بسمه تعالی
رؤوس المطالب:
قد یدعی بان الالفاظ متناهية والمعاني غير متناهية. 2
استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد. 5
الجهة الأولى: في تحرير محل النزاع. 5
المراد من استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد. 6
الجهة الثانية: التلازم بین الاستقلال في الاستعمال و الاستقلال في الحكم. 8
البحوث: عدم التلازم بین الاستقلالية في الاستعمال و الاستقلالية في الحكم. 9
اقول: لايبعد التلازم فی الاستقلالية. 10
عدم التلازم لو استعمل اللفظ في المعنى المركب… 11
الجهة الثالثة: في امكان استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد وعدمه. 11
المشهور: استحالة استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد. 11
الانصاف عدم تمامية أي من هذه الوجوه على الاستحالة. 18
کلام المحقق الحائري “قده”.. 18
الجهة الرابعة: فی صحة هذا الاستعمال لغة. 19
الف) استعمال اللفظ المفرد في اكثر من معنى.. 20
الصحيح عدم تقيد وضع اللفظ على المعنى بقيد الوحدة 23
ب) استعمال التثنية والجمع في اكثر من معنى.. 25
التثنیه موضوعة لإفادة تكرر طبيعي معنى المفرد 28
فتحصل: امكان استعمال التثنية والجمع والمفرد في اكثر من معنى.. 35
الجهة الخامسة: امثلة شرعية. 35
الأول: ما اذا ورد في خطاب واحد الأمر بفعلين وثبت من الخارج عدم وجوب احدهما 35
الثاني: اذا ورد في خطاب شرعي ما يشتمل على حكم ارشادي.. 36
الثالث: الاستدلال بالروايات التی تدل ان للقرآن ظهرا وبطنا 37
الرابع: الجمع بین قصد الإنشاء في القراءة و قصد القرآنية. 38
الاشتراك اللفظي
ان تفسير الاشتراك اللفظي بناء على كون الوضع هو الاعتبار او القرن الأكيد واضح جدّا، فانه يكون اعتبار لفظٍ لمعنيين او القرن الاكيد بينه وبين كل منهما.
كما أنه بناء على كون الوضع هو تعهد الواضع بان لايستعمل اللفظ الا عند إرادة تفهيم معنى معين، يكون مرجع الاشتراك اللفظي في فرض وحدة الواضع الى تعهده بان لايستعمل هذا اللفظ الا اذا اراد به تفهيم احد هذين المعنيين مثلا، فيكون من الوضع العام والموضوع له الخاص، كما ذكره السيد الخوئي “قده”، لان الموضوع له ليس مفهوم احدهما، حيث لميتعهد الواضع باستعمال اللفظ في هذا المفهوم الانتزاعي وانما تعهد ان يستعمله فيما هو واقع احدهما.
قد یدعی بان الالفاظ متناهية والمعاني غير متناهية
ثم انه قديتوهم وجود الضرورة لتحقق الاشتراك اللفظي في اللغة بوضع لفظ واحد لمعان متعددة بدعوى ان الالفاظ متناهية والمعاني غير متناهية.
ولكن أجيب عن ذلك بعدة وجوه:
1- ما ذكره صاحب الكفاية “قده” من أن المعاني الكلية متناهية ويكفي وضع الالفاظ بإزائها ولاحاجة الى وضع لفظ بإزاء أفرادها، حيث يمكن تفهيم ارادة الفرد باستعمال اللفظ الموضوع على المعنى الكلي مع الإشارة الى هذا الفرد مثلا، كأن يقال هذا الماء([1]).
ويلاحظ عليه: ان المعاني الكلية تكون على مراتب فبعضها يكون أحيانا جزئيا اضافيا بالنسبة الى بعض آخر كالرجل بالنسبة الى الانسان، وبهذا اللحاظ تكون المعاني الكلية غير متناهية.
أضف الى ذلك ان المعاني الكلية باعتبار اشتمالها على معان اعتبارية غير متناهية جزما، اذ انتزاع المفهوم الاعتباري لايقف على حد فيمكن انتزاع مفهوم اعتباري عن ملاحظة تركيب معنى مع معنى آخر، كمفهوم الصلاة حيث أنه منتزع عن اجتماع عدة أمور كالركوع والسجود ونحوهما ثم ينتزع مفهوم اعتباري آخر بملاحظة تركيب هذا المفهوم الاعتباري أي الصلاة مثلا مع مفهوم آخر وهكذا….
2- ما ذكره صاحب الكفاية أيضا من ان مشكلة كون المعاني التي يوضع بإزائها الألفاظ غير متناهية لاترتفع بالالتزام بالاشتراك اللفظي، اذ يبقى الاشكال حينئذ في استلزام عدم تناهي المعاني الموضوع لها لأوضاع غير متناهية، وهو باطل جزما فلابد من حل الاشكال بطريق آخر([2]).
وماافاده متين جدا.
3- انه لاحاجة الى وضع الألفاظ بإزاء جميع المعاني بعد عدم تعلق الغرض بتفهيمها، بل لو فرض تعلق الغرض بتفهيم معنى لميوضع له لفظ فيمكن ان يستخدم مفاهيم متعددة، كما لو أريد تفهيم معنى البغل فيقال المتولد من الحصان والحمار.
4- ما قد يقال من انه لاحاجة الى وضع اللفظ لمعان متعددة بل يكفي وضعه لواحد منها واستعماله في غيرها مجازا.
5- ان الالفاظ غير متناهية أيضا بلحاظ كيفية تركيب الحروف التي هي موادّ الكلمات وكذا بلحاظ اختلاف هيئة الكلمات.
6- ان وجود الفاظ مهملة في اللغة أدلّ دليل على عدم ضرورة في الاشتراك اللفظي بمناط قلّة الالفاظ.
هذا، ولو عمّمنا الاشتراك اللفظي لموارد الوضع العام والموضوع له الخاص، فيتم حينئذ دعوى ضرورة الاشتراك اللفظي فيما يكون الوضع فيه عاما والموضوع له خاصا مثل الحروف والهيئات والضمائر واسماء الإشارات، ولكن ليس المراد من الاشتراك اللفظي ما يعم ذلك جزما.
فالصحيح انه لاتوجد أية ضرورة للاشتراك اللفظي، نعم لو أريد منها أن ظاهرة اللغة لدى الامم والطوائف مع تباعد بعضها عن بعض تؤدي عادة الى وضع طائفة لفظا على معنى ووضع طائفة أخرى ذاك اللفظ على معنى آخر، وبعد ما حصل الاختلاط بين الطائفتين واستخدام كل منهما لغات الطائفة الأخرى فيحصل الاشتراك اللفظي في اللغة، فهو تامّ، كما ان الضرورة العرفية تقتضي الاشتراك اللفظي في الأعلام الشخصية لكونها متناهية عرفا.
ثم انه قد يوجد اتجاه معاكس للاتجاه السابق وهو توهم استحالة الاشتراك اللفظي، بدعوى ان الغرض من الوضع هو تفهيم المعنى بلاقرينة لعدم تيسر اقامة القرينة في جميع الأحوال، والاشتراك اللفظي مخلّ بهذا الغرض.
وفيه اولا: انه قد يحصل الاشتراك اللفظي من تعدد الواضع.
وثانيا: قد يتعلق الغرض بحصر المعنى اجمالا في عدة معان ويكون تفهيم خصوص واحد من تلك المعاني بالقرينة لو فرض تعلق غرض المستعمل بذلك.
استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد
وفيه جهات من البحث:
الجهة الأولى: في تحرير محل النزاع
فانه قد طرح المحقق الايرواني “قده” هنا شبهة محصلها أنه لايتصور معنى معقول للبحث عن استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد، حيث أنه لو كان للفظ العين مثلا معنيان وهما الذهب والفضة فان اطلق هذا اللفظ واريد به الذهب والفضة معا بان كان كل منهما جزءً لمعنى مركب فهو ممكن اجماعا، فانه لايكون من استعمال اللفظ في اكثر من معنى، بل هو مستعمل في معنى واحد مركب بحيث لاينطبق على الذهب وحده مثلا، وان اطلق هذا اللفظ واريد به احد المعنيين بانفراده واستقلاله، فإرادته بانفراده يعني فرض عدم ارادة المعنى الآخر من هذا اللفظ، وحينئذ فيكون فرض استعماله في المعنى الآخر أيضا واضح الاستحالة لاشتماله على الخلف، نعم في الفرض الأول الذي يستعمل اللفظ فيه في المعنى المركب قد يكون الحكم انحلاليا وقد لايكون كذلك، فمثلا لو أمر المولى بالإتيان بعين وأراد من لفظ العين الذهب والفضة معا فتارة يقصد جعل وجوب الإتيان بالذهب مستقلا عن جعل وجوب الاتيان بالفضة بحيث لو أتى بأحدهما دون الآخر كان امتثالا لأمره وبذلك يسقط هذا الأمر وان لميمتثل الأمر بالإتيان بالآخر فيكون الحكم انحلاليا، وتارة أخرى يقصد جعل وجوب الإتيان بكليهما بوجوب ارتباطي واحد بحيث لايسقط الأمر الضمني بإتيان كل منهما الا في فرض الإتيان بالآخر أيضا، فلايكون الحكم حينئذ انحلاليا، وكذا لو قال شخص بأني أحب العين وأراد به مجموع الذهب والفضة فتارة يقصد به حب كل من الذهب والفضة مستقلا فيكون الحب انحلاليا، وأخرى لايكون حبه لهما انحلاليا بحيث لو وجد الذهب وحده دون الفضة مثلا لميكن محبوبا له، فلايكون الحب انحلاليا، ولكن هذه النكتة لاتقتضي تخصيص بحث بها في المقام لعدم اختصاص فرض انحلالية الحكم وعدمها بالمقام، فلو قال المولى يجب اكرام زيد وعمرو فقد يكون وجوب اكرامهما انحلاليا بحيث لو أكرم احدهما دون الآخر تحقق منه امتثال احد الأمرين، وقد لايكون كذلك بحيث لو اكرم احدهما دون الآخر لما تحقق منه امتثال ابدا([3]).
