بسمه تعالی
رؤوس المطالب:
حكم صلاة الجمعة في عصر الغيبة. 2
القول الاول: وجوبها التعیینی.. 2
القول الثانی: المشهور وجوبها التخييري.. 4
القول الخامس: ما ذهب اليه السيد الصدر. 6
الآیة الاولی: اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا 6
الآية الثانية: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى.. 11
روایات الدالة علی وجوب التعييني لاقامة صلاة الجمعة في عصر الغيبة. 13
الرواية الاولى: صحيحة زرارة 13
الرواية الثانية: صحيحة زرارة 15
الرواية الثالثة: صحيحة منصور بن حازم. 18
الرواية الرابعة: صحيحة أبي بصير و محمد بن مسلم. 20
الرواية الخامسة: صحيحة زرارة 20
الرواية السادسة: صحيحة أبي بصير و محمد بن مسلم. 20
الرواية السابعة: صحيحة محمد بن مسلم و زرارة 21
المختار: عدم وجوب اقامة صلاة الجمعة تعيينا في عصر الغيبة. 23
حكم صلاة الجمعة في عصر الغيبة
الجهة الرابعة: عدّ صاحب العروة صلاة الجمعة من ضمن الصلوات الواجبة، وهو یری كونها واجبة تخييرا في عصر الغيبة اقامة وحضورا، وينبغي الكلام في المقام حول حكمها في عصر الغيبة، فان فيه عدة اقوال:
القول الاول: وجوبها التعیینی
القول الاول: وجوبها التعیینی،
کلام الشهيد الثاني
وهذا قول الشهيد الثاني “ره”، في رسالة صلاة الجمعة ولم ينقل عن احد قبله، نعم هو ذكر في الكتاب أنّ الأصحابَ اتّفقوا على وجوبِها عيناً مع حضور الإمام أو نائبه الخاصّ، و إنّما اختلفوا فيه في حال الغَيْبة فذهب الأكثرُ إلى وجوبِها أيضاً مع اجتماع باقي الشرائط غير إذن الإمام، و هم بين مُطلِقٍ للوجوب كما ذكرناه و بين مُصرّحٍ بعدم اعتبار شرط الإمام أو مَن نَصَبَه حينئذٍ، و ربما ذهب بعضُهم إلى اشتراطِها حينئذٍ بحضور الفقيه الذي هو نائبُ الإمام على العموم، و إلا لم تصحّ، و ذهب قوم إلى عدم شرعيّتها أصلًا حال الغَيبة مطلقاً، و الذي نعتمده مِن هذه الأقوال و نختاره و نَدِينُ اللهَ تعالى به هو المذهبُ الأوّلُ[1]، ثم قال بعد الاستدلال بآية صلاة الجمعة وجملة من الأخبار أنه كيف يسع المسلم الذي يخاف اللّٰه تعالى إذا سمع مواقع أمر اللّٰه تعالى و رسوله و أئمته عليهم السلام بهذه الفريضة و إيجابها على كل مسلم أن يقصّر في أمرها و يهملها إلى غيرها و يتعلل بخلاف بعض العلماء فيها، و أمر اللّٰه تعالى و رسوله و خاصته عليهم السلام أحق و مراعاته أولى، فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يصيبهم عذاب إليهم، و لعمري لقد أصابهم الأمر الأول فليرتقبوا الثاني إن لم يعف اللّٰه تعالى و يسامح، نسأل اللّٰه العفو و الرحمة بمنه و كرمه[2].
ولكنه ذهب في بقية كتبه كالمسالك الى وجوبها التخييري، حيث ان المحقق في الشرايع ذكر أنه إذا لم يكن الإمام موجودا و لا من نصبه للصلاة و أمكن الاجتماع و الخطبتان قيل يستحب أن يصلي جمعة و قيل لا يجوز و الأول أظهر[3]، فعلق عليه في المسالك بقوله “المراد باستحباب الجمعة هنا كونها أفضل الفردين الواجبين تخييرا و هما الجمعة و الظهر، فعلى هذا ينوي بها الوجوب و يجزي عن الظهر، و ليس المراد استحبابها بالمعنى المتعارف لأنّها. متى شرعت أجزأت عن الظهر، و المندوب لا يجزي عن الواجب. و هذا القول هو أصح القولين[4]“.
نعم اشار في الروضة البهية الى القول بالوجوب التعييني، فقال: قد اختلف الأصحاب في وجوب الجمعة في زمان الغيبة و تحريمها: فالمصنف هنا –اي في اللمعة- أوجبها مع كون الإمام فقيها لتحقق الشرط و هو إذن الإمام، و بهذا القول صرح في الدروس أيضا، و ربما قيل بوجوبها حينئذ و إن لم يجمعها فقيه، عملا بإطلاق الأدلة،و اشتراط الإمام عليه السلام، أو نصبه إن سلم فهو مختص بحالة الحضور، أو بإمكانه، فمع عدمه يبقى عموم الأدلة: من الكتاب و السنة خاليا عن المعارض، و هو ظاهر الأكثر و منهم المصنف في البيان، فإنهم يكتفون بإمكان الاجتماع مع باقي الشرائط، و ربما عبروا عن حكمها حال الغيبة بالجواز تارة، و بالاستحباب أخرى، نظرا إلى إجماعهم على عدم وجوبها حينئذ عينا، و إنما تجب على تقديره تخييرا بينها، و بين الظهر، لكنها عندهم أفضل من الظهر و هو معنى الاستحباب، بمعنى أنها واجبة تخييرا، مستحبة عينا كما في جميع أفراد الواجب المخير إذا كان بعضها راجحا على الباقي و على هذا ينوي بها الوجوب و تجزي عن الظهر. و كثيرا ما يحصل الالتباس في كلامهم بسبب ذلك حيث يشترطون الإمام، أو نائبه في الوجوب إجماعا، ثم يذكرون حال الغيبة، و يختلفون في حكمها فيها فيوهم أن الإجماع المذكور يقتضي عدم جوازها حينئذ بدون الفقيه، و الحال أنها في حال الغيبة لا تجب عندهم عينا، و ذلك شرط الواجب العيني خاصة، ولأجل هذا الوهم ذهب جماعة من الأصحاب إلى عدم جوازها حال الغيبة لفقد الشرط المذكور… و لو لا دعواهم الإجماع على عدم الوجوب العيني لكان القول به في غاية القوة، فلا أقل من التخييري مع رجحان الجمعة[5].
ومقتضى ما ذكره من دعواهم الاجماع على عدم الوجوب التعييني في عصر الغيبة أن ما نسبه الى الاكثر ومنهم الشهيد في البيان هو القول باصل الوجوب المجتمع مع الوجوب التخييري.
وذكر في روض الجنان: وفي استحبابها حال الغيبة و إمكان الاجتماع قولان: أحدهما: المنع. و هو قول المرتضى و سلار و الشيخ في الخلاف و ابن إدريس لفقد الشرط، و هو الإمام أو مَنْ نصبه، فينتفي المشروط. و لأنّ الظهر ثابتة في الذمّة بيقين، فلا يبرأ المكلّف إلا بفعلها. و لأنّها لو شُرّعت حال الغيبة، لوجبت عيناً، فلا يجوز فعل الظهر، و هو منتفٍ إجماعاً.
