فهرست مطالب

فهرست مطالب


تقریرات دروس خارج مدرسه فقهی امام محمد باقر علیه السلام

 

 

التنبيه الثاني: جريان الاستصحاب في الشك التقديري.. 2

المقام الثاني: جريان الاستصحاب مع اليقين التقديري‏.. 2

التنبيه الثالث: جريان الاستصحاب في موارد ثبوت الحدوث بالامارة او الاصل.. 2

وجوه جریان الاستصحاب فی الشک في بقاء شي‏ء على تقدير حدوثه و عدم احراز حدوثه بالوجدان. 2

الوجه الاول: یکفی تقدير الحدوث و ان لم یکن وجدانا ، بشرط أن يترتب على هذا الاستصحاب أثر شرعي أو عقلي.. 3

اشکال البحوث علی صاحب الکفایه. 4

ثلاثة ايرادات على كلام صاحب الكفاية. 5

الوجه الثاني: 11

مناقشه. 12

الوجه الثالث: اجراء الاستصحاب في نفس الحكم الظاهري.. 14

مناقشه. 14

الوجه الرابع: إجراء الاستصحاب في روح الحكم الظاهري وحقيقته. 15

مناقشه. 16

الوجه الخامس: الأمارات العقلائية تقوم مقام القطع الموضوعي، ومنه اليقين بالحدوث في الاستصحاب.. 16

ایراد البحوث عن هذا الوجه. 16

الوجه السادس: اليقين في الكتاب والسنة ظاهر في مطلق الحجة و المتعارف في الفتوى استنادها الى الحجة لا العلم الوجداني.. 19

مناقشه. 22

الوجه السابع: قيام مطلق الحجة على الحدوث.. 23

عدم الحاجة في كثير من الموارد الى استصحاب بقاء نفس ما قامت الأمارة على حدوثه. 23

أربعة صور فی الشك في حصول الرافع على نحو الشبهة الموضوعية أو الحكمية. 24

الصورة الأولى: 25

الصورة الثانية: 26

الصورة الثالثة: 26

الصورة الرابعة: 27

المقام الثاني: فيما إذا كانت الحالة السابقة ثابتة بالأصل.. 29

 

موضوع: تنبیهات /استصحاب /اصول

خلاصه مباحث گذشته:

متن خلاصه …

 

 

التنبيه الثاني: جريان الاستصحاب في الشك التقديري

المقام الثاني: جريان الاستصحاب مع اليقين التقديري‏

ذكر صاحب الكفاية في المقام أنه يعتبر في الاستصحاب فعلية اليقين، لعدم شمول اليقين لليقين التقديري، كما هو واضح، والظاهر أنه ذكره جريا على مسلك القوم من ركنية اليقين بالحدوث، والا فقد ذكر في التنبيه الثاني من تنبيهات الاستصحاب في الكفاية أنه يحمل اليقين على الطريقية المحضة ويرى أن ركن الاستصحاب هو اليقين بالحدوث، ولا حاجة الى اليقين التقديري فضلا عن الفعلي.

التنبيه الثالث: جريان الاستصحاب في موارد ثبوت الحدوث بالامارة او الاصل

التنبيه الثالث: لو علمنا وجدانا بحدوث شي‏ء ثم شككنا في بقاءه، فهذا هو القدر المتيقن من مورد الاستصحاب، و أما إذا شككنا في بقاء شي‏ء على تقدير حدوثه و لم نحرز حدوثه بالوجدان، كما إذا قامت الأمارة على حدوث شي‏ء ثم شككنا في بقاءه على تقدير حدوثه، فقد يناقش في جريان الاستصحاب، لعدم اليقين بالحدوث، بل ولا يصدق الشك فی البقاء بقول مطلق، وانما يشك في البقاء على تقدير الحدوث.

وجوه جریان الاستصحاب فی الشک في بقاء شي‏ء على تقدير حدوثه و عدم احراز حدوثه بالوجدان

و قد حاول الاعلام الاجابة عن هذه المناقشة بعدة وجوه:

الوجه الاول: یکفی تقدير الحدوث و ان لم یکن وجدانا ، بشرط أن يترتب على هذا الاستصحاب أثر شرعي أو عقلي

ما ذكره صاحب الكفاية “قده” من أنه يكفي في الاستصحاب الشك في البقاء على تقدير الحدوث، ‏و إن لم يكن معلوم الحدوث، بشرط أن يترتب على هذا الاستصحاب أثر شرعي أو عقلي، فان اخذ اليقين بالحدوث في ادلة الاستصحاب إنما هو لأجل أن التعبد و التنزيل شرعا إنما هو في‏البقاء، لا في الحدوث، وظاهر أخذ اليقين بالحدوث كونه طريقا و مرآة الى واقع الحدوث ليكون التعبد في بقاءه، وعليه فيكفي الشك في البقاء على تقدير الحدوث، فيتعبد بالبقاء على تقدير الحدوث، فتكون الحجة على الحدوث حجة على البقاء تعبدا، للملازمة بينه و بين الحدوث واقعا.

هذا وقد ذكر ان منشأ الحاجة الى هذا البيان هو أن الصحيح كون مقتضى حجية الامارة التنجيز و التعذير، وأما بناء على كون المجعول فيها الحكم المماثل -كما هو ظاهر الأصحاب- فيمكن اجراء الاستصحاب في نفس الحكم الظاهري بعد كون قيام الأمارة حيثية تعليلية عرفا لثبوت هذا الحكم ويحتمل بقاءه بعد انتفاء الامارة([1]).

وقد عبَّر في بحث الاجتهاد والتقليد عما اختاره هنا من عدم ركنية اليقين بالحدوث بالتكلف، فقال “على ما تكلفنا في بعض تنبيهات الاستصحاب‏([2])“، كما ذكر في التنبيه السابق أنه يعتبر في الاستصحاب فعلية اليقين والشك.

ولا يخفى أن لازم ركنية واقع الحدوث في الاستصحاب وان كان هو عدم جريانه واقعا في موارد اليقين غير المصيب بالحدوث او الأمارة غير المصيبة عليه، لكنه ليس امرا لا يمكن الالتزام به، فما عن المحقق الاصفهاني “قده” من جعل ذلك نقضا على مبنى صاحب الكفاية غير متجه.

وكيف كان فان تم ما ذكره هنا فيكون الحكم الظاهري بالبقاء -والذي مرجعه الى جعل الحكم الظاهري المماثل للحكم الواقعي المشكوك، فيما كان المستصحب نفس الحكم الشرعي، او المماثل لحكمه الشرعي لو كان المستصحب موضوع الحكم الشرعي- من الآثار الشرعية لواقع الحدوث، فيكون قيام الأمارة مقام القطع بالحدوث من باب قيامها مقام القطع الطريقي المحض الذي لا اشكال فيه على جميع المباني في حجية الأمارات.

اشکال البحوث علی صاحب الکفایه

وقد ذكر في البحوث أن كلام صاحب الكفاية في المقام لا يخلو من تشويش، فصدره ظاهر في أنّ رکن الاستصحاب واقع الحدوث والشك في البقاء، وذيله ظاهر في عدم ركنية واقع الحدوث وانما الركن الشك في البقاء على تقدير الحدوث.

ويوجد في هذا الذيل احتمالان:

احدهما: كون ركن الاستصحاب الشكّ في البقاء، دون الحدوث، و إنّما فرض الحدوث، لأنّ الشكّ في البقاء لا يتحقّق إلّا مع فرض الحدوث.

وثانيهما: أن يكون مقصوده كون التعبد بالبقاء، وانما فرض الحدوث مفروغا عنه حتى يقع التعبد بالبقاء.

أما الاحتمال الاول فإن قصد من الشكّ في البقاء أن لا يحتمل فيه العدم بعد العدم، وانما يحتمل العدم بعد الوجود، فيعني ذلك فرض اليقين بالحدوث، وهو خلف مدعاه، وان قصد منه احتمال العدم بعد الوجود وان احتمل العدم بعد العدم، فيعني ذلك جريان الاستصحاب مع عدم الحدوث واقعا بمجرد احتمال الحدوث والبقاء، و هذا ما لا يلتزم به احد.

أما الاحتمال الثاني فإما أن يكون مصب التعبد هو البقاء الظاهري على تقدير الحدوث، فيكون الحدوث مأخوذا في موضوع التعبد الظاهري بالبقاء، ولا يكون ترقيا عن الكلام الاول، او يكون مصب التعبد الملازمة الظاهرية بين الحدوث و البقاء، فلا يكون الحدوث دخيلًا في ذلك، كما أنّ الوجود الفعلي للعلّة ليس دخيلاً في ثبوت الملازمة بين وجود العلّة ووجود المعلول، فعندئذ يرد عليه: أنّ الملازمة ليست قابلة للجعل على ما هو الصحيح الموافق لنظر صاحب الكفاية، و إنّما المجعول منشأ انتزاعها، وهو جعل الحكم بالبقاء مشروطاً بالحدوث، فرجع إلى الكلام الأوّل([3]).

اقول: لايوجد أي تشويش في كلام صاحب الكفاية، فانه صرح في ذيل كلامه ايضا بأخذ واقع الحدوث في التعبد الظاهري بالبقاء، وأنه أخذ اليقين بالحدوث مرآة لحدوثه، ليكون التعبد في بقاءه، و التعبد مع فرض حدوثه إنما يكون في بقاءه، وما نقل في المباحث عن صاحب الكفاية من التعبير بأنه أُخذ الحدوث ليكون التعبد بالبقاء، لا يوجد في كلامه ابدا.

ثلاثة ايرادات على كلام صاحب الكفاية

وكيف كان فقد اورد على كلام صاحب الكفاية ايرادات ثبوتية واثباتية، أما الايرادات الثبوتية فعمدتها ثلاثة ايرادات:

الایراد الاول:

ما حكي عن المحقق الاصفهاني “قده” من أن الاستصحاب حيث يكون حكما ظاهريا فيتقوم بالوصول، ومعه فلا يكون الاستصحاب جاريا بمجرد حدوث الشيء المشكوك واقعا، بل يتوقف جريانه على قيام الأمارة على الحدوث، فكيف تقوم الحجة على الحدوث لتنجيز هذا الاثر الذي يكون ترتبه متأخرا عن قيام الحجة.

مناقشه

وفيه أن مقتضى الجمع بين ما ذكره صاحب الكفاية هنا من ركنية واقع الحدوث وما ذكره في التنبيه السابق من تقوم الاستصحاب بالوصول -باعتبار كونه حكما ظاهريا حقيقته تنجيز الواقع او التعذير عنه- وان كان هو أنه ما لم تقم حجة على الحدوث فلا يكون الاستصحاب فعليا، ولكنه لايعني عدم وجوده الانشائي قبله، فيكون قيام الحجة على الحدوث بلحاظ هذا الحكم الظاهري الانشائي ونتيجة قيام هذه الحجة صيرورة الاستصحاب فعليا ومنجزا للبقاء.

بل لو فرض الالتزام لأجل ذلك بتقيد جريان الاستصحاب بقيام الحجة على الحدوث، فلا محذور فيه، وان فرض كون اثر قيام الحجة على الحدوث منحصرا بالتعبد بالبقاء، اذ لا يتوقف قيام الحجة على الحدوث بكون هذا الاثر لواقع الحدوث موجودا مع غمض العين عن قيام الحجة عليه، بعد ان كان المراد من الحجة هو الحجة الشانية، فيكون نظير سائر موارد قيام الحجة على تحقق موضوع الحكم الظاهري.

