فهرست مطالب

فهرست مطالب


تقریرات دروس خارج مدرسه فقهی امام محمد باقر علیه السلام

 

 

التنبيه السادس: استصحاب الحكم التعليقي.. 1

استصحاب الحرمة المعلقة على الغليان. 2

المقام الاول: في جريان استصحاب الحكم التعليقي في نفسه. 3

المحقق النائيني “قده”: هذا الاستصحاب راجعا الى استصحاب بقاء المجعول و یختل ركن اليقين بالحدوث في جريان استصحاب بقاء المجعول 3

ايرادات علی کلام محقق النائینی.. 4

تبديل استصحاب الحكم التعليقي باستصحاب الملازمة او السببية. 24

کلام المحقق العراقي.. 24

 

موضوع: تنبیهات /استصحاب /اصول

خلاصه مباحث گذشته:

متن خلاصه …

 

 

التنبيه السادس: استصحاب الحكم التعليقي

قسّموا استصحاب الحكم الى ثلاثة اقسام، ومنشأ التقسيم أن الشك في الحكم الشرعي تارة يرجع الى الشك في نسخ الجعل، فيكون الاستصحاب فيه جاريا في بقاء الجعل، وسيأتي الكلام فيه في التنبيه الآتي حول استصحاب عدم النسخ، و أخرى يرجع الى الشك في سعة الحكم لفرض تبدل بعض حالات الموضوع، وحينئذ قد يفرض أن الحكم صار الحكم فعليا بتحقق الموضوع بجميع قيوده وقيود الحكم، ثم شك في بقاءه، فيجري استصحاب الحكم التنجيزي، بناء على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية، كما لو غلى العنب فحرم شربه، ثم ذهب ثلثاه بنفسه لا بالنار، فشك في بقاء حرمته، وقد يفرض عدم صيرورة الحكم فعليا، وذلك فيما لم يتحقق جميع قيود الموضوع والحكم، وانما تحقق بعضها، ولكن علم بقضية تعليقية، وهي أنه لو وجد القيد الذي لم يوجد فعلا لثبت الحكم، مثال ذلك: أنّا كنا نعلم بأن العالم يجب اكرامه لو كان عادلا، ثم طرأت حالة عليه شككنا في بقاء هذه الملازمة بين ثبوت عدالته ووجوب اكرامه، فيشار الى زيد فيقال: انه كان يجب اكرامه لو صار عادلا، ونشك الآن في أنه لو صار عادلا فهل يجب اكرامه، فنستصحب بقاء ذلك، بناء على جريان استصحاب الحكم التعليقي، ونتيجته الحكم بوجوب اكرامه بعد صيرورته عادلا.

وقد توجد هذه القضية التعليقية في نفس الخطاب الشرعي، كما لو قال الشارع “العالم يجب اكرامه ان كان عادلا” وهذا هو القدر المتيقن من جريان استصحاب الحكم التعليقي، وقد تكون مجرد انتزاع عقلي، كما لو قال الشارع “يجب اكرام العالم العادل”، حيث يتنزع من ثبوت الحكم لكل موضوع مركب أنه لو انضم الجزء الثاني الى الجزء الاول ثبت الحكم.

استصحاب الحرمة المعلقة على الغليان

وقد مثَّلوا للاستصحاب التعليقي باستصحاب الحرمة المعلقة على الغليان، كما لو قال الشارع “العنب يحرم اذا غلى” حيث ان هذا الحكم متيقن الحدوث في العنب، ومشكوك البقاء في حال صيرورته زبيبا، فيكون استصحاب بقاء هذا الحكم من استصحاب الحكم التعليقي وقد وقع فيه النزاع.

ولا يخفى أن هذا المثال مجرد فرض فقهي لا واقع له، فان الوارد في الروايات أن العصير اذا غلى حرم، والزبيب لم يكن عصيرا في زمان، نعم يمكن التمثيل للاستصحاب التعليقي باستصحاب كون الماء طهورا، فانه يعني انه اذا غسل به المتنجس لطهر، او استصحاب جواز البيع وضعا فانه يعني أنه لو تحقق البيع كان نافذا.

وكيف كان فالمشهور قبل المحقق النائيني “قده” كان جريان هذا الاستصحاب، لكنه ناقش في جريانه، لعدم تمامية اركان الاستصحاب فيه، كما ناقش جمع فيه لأجل معارضته مع استصحاب ضده التنجيزي، فيعارض استصحاب الحرمة المعلقة على الغليان، استصحاب الحلية الثابتة قبل غليان الزبيب، فيقع الكلام فی مقامین:

المقام الاول: في جريان استصحاب الحكم التعليقي في نفسه.

والمقام الثاني: في ابتلاءه بالمعارضة.

المقام الاول: في جريان استصحاب الحكم التعليقي في نفسه

أما المقام الاول:

المحقق النائيني “قده”: هذا الاستصحاب راجعا الى استصحاب بقاء المجعول و یختل ركن اليقين بالحدوث في جريان استصحاب بقاء المجعول

فقد ذكر المحقق النائيني “قده” -وتبعه في ذلك السيد الخوئي وشيخنا الاستاذ “قدهما”- أن استصحاب الحكم التعليقي حيث يكون راجعا الى استصحاب بقاء المجعول، لعدم كون الشك في النسخ حتى يجري استصحاب بقاء الجعل، فيختل ركن اليقين بالحدوث في جريان استصحاب بقاء المجعول، فانه ما لم يتحقق جميع قيود الحكم فلا يتحقق المجعول، ولا يصير الحكم فعليا، فان قيود الحكم كلها راجعة في مقام الثبوت إلى موضوع الحكم، فان القيد إما أن يفرض وجوده في مقام جعل الحكم، فيكون ثبوت الحكم متوقفا على وجوده، وهذا هو الموضوع، وإما لا يفرض وجوده، بل يطلب ايجاده او تركه، فيكون من قيود المتعلق، وفي هذا الفرض لا يتوقف وجود الامر والنهي على تحققه، بل يكون الامر بداعي ايجاده والنهي بداعي تركه، ولا ريب في عدم كون الغليان في قوله “العنب يحرم اذا غلى” من هذا القبيل، فيكون راجعا الى موضوع الحرمة، ويكون مآله الى أنه اذا وجد العنب ووجد غليانه فيثبت حرمة شربه، وعليه فلا فرق ثبوتي بينه وبين قوله “العنب المغلي حرام” والذي يكون مآله الى قضية شرطية مفادها أنه “اذا وجد العنب المغلي فيتحقق حرمة شربه، فتحصل مما ذكر عدم جريان الاستصحاب التعليقي، لعدم تمامية اركانه.

نعم يوجد يقين سابق بالملازمة بين غليان العنب وحرمته او فقل بسببية غليان العنب للحرمة، وهذه الملازمة او سببية الغليان للحرمة ليست معلقة على تحقق الغليان في الخارج، لأن الملازمة او السببية منتزعة من جعل الشارع حرمة العنب إذا غلا، والجعل ثابت ولو لم يتحقق الموضوع، ولكن اثبات الحرمة به يكون من الاصل المثبت([1]).