و وجه اللزوم: أنّ الدلائل الدالّة على الجواز دالّة على الوجوب العيني في حال الحضور، فلا وجه للعدول إلى التخييريّ حال الغيبة.
و الثاني: الجواز المعبّر عنه بالاستحباب بمعنى كونه أحد الفردين الواجبين على التخيير. و هو قول أكثر الأصحاب، لعموم قوله تعالى “إِذٰا نُودِيَ لِلصَّلٰاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلىٰ ذِكْرِ اللّٰهِ” و الأمر للوجوب، …و هذا القول هو الواضح.
و الجواب عن حجّة الأوّل: أنّ شرط الإمام أو مَنْ نصبه إنّما هو حال الحضور و الإمكان، لا مطلقاً، و أين الدليل عليه؟، و لو سلّم، لا يلزم سدّ باب الجمعة في حال الغيبة و تحريمها؛ لأنّ الفقيه الشرعي منصوب من قِبَل الإمام عموماً؛ فلا يتمّ القول بتحريمها مطلقاً في حال الغيبة، و نمنع تيقّن وجوب الظهر في صورة النزاع؛ فإنّه عين المتنازع. و الدليل الدالّ على الوجوب أعمّ من الحتمي و التخييري، و لمّا انتفى الحتمي في حال الغيبة بالإجماع تعيّن الحمل على التخييري، و لو لا الإجماع على عدم العيني، لما كان لنا عنه عدول[6].
وكيف كان فقد هجم صاحب الجواهر على ما كتبه الشهيد الثاني في رسالة صلاة الجمعة، فقال: من مضحكات المقام دعوى بعض المحدثين تواتر النصوص بالوجوب العيني و أنها تبلغ مأتي رواية، وأغرب من ذلك دعوى بعض مصنفي الرسائل في المسألة كالكاشاني و غيره الإجماع على الوجوب العيني، مع أن معتمدهم في هذا الشهيد الثاني في رسالته في المسألة التي قد يظن صدورها منه في حال صغره، لما فيها من الجرأة التي ليست من عادته على أساطين المذهب و كفلاء أيتام آل محمد (عليهم السلام) و حفاظ الشريعة، و لما فيها من الاضطراب و الحشو الكثير، و لمخالفتها لما في باقي كتبه من الوجوب التخييري و نسأل الله أن يتجاوز له عما وقع فيها و عما ترتب عليها من ضلال جماعة من الناس[7]
کلام صاحب المدارك
وقد ذهب الى القول بالوجوب التعييني صاحب المدارك سبط الشهيد الثاني ايضا، فقال بعد سرد جملة من الأخبار أن هذه الأخبار الصحيحة الواضحة الدلالة على وجوب الجمعة على كل مسلم عدا ما استثني تقتضي الوجوب العيني، إذ لا إشعار فيها بالتخيير بينها و بين فرد آخر[8]
القول الثانی: المشهور وجوبها التخييري
القول الثانی: ما هو المشهور بین المتأخرین من وجوبها التخييري وكونها افضل من صلاة الظهر، وان وقع الخلاف في لزوم كون الاتيان بها باذن من له الولاية العامة كما هو مختار السيد الامام “قده” او عدم لزوم ذلك كما هو مختار الاكثر ومنهم بعض السادة الاعلام “دام ظله”.
القول الثالث: القول بحرمته
القول الثالث: القول بحرمته لكون اقامة صلاة الجمعة من مناصب الامام (عليه السلام) ولم يعلم اذنه لتصدي احد و منهم الفقهاء لذلك في عصر الغيبة، وهو قول السيد المرتضى وسلار وابن ادريس، وممن اختار ذلك السيد البروجردي “قده” فانه بعد ما استدل بعدة من الأدلة التي سيأتي ذكرها على أن اقامة صلاة الجمعة من مناصب الامام قال أننا وان كنا نقبل ولاية الفقيه، وتفويض وظائف الامام الى الفقيه في عصر الغيبة، لكن يمكن أن يقال: إن الأمور التي ترتبط بالإمام و تعدّ من وظائفه على صنفين:
1- ما كان من وظائف الإمام إذا كان مبسوط اليد[9].
2- ما كان من من وظائفه و لو لم يكن مبسوط اليد إذا أمكنه القيام به و لو بالتوكيل و الإرجاع إلى غيره، و ذلك كالأمور المهمة التي لا يرضى الشارع بإهمالها كيفما كان، كالتصرف في أموال اليتامى و المجانين و الغيّب، و كالقضاء بين الناس و نحو ذلك.
و الظاهر أنّ إقامة الجمعة من الصنف الأوّل، و إذا ثبت كون إقامة الجمعة من وظائف الإمام عليه السلام إذا كان مبسوط اليد فقط أو شكّ في كونها من هذا القبيل أو من قبيل الصنف الثاني لم يثبت للفقيه رخصة في إقامتها، إذ القدر المتيقن من أدلّة، ولايته من قبل الإمام عليه السلام في خصوص الصنف الثاني من وظائف الإمام أعني الأمور المهمة التي لا يرضى الشارع بإهمالها كيفما كان، فاستفادة الترخيص في إقامتها من أدلّة ولاية الفقيه مشكل.[10]
ولا يختلف أن هذه الدعوى قد تؤدي الى القول بالحرمة الذاتية لاقامة غير الامام لصلاة الجمعة لكونها غصبا لمنصب الامام، ويؤيده ما ورد في دعاء يوم الجمعة في الصحيفة السجادية “اللهم ان هذا مقام خلفاءك قد ابتزوها” وقد نقل بعض الاجلاء “دام ظله” عن السيد البروجردي “قده” أنه كان يحتاط في حرمتها الذاتية، من غير فرق بين امام الجمعة والمأمومين، ولعله لأجل كون مشاركتهم في صلاة الجمعة موثرة في تحقق غصب هذا المنصب للامام، ولكنه لا وجه له بالنسبة الى من لا يؤثر حضوره في اقامة صلاة الجمعة، بل مجرد تصدي الشخص للمنصب الذي لا يستحقه ليس من المحرمات الذاتية كتصدي الفاسق لامامة الجماعة، او تصدي غير الولي للولاية على الصبي ما لم يتصرف تكوينا في ما لا يجوز له التصرف فيه، فتصرفه الاعتباري في ماله وان لم يكن نافذا، لكنه ليس بمحرم ذاتا، وقوله (عليهم السلام) “قد ابتزوها” لعله لأجل ابعادهم الائمة (عليهم السلام) عن هذا المنصب فحرمة عملهم من هذه الجهة او أن صدق هذا العنوان لأجل الحرمة التشريعية لعملهم، وقد ذكر “دام ظله” أن المسألة بنظره من دوران الامر بين المحذورين فكما تكون حرمتها الذاتية محتملة عنده كذلك وجوبها التعييني محتمل، فلابد إما من السفر قبل زوال يوم الجمعة او الرجوع الى فقيه آخر يفتي بوجوب صلاة الجمعة او حرمتها.
