استصحاب القسم الرابع من الكلي.. 1
قول السيد الخوئي “قده”: جريان هذا القسم. 2
تفصیل المحقق الهمداني “قده” في جريان استصحاب القسم الرابع. 7
مثال شك المكلف في يوم عيد الفطر. 9
التنبيه الخامس: في جريان الاستصحاب في الامور التدريجية. 10
المقام الأول: الاستصحاب في نفس الزمان. 10
استصحاب الوقت بنحو مفاد كان التامة. 11
ایراد بعض الاعلام “قده” على استصحاب الزمان. 11
استصحاب بقاء الزمان بنحو مفاد كان الناقصة. 15
بیان المختار: عدم جريان استصحاب الزمان بنحو مفاد كان الناقصة و جریانه بنحو مفاد كان التامة. 15
ألمفروض في استصحاب الزمان هو الشبهة المصداقية و لا یجری في الشبهات المفهومية. 35
موضوع: قسم چهرم /استصحاب /اصول
خلاصه مباحث گذشته:
متن خلاصه …
استصحاب القسم الرابع من الكلي
ذكر جمع من الاعلام قسما رابعا لاستصحاب الكلي وهو ما لو علم بوجود فرد من الكلي وارتفاعه، وعلم ايضا بوجود فرد من الكلي ويوجد لهذا الفرد عنوان لا يعلم بانطباقه على ذلك الفرد المعلوم الارتفاع،كما إذا وجد الشخص في ثوبه منيّا علم أنّه منه، لكن تردّد أنّه من جنابته السابقة التي اغتسل منها أو أنّه من جنابة حادثة بعد ارتفاع الجنابة الأولى، فيقال بأن استصحاب بقاء الجنابة الحادثة بخروج هذا المني يتعارض مع استصحاب بقاء الطهارة الحاصلة حين غسل الجنابة، ويكون مقتضى قاعدة الاشتغال لزوم الاحتياط بغسل الجنابة منضما الى الوضوء ان كان على تقدير عدم الجنابة واقعا محدثا بالاصغر، نعم تجري البراءة عن محرمات الجنب.
وكذا اذا علم بوجود زيد في الدار يوم الخميس وخروجه منها وعلم بوجود انسان شاعر فيها يوم الخميس ولايدري هل هو زيد او انه شخص آخر يحتمل بقاءه فيها يوم الجمعة على فرض كونه في الدار يوم الخميس، فيقال باستصحاب بقاء هذا الانسان في الدار لترتيب أثر وجود الانسان في الدار او اثر وجود الانسان الشاعر في الدار.
قول السيد الخوئي “قده”: جريان هذا القسم
وهذا ما اختاره السيد الخوئي “قده”، ومال المحقق الايرواني “قده” الى جريان هذا القسم من استصحاب الكلي، الا أنه ذكر بعد ذلك، إلّا أن يقال: إنّ المتيقّن وهو الجنابة الحاصلة عند خروج هذا المني محتمل الانتقاض باليقين بالطهارة حين غسل الجنابة، أو يقال: إنّ اتّصال زمان المشكوك بالمتيقّن غير محرز، للقطع بحصول الطهارة بعد الجنابة الأولى، فلعلّ الجنابة الحاصلة بهذا المنيّ هي تلك الجنابة الأولى التي تخلّل بينها و بين زمان الشكّ اليقين بالطهارة، و الحال أنّ الاتّصال بين الزمانين معتبر في صدق النقض و البقاء([1]).
ایراد البحوث علیه
وقد اورد عليه في البحوث بأننا لو لاحظنا كلي الجنابة بلا إضافتها إلى العنوان الانتزاعي، و هو الجنابة الحاصلة حين خروج ذاك المني، فالعلم بكلي الجنابة يكون من القسم الثالث من الكلي، حيث يعلم بتحققها ضمن فرد تفصيلاً ويعلم بارتفاع هذا الفرد، و يشك في بقاءها ضمن فرد آخر مشكوك الحدوث، و إذا لاحظنا الكلي المعنون بذاك العنوان الانتزاعي، كان من القسم الثاني من الكلي، لأنَّ هذا من العلم الإجمالي بعنوان انتزاعي يمكن أَن ينطبق على الفرد المعلوم تفصيلًا، و فرقه عمّا تقدم في القسم الثاني انه هناك لم يكن يعلم بتحقق أحد الفردين، أمّا هنا فيعلم بتحقق أحد الفردين تفصيلاً، و حيث انَّ العنوان المعلوم بالإجمال فيه خصوصية و لو انتزاعية فلا يكون منحلًا بالعلم التفصيليّ بأحد الفردين.
وحكم هذا الاستصحاب أنه ان كان هذا العنوان الاجمالي موضوعا للاثر الشرعي جرى استصحابه، كما لو قال المولى “اذا كان شاعر في الدار يوم الجمعة فتصدق” وان لم يكن موضوعا للاثر، كما في مثال الجنابة، فالصحيح عدم جريان استصحابه، و ذلك:
أولا: للنقض بموارد الشك البدوي، فانه يمكن تشكيل علم إجمالي انتزاعي كالعلم المذكور فيها كما إذا تيقن البول فتوضأ ثم شك في خروج البول منه ثانية، فانه يمكنه أَن يشكل علماً إجمالياً بعنوان انتزاعي هو عنوان الحدث عند آخر بول خرج منه، فانه لو كان آخر بول خرج منه البول الأول فالحدث الحاصل به مرتفع جزماً، و ان كان آخر بول خرج منه بعد الوضوء فالحدث باقٍ، فلابدَّ من القول بجريان استصحاب كلي الحدث في المقام، فيتعارض مع استصحاب الطهارة، و هذا ما لا يمكن الالتزام به بل هو خلاف مورد أدلة الاستصحاب كصحيحة زرارة.
و ثانياً: النقض أيضا بموارد الكلي من القسم الثالث، فانه يمكن تصوير جامع انتزاعي غير منحل فيه أيضاً كعنوان آخر الفرد الذي كان في الدار، فانَّ هذا العنوان الإجمالي مردد بين زيد المعلوم انتفاءه، او عمرو المعلوم او المحتمل بقاءه على تقدير حدوثه.
و ثالثاً: الحل، فانه لو أُريد إجراء الاستصحاب في العنوان الذي هو موضوع الأثر الشرعي و هو الجنابة مثلا، فقد عرفت انَّ هذا العنوان علم بتحققه ضمن فرد و زواله و يشك في بقائه ضمن فرد آخر لا يقين بأصل حدوثه، و ان أُريد إجراؤه في العنوان الإجمالي الانتزاعي كعنوان الجنابة الحادثة بذلك المني، فهذا العنوان ليس موضوعاً للأثر الشرعي ليكون هو مجرى الاستصحاب، واتخاذ هذا العنوان الاجمالي مشيراً إلى الواقع لجعله محط الاستصحاب أو بتعبير آخر التعبد ببقاء نفس العلم الإجمالي بلحاظ منجزيته فهو من قبيل استصحاب الفرد المردد، و من العلم الإجمالي غير المنجز للعلم تفصيلاً بارتفاع أحد طرفيه([2]).
مناقشه
اقول: أما النقض بمثل استصحاب الوضوء بمعارضته مع استصحاب آخر حدث، فيمكن أن يجاب عنه بأن العنوان الانتزاعي فيه مجرد انتزاع عقلي، لا يكون محققا ليقين وشك آخرين عرفا، غير اليقين السابق بالوضوء والشك في انتقاضه بالحدث، وهكذا مثال استصحاب القسم الثالث من الكلي، و أين هذا من مثال اليقين بالجنابة حين خروج المني الذي رآه في ثوبه، والشك في بقاءها لاحتمال كونها غير الجنابة المعلومة التي اغتسل منها قطعا، فان هذا اليقين والشك عرفيان.
وأما ما ذكره من أنه لابد من تمامية اركان الاستصحاب في العنوان الموضوع للاثر الشرعي، وعنوان الجنابة الحادثة حين خروج هذا المني ليس موضوعا للاثر الشرعي، والعنوان الموضوع للأثر الشرعي وهو عنوان الجنابة لم يتم فيه اركان الاستصحاب، ففيه ما مرّ في بحث استصحاب الفرد المردد من كفاية كون العنوان الاجمالي موجبا لتمامية اركان الاستصحاب من اليقين بالحدوث، والشك في البقاء في الواقع المرئي من خلال هذا العنوان الاجمالي، وان لم يكن هذا العنوان موضوعا للاثر الشرعي، ولا يضر عدم تمامية اركان الاستصحاب في الواقع المرئي من خلال عنوانه التفصيلي، وأما اشكال الجامع بين ما يقبل التنجيز ما لا يقبله فلا يأتي في مثله مما يكون الاستصحاب منقحا لموضوع حكم معين، وعليه فلا مانع من جريان استصحاب القسم الرابع من الكلي.