ايرادات علی کلام محقق النائینی

وقد اورد على هذا البيان عدة ايرادات:

الايراد الاول:

ما ذكره السيد الحكيم “قده” من أن إرجاع القضايا الشرطية إلى القضايا الحملية، للبرهان القائم على أن موضوعات الاحكام علل تامة لها -لو تمَّ في نفسه- لا يتضح ارتباطه بما نحن فيه، ضرورة أن المدار في صحة جريان الاستصحاب على المفاهيم التي هي مفاد القضايا الشرعية، سواء أ كانت نفس الأمر الواقعي، أم لازمه، أم ملازمه، أم ملزومه، و لذلك يختلف الحال في جريان الاستصحاب و عدمه، باختلاف ذلك الأمر المتحصل، مثلا: لو كان الدليل قد تضمن أنه إذا وجد شهر رمضان وجب الصوم، جرى استصحاب رمضان عند الشك في هلال شوال، و كفى في وجوب الصوم يوم الشك، و لو كان الدليل تضمن وجوب الصوم في رمضان، لم يجد استصحاب شهر رمضان في وجوب صوم يوم الشك، لأنه لا يثبت كون الزمان المعين من شهر رمضان، فهذا المقدار من الاختلاف في مفهوم الدليل كافٍ في تحقق الفرق في جريان الاستصحاب و عدمه، مع أنه في لب الواقع و نفس الأمر لابد أن يرجع المفاد الأول الى الثاني، لأنه مع وجود شهر رمضان لا يكون الصوم في غيره، و لابد أن يكون فيه، و كذلك مثل “إذا وجد كر في الحوض” و “إذا كان ما في الحوض كراً” فإن الأول راجع الى الثاني، و مع ذلك يختلف الحكم في جريان الاستصحاب باختلاف كون أحدهما مفاد الدليل دون الآخر، فالمدار في صحة الاستصحاب على ما هو مفاد القضية الشرعية، سواء أ كان هو الموافق للقضية النفس الأمرية أم اللازم لها أم الملازم.

نعم لو كان المراد من الإرجاع إلى القضية الحملية، كون المراد من القضية الشرطية هو القضية الحملية مجازاً أو كنايةً على نحوٍ لا يكون المراد من الكلام إلا مفاد القضية الحملية، كان لما ذكر وجه. لكن هذا خلاف‌ الظاهر، و كيف يمكن دعوى أن معنى قولنا “العنب إذا غلى يتنجس” هو معنى قولنا: “العنب المغلي نجس” مع وضوح الفرق بين العبارتين مفهوما، وعليه فلا مانع من من جريان الاستصحاب التعليقي في المثال الاول، بخلاف المثال الثاني، وامكان فرض قضية تعليقية فيه بأن يقال “العنب لو انضم اليه الغليان تنجس” لا يفيد، فانه مضافا الى كونه لازما عقليا، يكون مقطوع البقاء، في كل مركب وجد أحد جزئيه، لا أنه مشكوك‌ كي يجري فيه الاستصحاب([2]).

و فيه أن مقصود المحقق النائيني هو كون مآل هاتين القضيتين في مقام الجعل الى شيء واحد، حيث ان قيد الحكم في الخطاب راجع فی مقام الجعل الى قيد الموضوع، فان کل قید في الخطاب المتضمن للحكم، إما أن يؤخذ مفروض الوجود في مقام الجعل، فيكون من قيود موضوع الحكم، حيث يكون ثبوت الحكم على تقدير وجوده، فلا يثبت قبله، وإما أن لا يؤخذ مفروض الوجود، بل يكون مما يقتضي الحكم تحصيله، فيكون من قيود متعلق التكليف، حيث يكون التكليف ثابتا قبله، فيقتضي ايجاده مقدمةً لتحصيل الواجب، وهو المقيد بهذا القيد، كالصلاة مع الطهارة، وحيث ان الغليان ليس من قبيل الثاني، فينحصر كونه من قبيل الاول، فيكون مآل قوله “العنب يحرم اذا غلى” الى قوله “العنب المغلي حرام” فما لم يحصل الغليان لم يتحقق الحكم الشرعي وهو الحرمة.

نعم الاختلاف بين القضيتين بلحاظ عدم كون الغليان مأخوذا في موضوعا في الخطاب، بل كان شرطا معلَّقا عليه ثبوت الحرمة للعنب، مؤثر في ما يتعلق بشؤون الخطاب، كثبوت مفهوم الشرط للجملة الاولى دون الثانية، واين هذا من الاختلاف بين قوله “اذا كان شهر رمضان فيجب الصوم” و قوله “صم في شهر رمضان” او الاختلاف بين قوله “اذا كان ماء كر في الحوض فتصدق” وبين قوله “اذا كان ماء الحوض كرا فتصدق” فانه اختلاف في كيفية الجعل، وليس مجرد اختلاف في التعبير، فالقياس مع الفارق.

وأما ما ذكره في مثال “العنب المغلي نجس” فيسأتي الكلام فيه.

الايراد الثاني:

ما ذكره ايضا، ومحصله: أن الاشكال انما يتوجه لو قلنا بأن وجود الشرط خارجا هو الذي انيط به الحكم، فلا حكم قبل وجوده حتى يستصحب، لكن الحكم منوط بوجوده اللحاظي، والا يلزم التفكيك بين الجعل و المجعول، وهذا أوضح فساداً من التفكيك بين العلة و المعلول، لأن الجعل عين المجعول حقيقة، و انما يختلف معه اعتبارا، فيلزم التناقض من وجود الجعل بدون المجعول، فعليه لا مانع من الاستصحاب، لليقين بثبوت الحكم، و الشك في ارتفاعه، و كون المجعول حكما منوطا بشي‌ء لا يقدح في جواز استصحابه بعد ما كان حكما شرعياً و مجعولا مولويا([3]).

وفيه أن الوجود اللحاظي للشرط، وان كان هو الذي يناط به الجعل والمجعول بالذات، الا أنه حيث يلحظ فانيا في الخارج، فبتحققه في الخارج يوجد المجعول بالعرض الذي له وجود وهمي عرفي منوط بتحقق موضوعه، نظير ملكية الموصى له لمال الموصي حيث انها متوقفة على وفاته حسب انشاء الموصي نفسه، فلا توجد قبل وفاته، ولا يلزم من ذلك محذور انفكاك الجعل عن المجعول بالذات والذي يعني كون الجعل بلا مجعول بالذات، والا فما ذا يقول في مثال “العنب المغلي نجس” حيث اعترف بتوقف وجود الحكم فيه على وجود الغليان، والمفروض ان المحقق النائيني “قده” يدعي ان مآل “العنب اذا غلى تنجس” اليه.

الايراد الثالث:

ما ذكره المحقق العراقي “قده” كنقض على المنع من جريان استصحاب الحكم التعليقي، من أنه بناء على اعتبار لزوم كون الحكم المستصحب فعليا شاغلا لصفحة الوجود خارجا، فيلزم عدم جريان الاستصحاب في الأحكام الكلية أيضا قبل وجود موضوعاتها فيما لو شك فيها لأجل احتمال نسخ أو تغيير بعض حالات الموضوع، مع أن المستشكل المزبور -اي المحقق النائيني “قده”- ملتزم بجريانه في الأحكام الكلية قبل وجود موضوعاتها، و بالجملة احتياج الاستصحاب في جريانه إلى وجود الموضوع خارجا بما له من الاجزاء و القيود يستلزم المنع عنه حتى في الأحكام الكلية قبل تحقق موضوعاتها سواء كان الشك فيها من جهة الشك في النسخ أو من جهة أخرى([4]).