هذا وقد ذهب السيد الحكيم “قده” في تعليقة العروة الى الحرمة التشريعية لصلاة الجمعة في عصر الغيبة، فقال: في مشروعيّتها في زمان الغيبة إشكال، و الأظهر عدمها، نعم لا بأس بالإتيان بها برجاء المطلوبيّة و لابدّ من فعل الظهر قبلها أو بعدها[11].
القول الرابع: التفصيل
القول الرابع: التفصيل بين اقامتها فتجب تخييرا و بين الحضور فيها بعد اقامتها بشرائطها فتجب تعيينا، و هذا ما ذهب اليه جماعة كالسيد الخوئي والشيخ الاستاذ “قدهما” وان لم يفتيا بوجوب الحضور حذرا من مخالفة المشهور فاحتاطا وجوبا في ذلك، وحيث ان الشيخ الاستاذ كان يرى أخيرا عدم جواز الرجوع في الاحتياط الوجوبي الى غيره في مورد العلم بكونه مقترنا بتخطئة الآخرين فهذا الاحتياط الوجوبي من تلك الموارد، فلا يجوز الرجوع فيه لمن يقلِّده الى غيره.
القول الخامس: ما ذهب اليه السيد الصدر
القول الخامس: ما ذهب اليه السيد الصدر “قده” من وجوب اقامتها تعيينا على الحاكم العادل مباشرة او تسبيبا عند تحقق حكومة شرعية، ووجوب الحضور في صلاة الجمعة بعد اقامتها بشرائطها مطلقا ولو عند عدم حكومة شرعية، وهذا تلفيق بين القول الاول والرابع.
الادلة للقول الاول
وقد استدل للقول الاول اي وجوبها التعييني في زمان الغيبة بالكتاب والروايات والاصل.
الآیة الاولی: اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا
أما الكتاب فهو قوله تعالى “يا ايها الذين آمنوا اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم ان كنتم تعلمون” فذكر الشهيد الثاني في تقريب الاستدلال به أنه أجمع المفسّرون على أنّ المرادَ بالذكرِ المأمورِ بالسعي إليه في الآيةِ صلاةُ الجمعة أو خُطبَتُها، فكلّ مَنْ تَناوَلَه اسمُ الإيمانِ مأمور بالسعي إليها و استماعِ خُطبتِها و فعلِها و تركِ كلّ ما أشغل عنها.
لا يقال: الأمرُ بالسعي في الآيةِ مُعلّق على النداء لها و هو الأذان لا مطلقِ النداء، فيلزم عدمُ الأمر بها على تقدير عدمِ الأذان، سلّمنا، لكن الأمر بالسعي إليها مغاير للأمرِ بِفعلها؛ ضرورةَ أنّهما متغايران، فلا يدلّ على المدّعى.
لأنّا نقول: إذا ثبت بالأمر أصلُ الوجوب حصل المطلوبُ؛ لإجماعِ المسلمين قاطبةً فضلًا عَن الأصحابِ، على أنّ الوجوبَ غيرُ مقيّدٍ بالأذانِ و إنّما علّقه على الأذانِ حثّا على فعله لها، و لا يحسن الأمرُ بالسعي إليها و إيجابه مع عدم إيجابها.
لا يقال: الأمرُ المذكورُ بها مُرتّب على النداء، و النداء مُتوقّف على الأمرِ بها؛ للقطع بأنّها لو لم تكنْ مشروعةً لم يصحّ الأذان لها، فلا يصحّ الاستدلالُ على مشروعيّتها مطلقاً بالآية.
لأنّا نقول: إنّ النداءَ المعلّقَ عليه الأمرُ هو النداءُ للصلاةِ يومَ الجمعةِ أعمّ مِن كونِها أربعَ كعاتٍ و هي الظهرُ المعهودةُ أم ركعتين و هي الجمعةُ، و لا شُبهةَ في مشروعيّةِ النداءِ للصلاة يومَ الجمعةِ مطلقاً، و حيثُ يُنادى لها يجب السعي إلى ذكر الله، و هو صلاةُ الجمعةِ أو سَماعُ خُطبَتِها المقتضي لوجوبِها[12].
و ذکر المحقق الشيخ مرتضى الحائري “قده” أن تقريب الاستدلال بالآية يتمّ في طيّ أمور:
منها: أنّ قوله تعالى “إِذٰا نُودِيَ” لا يكون ملحوظا بنحو الموضوعيّة، بضرورة من الشرع و العرف، فإنّه لا يحتمل أهل اللّسان أن يكون المقصود هو وجوب السّعي عند سماع النّداء، بحيث لو علم بدخول الوقت و انعقاد صلاة الجمعة لكن لم يكن نداء في البين لم يكن السّعي واجبا على أحد، كيف؟ و الأذان مستحبّ، فيمكن أن يخرج المسلمون من تحمّل هذا التكليف الشاقّ الّذي لابدّ من المسير إلى محلّ الأداء من الفرسخين بترك الأذان، حتّى لا يجب على أحد أن يصلّي الجمعة. فلابدّ أن يكون كناية، و حينئذ إمّا أن يكون كناية عن انعقاد الجمعة، أو يكون كناية عن دخول الوقت، أي زوال الشمس عن دائرة نصف النّهار. و لا ريب أنّ الثّاني أولى لوجوه:
1- انّ الأذان ملازم لدخول الوقت و لا يكون ملازما لانعقاد الجمعة، فإنّه قد ينادى للصّلاة من يوم الجمعة و لا ينعقد الجمعة، و كون “من” متعلّقا بالمحذوف -أي الصّلاة الّتي تقام في الزّمان الّذي هو يوم الجمعة- خلاف الظاهر قطعا، لأنّ الظاهر تعلّق الحروف و الظروف بأصل الفعل، فيكون المعنى على هذا أنّه إذا نودي في الزمان الّذي هو يكون يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر اللّه، و لا ريب أنّه لا يكون ملازما لانعقاد الجمعة حتّى يكون كناية عنه، و كونه في زمان النزول ملازما للانعقاد في خصوص مدينة الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يكون قرينة على تقييد الخطاب القرآنيّ العامّ للأعصار و الدّهور.
2- الوقت ملحوظ بحسب سياق الآية، فإنّ المستفاد منها أنّها ليست بصدد بيان أنّه يلزم على المؤمنين أن يدركوا جمعة النبيّ (صلّى اللّه عليه و آله) و لو في الرّكوع الأخير، كما يستفاد من قوله تعالى “وَ تَرَكُوكَ قٰائِماً” الدالّ على كونه منتظرا لقدومهم، و كانوا يجيئون إلى الصّلاة مع التأخير، فالظاهر منها عند العرف أنه لابدّ عليكم السّعي أوّل الوقت المعلوم بالأذان، و الحاصل أنّ مقتضى إطلاق “إِذٰا نُودِيَ لِلصَّلٰاةِ” هو السّعي إلى ذكر اللّه و لو لم يقطع باقامة صلاة الجمعة أو يقطع بعدمها لكن يتمكّن من اقامتها.