الايراد الثاني:

ما ذكره السيد الخوئي “قده” من أنه إما يكون مفاد خطاب الاستصحاب الملازمة الواقعية بين الحدوث والبقاء، فيكون مدلول خطاب الاستصحاب الحكم الواقعي ببقاء كل حادث، فهو مضافا الى مخالفته للواقع، مستلزم لكون أدلة الاستصحاب من الأمارات الدالة على الملازمة الواقعية بين الحدوث و البقاء، فتكون الأمارة الدالة على الحدوث دالة بالالتزام على البقاء، نظير ما ثبت من الملازمة الواقعية بين وجوب تقصير الصلاة و إفطار الصوم، ويخرج الاستصحاب عن كونه اصلا عمليا يرجع اليه في فرض الشك في البقاء.

وإما أن يكون مفاد الاستصحاب الملازمة الظاهرية بين الحدوث والبقاء، فلازم ذلك الملازمة الظاهرية بين حدوث التنجيز و بقاءه، و لا يمكن الالتزام بها، ولم يلتزم بها نفسه ايضا، فانه التزم بانحلال العلم الإجمالي بالتكليف بقيام الأمارة على التكليف في بعض الأطراف، فالإنصاف أنه على القول بأن معنى جعل حجية الأمارات ليس إلا التنجيز في صورة الإصابة و التعذير مع المخالفة كما عليه صاحب الكفاية و جماعة من الأصحاب لا دافع لهذه المناقشة([4]).

مناقشه

وفيه أن هذا الاشكال غريب، فانه اولاً: لا مانع من الحكم الظاهري ببقاء كل حادث مادام الشك في بقاءه، بأن يكون الحدوث الواقعي للشيء المشكوك موضوعا لهذا الحكم الظاهري، واين هذا من الاخبار عن الملازمة بين حدوث شيء وبقاءه الواقعيين، او الملازمة بين حدوث التنجز وبقاءه، وانما هو الملازمة بين واقع حدوث شيء والحكم الظاهري ببقاءه عند الشك، وهذا هو مقصود صاحب الكفاية.

نعم نتيجته جعل الحكم المماثل، وقد مر من السيد الخوئي وفاقا للمحقق النائيني “قدهما” كونه مستلزما للتصويب([5])، ولكن مرّ أن صياغات الحكم الظاهري من جعل العلمية او الحكم المماثل او انشاء عنوان المنجزية والمعذرية ونحوها كلها ابراز لاهتمام المولى او عدم اهتمامه بالحكم الواقعي المشكوك على تقدير وجوده واقعا، والا فماذا يقول هو في الطهارة والحلية الظاهريتين المستفادتين من قاعدة الطهارة والحل.

وثانيا: لامانع من الالتزام بكون مفاد الاستصحاب الملازمة بين تنجز الحدوث وتنجز البقاء عند الشك في البقاء، وهذا غير الملازمة بين حدوث التنجز وبقاءه حتى يرد عليه النقض بانحلال العلم الاجمالي بالعلم او الامارة التفصيلية، فانه بقاءً لا يوجد منجز لحدوث التكليف في الطرف الآخر غير ما قامت الأمارة التفصيلية عليه.

الايراد الثالث:

ما يقال من أن المستفاد من كلام صاحب الكفاية جعل الملازمة الظاهرية بين الحدوث والبقاء، وهذا خلاف ما تقدم منه في بحث الاحكام الوضعية التي من هذا القبيل من عدم امكان جعلها شرعا كالسببية للتكليف.

مناقشه

وفيه أن تعبير صاحب الكفاية هو “التعبد بالبقاء على تقدير الحدوث” فيكون مفاد الاستصحاب كما مر جعل الحكم المماثل، وأما تعبيره في آخر كلامه بالملازمة بين البقاء و بين الحدوث واقعا -اي الملازمة الظاهرية بين واقع الحدوث وبين بقاءه- فلايدل على كون الملازمة هي المجعولة شرعا، بل هي منتزعة عن التعبد بالبقاء ظاهرا على تقدير الحدوث.

والحاصل أن ما ادعاه صاحب الكفاية من كون مفاد الاستصحاب التعبد الظاهري ببقاء الحادث، واضح ومعقول، ولا يرد عليه أي من الايرادات الثبوتية، ومحصله أن اليقين المأخوذ في أدلة الاستصحاب ليس موضوعاً للاستصحاب، بل طريق محض إلى الحدوث، ويكون مفاد الاستصحاب التعبد الظاهري ببقاء الحادث في فرض الشك في بقاءه على تقدير حدوثه، والامارة القائمة على الحدوث تكون حجة على وجود موضوع الاستصحاب.

ولا ينبغي الاشكال في أنه بناء على حمل اليقين بالحدوث على الطريقية المحضة كما حمل لفظ اليقين والعلم والرؤية والتبين على ذلك في الخطابات المتضمنة للأحكام الواقعية كقوله تعالى “فكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر” يتم هذا الوجه.

ايرادات اثباتية

انما الكلام في مساعدة مقام الاثبات وظاهر الادلة معه، فقد اورد عليه عدة ايرادات اثباتية:

الايراد الاول:

أن كون واقع اليقين في نفس المتيقن مرآة الى الواقع المتيقن، اي لحاظ الشخص المتيقن صورته الذهنية متحدة مع الخارج، لا يعني جعل المتكلم مفهوم اليقين مرآة الى الواقع، بأن يرى من خلاله الواقع، فان کل عنوان مرآة الى مصاديقه لا الى مصاديق عنوان آخر، فلا يصح أن يراد من اليقين الواقع الذي تعلق به اليقين، خصوصا مع ذكره في الكلام مستقلا، حيث اضاف اليقين الى الوضوء في قوله “فانه على يقين من وضوءه” او الى الطهارة في قوله “انك كنت على يقين من طهارتك” ومن هنا علم أن استعماله الكنائي فيه يحتاج الى مصحح لا يوجد في المقام.

الايراد الثاني:

ما في البحوث وغيره من أنه لا يتلائم مع استظهار كون اسناد النقض الى اليقين بلحاظ ما يرى فيه من الابرام والاستحكام، كما استظهر ذلك في الكفاية في بحث الشك في المقتضي، فإنّه بناءً على ما ذكره هنا من كونه مأخوذاً بنحو المرآتية الى المتيقن، يكون النظر إلى ذات المتيقّن، فلا يجدي استحكام اليقين([6]).

اقول يمكن الدفاع عن صاحب الكفاية في قبال هذين الايرادين بأن يقال ان مصحح استعمال كلمة النقض وان كان هو استحكام اليقين، لكن يكفي في ذلك كونه كذلك في المراد الاستعمالي، ولم يلحظ في المراد الاستعمالي مفهوم اليقين مرآة الى المتيقن، ولكنه لا ينافي استظهار العرف كون موضوع الاستصحاب في المراد الجدي هو واقع الحدوث، نظير استظهار العرف من قوله تعالى “فكلوا واشربوا حتى يتبين لكم…” كون مبدأ الامساك الواجب في شهر رمضان هو واقع طلوع الفجر وأن التبين طريق محض.

بل الظاهر -كما صرح به في حاشية الرسائل- كون مقصوده كون النهي عن نقض اليقين كناية عن نقض المتيقن، فليس المدلول الاستعمالي هو النهي عن نقض المتيقن، كي يتنافى مع ما ذكره في بحث الشك في المقتضي.

الايراد الثالث:

ما ذكره السيد الخوئي “قده” من أن قوله في صحيحة زرارة الثانية “لا ينبغي أن تنقض اليقين بالشك ابدا” راجع إلى قضية ارتكازية، و هي أن الأمر المبرم لا يرفع اليد عنه لأمر غير مبرم، و المراد من الأمر المبرم في المقام هو اليقين، و من غير المبرم هو الشك، فلابد من وجود اليقين و الشك([7]).

وفيه أننا لا نستظهر من هذه الجملة أكثر من النهي عن نقض اليقين بالشك، ولو كان النهي تعبديا محضا.

الايراد الرابع:

ما هو الصحيح من أن النهي عن نقض اليقين بالشك لما كان حكما ظاهريا فلا يلغي العرف موضوعية اليقين في الخطاب كما لا يلغي الشك، فاستظهار الطريقية المحضة لليقين في خطاب الاستصحاب خلاف الظاهر، خصوصا بقرينة التقابل في صحيحة زرارة الاولى مع قوله “ولكن ينقضه بيقين آخر” فانه لا اشكال في موضوعية اليقين الآخر، والا فيعني نقض الحدوث السابق بواقع ارتفاعه وهو غير محتمل، فمقتضى وحدة السياق حمل اليقين الاول ايضا في هذه الجملة وفي جملة “فانه على يقين من وضوءه ولا ينقض اليقين بالشك على الموضوعية ايضا.

فدعوى صاحب الكفاية ظهور النهي عن نقض اليقين بالشك في ركنية الحدوث وموافقة بعض الاعلام([8]) معه غير متجهة.

هذا كله بلحاظ ما ذكره حول ظهور خطاب الاستصحاب في ركنية واقع الحدوث.

وأما ما ذكره من أنه بناء على جعل الحكم المماثل في الامارات فيمكن اجراء الاستصحاب في نفس الحكم الظاهري فسيأتي الكلام فيه.

الوجه الثاني:

الوجه الثاني: ما ذكره في البحوث من أن خطاب النهي عن نقض اليقين بالشك وان كان ظاهرا في موضوعية اليقين بالحدوث، لكن حيث لم يؤخذ اليقين بالحدوث في صحيحة ابن سنان “انك اعرته اياه وهو طاهر ولم تستيقن أنه نجسه” ب‍ل أخذ فيها واقع الحدوث، وهكذا في قوله “كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر” و “كل شيء لك حلال حتى تعلم أنه حرام” بناء على مختار صاحب الكفاية من دلالتهما على الاستصحاب، فحينئذ ان احتمل وجود قاعدتين: احداهما: ما يستفاد من هذه الصحيحة من قاعدة أن الحادث محكوم بالبقاء ظاهرا في فرض الشك، والأخرى: ما استفيد من بقية الروايات من قاعدة عدم نقض اليقين بالشك، فنلتزم بكلتيهما، و ان لم نحتمل ذلك كانت هذه الصحيحة قرينة على حمل لفظ اليقين بالحدوث في بقية الروايات على الطريقية الى كون واقع الحدوث موضوعا للحكم([9]).

مناقشه

و فيه اولا: أنه قد مر أنه لا ‌يظهر من صحيحة ابن سنان كونها ناظرة الى الاستصحاب، فلعلها ناظرة الى قاعدة الطهارة، وأما لحاظ الحالة السابقة في الثوب في الصحيحة فلعله لأجل أنه لو كان معلوم النجاسة سابقا لم‌ يجر فيه قاعدة الطهارة.