المراد من استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد
ولكن يرد عليه: ان المراد من استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد هو استعماله في كل من المعنيين بحيث يكون كل واحد منهما مرادا بحياله واستقلاله، بحيث يرى تصورا كون اللفظ متحدا مع هذا المعنى بحيث ينطبق عليه وحده، وكذا متحدا مع المعنى الآخر بحيث ينطبق عليه وحده أيضا، فالمتكلم بدل ان يتلفظ بلفظ العين مرتين ويريد بالأول الذهب وبالثاني الفضة، يتلفظ به مرة واحدة لأجل ابراز كلا المعنيين من دون ان يقصد بهذا اللفظ معنى واحدا مركبا منهما، بحيث لاينطبق على كل منهما وحده، ونظير ذلك ما لو كان لفظ زيد علما لشخصين فبدل ان يتلفظ بلفظ زيد مرتين يتلفظ به مرة واحدة ويقصد بذلك كل واحد منهما بحياله واستقلاله، بحيث ينطبق لفظ زيد تصورا على هذا الشخص وحده وعلى ذاك الشخص وحده لاان يلحظ متحدا مع ما يشتمل على كليهما بحيث لاينطبق على احدهما وحده دون الآخر.
وان شئت فلاحظ قول الشاعر:
أي المكان تروم ثم من الذي تمضي إليه أجبته المعشوقا([4])
فترى انه استعمل لفظ المعشوق في معنيين: احدهما قصر بسامرا، وثانيهما من كان يعشقه الشاعر، بحيث ينطبق هذا اللفظ تصورا على كل منهما وحده، فهو لميلحظ لفظ المعشوق فانيا في معنى مركب بحيث لاينطبق على ذلك القصر وحده او ذلك الشخص الذي كان يعشقه وحده.
والمتحصل ان استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد يعني استعماله في معنيين مثلا بحيث لوحظ كل واحد منهما مستقلا عن الآخر، وهذا يختلف عما لو استعمل اللفظ في معنى واحد يكون مركبا من هذين المعنيين بحيث صار كل منهما جزءً من ذلك المعنى، كما لو اطلق لفظ العين وأراد به مجموع الذهب والفضة، بحيث لايصدق بنظره التصوري على الذهب وحده ولا على الفضة وحدها بل يكون كل من الذهب والفضة جزء لمعنى مركب يصدق عليه اللفظ، فانه لاريب في امكان ذلك ويكون خارجا عن استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد، ونظيره ما لو استعمل اللفظ في معنى جامع بين المعنيين بحيث صار كل منهما فردا من افراد ذلك المعنى، نظير ما لو اراد من لفظ العين ما يسمى بالعين بحيث يكون الذهب والفضة مصداقين لذلك المعنى، فهذا ايضا يكون خارجا عن استعمال اللفظ في اكثر من معنى.
الجهة الثانية: التلازم بین الاستقلال في الاستعمال و الاستقلال في الحكم
الجهة الثانية: إنه حكي عن المحقق الرشتي “قده” ان الاستقلال في الاستعمال في مورد استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد يلازم الاستقلال في الحكم كما ان ضمنية الاستعمال في مورد استعمال اللفظ في المركب من المعنيين تلازم الضمنية في الحكم.
وعليه فلو قال المولى” جئني بالعين”، فان استعمل لفظ العين في كل من الذهب وحده والفضة وحدها فيكون وجوب الإتيان باي منهما مستقلا عن وجوب الإتيان بالآخر، فلو أتى بالذهب وحده سقط امره بامتثاله، وان لميمتثل الأمر بالإتيان بالفضة، وان استعمل لفظ العين في المعنى المركب من الذهب والفضة فيكون وجوب الإتيان بكل منهما ضمنيا، بحيث لو أتى بالذهب وحده لميتحقق منه امتثال ابدا، وظاهر السيد الخوئي “قده” قبول ذلك، حيث ذكر انه لو كان يملك عبدين وكان اسم كل منهما غانما فقال للمشتري بعتك غانما بدرهمين، فانه لو استعمل لفظ غانم في مجموع العبدين بان لاحظ كلا منهما منضما الى الآخر واطلق لفظ غانم على المجموع فيكون ثمن المجموع درهمين، ولكن لو اراد من لفظ غانم كلا منهما مستقلا عن الآخر فلازم ذلك انحلال كلامه الى كلامين وهو بيع هذا العبد بدرهمين وبيع ذاك العبد ايضا بدرهمين ويكون ثمن المجموع اربعة دراهم، ولكن حيث يشك في انه هل اراد مجموعهما او كل واحد منهما وليس هناك أي ظهور يعيِّن احد الاحتمالين، فتصل النوبة الى الاصل العملي وهو اصالة البراءة عن اشتغال ذمة المشتري بأكثر من درهمين.
ان قلت:يوجد في البين ظهور يعيِّن الاحتمال الاول، وهو ما قد يقال من كون استعمال اللفظ في اكثر من المعنى استعمالا حقيقيا بخلاف استعماله في مجموع المعنيين.
قلت: فان كون الاستعمال الاول حقيقيا لايوجب جريان اصالة الحقيقة لإثباته في قبال احتمال استعمال اللفظ في مجموع المعنيين، حيث ان مرجع اصالة الحقيقة الى حجية الظهور، والمفروض عدم وجود نكتة توجب انعقاد ظهور اللفظ في استعماله في كل من المعنيين باستقلالهما([5])،
البحوث: عدم التلازم بین الاستقلالية في الاستعمال و الاستقلالية في الحكم
هذا، ولكن ذكر في البحوث ما محصله: ان الاستقلالية في الاستعمال لاتلازم الاستقلالية في الحكم كما ان الضمنية في الاستعمال لاتلازم الضمنية في الحكم، فيمكن ان يكون المراد الاستعمالي من لفظ العين في قوله “جئني بالعين” هو معنى الذهب باستقلاله ومعنى الفضة باستقلاله لكن يكون الملحوظ في مرحلة الإرادة الجدية في مقام تعلق الحكم هو الذهب المقيد بكونه في ضمن المركب من الذهب والفضة، وكذا الفضة المقيدة بذلك من دون ان يكون المستعمل فيه هو المقيد، نظير ما لو قيل جئني بالذهب والفضة، فان المستعمل فيه للفظ الذهب هو طبيعي الذهب، كما ان المستعمل فيه للفظ الفضة هو طبيعي الفضة ولكن لاينافي ذلك ان يكون متعلق الحكم في مرحلة الإرادة الجدية هو الذهب والفضة المقيدين بكونهما في ضمن مركب من الذهب والفضة، وحينئذ فلو أتى بالذهب وحده مثلا لميحصل منه أي امتثال ابدا.
وكذا يمكن ان يكون المراد الاستعمالي من لفظ العين في قوله جئني بالعين هو معنى مركبا من الذهب والفضة بحيث يرى تصورا لفظ العين متحدا مع مجموع الذهب والفضة ويكون كل منهما جزء لذلك المعنى، ولكن لاينافي ذلك ان يكون الملحوظ في مقام الارادة الجدية بلحاظ متعلق الحكم هو الإتيان بالذهب لابشرط من كونه في ضمن المركب([6]).
اقول: لايبعد التلازم فی الاستقلالية
اقول: لايبعد ان يقال بان الاستقلالية في الاستعمال تلازم الظهور في الاستقلالية في الحكم، فلو قال المولى جئني بالعين واستعمل لفظ العين في الذهب باستقلاله وفي الفضة باستقلالها فيكون في قوة ان يقول “جئني بالذهب” “جئني بالفضة ” وظاهر ذلك هو وجوب الاتيان بالذهب مستقلا عن وجوب الاتيان بالفضة، نعم لامانع ثبوتا من ان يكون هذا الوجوب ضمنيا بحيث يقيد الاتيان بالذهب بكونه مقترنا بالاتيان بالفضة كما يمكن ذلك في قوله “جئني بالذهب” “جئني بالفضة ” لكنه خلاف الظاهر، وعليه فلو كان يملك عبدين اسم كل منهما غانم فقال للمشتري “بعتك غانما بدرهمين”، فان استعمل لفظ غانم في كل منهما باستقلاله فيكون في قوة ان يقول” بعتك هذا العبد بدرهمين، بعتك ذاك العبد بدرهمين”، وليس في قوة ان يقول” بعتك هذا العبد وذاك العبد بدرهمين” حتى يقال بان ظاهره كون ثمن المجموع درهمين، اذ يوجد فرق بين استخدام حرف العطف في قوله “بعتك هذا العبد وذاك العبد بدرهمين” وبين المقام، فان استعمال لفظ غانم في كل واحد من العبدين باستقلاله في قوله “بعتك غانما بدرهمين “يعني ان ما تعلق بغانم من بيعه وجعل ثمن بإزاءه لوحظ مرة بالإضافة الى هذا العبد ولوحظ مرة أخرى بالإضافة الى العبد الآخر فيكون في قوة ان يقول” بعتك هذا العبد بدرهمين، بعتك ذاك العبد بدرهمين”.