3- انّ نفس اشتراط الوجوب بالانعقاد المستلزم لعدم الوجوب عند عدم الانعقاد -الموجب لترك فريضة من فرائض اللّه دائما- خلاف ارتكاز العقلاء، و الارتكاز المذكور لعلّه مانع عن انعقاد الظهور للآية، في كون “إِذٰا نُودِيَ” كناية عن انعقاد الجمعة، بحيث لم يكن للمسلمين تكليف بالنّسبة إلى الجمعة، و كان تكليفهم السعي إلى الجمعة إذا علموا انعقادها فقط[13].
وقد اورد السيد البروجردي “قده” على الاستدلال بالآية أنه بملاحظة مورد نزولها يعلم أنها ليست بصدد تشريع الجمعة، و إنما نزلت في واقعة خاصة اتفقت بعد ما كانت صلاة الجمعة مشرَّعة و معمولا بها بين المسلمين، فان دحية بن خليفة الكلبي كان يسافر إلى الشام و يأتي بمال التجارة إلى المدينة ثم يضرب بالطبل لإعلام الناس بقدومه، فقدم ذات جمعة و رسول اللّٰه (صلّى اللّٰه عليه و آله) يخطب لصلاة الجمعة، فلمّا ارتفع صوت الطبل خرج الناس و انفضوا إليه، بعضهم لشراء المتاع، و بعضهم لاستماع اللهو و تركوا النبي قائماً فنزلت الآية.
و المراد بالذكر فيها هو الخطبة كما عليه الأكثر، و قوله تَرَكُوكَ قٰائِماً يعنى به قائماً في الخطبة. و كان سيرته صلّى اللّٰه عليه و آله و سيرة الخلفاء بعده على القيام فيها، إلى أن وصل الأمرإلى معاوية فاختار القعود، وعليه فالمراد بالذكر في الآية بقرينة المورد هو الخطبة، و المقصود أمر الناس بأن يسعوا و يسرعوا لإدراك الخطبة، و هذا بعد ما فرض النداء إلى الجمعة التي أريد بها الجمعة الصحيحة الواجدة للشرائط لا محالة، فالآية إنما وردت في مقام التوبيخ لمن ترك حضور الجمعة المنعقدة و قدّم التجارة أو اللهو عليها بعد ما كان أصل تشريعها بشرائطها مفروغا عنه، فمفادها أنه إذا أقيمت صلاة الجمعة بشرائطها و حدودها فعلى الناس أن يسعوا إليها و يذروا ما يشغل عنها، و أما أنّه على من يجب عقدها و إقامتها، و ما هي شروط صحتها فليست الآية في مقام بيانها، فلعل شرط صحتها حضور المعصوم او نائيه الخاص[14].
كما ذكر السيد الخوئي “قده” في تقريب الاستدلال بالآية أن المنصرف من الكلام بعد ملاحظة تخصيص الجمعة من بين الأيام، إرادة صلاة الجمعة من ذكر اللّٰه، فيجب السعي إليها لظهور الأمر في الوجوب، ثم اورد عليه أوّلًا: أنّ غاية ما يستفاد من الآية المباركة بعد ملاحظة كون القضية شرطية إنّما هو وجوب السعي على تقدير تحقق النداء و إقامة الجمعة و انعقادها، و نحن نلتزم بالوجوب في هذا الحال، و أما وجوب إقامتها تعييناً فلا يكاد يستفاد من الآية بوجه.
و يؤيده قوله تعالى بعد ذلك “وَ إِذٰا رَأَوْا تِجٰارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْهٰا وَ تَرَكُوكَ قٰائِماً” حيث يظهر منها أن الذمّ إنما هو على تركهم الصلاة بعد فرض قيام النبي (صلى اللّٰه عليه و آله) لها، و اتصاف الجمعة بالانعقاد و الإقامة، فيتركونه قائماً و يشتغلون باللهو و التجارة، و أما مع عدم القيام فلا ذمّ على الترك.
و بالجملة: وجوب السعي معلّق على النداء فينتفي بانتفائه بمقتضى المفهوم، و لا دلالة في الآية على وجوب السعي نحو المعلّق عليه كي تجب الإقامة ابتداءً.
و ثانياً: أن الاستدلال بها مبني على إرادة الصلاة من ذكر اللّٰه و هو في حيّز المنع، و من الجائز أن يراد به الخطبة كما عن بعض المفسرين، بل لعله المتعين، فإن السعي هو السير السريع، و مقتضى التفريع على النداء وجوب المسارعة إلى ذكر اللّٰه بمجرد النداء، و معه يتعين إرادة الخطبة، إذ لا ريب في عدم وجوب التسرّع إلى الصلاة نفسها، لجواز التأخير و الالتحاق بالإمام قبل رفع رأسه من الركوع بلا إشكال، و حيث إن الحضور و الإنصات للخطبة غير واجب إجماعاً فيكشف ذلك عن كون الأمر للاستحباب، و يؤيده قوله تعالى “ذٰلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ” و قوله تعالى “قُلْ مٰا عِنْدَ اللّٰهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجٰارَةِ” فإن التعبير بالخير يناسب الاستحباب، و إلا فلو أُريد الوجوب كان الأنسب التحذير عن الترك بالوعيد و العذاب الأليم، نعم لا نضايق من استعمال هذه الكلمة في موارد الوجوب، كقوله تعالى “وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ” و نحو ذلك، لكن الوجوب في أمثالها قد ثبت من الخارج بدليل مفقود في المقام، و إلا فهذه الكلمة في حدّ نفسها لا تقتضي إلا الندب و الرجحان كما هو المتبادر منها و من مرادفها من سائر اللغات في الاستعمالات الدارجة في عصرنا، فانّ المراد بالخير لا سيما إذا كان متعدياً ب “من” كما في الآية الثانية، ليس ما يقابل الشر، بل ما يكون أحسن من غيره، فكأنه تعالى أشار إلى أنّ الصلاة لمكان اشتمالها على المنافع الأُخروية، فالإقدام إليها أفضل و أرجح من الاشتغال بالتجارة التي غايتها الربح الدنيوي الزائل، و قد وقع نظير ذلك في القرآن كثيراً كما في قوله تعالى “وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولىٰ” إذ ليس المراد ما يقابل الشر قطعاً.
و مما ذكرنا يعلم أنّ الأمر في الآية محمول على الاستحباب، حتى لو أُريد بالذكر الصلاة دون الخطبة، لمكان التذييل بتلك القرينة الظاهرة في الندب، فالإنصاف أنّ الاستدلال بهذه الآية للوجوب التعييني ضعيف[15].