وقد يقال بأن جعل مثال استصحاب الجنابة المتيقنة حين خروج المني الذي وجده في ثوبه من قبيل استصحاب القسم الرابع من الكلي، غير تام، بل هو من قبيل استصحاب الفرد، ولذا لا يرى وجه لمنع البحوث من جريانه ومعارضته مع استصحاب بقاء الطهارة، لأنه ذكر بنفسه أن التردد في زمان حدوث الفرد المتيقن بين الزمان الذي يقطع بارتفاعه فعلا على تقدير حدوثه في ذلك الزمان وبين الزمان الذي يقطع ببقاءه فعلا على تقدير حدوثه فيه لا يخرجه عن استصحاب الفرد الى استصحاب الكلي الجامع بين فردين، فهو نظير التردد في مكان الحادث بين ما لو كان فيه فقد انعدم يقينا وبين ما لو كان فيه كان باقيا يقينا، فهو نظير مثال آخر وهو ما لو اجنب مرتين وعلم بأنه اغتسل من الجنابة إما قبل الجنابة الثانية او بعدها، غايته أن المقام من قبيل توارد الحالتين مع العلم بتاريخ احدهما والجهل بتاريخ الآخر، وقد التزم في البحوث بتعارض الاستصحاب فيهما.
ولكن الانصاف أن مثال رؤية المني في الثوب يختلف عن هذا المثال، فان الجنابة الحادثة حين خروج هذا المني لعلها منطبقة على نفس الجنابة الحادثة سابقا والتي اغتسل منها، بينما أن الجنابة الثانية المردد زمانها بين الساعة التاسعة او العاشرة غير الجنابة المعلومة بالتفصيل في الساعة الثامنة، وان كان يحتمل كونها بقاءً لها.
نعم حكي عن بعض السادة الاعلام “دام ظله” أن استصحاب الجنابة الحادثة حين خروج هذا المني من القسم الاول من الكلي الذي كان وجود الكلي في ضمن فرد معين معلوم الحدوث ومشكوك البقاء، وانما قال بكونه استصحاب الكلي، لان الاثر مترتب على كلي الجنابة، وانما قال بكونه من القسم الاول الذي يكون وجود الكلي في فرد معين معلوما لأنه يرى أن التردد في زمان الحدوث لا يجعل الحادث مرددا بين فردين، فيختلف ذلك عما لو علم بأنه اجنب مرتين وعلم بأنه اغتسل من الجنابة إما قبل الجنابة الثانية او بعدها، فان استصحاب الجنابة الثانية يكون من قبيل القسم الثاني من الكلي، لأن سبب الجنابة الثانية على تقدير كونها قبل الغسل هو نفس سبب الجنابة الاولى لعدم تأثير السبب الثاني للجنابة حينئذ، وعلى تقدير كونها بعد الغسل فسببها هو السبب الثاني، واختلاف السبب يوجب اختلاف الفرد.
وفيه أن ترتب الاثر على الكلي بنحو المطلق الشمولي يعني ترتب الاثر على الافراد، وتسمية استصحابه بالكلي غير متجهة، كما أن ما ذكره من كون اختلاف السبب موجبا لتعدد المسبب غير متجه، فانه لو علم بوجود حرارة الدار لأجل الشمس واحتمل بقاء الحرارة لأجل النار فلا يكون من استصحاب القسم الثالث من الكلي.
تفصیل المحقق الهمداني “قده” في جريان استصحاب القسم الرابع
ثم ان السيد الخوئي “قده” نسب الى المحقق الهمداني “قده” أنه فصَّل في جريان استصحاب القسم الرابع بين ما إذا علم بوجود فردين و شك في تعاقبهما و عدمه، و بين ما إذا لم يعلم به، بل علم بوجود عنوانين يحتمل انطباقهما على فردين و على فرد واحد، فالتزم في الأول بجريان الاستصحاب دون الثاني([3]).
مناقشه
وفيه أنه لم يظهر من المحقق الهمداني تفصيل في جريان استصحاب القسم الرابع، بل الظاهر عدم قبوله لهذا الاستصحاب مطلقا، وانما ادعى وجود الفرق بين مثال ما لو اجنب واغتسل ثم رأى منيا في ثوبه لايدري أنه من جنابة جديدة او نفس الجنابة السابقة، وبين ما مثال ما لو اجنب مرتين وعلم بأنه اغتسل من الجنابة إما قبل الجنابة الثانية او بعدها فذكر في الاول أن سقوط الجنابة الاولى معلوم، و ثبوت جنابة أخرى غيرها غير معلوم، وأما في المثال الثاني فثبوت التكليف بالاغتسال عند عروض الجنابة الثانية معلوم، و سقوطه غير معلوم، لاحتمال وقوع الغسل قبله، ودعوى أنه في المثال الاول ايضا يكون وجوب الاغتسال عند خروج هذا المنيّ المشاهد معلوما، و سقوط هذا الواجب بالغسل الصادر منه غير معلوم، فهذا الفرض أيضا كالفرض الثاني في كونه شكّا في سقوط ما وجب، مندفعة بأن مغايرة زمان هذا المنيّ للزمان الأوّل غير معلومة، و سقوط التكليف الثابت فيه معلوم، و لا يعلم بثبوت تكليف آخر في زمان آخر، فاستصحاب عدم حدوث جنابة أخرى حاكم على استصحاب التكليف و قاعدة الاشتغال، لأنّ الشكّ في بقاء التكليف مسبّب عن احتماله، و أمّا على تقدير العلم بتعدّد السبب فجنابته عند السبب الثاني معلومة، و ارتفاعها غير معلوم، فليستصحب، و ليس في هذا الفرض أصل حاكم على استصحاب الحدث([4]).
فقبوله لجريان استصحاب بقاء الجنابة الموجودة حين وقوع السبب الثاني للجنابة في حد ذاته في مثال العلم بالجنابة مرتين، ومعارضته مع استصحاب بقاء الطهارة لا يبتني على القول بجريانه في القسم الرابع من الكلي، فانه من قبيل توارد الحالتين.
نعم ذكر السيد الخوئي “قده” هناك أن استصحاب معلوم التاريخ وان كان استصحابا في الفرد، لكن استصحاب مجهول التاريخ ان كان مماثلا للحالة الاسبق المعلوم قبل توارد الحالتين يكون من استصحاب القسم الرابع من الكلي، وان كان ضد الحالة الاسبق يكون من استصحاب القسم الثاني من الكلي([5]).
ففي مثال العلم بالجنابة مرتين والتردد في أنه هل اغتسل بين الجنابتين او بعدهما ان كان تاريخ الجنابة الثانية معلوما فيكون استصحاب من قبيل استصحاب الفرد وان كان تاريخها مجهولا فيكون بنظره من قبيل استصحاب القسم الرابع من الكلي.
ولكنه غير صحيح، فان الجنابة عند الانزال الثاني ليس محتمل الانطباق بالدقة على الجنابة عند الانزال الاول، غايته أنها لو كانت قبل الغسل كانت بقاءً لتلك الجنابة، فليس هو من قبيل القسم الرابع، وقد اختار في البحوث كونه من قبيل استصحاب الفرد، حيث ان تردد زمان حدوث الحادث بين زمانين لا يجعله من الكلي المردد بين فردين، بل هو مثل دوران ولادة زيد بين زمانين يقطع بموته على تقدير ولادته في الزمان الاول، فانه لا يخرجه من استصحاب الفرد.
ولكن الصحيح أنه من قبيل استصحاب القسم الثاني، حيث يكون مرددا بين كونه بقاء الفرد السابق وبين كونه فردا جديدا.
مثال شك المكلف في يوم عيد الفطر
ونظير هذه المسـألة ما ذكره السيد الخوئي “قده” في مثل ما لو شك المكلف في يوم عيد الفطر، من أنه وان كان يمكن لحاظ العلم الاجمالي بوجود يوم العيد إما في يوم السبت المحكوم ظاهرا بكونه اليوم الثلاثين من شهر رمضان مثلا او في اول يوم الأحد فيستصحب بقاء يوم العيد الى غروب يوم الأحد، و بذلك يترتب أحكام يوم العيد عليه، لكنه يتعارض مع استصحاب عدم يوم العيد في احد هذين اليومين، وهو من استصحاب القسم الرابع من الكلي، لأن انطباقه على ذلك العدم المتيقن مشكوك([6]).
وهذا عدول منه عما كان يجيب عن اشكال المعارضة سابقا من أن استصحاب عدم يوم العيد من قبيل القسم الثالث من الكلي، حيث ان هناك فردا متيقنا من عدم العيد و هو ما قبل دخول شهر شوال، و قد علم بارتفاعه، و يشك في حدوث فرد جديد.
و ما ذكره يعني أن من ينكر جريان استصحاب القسم الرابع من الكلي يجري استصحاب بقاء يوم العيد بلا معارض، ولكن قد اتضح مما مر في مثال العلم بالجنابة مرتين أن مثل هذا الاستصحاب في عدم يوم العيد ليس من قبيل استصحاب القسم الرابع من الكلي، فان عدمه المعلوم إما يوم الشك او اليوم الذي بعده ليس محتمل الانطباق بالدقة على العدم المعلوم بالتفصيل قبل هذين اليومين، بل غايته أنه لو كان يوم الشك كان بقاءً لذلك العدم، فليس هو من قبيل القسم الرابع.