عدم التلازم لو استعمل اللفظ في المعنى المركب
هذا كله في فرض استعمال اللفظ في كل من المعنيين بالاستقلال، وأما لو استعمل اللفظ في المعنى المركب كما لو استعمل لفظ العين في المعنى المركب من الذهب والفضة فلايمكن ان يكون وجوب الإتيان بالذهب او وجوب الاتيان بالفضة استقلاليا الا بان يقدر كلمة الأجزاء فيراد من قوله “جئني بالعين” “جئني بأجزاء العين” فما لميقدر كلمة الأجزاء فلايمكن ان يتعلق الأمر باستقلاله بها، اذ ليس في لحاظ المتكلم الذهب وحده أيضا او الفضة وحدها ايضا، حتى يكون الإتيان بالعين صادقا بنظره على الإتيان بأي منهما وحده، فيكون المقام نظير ما لو قال المولى “ارسم سريرا” فانه لايعقل كون الأمر برسم السرير منحلا الى اوامر استقلالية برسم اجزاء السرير مالم يقدر المولى كلمة الأجزاء بان يقصد الأمر برسم اجزاء السرير، فلو قدر ذلك امكن ثبوتا تعلق الأمر الاستقلالي برسم كل جزء من اجزاء السرير بحيث لو رسم جزء منه امتثل الأمر به واستحق الجعل المعين له بالنسبة.
الجهة الثالثة: في امكان استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد وعدمه
الجهة الثالثة: يقع الكلام في امكان استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد وعدمه،
المشهور: استحالة استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد
فنسب الى المشهور استحالة ذلك
وجوه الاستحاله
وقد استدل عليه بعدة وجوه:
1- لما کان اللفظ عين المعنى تصورا، فلايمكن ارادة معنيين متعددين منه
1- ما ذكره صاحب الكفاية “قده” من انه بناء على ما هو الصحيح من ان استعمال اللفظ في المعنى يكون بلحاظه فانيا في المعنى بحيث يلحظ كانه هو المعنى، وبإلقاءه كأنه قد ألقي المعنى فيستحيل استعمال اللفظ في معنيين، حيث ان اللفظ لما كان يرى انه عين المعنى تصورا فلايمكن لحاظ اللفظ بلحاظ واحد مع ارادة معنيين متعددين منه، الا اذا كان المتكلم احول العين فيرى اللفظ الواحد لفظين، نعم بناء على كون اللفظ علامة على المعنى فاستعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد ممكن اذ لامانع من كون شيء واحد علامة لشيئين كوضع علم خاص على مكان ليدل على انه رأس الفرسخ مثلا وانه في المنطقة الفلانية([7]).
مناقشة مبنائیه: ان اللفظ مجرد علامة على المعنى لا الإفناء فی المعنی
وهذا الوجه ان تمّ بلحاظ المبنى صح ما ذكره صاحب الكفاية من استلزام ذلك استحالة استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد، حيث ان لحاظ اللفظ بلحاظ واحد يكون خلف إفنائه في كل من المعنيين باستقلالهما، وكيف يمكن لحاظ اللفظ بلحاظ واحد متحدا بالنظر الفنائي التصوري مع هذا المعنى باستقلاله وذاك المعنى باستقلاله، فمناقشتنا في هذا الوجه تكون مبنائية فانه ليس استعمال اللفظ في المعنى الا كاستعمال العلامة في ذيها، فان اللفظ مجرد علامة على المعنى ولااساس لما ذهب اليه المشهور من ان استعمال اللفظ في المعنى هو بإفناءه فيه افناءً لحاظيا فكأنه بإلقاء اللفظ قد ألقي المعنى، وما مر من كون المتعارف لحاظ اللفظ آليا وعدم الالتفات اليه تفصيلا فلاينافي لحاظ معنيين مستقلين من خلال لفظ واحد.
ادلی دلیل هو وقوع استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد
ومما يشهد على عدم تمامية مبنى المشهور هو وقوع استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد في الكلمات، فان أدلّ دليل على امكان الشيء وقوعه، فقد قال الشاعر:
المرتمي في دجىً والمبتلى بعمىً والمشتكي ظمأ والمبتغي دينا
يأتون سدته من كل ناحية ويستفيدون من نعمائه عينا1
فترى انه استعمل العين في معنى الشمس حيث ان المرتمي في دجىً يطلب ذلك، كما استعمله في معنى البصر حيث يطلبه المبتلى بعمىً، واستعمله أيضا في العين النابعة حيث يطلبها المشتكي ظمأ، واستعمله في الفضة حيث يطلبها المبتغي دينا، وقد مرّ نقل شعر آخر وهو قوله:
أي المكان تروم ثم من الذي تمضي إليه أجبته المعشوقا([8])
حيث استعمل لفظ المعشوق في معنيين احدهما قصر بسامرا وثانيهما من كان يعشقه الشاعر.
وقد سبق ذكر امثلة مثل قوله” قلب بهرام ما رهب”، وقوله “قلب كل ساق قاس” وقوله” قلب ملوم مولم”.
ان قلت: انه في هذه الامثلة قد لوحظ اللفظ في الذهن اكثر من مرة ففي كل مرة لوحظ فانيا في معنى معين، فيكون نظير ما لو تلفظ احد بلفظ جامع بين كلمة قريب وكلمة غريب من دون رعاية الفرق بين مخرج القاف والغين، كما هو دأب العجم، فأراد منه معنى القريب ومعنى الغريب، فانه ليس من استعمال لفظ واحد في معنيين وان كان المبرز لفظا واحدا.
قلت: يرد عليه اولا: انه لميلحظ في مورد استعمال اللفظ في اكثر من معنى الا المعاني المتعددة ثم توجه النفس الى لفظ واحد لإبراز تلك المعاني فيختلف عن مثل استعمال لفظ واحد شبيه بلفظ القريب والغريب.
وثانيا: انه لو فرض تعدد لحاظ اللفظ في الذهن في مورد استعمال اللفظ في اكثر من معنى فلايضر بالمقصود من اثبات امكان ابراز لفظ واحد وارادة اكثر من معنى منه.
2- عدم قدرة النفس فی صدور لحاظين مستقلين في آن واحد
2- ما عن المحقق النائيني “قده” من انه حيث يحتاج استعمال اللفظ في المعنى الى لحاظ المعنى استقلالا، فلو اريد استعمال اللفظ في معنيين في آن واحد فلازمه صدور لحاظين مستقلين من النفس في آن واحد، والنفس لاتقدر على ذلك([9]).
ويلاحظ عليه اولا: بالنقض بقولنا “زيد قائم”، فانه لو لميجتمع لحاظ الموضوع والمحمول في زمان واحد فكيف يمكن صدور الحكم من النفس بثبوت المحمول للموضوع.
وثانيا: بالنقض بصدور فعلين اختياريين من شخص في زمان واحد كصدور الكتابة والتكلم منه مع انهما محتاجان في صدورهما الى اللحاظ.
وثالثا: بان ما ذكره من عدم امكان لحاظين تفصيليين من النفس في آن واحد خلاف الوجدان جزما، فانا اذا راجعنا انفسنا وجدناها قادرة على تصور أمور متعددة في آن واحد.
ثم لايخفى انه لايصح ان يستند في هذا الوجه الذي ذكره المحقق النائيني”قده”الى قاعدة ان الواحد لايصدر عنه الا الواحد، حيث ان لازم ذلك عدم امكان صدور فعلين عنها ولو في زمانين مختلفين، والمهم ان هذه القاعدة لاتنطبق على افعال النفس لان النفس فاعل مختار، وقد مر ان هذه القاعدة لاتجري في الفاعل المختار مضافا الى ان مورد تلك القاعدة هو البسيط من جميع الجهات، والنفس ليست كذلك.
3-ان وجود اللفظ لايمكن ان يكون سببا لايجاد تصورين
3- ما حكي عن بعضٍ من ان وجود اللفظ لايمكن ان يكون سببا لايجاد تصورين، فانه يكون خلاف قاعدة ان الواحد لايصدر عنه الا الواحد.
وفيه اولا: ان سبب ايجاد تصورين هو تعدد القرينة او تعدد الوضع لااللفظ بذاته.
وثانيا: ان وجود اللفظ معد لتصور المعنى وليس علة فاعلة له، ولذلك يبقى التصور موجودا حتى بعد انعدام اللفظ، ولامانع من ان يكون شيء واحدا معدّا لشيئين.
وثالثا: ان ما ذكر لايسبب مشكلة في مرحلة الاستعمال، غايته انه لوتم ذلك لزم منه امتناع سببية اللفظ الواحد لتصور المعنيين، فيوجب ذلك اجمال اللفظ وعدم تصور السامع للمعنيين لاامتناع استعمال المتكلم اللفظ في اكثر من معنى واحد.
4- استحالة اجتماع اللحاظين
4- ما ذكره المحقق العراقي “قده” من انه حيث يلزم في الاستعمال عبور اللحاظ من اللفظ الى المعنى واستقراره عليه فمع تعدد المعنى فلابد من تعلق اللحاظين الآليين باللفظ وهو محال لاستلزامه اجتماع اللحاظين([10]).
ويلاحظ عليه اولا: ان المراد من آلية لحاظ اللفظ هو كون اللفظ مع وجوده في الذهن مغفولا عنه حسب المتعارف وهذا محفوظ في المقام ايضا.
وثانيا: ان التعبير من عبور اللحاظ من اللفظ الى المعنى واستقراره عليه غير متجه، أما المتكلم فانه يلحظ المعنى قبل لحاظه اللفظ، واما السامع فلحاظه للفظ موجب لانتقال ذهنه الى لحاظ المعنى فهناك لحاظان، وان كان لحاظ اللفظ مغفول عنه تفصيلا حسب المتعارف، فلاينبغي التعبير بعبور اللحاظ من اللفظ الى المعنى حيث يوهم ذلك ان هناك لحاظا واحدا يعبر من اللفظ ويصل الى المعنى.