وثانيا: أن احتمال تعدد القاعدة ليس عرفيا، بعد كفاية احداهما عن الأخرى عرفا، و ان كانت النسبة بينهما بالدقة عموما من وجه، حيث يكون مورد افتراق الاولى فرض واقع الحدوث من دون علم به، و مورد افتراق الثانية فرض اليقين بالحدوث مع كونه غير مطابق للواقع، و لكن جعل الثانية بلحاظ فرض الجهل المركب لغوا عرفا.

و عليه فلو كانت صحيحة ابن سنان صالحة لحمل اليقين في روايات النهي عن نقض اليقين بالشك على الطريقية فكذلك تصلح روايات النهي عن نقض اليقين بالشك لحمل قوله في الصحيحة “انك اعرته اياه و هو طاهر” على التنبيه على علم السائل بكونه طاهرا سابقا، فان التعبير عنه بمثل ذلك متعارف ايضا، و قد يقال باولوية هذا الحمل الاخير، بعد تناسب لفظ النقض مع تعلقه باليقين و كونه امرا مبرما و مستحكما.

و لست ادري ماذا يقصد من ركنية واقع الحدوث، فان كان يقصد بها كفايته عند وجود حجة تفصيلية او اجمالية عليه، كما لو علمنا بوجوب اكرام زيد اليوم او وجوب اكرام عمرو اليوم مع احتمال بقاء وجوب اكرام عمرو على تقدير حدوثه الى غد، فلا غرابة فيه، ولکن ان كان يقصد جريان الاستصحاب بمجرد واقع الحدوث مع الشك في البقاء على تقدير الحدوث، فهو غريب، فانه لو تيقن المكلف بنجاسة ثوبه يوم الخميس، ثم طهر في يوم الجمعة واقعا من دون علمه به، و في يوم السبت كان شاكا في طهارته و نجاسته، فانه لا ينبغي الاشكال في جريان استصحاب نجاسته ليقينه بها في يوم الخميس، و لكن بناء على مبناه يكون استصحاب طهارته الحادثة واقعا في يوم الجمعة و المشكوك بقاءها في يوم السبت على تقدير حدوثها مانعا واقعا من جريان استصحاب نجاسته، لتمامية اركان الاستصحاب في طهارته بعد تحقق واقع حدوثها و الشك في بقاءها على تقدير حدوثها، و لا أظن التزامه به، و قد يكون اطلاق الصحيحة شاهدا على جريان استصحاب الطهارة واقعا -بناء على استفادة الاستصحاب منها- في الثوب و لو نجسه الذمي واقعا و احتمل انه طهّره قبل ان يرده عليه، فيكون ذلك قرينة على أن واقع الحدوث من دون قيام حجة عليه لا يكفي في جريان الاستصحاب.

الوجه الثالث: اجراء الاستصحاب في نفس الحكم الظاهري

الوجه الثالث: ما ذكره صاحب الكفاية من أنه بناء على جعل الحكم المماثل في الامارات فيمكن اجراء الاستصحاب في نفس الحكم الظاهري.

مناقشه

وفيه أن حجية الأمارة على الحدوث تابعة لمقدار مفادها فلا يحتمل بقاءها بعد انتفاء الأمارة، وأما استصحاب جامع الحكم الشرعي المحتمل بقاءه في ضمن الحكم الواقعي، فيكون من استصحاب القسم الثالث من الكلي، للعلم بوجوده في ضمن فردٍ وهو الحكم الظاهري والعلم بارتفاعه، وانما يشك في وجود فرد آخر معه وهو الحكم الواقعي

نعم لو قيل بكون الحكم الظاهري على تقدير مطابقته للواقع، عين الحكم الواقعي، وليس له حقيقة وراءه، وانما يكون له وجود مستقل في فرض عدم مطابقته للواقع، فيكون استصحاب الجامع بين الحكم الظاهري المخالف للواقع والحكم الواقعي من قبيل استصحاب القسم الثاني من الكلي، ولكن يرد عليه مضافا الى ضعف هذا المبنى في الحكم الظاهري أنه ان كان الحكم الشرعي تكليفيا فيكون من قبيل استصحاب الجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبله، وما يكون من هذا القبيل فلا يكون العلم الاجمالي به منجزا -كما لو علم إما بوجوب اكرام زيد المقدور اكرامه او وجوب اكرام عمرو غير المقدور اكرامه- فكيف باستصحابه، والوجه في كون الحكم الظاهري مما لا يقبل التنجيز هو العلم بارتفاعه، مضافا الى أن العدل في هذا الجامع لما كان هو الحكم الظاهري بقيد كونه مخالفا للواقع، والا فلا وجود للحكم الظاهري الموافق للواقع بناء على هذا المبنى، فالحكم الظاهري بما هو مخالف للواقع لا يصلح لتنجيز الواقع، نعم لو كان الحكم وضعيا كنجاسة الماء فلا يرد عليه هذا الاشكال، ومن هنا تبين أن اطلاق كلام البحوث لفرض الحكم الوضعي في غير محله، نعم يوجد اشكال آخر فيه وهو ان الجامع بين النجاسة الظاهرية المخالفة للواقع والنجاسة الواقعية في الماء ليس موضوعا لحرمة شربه واقعا، فان الظاهر أن موضوعها هو النجس الواقعي، ولا أقل من انصرافه عن النجاسة الظاهرية بقيد كونها مخالفة للواقع.

الوجه الرابع: إجراء الاستصحاب في روح الحكم الظاهري وحقيقته

الوجه الرابع: ما ذكره في البحوث من أنه في موارد قيام الأمارة على الحدوث، و ان كان يعلم بارتفاع موضوع الحكم الظاهري بقاءً، إلّا انَّ روح الحكم الظاهري وحقيقته، وهو اهتمام الشارع بالحكم مما يحتمل بقاءه بشخصه، لأنَّ قيام الأمارة ونحوه ليس إلّا سبباً لشدة الاهتمام، و ليس موضوعاً له، فيمكن إجراء الاستصحاب في روح الحكم الظاهري وحقيقته، لتمامية أركان الاستصحاب فيه حينئذ من اليقين بحدوثه و الشك في بقائه بشخصه.

نعم يوجد في مورد استصحاب الاهتمام بالتكليف المشكوك الذي قامت الامارة على حدوث ذلك التكليف، أمارة نافية لبقاء الاهتمام، وهو دليل البراءة الشرعية الذي هو أمارة على عدم الاهتمام، ويقدَّم على استصحاب الاهتمام، ولا يقاس بتقدم استصحاب الحكم الواقعي عند الشك فيه على اصل البراءة، لأنَّ البراءة ليست أمارة نافية للحكم الواقعي المشكوك، فيكون الاستصحاب و البراءة من هذه الناحية في عرض واحد، فيؤخذ بالاستصحاب لتقدم دليله على دليلها([10]).

مناقشه

ويرد عليه اولا: أن الوجه انما يجري فيما اذا كان قيام الامارة على حدوث الحكم الشرعي مقارنا مع حدوث ذلك الحكم، فيستصحب اهتمام المولى بهذا الحكم على تقدير وجوده، او فقل عدم رضاه بمخالفته على تقدير وجوده، ونتيجته لزوم الاحتياط، ولا يجري هذا الوجه اذا كان قيام الامارة على حدوث الحكم في زمان الشك في بقاءه، كما لا يجري في استصحاب الموضوع او الحكم الذي قامت الامارة على حدوثه كطهارة الماء لاثبات اثر شرعي مترتب على بقاءه، كوجوب الوضوء بعد دخول الوقت عند انحصار الماء به، لعدم سبق العلم بحدوث الاهتمام في هذه الموارد.

وثانيا: ان الاهتمام بالحكم الذي قام عليه خبر الثقة مثلا يكون بنحو القضية الحقيقية، فاذا انتفى خبر الثقة فينتفي ذلك الاهتمام، وانما يحتمل ثبوت اهتمام آخر، ويكون استصحابه من قبيل استصحاب القسم الثالث من الكلي.

الوجه الخامس: الأمارات العقلائية تقوم مقام القطع الموضوعي، ومنه اليقين بالحدوث في الاستصحاب

الوجه الخامس: ما ذكره المحقق النائيني “قده” وتبعه في ذلك السيد الخوئي وشيخنا الاستاذ “قدهما” من أنه لما كانت حجية الأمارات بمعنى اعتبارها علما، فان الأمارات العقلائية اعتبرت في الارتكاز العقلائي علما بالواقع، وبضم عدم ردع الشارع عنه يستكشف امضاءه له، فتقوم مقام القطع الموضوعي، ومنه اليقين بالحدوث في الاستصحاب.

ایراد البحوث عن هذا الوجه

وقد اورد في البحوث على هذا الوجه أنه حتى لو بني على قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي، الا أنه يختص بما اذا كان القطع الموضوعي مأخوذا من حيث انه طريق الى متعلقه، وكاشف عنه، لا من حيث انه صفة نفسانية خاصة، وصحة اسناد النقض الى اليقين دون العلم والقطع ونحوهما حيث كانت لأجل ما في صفة اليقين من الابرام والاستحكام، او الالتفاف بمتعلقه، فيكون ظاهرا في اخذ القطع الموضوعي الصفتي، فلا تقوم الأمارة مقامه([11]).

مناقشه

ولكن يرد عليه أنه لا منافاة بين كون مصحح استعمال النقض اضافته الى لفظ اليقين دون العلم، وبين ظهور خطاب الاستصحاب في اخذ اليقين بالحدوث في موضوع الاستصحاب من حيث انه كاشف عن الواقع، لا من حيث انه ملازم لسكون النفس ونحو ذلك.

فالمهم في الايراد على هذا الوجه اولا: أن الظاهر أنه لا توجد أمارة ظنية يدعي العقلاء كونها علما، ولا اقل من عدم احراز ذلك، فلم يحرز كون مثل خبر الثقة او الظهور علما باعتبار العقلاء مع وجود احتمال عقلائي لمخالفتهما للواقع، كما لو أخبر شخص مجهول بخلافهما، فانه ليس في العقلاء أحكام عقلائية يؤخذ فيها القطع موضوعا بنحو واضح بحيث تنعقد سيرتهم على معاملة الأمارات في تلك الأحكام معاملة القطع الموضوعي، نعم الظاهر أنهم يجوزون الاخبار او القضاء وفق الأمارات المعتبرة لكن لعل موضوعه عندهم هو مطلق الحجة والأمارة، لا ما يكون علما.

وثانياً: انه لو فرض اعتبار العقلاء خبر الثقة علما فمادام لم‌ يوجب ذلك توسعة في دائرة ظهور لفظ العلم المأخوذ في موضوع الاحكام في الخطابات الشرعية وبقيت تلك الخطابات ظاهرة في العلم الوجداني فلا دليل على شمول تلك الاحكام لهذا العلم الاعتباري، بعد أن لا يلزم من ذلك لغوية اعتباره علما، لكون القدر المتيقن منه كونه بغرض التنجيز والتعذير، وأما تنزيل العقلاء خبر الثقة منزلة العلم في الاحكام الثابتة للقطع الموضوعي فلا يعقل الا بلحاظ الاحكام العقلائية الثابتة للقطع الموضوعي، كجواز الاخبار -بناء على كون موضوعه العقلائي هو العلم- دون الاحكام الشرعية التعبدية، فان شأن كل مشرِّع أن يتصرف في دائرة تشريع نفسه.