وقد اجاب شيخنا الاستاذ عن هذه الاشكالات على الاستدلال بالآية على الوجوب التعييني لاقامة صلاة الجمعة في عصر الغيبة، فقال ان المراد بالنداء للصلاة من يوم الجمعة هو الاذان المعروف في سائر الأيام عند زوال الشمس واطلاقها يشمل زمان الغيبة ايضا، فينفي شرطية حضور المعصوم او نائبه الخاص، وتدل الآية على أنه اذا أذن لطبيعي الصلاة في يوم الجمعة كالاذان لها في سائر الايام تجب الاتيان بصلاة الجمعة على كل مكلف فان اقيمت فلابد من الحضور فيها والا فلبد من اقامتها مع التمكن منها، ودعوى عدم الاطلاق في الآية من هذه الجهة، لأن قوله تعالى بعد ذلك “واذا رأوا تجارة او لهوا انفضوا اليها وتركوك قائما” قرينة على ارادة النداء باقامتها من رسول الله (صلى الله عليه وآله) مندفعة بأن تلك الآية لا تدل على اختصاص الآية الاولى بصلاة الجمعة منه (صلى الله عليه وآله)، كما أن دعوى كون المراد بالذكر خطبة صلاة الجمعة ولا يجب الحضور فيها قطعا فلابد من حمل الامر بالسعي على الاستحباب خصوصا مع اشتمال الذيل على لفظ الخير، مندفعة ايضا بأن الذكر لو لم يختص بالصلاة فلا ينبغي التأمل في أنه يعمها، فان الصلاة في نفسها ذكر كما يشير اليه قوله تعالى “اقم الصلاة لذكري” ولا منافاة بين كون السعي الى الخطبة مستحبا والسعي الى صلاة الجمعة واجبا، والتعبير بالخير ليس قرينة على رفع اليد عن ظهور الامر في الوجوب بعد كون استعماله في الواجب متعارفا ايضا[16].
كما اجاب المحقق الحائري “ره” عن الاشكال (بأن المستفاد من الآية الأمر بالسّعي الى الخطبة بمحض النّداء، و هذا مستحبّ قطعا، لعدم وجوب استماع الخطبة) فقال: الأقرب أن يكون الذكر بمعنى الصّلاة، لصدق الذكر عليها، و عدم معلوميّة صدقه على الخطبة، و لقوله تعالى إِذٰا نُودِيَ لِلصَّلٰاةِ. و قوله تعالى فَإِذٰا قُضِيَتِ الصَّلٰاةُ المشعر بأنّ المقصود درك الصّلاة و عدم فوت الصّلاة عنهم.
على أنه إن كان المقصود هو الخطبة و الأمر بالسعي إذا دخل الوقت، فلا يكون عدم وجوب السعي إلى الخطبة إذا فرض وقوعها بعد الظهر مسلّما، فإنّ المسلّم هو الصّحة و هي لا تنافي وجوب السعي[17].
المختار حول آیة الاولی
اقول: الانصاف ظهور الآية ولا اقل من كون المحتمل فيها فرض اقامة صلاة الجمعة مفروغا عنها، وليست بصدد الامر باقامتها، فان النبي (صلى الله عليه وآله) كان يقيم الذكر وصلاة الجمعة وانما وبّخ الناس على تركهم اياه قائما اي حال كونه في القاء الخطبة بحيث ينتظر رجوعهم حتى يبدأ بصلاة الجمعة، ولا يستفاد منه الامر بتأسيس صلاة الجمعة، فالاستدلال بالآية على وجوب اقامة صلاة الجمعة مشكل جدا.
نعم ظهور الآية في وجوب حضور المسلمين في صلاة الجمعة بعد اقامتها بشرائطها مما لا ينبغي انكاره، ولا يتم اشكال السيد الخوئي “قده” (من كون المراد من الذكر في الآية على ما قاله جملة من المفسرين الخطبة ويدل عليه عدم وجوب المبادرة الى صلاة الجمعة بمجرد سماع اذان ظهر يوم الجمعة، والسعي الى الخطبة غير واجب قطعا ويشهد له اقترانه بلفظ الخير) فانه ظهر مما تقدم أن ظاهر الذكر ان لم يكن هو الصلاة فلا اقل من شموله له ومع غمض العين عنه فلا وجه لدعوى الجزم بعدم وجوب السعي نحو سماع الخطبة، كما أن لفظ الخير ليس قرينة مانعة عن ظهور الامر بالسعي وترك البيع في الوجوب، الا أن في شمول الآية لزمان الغيبة اشكالا من جهتين:
احداهما: ان الآيات الثلاثة في سورة الجمعة نزلت معا ويشهد لذلك قوله في الآية الاولى “وذروا البيع” فيكون موافقا لما في الآية الثالثة من قوله “واذا رأوا تجارة او لهوا انفضوا اليها وتركوك قائما…” ولا اقل من احتمال ذلك فيوجد فيها ما يصلح للقرينية على اختصاصه بصلاة الجمعة التي كان يقيمها النبي (صلى الله عليه وآله).
بل قد ذكرنا في الاصول أنه لو فرض صدور أداة الخطاب من المتكلم بحضور جماعة تصح مخاطبتهم بغرض التفهيم في مجلس التخاطب فلايبعد انصراف الخطاب اليهم، ولااقل من عدم ظهوره في الشمول للغائبين فضلا عن المعدومين، فاذا قال النبي (صلىاللهعليهوآله) لجماعة “ايها المؤمنون افعلوا كذا” فلايظهر منه في حد ذاته -لولامناسبة الحكم والموضوع كما في الامر بتقوى الله- العموم للغائبين فضلا عن المعدومين، فلعل المقصود خصوص الحاضرين في المجلس، كما أنه لايعلم أن المخاطب بقوله تعالى “يا ايها الذين آمنوا اذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا الى ذكر الله” اعم من الموجودين في عصر نزول الآية ومن بحكمهم، فيشكل الامر في الاستدلال به على وجوب اقامة صلاة الجمعة في عصر الغيبة او وجوب الحضور فيها بعد اقامتها، ولاينافي ما ذكرناه ما ورد في تفسير العياشي عن أبي جعفر (علیه السلام) أنه قال: لو أن الآية إذا نزلت في قوم ثم مات أولئك القوم ماتت الآية لما بقي من القرآن شيء ولكن القرآن يجري أوله على آخره ما دامت السماوات والأرض، وفي رواية أخرى: ان القران يجري كما يجري الشمس والقمر، فانه لایستفاد منها اكثر من أن مورد نزول الآية لايوجب اختصاص الآية به، لا أن جميع الآيات تكون بنحو القضية الحقيقية شاملة لجميع الناس او جميع المسلمين الى يوم القيامة، كيف وفي القرآن ما يختص بالحاضرين في عهد النبي (صلىاللهعليهوآله) كقوله تعالى “يا ايها الذين آمنوا اذا ناجيتم الرسول فقدموا بين يدي نجواكم صدقة” ومثل قوله تعالى “يا ايها الذين آمنوا ليبلونكم الله بشيء من الصيد تناله ايديكم ورماحكم” مع انه الآن لايبتلى الناس في حال الاحرام بصيد البر مما تناله ايديهم ورماحهم.
وقد يقال بامكان تعميم الحكم بقاعدة اشتراك الاشخاص في التكليف حيث انه لاخصوصية للاشخاص في الحكم الشرعي فاذا دل الدليل على ثبوت الحكم في حق شخص دل بالالتزام على ثبوته في حق الآخرين.
وفيه أن قاعدة الاشتراك لاتنفي احتمال الخصوصية لحالة ملازمة للحاضرين ككونهم في عصر حضور المعصوم، فلايمكن التعدي الى من لايشاركهم في هذه الحالة كالموجودين في عصر غيبة المعصوم، وان شئت قلت: ان هذه القاعدة انما تثبت الحكم للآخرين إذا كانوا متحدين مع الحاضرين في الصنف، وليس هؤلاء كذلك، وقاعدة الاشتراك لاتتم مع الاختلاف في الصنف، فلايمكن التعدي من حكم المسافر الى الحاضر او بالعكس كما هو واضح.