وهذا لا يخلو من غرابة، فان الفقيه حينما يجري الاستصحاب في الحكم الكلي كنجاسة الماء الذي زال تغيره يلحظ الوجود العنواني للماء المتغير بالفعل مع توفر جميع القيود الدخيلة في حدوث نجاسته، وان لم يوجد بالفعل خارجا، فيرى ثبوت النجاسة له، ثم يفرض زوال التغير مثلا فيشك في بقاء نجاسته فيستصحبها، واين هذا من الاستصحاب التعليقي الذي لا معنى لأن يفرض الفقيه في الحالة السابقة المتيقنة تحقق جميع قيود الحرمة او النجاسة ومنها الغليان، اذ المفروض أن العنب في الاستصحاب التعليقي لم يغلِ في حال عنبيته ابدا.

واغرب من ذلك نقضه باستصحاب عدم النسخ، فانه استصحاب في بقاء الجعل، ومن الواضح أن تمامية اركان الاستصحاب في الجعل من اليقين بحدوثه والشك في بقاءه لا يتوقف على لحاظ حدوث الموضوع وبقاءه، وان كان استصحاب بقاء المجعول بحاجة اليه كما في استصحاب نجاسة الماء بعد زوال تغيره.

الايراد الرابع:

ما ذكره المحقق العراقي “قده” ايضا ويختص باستصحاب الحكم التكليفي دون الحكم الوضعي كقوله “العنب اذا غلى تنجس” ومحصله أنه يوجد فرق بين القيد الراجع إلى الحكم و التكليف، و بين القيد الراجع إلى موضوعه، فان‏ الاول شرط في أصل الاحتياج إلى الشي‏ء و اتصافه بكونه صلاحا، و بذلك يكون من الجهات التعليلية لطرو الحكم على الموضوع، بخلاف الثاني، فان دخله انما يكون في وجود ما هو المتصف بكونه صلاحا و محتاجا إليه فارغا عن أصل اتصافه بكونه صلاحا، و من الواضح حينئذ أنه لو ثبت في موردٍ قيدية شي‏ء للوجوب الذي هو مفاد الخطاب في الواجبات المشروطة لا يكون صالحا لأن يكون قيدا لموضوعه، لاستحالة تقييد الموضوع بحكمه أو بعلل حكمه، نعم تقييد الحكم به موجب لضيق قهري في موضوعه، للزوم تطابق سعة دائرة كل حكم مع موضوعه، كما هو الشأن في كل معروض بالنسبة إلى عرضه، و لكنه غير تقييده به، فإرجاع قيد الحكم الى الموضوع، ناشٍ عن الخلط بين نحوي القيد في كيفية الدخل في مصلحة المتعلق.

وذكر ايضا أن حقيقة الحكم التكليفي المستفاد من الخطابات الشرعية ليست إلّا الإرادة المبرزة، فالحكم التكليفي أجنبي عن الامور الاعتبارية والجعلية، بخلاف الحكم الوضعي كالملكية و الزوجية و نحوهما، فان روح الجعل في الحكم الوضعي عبارة عن تكوين حقيقته بالإنشاء و القصد، و بما ذكرناه انقدح أن ما اشتهر في بعض الأذهان من أن الأحكام التكليفية من سنخ القضايا الحقيقية التي تكون فرض وجود الموضوع فيها موجبا لفرض الحكم، فلا يكون الحكم فيها فعلياً الا في ظرف فعلية موضوعه بقيوده مما لا أساس له، وعليه فمرجع الإناطة و الاشتراط في الاحكام التكليفية إلى اشتياق فعلى منوط بوجود الشرط في لحاظ المولى، لا إلى اشتياق تقديري، نعم ما لم يتحقق هذا الشرط خارجا لا يكون لارادة المولى محركية وفاعلية نحو اتيان العبد بالفعل، وعليه فلا قصور في جريان الاستصحاب التعليقي في الحكم التكليفي المشروط ولو قبل وجود شرطه خارجا، لكونه فعليا ولو قبل وجود شرطه، من غير فرق بين أن تكون الإناطة و التعليق فيه بوجود موضوعه، أو بأمر خارج عنه، فلو علم حينئذ بترتب الحرمة على العنب في ظرف غليانه أو على العنب المغلي، فشك بعد تبدله بالزبيب قبل غليانه في بقاء تلك الحرمة الثابتة للعنب على تقدير غليانه، يجري فيها الاستصحاب لا محالة، بعد جعل وصف العنبية و الزبيبية من حالات الموضوع لا من مقوماته([5]).

وفيه اولاً: أن قيد الحكم ليس دائما شرط الاتصاف بالملاك، فقد يكون شرط الاستيفاء كالقدرة، او يوجد مانع عن التكليف من غير أن يكون مانعا عن الاتصاف بالمصلحة كالحرج فيقيد التكليف بعدمه، فلا يتم ما افاده باطلاقه في قيد الحكم.

كما أنه لا يتم ما ذكره في قيد الحرمة، اذ يرجع دائما الى تضييق متعلق الحرمة، فقوله “العنب يحرم اذا غلى” ابراز لتعلق بغض المولى بحصة خاصة من الشرب وهو شرب العنب المغلي.

وثانيا: ان فعلية ارادة المولى ولو قبل تحقق الموضوع خارجا لا تعني الا تعلق ارادته بالعنوان الكلي، فحينما يقول المولى “المكلف يحج ان استطاع” فارادته متعلقة بحج المكلف المستطيع، فاذا احتملنا أن الشيخ الكبير السن اذا استطاع لا يجب عليه الحج، فكيف نستصحب بقاء ارادة المولى لصدور الحج منه، بعد أن كنا نحتمل أنه كان يريد الحج من الشاب المستطيع، وهذا لم يكن شابا مستطيعا في زمانٍ، فلم يرد المولى منه الحج في شبابه لعدم استطاعته آنذاك، والحاصل أن ارادة المولى كالجعل وان كانت موجودة، لكن لا نشك في بقاء ارادته الكلية حيث لا نحتمل النسخ، وانما نشك في شمول ارادته للمكلف الذي لم يصر مستطيعا الا بعد شيخوخته، وليس له حالة سابقة الا بنحو القضية التعليقية، بأن نقول: ان الله كان يريد من المكلف حينما كان شابا أن يحج ان استطاع فاذا صار شيخا نستصحب ذلك، لكن مدعى المحقق النائيني أن مآل هذا التعبير ثبوتا الى القول بأن الله يريد الحج من الشاب المستطيع، والمفروض عدم استطاعة هذا المكلف الا بعد شيخوخته.

كما أنه اذا اراد المولى من عبده اكرام العالم اذا كان عادلا، فمصب ارادته اكرام العالم العادل، فمن لم يصر عادلا الا بعد ان زال علمه، لا يعلم بسبق شمول ارادة المولى لاكرامه، حتى يستصحب.

وهكذا في المحرمات، فاذا قال المولى “العنب يحرم اذا غلى” فمصب بغض المولى شرب العنب المغلي، فاذا صار العنب زبيبا فلابد من استصحاب كونه مبغوضا، ولكن لا حالة سابقة وجودية له لأنه لم يكن مغليا حال عنبيته، وأما بقاء البغض الكلي فهو معلوم، لعدم احتمال النسخ.

نعم في الواجب المعلق مثل “ان جاءك زيد فأكرمه” قد يقال بأن روح هذا الحكم تعلق ارادة المولى أن يكرم هذا العبد زيدا على تقدير مجيئه، فاذا طرأت حالة قبل مجيء زيد اوجبت الشك في بقاء هذا الحكم فيجري استصحابه، ولكن هذا استصحاب لوجوب فعلي، وان كان الواجب استقباليا.

