الموارد التي اختلف في كونها من الأحكام الوضعية. 1
الشيخ الاعظم و جماعة: الطهارة و النجاسة من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع. 2
اشکال السید الخویی: أن الشارع حكم بالنجاسة و الطهاره 2
الروايات الظاهر فی اعتبارية الطهارة والنجاسة. 4
ثمرة النزاع في تكوينية الطهارة والنجاسة واعتباريتهما 8
کلام صاحب الكفاية: الصحة في العبادات ليست مجعولة شرعا وأما الصحة في المعاملات فهي مجعولة. 9
التفصيل بين الامور المهمة وغير المهمة. 12
التمسك بفحوى حجية خبر الثقة لعدم جريان الاستصحاب فی الامور المهمة. 13
بیان المختار فی الاقوال و التفاصیل.. 16
خلاصه مباحث گذشته:
متن خلاصه …
الموارد التي اختلف في كونها من الأحكام الوضعية
ذكر في المقام عدة امور اختلف في كونها من الأحكام الوضعية نقتصر منها على موردين :
1- الطهارة و النجاسة
المورد الاول: الطهارة و النجاسة
الشيخ الاعظم و جماعة: الطهارة و النجاسة من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع
فذهب جماعة منهم الشيخ الاعظم “قده” على ما نسب اليه إلى أنهما ليستا من المجعولات الشرعية، بل من الأمور الواقعية التي كشف عنها الشارع، كخواص بعض الأدوية التي لا يعرفها إلا أهل الخبرة، وقد يظهر هذا القول من صاحب الكفاية “ره” في البحث عن الصحيحة الثانية لزرارة فراجع([1])، وصرح المحقق العراقي “ره” باختيار هذا القول.
اشکال السید الخویی: أن الشارع حكم بالنجاسة و الطهاره
وقد اورد عليه السيد الخوئي “قده” بأنه خلاف ظهور الأدلة في أن الشارع حكم بالنجاسة في شيء و بالطهارة في شيء آخر بما هو شارع، لا أنه أخبر عن حقيقة الأشياء بما هو من أهل الخبرة، ثم ذكر نقضين:
احدهما: الحكم بالطهارة الظاهرية لمشكوك النجاسة الواقعية، فانه لا يمكن القول بأنه إخبار عن النظافة الواقعية في الطهارة الظاهرية، بعد امكان كونه نجساً واقعا.
ثانيهما: العلم الوجداني بعدم واقع تكويني للطهارة والنجاسة في بعض الموارد، مثل ولد الكافر، فان القول بأن الحكم بنجاسته قبل اسلام والده، اخبار عن قذارته الواقعية، و الحكم بطهارته بعد اسلام والده إخبار عن نظافته الواقعية خلاف الوجدان، و كيف تتبدل قذارته الواقعية الخارجية بمجرد تلفظ والده بالشهادتين، سيما إذا كان بعيداً عنه، فالحكم بالنجاسة يكون لمصلحة، كابعاد المسلمين عن الكفار حتى لا يتاثروا من أخلاقهم، و يمكن ان يكون الحكم بنجاسة الخمر أيضا بهذا الملاك و هو التنفر، فبعد حكم الشارع بحرمته حكم بنجاسته أيضا ليوجب التنفر عنه([2]).
مناقشه: غالب خطابات الشرعية في النجاسات لم ترد الا بلسان الامر بالغسل، لا بلسان أنه قذر
اقول: أما ما ذكره من أن شأن الشارع هو بيان الحكم الشرعي لا الاخبار عن التكوين، فيكون ظاهر الادلة اعتبار الطهارة والنجاسة، ففيه أن إخبار الشارع عن الامور الواقعية التي لا يعلم الا من قبله لغرض بيان الصغرى للاحكام الشرعية المترتبة عليها ليس خلاف شأنه، خاصة وأن غالب الخطابات الشرعية في النجاسات لم ترد الا بلسان الامر بالغسل، لا بلسان أنه قذر.