فالانصاف عدم تمامية دلالة الآية على أكثر من وجوب الحضور في صلاة الجمعة التي اقيمت مع حضور المعصوم، فلا يستفاد منه وجوب الحضور في صلاة الجمعة التي اقيمت بشرائطها في عصر الغيبة، فضلا عن دلالتها على وجوب اقامتها تعيينا.
الآية الثانية: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى
قوله تعالى “حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى” حيث روى الطبرسي في مجمع البيان مرسلا عن علي (عليه السلام) أن المراد بها الظهر في سائر الأيام و الجمعة في يومها[18]، بتقريب أن ظاهر الامر بالمحافظة على الصلاة الوسطى وجوب الاتيان بها وعدم جواز تفويتها، وحيث فسرت بصلاة الجمعة في يوم الجمعة وصلاة الظهر في سائر الأيام فيعلم بذلك وجوب اقامة صلاة الجمعة، ومقتضى اطلاقها شمولها لزمان الغيبة.
مناقشات
وفيه اولا: ان هذه الرواية مرسلة لا اعتبار بها، فالمرجع الروايات الدالة على أن الصلاة الوسطى هي صلاة الظهر، ففي معتبرة ابي بصير يعني المرادي قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول صلاة الوسطى صلاة الظهر[19]، وفي صحيحة زرارة “و قال تعالى حٰافظوا على الصلوٰات و الصلٰاة الوسطى و هي صلاة الظهر و هي أول صلاة صلاها رسول الله ص- و هي وسط النهار- و وسط صلاتين بالنهار صلاة الغداة و صلاة العصر- و في بعض القراءة حٰافظوا على الصلوٰات و الصلٰاة الوسطىٰ صلاة العصر[20]، ونقل بعض القراءات الظاهرة في كون صلاة العصر بدل بيان للصلاة الوسطى بعد بيان أنها صلاة الظهر في صدر الصحيحة ظاهر في تخطئة هذه القراءة، نعم يعارضها ما ورد في تفسير القمي: قوله “حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى” فإنه حدثني أبي عن النضر بن سويد عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه قرأ حافظوا على الصلوات و الصلاة الوسطى صلاة العصر[21]، وهذه القراءة منقولة عن عائشة وحفص ايضا، ويوجد نقل آخر عن عائشة وهو أن الآية هكذا “حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر[22]، وهذا النقل الأخير موافق لكون الصلاة الوسطى هي صلاة العصر.
وثانيا: انه لو اريد من الصلاة الوسطى صلاة الجمعة فمع احتمال كون حضور المعصوم شرطا في صحة صلاة الجمعة فلا دافع لذلك، بعد عدم كون الآية في مقام بيان شرائط صحة صلاة الجمعة، فسرت في عدة مطبق و هي رواية مرسلة لا يعتمد عليها.
هذا وأما ما ذكره السيد الخوئي “قده” من أن الأمر بالمحافظة إرشادي نظير الأمر بالإطاعة، فلا يتضمن بنفسه حكماً تكليفياً مستقلا، بل مفاد الأمر حينئذ الإرشاد إلى التحفظ على الصلوات، و منها صلاة الجمعة الثابت وجوبها من الخارج على ما هي عليها و على النهج المقرر في الشريعة المقدسة، بما لها من الكيفية و القيود المعتبرة فيها، فلابد من تعيين تلك الكيفية من الخارج، من اشتراط العدد و الحرية و الذكورية و نحوها، و منها الاختصاص بزمن الحضور و عدمه، فكما لا تعرّض في الآية لتلك الجهات نفياً و إثباتاً و لا يمكن استعلام حالها منها، فكذا هذه الجهة كما هو واضح جدّاً[23]، فان كان مراده ما ذكرناه من عدم كون الآية في مقام بيان شرائط صحة صلاة الجمعة فهو صحيح، وان كان مقصوده عدم استفادة وجوب اقامة صلاة الجمعة بعد استفادة صحة اقامتها في عصر الغيبة من الاطلاقات كما هو مختاره “قده” فهذا مما لا وجه له.
روایات الدالة علی وجوب التعييني لاقامة صلاة الجمعة في عصر الغيبة
وأما الاستدلال على الوجوب التعييني لاقامة صلاة الجمعة في عصر الغيبة بالروايات فعمدتها ما يلي:
الرواية الاولى: صحيحة زرارة
الرواية الاولى: صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إنما فرض اللّٰه عز و جل على الناس من الجمعة إلى الجمعة خمسة و ثلاثين صلاةً، منها صلاة واحدة فرضها اللّٰه عز و جل في جماعة و هي الجمعة، و وضعها عن تسعة: عن الصغير و الكبير و المجنون و المسافر و العبد و المرأة و المريض و الأعمى، و مَن كان على رأس فرسخين[24]، وتقريب الاستدلال بها واضح، حيث يقال بأنها قد دلت على وجوب صلاة الجمعة على كل مكلف ما عدا من استثني في الرواية.
ولكن اشكل عليه اشكالات:
الاشكال الاول: عدم كونها في مقام البيان
ما يقال من عدم كونها في مقام البيان من حيث كيفية صلاة الجمعة و القيود المعتبرة فيها، و من ثم لا يصح التمسك بها قطعاً لنفي ما يشك في شرطيته أو جزئيته لغيرها من سائر الفرائض الخمس و الثلاثين، و من ثم لا يصح التمسك بها قطعاً لنفي ما يشك في شرطيته أو جزئيته لغيرها من سائر الفرائض الخمس و الثلاثين، وعليه فلا يمكن التمسك بها لاثبات وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة، فلعله يعتبر في صحتها أن يكون بامامة الإمام (عليه السلام) أو المنصوب من قبله.
واجاب السيد الخوئي “قده” عن هذا الاشكال بأن دلالتها على وجوب صلاة الجمعة من دون اشتراط بزمن الحضور، قوية جدّاً، فانه وان لم تكن هذه الصحيحة في مقام البيان من حيث شرائط الواجب اي شرائط صحة صلاة الجمعة، ولكن يمكن التمسك باطلاقها من حيث شرائط الوجوب، فينفى به اشتراط الوجوب بأن تكون الصلاة بحضور الإمام (عليه السلام) أو نائبه الخاص، كي يختص بزمن الحضور، بداهة أن دلالة الصحيحة على الشمول و السريان لجميع الأفراد إنما هو بالعموم الوضعي و هو الجمع المحلّى باللام في قوله “على الناس” دون الإطلاق المتوقف على جريان مقدمات الحكمة كي يتطرق احتمال عدم كونها في مقام البيان من هذه الجهة، و يؤيد العموم الاقتصار في الاستثناء على الطوائف التسع المذكورين فيها، فلو كان هناك شرط آخر للوجوب زائداً على ذلك و هو الكون في زمن الحضور و الإقامة بأمر الإمام (عليه السلام) لزم التنبيه عليه و التعرض له، و كان المستثنى عن هذا الحكم حينئذ عشر طوائف.