5- لايمكن ان يكون لفظ واحد وجودا تنزيليا لمعنيين
5- ما ذكره المحقق الاصفهاني “قده” من ان الاستعمال لما كان ايجاد المعنى باللفظ بالعرض أي تنزيلا وادعاء، اذ اللفظ منزّل منزلة المعنى، فيكون اللفظ وجودا تنزيليا للمعنى، فلايمكن ان يكون لفظ واحد وجودا تنزيليا لمعنيين لانه كما لايمكن ان يكون شيءواحد وجودا حقيقيا لشيئين فكذلك لايمكن ان يكون وجودا تنزيليا لهما.
وبالجملة ان اللفظ اذا استعمل في معنى باستقلاله فمعناه ان اللفظ ايجاد تنزيلي مستقل لذلك المعنى، وهذا يعني أن اللفظ وجود تنزيلي مستقل لذلك المعنى، وحيث انه ليس الوجود التنزيلي للمعنى الا نفس الوجود الحقيقي للفظ فالاستقلال في الوجود التنزيلي يقتضي الاستقلال في الوجود الحقيقي، فلايمكن ان يكون الوجود الحقيقي واحدا ومع ذلك يكون وجودين تنزيليين لمعنيين([11]).
وفيه اولا: ان هذا خلف مبناه في تفسير حقيقة الوضع من انه اعتبار اللفظ على المعنى كوضع العَلَم على المكان ليدل على انه رأس الفرسخ، فان تنزيل اللفظ منزلة المعنى لابد ان يكون في مرحلة الوضع كما صرح بذلك نفسه في بحث علامات الحقيقة والمجاز([12]).
وثانيا: انه لامانع من تنزيل شيء واحد منزلة شيئين فان التنزيل والادعاء سهل المؤونة، ولولا ذلك لامتنع الاشتراك اللفظي ووضع لفظ واحد على اكثر من معنى، وحيث ان المفروض امكانه فيكون استعمال حينئذ ايجادا لجميع المعاني الموضوع له اللفظ بالإيجاد التنزيلي.
وثالثا:ان الاستقلال في الاستعمال يعني لحاظ المعنى بما هو على نحو يُرَى اللفظ منبسطا عليه ومتحدا معه بالنظر التصوري، في قبال ان يرى اللفظ منبسطا على مجموع المعنيين، فما ذكره من انه لايجتمع وحدة الوجود الحقيقي للفظ مع تعدد وجوده التنزيلي المستقل للمعنى ففي غير محله، حيث ان الاستقلال في الوجود التنزيلي للمعنى يجتمع مع ان يكون وجود حقيقي واحد منزلا منزلة معنيين مستقلين.
الانصاف عدم تمامية أي من هذه الوجوه على الاستحالة
فالانصاف عدم تمامية أي من هذه الوجوه على استحالة استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد.
کلام المحقق الحائري “قده”
هذا، وقد نقض المحقق الحائري “قده” على القول باستحالة استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد بموردين:
1- مورد استعمال العام الاستغراقي حيث يلحظ عنوان واحد فانيا في افراده المتكثرة كقولنا “كل عالم” فاذا امكن ذلك امكن في مقام الاستعمال أيضا ان يلحظ لفظ واحد فانيا في معان متكثرة.
2- مورد الوضع العام والموضوع له الخاص، حيث يلحظ العنوان العام فانيا في مصاديقه([13]).
واورد عليه المحقق الاصفهاني “قده” بان قياس المقام بالعام الاستغراقي او الوضع العام والموضوع له الخاص قياس مع الفارق، لان اللفظ وجود تنزيلي للمعنى وليس الحكم بالنسبة الى متعلقه او موضوعه كذلك، كما ان الوضع بالنسبة الى اللفظ والمعنى حكم اعتباري متعلق بموضوعه، فيختلف عن نسبة اللفظ مع المعنى([14]).
اقول: ان نظر المحقق الحائري “قده” الى ان عنوان “كل عالم” يلحظ فانيا في مصاديقه مع كثرتها، وكذا العنوان العام كعنوان مصداق النسبة الابتدائية يلحظ في الوضع العام والموضوع له الخاص فانيا في مصاديقه، فيستنتج من ذلك انه يمكن لحاظ عنوان واحد فانيا في مصاديق كثيرة، فليكن استعمال اللفظ في اكثر من معنى مثله، حيث يلحظ اللفظ فانيا في معان متعددة.
نعم يرد على المحقق الحائري “قده” ان لحاظ المعنى الواحد المنتزع عن الافراد بنحو يكون فانيا في تلك الافراد فناء العنوان في معنونه غير كون اللفظ الملحوظ بلحاظ واحد يرى تصورا كونه هذا المعنى باستقلاله وذاك المعنى الآخر باستقلاله، فان الانصاف انه بناء على كون استعمال اللفظ في المعنى إفناء له في المعنى فيحتاج استعمال اللفظ في معنيين لحاظ اللفظ مرتين، وأما لحاظ العام الاستغراقي فانيا في مصاديقه فيكون لحاظه فانيا في الأفراد من باب فناء العنوان في المعنون، وكذا في الوضع العام والموضوع له الخاص يلحظ عنوان فرد النسبة الابتدائية فانيا في واقع فرد النسبة الابتدائية فناء العنوان في المعنون.
الجهة الرابعة: فی صحة هذا الاستعمال لغة
الجهة الرابعة: بعد الفراغ عن امكان استعمال اللفظ في اكثر من معنى فقد وقع الكلام في انه هل يكون هذا الاستعمال صحيحا لغة ام لا؟
فيقع الكلام تارة في المفرد وأخرى في التثنية والجمع،
الف) استعمال اللفظ المفرد في اكثر من معنى
أما استعمال اللفظ المفرد في اكثر من معنى فقد ذهب جمع -منهم صاحب المعالم “قده”- الى ان اللفظ المشترك موضوع على كل واحد من معانيه بقيد الوحدة، فلفظ العين مثلا موضوع لمعنى الذهب بشرط وحدته، ومن الواضح ان المراد من الوحدة ليس الوحدة بمعنى كون معنى الذهب مثلا مستعملا فيه بما هو لابما هو جزء للمعنى المركب، لفرض عدم الإخلال بهذه الوحدة في فرض استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد، حيث استعمل لفظ العين مثلا في معنى الذهب باستقلاله وفي معنى الفضة باستقلاله، بل المراد من قيد الوحدة هو اشتراط وضع لفظ العين في معنى الذهب مثلا بشرط عدم استعماله في معنى آخر، وحيئنذ فيكون استعمال لفظ العين في كل من معنى الذهب باستقلاله ومعنى الفضة باستقلاله فاقدا لهذا الشرط.
ولايخفى انه ليس المقصود من الشرط هنا ما يشبه الشرط في ضمن العقد، كما في شرط الزوجة حين عقد الزواج ان لايتزوج الرجل من امرأة أخرى، كي يقال حينئذ بانه لادليل اولاً على وجوب الوفاء بهذا الشرط المقترح من قبل الواضع وثانياً لو فرض وجوب الوفاء به لكن لايوجب تخلفه صيرورة الاستعمال مجازا فضلا عن كونه غلطا.
بل المقصود من الشرط هو تقييد الوضع، فتصير العلقة الوضعية بين اللفظ والمعنى مقيدة بحال عدم استعماله في معنى آخر، نظير ما لو وضع الواضع لفظا على معنى بشرط استعماله فيه في النهار، بحيث لو استعمله فيه في الليل كان خارجا عن إطار الوضع وصار مهملا.
ولكن يرد عليه اولا: أن تقييد العلقة الوضعية خلاف المرتكز العرفي، فانا حينما نراجع انفسنا نجد اننا حينما نسمي ولدنا باسم نجعله علامة عليه من دون ان نقيد هذا الجعل باي قيد خاص.
وثانيا: قد مر انه بناء على كون الوضع هو القرن الأكيد فلايعقل تقييد الوضع أبدا فان اختصاص القرن الأكيد بحال دون حال غير معقول، اذ القرن الاكيد بين اللفظ والمعنى ان فرض تحققه فلامحالة يستتبع تصور اللفظ تصور المعنى في جميع الحالات، وان فرض عدم تحققه فلايستتبع تصور اللفظ تصور المعنى مطلقا وفي أي حال من الحالات، بل بناء على كون الوضع هو الاعتبار -كما اخترناه سابقا حيث قلنا بانه اعتبار اللفظ علامة على المعنى- فحيث ان الغرض من هذا الاعتبار هو تحقق القرن الأكيد بين اللفظ والمعنى فيلغو تقييد هذا الاعتبار بحال دون حال بعد ان لميمكن التحفظ على هذا التقيد في مرحلة القرن الأكيد.
هذا، وقد ذكر المحقق العراقي “قده” نكتتين.
1- ان اخذ قيد الوحدة قيدا في المعنى الموضوع له محال، فان الوحدة اللحاظية في مقام الاستعمال تكون من خصوصيات الاستعمال فلايعقل اخذها في المعنى المستعمل فيه الذي هو سابق رتبة على الاستعمال.
2- ان تقييد وضع لفظ العين مثلا على معنى الذهب بقيد الوحدة وان كان مستحيلا، لكن يمكن ان يقال بان غرض الواضع من الوضع لما كان متضيقا ومختصا بفرض استعمال هذا اللفظ في معنى الذهب في حال عدم ارادة معنى الفضة معه فيوجب ذلك تضيق الوضع قهرا، وبتبعه يتضيق المعنى الموضوع له كذلك، نظير ما يقال في الأمر العبادي بان اخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر وان كان مستحيلا لكن ضيق غرض المولى من الأمر –حيث تعلق غرضه بخصوص إتيان متعلق الأمر بقصد امتثال الأمر- يوجب تضيق الأمر قهرا، وبتبع ذلك يتضيق الطبيعة المأمور بها قهرا وسمّى ذلك بالحصة التوأمة([15]).