وأما ما ذكره من النقضين فالجواب عن النقض الاول أن الكلام في الطهارة والنجاسة الواقعيتين لا في التعبد الظاهري بهما ببركة اصل الطهارة او الاستصحاب، كيف وهذا لا يزيد على التعبد الظاهري بالامور التكوينية المحضة، لأجل ترتيب آثارها الشرعية.
وقد نقل في كتاب مباني الاستنباط عن السيد الخوئي أنه اورد على كون الطهارة الظاهرية طهارة تنزيلية بأنه لا معنى للتنزيل الا الحكم بترتب آثار الواقع على المشكوك، فيحكم بصحة الوضوء واقعا من الماء المشكوك النجاسة، وكذا طهارة المتنجس المغسول به واقعا، وهذا مما لا يمكن الالتزام به([3]).
فعلى كلامه لا يجعل طهارة في مشكوك الطهارة حتى يتكلم عن كونها من الامور التكوينية ام من الامور الاعتبارية، وان كان الصحيح عدم تمامية هذا الكلام، لأن الغرض من اعتبار طهارة مشكوك الطهارة او تنزيله منزلة الطاهر الواقعي هو المنجزية والمعذرية لا ثبوت احكام الطاهر الواقعي له واقعا.
وأما النقض الثاني فلا اشكال في توجهه على الشيخ “ره” ان كان مدعاه كون الطهارة والنجاسة من الامور التكوينية في جميع الموارد، ويمكن أن نضيف موارد أخرى الى نقضه، مثل الفرق بين طهارة ماء الاستنجاء وبين نجاسة الماء الملاقى للبول او الغائط في غير مقام تطهير مخرج البول والغائط، او فقل على الأصح: الفرق بين طهارة ملاقي ماء الاستنجاء ونجاسة ملاقي هذا الماء، فانه لا يحتمل كونه فرقا تكوينيا كشف عنه الشارع.
ولکن لعل مقصود الشيخ “ره” أن الطهارة والنجاسة في أغلب الموارد تكوينية، الا أنه يوجد أحيانا مصاديق تعبدية لهما، فملاقي ماء الاستنجاء مصداق تعبدي للطاهر، مع أنه قد يكون مصداقا للنجس الاصلي، نظير اخراج العالم الفاسق بالحكومة من وجوب اكرام العالم بقوله “الفاسق ليس بعالم” كما أن ولد الكافر -بل لعل نفس الكافر- مصداق تعبدي للنجس، بنحو الحكومة، مع أنه مصداق للطاهر الاصلي، نظير ما لو قال المولى “ولد العالم عالم”، فان كان هذا مقصود الشيخ فلا يرد عليه هذا النقض.
الروايات الظاهر فی اعتبارية الطهارة والنجاسة
هذا وقد يستظهر من بعض الروايات الخاصة اعتبارية الطهارة والنجاسة، وعمدة تلك الروايات:
1- صحيحة داود بن فرقد
صحيحة داود بن فرقد “كان بنو اسرائيل اذا اصاب احدهم فطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض و لكن الله منّ عليكم باوسع ما بين السماء و الارض فجعل لكم الماء طهورا([4])” بتقريب أن المتيقن منه وان كان هو الامتنان في جعل الماء مطهرا لجسد المسلمين من إصابة البول، ولكن يستفاد منها اعتبار مطهريته في هذا المورد، فتكون الطهارة الحاصلة منه اعتبارية، والا فلا يحتمل كون امتنانه تعالى في ايجاد خصوصية تكوينية في التطهير بالماء في المسلمين، وقد يقال (بأنه إذا كانت الطهارة اعتبارية فالنجاسة التي حكم بارتفاعها تكون ايضا اعتبارية، لأنّ رفع النجاسة التكوينيّة بالتشريع غير معقول([5]) ولكن المهم استفادة اعتبارية الطهارة والا فقد تكون القذارة التكوينية باقية وانما حصل الامتنان بالتعبد بحصول الطهارة منها.