هذا وقد يدعى كون الأمارات علما في اعتبار الشارع، لأجل بعض النصوص، كرواية المراغي “لا عذر لأحد من موالينا في التشكيك فيما يرويه عنا ثقاتنا الذين عرفوا بأنا نفاوضهم سرنا ونحمله اياهم” وصحيحة الحميري “العمري ثقتي فما ادى اليك عني فعني يؤدي وما قال لك فعني يقول، فاسمع له واطع، فانه الثقة المأمون”، وقد عبِّر عن شهادة العدلين في الموضوعات بالبينة، والبينة ما يبيِّن الواقع، كما ذكر السيد الخوئي “قده” أن التعبير في الروايات عن الفقيه بقوله “عرف احكامنا” يكشف عن ذلك.

كما قد يستدل بفحوى ما ورد من اعتبار العلمية والغاء الشك في بعض الاصول العملية كقوله في قاعدة التجاوز والفراغ “إذا خرجت من شي‌ء ثم دخلت في غيره فشكك ليس بشي‌ء([12])” و”إذا شككت في شي‌ء من الوضوء، وقد دخلت في غيره فليس شكك بشي‌ء، إنما الشك إذا كنت في شي‌ء لم‌ تجزه([13])، وقوله في الاستصحاب “لا تنقض اليقين بالشك”.

ولكنه غير متجه، أما رواية المراغي فمضافا الى ضعف سندها ليست ظاهرة في الارشاد الى الغاء الشك ادعاء واعتبارا، فلعلها تنهى عن التشكيك اللساني والعملي، على أنها واردة في خبر ثقات الامام (عليه السلام) الذين عرفوا بأنهم اصحاب سرّه، لا في مطلق خبر الثقة، وأما صحيحة الحميري فالظاهر من التعبير فيها بأن ما ادى فعني يؤدي هو بيان وثاقته، لا التعبد بكون اخباره علما بالواقع، على أنه يتناسب مع مسلك تنزيل المؤدى منزلة الواقع، وأما التعبير عن شهادة العدلين في الروايات بالبينة -فمضافا الى عدم جريانه في غيرها واحتمال الفرق موجود- ان التعبير بالبينة لعله لأجل كونها توجب العلم عادة وان كانت حجيتها غير مشروطة بافادة العلم، وأما قوله “عرف أحكامنا” فلا يظهر منه اكثر من معرفة الوظائف الفعلية ولو كانت احكاما ظاهرية.

وأما فحوى بعض ادلة الاصول العملية ففيه أنه لم يظهر من قوله “شكك ليس بشيء” الغاء الشك تعبدا واعتبار العلم، فانه يوجد فرق بين أن يقال لا شك له وبين أن يقال شكه ليس بشيء، فان الثاني لا يلغي الشك اعتبارا وانما لا يقيم له وزنا ولا يراه قابلا للاعتناء، والقدر المتيقن منه كونه ناظرا الى تصحيح العمل ظاهرا، لا ترتيب آثار العلم الموضوعي، وهكذا قوله “انما الشك اذا كنت في شيء لم‌ تجزه” فانه وارد بعد قوله “فشكك ليس بشيء” فلا يظهر منه أكثر من حصر الشك الذي يعتنى به فيما كان قبل التجاوز عن المحل.

وأما النهي عن نقض اليقين بالشك فقد مر أنه لا يظهر منه كونه نهيا عن النقض الحقيقي لليقين بداعي الارشاد الى التعبد بعدم انتقاضه واعتبار بقاءه، بل لعله نهي طريقي عن النقض العملي لليقين ولا يظهر منه اكثر من ترتيب آثار الواقع عند الشك في بقاءه دون ترتيب آثار العلم الموضوعي.

الوجه السادس: اليقين في الكتاب والسنة ظاهر في مطلق الحجة و المتعارف في الفتوى استنادها الى الحجة لا العلم الوجداني

الوجه السادس: ما عليه السيد الامام “قده” من أن اليقين في استعمالات الكتاب والسنة ظاهر في مطلق الحجة، فانه بعد ما تعارف اعتماد العقلاء والمتشرعة على الطرق المعتبرة في شتى المجالات فيكون ظاهر قوله تعالى: “حرّم …ان تقولوا على الله ما لا تعلمون” وقوله (عليه‌السلام) “من أفتى بغير علم لعنته ملائكة السماء والأرض”، هو إرادة معنى الحجة، لأن المتعارف في الفتوى استنادها الى الحجة لا العلم الوجداني.

وهكذا قوله “رفع ما لا يعلمون” و”لا تنقض اليقين بالشك” ونحو ذلك، فيكون قوله “لا تنقض اليقين بالشك” في قوة “لا تنقض الحجة بغير الحجة” لا بمعنى استعمال لفظ اليقين والشك في ذلك، بل لأجل ان العرف لا يرى لخصوصية اليقين والشك دخالة في الحكم، كما أنه يلغي خصوصية الرجل في قوله “رجل شك بين الثلاث والأربع”، ويرى أن ذكره من باب المثال، فانه في كثير من موارد دعوى اليقين بالحالة السابقة لا يوجد يقين وجداني بها([14]).

ويدل عليه قوله (عليه السلام) في صحيحة زرارة الثانية: لأنك كنت على يقين من طهارتك فشككت وليس ينبغي لك ان تنقض اليقين بالشك أبدا، فان الظاهر منه إجراء الاستصحاب الحكمي في طهارة الثوب، ولابد ان تحمل الطهارة على الطهارة الواقعية، لعدم جريان الاستصحاب في الطهارة الظاهرية، ومن المعلوم أن العلم الوجداني بالطهارة الواقعية مما لا يمكن عادة، (فانه حتى لو غسله بالماء فحيث ان الغسل سابقا كان بالماء القليل عادة وكان يحتمل نجاسته، فالطهارة السابقة لم ‌تثبت الا بالحجة) فيرجع مفاده إلى أنه لا يرفع اليد عن الحجة على الطهارة بغير الحجة، بل يمكن ان يؤيد ذلك بصحيحته الأولى أيضا، فان اليقين الوجداني بالطهارة من الحدث لم‌ يكن يحصل عادة، لغلبة الشك في طهارة ماء الوضوء (الذي كان ماء قليلا غالبا) تأمل.

و يؤيده أيضا بعض الروايات التي يظهر منها جريان الاستصحاب في مفاد بعض الأمارات، ففي صحيحة معاوية بن وهب قال: قلت لأبي عبد اللّه (عليه السلام): الرجل يكون في داره ثمّ يغيب عنها ثلاثين سنة ويدع فيها عياله ثمّ يأتينا هلاكه، ونحن لا ندري ما أحدث في داره، ولا ندري ما حدث له من الولد، ولا تقسّم هذه الدار على ورثته الذين ترك في الدار حتى يشهد شاهدا عدل أنّ هذه الدار دار فلان ابن فلان مات وتركها ميراثاً بين فلان وفلان، أ ونشهد على هذا؟ قال: نعم([15]).

فلولا جريان الاستصحاب في مفاد الأمارات لما يجوز الشهادة بان أمواله له لامتناع حصول اليقين الوجداني بأن المال ماله، فجريان الاستصحاب في مفاد الأمارات و بعض الأصول كأصالة الصحة مما لا مانع منه([16]).

ولا يخفى أنه مراده من الحجة ليس هو مطلق المنجز والمعذر، بل ما يثبت الواقع عقلاء او شرعا، فقد ذكر أن الحجة عبارة عن الطرق العقلائية والشرعية إلى الواقع التي تكشف‏ كشفا غير تام، ولذا ذكر أن معنى “رفع ما لا يعلمون” وان كان هو رفع ما لا حجة عليه، ولكن لا يلزم من ذلك ورود خطاب الامر بالاحتياط عليه، اذ ليس هو منها بلا إشكال، والشاهد على ذلك انه لو أفتى أحد بوجوب شيء واقعا لقيام الأمارة عليه، فلا يقال انه أفتى بغير علم، واما إذا أفتى به لأجل دليل الاحتياط يقال انه أفتى بغير علم([17])، وذكر في موضع آخر أن مفاد أدلة الأصول ليس الا تعيين الوظيفة عند عدم قيام الحجة، لا جعل الحجة على الواقع([18])، ولعل مراده من الاصول في هذه العبارة الاصول غير المحرزة والتنزيلية، والا فقد مر منه أن الحجة على الطهارة الواقعية السابقة المستصحبة كانت هو الاصل.

وعليه فلا يتم ما قد يورد عليه بالمنع من ظهور لفظ العلم اواليقين في كونه مثالا لجامع الحجة بمعنى كل منجز ومعذر.

مناقشه

ولكن يمكن الايراد عليه بأنه لم يثبت كون مثل لفظ اليقين والجزم والقطع في الاستعمالات ظاهرا في كونه مثالا لمطق الحجة، فاذا اذا لم يحصل لنا من الامارة المعتبرة كاخبار الزوج بالطلاق مع عدم وثوقها بصدقه او الاقرار غير المفيد للعلم كما لو أقر الوالد بقتل ولده واحتملنا أنه اقر بذلك ليدفع تهمة القتل عن ولده الآخر حتى لا يقتل به فلا يصح ان نشهد بالطلاق او بكون الاب قاتلا، بعد أن قال المولى لنا “اذا كنتم على يقين من شيء فاشهدوا به”.

وما استشهد به من صحيحة زرارة الاولى والثانية على ظهور لفظ اليقين في كونه مثالا لمطلق ما يثبت الواقع ولو شرعا كالاصول المحرزة نحو الاستصحاب ايضا قابل للمنع، اذ يمكن أن نجعل استعمال لفظ اليقين بالطهارة قرينة على أن الامام (عليه السلام) في الصحيحة الاولى استصحب الطهارة الظاهرية من الحدث، او أنه اجرى استصحاب عدم حدوث النوم، وفي الصحيحة الثانية استصحب عدم اصابة الدم، هذا مضافا الى أنه يحصل للاذهان الساذجة العرفية غير الملتفتة الى الشبهات اليقين بالطهارة عقيب الوضوء او غسل الثوب بالماء.

وهكذا صحيحة معاوية بن وهب، فانه -مضافا الى أن الذهن العرفي غير الملتفت الى الشبهات يطمأن بحصول ملكية المشتري للمبيع عقيب شراءه- من الممكن استصحاب ملكيته الظاهرية او عدم الرافع.

كما أن الاستشهاد -على كون المراد من اليقين مطلق الحجة- بقوله “ولكنه ينقضه بيقين آخر” حيث انه لا اشكال في لزوم نقض اليقين بالحجة على الخلاف، غير متجه، فان لزوم نقضه بها لا يعني ظهور هذا الخطاب في ذلك.

الوجه السابع: قيام مطلق الحجة على الحدوث

الوجه السابع: ما يخطر بالبال في تقريب كفاية مطلق الحجة على الحدوث ولو كانت حجة اجمالية -كما لو علمنا بوجوب اكرام زيد اليوم او وجوب اكرام عمرو اليوم مع احتمال بقاء وجوب اكرام عمرو على تقدير حدوثه الى غد- وهو أن النقض العملي لليقين بحدوث شيء بمعناه الحقيقي ليس الا بعدم ترتيب آثار الحدوث، ولاعلاقة له بعدم ترتيب آثار البقاء، فارادة النهي عن عدم ترتيب آثار البقاء من نقض اليقين بالشك تكون ظاهرة عرفا في لحاظ الشارع ملازمة ظاهرية بين الحدوث والبقاء، والعرف بعد عدم اقتضاء اليقين بالحدوث بنفسه ترتيب آثار البقاء لا يرى خصوصية لتعلق اليقين بالحدوث ويفهم من خطاب الاستصحاب كون جريانه من آثار قيام مطلق الحجة على الحدوث.

