التنبيه السادس: استصحاب الحكم التعليقي.. 1
المقام الثاني: فی شبهة معارضة استصحاب الحكم التنجيزي مع استصحاب الحكم التعليقي.. 1
الوجه الاول: لا معارضة بين الاستصحابين.. 2
الوجه الثاني: حكومة الاستصحاب التعليقي على الاستصحاب التنجيزي.. 5
دعوى حكومة الاستصحاب التعليقي على استصحاب الحلية. 7
فی ختام البحث عن الاستصحاب التعليقي ينبغي بيان ثلاث مطالب… 15
المطلب الاول: الاستصحاب التعليقي في الامور التكوينية. 15
المطلب الثاني: عدم جریان الاستصحاب التعليقي في الحكم الجزئي التعليقي.. 16
المطلب الثالث: عدم جریان الاستصحاب فی العقود التی تكون لها آثار تعليقية. 17
موضوع: تنبیه ششم /استصحاب /اصول
خلاصه مباحث گذشته:
متن خلاصه …
التنبيه السادس: استصحاب الحكم التعليقي
المقام الثاني: فی شبهة معارضة استصحاب الحكم التنجيزي مع استصحاب الحكم التعليقي
المقام الثاني: في أن استصحاب الحكم التعليقي بناء على جريانه هل يتعارض مع استصحاب تنجيزي ام لا؟، مثال ذلك أنه اذا استصحبنا في مورد الزبيب الحكم التعليقي بأنه يحرم اذا غلا، فبعد غليان الزبيب قد يقال بأنه يوجد استصحاب معارض له، وهو إما استصحاب حليته الثابتة له قبل الغليان، وإما استصحاب عدم حرمته الفعلية قبل الغليان، ويكون المرجع بعد تعارض الاستصحابين اصالة الحل.
کلام المحقق العراقي
وقد قبل المحقق العراقي “قده” المعارضة فيما اذا لم تكن الحلية الثابتة قبل الغليان مغياة شرعا، بأن كانت مغياة عقلا فقط بملاك المضادة([1])، ولا يخفى أنه ان اراد من الحلية عدم الحرمة فهو ليس مغيىً شرعا ولو مع ثبوت الحرمة المعلقة، وان اراد منها جعل الحلية والاباحة فالصحيح لزوم كونها مغياة شرعا بالغليان المعلق عليه الحرمة بعد امتناع الاهمال، والتهافت في الاطلاق.
كما قبل السيد الحكيم “قده” في مستمسكه المعارضة، ونحوه بعض السادة الاعلام “دام ظله”.
وجوه فی عدم المعارضه
وقد اجيب عن دعوى المعارضة بعدة وجوه:
الوجه الاول: لا معارضة بين الاستصحابين
ما ذكره صاحب الكفاية “ره” من أنه لا معارضة بين الاستصحابين، اذ الحلية التي كانت ثابتة للزبيب حال عنبيته هي الحلية المغياة بعدم الغليان، فلم يكن هناك تنافٍ بين العلم الوجداني في حال العنبية بهذه الحلية المغياة بالغليان وبين العلم الوجداني بالحرمة المعلقة على الغليان، فكيف يقع التنافي بين استصحابهما، فمقتضي استصحاب تلك الحلية المغياة بالغليان ارتفاعها بعد غليان الزبيب، كما أن مقتضى استصحاب الحرمة المعلقة على الغليان ثبوت الحرمة الفعلية بعد تحقق الغليان([2]).
وقد وجِّه عليه ايرادان:
الايراد الاول:
ان المستصحب هو ذات الحلية الثابتة في الزبيب قبل غليانه، ولايدرى هل هي مغياة بعدم الغليان ام لا، والمدعى جريان استصحابها الى ما بعد الغليان، واستصحاب بقاء الحلية المغياة بالغليان على نحو مفاد كان التامة، لا يثبت كون هذه الحلية الثابتة للزبيب قبل غليانه مغياة.
وقد يظهر من السيد الخوئي “قده” الجواب عن هذا الايراد حيث قال: انه لا يجري استصحاب جامع الحلية، لأن الفرد المعلوم الحدوث منه وهو الحلية الثابتة حال العنبية التي كانت مغياة بالغليان معلوم الارتفاع بعد غليان الزبيب، ووجود فرد آخر منها وهو الحلية المطلقة في حال الزبيبية مشكوك الحدوث، فيكون نظير ما إذا كان المكلف محدثاً بالحدث الأصغر، و رأى بللًا مردداً بين البول و المني فتوضأ، حيث لا يمكن جريان استصحاب كلي الحدث، لوجود أصل حاكم عليه، و هو استصحاب عدم حدوث الحدث الاكبر، و استصحاب عدم تبدّل الحدث الأصغر بالحدث الأكبر، و المقام من هذا القبيل بعينه([3]).
الا أن هذا المقدار لا يفي بالجواب، حيث يقال: ان المانع من جريان استصحاب بقاء جامع الحدث هو جريان الاصل الموضوعي المنقح لموضوع رافعية الوضوء للحدث، حيث انه صدر منه الحدث الاصغر قبل البلل المشتبه بالوجدان، وليس بجنب بالاستصحاب، وهذا بخلاف المقام، فان المستصحب بقاء ذات الحلية الثابتة للزبيب قبل غليانه، واستصحابها من استصحاب القسم الثاني من الكلي، لدوران هذه الحلية بين كونها بقاء ذلك الفرد الذي كان ثابتا حال العنبية وهو الحلية المغياة بالغليان، او فردا آخر من الحلية اي حلية مطلقة جديدة.
وكون هذه الحلية الثابنة قبل غليان الزبيب مغياة بالغليان ليس له حالة سابقة متيقنة، بعد احتمال كونها فردا جديدا من الحلية غير الحلية السابقة المغياة فلا مجال لاستصحابه.