مناقشه
وهذه الرواية لابأس بدلالتها في موردها وهو اصابة البول للجسد، وقد يتعدى الى غيره بالفحوى او الغاء الخصوصية، لكن قد يناقش فيها باشتمالها على مضمون يصعب الالتزام به وهو الزام بني اسرائيل بقرض لحومهم بالمقاريض عند اصابة البول لجسدهم، وهذا قد يوجب الوثوق النوعي بخلل في الرواية وقد مر في بحث حجية خبر الثقة كونه موجبا لسقوطه عن الحجية، بل ذكر في البحوث أن حصول الظن النوعي بالخلل موجب لذلك، ودعوى كون هذا الحكم كسائر الاحكام العقوبتية الثابتة في اليهود كما قال تعالى “وعلى الذين هادوا حرمنا كل ذي ظفر ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما…ذلك جزيناهم ببغيهم” وقال “فبما نقضهم ميثاقهم حرمنا عليهم طيبات احلت لهم” وقال “واذ قال موسى لقومه يا قوم انكم ظلمتم انفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا الى بارئكم فاقتلوا انفسكم” غير متجهة، فان العقوبة بتحريم شحوم الغنم والبقر وتحريم بعض الطيبات يختلف عن مثل قرض اللحم الذي اصابه البول بالمقراض، وأما الامر بقتل النفس فلم نتحقق معناه، ولعله كان امرا تعجيزيا او امتحانيا.
2- صحيحة محمّد بن حمران
صحيحة محمّد بن حمران، و جميل بن دراج، أنّهما سألا أبا عبد الله (عليه السلام) عن إمام قوم أصابته جنابة في السفر و ليس معه من الماء ما يكفيه للغسل، أ يتوضأ بعضهم و يصلي بهم، فقال: لا، و لكن يتيمّم الجنب و يصلّي بهم، فإنّ الله عزّ و جلّ جعل التراب طهوراً كما جعل الماء طهوراً([6])، بتقريب أن مطهرية التراب في الرواية بمعنى مطهريته من الحدث، و الطهارة من الحدث ليست تكوينية جزما، فبوحدة السياق نفهم أنّ الجعل في قوله “كما جعل الماء طهوراً” أيضاً اعتباري، واطلاقه يشمل الطهورية من الخبث.
مناقشه
وفيه أنه لو سلم كون الطهارة من الحدث اعتبارية لا واقع لها فتشبيه طهورية التراب بطهورية الماء مما يصلح للقرينة على كون المراد من طهورية الماء ايضا طهوريته من الحدث، على ان كون الماء طهورا بقول مطلق بحاجة الى الجعل والاعتبار لا ينفي كون طهوريته بلحاظ الخبث تكوينية.
3- صحيحة زرارة عن أبي جعفر
صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام): لا صلاة إلّا بطهور، و يجزيك من الاستنجاء ثلاثة أحجار، بذلك جرت السنّة من رسول الله (صلى الله عليه و آله) و أمّا البول فإنّه لا بدّ من غسله([7])، بتقريب أن المسح بثلاثة أحجار لا يرفع غالباً القذارة التكوينيّة، فيكون هذا شاهداً على أنّ المقصود الطهارة الاعتبارية.
مناقشه
وفيه مع الغمض عن مبنى من يقول بأن المسح بالاحجار لا يوجب الطهارة وانما يجزي عن الطهارة ويقوم مكانها في جواز الصلاة، ان المسح بالاحجار موجب لتخفيف القذارة التكوينية الى مرتبة قد يكشف الشارع عن عدم كونها نجاسة معتدا بها مما تكون موضوعا للاحكام الشرعية.
ومن هنا تأمل في تعليقة مباحث الاصول في اعتبارية الطهارة والنجاسة الا في مثل ولد الكافر، ولكن الانصاف أنه بعد عدم كون القذارة بما لها من المعنى العرفي في قبال النظافة موضوعا للحكم الالزامي الشرعي بوجوب الاجتناب، فالمرتكز المتشرعي أن لها اعتبار شرعيا به جعلت موضوعا لوجوب الاجتناب، في قبال الطهارة، وان كانت القذارة التكوينية او الاستقذار العرفي ملاك حكم الشارع بالنجاسة الاعتبارية في الجملة.