و يؤيده أيضاً: التصريح ببقاء هذا الحكم إلى يوم القيامة في صحيحة أخرى لزرارة قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): الجمعة واجبة على مَن إن صلى الغداة في أهله أدرك الجمعة، و كان رسول اللّٰه (صلى اللّٰه عليه و آله) إنما يصلي العصر في وقت الظهر في سائر الأيام كي إذا قضوا الصلاة مع رسول اللّٰه (صلى اللّٰه عليه و آله) رجعوا إلى رحالهم قبل الليل، و ذلك سنّة إلى يوم القيامة[25].
اقول: يمكن المناقشة في جوابه بأن نقول: انه بعد عدم انعقاد الاطلاق في الصحيحة من حيث شرائط صحة صلاة الجمعة واحتمال كون صحتها مشروطة بكون الامام مأذونا من قبل المعصوم، فيكون خطاب وجوب صلاة الجمعة مقيدا لبا بفرض القدرة على متعلقه، وكون كلمة “الناس” من اداة العموم لأنها من الجمع المحلى باللام، لا ينافي هذا التقيد بالمقيد اللبي، فكلامه نظير أن يقال ان قوله تعالى “ان الصلاة كانت على المؤمنين كتابا موقوتا” يدل بعمومه على شمول الوجوب لفاقد الطهورين، وان كان مهملا من حيث كيفية الصلاة، ولازمه عدم شرطية الطهارة في حقه، مع أن جوابه واضح، وأما ما في الصحيحة الثانية لزرارة من قوله “وذلك سنة الى يوم القيامة” فلم يعلم رجوعه الى الفقرة الاولى من الصحيحة، فلعلها مختصة بالفقرة الاخيرة، فيكون مفاده الاستحباب الابدي لاتيان امام الجمعة في يوم الجمعة بصلاة العصر في وقت الاتيان بالظهر في سائر الايام، ودعوى استفادة مشروعية صلاة الجمعة الى يوم القيامة منه غير متجهة لأن الاستمرار الزماني للحكم الى يوم القيامة لا يدل على صحة صلاة الجمعة في عصر الغيبة، بل لعل الحكم المستمر مختص بفرض اقامة الجمعة باذن المعصوم.
فلا دافع لهذا الاشكال الا اذا ثبت من سائر الادلة صحة صلاة الجمعة التي اقيمت بغير اذن الامام (عليه السلام).
الاشكال الثاني: الصحيحة بصدد بيان وجوب الحضور فيها عند اقامتها بشرائطها
ما يقال من أن ذكر من كان على رأس فرسخين في جملة من وضع عنهم فرض صلاة الجمعة ظاهر في عدم كون الصحيحة بصدد بيان وجوب اقامة صلاة الجمعة على كل مكلف، بل بصدد بيان وجوب الحضور فيها عند اقامتها بشرائطها فيبين انه يستثنى من ذلك من كان على رأس فرسخين من مكان اقامة الجمعة، فلو كانت بصدد بيان وجوب اقامة صلاة الجمعة فكان لابد أن يقيد استثناء من كان على رأس فرسخين بما اذا لم يتمكن من اقامة الجمعة بشرائطها في مكانه.
ان قلت: ان ظهور صدر الصحيحة في وجوب اقامتها على كل احد، موجب لحمل الذيل الدال على استثناء من كان على رأس فرسخين على ما اذا عجز عن اقامة الجمعة بشرائطها في مكانه.
قلت: لا وجه لتعين ما ذكر في قبال كون ظهور استثناء من كان على رأس فرسخين في نفي وجوب حضوره في الجمعة التي اقيمت على بعد فرسخين منه، موجبا لظهور صدر الصحيحة في بيان وجوب الحضور في صلاة الجمعة بعد اقامتها، فتكون الصحيحة مجملة والمتيقن منها وجوب الحضور في الجمعة التي اقيمت بشرائطها.
والانصاف تمامية هذا الاشكال.
الاشكال الثالث: عدم امکان حضور جمیع المسلمین فی مسجد النبی او الکوفه
ما عن السيد الامام “قده” من أنه لا يحتمل تاريخيا وجوب صلاة الجمعة على كل مكلف عدا ما استثني، حتى في زمان النبي وامير المؤمنين (عليهما السلام) فان مسجد النبي لم يكن يسع جميع المسلمين الذين كانت المسافة بينهم وبينه اقل من فرسخين من جميع النواحي، وهكذا مسجد الكوفة بالنسبة الى اهل الكوفة التي يقال بأنها كانت من البلاد الكبيرة، كما لا يحتمل أن جميع اصناف الناس كانوا يعطلون اشغالهم ويحضرون صلاة الجمعة في كل جمعة، فيكون الامر في الروايات بصلاة الجمعة محمولا على الاستحباب المؤكد.
وسيأتي الكلام حول هذا الكلام.
الاشكال الرابع: حملها على الوجوب التخييري
ما ذكره السيد الخوئي “قده” وغيره من ان هذه الصحيحة وان فرض تمامية دلالتها على الوجوب التعييني لصلاة الجمعة على كل مكلف لكن لابد من حملها على الوجوب التخييري او وجوب الحضور في الجمعة التي اقيمت بشرائطها جمعا بينها وبين ادلة أخرى، وسيأتي توضيح ذلك.
الرواية الثانية: صحيحة زرارة
الرواية الثانية: صحيحة زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) على من تجب الجمعة؟ قال: تجب على سبعة نفر من المسلمين، و لا جمعة لأقل من خمسة من المسلمين أحدهم الإمام، فإذا اجتمع سبعة و لم يخافوا أمّهم بعضهم و خطبهم[26]، بتقريب أن المستفاد من ذيلها أنه مهما اجتمعت السبعة وجبت الجمعة، واطلاقها شامل لعصر الغيبة.
ما في الجواهر من أنّه في مقام توهّم الحظر، فلا يدلّ على الوجوب[27] أقول: أمّا الأوّل: فمردود، بأنّ دلالة الصّحيح على الوجوب، ليس بهيئة «افعل» بل بمادّة الوجوب الّتي لا تناسب رفع الحظر قطعا. مضافا إلى أنّ فرض العدد «سبعة» قرينة على أنّه في مقام الإيجاب، لأنّ مقتضى غير واحد من الرّوايات كفاية الخمسة في المشروعيّة، و أمّا الوجوب فيتوقّف على كون العدد سبعة، مضافا إلى أنّ انقلاب ظهور الصّيغة أو المادّة من الوجوب إلى رفع الحظر، إنّما هو في مورد لا يكون الموضوع دائرا بين المحذورين، مع قطع النظر عن الدليل الوارد، فتأمّل.
وذكر السيد البروجردي أن هذه الرواية من أقوى الأدلّة التي يمكن أن يستدلّ بها القائل بكون إقامة الجمعة واجبة علينا في عصر الغيبة، إمّا بأن لا تشترط بالإمام فتكون من الواجبات العينية التعيينية بالنسبة إلى جميع المسلمين، أو بأن يثبت بها الترخيص و الإذن العامّ و يجب معه إقامتها، والظاهر من قوله: «أمّهم بعضهم» مطلق البعض، لا البعض الخاص المنصوب لإقامة الجمعة. و يدلّ على ذلك قوله: لم يخافوا. إذ الخوف لا يتصور لسلطان المسلمين و من نصب من قبله. فيكون المراد الإذن العمومي للشيعة في إقامة الجمعة بأنفسهم إذا لم يخافوا و أمنوا ضرر المتصدين لإقامتها من قبل خلفاء الجور.