وأما استصحاب بقاء الحلية المغياة وعدم حدوث فرد آخر من الحلية فليس اصلا موضوعيا حاكما على استصحاب هذه الحلية الثابتة قبل غليان الزبيب، فيكون المقام نظير ما لو كان جسم ذا سواد خفيف، فشككنا في اشتداد سواده، فطرأ ما يوجب زوال سواده على تقدير كونه خفيفا، فاستصحاب بقاء سواده المعلوم قبل طروّ هذا المزيل جارٍ في حد ذاته، ولا موجب لدعوى كون استصحاب خفة سواده حاكما عليه.
وثانيا: ما يقال من أنه لا موجب للتركيز على استصحاب الحلية، حتى يجاب عنه بكون الحلية السابقة مغياة، فانه كما مر في اول البحث أنه يمكن جعل المعارض لاستصحاب الحرمة المعلقة، استصحاب عدم الحرمة الفعلية قبل الغليان([4])، وهذا العدم لم يكن مجعولا شرعا حتى يدعى كونه مغيىً بالغليان سابقا، اي حال العنبية، نعم كان عدمها الثابت حال العنبية مغيىً عقلا بالغليان، لكن يمكن استصحاب عدمها الثابت حال الزبيبية، والظاهر انه من استصحاب الفرد، والفرق بينه وبين استصحاب الحلية الثابتة للزبيب قبل غليانه، أن الحلية المغياة فرد مغاير مع الحلية المطلقة، فهذه الحلية مرددة بين كونها الحلية المغياة التي كانت ثابتة للعنب، او حلية جديدة مطلقة، فعدم الحرمة الثابت للزبيب قبل الغليان ليس مرددا بين فردين، وانما هو فرد معين.
وسيأتي ما يكون جوابا عن هذين الايرادين.
الوجه الثاني: حكومة الاستصحاب التعليقي على الاستصحاب التنجيزي
ما عن الشيخ الاعظم “قده” من حكومة الاستصحاب التعليقي على الاستصحاب التنجيزي، لكون منشأ الشك في بقاء حلية الزبيب بعد الغليان هو الشك في ثبوت الحرمة المعلقة على الغليان للزبيب، فانه لو بقيت هذه الحرمة فيه لم يبق شك في ارتفاع الحلية بالغليان.
وقد ذكر المحقق النائيني “قده” في تقريب حكومة استصحاب الحرمة التعليقية على استصحاب الحلية التنجيزية أن ضابط حكومة اصلٍ على أصل آخر احد امرين:
1- أن يكون منقحا لموضوع الآخر وهذا مختص بالاصل الجاري في الشبهات الموضوعية، وأما في الشبهات الحكمية فلا يوجد شكّ في الموضوع حتّى يكون الأصل الجاري في الموضوع حاكما.
2- أن يكون الأصل في أحد الشّكين ملغياً للشك الآخر، دون العكس، وهذا شامل للشبهات الموضوعية والحكمية.
و المقام من هذا القبيل لكون استصحاب الحرمة التعليقية موجبا لالغاء الشك في الحرمة الفعلية بعد الغليان، بينما أن استصحاب عدم الحرمة الفعلية قبل غليان الزبيب لا ينفي تلك الحرمة التعليقية الا بنحو الاصل المثبت([5]).
فاورد عليه السيد الخوئي “قده” اولا: بأن الشكين في رتبة واحدة وليس احدهما مسببا عن الآخر، بل كلاهما مسبب عن العلم الاجمالي بأن المجعول في حق المكلف إما الحلية او الحرمة.
وثانيا: بأن اثبات الحرمة الفعلية باستصحاب الحرمة التعليقية يكون من الاصل المثبت، لأنها من لوازمها العقلية وليست من آثارها الشرعية، فلا يقاس بمثل اجراء اصالة الطهارة او استصحابها في الماء حيث يكون حاكما على استصحاب نجاسة الثوب المتنجس الذي غسل به([6]).
اقول: أما الايراد الاول ففيه أن الشك في بقاء الحلية الفعلية بعد الغليان، وان لم يكن مسببا عن الشك في الحرمة الفعلية بعد الغليان، لكنه مسبب عرفا عن الشك في بقاء الحرمة التعليقية، نعم لو لوحظ الحلية والحرمة الفعليتان لما كان الا شك واحد، وهو الشك في الحلية والحرمة بعد الغليان.
وأما الايراد الثاني ففيه أنه لابد حين الكلام حول ابتلاء الاستصحاب التعليقي بالمعارضة مع الاستصحاب التنجيزي، أن نفرض عدم قصور في جريانه في حد نفسه، والاشكال بمثبتيته يعني عدم جريانه في نفسه، الا عند من يرى كفاية قيام الحجة على الجعل مع احراز موضوعه في التنجيز العقلي، كما في البحوث، ولكن هذا مما لا يقبله المحقق النائيني ولا السيد الخوئي “قدهما”، لكون المنجز عندهما هو قيام الحجة على الحكم الفعلي.
فلابد في مرحلة البحث عن المعارض للاستصحاب التعليقي من قبول اثبات الحرمة الفعلية به لخفاء الواسطة او جلاءها، فيتمّ حينئذ ما ذكره المحقق النائيني “ره” من حكومة الاستصحاب الحرمة التعليقية على استصحاب الحلية التنجيزية، حيث ان استصحاب الحرمة التعليقية ينقح حال الحرمة الفعلية، وهذا معنى الغاءه الشك فيها، بخلاف استصحاب عدم الحرمة الفعلية، فانّ نفي الحرمة التعليقية به يعدّ من الاصل المثبت.