ففي صحيحة زرارة قال: قال أبو جعفر (عليه السلام) أ لا أحكي لكم وضوء رسول الله (صلى الله عليه وآله) فقلنا بلى فدعا بقعب فيه شيء من ماء فوضعه بين يديه ثم حسر عن ذراعيه- ثم غمس فيه كفه اليمنى ثم قال هكذا إذا كانت الكف طاهرة([8]).
وقوله (عليه السلام) في صحيحة البقباق في الكلب: رجس نجس لا تتوضأ بفضله([9])، وفي موثقة عمار: سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن الحائض تعرق في ثوب تلبسه فقال ليس عليها شيء إلا أن يصيب شيء من مائها أو غير ذلك من القذر فتغسل ذلك الموضع الذي أصابه بعينه([10]).
وفي موثقته الأخرى: سئل عن ماء شربت منه الدجاجة قال إن كان في منقارها قذر لم تتوضأ منه و لم تشرب([11])، وفي موثقته الثالثة: سئل عن الموضع القذر يكون في البيت أو غيره… فلا يصلى عليه و أعلم موضعه حتى تغسله، و عن الشمس هل تطهر الأرض قال إذا كان الموضع قذرا من البول أو غير ذلك فأصابته الشمس ثم يبس الموضع فالصلاة على الموضع جائزة([12]).
وفي موثقته الرابعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن الكوز و الإناء يكون قذرا كيف يغسل و كم مرة يغسل قال يغسل ثلاث مرات([13])، وفي صحيحة الحلبي قال: نزلنا في مكان بيننا و بين المسجد زقاق قذر- فدخلت على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال أين نزلتم فقلت نزلنا في دار فلان فقال إن بينكم و بين المسجد زقاقا قذرا أو قلنا له إن بيننا و بين المسجد زقاقا قذرا فقال لا بأس الأرض تطهر بعضها بعضا([14]).
ثمرة النزاع في تكوينية الطهارة والنجاسة واعتباريتهما
وتظهر ثمرة النزاع في تكوينية الطهارة والنجاسة واعتباريتهما في مجالين:
1- انه بناء على الاول اذا شك في بقاء النجاسة يجري استصحابها بلا اشكال، ولكن بناء على الثاني فتأتي شبهة معارضة استصحاب بقاء المجعول مع استصحاب عدم الجعل الزائد.
2- ما في تعليقة مباحث الاصول من أنه لو غسل الثوب المتنجس بالبول بالماء الكر مرة واحدة وشك في بقاء نجاسته فعلى مبنى كون النجاسة والطهارة امرين واقعيين كشف عنهما الشرع، فحيث انه عادة يعلم بأن الغسلة الاولى تزيل قذارته التكوينية الشديدة ان لم ترفعها بأصلها، فيعلم بأن القذارة التكوينية الشديدة الموجودة قبل غسل هذا الثوب في المرة الاولى كانت موضوعا لوجوب الاجتناب، ويشك في كون الحالة التكوينية للثوب بعد الغسلة الاولى موضوعا لوجوب الاجتناب ام لا، فلا مجال لجريان الاستصحاب، بخلاف ما لو قلنا بكونهما امرين اعتباريين([15]).
لا مانع من استصحاب اصل القذارة والنجاسة حتى لو كانت امرا واقعيا
ولكن الظاهر من الروايات السابقة أن النجاسة حتى لو كانت واقعية فهي موضوع لوجوب الاجتناب شرعا مطلقا بلا اختصاص له بالنجاسة الشديدة، وعليه فلا مانع من استصحاب اصل القذارة والنجاسة، بل لو احتمل كون النجاسة الشديدة فقط موضوعا لوجوب الاجتناب فلا مانع من الاستصحاب الحكمي، وهو بقاء مانعية هذا الثوب للصلاة.