عدم الحاجة في كثير من الموارد الى استصحاب بقاء نفس ما قامت الأمارة على حدوثه

هذا فيما اذا احتجنا الى استصحاب بقاء نفس ما قامت الأمارة على حدوثه، ولكن كثيرا ما لا نحتاج الى ذلك، كما لو كان بقاء الحكم الشرعي مشروطا بعدم حدوث شيء معين، كاشتراط بقاء الطهارة بعدم طرو النوم، فنستصحب عدم النوم بعد تمامية اركان الاستصحاب فيه، فيثبت به بقاء الطهارة، وان كان حدوث الطهارة ثابتا بالأمارة.

وهكذا لو شككنا في كون زوال التغير رافعا للنجاسة المتيقنة الحدوث للماء المتغير، فاذا شككنا في بقاء نجاسته الى ما بعد زوال تغيره، فنستصحب بقاء نجاسة الماء الذي زال تغيره كمجعول كلي، فان قامت امارة على حدوث التغير في ماء نعلم بعدم تغيره فعلا، نطبِّق عليه ذلك الحكم الاستصحابي، ولا حاجة الى اجراء الاستصحاب في نجاسة هذا الماء المعين، حتى يقال بأن نجاسته ليست متيقنة الحدوث لعدم العلم الوجداني بحدوث التغير فيه.

وكذا الحال فيما اذا قامت أمارة على طهارة الماء الذي توضأ منه في الشبهة الحكمية او الموضوعية فانه يعني قيام الامارة على كونه متطهرا بعد هذا الوضوء، ونستصحب بنحو كلي أن من كان متطهرا يبقى متطهرا بعد خروج المذي.

وقد ذكر السيد الصدر “قده” في الحلقة الثالثة أن الحاجة الى حل مشكلة اليقين الوجداني بالحدوث بالالتزام بركنية واقع الحدوث ونحوه انما يكون في فرض الشك في المقتضي، كما إذا دلت الأمارة على وجوب الجلوس في المسجد إلى الزوال و شك في بقاء هذا الوجوب بعد الزوال، فان الأمارة هنا لا تدل مطابقة أو التزاماً على أكثر من الوجوب إلى الزوال، فيأتي فيه اشكال ان الحكم الظاهري بوجوب الجلوس مقطوع الارتفاع والحكم الواقعي مشكوك الحدوث فلم يتم اركان الاستصحاب فيهما.

أربعة صور فی الشك في حصول الرافع على نحو الشبهة الموضوعية أو الحكمية

وأما اذا علم أن للحكم المدلول للأمارة على فرض ثبوته غاية و رافعاً، و يشك في حصول الرافع على نحو الشبهة الموضوعية أو الحكمية، فيمكن الاستصحاب حتى مع ركنية اليقين بالحدوث، وفيه أربع صور:

الصورة الأولى:

ان يكون كل من الأمارة على حدوث الحكم والشك في البقاء بنحو الشبهة الموضوعية، كما إذا أخبرت البينة بتنجس الثوب و شك في طرو المطهِّر، و في مثل ذلك لا حاجة إلى استصحاب النجاسة الواقعية ليرد الإشكال القائل بأنه لا يقين بحدوثها، بل يمكن إجراء الاستصحاب بأحد وجهين آخرين:

1- ان نجري الاستصحاب الموضوعي فنستصحب عدم غسل الثوب بالماء، و من الواضح ان نجاسة الثوب مترتبة شرعاً على موضوع مركب من جزءين: أحدهما: ملاقاته للنجس. و الآخر: عدم طروِّ الغسل عليه، و الأول ثابت بالأمارة، و الثاني بالاستصحاب لأن أركانه فيه متوفرة بما فيها اليقين بالحدوث، فيترتب على ذلك بقاء النجاسة شرعاً.

2- ان الأمارة التي تدل على حدوث النجاسة في الثوب تدل‏ أيضاً بالالتزام على بقائها ما لم يغسل، لأننا نعلم بالملازمة بين الحدوث و البقاء ما لم يغسل، فما يدل على الأول، بالمطابقة يدل على الثاني بالالتزام، و مقتضى دليل حجية الأمارة التعبد بمقدار ما تدل عليه بالمطابقة و الالتزام، فإذا شك في طروِّ الغسل كان ذلك شكاً في انتهاء أمد الحكم الظاهري الثابت بدليل الحجية، فيستصحب لأنه معلوم حدوثاً و مشكوك بقاء([19]).

الصورة الثانية:

ان تكون الأمارة على الحدوث بنحو الشبهة الحكمية و يكون الشك في البقاء بنحو الشبهة الموضوعية، كما إذا دلت الأمارة على نجاسة الماء المتغير و شك في بقاء التغير، و هنا يجري نفس الوجهين السابقين، حيث يمكن استصحاب التغير، و يمكن استصحاب نفس النجاسة الظاهرية المغياة بارتفاع التغير، للشك في حصول غايتها.

الصورة الثالثة:

ان تكون الامارة على الحدوث بنحو الشبهة الموضوعية و يكون الشك في البقاء بنحو الشبهة الحكمية، كما إذا دلت الأمارة على نجاسة الثوب و شك في بقاءها عند الغسل بالماء المضاف.

و في هذه الصورة يتعذر إجراء الاستصحاب الموضوعي، إذ لا شك في وقوع الغسل بالماء المضاف و عدم وقوع الغسل بالماء المطلق، و لكن يمكن إجراء الاستصحاب على الوجه الثاني، لأن الأمارة المخبرة عن نجاسة الثوب تخبر التزاماً عن بقاء هذه النجاسة ما لم يحصل المطهر الواقعي، و على هذا الأساس يكون التعبد الثابت على وفقها بدليل الحجية تعبداً مغييًّ بالمطهر الواقعي أيضاً، فالتردد في حصول المطهر الواقعي و لو على نحو الشبهة الحكمية يوجب الشك في بقاء التعبد المستفاد من دليل الحجية و الذي هو متيقن حدوثاً، فيجري فيه الاستصحاب.

الصورة الرابعة:

ان يكون كل من الأمارة على الحدوث والشك في البقاء بنحو الشبهة الحكمية، كما إذا دلت على تنجس الثوب بملاقاة المتنجس و شك في حصول التطهير بالغسل بالماء المضاف، و علاج هذه الصورة نفس علاج الصورة السابقة، فإن النجاسة المخبر عنها بالأمارة هي على فرض حدوثها نجاسة مستمرة مغياة بطرو المطهر الشرعي، و على هذا فالتعبد على طبق الأمارة يتكفل إثبات هذا النحو من النجاسة ظاهراً، و لما كانت الغاية مرددة بين مطلق الغسل، و الغسل بالمضاف فيقع الشك في حصولها عند الغسل بالمضاف، و بالتالي يقع الشك في بقاء التعبد المغيى المستفاد من دليل الحجية، فيستصحب.

اقول: يرد عليه اولا: ان الشك في الرافع التكويني لموضوع الحكم الشرعي -كالشك في قتل زيد اذا كانت حياته موضوعا لحكم شرعي كوجوب الصدقة- لا يكون مجرى للاستصحاب الموضوعي المثبت للحكم الواقعي، اذ يكون من الاصل المثبت، فلابد أن يقيده بالرافع الشرعي.

وثانيا: ان حجية الامارة ان كانت بمعنى جعل الحكم المماثل امكن أن يقال بأنه تستصحب النجاسة الظاهرية المعلومة الحدوث ما لم يحصل العلم برافعها، أما الحجية بمعنى المنجزية والمعذرية او جعل العلمية او ابراز الاهتمام فلا معنى لاستصحابها لعدم الشك في حجية الدلالة الالتزامية للامارة الدالة على حدوث الحكم بالنسبة الى بقاء الحكم ما لم يحصل الرافع، فان عدم حصول الرافع لا يعني بقاء الحجية، كما ان حصول الرافع لا يعني ارتفاع الحجية.

ولم يذكر في مباحث الاصول والبحوث هذا البيان في الصورة الثالثة والرابعة، وانما ذكر في الصورة الثالثة أنه يمكن استصحاب الحكم الواقعي فيها على نحو المجعول الكلي، كما تقدم منّا بيانه، كما ذكر في الصورة الرابعة أن حل مشكلة الاستصحاب فيها موقوف على الغاء ركنية اليقين الوجداني بالحدوث، ,ومثّل لها بقيام الأمارة على وجوب صلاة الجمعة في عصر الحضور وشك في بقاءه في عصر الغيبة.

ولكن ليست جميع أمثلتها من هذا القبيل، ففي مثال قيام الامارة على طهارة الماء الملاقي للمتنجس الخالي عن عين النجس، لو توضأ منه ثم خرج منه المذي فيمكنه اجراء الاستصحاب على نحو المجعول الكلي بأن يقول من كان متطهرا من الحدث يبقى متطهرا الى ما بعد خروج المذي بحكم الاستصحاب، والمفروض قيام الأمارة على الصغرى وأن المتوضأ من هذا الماء متطهر.

وكذا في مثال قيام الامارة على نجاسة الثوب الملاقي لدم البيض، وقد غسل بالماء المضاف بعد ذلك، فيجرى الاستصحاب في المجعول الكلي فيقال “الثوب المتنجس يبقى متنجسا بعد غسله بالماء المضاف، وقامت الأمارة على كون هذا الثوب الملاقي لدم البيض متنجسا.

وثالثا: انه ان كان يكفي في الصورة الثالثة والرابعة انتزاع عنوان الرافع في كون المدلول الالتزامي للامارة بقاء الحكم مغيىً بعدم الرافع، فيجعل حكم ظاهري مغيى بعدم الرافع على وزان ذاك المدلول الالتزامي، مع أنه لا شك في الخارج حيث يعلم بتحقق الغسل بالماء المضاف مثلا في الثوب الذي قامت الامارة على ملاقاته للدم، او دلت الرواية على كون ملاقاته المعلومة للمتنجس موجبة لنجاسته، فلابد من أن يكفي العنوان الانتزاعي في الشك في المقتضي ايضا، كما لو قامت الأمارة على وجوب الجلوس قبل الزوال فيقال بأن مدلولها الالتزامي بقاء الوجوب الى أن توجد غاية الوجوب، او مادام بقاء المقتضي.