وقد ذكر في البحوث أن مجرد تردد زمان وجود الفرد بين زمانين لا يجعل استصحابه من قبيل استصحاب الكلي اصلا، فان الكلي يعني تردد الحادث بين فردين، فيكون احدهما مثلا مقطوع الارتفاع على تقدير كونه هو الحادث، و الثاني محتمل البقاء او معلوم البقاء على تقدير كونه هو الحادث، بينما أنه في المقام يكون زمان الفرد مرددا بين زمانين.
ولكن الظاهر ان هذا الاستصحاب لعدم يوم العيد من قبيل استصحاب القسم الثاني، حيث يكون مرددا بين كونه بقاء الفرد السابق من العدم وبين كونه فردا جديدا.
التنبيه الخامس: في جريان الاستصحاب في الامور التدريجية
وقع الكلام في جريان الاستصحاب في الامور التدريجية كالزمان والحركة والتكلم والمشي ونحو ذلك ومنشأ البحث عنه دفع اشكال قد يورد على الاستصحاب في غير الامور القارة، فيقال بأن الامور التدريجية كالتكلم مما لا يكون الشك فيها في بقاء ما كان، و انما الشك في حدوث الجزء اللاحق بعد العلم بارتفاع الجزء السابق، و يقع الكلام هنا في مقامين:
المقام الأول: في الزمان.
المقام الثاني: في غيره من التدريجيات كالحركة.
المقام الأول: الاستصحاب في نفس الزمان
أما المقام الأول: وهو الاستصحاب في نفس الزمان، كاستصحاب بقاء النهار والليل والشهر ونحوه، فيقع الكلام فيه تارة في جريان هذا الاستصحاب وعدمه، وأخرى في أنه لو كان الواجب متقيدا بوقت خاص كوقوع رمي جمرة العقبة في نهار يوم العيد، فهل يمكن اثبات وقوعه في ذلك الوقت باستصحاب بقاء الوقت ام أنه اصل مثبت؟.
استصحاب الوقت بنحو مفاد كان التامة
أما جريان الاستصحاب في الزمان فتارة يراد استصحاب الوقت بنحو مفاد كان التامة فنقول “كان النهار موجودا” ولو لأجل اثبات التكليف المترتب على وجود النهار، وأخرى يراد استصحابه بنحو مفاد كان الناقصة، فنقول “الزمان كان نهارا”.
ایراد بعض الاعلام “قده” على استصحاب الزمان
وقد اورد بعض الاعلام “قده” على استصحاب الزمان بأن وحدة المتيقن والمشكوك تتقوم بالغاء حيث الحدوث والبقاء عن المستصحب وجعل الزمان السابق واللاحق ظرفا للشيء، وهذا لا يمكن في المقام، لأن الزمان لا يكون ظرفا للزمان، فلا يصح أن نقول: كنّا على يقين بوجود النهار في الزمان السابق، ونشك في بقاءه في الزمان اللاحق، فلابد من ملاحظة نفس وجود الزمان، الا أن المتيقن يكون حينئذ الوجود السابق للنهار ويكون المشكوك الوجود اللاحق للنهار فتختلّ وحدة المتيقن والمشكوك.
و الحاصل أن متعلق الشك بعد اليقين ان كان هو بقاء النهار بمعنى وجوده في الآن اللاحق، فهذا ما عرفت أنه غير متصور بالنسبة إلى الزمان، و ان كان هو الوجود اللاحق للنهار، بحيث يؤخذ وصف اللحوق قيدا لمتعلق الشك، فليس الوجود اللاحق مسبوقا بالحالة السابقة بل هو مشكوك الحدوث، و اما ذات وجود النهار فهذا مما لا شك فيه.
و ببيان آخر نقول: ان متعلق الشك ليس بقاء النهار و الآن الواقع بين الحدين، بل متعلق الشك هو كون هذا الآن نهارا أو ليس بنهار، و ذلك لأنه بعد فرض وحدة النهار بجميع آناته و ملاحظته موجودا واحدا فيستحيل تعلق اليقين و الشك فيه، الا بتغاير الزمانين، و المفروض انه غير متصور في الزمان، فالشك الموجود فعلا ليس إلا في كون هذا الآن نهارا أو لا، و ان أطلق الشك في بقاء النهار لكنه مسامحي بعد ملاحظة ان النهار اسم لمجموع الآنات الخاصة و ليس له وجود غيرها، و المشكوك هو نهارية الآن الذي نحن فيه و عدمه، و هذا مما لا حالة سابقة له([7]).
مناقشه
وما ذكره لا يخلو من غرابة، فانه يكفي في جريان استصحاب النهار مثلا أن نقول ولو بالنظر العرفي “كان النهار موجودا ونشك في بقاءه فعلا” او فقل “كنا على يقين من وجود النهار فشككنا فعلا في وجوده” فانه في عامة موارد الاستصحاب لا يلحظ الحدوث والبقاء في متعلق اليقين والشك بل يضاف اليقين والشك الى ذات الشيء، ولا يوجب ذلك تهافتا، بل يقال: كان على يقين منه فشك، نعم يلزم في صدق نقض اليقين بالشك في مورد الشك اللاحق في وجود النهار، كون النهار امرا واحدا مستمرا حتى يتعبد باستمرار وجوده، ولا اشكال في ذلك عرفا، ولذا يقال “يطول النهار في الصيف”، على أن هذا الاشكال لا يأتي في ما لو كان عدم وقتٍ كعدم غروب الشمس موضوعا للحكم.
کلام صاحب الكفاية
هذا وقد ذكر صاحب الكفاية أنه لا يعتبر في الاستصحاب غير صدق النقض و الابقاء، وهذا صادق في الزمان، هذا مع أن الانصرام و التدرج في الوجود في الحركة في الأين و غيره إنما هو في الحركة القطعية، و هي كون الشيء في كل آن في حد أو مكان، لا التوسطية و هي كونه بين المبدإ و المنتهى، فإنه بهذا المعنى يكون قارا مستمرا، فانقدح بذلك أنه لا مجال للإشكال في استصحاب مثل الليل أو النهار، و ترتيب ما لهما من الآثار، و كذا كلما إذا كان الشك في الأمر التدريجي من جهة الشك في انتهاء حركته و وصوله إلى المنتهى أو أنه بعد في البين([8]).
وقد يفهم من كلامه -كما في البحوث وغيره- أنَّ لحاظ الحركة القطعية في النهار بمعنى لحاظ وصوله الى الليل، وانطباق ذلك على كل آن من آنات النهار يكون من باب انطباق الكل على اجزاءه، فلا يتحقق الكل الا بالوصول الى الليل، ولحاظ الحركة التوسطية فيه بمعنى لحاظ آنات النهار كأفراد كلي النهار، فيصدق على كل آن من الهار أنه نهار، فاورد عليه بأن العرف ان كان يرى النهار موجودا واحدا مستمرا فلحاظ حركته القطعية ايضا لا يمنع من الاستصحاب، اذ بمجرد تحقق اول جزء من النهار يحدث النهار ويبقى ببقاء آخر جزء منه وان لم يصدق على كل جزء أنه نهار، كالصلاة التي توجد بتكبيرة الاحرام وان لم يصدق عليها أنها صلاة، وان كان العرف لا يرى النهار موجودا واحدا مستمرا فلايفيد لحاظ حركته التوسطية، حيث يكون استصحاب النهار من القسم الثالث من الكلي للعلم بارتفاع الفرد السابق ويشك في الفرد الجديد([9]).
اقول: يحتمل قويا كون مقصود صاحب الكفاية أننا تارة نلحظ حيث الحركة، فنرى أن السيارة في حال الحركة من مكانٍ الى مكان، فهذا يسمى بالحركة القطعية، وأخرى لا نلحظ حركتها وانما نلحظ كونها ما بين المكانين، حتى لو كانت واقفة، فهذه حركة توسطية، حيث لاحظنا كون الشيء بين المبدأ والمنتهى، فاذا شككنا في استمرار كونها بين المكانين فيمكن أن نستصحب ذلك.
ففي الزمان ايضا كالنهار تارة: نلحظ حركة الارض من طلوع الشمس الى غروبها، وأخرى: نلحظ كون الارض بين طلوع الشمس وقبل غروبها، فبهذه النظرة الثانية يكون النهار كالامور القارة، فنستصحب بقاءه، نظير ان نستصحب بقاء زيد في الدار من دون أن نلحظ حركته داخل الدار.
توضيح ما افاده: أننا تارة نلحظ حيث الحركة، فنرى أن السيارة في حال الحركة من مكانٍ الى مكان، فهذا يسمى بالحركة القطعية، وأخرى لا نلحظ حركتها وانما نلحظ كونها ما بين المكانين، حتى لو كانت واقفة، فهذه حركة توسطية، حيث لاحظنا كون الشيء بين المبدأ والمنتهى، فاذا شككنا في استمرار كونها بين المكانين فيمكن أن نستصحب ذلك، ففي الزمان ايضا كالنهار تارة: نلحظ حركة الارض من طلوع الشمس الى غروبها، وأخرى: نلحظ كون الارض بين طلوع الشمس وقبل غروبها، فبهذه النظرة الثانية يكون النهار كالامور القارة، فنستصحب بقاءه،.