2- الصحة والفساد
المورد الثاني: الصحة و الفساد، فقد وقع الكلام في أن الصحة والفساد هل هما من الامور الواقعية او من المجعولات الشرعية
کلام صاحب الكفاية: الصحة في العبادات ليست مجعولة شرعا وأما الصحة في المعاملات فهي مجعولة
فذكر صاحب الكفاية أن الصحة في العبادات قد تكون بسقوط الإعادة والقضاء بالنسبة الى الإتيان بالمأمور به بالأمر الاختياري الواقعي فهذه ليست من الامور المجعولة شرعا استقلالا أو بتبع تكليف، بل تكون من لوازم الاتيان بالمأمور به عقلا، حيث لايكاد يعقل معه ثبوت الإعادة أو القضاء، وقد تكون بسقوط الأمر الاختياري الواقعي بالاتيان بالمأمور به الاضطراري او الظاهري فتكون مجعولة شرعا تخفيفا ومنة على العباد، مع وجود المقتضي للأمر بالاعادة والقضاء.
وأما الصحة في المعاملات فهي مجعولة، حيث أن ترتب الأثر على معاملة يكون بجعل الشارع ولو إمضاء، نعم صحة كل معاملة شخصية وفسادها ليس إلا لأجل انطباقها مع ما هو المجعول سببا وعدمه([16]).
مناقشه
اقول: الظاهر هو التفصيل بين الصحة الواقعية في العبادات وبين الصحة الواقعية في المعاملات وكذا الصحة الظاهرية بالالتزام بكون الأولى من الامور الواقعية، بخلاف الأخيرتين، فان الصحة الواقعية في العبادات بمعنى موافقة الأمر ليست من المجعولات الشرعية بل تتبع الواقع، ولايخفى عدم اختصاص ذلك بالعبادات بل يجري في الواجبات او المستحبات التوصلية مما يتصور فيها الصحة والفساد، كدفن الميت حيث انه اذا كان واجدا للشرائط من كونه بعد التكفين والتحنيط وروعي فيه استقبال الميت للقبلة كان صحيحا والا كان فاسدا، وأما الصحة الواقعية في المعاملات والصحة الظاهرية مطلقا فهما من المجعولات الشرعية.
کلام السيد الخوئي
وقد اختار المحقق النائيني “قده” كون الصحة الواقعية في المعاملات من الامور الواقعية كالعبادات، وتبعه السيد الخوئي “قده” في الدورات السابقة لابحاثه الاصولية، بتقريب ان ملاك الصحة والفساد في العبادات والمعاملات انما هو بانطباق متعلق الأمر في العبادات وموضوع الاثر في المعاملات على الموجود الخارجي وعدم الانطباق عليه، وهذا تابع للواقع وليس مما تناله يد الجعل.
وهذا في العبادات واضح، حيث انها لاتتصف بالصحة أو الفساد في مقام الجعل والتشريع، وانما تتصف بهما في مقام الامتثال، فان انطبق المأمور به على المأتي به انتزع له وصف الصحة، والا انتزع وصف الفساد، ومن البديهي ان انطباق الطبيعي على فرده في الخارج وعدم انطباقه عليه أمران تكوينيان وغير قابلين للجعل تشريعاً.
وأما في المعاملات فكذلك، حيث انها لاتتصف بالصحّة أو الفساد في مقام الجعل والإمضاء وانما تتصف بهما في مقام الانطباق، مثلا البيع ما لميوجد في الخارج لا يعقل اتصافه بالصحة أو الفساد، فإذا وجد في الخارج فان انطبق عليه البيع الممضى شرعاً اتصف بالصحة، والا فبالفساد([17]).
