة فلان، فلا حاجة الى أخذه في المستصحب([69]).

ولكن مر منا في بحث الفرد المردد أنه يكفي اجراء الاستصحاب في العنوان المشير الى العنوان الموضوع للاثر، والفردية تنتزع من الاشارة بالمفهوم الكلي الى الخارج دون اقترانه بمفاهيم كلية أخرى حسب ما تكرر منه في البحوث، فلا مانع من استصحاب الفرد لاثبات اثر الكلي مطلقا، وان كان هذا مجرد بحث علمي في المقام لتمامية اركان الاستصحاب في اي من الكلي والفرد.

وأما ما ذكره صاحب الكفاية حول الامور الانتزاعية، اي التي ليس بحذاءها شي‏ء في الخارج، و يعبر عنها بخارج المحمول، كالملكية و الزوجية، من أن الأثر الشرعي و ان كان أثراً للأمر الانتزاعي، إلا أنه حيث لا يكون بحذاءه شي‏ء في الخارج، كان الأثر في الحقيقة أثراً لمنشأ الانتزاع، فلا مانع من اجراء الاستصحاب في منشأ الانتزاع، لترتب الأحكام المترتبة على الأمور الانتزاعية، كاستصحاب حياة زيد لاثبات زوجيته لهند، بخلاف الأعراض التي تكون بأنفسها موجودة في الخارج، والتي يعبر عنها بالمحمول بالضميمة، فاستصحاب المعروض فيها لترتيب اثر العرض يكون من الاصل المثبت، كما إذا كان الأثر أثراً لسواد شي‏ء، فاستصحبنا بقاء ذات الشيء حيث لم يمكن اجراء الاستصحاب في بقاء نفس سواده كما لو كان السواد لازماً لبقاء ذلك الشيء دون حدوثه.

ففيه أن ما ذكره من الفرق بين الخارج المحمول والمحمول بالضميمة مما لا وجه له، فانه كما يكون استصحاب بقاء الجسم لترتيب اثر سواده و اثبات كونه اسود من الاصل المثبت، لكن لا مانع من استصحاب سواده بما هو فرد من افراد كلي السواد الموضوع للحكم او استصحاب عدالة زيد لترتيب اثر كلي العدالة كجواز الاقتداء، كذلك يكون استصحاب بقاء زيد لاثبات اثر زوجيته لهند من الاصل المثبت، نعم لا مانع من استصحاب بقاء زوجية زيد لهند لترتيب اثر كلي الزوجية.

و الحاصل ان استصحاب بقاء منشأ الانتزاع لاثبات الامر الانتزاعي الذي يكون لازماً له على فرض بقاءه، من أوضح مصاديق الأصل المثبت، فإذا علمنا بوجود جسم في مكان، ثم علمنا بوجود جسم آخر في أسفل من المكان الأول، مع الشك في بقاء الجسم الأول في مكانه، لم يمكن ترتيب آثار فوقيته على الجسم الثاني باستصحاب وجوده في مكانه الأول، و كذلك لا يمكن إثبات زوجية امرأة خاصة لزيد مع الشك في حياتها، و إن علم أنها على تقدير حياتها تزوجت به يقيناً.

نعم لو كان الأمر الانتزاعي أثراً شرعياً لبقاء شي‏ء، لترتب على استصحابه بلا إشكال، و هذا كما إذا علم بأن الفرس المعين كان ملكاً لزيد و شك في حياته حين موت زيد، أو في بقائه على ملكه حين موته، فباستصحاب الحياة أو الملكية نحكم بانتقاله إلى الوارث و لا مجال حينئذ لتوهم كونه مثبتاً، لأن انتقاله إلى الوارث من الآثار الشرعية لبقاءه.

مناقشه فی صحة جريان الاستصحاب لترتيب الحكم الشرعي المجعول بالتبع

وأما ما ذكره صاحب الكفاية من صحة جريان الاستصحاب لترتيب الحكم الشرعي المجعول بالتبع فهو وان كان صحيحا، لعدم الدليل على اعتبار كون الأثر مجعولا بالاستقلال، لكن لا يصح تطبيقه على استصحاب الشرط والمانع، فان الشرطية ليست من آثار وجود الشرط في الخارج كي تترتب على استصحاب الشرط، بل هي منتزعة في مرحلة الجعل من أمر المولى بالمشروط بذاك الشرط، كما أن المانعية لا تنتزع من وجود المانع وانما تنتزع من الامر بالمشروط بعدمه.

نعم يمكن أن يكون مراده كون اثر بقاء الشرط احراز صحة العمل، ولكنه لم يكن وجه لذكر توهم أن هذا الاثر انتزاعي، ثم الجواب عنه بكفاية كون الاثر شرعيا ولو كان مجعولا بالتبع، فان استصحاب الشرط والمانع في الوضعيات كاستصحاب اسلام الذابح او بقاء الجلل اثره مجعول بالاستقلال، وهو الحكم بتذكية الحيوان وعدمها.