وحينئذ فينطبق عليه كبرى أنه كلما كانت حالتان ثبوتيتان تكون احديهما ناسخة للأخرى فيكون الأصل الجاري في الحالة الناسخة مقدما عرفا على الأصل الجاري في الحالة المنسوخة بشرط ان لايكون الأصل الجاري في الحالة الناسخة أصلا مثبتا، وهذا هو الوجه في تقدم الاصل السببي على الاصل المسببي ولو كان الاصل السببي هو قاعدة الطهارة في الماء والاصل المسببي استصحاب نجاسة الثوب المتنجس المغسول بذلك الماء، مع أنه لا يأتي فيه النكتة التي ذكرها السيد الخوئي “قده” من كون الاصل السببي رافعا للشك في المسبب تعبدا.
ففي المقام حيث تكون الحرمة التعليقية في الزبيب ناسخة بعد غليانه لحليته قبله، فاستصحابها يكون ناسخا لاستصحاب الحلية بعد أن لم يكن نفيها به من الاصل المثبت، بينما أن نفي الحرمة المعلقة باستصحاب الحلية يكون من الاصل المثبت.
دعوى حكومة الاستصحاب التعليقي على استصحاب الحلية
وبذلك تبين الاشكال فيما أورده بعض السادة الاعلام “دام ظله” على دعوى حكومة الاستصحاب التعليقي على استصحاب الحلية، )من أن لازمها جعل الحرمة التعليقية وجعل الحرمة الفعلية بجعلين مستقلين، وهذا غير معقول، فليس هناك الا جعل ومجعول واحد، فينتفي بذلك الترتب الشرعي بينهما، مضافا الى أنه حتى على فرض تعلق جعلين مستقلين بهما فلا دليل على الترتب الشرعي بينهما، بل غايته الملازمة العقلية بينهما، فيكون نفي الحلية بعد غليان الزبيب باستصحاب الحرمة التعليقية من الاصل المثبت)، فانه لا اشكال في أن النسبة بين الحرمة المعلقة على الغليان وبين الحرمة الفعلية وانتفاء الحلية بعد الغليان ليست نسبة الموضوع الى حكمه، كما أنه لم يتعلق بهما جعلان مستقلان، بل الملحوظ اولا وبالذات في مقام الجعل هو الحرمة الفعلية فعلِّقت اولاً على الغليان، وفي مقام الجعل رتِّبت الحرمة المعلقة على الغليان على العنب، فليس هناك الا جعل واحد مع طولية القيدين، ولكن مع ذلك تأتي في المقام نكتة الحكومة، سواء جعل المعارض لاستصحاب كون الزبيب يحرم اذا غلى، هو استصحاب عدم حرمته الفعلية قبل الغليان -كما هو مختاره- او جعل المعارض له استصحاب حليته قبل الغليان، بناء على مطلب غير ظاهر وهو كون الحلية حكما وجوديا، فانه لو جعل معارضه استصحاب عدم الحرمة فجوابه أن العرف يرى ناسخية التعبد بكونه يحرم اذا غلا، لعدم حرمته قبل الغليان.
وان جعل معارضه استصحاب الحلية فحيث يعلم بكون حلية العنب مغياة بالغليان فيجري استصحاب ذلك في حال الزبيبية، فالتعبد الظاهري بكون الزبيب حلالا ما لم يغل يعني عرفا التعبد بأنه اذا غلا فترتفع حليته، فيكون ناسخا لحليته السابقة وحاكما على استصحابها، وان كان قد تم اركان استصحاب الحلية الثابتة للزبيب قبل غليانه، وهذا البيان يجري فيما لو كان الزبيب قبل غليانه محكوما بحكم وجودي آخر كاستحباب تناوله او وجوبه، واحتمل بقاءه في الزبيب.
بل حتى لو لم يثبت حكم الحلية قبل الغليان في العنب بأن احتمل او علم باستحباب او وجوب تناول العنب غير المغلي، وعلم بعدم استمراره في الزبيب، فعلم بحدوث الحلية بالمعنى الاخص له، فمع ذلك نقول ان المعتبر في الحلية حتى بناء على كونها مجعولة شرعا هو الحرية والمعتبر في الحرمة سلب الحرية، او أن المعتبر فيها عدم الحرمة، فيكون التعبد بانه يحرم اذا غلا ناسخا ومزيلا لها فيكون استصحابه حاكما على استصحاب الحلية.
هذا وقد حكى في مباحث الاصول عن السيد الصدر “قده” أنه بناء على كون الحلية امرا وجوديا مضادّا للحرمة فقد يشكل دعوى الحكومة، بل لو بني على كون الحلية أمراً عدمياً وفرض كون حكم الزبيب قبل الغليان هو الاستحباب، كما لعل الأمر كذلك في الزبيب، فعندئذ لا معنى لحكومة استصحاب الحرمة على استصحاب الاستحباب.
ثم قال: يمكن الجواب عن هذا الإشكال بناءً على مذاق المشهور من أنّ الأحكام الظاهرية أحكام جعلت للتنجيز و التعذير، فيقال انّ التعذير في المقام يترتّب على عدم الحرمة، لا على الحلّيّة بالمعنى الوجودي، أو الاستحباب، فاستصحاب الحلّيّة أو الاستحباب غير جار في نفسه، و غير معذّر، و يجري استصحاب الحرمة التعليقية المفروض حكومته على استصحاب عدم الحرمة الفعلية.
نعم لا يتمّ هذا الجواب على المبنى المختار من أنّ الأحكام الظاهرية تبرز درجة اهتمام المولى بالأحكام الواقعية و مبادئها، و لكن قد يقال: انه إذا جعل حكم وجوديّ كالاباحة او الاستحباب في الشريعة على حال عدم الغليان مثلا، فالمستفاد عرفاً هو جعل عدمه في حال الغليان، فكأنه قيل “لا يستحبّ اذا غلى”، واستصحابه يكون حاكماً على استصحاب الاستحباب او الحلية الفعلية([7]).