ولكن عدل عنه بعد ذلك، فاختار كون الصحة في المعاملات مجعولة شرعا دون العبادات، لأن صحة المعاملة ليست الا بمعنى ترتب الاثر المترقب منها كتحقق النقل والانتقال على البيع، ومن الواضح أن نسبة هذا الحكم الى البيع نسبة الموضوع إلى الحكم لانسبة المتعلق إليه، وهذا بخلاف العبادات كالصلاة ونحوها، فان نسبتها إلى الحكم الشرعي نسبة المتعلق لاالموضوع، وموضوع الحكم في القضايا الحقيقية قد أخذ مفروض الوجود في مقام التشريع والجعل دون متعلقه، ولذا تدور فعلية الحكم مدار فعلية موضوعه ويكون الحكم منحلا بعدد افراد الموضوع، وبما أن المعاملات موضوعات للإمضاء الشرعي فبطبيعة الحال يتعدد الإمضاء بتعدد افرادها، فيثبت لكل فرد منها إمضاء مستقل، فالحلية في قوله تعالى “أحل اللّه البيع” تنحل بانحلال افراد البيع، فتثبت لكل فرد منه حلية مستقلة غير الحلية الثابتة لفرد آخر منه، ولانعقل للصحة والفساد في باب المعاملات معنى الا إمضاء الشارع لها وعدم إمضائه، فمعنى ان هذا البيع الواقع في الخارج صحيح شرعاً ليس الا حكم الشارع بترتيب الأثر عليه وهو النقل والانتقال وحصول الملكية، كما انه لا معنى لفساده شرعاً إلا عدم حكمه بذلك([18]).
مناقشه
اقول: قد يراد من الصحة وجدان المأتي به للاجزاء والشرائط المعتبرة، وقد يراد منها ترتب الاثر، ولااشكال في عدم مجعولية الاول، بخلاف الثاني فانه مجعول، والملحوظ في مبناه السابق كان هو المعنى الاول، وفي مبناه الاخير هو المعنى الثاني، وحيث انه لاوجه للغفلة عن المعنى الثاني، بل هو الملحوظ فقط في الشبهات الحكمية لصحة معاملةٍ وفسادها، وهذا المعنى ثابت في كل فرد من افراد المعاملة الصحيحة فما ذكره في الدورة الاخيرة هو الصحيح، وبذلك يتبين أن الصحة في المعاملات بمعنى ترتب الاثر من المجعولات الشرعية.
وأما الصحة الظاهرية فلاينبغي الاشكال في كونها مجعولة شرعا، كما في مورد قاعدة الفراغ والتجاوز، سواء كان مفاد القاعدتين اعتبار العلم بتحقق الجزء او الشرط وعدم تحقق المانع في فرض الشك، او ادعاء تحقق الجزء والشرط وعدم تحقق المانع، او نفس المعذرية، بعد أن كانت كلها صياغات يكون الغرض من وراءها معذورية المكلف في الاكتفاء بالعمل المشكوك الصحة.
التفصيل بين الامور المهمة وغير المهمة
قد يمنع من جريان الاستصحاب بين الامور المهمة مطلقا او في ما لو كانت بمرتبة شديدة كالدماء،
التمسك بفحوى حجية خبر الثقة لعدم جريان الاستصحاب فی الامور المهمة
وقد يتمسك لذلک بفحوى ما مر في حجية خبر الثقة، من منع جماعة من حجيته في الامور المهمة، وقد ناقش في حجيته المحقق الحلي في نكت النهاية، حيث ذكر أن خبر الواحد لا يحكم به في الحدود، لعدم افادته اليقين، والحدّ يسقط بالاحتمال([19])، كما ذكر السيد الخوانساري “قده” أنّ اعتبار خبر الثقة أو العدل مع توثيق بعض علماء الرجال أو تعديله من جهة بناء العقلاء أو الاستفادة من بعض الأخبار لا يخلو عن الإشكال في الدّماء مع شدّة الاهتمام فيها، ألا ترى أنّ العقلاء في الأمور الخطيرة لا يكتفون بخبر الثقة مع اكتفائهم في غيرها به([20]).