ولكن الانصاف عدم دليل على حجية المدلول الالتزامي الناشء عن انتزاع عنوان مبهم لا يكشف عن شيء، فاذا دلت الامارة على وجوب اكرام زيد وشككنا في رافعية شيء لوجوب اكرامه، فيمكن انتزاع بقاء الوجوب الى أن يرفعه رافع، وجعله مدلولا التزاميا لهذه الأمارة، ولكن اذا لاحظنا تلك الامارة فلا تكون كاشفة عن ثبوت الوجوب بعد تحقق ذلك الشيء المشكوك الرافعية ابدا، وأما قبله فهو معلوم وجدانا، فيمكن النقاش في حجية هذا المدلول الالتزامي الانتزاعي لما بعد تحقق ذلك الشيء لأجل عدم قابليته للوصول، فانه لا دليل عليها لا من بناء العقلاء ولا من الروايات، لعدم صدق أنه مما أدّاه وقاله الثقة، وقد ذكرنا في محله أن المهم في نكتة حجية الأمارة وان كان هو كاشفيتها الا أنه لم يعلم كونها تمام النكتة، ولا أقل في مثل هذا الدلالة الالتزامية الانتزاعية.

المقام الثاني: فيما إذا كانت الحالة السابقة ثابتة بالأصل

اذا كانت الحالة السابقة ثابتة بالاصل، فان اريد اجراء الاستصحاب في الحكم الظاهري، فلا يوجد اشكال فيه من ناحية اليقين بالحدوث، وان اريد اجراءه في الحكم الواقعي الثابت بالاصل، فلا اشكال فيه ايضا، بناء على ركنية واقع الحدوث او ما هو المختار من ركنية الحجة على الحدوث، بشرط كون الاصل حجة على ثبوت الحالة السابقة، فلا يكفي أصل البراءة، لكون مفاده مجرد عدم وجوب الاحتياط في التكليف المشكوك، دون ترتيب آثار عدم التكليف واقعا، فلو قال المولى “اذا لم يجب الوضوء وجب التيمم” فالبراءة عن وجوب الوضوء لا تكفي لاثبات وجوب التيمم، كما لا تكفي أصالة الاحتياط في مثل الشبهة البدوية قبل الفحص.

وأما بناء على ركنية اليقين بالحدوث فلابد من التفصيل بين الاصل الذي اعتبر علما بالواقع، ان وجد اصل من هذا القبيل، كما هو مختار جمع من الاعلام كالمحقق النائيني والسيد الخوئي وشيخنا الاستاذ “قدهم” في الاستصحاب وقاعدة الفراغ ونحوهما، وبين الاصل الذي ليس من هذا القبيل، كقاعدة الطهارة والحلّ، فلا يجدي اثبات الحالة السابقة بهما لاجراء الاستصحاب.

وأما بناء على كون المجعول في الاستصحاب تنزيل المستصحب منزلة الواقع، فاذا دل الاستصحاب على ثبوت الحالة السابقة، كما في مثال استصحاب طهارة الماء الذي غسل به الثوب المتنجس، ثم شك في بقاء طهارة الثوب، فبناء على ركنية اليقين بالحدوث، قد يحاول اثبات اليقين بالحدوث بدعوى الملازمة بين تنزيل المستصحب منزلة الواقع وبين تنزيل العلم بالواقع التنزيلي منزلة العلم بالواقع الحقيقي، وهذا ما ادعاه صاحب الكفاية في حاشية الرسائل، لكن مرّ في محله المنع من ثبوت هذه الملازمة عرفا.

وقد ذكرنا في محله أنه لو قال المولى “مشكوك الطهارة طاهر” فنقطع حينئذ بكون مشكوك الطهارة طاهرا تنزيليا، لكننا نلتفت الى أنه ليس القطع بالطهارة التنزيلية قطعا بالطهارة الواقعية، والموضوع في قول المولى “اذا قطعت بكون شيء طاهرا فتوضأ منه” هو القطع بالطهارة الواقعية لا الاعم منه ومن القطع بالطهارة التنزيلية فلا يبقى وجه لاستظهار كون القطع بالطهارة التنزيلية محكوما بحكم القطع بالطهارة الواقعية.

نعم لو كانت الحكومة واقعية كما لو قال المولى “اذا قطعت بكون شخص عالما فلا تتقدم عليه في المشي” ثم قال “ولد العالم عالم” فلا يبعد أن يكون اطلاق الحكومة موجبا لصيرورة القطع بكون شخص ولد العالم موضوعا ايضا لهذا الحكم، ولو لم‌ يعلم بكونه عالما تنزيليا، وان ابيت فلا أقل من صيرورته موضوعا للحكم بعد العلم بكونه عالما تنزيليا، وأما في الحكومة الظاهرية كقوله “مشكوك الطهارة طاهر” فيراه العرف في قبال القطع بالطهارة، وانما تكون مجرد منجز ومعذر لها، والمقام من هذا القبيل، وبهذا اتضح أنه لو قال المولى “اذا قطعت بكون مايع خمرا فأهرقه” ثم ورد في خطابٍ “ما قامت الامارة على كونه خمرا فهو خمر” فيختلف عما لو ورد “العصير العنبي خمر”، حيث تكون حكومة الاول حكومة ظاهرية، ويكون في قبال القطع بالخمرية فلا يرى العرف تنزيل القطع بالخمر التنزيلي منزلة القطع بالخمر الحقيقي، فما يدعى من ثبوت الملازمة العرفية للغفلة النوعية العرفية عن مغايرة القطع بالواقع التنزيلي مع القطع بالواقع الحقيقي غير متجه للمنع عن الغفلة النوعية، ولا فرق في ذلك بين كون ظاهر خطاب التنزيل ادعاء أن هذا هو الواقع ام لا.

وقد يقال ان تنزيل المستصحب او المؤدى منزلة الواقع يكفي في تحقق اليقين بالطهارة الواقعية تعبدا، فان اليقين بطهارة الثوب مركب من جزءين: العلم بالطهارة، و كونها طهارة واقعية، فالجزء الاول معلوم بالوجدان، والثاني بالتعبد والتنزيل.

وقد اشكل عليه في مباحث الاصول بأن العرف لا يساعد على مثل هذا التركيب في المقام([20]).

اقول: هذا الاشكال غير تام، اذ اولا: ان معنى التنزيل منزلة الواقع ليس هو جعل الطهارة الظاهرية مثلا، وادعاء كونها هي الطهارة الواقعية، بل مجرد جعل حكم ظاهري مشابه للحكم الواقعي المشكوك، بغرض ترتيب آثار الحكم الواقعي.

وثانيا: ان كان اطلاق تنزيل مشكوك الطهارة منزلة الطاهر الواقعي شاملا لاثر العلم بالطهارة فلا يضرّ عدم ظهور الخطاب في التركيب، وان لم يكن له اطلاق فلا يجدي الظهور في التركيب، ولذا قلنا بالتفصيل بين الحكومة الواقعية كقوله “الفقاع خمر” حيث ان اطلاقه يشمل ما لو كان الخمر جزءا او قيدا لموضوع حكم كقوله “من علم بخمرية مايع فشربه يقام عليه الحد”، وبين الحكومة الظاهرية كقوله “مستصحب الخمرية خمر” حيث لا يظهر منه أكثر من التنجيز والتعذير بالنسبة الى احكام الخمر الواقعي.

فالمهم هو ملاحظة اطلاق التنزيل، ومع عدم اطلاقه كما هو الصحيح في الحكومة الظاهرية فلا يجدي، حتى لو كان موضوع الحكم مركبا من العلم بالطهارة وكون تلك الطهارة طهارة واقعية، لأن ما هو ثابت بالوجدان هو العلم بالطهارة الظاهرية، بينما أن الاثر الشرعي مترتب على العلم بالطهارة الواقعية، والعرف ملتفت الى الفرق بينهما، وادعاء كونها طهارة واقعية لم يكن مطلقا بلحاظ هذا الأثر.

ثم انه ذكر المحقق النائيني “قده” أنّه بعد قيام الدليل على جريان استصحاب الحكم الواقعي في كلّ آنٍ يشكّ في بقاءه او بقاء موضوعه، فلا مجال لاستصحاب هذا الاستصحاب، كما أنه في مورد جريان اصل الطهارة ان اريد استصحاب الطهارة الواقعية، فالمفروض أن اصل الطهارة لا يثبت الواقع، وان اريد استصحاب الطهارة الظاهرية فالمفروض قيام الدليل على ثبوتها بمجرد الشّك في الطهارة الواقعية، فلا مجال لاستصحابها، و هذا لا ينافي حكومة الاستصحاب على اصل الطهارة، فانّ حكومة الاستصحاب فرع جريانه، و المدّعى في المقام أنّه لا يجري، لأنّه لا أثر له.

فالمانع من جريان الاستصحاب في موارد الأصول ليس هو عدم وجود اليقين السابق المعتبر فيه و لذا لا مانع من جريانه في كل مورد لم يكن دليل الأصل متكفلا للبقاء، بل كان متمحضا في الحدوث، و لذا لو حكمنا بطهارة شي‏ء متنجس مغسول بالماء، اما بأصالة الصحة أو بقاعدة الفراغ، ثم شك في عروض النجاسة له، فلا مانع من التمسك بالاستصحاب، لما ذكرناه سابقا من أن اليقين في باب الاستصحاب انما أخذ في الموضوع من حيث انه مقتض للجري العملي فلا مانع من قيام الأصول‏ فضلا عن الأمارات مقامه، إلّا ان ذلك مشروط بوجود اليقين و الشك في نفس هذا الحكم الظاهري ففي الموارد التي يكون دليل الأصل متكفلا لحال البقاء كالحدوث لا مجال للتمسك بالاستصحاب في الآن الثاني أصلا([21]).

اقول: يرد عليه اولا: انه قد وقع الخلط في كلامه بين اجراء الاستصحاب في الحكم الواقعي الذي ثبت حدوثه بالاصل وبين اجراءه في نفس الحكم الظاهري الثابت بدليل الاصل، فحينما قال “ان اليقين في باب الاستصحاب انما أخذ في الموضوع من حيث انه مقتض للجري العملي فلا مانع من قيام الأصول‏ فضلا عن الأمارات مقامه” لاحظ الاول، دون الثاني، لأن استصحاب الحكم الظاهري يكون من باب العلم الوجداني بحدوثه ولا اقل من قيام الامارة عليه دون الاصل العملي([22])، وحينما قال في ذيله “في الموارد التي يكون دليل الأصل متكفلا لحال البقاء كالحدوث لا مجال للتمسك بالاستصحاب في الآن الثاني” لاحظ الثاني دون الاول، فان دليل الاصل قام على بقاء الحكم الظاهري.

نعم كان بامكانه أن يقول بدل هذا الذيل: انه ان اريد استصحاب الحكم الواقعي فلا يقين فيه بالحدوث في الاصل الذي لا يكون مفاده اعتبار العلم بالواقع، وان اريد استصحاب الحكم الظاهري فلا شك في بقاءه ولو تعبدا لقيام الامارة على بقاءه وهو دليل قاعدة الطهارة.

نعم بناء على المبنى الصحيح عندنا من عدم حكومة الامارات على الاصول المتوافقة فان كان يقاء الطهارة الظاهرية مشكوكا حتى على تقدير حدوثها، بأن لم يكن ملازمة بين حدوثها وبقاءها فلا مانع جريان استصحاب الطهارة الظاهرية في عرض قيام الدليل على بقاءها.