اقول: اما النكتة الأولى فيرد عليها اولا: انه انما يأتي هذا الاشكال بناء على كون المدعى أخذ قيد الوحدة في المعنى الموضوع له مباشرة، ولايأتي فيما لو كان المدعى تقييد الوضع بقيد الوحدة بمعنى ان وضع لفظ العين مثلالمعنى الذهب مختص بفرض استعماله فيه وحده فلو استعمله المتكلم فيه وفي غير ه معا كان خارجا عن دائرة الوضع، نعم قد مر أنه بناء على كون الوضع هو القرن الاكيد فلا يمكن تقييد الوضع بحال دون حال.
وثانيا: لو فرضنا اخذ قيد الوحدة في المعنى الموضوع له فمعناه كون لفظ العين مثلا موضوعا لمعنى الذهب وحده اي بشرط عدم لحاظ معنى الفضة مثلا حين استعمال لفظ العين في معنى الذهب، وليس لحاظ معنى الفضة او عدم لحاظه متأخرا رتبة عن معنى الذهب، وانما المتأخر رتبة عن معنى الذهب هو لحاظ نفس هذا المعنى.
واما النكتة الثانية فيرد عليها اولا: ما قد ذكرنا من أن الغرض من الوضع هو حصول القرن الأكيد بين اللفظ والمعنى، وهذا الغرض مما لايختص بحال دون حال.
وثانيا: ان ضيق الغرض والداعي من إنشاء الوضع لايوجب تضيق نفس الوضع، كما ان تضيق الغرض من إنشاء الحكم لايوجب تضيق نفس الحكم، فلو كان غرض المولى وداعيه من الأمر هو تحريك العبد فلايعني ذلك اختصاص الأمر بخصوص فرض محركيته بحيث لايشمل فرض عصيانه، وهكذا في الأمر العبادي فانه بناء على استحالة أخذ قصد امتثال الأمر في متعلق الأمر فتكون استحالة التقييد مستتبعة لضرورة الاطلاق، ولاينافيه كون غرض المولى مختصا بخصوص اتيان متعلق الأمر العبادي بقصد الامتثال، فان اختصاص الغرض بذلك –سواء اريد من الغرض الملاك او ارادة المولى- لايكفي في تضيق متعلق الأمر، فيلزم للمولى ان يبرز ضيق غرضه بالإخبار عن ذلك او بنتيجة التقييد.
ثم انه قد ذكر المحقق القمي “قده” ان الواضع وان لميصرح باشتراط المعنى بشرط الوحدة لكنه حال الوضع قد لاحظه وحده فلابد في مرحلة الاستعمال من رعاية ذلك([16]).
وفيه: انه ان كان مقصوده اشتراط الواضع هذا الشرط بحسب ارتكازه فقد مر انه ليس من هذا الاشتراط في ارتكاز الواضع أي عين ولااثر، وان كان مقصوده مجرد بيان حال الواضع فلاملزم لرعاية حال الواضع في مرحلة الاستعمال ككونه جالسا حين الوضع بنحو ذلك.
الصحيح عدم تقيد وضع اللفظ على المعنى بقيد الوحدة
فالمتحصل ان الصحيح عدم تقيد وضع اللفظ على المعنى بقيد الوحدة أي بعدم استعماله في معنى آخر.
ثم ان صاحب الكفاية “قده” ذكر انه لو كان المعنى مقيدا بقيد الوحدة فاستعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد يكون غلطا، لأن وضع اللفظ للمعنى بشرط عدم استعماله في معنى آخر يكون مباينا مع استعماله في المعنى بشرط استعماله في معنى آخر ايضا، فاستعمال اللفظ في المعنيين معا لايكون بعلاقة الجزء والكل([17]).
وفيه: اولا: انه بناء على مسلكه “قده” يكفي في صحة الاستعمال استحسان الطبع.
وثانيا: ان المستعمل في لفظ العين في موارد استعماله في اكثر من معنى واحد هو ذات معنى الذهب وذات معنى الفضة، فيكون اللفظ مستعملا في نفس ذلك المعنى وانما يكون فاقدا لشرط المعنى، وهو عدم استعماله في معنى آخر.
هذا ولو كانت الوحدة وعدم استعمال اللفظ في معنى آخر قيدا للوضع من دون ان يلحظ قيدا في المعنى الموضوع له مباشرة، فيكون المستعمل فيه في موارد استعمال اللفظ في اكثر من معنى هو نفس المعنى الموضوع له عرفا وان لميراع فيه شرط الوضع، فيكون نظير ما لو وضع لفظ على معنى بشرط استعماله فيه في النهار مثلا فاستعمل في نفس ذلك المعنى في الليل، فانه وان كان خارجا عن إطار الوضع لكنه مستعمل في نفس المعنى الموضوع له.
وكيف كان فالظاهر ان استعمال اللفظ المفرد في اكثر من معنى ممكن عقلا وصحيح لغة، بل يكون استعمالا حقيقيا، ولكنه خلاف الظاهر، فان ظاهر حال المتكلم عرفا وعقلاء هو ان يستعمل اللفظ الواحد في معنى واحد، فما عن السيد البروجردي “قده” من انه بناء على امكان استعمال اللفظ في اكثر من معنى فيكون مقتضى اصالة العموم هو ارادة جميع معان اللفظ غير تامّ، لان المدار على الظهور، ولايظهر من اللفظ المشترك هو استعماله في جميع معانيه.
ب) استعمال التثنية والجمع في اكثر من معنى
هذا كله في استعمال اللفظ المفرد في اكثر من معنى واما استعمال التثنية والجمع في اكثر من معنى فقد ذهب جمع ممن اختار عدم صحة استعمال اللفظ المفرد في اكثر من معنى الى صحة استعمال التثنية والجمع في ذلك، فقد ذكر صاحب المعالم “قده” ان التثنية او الجمع في قوة تكرار لفظ المفرد، فقوله “عينان” يكون في قوة “عين وعين” ولامانع من ارادة الذهب من الاول والفضة من الثاني ولايضر ذلك باشتراط الوحدة([18]).
وردّ عليه جمع -منهم السيد الخوئي “قده”- بانه اما ان يراد من المفرد الذهب والفضة معا على نحو استعمال اللفظ في اكثر من معنى واحد فيكون تثنيته بمعنى فردين من الذهب وفردين من الفضة، وارتكاب خلاف الظاهر فيه يكون ناشئا عن استعمال المفرد في معنيين، واما هيئة التثنية فمستعملة فيما وضع له، اذ هي موضوعة لبيان تعدد افراد معنى المفرد، فلو كان معنى المفرد في حد ذاته متعددة فيكون تثنيته لأجل تكرر هذا المعنى المتعدد، نظير تثنية العشرة بعشرتين، هذا، واما اذا اريد من لفظ “عينين” في قوله “جئني بعينين” الذهب والفضة فهو غير معقول لان التثنية وضعت لإفادة تكرر افراد معنى المفرد، فلو صدر هذا الخطاب فلابد من حمله على إرادة الأمر بإتيان مسميان بلفظ العين كما في تثنية العلم مثل قولنا” جاء زيدان” حيث لابد من تأويله بانه جاء مسميان بزيد، وعليه فما ذهب اليه مثل صاحب المعالم “قده” من التفصيل بين استعمال اللفظ المفرد في اكثر من معنى وبين استعمال الثنية او الجمع في اكثر من معنى باختيار جواز الثاني دون الاول فليس له وجه ابدا.
وقد اورد في البحوث على ما ذكروه -من انه لو أريد من لفظ العينين فردان من الذهب وفردان من الفضة فلم تستعمل هيئة التثنية في اكثر من معنى، وانما استعملت مادّتها اي لفظ العين في اكثر من معنى- بانه في هذا المثال قد استعملت التثنية في اكثر من معنى على مستوى المادة والهيئة معا، فان هيئة التثنية موضوعة لإفادة تكرر مدلول مستقل واحد لمادّتها، فلو كان للمادة مدلولان مستقلان فإفادة تكرر كل من هذين المدلولين تستلزم استعمال هيئة التثنية أيضا في اكثر من معنى، فيكون في استعمال لفظ العينين وارادة فردين من معنى الذهب وفردين من معنى الفضة مخالفة للظهور من جهتين، واين هذا من تثنية عشرة التي لمتستعمل مادتها الا في مدلول واحد، نعم لو فرض استعمال مادة التثنية في مجموع المعنيين -كما لو استعمل لفظ العين في المركب من الذهب والفضة – فحينئذ يكون مدلوله واحدا وان كان مركبا، وعليه فلاتكون هيئة التثنية مستعملة في اكثر من معنى([19]).
الموضوع له لهيئة التثنية
ويلاحظ عليه: انه لميظهر لنا اختصاص وضع التثنية لإفادة تكرر مدلول مستقل واحد للمادة، اذ يمكن ان يقال بان التثنية نظير ما لو قال المولى اولاً: جئني بعين، واراد من لفظ العين كلا من الذهب والفضة باستقلالهما، ثم قال ثانياً: يجب ان تأتي بفردين مما قلت، فان معناه إيجاب الإتيان بفردين من الذهب وفردين من الفضة، ولايكون كلامه الثاني مخالفا لأيّ ظهور، وانما المخالف للظهور هو كلامه الأول، حيث استعمل لفظ العين في اكثر من معنى واحد.
ثم ان ما ذكروه -من ان هيئة التثنية قد وضعت لإفادة تكرر أفراد معنى واحد فلايعقل ان يراد من لفظ العينين فرد من الذهب وفرد من الفضة، وأما قولنا “جاء زيدان” فلابد ان يأوّل الى انه جاء مسميان بزيد- فيرد عليه ان تأويل تثنية العَلَم الى ارادة المسمى من اللفظ خلاف الوجدان اللغوي، ففرق بين ان يقال جاء مسميان بزيد وان يقال جاء زيدان، فان الاول نكرة دون الثاني، فتأويل “جاء زيدان” الى أنه “جاء مسميان بزيد” يحوِّله من المعرفة الى النكرة، مع انه خلاف الوجدان اللغوي.