وقد ذكرنا هناك أنه بناء على كون دليل حجية خبر الثقة منحصرا بسيرة العقلاء او المتشرعة فيشكل احراز السيرة على حجية خبر الثقة غير المفيد للعلم في الامور المهمة، كالحدود، ولكن يمكن الاستدلال بصحيحة الحميري لحجية خبر الثقة، حتى في الامور المهمة، بناء على ما مرّ من قطعية سند هذه الصحيحة، نعم مقتضى ظهورها الاطلاقي حجية خبر الثقة في الامور المهمة، الا أن حجية الظهورات متسالم عليها حتى في الامور المهمة، نعم لو فرض عدم قطعية سند الصحيحة فاثبات حجية خبر الثقة في الامور المهمة بها، بدعوى اعتبار سندها بسيرة المتشرعة لا يخلو عن اشكال، فان حجية خبر العدل الذي تكون نتيجته حجية خبر الثقة او العدل في الامور المهمة مما لم يحرز قيام السيرة عليها فتدبر.
نعم لو قيل بعدم حجية خبر الثقة في الامور المهمة فالتمسك بالفحوى على عدم جريان الاستصحاب فيها لا يخلو من وجه.
هذا وقد حكي عن بعض السادة الاعلام “دام ظله” أنه اذا كان مورد الاستصحاب بمرتبة شديدة من الاهمية بحيث لا يعمل العقلاء فيها بالحجج العقلائية فلا يكون الاستصحاب حجة حينئذ، نعم ان لم تكن اهميته بهذه المرتبة فيعمل فيها العقلاء بالحجج العقلائية ومنها الاستصحاب.
اقول: ان كان مقصوده انحصار دليل الاستصحاب في بناء العقلاء وليس بناءهم على الاستصحاب في هذه الموارد، فكلام متين، بل لم يحرز بناء العقلاء على تقدير تماميته لموارد الشك في المقتضي او الشبهات الحكمية التي تنشأ من الشك في سعة القانون وضيقه، الا أنه لا وجه للمنع من عموم دليل الاستصحاب في حد ذاته، فان كان المقصود حينئذ دعوى انصراف خطاب الاستصحاب عن مورد شدة الاهمية، فان فرض استنكار العقلاء للعمل بالأمارات الظنية في ذلك المورد بحيث لم تكن الأمارة الظنية حجة، فمن الواضح أن الاستصحاب ليس احسن حالا منها، ولكن لم نجد موردا لذلك، ونتيجة كلامه المنع من جريان الاستصحاب في موضوع الحدود المهمة كالقتل والرجم مثل استصحاب الكفر لاثبات هدر الدم او استصحاب العقل الى زمان ارتكاب موجب القتل او استصحاب عدم الاكراه على الزنا او استصحاب الاحصان لتنقيح موضوع الرجم، ونحو ذلك، ولكن الظاهر أنه لا وجه لدعوى الانصراف، ويكون عموم دليل الاستصحاب واردا على قاعدة درء الحدود بالشبهات، كما يجري استصحاب عدم الرضاع لجواز الزواج او استصحاب عدم الطلاق لحلية الوطء ونحو ذلك.
نعم لا يبعد أن يقال بأن المرتكز المتشرعي يمنع من تجويز قتل مشكوك الاسلام بمجرد جريان استصحاب عدم اسلامه بنحو العدم الازلي، او استصحاب كفر احد اجداه المثبت شرعا لكفره بعد عدم احراز اسلامه.
بل ذكر السيد الخوئي “قده” في كتاب الخمس أنه لا يجوز اخذ مال مشكوك الاسلام قهرا، لأنّ مقتضى الأصل عدم جواز التصرّف في مال الغير ما لم يثبت جوازه، فإنّ أخذ المال ظلم و عدوان، و هو قبيح، إلّا ما ثبت بدليلٍ مثل مال الكافر الحربي و ليس حرمة اخذ مال الغير مشروطة بإسلامه، بل الكفر مانع عن الحرمة، فإذا شككنا في مالٍ أنّه لمسلم أو لحربي كان مقتضى الأصل عدم جواز التصرّف فيه، لا أنّ مقتضى الأصل جوازه إلّا إذا ثبت أنّه لمسلم، بل الأمر بالعكس، فلا يجوز التصرّف إلّا إذا ثبت أنّه لحربي، و الحاصل: أنّ أصالة الاحترام من غير إناطةٍ بالإسلام هي المعوّل عليها في كافّة الأموال بالسيرة العقلائيّة و حكومة العقل القاضي بقبح الظلم كما عرفت، إلّا إذا ثبت إلغاءه و الإذن في التصرّف فيه بدليل خاصّ، كما ثبت في الكافر الحربي بإذنٍ من مالك الملوك الموجب لخروج ذلك عن عنوان الظلم.