وثانيا: ان ما ذكره من أن استصحاب الطهارة على تقدير جريانه وان كان حاكما على قاعدة الطهارة، لكن المانع عن جريانه عدم اثر له، ففيه أن استصحاب الطهارة الظاهرية ليس حاكما على عموم دليل الطهارة الظاهرية، بل نسبته اليه نسبة الاصل الى الأمارة، والا فكيف يمنع الدليل المحكوم عن جريان الحاكم الذي يكفي في اثره أن يوجب انتفاء المحكوم.

نعم استصحاب الطهارة الواقعية حاكم على قاعدة الطهارة بناء على حكومة بعض الاصول المتوافقة على بعض، كما أن استصحاب النجاسة الواقعية حاكم عليها، ولكن المفروض عدم جريانه بنظره، لعدم افادة قاعدة الطهارة لليقين بالطهارة الواقعية لا وجدانا ولا تعبدا.

وثالثا: ان ما ذكره من جريان استصحاب الطهارة في مثال ثبوت حدوث الطهارة في الثوب المتنجس باجراء قاعدة الفراغ في غسله، فحيث انه قد يظهر منه اجراء استصحاب الطهارة الظاهرية ففيه أنه لا دليل على كون نتيجة جريان قاعدة الفراغ في غسله بالماء هو الحكم الظاهري بطهارة الثوب، بل لعله مجرد حجة ومعذر بالنسبة الى ترتيب آثار الطهارة الواقعية للثوب، نعم لو كان مراده استصحاب الطهارة الواقعية في الثوب كان ما ذكره تاما، لكنه لا يأتي في مثل اجراء قاعدة الطهارة في الماء الذي غسل به هذا الثوب، حيث لا يوجب جريانها العلم بالطهارة الواقعية في الثوب المغسول به لا وجدانا ولا تعبدا، كما لا يعلم يكون نتيجتها ثبوت طهارة ظاهرية في الثوب، كي تستصحب، بل لعلها مجرد معذر بالنسبة الى الشك في نجاسته الواقعية.

هذا ومن جهة أخرى انه ان كان الشك في بقاء طهارة الثوب لشبهة موضوعية، اي الشك في ملاقاته للنجس، فلا تصل النوبة الى جريان استصحاب بقاء الطهارة على مسلكه -من حكومة الاصل السببي على المسببي ولو كانا متوافقين، حيث يجري الاستصحاب الموضوعي لنفي ملاقاته للنجس، بل الامر كذلك ان كان الشك في بقاء طهارته لشبهة حكمية كما لو لاقى ما يشك في نجاسته بنحو الشبهة الحكمية كدم البيض، حيث ان قاعدة الطهارة تجري في دم البيض وتكون بنظره اصلا سببيا بالنسبة الى الاصل المسبي الجاري في نفس بقاء طهارة الثوب.

كما أنه لو جرى استصحاب الطهارة الواقعية في الثوب بعد الشك في ملاقاته للنجس او بعد العلم بملاقاته لدم البيض، فيمنع من جريان استصحاب الطهارة الظاهرية فيه، للعلم بارتفاع موضوع الطهارة الظاهرية، وهو الشك في الطهارة الواقعية، بجريان استصحاب بقاء هذه الطهارة الواقعية الموجب لالغاء الشك تعبدا بنظره، وهذا يعني أنه حتى لو فرض شمول دليل قاعدة الطهارة للثوب بقاء فيكون استصحاب الطهارة الواقعية في الثوب حاكما عليه ويمكن عده من النتائج الغريبة لحكومة استصحاب الطهارة الواقعية على قاعدة الطهارة.

نعم بناء على ما هو الصحيح من عدم حكومة الاصل السببي الموافق فلا مانع من جريان استصحاب الطهارة الواقعية او الظاهرية.

هذا ويمكن في مثال الشبهة الحكمية اجراء الاستصحاب في الحكم الكلي، بأن نقول كل طاهر يبقى طاهرا حتى بعد ملاقاته لدم البيض، وقد ثبتت صغراه في هذا الثوب بقاعدة الفراغ في غسله.

هذا ولا يخفى أنه لو كان المتكفل لاثبات حدوث الطهارة في الثوب اصلا غير محرز، كجريان قاعدة الطهارة في الماء الذي غسل به، ولم يشمل دليل قاعدة الطهارة طهارة هذا الثوب بقاء، كما لو كان منشأ الشك في نجاسته الجديدة شبهة حكمية وقلنا باختصاصها بالشبهة الموضوعية، فيستصحب الطهارة الظاهرية، كما لا مانع من استصحاب الطهارة الواقعية، بناء على ما اخترناه من كفاية ثبوت الحالة السابقة بالاصل غير المحرز كقاعدة الطهارة.

ولو شمل دليل قاعدة الطهارة هذا الثوب بقاءً، لكن احتمل عدم كون ذلك مرادا جديا للمولى، اي لم يعلم بالملازمة بين جريانها في ذلك الماء وبين جريانها في هذا الثوب بعد ما عرض الشك في نجاسته الجديدة كما هو كذلك في مثال الشبهة الحكمية، فلا مانع ايضا بنظرنا من استصحاب الطهارة الواقعية والظاهرية ايضا، ولا يمنع منه قيام الدليل على جريان اصالة الطهارة فيه بقاء، لما هو الصحيح من امكان جريان الامارة والاصل معا مع توافقهما في النتيجة، والاشكال بكون جريان استصحاب الطهارة الواقعية او الظاهرية لغوا، لأن الدليل الذي اثبت حدوث الحكم الظاهري كدليل قاعدة الطهارة، بنفسه مثبت لبقاءه، فلا حاجة الى اجراء الاستصحاب الذي كان يتوقف جريانه على التمسك بهذا الدليل لاثبات الحدوث، مندفع، بعدم لغويته عرفا بعد كونه ناشئا عن اطلاق الجعل، نظير شمول المطلقات والعمومات لفرد لا يترتب عليه اثر فعلي كالغافل والناسي.

وان ذكرنا أن لازم مباني المشهور ومنهم المحقق النائيني كون استصحاب الطهارة الواقعية حاكما على دليل قاعدة الطهارة الشامل لهذا الثوب بقاء، لرفعه لموضوعه وهو الشك في الطهارة الواقعية.

ومما ذكرنا قد يتضح بعض الملاحظات على ما ذكره السيد الخوئي في المقام، حيث قال: ان الأصول على قسمين:

القسم الأول: ما يكون الأصل المتكفل لبيان الحكم في الزمان الأول متكفلا له إلى زمان العلم بالخلاف، ففي مثل ذلك لا معنى لجريان الاستصحاب، مثاله قاعدة الطهارة، فإذا شككنا في مائع أنه بول أو ماء، و حكمنا بطهارته لقاعدة الطهارة، ثم شككنا في بقاء طهارته لاحتمال ملاقاته النجاسة، فانه لا معنى لجريان الاستصحاب حينئذ، إذ قاعدة الطهارة كما تدل على طهارته في الزمان الأول، تدل على طهارته في الزمان الثاني، إلى زمان العلم بالنجاسة، و بعبارة أخرى إن أردنا جريان الاستصحاب في الطهارة الواقعية، فلم يكن لنا يقين بها، و إن أردنا جريانه في الطهارة الظاهرية، فلا يكون لنا شك في ارتفاعها حتى نحتاج إلى الاستصحاب، بل هي باقية يقيناً، و من هذا القبيل قاعدة الحل بل الاستصحاب أيضا، فإذا كان ثوب معلوم الطهارة ثم شككنا في ملاقاته البول مثلا فاستصحبنا طهارته، ثم شككنا في ملاقاته الدم مثلًا، فلا معنى لاستصحاب الطهارة بعد تحقق هذا الشك الثاني، إذ نفس الاستصحاب الأول متكفل لبيان طهارته إلى زمان العلم بالنجاسة.

القسم الثاني: أن لا يكون الأصل متكفلا لبيان الحكم في الزمان الثاني، كما إذا شككنا في طهارة ماء فحكمنا بطهارته للاستصحاب أو لقاعدة الطهارة ثم غسلنا به ثوبا متنجساً، فالأصل الجاري في الماء يكون متكفلا لحدوث الطهارة في الثوب فقط، دون بقاءها بعد ذلك لو شككنا في بقاءها، كما لو شككنا في ملاقاته مع النجاسة، فلا مانع من جريان الاستصحاب في طهارة الثوب أو في عدم ملاقاته النجاسة([23]).

وقد نقل في مباحث الاصول كلام السيد الخوئي بنحو آخر، وهو أنّ الأصل إن كان جارياً في مورد الشكّ كان مقطوع البقاء ما دام الشكّ باقياً، من قبيل أصالة الطهارة في نفس الثوب، فإنّ الأصل بنفسه جار بقاءً بعد الشكّ في ملاقاته للدم، ولكن لو كان الاصل جارياً في موضوع المشكوك و سببه لا في مورده، لم يكن دليل ذلك الأصل دالًّا على ثبوت الحكم الظاهري بقاءً، و ذلك من قبيل أصالة الطهارة الجارية في الماء الذي غسل به الثوب المتنجس، فإنّها لا تدلّ على ثبوت الطهارة للثوب بعد احتمال ملاقاته للدم.

ثم اورد على ما ذكره في القسم الاول بأن قوله بعدم جريان الاستصحاب فيما إذا كان الأصل جارياً في مورد الشكّ، منقوض بما لو شكّ في صحّة الصلاة بلحاظ بعض أجزائها الماضية، فأجرى قاعدة التجاوز، ثمّ شكّ في صحّة الصلاة شكّاً لم يتجاوز محلّه، و قلنا باستصحاب الصحّة، فقاعدة التجاوز هي أصل جرى في مورد الشكّ، فإنّ صحّة الصلاة- في ذوق من يقول بجريان استصحاب الصحّة- شي‏ء واحد مستمرّ، تكون صحّة الأجزاء السابقة حدوثاً له، و استمرار الصحة بقاءً له، فيجري في المقام استصحاب الصحّة بناءً على القول بجريان استصحاب الصحّة في نفسه، و ليس الحكم بالصحة بقاءً ثابتاً بقاعدة التجاوز حتّى لا نحتاج إلى الاستصحاب، في حين أنّ قاعدة التجاوز أصل جرى في مورد الشكّ([24]).

اقول: لم نجد هذا التعبير في الكلام الموجود عن السيد الخوئي، ولعله سمع منه شفهيا.

هذا وقد ذكر في المباحث ايضا أنه لو قام الأصل على حدوث حكمٍ في مورد الشبهة الموضوعية أو الحكمية، و شككنا في البقاء بنحو الشبهة الموضوعية، كما إذا ثبتت طهارة الثوب بأصالة الصحّة في التطهير، أو باستصحاب طهارة الماء الذي طُهّر به الثوب، مع فرض كون الماء ملاقياً للمتنجّس الخالي عن عين النجس، ثمّ شككنا في ملاقاة الثوب للدم، فالاصل يكون موضوعا لحكم ظاهري في الثوب وهو طهارته المستمرة الى حين الملاقاة للدم، فعند الشكّ في الملاقاة نكون شاكّين في بقاءها، فنجري استصحاب الطهارة، كما يمكن اجراء الاصل الموضوعي في الشك في الرافع بنحو الشبهة الموضوعية.