الايراد الخامس:

ما ذكره المحقق العراقي “قده” في المقالات، من أن يقين الشخص بالملازمة بين الغليان والحرمة مثلا مستتبع لليقين بوجود الحرمة، نعم هذا ليس يقينا مطلقا، بل يقين منوط بلحاظ الغليان، كما هو الشأن في جميع موارد اليقين بالملازمة او الاخبار بها حتى في التكوينيات، فمثلاً حينما يقول: إن طلعت الشمس فالنهار موجود، فالمخبر به هو وجود النهار في فرض طلوع الشمس، فكأنه قال: أعلم في فرض طلوع الشمس بوجود النهار، و توهم أنّ ذلك إخبار عن الملازمة بين طلوع الشمس و وجود النهار، غلط واضح، بل هو إخبار عن وجود النهار، نعم هذا ليس إخباراً مطلقا عنه، وانما هو اخبار منوط بلحاظ طلوع الشمس، دون وجوده الخارجي، لتحقق الاخبار ولو لم يطلع الشمس، كما أن طلوع الشمس ليس قيداً في المخبر به، بأن يخبر عن وجود النهار المقيد بطلوع الشمس، و إلّا لكان‏ إخباراً عن وجود المقيّد و القيد بالفعل، فيلزم منه كذب الاخبار عن فساد السموات والارض عند تعدد الآلهة، فانحصر كونه بوجوده اللحاظي في ذهن المخبر والمتيقن قيدا للاخبار واليقين‏.

والحاصل أن اليقين المنوط والمشروط بالغليان الذي لحقه الشك المنوط والمشروط به مشمول لعموم النهي عن نقض اليقبن بالشك، فيجري فيه الاستصحاب المنوط والمشروط بالغليان، نعم هذا البيان مبني على تعلق النهي بنقض اليقين، دون ما لو اريد منه ترتيب آثار المتيقن.

ولا يخفى أنّ مثل هذا البيان أيضا جارٍ في التعليقات الخارجية غير الشرعية التي يكون الأثر الشرعي فيها مترتبا على الوجود المنوط، و ربّما يتفرع على مثل هذا البيان الحكم بوجوب التيمم في فرض كون الشخص واجدا في الساعة الاولى لماء مطلق، ثم وجد في الساعة الثانية مائعا آخر مشكوك الاطلاق على وجه ليس له حالة سابقة، ثم فقد الماء الأوّل مقارنا لوجدانه للمايع الآخر او بعده، فان مقتضى الاستصحاب التعليقي أن يقال انه كان على يقين منوط بتلف الماء الاول في الساعة الاولى بكونه فاقدا للماء، فيستصحب ذلك الى الساعة الثانية، فيترتب عليه حكم الفقدان من صحة تيممه([6]).

و فيه أنه لا يعقل معنى آخر للعلم بوجود النهار في فرض طلوع الشمس الا العلم بالملازمة بين وجود النهار وطلوع الشمس، والا فأي معنىً لأن يكون الانسان عالما في الليل بوجود النهار علما مشروطا بطلوع الشمس، نعم العلم بالملازمة يجعل الانسان بحيث كلما علم بالملزوم اي طلوع الشمس فيتولد له العلم باللازم، وهو وجود النهار.

والحاصل أنه لا معنى لكون العلم كأي وجود تكويني آخر مشروطا بشيء عدا كون ذلك الشيء من اسبابه ودخيلا في وجوده، والا فلیس وجود العلم مفهوما كليا موسعا قابلا للتضييق، حتى يقال بأن المراد من اشتراط العلم كاشتراط المفاهيم الكلية ببعض القيود هو تقييده وتضييقه به، فيكون العلم المشروط بمعنى العلم المضيق والمقيد، بينما أن التضييق غير متصور في الوجودات ومنه العلم، فالمراد من اشتراط العلم هو تعليق وجوده على سببه، وسبب العلم باللازم كوجود النهار ليس هو واقع طلوع الشمس حتى يناط به، وانما هو العلم بطلوع الشمس بضم العلم بالملازمة بينهما، فالعلم بالحرمة في مثال “العنب يحرم اذا غلى” يكون منوطا بالعلم بالغليان والعلم بالملازمة بينه وبين الحرمة، فما هو موجود فعلا قبل العلم بالغليان انما هو العلم بالملازمة و كذا العلم بأنه لو علم بالغليان فسوف يحصل له العلم بالحرمة، وأما العلم الفعلي بالحرمة قبل الغليان فغير معقول.

الايراد السادس:

ما ذكره المحقق الأصفهاني “قده” فانه -بعد ما نقل عن حاشية المحقق الخراساني “ره” على الرسائل أن القيد إذا كان راجعاً إلى المادة بأن كان العنب المغلي حراماً، فالأمر في صحة الاستصحاب أوضح، إذ لا تقدير للحكم، وانما التقدير للموضوع- قال: انَّ حرمة العنب المغلي مجعولة على نهج القضية الحقيقية لا الخارجية، و هذا يعني أنها مجعولة على الافراد المقدرة الوجود، فالحرمة فعلية على العنب المغلي المقدر، فكما تكون الافراد الخارجية للغليان مشمولة للحكم كذلك تكون افراده المقدرة مشمولة للحكم، فتستصحب تلك الحرمة الجزئية الثابتة بلحاظ الغليان المقدر الوجود([7]).

اقول: نعم هذا مقصود المحقق الخراساني، بل صريح كلامه حيث انه بعد ما اجرى استصحاب الحكم التعليقي في مثل “العنب يحرم اذا غلا” قال: لو كان القيد راجعاً إلى الموضوع بأن يكون العنب المغليّ حراماً، فالأمر في صحّة الاستصحاب أوضح، لأنّه يكون استصحاباً لما ثبت من الحكم التنجيزي للمغليّ من‏ العنب، غاية الأمر انه لم يوجد سابقاً، لكنّه كان بحيث لو وجد كان متّصفاً به بالفعل، و قد عرفت اختصاص الإشكال في التعليق بغير التعليق بوجود الموضوع([8]).

ولكن يرد عليه أن معنى كون القضية الحقيقية شاملة للأفراد المقدرة، كقولنا “النار حارة” أن المحمول شامل لكل ما فرض كونه مصداقا لموضوعه، فاذا كان الموضوع للحرمة “العنب المغلي” فيلحظ الموضوع فانيا فيما لوحظ كونه عنبا مغليا، ولا نشك في حرمته حتى نحتاج الى الاستصحاب، واين هذا من اثبات الحرمة لعنب لم يغلِ حال عنبيته ابدا.

ومن جهة أخرى ان شمول القضية الحقيقية للفرد المقدر الوجود لا يعني وجود المحمول فيه فعلا، بل معلقا على وجود الفرد خارجا، فتكون الحالة السابقة المتيقنة فيه عدم المحمول ولو من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فكيف يستصحب وجوده.

وما في البحوث من أن المحقق الخراساني فرض كون الغليان قيد المتعلق، فلا يتوقف ثبوت الحرمة على وجود الغليان، فيجري استصحاب بقاء هذه الحرمة للشرب الخاص بعد صيرورة العنب زبيبا، إلّا انه كما أشار بنفسه يكون من الاستصحاب التنجيزي لا التعليقي([9]).

فان اراد منه كون العنب موضوعا لحرمة شربه الخاص اي شربه المسبوق بغليانه، فهو وان كان يوجب امكان استصحاب الحكم التنجيزي بأن يشار الى الزبيب فيقال هذا كان يحرم شربه الخاص فيستصحب بقاء حرمته، لكن -مضافا الى أن عبارة المحقق الخراساني تأبى عن هذا الحمل، حيث فرض في آخر كلامه تعليق الحكم على وجود العنب المغلي تعليق الحكم على موضوعه- يرد عليه أن هذا التفكيك بين قيد العنب وقيد الغليان بجعل الاول موضوعا والثاني قيد المتعلق خلاف الظاهر جدا.