وهذا كلام متين، وهذا الجواب من صاحب الكفاية جواب ثانٍ عن الاشكال غير جوابه الاول الذي قال فيه بأن لحاظ الحركة القطعية ايضا لا يمنع عرفا من صدق البقاء كقولنا “لا يزال تتحرك السيارة” فاذا شككنا في استمرار حركتها فنستصحب ذلك.
فان النهار مع لحاظ حركته القطعية حركة من طلوع الشمس الى غروبها، وصدق بقاء الحركة عرفا مما لا اشكال فيه، فانها موجود بسيط واحد مستمر عرفا، بل الامر كذلك عقلا عند مشهور الفلاسفة، اذ لو لم تكن الحركة وجودا واحدا مستمرا عقلا، فلابد أن تكون مركبة من اجزاء متكثرة، وحيئذ ننقل الكلام الى الجزء، ونسأل أنه هل هو حركة ام لا؟، فان لم يكن حركة كان معناه تركب الحركة من عدة سكوناتٍ، وهذا غير معقول، اذ كيف توجد الحركة من اجتماع عدة سكونات، وان كان حركة فنسأل أنها بسيطة ام مركبة، فان قيل بالاول كان خلف دعوى كون الحركة مركبة، وان قيل بالثاني لزم التسلسل.
استصحاب بقاء الزمان بنحو مفاد كان الناقصة
وعليه فلا اشكال في استصحاب بقاء الزمان بنحو مفاد كان التامة، وأما جريانه بنحو مفاد كان الناقصة بأن نقول “كان الزمان نهارا والآن كما كان” فكثير من الاعلام منعوا من جريانه، بدعوى أن المراد من الزمان ان كان هو الآن الفعلي فلم يعلم كونه نهارا سابقا، وان كان المشار اليه الآن السابق، فكونه نهارا وان كان معلوما، لكن لا علاقة له بكون الآن الفعلي نهارا، لاختلاف الموضوع.
ولعل اول من ذهب الى جريان هذا الاستصحاب بنحو مفاد كان الناقصة هو المحقق العراقي “قده” ووافقه في البحوث، وحاصل كلامهما أنه يمكن لحاظ زمان موسع يبتدأ من طلوع الفجر ويستمر الى الحال، فيقال: الزمان كان نهارا، فالمشار اليه ليس هو خصوص الآن السابق او الآن الفعلي.
وفيه أن لحاظ الزمان الموسع ان كان يعني لحاظ النهار فيرجع الى قولنا “النهار كان نهارا” ولا فائدة فيه ابدا، و أما لحاظ الزمان الموسع من دون لحاظ النهار ثم حمل النهار عليه فليس عرفيا، فان النهار لا يعرض على الزمان عرفا، وانما هو جزء منه، كما لا يصح أن يقال: هذا الاسبوع كان يوم السبت.
بیان المختار: عدم جريان استصحاب الزمان بنحو مفاد كان الناقصة و جریانه بنحو مفاد كان التامة.
فالظاهر عدم جريان استصحاب الزمان بنحو مفاد كان الناقصة، ولكن لا مانع من جريان استصحاب الزمان بنحو مفاد كان التامة.
اشکال اصل المثبت
يبقى اشكال أن استصحاب الزمان لا يثبت تحقق الفعل المشروط بالزمان، ما لم يكن لنفس وقوع الفعل في ذلك الزمان حالة سابقة فيستصحب كما لو كان ابتداء صلاته في النهار، والا فاستصحاب بقاء النهار لا يثبت كون صلاته في النهار، الا بنحو الاصل المثبت.
وقد اجيب عنه بعدة اجوبة:
الجواب الاول:
ما حكي عن الشيخ الاعظم “قده” من أنه عدل عن جريان الاستصحاب في الزمان لاثبات كون الفعل الواقع في الزمان المشكوك فعلا في ذلك الزمان، إلى جريانه في الحكم، بأن يستصحب بقاء وجوب الرمي في النهار.
وفيه ما حكي عن المحقق النائيني “قده” في دورته الاصولية السابقة من أنه اشكل عليه بأنه لا يثبت وقوع الفعل في الزمان الخاصّ، و الا جرى استصحاب الزمان لاثباته، بمقتضي كونه اصلا موضوعيا مثبتا للحكم([10]).
وما ذكره متين جدا، فان استصحاب بقاء وجوب الرمي في النهار لا يثبت كون الرمي الصادر في هذا الزمان المشكوك رميا في النهار الامتثال الا بنحو الاصل المثبت.
هذا ولكن المحقق النائيني “ره” في دورته الاصولية اللاحقة أجاب عن إشكاله، فقال بأن استصحاب الحكم يكفي في إحراز وقوع الفعل في الزمان الخاصّ، ومثَّل له باستصحاب وجوب الصوم، وقال: انه يترتب عليه كون الإمساك في النهار، بخلاف استصحاب نفس الزمان، لأن استصحاب الزمان لا يترتب عليه إلا أثره الشرعي و هو أصل وجوب الصوم، و اما كون الصوم في النهار فهو أثر عقلي لبقاءه، وأما استصحاب الوجوب فمرجعه إلى التعبد بالحكم بجميع خصوصياته التي كان عليها، و المفروض ان الحكم كان متعلقا بما لو أتى به كان واقعا في النهار، فيستصحب ذلك على نحو ما كان([11]).
وهذا غريب، فان استصحاب الوجوب لا يقتضي التعبد بخصوصياته التکوینیة، ومنها كون الفعل واقعا في الزمان الخاصّ.
الجواب الثاني:
ما ذكره المحقق العراقي “قده” من التمسك بالاستصحاب التعليقي فيقال لو وقع الرمي سابقا كان رميا في النهار والآن كما كان([12]).
وهذا غريب، فان الاستصحاب التعليقي الذي وقع النزاع في جريانه هو الاستصحاب التعليقي في الاحكام دون الموضوعات، فهل ترى أنه يمكن استصحاب أنه لو رمي السهم الى هذه الجهة لقتل زيدا، والآن كما كان، فيثبت به قتل زيد برمي السهم الى هذه الجهة.
الجواب الثالث:
ما ذكره السيد الخوئي “قده” من أن الموضوع المركب على قسمين: فتارة يكون الموضوع مركباً من المعروض و عرضه، كالماء الكر، فانه موضوع للاعتصام و عدم الانفعال، فلابد في ترتب الحكم على هذا الموضوع من إثبات العارض و المعروض بنحو مفاد كان الناقصة، إما بالوجدان أو بالتعبد، فإذا شككنا في بقاء كرية الماء لايجدي جريان الاستصحاب في مفاد كان التامة، بأن يقال: الكرية كانت موجودة، و الآن كما كانت، فان موضوع عدم الانفعال ليس هو الماء و وجود الكرية و لو في غير الماء، بل الموضوع له كرية الماء و هي لا تثبت باستصحاب الكرية في مفاد كان التامة، إلا على القول بالأصل المثبت، فلابد حينئذ من إجراء الاستصحاب في مفاد كان الناقصة بأن يقال: هذا الماء كان كراً فالآن كما كان.
و أخرى يكون الموضوع مركباً بنحو الاجتماع في الوجود من دون أن يكون أحدهما وصفاً للآخر، كما إذا أُخذ الموضوع مركباً من جوهرين مثل زيد و عمرو، أو من عرضين، كما في صلاة الجماعة، فان الموضوع لصحة الجماعة اجتماع ركوعين في زمان واحد أحدهما قائم بالإمام و الآخر قائم بالمأموم([13])، أو الاجتهاد و العدالة المأخوذين في موضوع جواز التقليد، أو مركباً من جوهر و عرض قائم بموضوع آخر، ففي جميع هذه الصور يكون الموضوع هو مجرد اجتماع الأمرين في الوجود و لا يعقل اتصاف أحدهما بالآخر، فلابد في ترتب الحكم على مثل هذا الموضوع المركب من إحراز كلا الأمرين، إما بالوجدان أو بالتعبد، فإذا شك في أحدهما يكفي جريان الاستصحاب فيه بنحو مفاد كان التامة بلا احتياج إلى جريانه في مفاد كان الناقصة، بل لا يصح جريانه فيه، لما ذكرناه من عدم معقولية اتصاف أحدهما بالآخر، و من هذا القبيل الصلاة و الطهارة، فان كلًا منهما فعل للمكلف و عرض من أعراضه، و لا معنى لاتصاف أحدهما بالآخر، و الموضوع هو مجرد اجتماعهما في الوجود الخارجي، فإذا شك في بقاء الطهارة يكفي جريان الاستصحاب فيها بنحو مفاد كان التامة فيحرز الموضوع المركب من الصلاة و الطهارة أحدهما بالوجدان و هو الصلاة، و الآخر بالتعبد الشرعي و هو الطهارة.