وفيه أنه لو فرض اختصاص الاستحباب بتناول الزبيب قبل غليانه، ولم يثبت ذلك في العنب، فكيف يجري فيه الاستصحاب الحاكم على استصحاب الاستحباب الفعلي، فانه لا يكون في البين الا استصحاب أنه يحرم اذا غلى وحكومته على استصحاب الاستحباب دعوى بلا دليل، لأن الاصل الناسخ انما يكون حاكما عرفا على الاصل الجاري لاثبات نقيضه لا الأصل الجاري لاثبات ضده الوجودي، حيث انه يكون من الاصل المثبت.
وان افترض قيام الدليل على ثبوت الاستحباب في العنب قبل الغليان، فيمكن استصحاب بقاءه في الزبيب ايضا، فيكون استحبابه ايضا مغيّىً بالغليان، وهذا يعني أنه اذا غلى فيزول استحبابه، فيكون من الاصل الجاري في الناسخ عرفا، فيكون حاكما على استصحاب الاستحباب الفعلي، من دون حاجة الى التكلف الذي ارتكبه من استفادة جعل عدم الاستحباب على تقدير الغليان، من جعل الاستحباب في فرض عدم الغليان.
وأما ما ذكره على مسلك المشهور من عدم جريان استصحاب الحكم غير الالزامي ففيه ما لا يخفى، فان استصحاب الحلية الوجودية او الاستحباب اوضح وآكد معذرية في ارتكاب الفعل من مجرد استصحاب عدم الحرمة، ولا أظن احدا ينكر ذلك.
هذا كله بناء على ما هو الظاهر من امكان اثبات الحكم الفعلي بالاستصحاب التعليقي.
وأما بناء على ما اختاره السيد الصدر “قده” من كونه من الاصل المثبت، (حيث ذكر أن اثبات الحرمة الفعلية بعد الغليان باستصحاب الحرمة التعليقية لم يتم الا على مسلك غير مقبول عندنا وهو مسلك الحكم المماثل، وانما قلنا بمنجزيته على اساس كفاية قيام الحجة على القضية الشرطية وتحقق صغراها في التنجيز، من دون حاجةٍ الى احراز المجعول الفعلي) فاستصحاب الحرمة التعليقية لا يعالج مورد استصحاب الحلية ليكون حاكماً عليه، فتارة نقول: بأن استصحاب الحلية او عدم الحرمة ليس نافيا للتنجز، حيث لا تكون نتيجته نفي كبرى الجعل اي الحرمة المعلقة على الغليان بالنسبة الى الزبيب، فحينئذ لا توجد منافاة بينه وبين استصحاب الحرمة المعلقة.
وأخرى نقول بما هو الظاهر -كما في البحوث وخلافا لما في كتاب الأضواء- من المناقضة بينهما من حيث الاثر العقلي، حيث ان استصحاب الحلية يعني الترخيص في شرب الزبيب المغلي، كما أن استصحاب عدم الحرمة مؤمن ومرخص ولو عقلاءً بالنسبة اليه، فيستحيل اجتماعه مع الاستصحاب التعليقي المنجز لوجوب الاجتناب عنه، وحينئذ فقد ذكر السيد الصدر “قده” في وجه تقديم استصحاب الحرمة التعليقية على استصحاب عدم الحرمة الفعلية او استصحاب الحلية الفعلية، أنّه متى ما كانت عندنا حالتان سابقتان في شيء، وكانت إحدى الحالتين ناسخة للاخرى، ومخيّمة عليها، فهنا تصبح هذه الحالة هي التي يجري فيها الاستصحاب دون الأخرى، و ذلك لأنّ الاستصحاب أصل ارتكازي في نظر العقلاء بنحو من أنحاء الارتكاز، فدليل حجيّة الاستصحاب ينصرف إلى ما يطابق ذلك الارتكاز، و من الواضح في مثل هذا الفرض أنّ ارتكازية الاستصحاب في نظر العرف تنصبّ على تلك الحالة الناسخة، لا على الحالة المنسوخة، فإذا كان شخص يدرّس في كلّ يوم في الساعة الاولى من ساعات النهار مثلاً، ثمّ شككنا في يوم من الأيام في أنّه هل هو باقٍ على تلك الحالة السابقة، التي كانت هي التدريس في كلّ يوم صباحاً أو لا، فهنا يوجد في قبال هذه الحالة السابقة حالة اخرى و هي عدم تدريسه في نصف الليل، مثلاً، لكن من الواضح أنّ الاستصحاب المركوز في الأذهان في مثل المقام إنّما هو استصحاب حالة كونه يدرّس في أوّل الصبح التي هي تشكّل قانون نسخ حالة عدم تدريسه الثابتة له فيما قبل الصبح، و كذلك الأمر في المقام، فإنّ حالة الحرمة التعليقية كانت تشكّل قانون نسخ الحلّيّة التي كانت ثابتة له و ان شئت قلت: الحالة السابقة مركبة بحسب الحقيقة، و تكون للحلية السابقة حالة سابقة هي زوالها بالغليان فالحالة السابقة تكون هي الحرمة بالغليان لا الحلية، وهذا هو مقتضى الفهم العرفي و الارتكازي لدليل الاستصحاب، و يؤيد ذلك ما ارتكز لدى أكثر المحققين من جريان الاستصحاب التعليقي و ارتكز لديهم كافةً عدا المحقق العراقي “قده” عدم وجود معارض له على تقدير القول بجريانه([8]).
وفيه أنه وان تم ما ذكره من كون قيام الحج ة على كبرى الجعل وصغراها كافيا في تنجيز الحكم التكليفي لكن كانت هناك شبهة في كفايته في ترتيب الاثر الشرعي على ثبوت الحكم، كنجاسة الزبيب اذا غلى او طهارة الثوب باستصحاب مطهرية الماء.