وأما كون العنب المغلي متعلق المتعلق فتكون الحرمة فعلية ولو قبل وجود العنب المغلي وانما تعلقت الحرمة بحصة خاصة من الشرب، وهي شرب العنب المغلي، فهو امر معقول، ومطابق لروح الحكم وهي الكراهة، وقد استظهر السيد الخوئي “قده” ذلك في عامة المحرمات، لكن -مضافا الى ما ذكرنا من عدم مساعدة عبارة حاشية الرسائل معه- صيرورة العنب المغلي قيدا في متعلق الحرمة لا توجب تحسن حال الاستصحاب فيه بل يصير اسوء، اذ لا تتم اركان استصحاب بقاء المجعول فيه، فان شرب العنب المغلي معلوم الحرمة حدوثا وبقاء، وشرب الزبيب المغلي مشكوك الحرمة حدوثا، ولو كان حراما لكان حراما آخر في عرض الاول ولم يكن بقاء له، فلابد أن يتشبث بذيل استصحاب قضية تعليقية وهي أن هذا كان يحرم شربه على تقدير غليانه، فيكون من الاستصحاب التعليقي.

الايراد السابع:

ما يقال من أن البرهان الذي أقامه المحقق النائيني “قده” على كون قيد الحكم قيد موضوع الجعل بمعنى أخذه مفروض الوجود في مقام ترتب الحكم عليه فلا يثبت الحرمة قبل وجود الغليان وان كان تاما، لكن لا دليل على لزوم اخذ جميع القيود مفروضة الوجود في عرض واحد فيمكن للمولى أن يلحظ غليان العنب مفروض الوجود ويلحظ ثبوت الحرمة بعد تحقق الغليان وبذلك تتشكل جملة “حرام اذا غلا” ثم يلحظ العنب مفروض الوجود في مقام اعتبار مفاد هذه الجملة له، فصارت الحرمة المعلقة على وجود الغليان معتبرا شرعيا ثابتا لكل عنب، ولو لم يكن مغليا، فيجري استصحابه على وزان استصحاب المجعول، وهذا بخلاف ما اذا لوحظ القيدان في عرض واحد كما في قوله “العنب المغلي حرام” او قوله “اذا وجد العنب ووجد غليانه فهو حرام”.

وهذا التفصيل قد صرح به في البحوث، وذكر أن الفارق على هذا المبنى ليس هو ما يظهر من جماعة كالسيد اليزدي والسيد الحكيم “قدهما” من التفصيل بين الجملة الشرطية والحملية، وانما هو طولية القيدين وعرضيتهما، فيجري الاستصحاب التعليقي في مثال “العنب يحرم المغلي منه” مع كونه قضية حملية، لظهوره في طولية القيدين، كما يجري في مثال “العنب اذا غلى حرم” لظهوره في كون العنب موضوعا لقضية شرطية وهي أنه اذا غلا حرم([10]).

ويؤيده ما يقال من إباء العرف عن المنع من شمول دليل الاستصحاب لاستصحاب طهورية الماء او الجواز الوضعي للبيع، او نفوذ الوصية اذا طرات حالة في زمان حياة الموصي اوجبت الشك في بقاء نفوذ وصيته، مع عدم ترتب اثر فعلي على الوصية الا بعد وفاة الموصي، مع أن هذه الاستصحابات تعليقية لكن بنحو طولية القيدين، ولذا التجأ شيخنا الاستاذ “قده” الى أن يدعي أن استصحاب مطهرية الماء استصحاب تنجيزي كاستصحاب ضمان الغاصب، وان كان ذات الحكم بالمطهرية مستبطنة لامر تعليقي، وهو أنه اذا غسل المتنجس به طهر، كما أن الضمان مستبطن للحكم باشتغال الذمة بالبدل على تقدير التلف، مع أنا لم نجد لهذه الدعوى معنى واضحا.

وقد يورد عليه عدة ايرادات:

الايراد الاول: ما ذكره بعض السادة الاعلام “دام ظله” من أن مفاد الجملة الشرطية في مثل قولنا “العنب اذا غلى حرم” هو تعليق ثبوت الحرمة للعنب على غليانه، ومفهومها انتفاء الحرمة عن العنب عند انتفاء غليانه، فلا تدل على ثبوت حرمة معلقة على الغليان لمطلق العنب.

وفيه أنه لا يوجد أي مانع ثبوتي من جعل الحرمة المعلقة على الغليان لطبيعي العنب، وهذا لا ينافي كون الحكم المجعول اولا وبالذات هو الحرمة، لكن الحرمة المعلقة على الغليان ايضا يصح أن يرى مجعولا ثابتا لطبيعي العنب.

الايراد الثاني: ما ذكره بعض الاعلام من أن الحكم التكليفي ابراز لارادة المولى وكراهته، فما يكون داخلا في عهدة المكلف، ويكون هو الصالح للتنجز هو ارادة المولى وكراهته، وتغيير كيفية التقييد التي هي مجرد تلاعب بالاعتبار والانشاء لا يغيِّر من ذلك، فقد تعلقت كراهة المولى بشرب العنب المغلي على تقدير وجود قيد العنبية والغليان، ومعه فيتم اشكال المحقق النائيني “قده” على الاستصحاب التعليقي بهذا اللحاظ([11]).

وفيه اولا: انه اخص من المدعى، لعدم ورود هذا الاشكال في الحكم الوضعي، كما في مثال استصحاب المطهرية والجواز الوضعي.

وثانيا: لنا أن نمنع من عدم امكان اختلاف صياغة ارادة المولى وكراهته، بعد أن لم يكن المراد منهما الحب والبغض غير الاختياريين، بل المراد منهما تعلق غرض المولى بفعل العبد او تركه، ومطالبة العبد بذلك وتحميله المسؤولية عنه، فيتعلق غرضه بأن يكون المكلف يأتي بالحج لو استطاع، ويجتنب عن شرب العنب اذا غلى، وهكذا.

وثالثا: انه اذا صار الحكم الانشائي أن كل عنب محكوم بانه يحرم اذا غلا فهذا يوجب تمامية اركان الاستصحاب في هذا الحكم الانشائي وبذلك يثبت الحرمة المعلقة على الغليان للزبيب، فيكون ذلك منجزا لكراهة المولى بالنسبة اليه، وان لم يتم اركان الاستصحاب بلحاظ عالم الارادة والكراهة.

الايراد الثالث: ما يقال من أن ما يقبل التنجيز انما هو الحكم الفعلي، والمفروض أنه ما لم يتحقق الغليان لا تكون الحرمة فعلية بل تبقى مشروطة، و إثبات فعلية الحرمة بعد تحقق الغليان باستصحاب الحرمة المشروطة بالغليان اصل مثبت، لكونه لازما عقليا له، فانه من اثبات وجود الجزاء عند احراز تحقق الشرط باستصحاب الملازمة بين الشرط والجزاء.

و قد أجاب عنه في البحوث أولاً: بأنَّ دليل الاستصحاب إذا بنينا على تكفله لجعل الحكم المماثل كان مفاده في المقام ثبوت حكم مشروط ظاهري، و تحول هذا الحكم الظاهري إلى فعلي عند وجود شرطه لازم عقلي لنفس التعبد الظاهري المذكور لا للمستصحب، وهذا ليس من الاصل المثبت.