إذا عرفت ذلك، فنقول: إن اعتبار الزمان قيداً لشيء من هذا القبيل، فان النهار موجود من الموجودات الخارجية، و فعل المكلف كالصوم عرض قائم به، فلا معنى لاتصاف أحدهما بالآخر، فإذا شك في بقاء النهار يكفي جريان الاستصحاب فيه بنحو مفاد كان التامة، و لا يكون من الأصل المثبت في شيء، نعم لو أردنا إثبات اتصاف الفعل بكونه نهارياً باستصحاب النهار بنحو مفاد كان التامة، كان من الأصل المثبت، لكنه لا نحتاج إليه، بل لا معنى له على ما ذكرناه، فالمتحصل صحة جريان الاستصحاب في الزمان مطلقاً([14]).
ويمكن أن يوجَّه عليه ايرادان:
الايراد الاول:
ما يقال من أن الظاهر في الجملة التركيبية المأخوذة موضوعا او متعلقا للحكم وان كان أخذها على نحو التركيب، نظير عنوان الصلاة مع الوضوء والغسل بالماء، لكن لابد من رفع اليد عنه فيما لو كان شرط الواجب خارجا عن اختيار المكلف فيلتزم بكونه مأخوذا على نحو التقييد، اذ لا يمكن التركيب في ما لو كان الفعل المقيد بالزمان متعلقا للتكليف وانما يصح ذلك فيما لو كان موضوعا للحكم، فان معنى التركيب في متعلق الامر هو انحلال الامر الضمني بكل من اجزاء المركب، والزمان ليس فعلا اختياريا للمكلف حتى يمكن تعلق الأمر الضمني به، فلابد أن يتعلق الأمر الضمني بتقيد الواجب به وحينئذ يكون اثبات التقيد بالاستصحاب الجاري في الشرط من الاصل المثبت.
والحاصل أن الأمر بالصلاة في الوقت يكون مقيدا لامركبا حيث ان معنى التركيب هو الأمر الضمني بذات الصلاة وذات الوقت، مع انه لايمكن الأمر الضمني بذات الوقت لعدم كون الفجر مثلا فعلا اختياريا للمكلف فلابد من تعلق الأمر الضمني بالتقيد اي باتيان الصلاة في الوقت، فيثبت بذلك ان متعلق الأمر هو المقيد لا المركب، وحينئذ فيكون استصحاب بقاء الوقت لإثبات تحقق الصلاة في الوقت من الأصل المثبت، حيث انه من إثبات التقيد باستصحاب القيد، نعم لو كان الشيء المقيد بالزمان موضوعا لحكم كان ظهوره في التركيب بلا مانع فيمكن اثباته بضم الوجدان الى الاصل.
وقد التزم بعض الاعلام “قده” في المنتقى بهذا الاشكال، فقال: ان أخذ الزمان بنحو التركيب بلا ملاحظة تقيّد الفعل به و إضافته إليه ممكن بالنسبة إلى الموضوع لا المتعلق، إذ المتعلق مما يكون التكليف محركا نحوه و باعثا إليه، و لا يعقل البعث نحو الزمان لأنه غير اختياري، فأخذه في المتعلق لابد و ان يرجع إلى ملاحظة تقيّد الفعل به و إيقاعه فيه، فان هذا المعنى قابل للتحريك و البعث، فيعود الإشكال، لأنه لا يحرز باستصحاب الزمان وقوع الفعل فيه([15]).
كما التزم في البحوث بهذا الاشكال([16]).
ولكن توجد هناك عدة محاولات للجواب عن هذا الايراد:
المحاولة الاولى:
ما ذكره المحقق الاصفهاني “قده” من أنه اذا كانت الصلاة محققة بالوجدان و النهار محققاً بالتعبد، كفى في كون الصلاة في النهار، فانها صلاة بالوجدان في النهار التعبدي، و القيدية للواجب، و إن كانت تقتضي تقيد الواجب و لا تعبد بالتقيد، إلّا أنّ تقيد الصلاة بكونها في النهار التعبدي وجداني لا حاجة فيه إلى التعبد، نعم لو كان الواجب عنوان الصلاة النهارية، فانّ مجرد استصحاب النهار لا يجدي في كون الصلاة نهارية، أي معنوناً بهذا العنوان، لا بالتعبد، و لا بالوجدان، و المفروض تعلق الحكم بالمعنون بهذا العنوان، لا بالصلاة، مع وقوعها في النهار الذي هو منشأ انتزاع ذلك العنوان([17]).
وفيه أن قيد الواجب هو وجود النهار الواقعي لا الاعم منه ومن وجود النهار التعبدي الظاهري والا لزم صحة العمل ولو كان الاستصحاب مخالفا للواقع، فيكون رمي جمرة العقبة او ذبح الهدي مجزءا ولو تبين بعد ذلك وقوعه في الليل ولا يُلتزم به، فما يثبت بالوجدان هو تقيد العمل بالاعم من النهار الواقعي والظاهري ولكن الواجب هو تقيد العمل بالنهار الواقعي، ولو فرض كفاية التحقق الوجداني لتقيد العمل بالنهار الاعم من الوجداني و الظاهري فلماذا لم يقل به في عنوان الصلاة النهارية، فان اتصافها بالنهارية الاعم من الوجدانية والظاهرية ايضا معلوم بالوجدان.
هذا وقد أضاف في البحوث اشكالين آخرين على كلامه:
1- ان استصحاب النهار موقوف على ترتب الأثر على وجود النهار واقعا، اذ بدونه لا يصدق النقض العملي لليقين بالشك، ولكن بناء على کلامه تثبت الظرفية بين الصلاة وبين النهار التعبدي دون النهار الواقعي.
2- انَّ النهار التعبدي ليس زماناً حقيقياً ليتعقل أَن يكون ظرفاً للصلاة، فلا يصح أن يقال بأن النهار الذي لوحظ ظرفا للصلاة في عنوان الصلاة في النهار اعم من النهار الواقعي والتعبدي الظاهري.
ولكن يمكن دفع اشكاله الاول عن المحقق الاصفهاني “ره” بأن يقال: انه يكفي في استصحاب النهار ترتب اثر آخر عليه وهو تنجيز الوجوب.
نعم لو لم يترتب عليه هذا الاثر لم يجدِ دعوى أن النهار الواقعي لم يخلع عن الظرفية للصلاة اصلا، بل ظرف الصلاة هو الجامع بين النهار الواقعي والتعبدي، فقد يثبت النهار الواقعي من دون ثبوت نهار ظاهري، فيكون هو المنشأ لصحة العمل.
اذ يجاب عن هذه الدعوى بأن ما هو الموضوع للاثر هو تقيد الصلاة بالنهار، وثبوت النهار الواقعي حال الصلاة وان كان كافيا في تحقق هذا التقيد، لكن المفروض أن استصحابه لا يثبت التقيد به الا بنحو الاصل المثبت، فالذي يفيدنا في فرض الشك في النهار الواقعي هو نفس الاستصحاب الموجب لتحقق النهار التعبدي بالوجدان كي لأجله نحرز التقيد بالنهار التعبدي، فيختلف المقام عما اذا كان الاثر الشرعي مترتبا على الجامع بين النهار الواقعي والتعبدي، فانه يكفي في استصحاب النهار الواقعي كونه احد عدلي الواجب، الا أن موضوع الاثر هو تقيد الصلاة بالنهار و هو لازم عقلي للنهار الواقعي فلايكون رفع اليد عن اليقين السابق بالنهار مصداقا للنقض العملي لليقين المتقوم بوجود اثر عملي لنفس المستصحب لا للازمه العقلي.
كما يمكن دفع اشكاله الثاني بأن يقال: انه يكفي في الظرفية كون قيد الصلاة هو زمان وجود النهار واقعا او ظاهرا، فان الظاهر من الصلاة في النهار هو الصلاة في زمان النهار وقد فرض أنه اعم من زمان النهار الظاهري، والآن المشكوك زمان النهار الظاهري بالوجدان.
المحاولة الثانية:
ما في تعليقة البحوث من دعوى أن كون زمان الصلاة هو النهار تحت اختيار المكلف، فان بامكانه ايقاع الصلاة في النهار وعدمه([18]).
وفیه أنه ان اريد من جعل زمان الصلاة نهارا هو الاشارة الى واقع الزمان فيعود اشكال خروجه عن الاختيار، وان اريد جعل زمان الصلاة بما هو متصف بزمان الصلاة نهارا فهذا مما لا يثبت باستصحاب بقاء النهار او استصحاب كون الزمان نهارا.
المحاولة الثالثة:
ما قد يقال من أن غاية كون القيد غير اختياري عدم انبساط الامر الضمني اليه، والا فالنكتة العرفية لعدم الحمل على تعلق الامر بالمقيد الموجب لحمل الامر بالمقيد بالقيد الاختياري على كونه امرا بالمركب، موجودة في المقيد بالقيد غير الاختياري.