والمهم أنه بعد عدم ثبوت الحكم الفعلي به بنظره لاشكال المثبتية، لا يرى وجه عرفي لحكومة الاستصحاب التعليقي على استصحاب عدم الحكم الفعلي، وما ذكره من كون الاستصحاب مطابقا للارتكاز مما لا حاجة اليه بعد كون تقدم الاستصحاب الجاري في الحالة الناسخة على الاستصحاب الجاري في الحالة المنسوخة مطابقا للارتكاز ولو في طول قيام الدليل التعبدي على جريان اصل الاستصحاب، الا أن المتيقن منه ما اذا كان الاصل الاول منقحا لحال الحالة المنسوخة، ولم يكن من الاصل المثبت، ومن جهة أخرى لم يكن حاجة الى تمثيل المقام بمثال تكرر التدريس، وان كان الظاهر أن الغرض تشبيهه به من حيث ان الحالة السابقة لعدم الحكم الفعلي كونه مغيىّ، والا ففي المقام يكون للحكم التعليقي وجود واحد مستمر، ولا يقاس بتكرر التدريس وتخلل العدم بين افراده، وقد مر ان ما هو المستصحب فيه كون عادته التدريس وهذا لا يثبت تحقق التدريس في هذا اليوم، ولذا لم يلتزم فقيه بأنه لو كانت عادة الشخص الحدث كل صباح وشك في يوم في صدور الحدث منه أن استصحابه يمنع من استصحاب عدم الحدث في ذلك اليوم.
و أما ما في كتاب الاضواء من أن قياس المقام بتكرر التدريس في غير محله، حيث انه في المقام لا تكرر للحالة السابقة، و إنّما يكون منشأ الشك تبدل حيثية و خصوصية أوجب الشك في كل من القضيتين التعليقية و التنجيزية على حد سواء، بل هو شك واحد في مشكوكين لكل منهما حالة سابقة معاكسة مع ما للأخرى([9])، ففيه انه كان مقصود السيد الصدر “قده” تشبيه المقام بمثال التدريس من حيث ان الحالة السابقة لعدم الحرمة الفعلية كونه مغيىّ بالغليان، كما ان عدم التدريس كان مغيى ومنتقضا سابقا بالتدريس فالتشبيه في محله.
نعم قد يقال في المقام في خصوص ما لو كان الاستصحاب التعليقي في الحكم الالزامي أنه حيث لا ينفي استصحاب عدم الحكم الفعلي الا التنجيز الناشيء منه دون التنجيز الناشيء من قيام الحجة على كبرى الجعل مع احراز صغراه، كما هو الحال في كل ما فرض سببان للتنجيز، فلا اثر لجريان استصحاب عدم الحكم الفعلي، ولذا ذكر في الأضواء في الجواب عن ابتلاء استحاب الحرمة التعليقية بالمعارض أن استصحاب الحلية التنجيزية لا يعارضه، لعدم تمامية اركان الاستصحاب فيها، إذ كما انّ الجعل قد جعل فيه العنب تمام الموضوع للحرمة المعلقة أصبحت الحلية المجعولة له في حال عدم الغليان حلية مغياة أيضاً، فلو اريد استصحاب الحلية المجعولة فهي مغياة، و إن اريد استصحاب عدم الحرمة الثابتة قبل الغليان، -كما هو الصحيح، لأنّ التأمين يكفي فيه عدم الحرمة- فهو لا يني التنجيز لأن سبب التنجيز هو الجامع بين قيام الحجة على الحرمة الفعلية وقيام الحجة على الحرمة التعليقية مع احراز الغليان، فلابد في التأمين من رفع كليهما، ولا يكفي رفع احدهما([10]).
فيرد عليه أن المنع من تمامية اركان استصحاب ذات الحلية المجعولة الثابتة للزبيب قبل غليانه في غير محله، والمفروض أنه يرى مثبتية استصحاب بقاء الحلية المغياة لاثبات كون هذه الحلية مغياة، نعم نحن نرى حكومته عليه عرفا، فبناء على كلامه يكون اثر استصحاب الترخيص الشرعي الثابت في الزبيب قبل غليانه هو التأمين في شربه فيتنافى مع استصحاب حرمته التعليقية بلحاظ اثر التنجيز والتعذير، ويظهر من بعض كلماته أنه يمنع من كون التأمين اثر استصحاب الحلية ولكنه لا وجه له ابدا، نعم ما ذكره حول استصحاب عدم الحرمة الفعلية من عدم كون اثره التأمين فهو وان كان لا يخلو من وجه، ولكن الظاهر عقلاء هو كون اثر قيام الحجة على انتفاء الحرمة الفعلية هو المعذورية في ارتكابه فتأمل.
وكيف كان فلا يأتي ما ذكره في ما لو كان مورد جريان الاستصحاب التعليقي حكما ترخيصيا، كحكم أن العصير المغلي اذا ذهب ثلثاه صار حلالا، اذا اريد استصحاب ذلك في عصير مغلي طرأت عليه حالة شككنا في بقاء هذا الحكم التعليقي بالنسبة اليه، وجرى استصحاب بقاء حرمته بعد ذهاب ثلثاه، وكذا لو كان حكما وضعيا كما في استصحاب أنه يتنجس اذا غلى، حيث انه اذا لم يثبت نجاسة الزبيب المغلي فتجري أصالة الطهارة فيه.