ولو قام الأصل على الحدوث في مورد الشبهة الموضوعية، و شكّ في البقاء بنحو الشبهة الحكمية، كما إذا ثبتت صحّة الوضوء بقاعدة الفراغ، ثم خرج المذي المحتمل ناقضيته، فقاعدة الفراغ في الوضوء موضوع للطهارة الظاهرية من الحدث، ولا ندري هل هذه الطهارة مغياة بخروج المذي، أم لا، فنستصحبها، كما يمكن هنا استصحاب الطهارة الواقعية لمن توضأ وضوءا صحيحا، ثم خرج المذي بعده كمجعول كلي، و قاعدة الفراغ تثبت صغرى هذا الحكم الاستصحابي.

وقد ذكر أن استصحاب الطهارة الظاهرية لم يكن يجري في قيام الامارة على صحة الوضوء كما لو كان شاكا في كون ما يتوضأ به ماء فقامت البينة على كونه ماء فتوضأ منه، لأنها لا تنتج طهارة ظاهرية، وانما تكون حجة على الطهارة الواقعية، بخلاف الاصل.

ولو كان كل من قيام الأصل على الحدوث والشك في البقاء بنحو الشبهة الحكمية، كما إذا غسل الثوب المتنجس بالماء الملاقي للمتنجس الخالي عن عين النجس عملا باستصحاب طهارته، ثم لاقى دم البيض، فيجري استصحاب الطهارة الظاهرية، باعتبار أنّ أصالة الطهارة في الماء موضوع لطهارة ظاهرية في الثوب لا يدرى هل هي مغياة بعدم ملاقاة دم البيض، ام لا، فنثبت بقاءها بالاستصحاب‏.

فتحصّل امكان جريان استصحاب الحكم الظاهري في هذه الصور، نعم قد يتّفق الجزم بانقطاع الحكم الظاهري، فلا يجري استصحابه، مثاله: أنّ الماء الكرّ لو نقص تدريجا إلى أن وصل النقص الى درجةٍ لا يتسامح العرف فيها، فعندئذ لا يجري استصحاب الكرّيّة الواقعية لتبدّل الموضوع، و ولا يجري استصحاب الكرّيّة الظاهرية، إذ المفروض عدم جريان استصحاب الكرّيّة الواقعية، فما كانت موجودة قبل دقائق من استصحاب الكرّيّة غير موجود الآن قطعاً، فكيف نستصحبه؟([25]).

اقول: يوجد في كلامه عدة ملاحظات:

الملاحظة الاولى: انه لا دليل على كون نتيجة جريان اصل الطهارة في الماء الذي غسل به الثوب المتنجس او جريان قاعدة الفراغ في غسله بالماء هو الحكم الظاهري بطهارة الثوب، بل لعله مجرد حجة ومعذر بالنسبة الى ترتيب آثار الطهارة الواقعية للثوب، فلا فرق من هذه الجهة بين الاصل والأمارة. ولو فرض كون نتيجة تلك الاصول ثبوت الطهارة الظاهرية في الثوب، فلا يبعد تمامية ما ذكره من اجراء استصحاب الطهارة الظاهرية، لأن الظاهر من دليل الاصل التعبد بفرد ظاهري مماثل للاثر الشرعي الواقعي للواقع الذي قام عليه الاصل، وهو طهارة الثوب مغياة بعدم الملاقاة للنجس، وفي الشبهة الحكمية للرافع كالملاقاة لدم البيض، حيث نحتمل كون الطهارة الواقعية مغياة بعدم هذه الملاقاة وعدمه فيسري الشك الى الطهارة الظاهرية ايضا، وأنها هل تكون مغياة بعدمها ام لا، فتستصحب، ولكن قد يكون عموم قاعدة الطهارة مقدما على استصحاب الحكم الظاهري اذا كان مخالفا له من باب تقدم الامارة على الاصل المخالف- كما لو حكمنا بنجاسة الثوب الملاقي لماء زال تغيره بنفسه لاستصحاب نجاسة هذا الماء، ثم غسل هذا الثوب بماء مضاف، او بمايع مورد لتوارد الحالتين بحيث يمنع من جريان الاستصحاب الموضوعي، فان استصحاب النجاسىة الظاهرية في الثوب مخالف لعموم دليل قاعدة الطهارة([26])، فيقدم على الاستصحاب.

الملاحظة الثانية: في مثال كون كل من قيام الاصل على الحدوث والشك في البقاء بنحو الشبهة الحكمية كما إذا غسل الثوب المتنجس بالماء الملاقي للمتنجس الخالي عن عين النجس عملا باستصحاب طهارته، ثم لاقى دم البيض، فيمكن اجراء الاستصحاب في الحكم الكلي في مطلق الجسم الطاهر حيث يستصحب بقاء طهارته الى ما بعد ملاقاته لدم البيض، ويجري استصحاب طهارة ذلك الماء لغرض اثبات صغرى هذا الحكم الاستصحابي، بل قد يكون هذا الاستصحاب جاريا في مورد الشك في المقتضي كاستصحاب بقاء الخيار الى ما بعد زمان الفورية ويكون اثبات حدوث الخيار باجراء اصل، كاستصحاب عدم اشتراط سقوط خيار الغبن منقحا لصغرى الخيار الباقي بعد زمان الفورية بمقتضى الاستصحاب.

الملاحظة الثالثة: كان من المناسب أن يذكر في مثال الكرية استصحاب الحالة السابقة الواقعية الثابتة بالاستصحاب القائم على كرية هذا الماء في كل مرحلة من المراحل المتوسطة التي مرت عليه، ولعله لم يذكر ذلك لأنه كان بصدد بيان الموارد التي لا نحتاج فيها الى الغاء ركنية اليقين بالحدوث.

وأما ما ذكره في تعليقة مباحث الاصول من أن الحكم الظاهري بالكرية لما كان ترخيصياً و لم يكن إلزامياً فبعد الجزم بعدم جريان استصحاب الكرية يمكن اجراء الاستصحاب في روحه وهو عدم الاهتمام بالحكم الالزامي المشكوك الثابت واقعا على تقدير عدم كرية الماء، من دون أن يكون دليل أصالة البراءة حاكماً عليه، بخلاف ما لو استصحبنا روح الحكم الظاهري الالزامي وهو الاهتمام بالواقع([27]).

وفيه مضافا الى ما مر من كون روح الحكم الظاهري ثابتة بنحو القضية الحقيقية فتدور مدار جريان الحكم الظاهري المقطوع عدمه في المقام، ان روح استصحاب الكرية قد لا تكون ثابتة سابقا، كما لو كان اليقين بالكرية السابقة والشك في بقاءها حادثين حين بلوغ الماء الى الدرجة التي لا يمكن استصحاب الكرية فيه الا بلحاظ المراحل المتوسطة التي قد انقضت، هذا ولا يخفى أن روح استصحاب الكرية قد تكون هي الاهتمام، كما لو انحصر ماء الوضوء به وكان على تقدير قلته نجسا، فتستصحبت كريته ونتیجته تنجيز وجوب الوضوء منه کما أن نتیجته صحة هذا الوضوء ايضا.

هذا كله بناء على كون موضوع الاعتصام الماء الكرّ، وأما لو قلنا بكون موضوعه الاعم من الكر او المتصل بالكر، وان يكن له وحدة عرفية مع الماء الكر، كما يستفاد ذلك من الروايات الواردة في ماء الحمام وهو الماء الموجود في الحوض الصغير المتصل بالخزانة التي كانت كرا، كصحيحة داود بن سرحان قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ما تقول في ماء الحمام قال هو بمنزلة الماء الجاري([28])، فيكفي استصحاب الاتصال بالماء الكر.

ثم ان من أمثلة استصحاب الحكم الظاهري ما لو تعارض دليل هذا الحكم الظاهري بقاء مع دليل اصل آخر، كما لو شك في نجاسة ماء فاجرى فيه قاعدة الطهارة ثم علم اجمالا بنجاسته او نجاسة شيء آخر، فان المعارضة بين دليل الطهارة الظاهرية فيهما بقاء لا يمنع من جريان الاصل العملي المثبت لها في الثوب وهو استصحاب طهارته الظاهرية الثابتة قبل العلم الاجمالي.

 



[1] – كفاية الاصول ص 404

[2] – كفاية الاصول ص 478

[3] – بحوث في علم الاصول ج6ص220 مباحث الاصول ج5ص 299

[4] – مصباح الاصول ج 3ص 99

[5] – مصباح الاصول ج2ص 36

[6] – بحوث في علم الاصول ج6ص 221

[7] – مصباح الاصول ج3ص 97

[8] – منتقى الاصول ج6ص 156

[9] – بحوث في علم الاصول ج 6 ص 231

[10] – بحوث في علم الاصول ج6ص 225

[11] – بحوث في علم الاصول ج 6ص 227

[12] – وسائل الشيعة ج‌8 ص 237

[13] – وسائل الشيعة ج‌1 ص 470

[14] – الرسائل ج 1ص243

[15] – وسائل الشيعة ج27ص336

[16] – الرسائل ج1ص124

[17] – تهذيب الأصول ج‏2 ص238

[18] – الرسائل ج 1ص243

[19] – اضاف اليه في مباحث الاصول ما محصله: و إن شئت فاستصحب عدم الغسل بالماء المنقّح لموضوع الحكم الظاهري.

إن قلت: ان قاعدة الطهارة أمارة على الطهارة الظاهرية وتنفي النجاسة الظاهرية، ومعها فلا مجال لاجراء استصحاب النجاسة الظاهرية، قلت: ان دليل قاعدة الطهارة قد خصص بدليل حجية البينة على النجاسة حيث كان المستفاد منها جعل النجاسة الظاهرية الى أن يغسل الثوب بالماء، ومع الشك في تحقق الغسل بالماء يكون المورد شبهة مصداقية للتمسك بالعام (مباحث الاصول ج5ص 306)، اقول: لا يرد عليه ما مر منّا في محله من أن حجية الأمارة بمقدار وصولها الى المكلف، فان دليل حجية خبر الثقة وغيره من الأمارات قاصر عن إثبات حجيتها بمجرد وجودها، مضافا الى كون المرتكز العرفي أن الامارة غير الواصلة لا تزيد على التكليف الواقعي غير الواصل الذي لم يكن مانعا من جريان الاصل المؤمن، فيكشف جريانه عن عدم اهتمام المولى، فان ما ذكرناه وان كان تاما لكن المفروض ان المدلول الالتزامي للامارة هنا واصل بحده وامده وانما الشك في تحقق امده بنحو الشبهة الموضوعية.

[19] – وسائل الشيعةج‌1 ص 134

[20] – مباحث الاصول ج5ص 310

[21] – فوائد الاصول ج‏4 ص405 اجود التقريرات ج2ص 388

[22] – هذا مع غمض العين عن أنه لا يوجد في مثل اصل الطهارة والحل اي تعبد بالعلم حتى بلحاظ الجري العملي.

[23] – مصباح الاصول ج 3ص 100

[24] – مباحث الأصول ج‏5 ص 313

[25] – مباحث الاصول ج5ص 315

[26] – بناء على كون الغاية فيها العلم بالذارة الفعلية لا العلم بحدوث القذارة ولو سابقا بقراءة قوله “حتى تعلم أنه قذُرَ” بصيغة الماضي.

[27] – مباحث الاصول ج5ص 317

[28] – وسائل الشيعة ج1ص 148