ويرد عليه ان معنى خروج القيد عن تحت الامر إما بقاء التقيد تحت الامر فيعود المحذور او خروجه ايضا فيكون مآله الى الامر بذات الطبيعة، غايته كون وجود القيد شرط الوجوب، فكأنه قال “اذا كان النهار موجودا فصلّ” وهذا وان خاليا عن المحذور في مثله، لكنه خلف الفرض، وان كان قابلا للالتزام في الحكم الذي ينحل بعدد افراد القيد، بل هو الظاهر في مثل وجوب اكرام العالم، اذ ظاهره عرفا أن من كان عالما وجب اكرامه، ولكنه لا يتم في الواجب البدلي، كقوله “اكرم عالما” او “اعتق رقبة مؤمنة” او ما علم عدم كونه شرطا للوجوب، كنهار شهر رمضان بالنسبة الى وجوب الصوم.
المحاولة الرابعة:
ما كنا نقوله سابقا من أنه لو كان المأخوذ في الموضوع هو التقيد الإسمي، كما لو تعلق الأمر بإتيان صلاة تتصف بكونها في النهار، فحينئذ لايمكن احراز عنوان اتصاف الصلاة بكونها في النهار بمجرد استصحاب النهار، لكن في مثل الأمر بالصلاة في النهار فالظاهر كون الموضوع مقيدا على نحو التقيد الحرفي، فلو جرى استصحاب بقاء الوقت مثلا فيرى العرف عدم ترتيب آثار الصلاة في الوقت على استصحاب بقاء الوقت نقضا لليقين بالشك، ويكون استصحاب بقاء القيد حاكما على استصحاب عدم حصول المقيد.
ووجه الحكومة ما ذكر في محله من أنه كلما كانت حالتان ثبوتيتان تكون احديهما ناسخة للأخرى، فيكون الأصل الجاري في الحالة الناسخة مقدما عرفا على الأصل الجاري في الحالة المنسوخة بشرط ان لايكون الأصل الجاري في الحالة الناسخة أصلا مثبتا، وهذا هو المفروض في المقام، فان حالة بقاء القيد ناسخة لحالة عدم حصول المقيد، وحيث ان استصحاب بقاء القيد يكفي لإثبات حصول المقيد، فيكون مقدما عرفا على استصحاب عدم حصول المقيد، نعم لو فرض عدم جريان استصحاب القيد، فتصل النوبة الى جريان استصحاب عدم المقيد.
ولكن الظاهر عدم تمامية هذه المحاولة ايضا، فانه لا ينبغي التأمل في أن العرف يلتفت الى أن القيد والشرط يختلف عن تقيد الواجب به، ولذا يلتفت العرف الى أنه لو نهي عن ذات الشرط كالتستر بالساتر المغصوب فلا مانع من تعلق الامر الترتبي بالصلاة في حال تستره به بأن يقول له “ان كنت تلبس هذا الساتر المغصوب فأت بالصلاة في هذا الحال، كما التزم به السيد الخوئي “قده” في ابحاثه الاستدلالية([19])، وهذا يعني كون التركيب بين الحرام ومصداق الواجب انضماميا اي يكون الحرام مغايرا للواجب وجودا، ومعه يكون استصحاب بقاء ذات القيد لاثبات التقيد من الاصل المثبت، ولا عبرة بخفاء الواسطة اي عدّ العرف المسامحي اثر التقيد اثرا لذات القيد، كما سيأتي في محله، وأما جلاء الواسطة بأن لا يتعقل العرف التفكيك بين التعبد الظاهري الاستصحابي بوجود القيد وبين التعبد الظاهري بتحقق التقيد، فمضافا الى أن دعوى عدم تعقل التفكيك بينهما مما يصعب الجزم بها يرد عليه أنه كما سيأتي في محله يتوقف على وجود اثر في الواسطة اي القيد كي يشمله خطاب النهي عن النقض العملي لليقين بالشك ثم نتمسك بالملازمة بين التعبد به والتعبد بتحقق التقيد، نعم حيث يكون بقاء النهار حسب الفرض موضوعا لوجوب الصلاة في النهار فلا مشكلة في هذا المثال من ناحية لزوم وجود اثر لذات المستصحب.
المحاولة الخامسة:
أن نقول: انا عرفنا من تطبيق الاستصحاب على بقاء الوضوء في الصحيحة الاولى لزرارة وعلى بقاء طهارة الثوب في صحيحته الثانية جريان استصحاب بقاء الوضوء والطهارة لاثبات تحقق تقيد الصلاة بهما اي كون الصلاة مع الوضوء والطهارة.
والعرف لا يفهم خصوصية في هذين الشرطين او في الصلاة المتقيدة بهما، وأما احتمال كون الوضوء لكونه اختياريا مما تعلق به الامر الضمني فيختلف عن الشرط غير الاختياري مدفوع بأن الالتزام بتعلق الامر الضمني بالوضوء او بكون المكلف على وضوء خلاف ظاهر الخطابات الشرعية في كون الواجب هو الصلاة والوضوء شرط في الواجب وليس مثل أجزاء الصلاة كما أن طهارة الثوب كذلك، بل الامر فيها اوضح، ولذا يكفي فيها حصولها بغير اختيار المكلف او بسبب محرم كغسل الثوب المتنجس بماء مغصوب.
ثم ان نتيجة ما ذكره في البحوث هو التفصيل بين ما لو كان المقيد بالقيد غير الاختياري متعلقا للأمر وبين ما لو كان موضوعا للحكم، فلو أمر المولى بغسل الجسد بالماء كما في غسل الجمعة، فيكون من الأمر بالمقيد واستصحاب كون ما يغسل به ماءا لايثبت تحقق الغسل بالماء، وأما لو قال “غسل المتنجس بالماء مطهر” فيجدي بحاله استصحاب كون المغسول به ماء، وهكذا الحال في كل واجب بدلي مقيد بقيد غير اختياري كوجوب اكرام عالم ووجوب عتق رقبة مؤمنة، فان لازم كلامه مثبتية استصحاب كون الشخص عالما وكون الرقبة مؤمنة للاجتزاء باكرام مشكوك العالمية وعتق الرقبة التي يشك في ايمانها، كما انه لابد من التفصيل في متعلق الأمر بين ما لو كان القيد اختياريا كالأمر بالصلاة مع الوضوء او التستر فيكون من الأمر بالمركب وبين ما لو كان القيد غير اختياري فيكون من الأمر بالمقيد، والانصاف إباء العرف عن قبول هذا التفصيل.
ان ظاهر “صل في النهار” بناء على التركيب ليس هو الامر بالصلاة مع وجود النهار بنحو مفاد كان التامة، بل ظاهره الامر بالصلاة في زمانٍ وكون ذلك الزمان نهارا، والمفروض عدم جريان استصحاب الزمان بنحو مفاد كان الناقصة، كما أن ظاهر الامر بالغسل بالماء هو الامر بالغسل بشيء وكون ذلك الشيء ماء.
فان تم هذا الايراد فلا يجدي في دفعه الالتزام بجريان استصحاب الزمان بنحو مفاد كان الناقصة، كما التزم به المحقق العراقي “قده” فانه لو فرض القول بعرفیة استصحاب أن الزمان كان نهارا، فقد يقال بأن عنوان الصلاة في النهار لو كان مركبا فيكون ظاهرا في الصلاة في زمان ويكون ذلك الزمان نهارا، وليس ظاهره لحاظ الزمان الموسع، ولو فرض صحة لحاظه، فان المحتمل فيه ان لم يكن ظاهرا هو لحاظ الآن الذي يقع فيه الصلاة.
فالظاهر أن يجاب عن هذا الايراد بنحو يجدي حتى لمن يقول بجريان استصحاب الزمان بنحو كان التامة فقط، وهو أنه لاوجه لانحلال الامر بالصلاة في النهار الى الامر بالصلاة في زمان وكون ذلك الزمان نهارا، بل الظاهر منه الامر بالصلاة مع وجود النهار، فالمستفاد من حرف “في” في قولنا “الصلاة في النهار” غير المستفاد منها في قولنا “الصلاة في المسجد” فان الثانية بمعنى الصلاة في مكان وكون ذلك مسجدا، فلو كان شخص في المسجد ومشى الى مكان وشك في أنه هل خرج من المسجد ام لا، فاستصحاب بقاءه في المسجد بضم احرازه الاتيان بالصلاة لا يثبت ذلك العنوان، بل يجري استصحاب عدم كون هذا المكان مسجدا، وهكذا لو قال المولى “صل في الخيمة” فلو كان في الخيمة ومشى الى مكان يشك في امتداد الخيمة اليه او كان في نفس المكان ولكن احتمل ازالة الخيمة بعد أن دخل فيها، فاستصحاب كونه في الخيمة لا يثبت عنوان الصلاة في الخيمة، فضلا عما اذا لم يكن في الخيمة فجاء الى هذا المكان فاراد ان يستصحب بقاء الخيمة بنحو مفاد كان التامة فانه لا يثبت عنوان الصلاة في الخيمة اصلا، نعم لو قال المولى “صل وانت في الخيمة” فاستصحاب كونه في الخيمة فيما كان تحت الخيمة سابقا يثبت العنوان.