عدم تنافی بین ما اخترناه هنا وبین حكومة استصحاب عدم الجعل الزائد على استصحاب بقاء المجعول في الشبهات الحكمية
ثم ان ما اخترناه هنا من حكومة الاستصحاب التعليقي على الاستصحاب التنجيزي لا ينافي انكارنا سابقا لحكومة استصحاب عدم الجعل الزائد على استصحاب بقاء المجعول في الشبهات الحكمية، للفرق بين المقامين، فانه يقال في تقريب المعارضة بين استصحاب عدم الجعل الزائد وبقاء المجعول، أنه كما يكون استصحاب عدم الجعل الزائد منقحا لحال المجعول، فكذلك استصحاب بقاء المجعول يكون منقحا لحال الجعل، لكون حقيقتهما واحدة، فقانون “الماء المتغير نجس” اذا لوحظ بما هو قانونٌ، على نحو مفاد كان التامة، يشكّ في سعته بالنسبة الى الحكم بنجاسة الماء الذي زال تغيره، واذا لوحظ المحمول فيه وصفا عارضا للماء على نحو مفاد كان الناقصة، ويحدث بحدوث التغير ويبقى الى بقاء موضوعه فيشك في بقاء المحمول وهو النجاسة للماء بعد زوال تغيره، فتعارض الاستصحاب فيهما، لامكان ان تلحظ هذه الحقيقة الواحدة بلحاظين مختلفين، فانه لو فرض كون استصحاب عدم الجعل الزائد منقحا لحال المجعول دون العكس تم فيه نكتة الحكومة.
وأما في المقام فنكتة حكومة الاستصحاب التعليقي -مثل استصحاب أن الزبيب مثلا كان يحرم اذا غلى والآن كما كان- أنه ينقح حال حرمته الفعلية بعد الغليان كما تقدم توضيحه، بينما أن استصحاب عدم حرمته الفعلية لا ينفي عرفا حرمته التعليقية الا بنحو الاصل المثبت.
وكيف كان فقد اندفع شبهة المعارضة بين الاستصحاب التعليقي والتنجيزي، لكن مر الاشكال في جريان الاستصحاب التعليقي في حد ذاته، الا اذا كان الخطاب ظاهرا في انشاء الحكم التعليقي، كما في استصحاب مطهرية الماء او جواز البيع او حق الفسخ ونحو ذلك.
فی ختام البحث عن الاستصحاب التعليقي ينبغي بيان ثلاث مطالب
هذا و في ختام البحث عن الاستصحاب التعليقي ينبغي بيان ثلاث مطالب:
المطلب الاول: الاستصحاب التعليقي في الامور التكوينية
المطلب الاول: محل البحث في المقام كان في استصحاب الحكم التعليقي، ولكن قد يتمسك أحيانا بالاستصحاب التعليقي في الامور التكوينية التي تكون موضوعا للحكم الشرعي او متعلقا له:
مثال الاول: ما يقال من أنه لو رمي السهم الى جهة معينة قبل ساعةٍ لقُتِل زيد، للعلم بكونه آنذاك في تلك الجهة، فيستصحب ذلك لاثبات وقوع القتل.
ومثال الثاني: ما يقال من أن الصلاة لو وقعت قبل ساعة لكانت صلاة في النهار، فيستصحب ذلك، لاثبات اتصاف الصلاة في الزمان المشكوك بكونها صلاة في النهار، بناء على أن استصحاب النهار لا يثبت ذلك.
ولكن من الواضح أن اثبات وقوع الصلاة في النهار او وقوع قتل زيد بهذا الاستصحاب من اوضح أنحاء الاصل المثبت، فانَّ جزاء القضية الشرطية في المقام تكويني وليس حكما شرعيا، حتى يقال بأن ترتبه على استصحاب القضية الشرطية ليس من الاصل المثبت، بخلاف جزاء القضية الشرطية في استصحاب الحكم التعليقي.
المطلب الثاني: عدم جریان الاستصحاب التعليقي في الحكم الجزئي التعليقي
المطلب الثاني: قد يقال -كما في تعليقة البحوث([11])– بأنه بناء على ما في البحوث من عدم اثبات استصحاب الحكم التعليقي لفعلية الحكم بعد تحقق المعلق عليه فلا يثبت استصحاب الحرمة المعلقة على الغليان الحرمة الفعلية بعد الغليان وانما يكون منجزا لكفاية قيام الحجة على الجعل وتحقق صغراه، فلا يجري الاستصحاب التعليقي في الحكم الجزئي التعليقي، كما لو شك في صيرورة العنب زبيبا، لعدم الشك في كبرى الجعل وانما الشك في تحقق صغراه وهو كون الغليان غليان العنب، فينحصر الاصل الجاري فيه بالاصل الموضوعي، فلو فرض مورد لم يجر فيه الاصل الموضوعي، وانحصر الامر بالاستصحاب الحكمي، لم يجد الاستصحاب التعليقي في الحكم الجزئي.
اقول: يكفي في التنجيز العقلي بشهادة الوجدان قيام الحجة على كون هذا الشيء -المشكوك عنبيته- يحرم اذا غلى، مع قيام الحجة على غليانه.
المطلب الثالث: عدم جریان الاستصحاب فی العقود التی تكون لها آثار تعليقية
المطلب الثالث: ذكر الشيخ الاعظم “قده” أنه اذا شك في لزوم العقود التي ليس لها آثار فعلية، وانما تكون لها آثار تعليقية، كالوصية و السبق و الرماية، فلا يجري الاستصحاب لإثبات اللزوم، لعدم ترتب أثر فعلي على هذه العقود قبل تحقق المعلق عليه، اي قبل الموت في الوصية وحصول السبق او اصابة الهدف في السبق والرماية، فلا مجال لأن نقول: الأصل بقاء هذا الأثر، فيكون الاستصحاب تعليقياً و لا مجال لجريانه([12])، مع انه قائل في الاصول بجريان الاستصحاب التعليقي في مثال غليان العنب والزبيب.