و من هنا لا ينبغي الشكّ من أحد في أنّا إذا وجدنا شخصاً مجهول الحال في بادية و شككنا في أنّه مسلم أو كافر حربي لا يجوز لنا أخذ ماله بأصالة عدم إسلامه، أو لو رأيناه قد وضع ماله في مكانٍ معيّن أو ادّخره فيه فإنّه لا يسوغ لنا استملاكه بإجراء الأصل المزبور بالضرورة، فان جواز التصرّف في الأموال يتوقّف على إحراز الجواز إمّا بإذنٍ من المالك أو من مالك الملوك([21]).
ولكن يرد عليه أنه لو كان يدعي ثبوت حكم واقعي من العقل بقبح التصرف في مال الغير من دون اذنه او اذن الشارع فيه، ففيه أنه ارتفع موضوعه باذن الشارع في التصرف في مال من ليس بمسلم ولا ذمي ولا معاهد ولا مستأمن، وذلك لما ورد من بالاسلام حقنت الدماء وبه تؤدى الأمانة، فيجري الاصل الموضوعي النافي لاسلامه او المثبت لكفره ولو من باب أن كفر احد أجداه وان علا محرز بالوجدان، واثر استصحابه شرعا كفر اولاده ما لم يسلموا، بل يكفي في احراز الإذن جريان الاصل الحكمي كأصالة الحل.
وان اراد ثبوت حكم ظاهري عقلي او عقلائي بلزوم الاحتياط في موارد الشك في كون المال ملك انسان محترم المال، فلا دليل عليه، واي فرق بين قيام الأمارة على نفي كون مالكه محترم المال و بين جريان الاصل الموضوعي لنفيه.
على أن ما ذكره منافٍ لفتواه من جواز الاستنقاذ من البنوك في البلاد الكافرة، مع أنه يحتمل كون المال ملك مسلم يعيش في تلك البلاد.
وعليه فالظاهر أنه لا مانع من الاستصحاب الموضوعي او الحكمي المثبت لجواز اخذ مال الغير، كما لو شك غير البلاد الاسلامية في كون مالكه كافرا او مسلما، بناء على ما هو المشهور من جواز اخذ مال الكافر الحربي اي غير الذمي والمعاهد والمستأمن، من دون رضاه.
هذا بالنسبة الى الشبهة الموضوعية لجواز القتل او اخذ المال وقد تكون الشبهة حكمية، كما لو شككنا في طائفة من الكفار كالصائبة أنهم من اهل الكتاب حتى يدخلوا في الذمة او ليسوا من اهل الكتاب حتى يتعامل معهم معاملة الكافر غير الكتابي، المحكوم بحكم المشركين من جواز قتلهم ونهب اموالهم، على رأي المشهور، فيقع الكلام في أنه هل يجري استصحاب عدم كونهم من اهل الكتاب، لجواز قتلهم او نهب اموالهم، وقد اتضح أنه لا مانع من عموم دليل الاستصحاب بالنسبة الى ذلك، نعم جريانه مبني على القول بجريان الاستصحاب في العدم الازلي، وقد منعنا من جريانه في بحث العام والخاص.
بیان المختار فی الاقوال و التفاصیل
الى هنا تم الكلام حول ادلة الاستصحاب وذكر التفاصيل المهمة في الاستصحاب
وقد قبلنا التفصيل بين الاستصحاب في الشبهات الموضوعية والشبهات الحكمية فقط، حيث تم لدينا اشكال المحقق النراقي “ره” من المعارضة بين استصحاب بقاء المجعول واستصحاب عدم الجعل الزائد فيما كان المستصحب بقاء الحكم لا عدم الحكم.