وأما في الزمان فالظاهر كفاية استصحاب بقاء الزمان بنحو مفاد كان التامة، حيث لا يفهم العرف من عنوان الصلاة في النهار مثلا اكثر من تقارن الصلاة بوجود النهار، فان الفهم العرفي عن الزمان كالنهار ليس كالمكان، في كونه وعاء وظرفا حقيقيا للفعل، ومجرد استعمال لفظ “في” في المكان والزمان مع احساس معنى واحد منهما لا يستلزم كون الظاهر العرفي من الجملتين واحدا، نظير استعمال “في” في الحالات كقولهم “فلان في يسر” او “في عسر” ففي نهج البلاغة “نوم على يقين خير من صلاة في شك” مع أن الشك حال محض وليس مكانا ولا زمانا.
وقد يقال: انه لا فرق بين مثال الصلاة في المسجد او الصلاة في النهار، فان ظاهرهما التركيب من صلاة شخص وكونه في المسجد او في النهار، فاستصحاب كونه في المسجد او في النهار يكفي في احراز العنوان، من دون حاجة الى احراز كون الصلاة في زمان يكون نهارا، او كون الصلاة في مكان يكون مسجدا، فان المكان او الزمان ظرف للذات الخارجية كالانسان، لا الحدث كالصلاة، وهذا نظير ما يقال في النهي عن الصلاة في أجزاء ما لا يؤكل لحمه، فانه حيث لا يكون تلك الأجزاء ظرفا للصلاة فيكون ظاهره كون العنوان مركبا من الصلاة وكون الشخص لابسا لما لا يؤكل لحمه، او فقل: أن يكون معه اجزاء ما لا يؤكل لحمه ولو كان روثه او عرقه كما هو المستفاد من الروايات.
ولكن الانصاف أن حمل الصلاة في النهار على المركب من الصلاة وكون الشخص في النهار خلاف الظاهر، كما أن حمل الصلاة في المسجد على الصلاة وكون الشخص في المسجد خلاف الظاهر كما مر آنفا.
الفرق بين الزمان والمكان
وقد حكي عن بعض السادة الاعلام “دام ظله”، أنه قال في مقام بيان الفرق بين الزمان والمكان: أن مفاد الحروف مختلف، فبعضها يفيد مجرد اجتماع شيئين في الزمان، مثل الباء في قوله ” لا صلاة الا بطهور” وبعضها يفيد اكثر من ذلك مثل “على”([20]) و كذا “في” عند استعمالها في الظرفية المكانية، فلايجدي بحاله الاستصحاب، فلو علم بأن زيدا على تقدير حياته يكون في الدار فاستصحاب حياته لا يثبت كونه في الدار الا بنحو الاصل المثبت، و حرف “في” عند استعمالها في الزمان، من قبيل الاول، اذ الزمان ليس ظرفا عرفا حتى يقع فيه الفعل، فان منشأ الزمان ليس هو حركة الشمس بل الحركة الذاتية للاشياء، ولذا يكون الزمان موجودا ولو لم توجد الشمس، ولعل منشأ استعمال “في” التي هي للظرفية في الزمان أن الانسان كان يشعر بالتغيير الزماني من خلال التغير في المكان، فكان يحسّ بالليل من خلال ظلمة الارض، فسماه بالليل الذي يعني الظلمة، وسمي الربيع للزمان الذي تتجدد آثار حياة النباتات والاشجار في مكان، فكان رؤية الانسان الابتدائي الى الزمان متأثرة بالمكان، فاستعملت “في” بنحو من العناية والتوسع في الزمان، نعم بعد تطور المجتمعات وضعوا اسماء الزمان لما لا ينشأ من احساس التغير في المكان، مثل اسماء ايام الاسبوع، فعليه يكون المطلوب في قوله “صل في النهار” اجتماع الصلاة والنهار في زمان فيمكن اثباته بضم الوجدان الى الاصل.
هذا وقد أضاف الى ذلك أنه قد يلحظ الزمان مرآة لتحديد مقدار استمرار العمل، كالامر بزيارة الحسين (عليه السلام) ساعة، نظير لحاظ قيمة القماش مرآة لتحديد مقدار فيقال لبايع القماش أعطني القماش بمقدار درهم، فلا اشكال في امكان استصحاب عدم انتهاء امد الزيارة، وهذا خارج عن محل البحث، اذ محل البحث ما اذا لوحظ الزمان ظرفا للفعل، كالامر بزيارة الحسين (عليه السلام) يوم عرفة، كما أنه اذا لوحظ الزمان نعتا للفعل ، فهذا ايضا خارج عن محل البحث، كقوله “تجب عليك الصلاة النهارية” اذ استصحاب بقاء النهار لا يثبت اتصاف الصلاة به، فمحل البحث ما اذا أخذ الزمان ظرفا لا بنحو النعتية، مثل “صل في النهار” وهذا محل البحث، والظاهر جريان الاستصحاب فيه.
اقول: ان نكتة الفرق العرفي بين الزمان والمكان ليس هو ما ذكره من عدم كون منشأ الزمان هو حركة الشمس، وانما هو الحركة الذاتية للاشياء، فان الكلام في مثل الليل والنهار، ولا اشكال في كون منشاهما حركة الشمس، دون الحركة الذاتية للاشياء، مضافا الى أنه ان اريد من الحركة الذاتية الحركة الجوهرية التي يدعيها صاحب كتاب الاسفار، فمضافا الى اختصاصها بالاجسام لم يثبت ذلك في جميع الاجسام، بل غايته ثبوتها فيما يتغير كيفيته، كالثمرة، فلو فرض أن جسما لم تتغير كيفيته فمن أين نحرز حركته الجوهرية اي حركته من القوة الى الفعل.
وقد يقال بمعنى آخر للزمان وليس من سنخ الوجود، بل يكون من الامور الاعتبارية، او النفس الامرية، ويشارك فيه الموجودات والمعدومات، فيقال “كان العنقاء معدوما ازلا ومعدوم فعلا ومستقبلا” وهكذا الممتنعات، لكنه مناف لما ورد في عدة من الروايات من مخلوقية الزمان، كقوله “إن الله تبارك و تعالى كان لم يزل بلا زمان و لا مكان و هو الآن كما كان([21])” وقوله “كيف يكون له قبل و هو قبل القبل بلا غاية و لا منتهى غاية و لا غاية إليها غاية انقطعت الغايات عنه فهو غاية كل غاية فقال أشهد أن دينك الحق و أن ما خالفه باطل([22])” وقوله “ان الله تبارك و تعالى لا يوصف بزمان و لا مكان و لا حركة و لا انتقال و لا سكون بل هو خالق الزمان و المكان و الحركة و السكون تعالى الله عما يقولون علوا كبيرا([23])” ومن الواضح أنه تعالى فوق الزمان اي ليس له مبدأ ومنتهى ولا يؤثر فيه الزمان ابدا، وهو خالق الزمان الذي هو من سنخ الوجود، وان صح المعنى الأخير للزمان فهو ليس من سنخ الوجود، بل غايته كونه من سنخ الامور الواقعية النفس الامرية، ان لم يكن من الامور الاعتبارية.
ومن جهة أخرى ان ما ادعاه من كون استعمال حرف “في” في الزمان كان ناشئا عن كون الزمان عند الانسان الابتدائي متأثرا عن المكان، بعيد جدا، فانهم يستعملون حرف “في” في الحالات ايضا كما مر آنفا، مع عدم موجب لتوهم كونها مكانا، بعد وضوح أن مجرد تبدل حالات الافق في المكان الموجب لتحقق الليل والنهار لا يوجب عرفا اسراء احكام المكان الى الزمان، ولذا لا يقال “جلست على الزمان” مع أنه يقال “جلست على المكان”.
امثلة لاستصحاب بقاء النهار لاثبات وجوب الفعل
ثم انه لو فرض عدم امكان اثبات استصحاب النهار مثلا لكون الفعل واقعا في النهار، فيجري استصحاب بقاء النهار لاثبات وجوب الفعل، ونذكر لذلك مثالين:
المثال الاول: اذا كان الواجب الفعل المستمر في جميع آنات النهار، كوجوب الصوم في نهار شهر رمضان، فلو شك في بقاء النهار إما للشك في مقداره كما لم يدر هل النهار في هذا البلد قصير او طويل، وإما للشك في انتهاء امده مع العلم بمقداره، كما لو علم أن النهار في هذا البلد سبعة عشر ساعة، ففي كلا الفرضين يجري استصحاب بقاء النهار ويثبت بقاء وجوب الصوم، كما يمكن اجراء استصحاب بقاء نفس الوجوب، فيتنجز عليه الامساك في ذلك الزمان المشكوك.
ان قلت: حيث لا يثبت بهذا الاستصحاب كون الامساك في هذا الزمان من الصوم في النهار، فيكون من الشك في القدرة، فيعني ذلك أنّه إنّما يكون قادراً على امتثال هذا الوجوب الظاهري إن كان مطابقاً للواقع، وحيث هذا الوجوب كبقية الوجوبات مشروط بالقدرة، فيلزم من ذلك كون الحكم الظاهري مشروطا بالمطابقة للواقع، وهذا غير معقول، لأنّه لا يمكن احراز هذا الشرط مادام شاكا، فلو فرض ارتفاع شكه ارتفع موضوع الحكم الظاهري.