وأما في التكليفيات، فالتعبد ببقاء الشرط او بعدم المانع فيها تعبد في مقام الامتثال نظير قاعدة التجاوز والفراغ، كما ان التعبد بعدم الشرط او وجود المانع تعبد لنفي الامتثال، وليست الصحة الا عبارة عن تحقق واقع الامتثال، والا فالصحة في العبادات كما صرح به صاحب الكفاية ليست مجعولة شرعا ولو تبعا، الا أن الاستصحاب الجاري في مقام الامتثال خالٍ ان اي اشكالٍ، عدا ما اشتهر بينهم من لزوم كون المستصحب حكما شرعيا او موضوع حكم شرعي، وسيأتي الجواب عنه في التنبيه القادم.

 

 



[1] – فرائد الاصول ج‏2 ص659

[2] – كفاية الأصول ص414

[3] – ذكر في الهامش: وجهه: هو أنّه يمكن أن يكون هذا راجعا إلى الاختلاف بين الأمارة و الأصل في ناحية الحكم المجعول فيها، لا إلى ناحية الموضوع، فيكون امتياز الأمارة عن الأصل موضوعا بالأمرين الأوّلين (منه).

[4] – فوائد الاصول ج‏3 ص 16وص115، ج‏4 ص486

[5] – فوائد الاصول ج‏4 ص481

[6] – اجود التقريرات ج‏2 ص78

[7] – اصول الفقه ج6ص 60

[8] – بحوث في علم الاصول ج4ص19

[9] – بحوث في علم الأصول ج‏4 ص 325

[10] – مصباح الاصول ج3ص 153

[11] – حاشية فرائد الاصول ج3ص 284

[12] – حاشية فرائد الأصول، ج‏3، ص: 284

[13] – الاصول في علم الاصول ج2ص 402

[14] – فرائد الاصول، ج‏2، ص: 664

[15] – حاشية فرائد الأصول ج‏3 ص 284

[16] – بحوث في علم الاصول ج5ص186 مباحث الأصول ج‏5 ص 443

[17] – بحوث في علم الأصول ج‏6 ص 147

[18] – الرسائل ج1ص 180

[19] – الأصول في علم الأصول ج‏2 ص 403

[20] – نهاية الافكار ج4 ق1ص 182

[21] – اضواء وآراء ج3ص242

[22] – بحوث في علم الاصول ج6ص 189

[23] – مصباح الاصول ج3ص 156

[24] – بحوث في علم الاصول ج6ص 189

[25] – كفاية الاصول ص 415

[26] – فرائد الاصول ج‏2 ص664

[27] – فوائد الاصول ج 4ص 414 مصباح الاصول ج3ص 159

[28] – بحوث في علم الاصول ج6ص 193

[29] – بحوث في علم الاصول ج6ص 192

[30] – الرسائل ج‏1 ص183

[31] – كتاب نكاح ج‌15 ص 5033

[32] – الاصول في علم الاصول ج2ص403

[33] – كفاية الأصول ص415

[34] – نهاية الدراية ج 5ص 190

[35] – مصباح الاصول ج3ص 160

[36] – منتقى الأصول ج‏6 ص 219

[37] – بحوث في علم الاصول ج6ص 203

[38] – بحوث في شرح العروة الوثقى ج‌1 ص 500

[39] – وسائل الشيعة ج‌3 ص 443

[40] – وسائل الشيعة ج‌3 ص 442

[41] – وسائل الشيعة ج‌3 ص 437

[42] – وسائل الشيعة ج‌3 ص 444

[43] – وسائل الشيعة ج1ص 351

[44] – المسائل الشرعية ص 33

[45] – وسائل الشيعة ج‌3 ص 417

[46] – وسائل الشيعة ج‌3 ص 526

[47] – ما ذكره هو الصحيح، فانه لا دليل على تنجس جسد الحيوان، اذ الكاشف عنه اطلاق الامر بالغسل وهو غير شامل لجسد الحيوان للسيرة القطعية المتشرعية على عدم لزوم غسل الحيوان.

[48] – مصباح الاصول ج3ص 163

[49] – بحوث في علم الاصول ج6ص199

[50] – اللدرر الغوالي في فروع العلم الاجمالي ص99

[51] – بحوث في علم الاصول ج 6ص15مباحث الاصول ج 5ص27

[52] – موسوعة الامام الخوئي ج 22ص129

[53] – منتقى الأصول، ج‏6، ص: 222

[54] – اجود التقريرات ج 2ص421

[55] – مصباح الاصول ج3ص 165

[56] – وسائل الشيعة؛ ج‌10ص 252

[57] – المبسوط ج7ص 107

[58] – مصباح الاصول ج3ص 165

[59] – منتقى الأصول ج‏6 ص 224

[60] – مصباح الاصول ج3ص 158

[61] – وسائل الشيعة 19ص85

[62] – درر الفوائد ص 357

[63] – درر الفوائد ج2ص 194

[64] – بحوث في علم الاصول ج 6ص 208

[65] – بحوث في علم الاصول ج6ص 208

[66] – وسائل الشيعة ج4ص 283

[67] – كفاية الاصول ص 416

[68] – مصباح الاصول ج3ص 170

[69] – بحوث في علم الاصول ج 6ص205