ان قلت: انه لامانع من كون المراد من قولنا جاء زيدان انه جاء المسميان بزيد فلايخرج بذلك عن كونه معرفة.
قلت: ان ذلك يوجب افتقاده لمعنى العَلَمية وهو خلاف الوجدان اللغوي ايضا.
هذا، وقد ذكر المحقق العراقي “قده” انه لو تم هذا التأويل في العَلَم فلايتم جزما في تثنية اسم الإشارة لتوغلها في التعريف، فلايمكن إرجاعها الى النكرة، فلابد ان يفسر تثنية اسم الاشارة بانه يلحظ المعنى الكلي وهو المفرد المذكر المشار اليه فيثنّى قبل عروض الاشارة اليه، ثم يعرضه الاشارة([20]).
وفيه ان المادة التي تعرضه هيئة التثنية في اسم الاشارة ان جردت عن خصوصية الإشارة فلابد ان تستفاد خصوصية الاشارة من هيئة التثنية، وهذا يعني كون وضع هيئة التثنية في اسم الاشارة وضعا شخصيا على خلاف وضع هيئة التثنية في سائر الموارد، وهذا هو الذي انكره المحقق العراقي بنفسه، حينما ذكر صاحب الفصول”ره” ان التثنية في اسم الإشارة موضوعة بوضع شخصي على معناها، فردعليه المحقق العراقي “قده” بانه مخالف للذوق السليم الحاكم بكون وضع هيئة التثينة على معناها وضعا نوعيا مطلقا.
هذا، ولكن يمكن ان يقال في تفسير تثنية اسم الاشارة بان المفرد منه مثل “هذا” يدل على الشيء الواحد المتحصص بوقوع الاشارة اليه بنفس هذا اللفظ، وهذا المعنى وان لميكن معنى كليا على حد المفاهيم الاسمية لكنه بالنظر العرفي قابل للتعدد وهيئة التثنية تدل على تعدده، ولكن لايرتفع به الإشكال في الأعلام، حيث ان الموضوع له في الأعلام لما كان جزئيا حقيقيا عقلا وعرفا، فبناء على كون هيئة التثنية دالة على تكرر أفراد المعنى الواحد فيشكل الأمر في تثنيته، وقد مر ان تأويل تثنية العَلَم كزيدين الى مسميين بزيدين خلاف الوجدان اللغوي.
التثنیه موضوعة لإفادة تكرر طبيعي معنى المفرد
والحلّ ان يقال انه لادليل على وضع هيئة التثنية على افادة تكرر افراد المعنى الواحد، بل هي موضوعة لإفادة تكرر طبيعي معنى المفرد بلافرق بين كونه بنحو تكرر افراد معنى واحد او تعدد ذات المعنى، فوضعت التثنية لتكون في قوة تكرر لفظ المادة من حيث افادته معنىً ما، وهذا يصح حتى في تثنية اللفظ المهمل كقولنا ديزان، فانه لوحظ في هيئة التثنية فيها افادة تكرر المعنى لو كان للفظ معنى، وبناء على ذلك ففي مثل قولنا” جاء زيدان” فحيث يكون الأمر منحصرا بافادة تكرر معنيين، دون تكرر افراد معنى واحد فيتعين الأمر فيه لامحالة، وكذا في تثنية اسم الإشارة، وأما في أسماء الأجناس كقولنا” جئني بعينين” فلاتدل هيئة التثنية الا على تكرر ما للفظ المفرد من طبيعي المعنى، وهذا كما يجتمع مع ارادة تكرر افراد معنى واحد كالذهب يجتمع مع ارادة تكرر معنيين كان يراد منه معنى الذهب ومعنى الفضة، وهكذا الأمر في الجمع، وبناء على ذلك فلو نهى المولى عن الإتيان بمجموع العيون التي تكون في الدار، وعلمنا بانه اراد الذهب جزما، فكما انه يحتمل ان يكون نهيه متعلقا بالإتيان بمجموع افراد الذهب الموجودة في الدار كذلك يحتمل ان يكون نهيه متعلقا بالإتيان بمجموع افراد الذهب والفضة الموجودة في الدار، وحينئذ فتصل النوبة الى الاصل العملي، ومقتضى الاصل العملي في المثال هو البراءة عن حرمة الإتيان بمجموع افراد الذهب، وانما القدر المتيقن هو حرمة الإتيان بمجموع افراد الذهب والفضة الموجودة في الدار.
نعم يمكن ان يقال بان ظاهر حال المتكلم هو ارادة تعدد افراد معنى واحد، الا في مثل تثنية العَلَم او جمعه حيث ينحصر الأمر فيهما بإرادة تعدد المعنى.
هذا، وقد ذكر في البحوث وجها لإثبات وضع هيئة التثنية على الجامع بين إفادة تكرر افراد معنى واحد او تعدد المعنى، ومحصل هذا الوجه هو ان اللفظ المشترك الموضوع على معنيين مثلا وان كان يوجب حصول كلا معنييه في ذهن المخاطب حسب اقتران الأكيد بين اللفظ والمعنى، لكن لايدل على استعمال المتكلم لهذا اللفظ الا في احد المعنيين لابعينه، ولانعني من ذلك مفهوم احدهما بل واقع احدهما، نظير قيام البينة على نجاسة احد الإنائين، فانها قامت على نجاسة واقع معين يعبر عنه بعنوان احدهما كما هو واضح، وحينئذ فاذا قال المتكلم “رأيت زيدا” وكان زيد اسما لابن عمرو وابن بكر، دل ذلك على استعماله له في معنى معين واقعا ولكنه مردد بحسب مقام الاثبات بين زيدبن عمرو وبين زيد بن بكر، ولكن يعلم انه ليس مراده الاستعمالي شخصا ثالثا غيرهما، فلو قال رأيت زيدين دل على انه قصد شخصين ليسا غير ابن عمرو وابن بكر فينطبق عليهما لامحالة، وحيث ان لفظ زيد كان يدل على معنى جزئي واقعا فلايخرج عن العَلَمية وحيث يكون مترددا اثباتا بين شخصين يكون قابلا للتعدد، وهكذا في اسم الإشارة، فان لفظ “هذا” مستعمل في معنى جزئي واقعا، ولأجل ذلك لميخرج عن معناه الحرفي حيث يدل على واقع الفرد ويكون معرفة، لكن المشار اليه لما كان مرددا بين شيئين إثباتا، فلأجل هذا التردد يكون قابلا للتكثير والتثنية، ولايلزم في تصوير هذا الوجه ان يكون الفرد المردد معقولا واقعا، بل يكفي كونه معقولا عرفا، وبهذا الوجه يمكن تصحيح استعمال لفظ العينين في اكثر من معنى، حيث يدل لفظ العين على استعمال المتكلم له في احد معنييه ولأجل تردد المعنى المستعمل فيه إثباتا يكون قابلا للتكثير والتثنية([21]).
ولايخفى ان هذا الوجه لايجدي شيئا في انكار وضع التثنية لخصوص إفادة تعدد افراد معنى واحد، فانه بعد كون المفروض دلالة اللفظ على استعمال المتكلم له في معنى معين فقد يدعى وضع هيئة التثنية لإفادة تعدد افراد المعنى المستعمل فيه وان لميعرفه المخاطب بعينه، فالمهم هو إنكار دعوى وضع هيئة التثنية على خصوص افادة تعدد افراد معنى واحد.
هذا ومن جهة أخرى ان ما ذكر في هذا الوجه من انه يبتني على كون الفرد المردد معقولا عرفا وان لميكن معقولا عقلا ففيه ان الذي يكون بحاجة الى المعقولية العرفية هو ما ليس له واقع معين ابدا كما لو علم اجمالا بنجاسة احد ترابين واحتمل نجاسة التراب الآخر بحيث لو كانا نجسين واقعا لميتعين انطباق المعلوم بالإجمال على احدهما المعين دون الآخر كما لو سقطت قطرة بول من السقف واحتملنا ان هذه القطرة حين وقوعها على الأرض انقسمت الى جزئين ووقع كل جزء على احد الترابين، فإجراء اصالة الطهارة في التراب الآخر غير ما علم اجمالا نجاسته يبتني على معقولية الفرد المردد عرفا، حيث لايكون للتراب الآخر واقع معين فيكون من الفرد المردد الذي لايكون معقولا عقلا، حيث ان الوجود يساوق التشخص والتعين، ولايوجد في الواقع فرد مردد، فان الفرد المردد لاهوية له ولاماهية، ولكنه يكفي معقوليته عرفا حيث ان العرف يرى وجود الفرد المردد في الخارج، ولذا يقول أعلم بنجاسة احد الترابين وأشكّ في نجاسة الآخر، فكما يدعي العرف الشك في نجاسة الآخرمع انه لاتعين له واقعا فكذلك يراه موضوعا لاصالة الطهارة، فليس عندنا محذورٌ اثباتي.
واما المحذور الثبوتي وهو عدم وجود الفرد المردد عقلا، فانما يتم لو كان الموضوع بالذات لاصالة الطهارة هو الخارج، مع انه ليس كذلك بل الموضوع بالذات لها هو العنوان الذهني وان لوحظ فانيا في الخارج بالنظر التصوري العرفي كما في سائر موضوعات الأحكام، وعنوان التراب الآخر وان كان بالحمل الاولي فردا مرددا لكنه بالحمل الشايع موجود ذهني متعين، واثر جريان الاصل أيضا متعين، وهو جواز الاكتفاء بتكرارالتيمم بهما.