و ثانياً: بالنقض بموارد استصحاب بقاء الجعل و عدم النسخ عند الشك فيه مع انَّ المستصحب فيه القضية الحقيقية الشرطية و التي لا تتحول إلى الحكم الفعلي عند وجود شرطها إلّا بناءً على الأصل المثبت.

و ثالثاً: بالحل بأنَّ هذا الاعتراض نشأ من تصور أنَّ فعلية المجعول أمر يتحقق وراء مرحلة الجعل، و أنَّ المنجز عقلًا انَّما هو إحراز المجعول الفعلي، مع انه قد تقدم انه لا واقع حقيقي وراء الجعل و انَّ مرحلة فعلية المجعول مرحلة وهمية تصورية تنشأ من ملاحظة الجعل بمنظار الحمل الأولي، و انَّ التنجيز يكفي فيه إيصال الحكم المشروط مع إحراز الشرط لأنَّ وصول الكبرى و الصغرى معاً كاف لحكم العقل بوجوب الامتثال فكلما كان أحدهما محرزاً صحّ إحراز الآخر بالتعبد لترتب التنجيز عليه بحسب الفرض([12]).

اقول: يمكن الاعتراض على جوابه الاول بعدم ملائمته مع ما تكرر منه من أن شمول عموم الدليل لموردٍ ان كان بحاجة الى التعبد بلازم عقلي له فلا يمكن التمسك بعمومه لاثباته، خصوصا بعد أن كان صدق نقض اليقين بالشك عليه موقوفا على التعبد بلازمه، بينما أن التعبد بلازمه فرع صدق نقض اليقين بالشك، وسيأتي قريبا أنه اشكل بمثل هذا الاشكال على المحقق العراقي حيث ذكر أن لازم استصحاب السببية التعبد بالمسبب.

كما يعترض على جوابه الثاني بأنه يرى أن المستصحب في الجعل هو الجعل بمعنى المجعول الكلي الذي يرى وصفا للموضوع فيقال: العنب المغلي كان حراما في ابتداء الاسلام والآن كما كان، واين هذا من الاستصحاب التعليقي، فانه لا يرى المجعول الكلي وصفا لأحد جزئي الموضوع مع لحاظ عدم تحقق جزءه الآخرز

على أن استصحاب بقاء الجعل ليس من المسلمات فقد ناقش فيه السيد الخوئي “قده”.

كما اعترض في كتاب الأضواء على جوابه الثالث -مع غمض العين عما مرّ منه من كون الصالح للتنجز هو ارادة المولى وكراهته دون صياغة الجعل- بأن احراز الجعل و صغراه و إن كان كافياً في التنجيز عقلاً، بل هو المنجز دقةً و ليس المجعول الفعلي في الخارج إلّا أمراً وهمياً تصورياً، إلّا أنّ ما هو الجعل المنجِّز ليس هو القضية الحملية أو الشرطية، و إنّما ثبوت محمولها الذي هو الأمر الاعتباري و هو الحكم و التكليف الذي يعتبره و ينشئه المولى، و أمّا الموضوع و النسبة و التعليق فكلها امور تكوينية أو انتزاعية عقلية، وليست معتبرة و لا قابلة للتنجيز، فلابد من اثبات سعة هذا الأمر الاعتباري و شموله للمكلف، فلابد من تطبيق اليقين السابق و الشك اللاحق على هذا الأمر، لكي يجري استصحابه، فما فيه يقين سابق و هو القضية التعليقية ليس قابلاً للتنجيز، و ما يقبل التنجيز و هو ثبوت الحرمة للزبيب المغلي ليس به يقين سابق، لكي يثبت بالاستصحاب، و كفاية احراز القضية التعليقية في العنب لتنجيز حرمته إذا احرز الغليان و الشرط ليس باعتبار منجزية القضية التعليقية و كفايتها، بل باعتبار ما يتولد منه من احراز الحكم الكلي بحرمة العنب المغلي، و أنّ الشارع قد اعتبر و جعل الحرمة على العنب المغلي، فهذا هو الكبرى و الجعل المنجز عقلًا لا القضية التعليقية([13]).

والانصاف عدم تمامية هذا الاعتراض الأخير، فانه بعد قبول اختلاف كيفية الجعل التعليقي ثبوتا في قوله “العنب يحرم اذا غلا” عن الجعل التنجيزي في قوله “العنب المغلي حرام”، فقيام الحجة على كبرى الجعل التعليقي وقيام الحجة على تحقق صغراه كافٍ بشهادة الوجدان في التنجيز والتعذير العقلي.

ولكن يوجد اعتراض آخر على الجواب الثالث، و هو أن الاثر لا ينحصر بالأثر العقلي اي المنجزية والمعذرية حتى يقال يكفي فيه التعبد الظاهري بالحرمة المعلقة على الغليان، مع احراز الغليان، فقد يكون الاثر شرعيا مترتبا على ثبوت الحكم الفعلي كالحكم بمنجسية الملاقي، فان موضوعه كون الملاقى بالفتح نجسا، ولا يكفي استصحاب النجاسة المعلقة على الغليان بضم احراز الغليان ما لم يثبت كونه نجسا.

والظاهر أنه لا يوجد جواب لهذا الاعتراض الا باحد وجوه ثلاثة:

1- استظهار كون الموضوع للاثر الشرعي كحرمة الشرب او منجسية الملاقي هو كون الشيء صغرى لكبرى الجعل الشرعي فيكون موضوع “يحرم شرب النجس” مركبا من كبري الجعل ولو كان هو الجعل التعليقي كقوله “العنب يحرم اذا غلا” وتحقق صغراها التي تتقوم بالغليان”.

وهذا الوجه و ان كان هو الظاهر من البحوث، لكن الجزم به مشكل، كيف ولازمه أنه لو لايجدي في تنقيح موضوع ذلك الاثر الشرعي استصحاب الحكم الجزئي في الشبهة المصداقية، مع عدم جريان الاصل الموضوعي فيه لمانع كتوارد الحالتين ونحوه، مثل ما لو غسل الثوب المتنجس بمايع توارد عليه حالتا الاطلاق والاضافة، فلم يجر الاصل الموضوعي لنفي غسله بالماء بعد كونه مركبا من الغسل بمايع وكون ذاك المايع ماء، والاول معلوم بالوجدان وليس مجرى للاصل، والثاني مما تعارض فيه الاستصحاب لأجل توارد الحالتين، فاستصحبنا كون الثوب نجسا ثم لاقى طعام طاهر مع هذا الثوب برطوبة، فان الطريق لاثبات نجاسته هو التمسك باستصحاب النجاسة في الملاقى بالفتح وهو الثوب، فلو قلنا بان موضوع حرمة اكل الطعام النجس او منجسته لملاقيه هو المركب من كبرى الجعل وتحقق صغراه، فالمفروض ان كبرى الجعل معلومة والاصل لم يجر لتنقيح الصغرى.

2- أن نتمسك بخفاء الواسطة أي ان العرف بنظره المسامحي ينسب اثر الواسطة وهو الحكم التنجيزي بعد حصول المعلق عليه، الى المستصحب وهو الحكم التعليقي مع تحقق صغراه، بدعوى أنه يرى عدم ترتيب هذا الاثر نقضا لليقين بالشك، وفي المقام اذا لم يرتب اثر نجاسة الزبيب المغلي على استصحاب الحكم التعليقي بأن العنب يتنجس اذا غلا، يكون نقضا لليقين بالشك عرفا.