وقد اورد عليه المحقق النائيني “قده” بأنه يا ليت عكس الأمر و اختار المنع عن جريان الاستصحاب التعليقي في مثال العنب و الزبيب، و اختار جريان استصحاب الملكيّة المنشأة في العقود التعليقيّة، لأنّ حال الملكيّة المنشأة فيها حال الأحكام المنشأة على موضوعاتها، و كما يصحّ استصحاب بقاء الحكم عند الشكّ في نسخه، و لو قبل فعليّته بوجود الموضوع خارجا، كذلك يصحّ استصحاب بقاء الملكيّة المعلّقة عند الشكّ في بقائها و لو قبل فعليّتها بتحقّق السبق و إصابة الرمي خارجا([13]) .
كما ذكر السيد الخوئي “قده” على ما في الدراسات أنه في العقود التعليقية بعد ما تتحقق المعاملة بين المتعاملين، و التزما بمضمون العقد، و أمضاه الشارع، فقد جعل الشارع ذلك الأثر لكن إمضاء، فبعد الفسخ يشك في بقاء جعل ذاك الأثر التعليقي و ارتفاعه، فالفسخ نظير النسخ في الأحكام التكليفية، من جهة كونه رافعا للجعل، فيتحقق فيه كلا ركني الاستصحاب من اليقين بالحدوث و الشك في البقاء، فيجري فيه الاستصحاب، كما كان يجري استصحاب بقاء الجعل إذا شك فيه في الأحكام التكليفية التعليقية لاحتمال النسخ، و لا مانع منه سوى ما أنكرناه من جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية([14]).
وذكر في مصباح الاصول أن الالتزام بمفاد العقد من المتعاقدين قد وقع في الخارج حتى في العقود التعليقية، و أمضاه الشارع، فقد تحقق هو في عالم الاعتبار، فإذا شك في بقائه و ارتفاعه بفسخ أحد المتعاقدين، فالأصل يقتضي بقاءه و عدم ارتفاعه بالفسخ، و بالجملة الفسخ في العقود نظير النسخ في التكاليف، نعم إذا بنينا على عدم جريان الاستصحاب في موارد الشك في النسخ، كان موارد الشك في بقاء الحكم بعد الفسخ أيضا مثلها([15]).
فحاصل ما ذكره المحقق النائيني والسيد الخوئي “قدهما” أن الجاعل في الجعالة حينما أنشأ أنه ان خاط زيد ثوبه مثلا فيملك في ذمته درهما” فالشارع بامضاءه لهذا العقد جعل حكما مماثلا له، اي قال “ان خاط زيد ثوب فلان فيملك في ذمته درهما”([16]) فالشك في نفوذ فسخ الجاعل يكون مستلزما للشك في الغاء الشارع لما انشأه بنفسه من تلك القضية الانشائية، فيجري استصحاب عدمه كما يجري استصحاب عدم النسخ.
ولكن ما ذكراه غريب جدا، فان فسخه لو كان نافذا فمعناه أن الجعل الشرعي في قوله “الجعالة نافذة ما لم يفسخها الجاعل قبل عمل العامل” هو أنه اذا اتى العامل بالعمل قبل فسخ الجاعل يملك الجعل، بينما أنه لو لم يكن فسخه نافذا كان الجعل الشرعي هو أنه اذا اتى العامل بالعمل يملك الجعل مطلقا، فالحكم الشرعي بملكية العامل للجعل لم يصر فعليا حتى يستصحب، وليس الشك في نسخ امضاء الجعالة بشكل عام حتى يجري استصحاب الجعل، فقياس المقام بالشك في النسخ غير صحيح.
ومن الغريب ما علق السيد الصدر “قده” على كلام المحقّق النائيني “قده” من أنه مبنيّ على مبنى فقهيّ في باب الفسخ، مقبول عندنا، و هو أنّ العقد في باب العقود و إن كان بحسب الحقيقة أمراً آنياً يتحقّق و ينتهي، لكن له نوع قرار و استمرار في نظر العقلاء ينقطع بالفسخ إذا كان متزلزلًا، فعند الشكّ في التزلزل يستصحب هذا الاستمرار بعد الفسخ و يترتّب عليه أثره، لكنّ هذا المبنى غير مقبول عند السيد الخوئي “قده” حيث يقول بأنّ الفسخ أخذ عدمه قيداً في الملكية المجعولة، لا أنّه رفع لذلك القرار و للاستمرار، و بناءً على هذا المبنى لا مجال للاستصحاب في المقام عدا الاستصحاب التعليقي([17]).
فان مدعى النائيني “قده” انشاء الشارع حكما مماثلا لما انشأه الجاعل في الجعالة على نهج القضية الانشائية الشرطية، فيستصحب بقاء هذه القضية عند الشك في نفوذ الفسخ على وزان استصحابها في موارد الشك في النسخ، فلا علاقة له بالابحاث المختلفة التي اشار اليها في طي كلماته([18]).
هذا وقد نقل عن السيد الخوئي “قده” كلاما لم اجد مصدره وهو أنّه يجري استصحاب الحقّ الثابت لعامل الجعالة مثلا، لفعلية حق تملك العامل الجعل بالعمل ولو قبل اتيانه بالعمل، ثم اورد عليه بما محصله أن ما انشأه الجاعل مثلا ليس الا قضية شرطية، وهي أنه لو عمل يملك الجعل، ولم يصدر منه اي انشاء حق للعامل زائدا على ذلك، كحق أن يملك المال بالعمل، وانما هو عبارة أخرى عن انشاءه لتلك القضية الشرطية، كما أنه لم يثبت من الشارع اعتبار اي حق له، عدا الحكم بملكيته للجعل اذا اتى بالعمل([19]).