ونظير المقام بيع الكلي في المعين، حيث أن المبيع يعتبر بنظر العرف موجودا في الخارج ولكن ليس فردا معينا من الافراد الموجودة في الخارجوقدفصلنا الكلام حول ذلك في بحث التعارض.
وأين هذا من المقام مما يدل اللفظ على استعماله في معنى معين واقعا.
هذا كله مضافا الى ما ذكره في البحوث في الإيراد على هذا الوجه بانه بناء على ما هو الصحيح من كون الوضع هو القرن الاكيد بين اللفظ والمعنى فتكون الدلالة الوضعية دلالة تصورية ولايجوز تفسير وضع هيئة التثنية بما يربطه بمرحلة الدلالة التصديقية وهي كون المتكلم في مقام تفهيم المعنى.
وكيف كان فالمهم هو انكار وضع هيئة التثنية لخصوص افادة تعدد افراد معنى واحد، فان الظاهر وضعها لإفادة تكرر طبيعي المعنى إما بنحو تعدد أفراد معنى واحد او بنحو تعدد ذات المعنى، كما في مثل تثنية العلم فانه اقوى شاهد على عدم اختصاص وضع التثنية لخصوص افادة تعدد افراد معنى واحد.
هذا وقد اختار المحقق الايرواني “قده” ان هيئة التثنية قد وضعت لإفادة تكرر لفظ المادة لابما هو هو -فلايصح ان يقال” اكتب زيدين” ويراد منه الأمر بكتابة زيد مرتين- بل بما له من المعنى، فبدلا عن تكرار لفظ زيد يقال زيدان اي زيد وزيد، فيمكن في مثل “جئني بعينين” ان يراد وجوب الإتيان بفرد من الذهب وفرد من الفضة([22]).
وقد ذكر في البحوث ان المادة في التثنية غير مستعملة في معنى، بل هيئة التثنية مستعملة في افادة تكرر لفظ المادة، فبدل ان يقول عين وعين يقول عينين ويريد بذلك اخطار تصور عين وعين قاصدا بهما افهام المعنيين.
ثم نقل في البحوث كلام المحقق الاصفهاني “قده” من ان مادة التثنية مستعملة للدلالة على نوع لفظ مفرد، فهو من باب استعمال اللفظ في نوعه بما هو دال على المعنى، فتدل هيئة التثنية على فردين من نوع لفظ المفرد بما انهما دالان على معنييهما([23]).
وناقش فيه بان أخذ قيد الدلالة على المعنى في المستعمل فيه ان كان بمعنى اخذ مفهوم الدلالة قيدا -فمضافا الى كونه خلاف الوجدان، حيث لايفهم من لفظ التثنية مفهوم الدلالة – لايجدي شيئا، لان المطلوب هو واقع الدلالة على المعنى، وان كان بمعنى واقع الدلالة على المعنى ووجودها فيلزم من ذلك محذور آخر، حيث ان العلقة الوضعية بناء على المسلك الصحيح تكون بمعنى القرن الأكيد بين اللفظ والمعنى، والقرن الأكيد بينهما يعني استتباع تصور اللفظ لتصور المعنى، ولايعقل القرن الأكيد بين تصور لفظ التثنية وبين التصديق بلحاظ المتكلم دلالته على المعنى([24]).
ويلاحظ على مااختاره في البحوث بان الغرض من وضع التثنية وان كان هو الإغناء عن تكرر لفظ المفرد لكن لايعني ذلك وضع هيئة التثنية لإفادة تكرر لفظ المادة، بان يسبب هيئة التثنية كعينين تصور السامع لفظ العين مرتين.
فانه اولا: يرد عليه النقض بموارد الجمع كما في قولنا” العلماء”، فان لازم ما ذكره هو تسبب هيئة الجمع لإخطار لفظ العالم مرات كثيرة في ذهن المخاطب.
وثانيا: انه خلاف المرتكز العرفي حيث انه لايخطر في ذهن السامع عند سماعه لفظ زيدين مثلا الا ذلك الشخصان اللذين وضع لفظ زيد عليهما، كما كان سماع لفظ “زيد وزيد” يوجب إخطارهما في ذهن السامع.
وثالثا: ان مقصوده مما ذكره من ان المادة في التثنية غير مستعملة في معنى بل هيئة التثنية مستعملة في افادة تكرر لفظ المادة، ان كان هوافادة تكرر لفظ المادة بما هوهو لزم من ذلك صحة ان يقال “اكتب زيدين” ويراد منه الأمر بكتابة زيد مرتين، وقد مر انه خلاف الوجدان، وان كان مقصوده إفادته تكرر لفظ المادة بما هو دال على المعنى فهو رجوع الى ما ذكره المحقق الاصفهاني “قده”، وقد ناقش فيه آنفا.
فالانصاف انه لايختلف عرفا لفظ زيدين مثلا عن زيد وزيد، فكما ان لفظ زيد وزيد يوجب إخطار معنيين جزئيين وهما ذلك الشخصان اللذان وضع بإزائهما لفظ زيد من غير تقدم لأحدهما على الآخر، فلو سمع هذا اللفظ من تموّج الهواء فيوجب بمجموعه إخطار كلا المعنيين الجزئيين في ذهن السامع فكذلك لفظ زيدين يوجب بمجموع مادته وهيئته إخطار هذين المعنيين الجزئيين في ذهن السامع، فلايعني دلالة هيئة التثنية على تكرر طبيعي معنى المادة ان مادة التثنية قد استعملت في معنى معين من احد المعنيين، كما لايعني عدم استعمال مادة التثنية في معنى معين وضع هيئة التثنية لإفادة تكرر لفظ المادة.
والحاصل ان الصحيح هو كون الموضوع له لهيئة التثنية تكرر طبيعي معنى المادة إما بنحو تعدد افراد معنى واحد او بنحو تعدد ذات المعنى.
فتحصل: امكان استعمال التثنية والجمع والمفرد في اكثر من معنى
فتحصل مما ذكرنا امكان استعمال التثنية والجمع بل المفرد في اكثر من معنى، وان كان يحتاج ذلك الى قرينة تدل عليه.
الجهة الخامسة: امثلة شرعية
الجهة الخامسة: يمكن ان تذكر أربعة امثلة شرعية وقع الكلام في كونها من استعمال اللفظ في اكثر من معنى.
الأول: ما اذا ورد في خطاب واحد الأمر بفعلين وثبت من الخارج عدم وجوب احدهما
الأول: ما اذا ورد في خطاب واحد الأمر بفعلين وثبت من الخارج عدم وجوب احدهما كما في قوله اغتسل للجمعة والجنابة، حيث ثبت بالارتكاز القطعي المتشرعي عدم وجوب غسل الجمعة فيقع الكلام في انه هل يمكن التمسك بهذا الخطاب لإثبات وجوب غسل الجنابة ام لا؟ فقد يقال بانه يلزم من الجمع بين ارادة استحباب غسل الجمعة ووجوب غسل الجنابة استعمال صيغة الأمر في معنيين، وهو إما مستحيل كما عليه المشهور او خلاف الظاهر كما هو الصحيح.
ولكنه يبتني على مسلك من يرى كون دلالة صيغة الأمر على الوجوب ثابتة بالوضع كما عليه صاحب الكفاية “قده”، وأما بناء على كون دلالتها على الوجوب ثابتة بمقدمات الحكمة كما هو الصحيح فلايلزم من ارادة وجوب غسل الجنابة واستحباب غسل الجمعة استعمال اللفظ في اكثر من معنى لان صيغة الأمر قد استعملت في معناها الموضوع له وهو جامع الطلب ويكون الدال على الوجوب مقدمات الحكمة من باب تعدد الدال والمدلول، وقيام القرينة على عدم وجوب غسل الجمعة لايقتضي رفع اليد عن الدلالة الاطلاقية بالنسبة الى وجوب غسل الجنابة، فيلتزم باستحباب غسل الجمعة ووجوب غسل الجنابة، نظير ما لو ورد في خطاب “ان ظاهرت او أفطرت فأعتق رقبة” ثم دل دليل آخر على لزوم كون الرقبة التي تعتق في كفارة الظهار مؤمنة، فانه لايوجب سقوط اطلاق الخطاب بالنسبة الى كفارة الإفطار، وأما لو قلنا بان استفادة الوجوب من صيغة الأمر لاتكون ناشئة عن الظهور وانما تكون من باب الحجية العقلائية -كما عليه السيد الإمام “قده”- او يكون الوجوب مجرد حكم العقل في موارد وصول بعث من المولى نحو فعل مع عدم وصول ترخيص منه في تركه -كما عليه المحقق النائيني والسيد الخوئي “قدهما”- فالأمر أوضح، حيث ان المعنى المستعمل فيه هو جامع الطلب، وقيام الدليل على الترخيص في ترك غسل الجمعة لايكون معذِّرا عقلا وعقلاء في ترك غسل الجنابة.
الثاني: اذا ورد في خطاب شرعي ما يشتمل على حكم ارشادي
كما في قوله تعالى: أطيعوا الله والرسول، حيث يلزم حمل الأمر باطاعته تعالى على الإرشاد الى حكم العقل، فقد يقال بانه لايمكن حينئذ حمل الأمر بإطاعة الرسول على كونه مولويا، حيث يستلزم ذلك استعمال صيغة الأمر في الارشادية والمولوية معا وهذا يكون من استعمال اللفظ في اكثر من من معنى، وقد ذكر نظير ذلك المحقق الاصفهاني “قده” في غير موضع من كلماته.
وفيه: ان الارشادية والمولوية لاتوجب الاختلاف في المعنى المستعمل فيه، وانما توجب اختلاف الداعي في الاستعمال، ولامانع من استعمال صيغة الأمر بداعي الإرشاد في حصة من متعلقها وداعي المولوية في حصة أخرى منه، وليس في ذلك أيّة مخالفة للظهور.