ولكن سيأتي عدم العبرة بخفاء الواسطة بعد كونه بمعنى تسامح العرف في انتساب اثر اللازم الى المستصحب، وهذا يعني أن صدق نقض اليقين بالشك عليه يكون مبنيا على التسامح العرفي الذي لا عبرة به، حيث ان المدار على النظر العرفي الدقي الذي يعترف بالفرق بينهما.

4- أن ندعي جلاء الواسطة، فنقول ان العرف حيث لا يتعقل التفكيك بين التعبد الظاهري بالحكم التعليقي المجعول شرعا كمطهرية الماء او النجاسة المعلقة على الغليان وبين التعبد الظاهري بالحكم التنجيزي عقيب حصول المعلق عليه، كطهارة المغسول به او نجاسة الزبيب بعد غليانه، فيكون لازم نفس الاستصحاب التعليقي هو التعبد بالحكم التنجيزي، فيختلف عن مثبتات الاستصحاب فانها تعني اثبات لوازم المستصحب.

نعم سيأتي في بحث جلاء الواسطة أنه لابد من ثبوت اثر لنفس المستصحب كالحكم التعليقي في المقام كي يصدق بلحاظه عنوان النقض العملي لليقين بالشك على عدم ترتيب ذاك الاثر، فيشمله خطاب الاستصحاب، ثم يتمسك بلازمه وهو التعبد الظاهري بثبوت الحكم التنجيزي بعد تحقق المعلق عليه، ولا اشكال من هذه الجهة فيما اذا ترتب اثر عقلي من المنجزية والمعذرية على كبرى جعل الحكم التكليفي وتحقق صغراها فبعد ما يجري الاستصحاب التعليقي بلحاظه يمكن اثبات الحكم التنجيزي لاثبات آثاره الشرعية.

انما الاشكال فيما اذا لم يوجد فيه جعل حكم تكليفي تعليقي، كما في الحكم بمطهرية الماء.

ودعوى أنه قد يكون جلاء الواسطة بمرتبة يتشكل لخطاب الاستصحاب ظهور عرفي في التعبد بلازمه بأن يكون من اللازم البين بالمعنى الأخص، بحيث يكفي اثر الواسطة في شمول خطاب الاستصحاب للملزوم، فالعرف وان كان يلتفت الى أن منجسية الملاقي مثلا مترتبة على النجس الفعلي، ولكن يرى كفايته في انطباق النقض العملي لليقين بالشك على المتيقن السابق وهو الحكم التعليقي بأن العنب يتنجس اذا غلا، مما يشكل الجزم بها، فان انطباق النهي عن نقض اليقين بالشك على اليقين السابق بالحكم التعليقي لأجل عدم ترتيب أثر النجاسة الفعلية الحاصلة بعد تحقق المعلق عليه مع اعتراف العرف بالتغاير بين المستصحب ولازمه وكون الاثر مترتبا على الثاني دون الاول مشكل، فلابد من التشبث بذيل الغاء الخصوصية عرفا، بدعوى عدم احتمال اختصاص الاستصحاب التعليقي بالفرض الاول الذي يوجد فيه حكم تعليقي تكليفي.

وهذا الوجه قريب الى الذهن وان كانت المسألة مشكلة جدا.

فتحصل من جميع ما ذكرناه أن التفصيل المذكور في البحوث حول جريان استصحاب الحكم التعليقي، وان كان لا يخلو من وجه، لكن العرف لا يفهم من اختلاف التعبير بين كلمات الأئمة (عليهم السلام) كقوله مثلا “العنب يحرم اذا غلا” او قوله “العنب المغلي حرام” او قوله “العنب اذا غلى حرم” او قوله “العنب يحرم المغلي منه” اكثر من تعاببر عرفية لا تكشف عن اختلاف كيفية الجعل ثبوتا، فلعل المجعول في مقام الثبوت حرمة العنب المغلي، الا أن الامام (عليه السلام) بيّنه بلسان أن العنب يحرم المغلي منه او يحرم اذا غلا، او العنب اذا غلا يحرم، وهذا الذي ذكرناه في مثال “العنب اذا غلى حرم” او “العنب يحرم المغلي منه” اوضح، من مثال “العنب يحرم اذا غلا” وان كان الصحيح عدم ظهوره ايضا في كون الحكم المجعول فيه مختلفا ثبوتا عن قوله “العنب المغلي حرام.

بل حتى لو فرض كون اختلاف التعبير في كلمات الامام ظاهرا في اختلاف كيفية الجعل، فمع انتشار ظاهرة النقل بالمعنى بين الرواة وعدم التفاتهم الى هذه الدقائق، لا ينعقد ظهور في روايتهم في كشف اللفظ الدقيق الصادر عن الامام (عليه السلام).

نعم لا ياتي هذا الاشكال عرفا في مثال استصحاب الطهور ونحوه بأن يكون الخطاب الصادر عن الشارع أنه اذا غسل المتنجس بالماء طهر، فغيّره الامام او الراوي فقال: الماء طهور.

تبديل استصحاب الحكم التعليقي باستصحاب الملازمة او السببية

قد يقال بأنه لا مانع من استصحاب بقاء الملازمة بين الغليان والحرمة او بقاء سببيته للحرمة:

کلام المحقق العراقي

أما استصحاب الملازمة فقد ذكر المحقق العراقي “ره” في تقريب جريانه حتى في مثل “العنب المغلي حرام” أنه لا قصور في أدلة الاستصحاب للشمول لها، ثم ذكر ايرادين وأجاب عنهما.

احدهما: أنها ليست شرعية، لأنها عبارة عن الملازمة بين وجود الغليان ووجود الحرمة، فهي اعتبار عقلي منتزع من جعل الشارع لحرمة العنب المغلي، و دليل الاستصحاب غير ناظر إلى مثله.

ثانيهما: ان الملازمة انما هي بين الحكم و تمام الموضوع، و لا يعقل الشك في بقاءها الا من جهة الشك في نسخ الملازمة، و هو خلف الفرض.

وأجاب عن الايراد الاول بأنه يكفي في باب الاستصحاب كون امر المستصحب رفعا ووضعا بيد الشارع و لو بواسطة جعل منشأ انتزاعه، خصوصا على المبنى المختار في “لا تنقض اليقين بالشك” من كونه ناظراً إلى نفس اليقين بلحاظ ما يترتب عليه من الأعمال، لا إلى المتيقن بنحو جعل المماثل.

وأجاب عن الايراد الثاني بأن ما هو المعلوم هو الملازمة بين الحرمة والغليان حال الزبيبية ونشك في بقاء هذه الملازمة بينهما الى زمان الزبيبية([14]).

اقول: أما جوابه عن الايراد الثاني فهو تام، فلا يتم ما في المستمسك من أن الملازمة مقطوعة البقاء، في كل مركب وجد أحد جزئيه، لا أنها مشكوكة‌ كي يجري فيها الاستصحاب([15]).

وأما جوابه عن الايراد الاول فيرد عليه أن محذور استصحاب الملازمة هو أن اثبات الحكم الشرعي الفعلي باستصحابها يكون من الاصل المثبت، ولم يجب المحقق العراقي عن هذا الاشكال، الا بناء على مسلك جعل الحكم المماثل في الاستصحاب، -كما هو مختار صاحب الكفاية- فقال: ان جعل الملازمة الظاهرية حيث لا يمكن أن يكون بالاستقلال، بل لابد أن يكون بتبع جعل منشأ انتزاعها، فيكون جعل الملازمة الظاهرية بتبع جعل الحرمة الظاهرية عند غليان الزبيب، فهذا من لوازم نفس الاستصحاب، لا المستصحب، حتى يندرج في الاصل المثبت([16]).