قلت: ان مفاد الاستصحاب وان كان حكما تكليفيا طريقيا، حيث ان مفاده النهي عن النقض العملي لليقين بالشك، لكن العرف يلتفت الى أن روحه ابراز الاهتمام بالتكليف الواقعي على تقدير وجوده، والمفروض أن التكليف الواقعي على تقدير وجوده مقدور، فلا وجه لانصراف خطاب الاستصحاب عنه، خصوصا بعد أن كان مورد الشك في القدرة مجري لحكم العقل بالاحتياط، بل مقتضى الاستصحاب بقاء القدرة.
هذا وقد يدعى في فرض الشك في سعة مقدار النهار، أنه حيث لا يثبت استصحاب النهار او استصحاب الوجوب كون الامساك في هذا الزمان المشكوك من الصوم في النهار فلا يثبت وجوبه وانما يثبت وجوب الصوم في النهار، فلا تكون البراءة عن وجوب الامساك في هذا الزمان المشكوك محكومة لهذا الاستصحاب لعدم جريانها في مورده، فبجريان هذه البراءة يرتفع حكم العقل بلزوم الاحتياط من باب جريان قاعدة الاشتغال في موارد الشك في القدرة، لكون حكم العقل بالاحتياط معلقا على عدم ورود ترخيص شرعي في الخلاف، لكن حيث لا يكون الشك في بقاء النهار في الفرض الثاني الذي كان مقدار النهار معلوما من الشك في التكليف الزائد فلا مجرى فيه للبراءة.
وقد يجاب عن هذه الدعوى كما في البحوث بأن دليل البراءة الشرعية يختص بموارد الشك في اصل التكليف، دون ما علم باصل التكليف وشك في تحقّق الامتثال، أو شك في القدرة على الامتثال، كما لو احتمل سقوط التكليف بالعجز مع علمه بأصل التكليف، أو شك كما في المقام في ثبوت قيد الواجب بعد علمه بأصل الوجوب و لو ببركة الاستصحاب([24]).
اقول: يمكن في هذا الفرض اجراء الاستصحاب في نفس كون الصوم في النهار، وليس الغرض منه اثبات الوجوب، بل اثبتنا الوجوب بطريق آخر، وانما الغرض منه اثبات الواجب، فلا تصل النوبة الى البراءة اصلا، هذا مضافا الى أن الوجوب لم يتعلق بهذا الآن بما هو هو، حتى يكون مجري للبراءة وانما تعلق بعنوان الصوم في النهار، والمفروض اثبات بقاء وجوبه بالاستصحاب.
نعم ما ذكره صاحب الكفاية من أنه لا بأس باستصحاب نفس المقيد اي الصوم في النهار فيقال إن الإمساك كان قبل هذا الآن في النهار و الآن كما كان فيجب فتأمل([25])، مخدوش، فان الوجوب لا يترتب على وجود المتعلق، فالاستصحاب المحرز لتحقق الواجب ليس اصلا موضوعيا بالنسبة الى الوجوب كي يثبت به.
هذا ولو لم يمسك في الزمان المشكوك فيجب عليه القضاء، ودعوى أنه حيث لا يثبت به عنوان الفوت فتجري البراءة عن وجوب القضاء ان تمت، فتتوجه حتى على القول بكون استصحاب النهار صالحا لاثبات كون الصوم في النهار، فهو نظير ما لو شك في اثناء الوقت في اتيان الصلاة، فلم يصلّ بعد ذلك، فانه لا ريب في وجوب القضاء عليه، إما لكون موضوعه اعم من فوت الفريضة الواقعية والظاهرية، وفوت الفريضة الظاهرية معلوم بالوجدان، او لما هو الظاهر من الملازمة العرفية بين الوجوب الظاهري للأداء والوجوب الظاهري للقضاء.
المثال الثاني: لو شك في وجوب اداء الصلاة المقيدة بالنهار مثلا، للشك في بقاء النهار، فتارة يراد من استصحاب النهار الى الوقت المشكوك اثبات جواز تأخير الصلاة من الوقت المتيقن الى الوقت المشكوك، فالصحيح عدم اثباته به، فانه -مع قطع النظر عما هو المستفاد من الروايات من وجوب المبادرة الى الصلاة بمجرد خوف ضيق الوقت- حيث لا يثبت به تحقق الامتثال اي الصلاة في النهار، فمقتضى قاعدة الاشتغال واستصحاب عدم تحقق الامتثال وجوب المبادرة اليها قبل بلوغ الوقت المشكوك، نعم لو كان جواز التأخير مجعولا شرعيا مستقلا موضوعه بقاء النهار امكن اثباته به لكنه لا دليل عليه ابدا.
وأخرى يراد تنجيز وجوب الاتيان بها في الوقت المشكوك لمن ترك اداءها قبل ذلك، وعدم جواز العدول عنه الى القضاء، فالصحيح هو تنجيزه به وقد مر الجواب عن اشكال الشك في القدرة، نعم لا يترتب عليه الاثر الشرعي المترتب على الصلاة في النهار، بل يترتب اثر عدمها.
فمثلا لو شك في بقاء نهار يوم عيد الأضحى فبناء على وجوب ذبح الهدي نهار يوم العيد فاستصحاب بقاء وجوب الذبح بل استصحاب بقاء موضوعه وهو النهار وان كان ينجز الاتيان به لكن لا يثبت به تحقق الذبح الصحيح وهو الذبح في النهار فلابد من اعادته في اليوم الآخر حتى يترتب عليه الخروج من الاحرام.
هذا وقد يقال ايضا في هذا الفرض الذي تعلق الامر بصرف وجود الصلاة في النهار مثلا بأنه ان كان المكلف عالما بالوجوب قبل زمان الشك في النهار، فقد تنجز عليه الوجوب ولو أخّره الى زمان الشك وجب عليه الاحتياط، بلا حاجة الى الاستصحاب المثبت للوجوب، وانما الحاجة اليه في فرض عدم تنجز الوجوب قبله، إما لعدم بلوغه او لغفلته، وحينئذ فقد يدعى جريان البراءة عن وجوب الصلاة في هذا الزمان المشكوك من دون حكومة الاستصحاب عليه بعد أن لم يثبت كون الصلاة فيه صلاة في النهار، ويجاب عنه كما في البحوث بأنه مضافا الى ما مر من اختصاص البراءة بموارد الشك في اصل التكليف، أنه لا معنى للبراءة عن وجوب الصلاة في هذا الزمان المشكوك، اذ لا يحتمل وجوبها كذلك وانما الواجب صرف وجود الصلاة في الوقت وقد اثبته الاستصحاب فلا مجال معه للبراءة([26])، ولا بأس بما أفاده.
ألمفروض في استصحاب الزمان هو الشبهة المصداقية و لا یجری في الشبهات المفهومية
ثم لا يخفى أن مفروض الكلام في استصحاب الزمان هو استصحابه في موارد الشبهة المصداقية، وأما في موارد الشبهة المفهومية كالشك في بقاء النهار بعد استتار القرص وقبل زوال الحمرة المشرقية او الشك في بقاء الليل في الليالي المقمرة بعد التبيّن التقديري لطلوع الفجر وقبل تبيّنه الفعلي، فيكون استصحاب عدم دخول الليل وبقاء النهار في المثال الاول واستصحاب عدم طلوع الفجر وبقاء الليل في المثال الثاني من قبيل الاستصحاب في الشبهات المفهومية، وقد سبق منع جريانه في بحث الفرد المردد.
هذا كله في استصحاب الزمان.
[13] – هذا خلاف فتواه الفقهية المستفادة من الروايات كقوله “اذا كبر الرجل وركع قبل أن يرفع الامام رأسه والا فلا ركعة له” من عدم صحة الصلاة مع الشك في بقاء الامام في ركوعه الى زمان ركوع المأموم حيث ان استصحاب بقاءه لايثبت عنوان القبلية.
[19] – موسوعة الامام الخوئي ج12ص309و132 وان افتى في المنهاج وفي تعليقته على العروة ببطلان الصلاة في الساتر المغصوب عالما عامدا او جاهلا مقصرا.
[20] – فاستصحاب بقاء الفرش في مكان لا يثبت كون الجلوس على ذاك المكان جلوس على الفرش، اذ الجلوس على الفرش يعني الجلوس على شيء وكون ذاك الشيء فرشا، كما أنه لو كان واقفا على فرش واحتمل ازالة الفرش من تحت رجليه او مشى خطوة فاحتمل خروجه عنه ثم جلس، فاستصحاب بقاءه على الفرش الى زمان جلوسه لا يثبت جلوسه على الفرش، بخلاف ما لو كان شيئ فرشا سابقا واحتمل استحالته فيجدي استصحاب كونه فرشا، في اثبات هذا العنوان.