الثالث: الاستدلال بالروايات التی تدل ان للقرآن ظهرا وبطنا
الثالث: قد ورد في الروايات ان للقرآن ظهرا وبطنا([25])، وقد يستدل بهذه الروايات على وقوع الاستعمال في اكثر من معنى في القرآن الكريم، ولكن أجيب عنه بعدة وجوه:
1-ما ذكره صاحب الكفاية “قده” من احتمال كون بطن القرآن مرادا جديا مقارنا لاستعمال القرآن في معناه لاانه استعمل فيه أيضا زائدا على استعماله في معناه كي يكون من قبيل استعمال اللفظ في اكثر من معنى([26]).
والظاهر ان مقصوده هو المعنى الذي يصلح ان ينطبق عليه الكلام بوجه، والا فلامعنى لعدّ كل ما يقصده المتكلم حين الاستعمال من بطون كلامه، فانه نظير انه قد يريد ان يأكل الطعام بعده، فانه لايوجب كونه بطنا لكلامه.
2- ما ذكره صاحب الكفاية “قده” ايضا من احتمال كون البطن بمعنى اللازم الخفي للمعنى المستعمل فيه.
واورد عليه بعض الاعلام “قده” بانه لايكون مدحا للقرآن الكريم لتحققه في سائر الكلمات أيضا([27])، ولكن يمكن ان يجاب عنه باحتمال كون الغرض هو ترغيب الناس الى التوجه الى تلك المعاني الخفية وتعلمها من الأئمة عليهم السلام، مضافا الى ان اشتمال القرآن الكريم على لوازم خفية معتنى بها يكون مدحا له لامحالة، اذ كثير من الكلمات يخلو عن اللوازم الخفية المهمة.
3- ما ذكره شيخنا الاستاذ “قده” من امكان ان يراد منه الكبرى التي يستخرج منها المدلول المطابقي للآية، كما يستفاد من تفسير اهل الذكر بالأئمة عليهم السلام فانه يكشف عن كبرى يكون كل من هذا التفسير ومورد الآية ايضا الذي هو السؤال عن علماء اهل الكتاب مصداقين لتلك الكبرى.
4- ان يراد من بطن القرآن المصداق الخفي الذي لايلتفت اليه العرف، كما فسر قوله تعالى “ولاتخسروا الميزان” بامير المؤمنين (عليهالسلام).
الرابع: الجمع بین قصد الإنشاء في القراءة و قصد القرآنية
الرابع: قد أفتى كثير من الفقهاء -كالشهيد”ره” في الذكرى -بجواز قصد الإنشاء في القراءة حال الصلاة كإنشاء حمده تعالى حين قراءة “الحمد لله رب العالمين”، وإنشاء المدح حين قراءة “الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ”، او إنشاء الدعاء حين قراءة “اهدنا الصراط المستقيم، و لا ينافي ذلك قصد القرآنية، وقد حكي وجود رواية تحثّ على طلب الهداية حين قراءة آية: اهدنا الصراط المستقيم، ولكن حكى في الذكرى عن الشيخ الطوسي “ره” المنع من ذلك، للزوم استعمال اللفظ في معنيين.
وتقريب الاشكال هوانه لايصدق قراءة القرآن الا اذا قصد حكاية الفاظ القرآن، فلو أريد إنشاء الدعاء أيضا لزم استعمال اللفظ في الحكاية عن الفاظ القرآن وفي إنشاء الدعاءفيكون من استعمال اللفظ في معنيين.
الاجوبه عن المنع
وقد اجيب عنه بجوابين:
الجواب الاول:ماذكره السيد الحكيم “قده” في المستمسك من أن قصد الدعاء او الاخبار لا يلازم استعمال اللفظ في المعنى ولا يتوقف عليه، كما في باب الكناية فإن المتكلم بأن زيدا كثير الرماد يقصد الاخبار عن المعنى المكنى عنه وهو كون زيد كريما ولكن لا يستعمل اللفظ فيه، وإنما يستعمله في المكنى به وهو كثرة رماده ولايقصد الاخبار عنه([28]).
وظاهر ما ذكره “قده” أن قراءة القرآن وان كانت تتقوم باستعمال اللفظ في الحكاية عن الفاظ القرآن لكن لايلزم من قصد انشاء الدعاء به استعمال اللفظ في معنيين حيث لايستعمل اللفظ في انشاء الدعاء، وهكذا في قصد الاخبار، فيكون نظيرالمكنى عنه في الكناية.
و فيه ان انشاء الدعاء اوالاخبار يكون داخلافي المستعمل فيه، الاترى أنه لوسئل شخص عن المصلّي “هل جاء أحد ؟”فقال المصلي “جاء رجل من أقصى المدينة “وقصد بذلك الاخبار عن مجيئ رجل من آخر البلد فهل يكون ذلك خارجا عن المستعمل فيه الذي يرى اللفظ فانيافيه؟، وهكذا لو قرأ قوله تعالى “رب اني لما انزلت الي من خير فقير” وقصد بذلك الدعاء لنفسه، مع انه في القرآن الكريم من كلام موسى(عليهالسلام) فهل يكون انشاء الدعاء لنفسه خارجا عن المستعمل فيه؟.
الجواب الثاني:ماذكره السيد الخوئي “قده” من أنّ قصد القرآنية خارج عن باب الاستعمال رأساً، وإنّما هو حكاية عن طبيعي لفظ القرآن بإيجاد فرد آخر مشابه للفرد الأوّل الذي نزل على قلب النبي (صلىاللهعليهوآله)، فكما أنّ قراءة شعر المتنبّي عبارة عن إيجاد فرد من تلك الألفاظ المنسّقة على النهج الخاص المماثل لما صدر منه بقصد الحكاية عن الطبيعي، فكذا في القرآن.
و نظير المقام ما لو سألك أحد عن العصفور مثلًا وأنّه أيّ شيء، و لميره طيلة عمره، فأخذت عصفوراً بيدك وأريته وقلت هذا العصفور، فإنّك قصدت بذلك إراءة الطبيعي الذي وضع له هذا اللفظ باراءة هذا الفرد، فقد حكيت عن الطبيعي باراءة المصداق، لا أنّ لفظ العصفور موضوع لفرد معيّن وقد أريته باراءة هذا الفرد.
والحاصل أنالانعقل لقصد القرآنية معنى آخر وراء ذلك، فليس هو من استعمال اللفظ في اللفظ، وإنّما هو حكاية عن الطبيعي بإيجاد الفرد المماثل كما عرفت.
و من المعلوم أنّ الحكاية عن ذاك الطبيعي بالإضافة إلى قصد المعنى من خبر أو إنشاء تكون لا بشرط، فإذا اقترنت الحكاية المزبورة بقصد المعنى كان هناك استعمال للفظ في معناه زائداً على الحكاية، وإلّا فهي حكاية صرفة وليست من الاستعمال في شيء.
و عليه فلا مانع من أداء المقاصد بالحكاية عن القرآن كغيره من شعر ونحوه كما لو أردت الاخبار عن مجيء رجل من أقصى البلد فقلت “جاء رجل من أقصى المدينة”.
فظهر لك أنّ الجمع بين قصد القرآنية وانشاء الدعاء ونحوه ليس من استعمال اللفظ في معنيين، وإنّما هو استعمال واحد في انشاء الدعاء فقط، مقترناً بالحكاية عن الطبيعي بإيجاد الفرد المماثل التي هي خارجة عن باب الاستعمال رأساً كما عرفت. على أنّ بطلان الاستعمال في معنيين وإن كان هو المشهور إلّا أنّ الحق جوازه كما بيّناه في الأُصول.
ويؤيد ما ذكرناه: أنّ قصد المعاني يعدّ من كمال القراءة، وقد أُمرنا بتلاوة القرآن عن تدبر وخشوع وتضرع وخضوع وحضور للقلب المستلزم لذلك لا محالة، وإلّا فمجرد الألفاظ العارية عن قصد تلك المعاني، أو المشتملة على مجرّد التصور والخطور لا يخرج عن مجرّد لقلقة اللسان المنافي لكمال قراءة القرآن([29]).
وماذكره هو الصحيح، توضيح ذلك أنه ليست قراءة القرآن متقومة بإيجاد لفظ القرآن واستعماله في نوع هذا اللفظ -كما كان في مثل قولنا “ضرب كلمة ” حيث كان المستعمل فيه والمحكي للفظ “ضرب” هو نوع هذا اللفظ- حتى يكون استعماله في المعنى الموضوع له لهذا اللفظ من قبيل استعمال اللفظ في معنيين، كما مر نظيره في قولهم “قلب ملوم مولم” و”قلب بهرام ما رهب”.
بل يكفي في صدق قراءة القرآن كون التلفظ بلفظ القرآن بداعي الحكاية عنه، ولايضرّ بذلك عدم قصد معناه او قصد معنى آخر، كما في مثال قراءة قوله تعالى “رب اني لما انزلت الي من خير فقير” مع قصد انشاء الدعاء لنفسه، فقراءة القرآن نظير قراءة شعر شاعرٍ بداعي قراءة شعره فانه يقصد ان يقرأ شعر ذلك الشاعر ولاينافيه كونه قاصدا مدح محبوبه بينما ان الشاعر مدح شخصا آخر.
هذا ولايخفى أن ما ورد في بعض الكلمات من ان قراءة القرآن مثلا تكون بالتلفظ بلفظ القرآن بداعي ايجاد فرد مماثل للفظ القرآن([30])، لايخلو من مسامحة، حيث أن مجرد داعي ايجاد الفرد المماثل للقرآن لايكفي في صدق قراءة القرآن لأنه قديكون بقصد الاقتباس منه، وانما تتقوم قراءة القرآن بالتلفظ بلفظه بداعي الحكاية عنه.