اقول: قد صرح السيد الخوئي “قده” في محله أن الحق ليس الا الحكم بالجواز، والجواز الوضعي في باب الجعالة معناه أنه لو اتى بالعمل فيملك الجعل، وقد صرح في ابحاثه أن استصحاب جواز البيع وحق الفسخ تعليقي، اذ معناه أنه لو تحقق البيع اوالفسخ كان نافذا، فمقصوده من كون استصحاب صحة العقود التعليقية من الاستصحاب التنجيزي ما مر توضيحه.
وكيف كان فالانصاف أن الاستصحاب في العقود التعليقية من الاستصحاب التعليقي، وهذا ما اختاره في البحوث الا أنه ذكر أنه يكون من القسم الذي يجري بنظره، حيث ان مفاد الخطاب هو نفوذ هذه العقود فمفاد الخطاب في الجعالة أن العامل يملك الجعل اذا اتى بالعمل، فيكون نظير قوله “العنب يحرم اذا غلا” او “العنب اذا غلى حرم”([20]).
وفيه أنه قد لا يوجد دليل لفظي يستظهر منه كون الحكم الشرعي مجعولا على نحو الحكم التعليقي اي بنحو طولية القيدين، فلعل المجعول في الجعالة التي عمدة دليل نفوذها بناء العقلاء الذي هو دليل لبي لا لسان له هو أن “من أتى بالعمل الذي عيِّن له جعلٌ بازاءه تملك ذلك الجعل”، فيكون على وزان قوله “العنب المغلي حرام”، فيشكل الحكم باللزوم استنادا الى الاستصحاب في العقود التعليقية، ونحوه ما اذا طرأت حالة شككنا في بقاء صحة ذلك العقد قبل تحقق المعلق عليه.
نعم قد يستظهر من دليل الوصية ان الحكم المجعول فيها أن الوصية نافذة، ففي صحيحة محمد بن مسلم قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول إن الغلام إذا حضره الموت فأوصى و لم يدرك جازت وصيته لذوي الأرحام و لم تجز للغرباء، وفي موثقة أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا بلغ الغلام عشر سنين فأوصى بثلث ماله في حق جازت وصيته فإذا كان ابن سبع سنين فأوصى من ماله باليسير في حق جازت وصيته([21])، ومآل الحكم بكون الوصية نافذة هو أن الموصى له يملك المال الموصى به اذا مات الموصي، فيكون احتمال كون المجعول في الوصية التمليكية هو أن “من مات فيملك الموصى له ما اوصى له به” خلاف الظاهر، والانصاف أن الجزم بذلك مشكل.
[4] – بل مر في بعض الابحاث عن السيد الخوئي “قده” أن الحلية ليست الا عدم الحرمة، كما ذكر بعض السادة الاعلام “دام ظله” أن الحلية ليست مجعولة الا في موارد سبق الحرمة او توهم الحرمة.
[16] – وهذا نظير ما في البحوث ج 6ص 208 من أن مفاد الخطابات الامضائية كقوله “الوقوف حسب ما يوقفها اهلها” و “اوفوا بالعقود” او “اوفوا بالنذر” جعل حكم مماثل لما ينشأه العاقد او الناذر.
[18] – منها: ان موضوع وجوب الوفاء بالعقد هو العقد بما له من بقاء اعتباري، فانه يرد عليه أن المراد من بقاء العقد ان كان بقاءه بنظر طرف العقد فبعد صدور الفسخ منه لا يكون له بقاء بنظره، وان كان المراد بقاءه بنظر العرف فمعناه أن العقد الجائز الذي فسخه طرف العقد خارج عن خطاب الامر بالوفاء بالعقد، لكنه لا ينافي الشك في جواز العقد اللازم بنظر العرف، على أن الصحيح كون موضوع الحكم الشرعي باللزوم هو حدوث العقد، والا فلم يكن يمكن التمسك بعموم “اوفوا بالعقود” في موارد الشك في لزوم العقد، حيث كان يصير شبهة مصداقية له.
ومنها: ما ذكر من أن السيد الخوئي “قده” كان يرى أن المنشأ في مورد العقد الجائز هو الملكية ما دام عدم الفسخ، فان هذا المبنى له “قده” لا يرتبط بالمقام، اذ لاريب في أن حكم الشارع بجواز عقدٍ يساوق كون حكمه بترتب الأثر عليه مغيىً بعدم فسخه، فان اطلاق حكمه لما بعد الفسخ يكون متهافتا مع نفوذ فسخه شرعا، وانما الخلاف بينه “قده” وبين الآخرين في موارد شرط احد طرفي العقد او كليهما الخيار، فانه يرى أن البيع بشرط الخيار مثلا يكون بمعنى انشاء الملكية المغياة بعدم الفسخ، دون الملكية المطلقة، كما ان التزويج بشرط الخيار، مرجعه الى انشاء الزوجية المغياة بعدم الفسخ، ولذا افتى ببطلان هذا الزواج، بدعوى أنه لا يوجد في الشريعة الا النكاح الدائم او الموقت بوقت معين، وقد ذكرنا في محله عدم تمامية هذا المبنى.
ومنها: ان هناك مبنى مقبول عند كل من المحقق النائيني والسيد الخوئي “قدهما” وهو أن اللزوم الحقي ناش من تمليك طرفي العقد التزامهما بابقاء مضمون العقد وعدم فسخه للطرف الآخر، وحكم الشارع باللزوم الحقي امضاء منه لهذا القرار العقدي، وفي الجواز الحقي لا يملِّك طرف العقد التزامه بذلك من الطرف الآخر، وأما اللزوم والجواز الحكمي كلزوم النكاح او جواز الهبة فهو حكم ابتدائي من الشارع، الا أن البحث هنا اعم من اللزوم والجواز الحقي والحكمي.