وهذا -مضافا الى عدم كفايته عنده، لأنه يرى أن مفاد الاستصحاب مجرد النهي عن النقض العملي لليقين، دون جعل الحكم المماثل للمتيقن، وهذا هو الصحيح- يرد عليه أنه بعد عدم ترتب الأثر على نفس الملازمة فلا ينطبق عليه عنوان نقض اليقين بالشك حتى نستكشف من ذلك ما هو لازم الاستصحاب وهو جعل الحرمة عقيب الغليان، نعم لو فرض ورود دليل خاصّ على جريان استصحاب الملازمة، كان يدل بدلالة الاقتضاء على ذلك.

على ان جعل الحرمة الظاهرية عقيب غليان الزبيب منشأ لانتزاع الملازمة الواقعية بين الغليان والحرمة الظاهرية واين هذا من الملازمة الظاهرية المماثلة للملازمة الواقعية، فالملازمة الظاهرية ليس الا تعبدا ببقاء الملازمة الواقعية، وهو قابل للجعل الاستقلالي لولا اشكال المثبتية.

وقد حكي عن السيد اليزدي “ره” أنه خص استصحاب بقاء الملازمة بما اذا كان الخطاب “العنب اذا غلى حرم” دون “العنب المغلي حرام” بدعوى أنّ لسان القضية الشرطية يعني جعل الملازمة، لأنّ القضية الشرطية مفادها الملازمة بين الشرط و الجزاء، فتصبح الملازمة شرعية و تستصحب، و لو اخذ بلسان القضية الحملية فهذا جعل للمحمول على الموضوع، و الملازمة لا تكون إلّا عقلية انتزاعية، ويكون اثبات الحكم الشرعي باستصحابها من الاصل المثبت.

و فيه أنه لا يعقل جعل الملازمة شرعا، وينحصر الحال في جعل الشارع احد طرفي الملازمة وهو الحكم الشرعي على تقدير وجود الطرف الآخر، ومنه ينتزع عنوان الملازمة بلا فرق بين الفرضين.

وأما اجراء الاستصحاب في سببية الغليان للحرمة، فقد حكي عن الشيخ الاعظم “قده”، وقد اورد عليه السيد الخوئي “قده” اولا: بأن السببية من الأحكام الوضعيّة، و هي منتزعة على مبنى الشيخ الاعظم “ره” من الأحكام التكليفية، فلا معنى للالتزام بعدم جريان الاستصحاب في منشأ الانتزاع و هو التكليف، و جريان الاستصحاب في الأمر الانتزاعي و هو السببية، مع أن الأمر الانتزاعي تابع لمنشإ الانتزاع.

بل الامر كذلك على مسلكنا، فانا و إن قلنا بأن بعض الأحكام الوضعيّة مجعول بالاستقلال على ما تقدم تفصيله، إلا أنه قد ذكرنا أن السببية و الشرطية و الملازمة من الأمور الانتزاعية قطعاً، و تنتزع السببية و الشرطية عن تقييد الحكم بشي‏ء في مقام الجعل([17]).

وفيه أن منشا انتزاع السببية او الملازمة ليس هو المجعول التنجيزي او التعليقي، حتى يقال بأنه لا معنى للالتزام بعدم جريان الاستصحاب في منشأ الانتزاع، و جريانه في الأمر الانتزاعي، بل منشأ انتزاعهما هو الجعل، فبمجرد جعل الشارع لحرمة العنب اذا غلا ينتزع منه سببية غليان العنب للحرمة او الملازمة بينهما، ولو لم يكن هناك عنب او غليان.

واورد عليه ثانيا: بأنه لا يمكن جريان الاستصحاب في السببية، و لو قيل بأنها من المجعولات المستقلة، لأن الشك في بقاء السببية إن كان في بقاءها في مرحلة الجعل لاحتمال النسخ، فلا إشكال في جريان استصحاب عدم النسخ فيه، و لكنه خارج عن محل الكلام، و إن كان في بقاءها بالنسبة إلى مرتبة الفعلية، فلم تتحقق السببية الفعلية بعد حتى نشك في بقائها، لأن السببية الفعلية إنما هي بعد تمامية الموضوع بأجزاءه، و المفروض في المقام عدم تحقق بعض اجزائه و هو الغليان([18]).

وفيه أن فعلية السبية اي كون الغليان سببا للحرمة ليست متوقفة على وجود السبب خارجا، وانما تتوقف على ثبوت قضية شرطية مفادها أن اذا وجد غليان العنب فتوجد الحرمة، كما أن علية النار للحرارة لا تتوقف على وجود النار، وعليه فيشار الى الزبيب فيقال: ان الغليان كان سببا لحرمة هذا في حال عنبيته ونشك في بقاء سببيته فعلا للحرمة، فنستصحبها.

فينحصر الايراد عليه بأن يقال: ان السببية بعد ما لم تكن مجعولة شرعا وانما هي منتزعة عن جعل الحرمة على تقدير الغليان، فتكون قضية انتزاعية عقلية، ويكون اثبات الحرمة الفعلية بعد الغليان به من الاصل المثبت.

وقد يقال بأنه يوجد ملازمة ظاهرية بين استصحاب السببية والاثبات الظاهري للمسبب، حيث يأبى العرف عن قبول التفكيك بينهما، كما أن العرف يأبى عن التفكيك بين الحكم الظاهري بمطهرية الماء والحكم الظاهري بطهارة الثوب المتنجس المغسول به، وهكذا لو استصحب جواز بيع شيء وضعا فانه يلزمه عرفا التعبد الظاهري بملكية المشتري للمبيع والبايع للثمن، فهكذا الحال لو قال المولى غليان العنب سبب لحرمته وشك في بقاء هذه السببية بعد ما طرأت حالة الزبيبية له، فاستصحبنا ذلك.

وفيه أنه بعد عدم ترتب الأثر على استصحاب نفس السببية فلا ينطبق عليه عنوان نقض اليقين بالشك، حتى نستكشف من ذلك ما هو لازم هذا الاستصحاب وهو جعل الحرمة عقيب الغليان، خصوصا بعد أن كانت السببية غير مجعولة شرعا، بل كانت مجرد انتزاع عقلي من مثل قوله “العنب المغلي حرام”، وقد مر أن التعبير عنها بكونها مجعولة بالتبع تعبير مسامحي، فالتعبد بثبوتها ظاهرا في الزبيب بمقتضى استصحابها لا يستلزم عرفا التعبد الظاهري بتحقق حرمة الزبيب المغلي.

 



[1] – فوائد الاصول ج4ص467

[2] – مستمسك العروة ج1ص 416

[3] – مستمسك العروة ج‌1 ص 415

[4] – نهاية الافكار ج4ق1ص 168

[5] – نهاية الأفكار ج‏4ق 1ص162

[6] – مقالات الأصول ج‏2 ص398

[7] – نهاية الدراية ج 5ص 173

[8] – درر الفوائد ص347

[9] – بحوث في علم الاصول ج6ص 287

[10] – ولعل قولنا “اذا غلى العنب حرم” ايضا من هذا القبيل بنظره.

[11] – بحوث في علم الاصول ج6ص 290 التعليقة، أضواء وآراء ج3ص 308

[12] – بحوث في علم الاصول ج6ص 289

[13] – اضواء و آراء ج‏3 ص 308

[14] – نهاية الافكار ج4ق1 ص168

[15] – مستمسك العروة ج1ص 416

[16] – مقالات الاصول ج 2ص399

[17] – مصباح الأصول ج‏3 ص 138

[18] – مصباح الأصول ج‏3 ص 138