و لفظ الإمام و إن سلم كونه في سائر الموارد منصرفا إلى الإمام الأصل إلّا أنّ المتبادر منه في هذه الرواية بقرينة الذيل مطلق إمام الجماعة التي هي شرط في انعقاد الجمعة، و إنّما ذكر لدفع توهّم أن يكون المراد بالسبعة المعتبرة غير الإمام حتى يصير العدد معه ثمانية.
هذه غاية ما يمكن أن يذكر في تقريب الاستدلال بالرواية لوجوب إقامة الجمعة أو جوازها في عصر الغيبة.
أقول: يرد عليه أوّلا ما أشير إليه آنفا من أنّ السيرة المستمرة على كون إقامة الجمعة من وظائف أشخاص معينة بمنزلة القرينة المتصلة للحديث، فينصرف البعض فيه إلى بعض الخاص الذي يكون إقامة الجمعة و قراءة الخطبة من وظائفه و مناصبه، و لا أقلّ من الاحتمال، فيبطل معه الاستدلال. و لا دلالة لقوله: «لم يخافوا» على إرادة مطلق البعض، إذ لعل المراد بالبعض الإمام بالحق أو من نصبه، و أئمة الحق و شيعتهم كانوا في خوف و تقية من أيدي خلفاء الجور و عمّالهم. [1]
و ثانيا أنّه من المظنون جدا أن يكون من قوله: فإذا اجتمع سبعة، إلى آخره من كلام الصدوق و فتاويه، و قد استفاده و استنتجه من مجموع روايات الباب و ذكره في
ذيل رواية زرارة، كما هو دأبه كثيرا في كتابه هذا، حيث جرت عادته في هذا الكتاب على ذكر فتاويه عقيب الروايات من غير أن يذكر ما يدلّ على انتهاء الرواية، كما لا يخفى على من راجع الفقيه. و قد سبقنا إلى هذا الاحتمال بعض آخر، منهم بحر العلوم «قده» «1»، بل في حواشي الفقيه المطبوع بهند أنّ من قوله: و لا جمعة لأقلّ، إلى آخره «لعلّه من كلام المؤلف
و مما يؤيد هذا الاحتمال أيضا أنّ المحقّق و العلّامة و الشهيد لم يذكروا هذه الرواية- مع قوة دلالتها- في عداد ما استدلّوا بها على وجوب الجمعة في عصر الغيبة تخييرا أو تعيينا. و لعلّه ذكر لهم شيوخهم أنّ الذيل ليس من تتمة الرواية.
و من أقوى الشواهد على كون الذيل من فتاوى الصدوق «قده» أنه ذكر هذه العبارة بعينها في كتاب هدايته بنحو الفتوى:
فمراده «قده» بالإمام في كلامه: الإمام الأصل، لا مطلق إمام الجماعة. و بذلك يظهر أنّه «قده» أراد بالبعض في قوله: «أمّهم بعضهم» أيضا البعض الخاصّ، لا أيّ بعض كان[28].
جواب حائري
صلاة الجمعة (للحائري)؛ ص: 142
أوّلا: بأنّ الصحيح إنّما هو بصدد بيان أقلّ الواجب، و لم يعلم قيام السيرة على كون تلك الجمعة بيد الأمراء و السّلاطين، فإنّ ما شوهد كثيرا هو الجمعات المشتملة على آلاف من المسلمين، لا الجمعة المنعقدة بأقلّ الواجب.
و ثانيا: بأنّ قوله عليه السّلام: «و لم يخافوا» صريح في فرض عدم كون المقيم لها
هو المنصوب من قبل الأمراء و السّلاطين، و إلّا لم يكن خوف في البين. و احتمال الانصراف إلى كون المقيم هو الإمام المعصوم عليه السّلام أو المنصوب منه، بعيد جدّا، بل غير محتمل، لعدم وجود فرد في الخارج، أو ندرته، فيقطع بعدم الانصراف.
مع أنّ السّيرة الّتي كان كثير من عظماء فقهاء العامّة- كما تقدّم في كلام الشيخ قدّس سرّه نقل عدم الاشتراط بالإمام و المنصوب عن الشافعيّ و أحمد و مالك- على خلافها و عدم الاشتراط، كيف تكون قرينة متّصلة بحيث ينصرف الكلام إلى ذلك، هذا. خصوصا مع وضوح مخالفة مذهب الشيعة لما استقرّ عليه عمل عامّة المسلمين المتّخذ من الخلفاء الغاصبين. فكيف يمكن أن يكون بمنزلة القرينة المتّصلة؟
مع أنّ السيرة لم تكن على عدم الانعقاد و ترك الجمعة بتّا في فرض عدم كون الخليفة أو نائبه في قطر من الأقطار.
و لعمري إنّ ارتكاز جميع المسلمين غير الشيعة على كون ترك الجمعة أساسا من المنكرات، يكون أقوى احتمالا بأن يكون من القرائن المتّصلة الدالّة على وجوب الإقامة. مع أنّه لو كان، ليس إلّا احتمال الاتّصال و هو غير مضرّ بالظهور.
و ثالثا: بأنّ قيام السيرة على كون المقيم هو الأمراء و السلاطين لا يصير دليلا على الاشتراط و التقييد، حتى يوجب الانصراف.
و رابعا: بأنّه على فرض دلالته على الاشتراط فكونه كالقرينة المتّصلة غير معلوم بل ممنوع، إذ أقصاه كونه بمنزلة دليل منفصل على التقييد حاضر في ذهن المخاطب و المتكلّم عند التكلّم بالكلام، و هو غير الاتّصال بالكلام، و الشكّ في ذلك شكّ في وجود القرينة على التقييد.
و خامسا: بأنّ تقييد البعض بالإمام بالحقّ أو المنصوب من قبله تقييد بالفرد النادر- و لو كان المفروض كونه موجودا في السّبعة و متصدّيا لصلاة الجمعة- لأنّه أحد السّبعة، و البعض شامل لجميع أفرادها، فكيف بما إذا كان أصل تصدّي
صلاة الجمعة (للحائري)، ص: 145
……….
______________________________
الإمام بالحقّ أو المنصوب من قبله نادر الوقوع الملحق بالمعدوم. و ليس الاتّصال بواسطة قيام السيرة كالاتّصال اللفظيّ رافعا للاستهجان عرفا. مع أنّ التقييد المتّصل أيضا مستهجن في المقام، لاستهجان أن يقال: «أمّهم بعضهم» الّذي هو الإمام بالحقّ أو المنصوب من قبله، فإنّه يقال في مقام الإخبار عن مجيء زيد: جاء زيد، و لا يقال: جاء إنسان أو حيوان هو زيد إلّا في مقام وجود الدّاعي على التعمية أو لبعض الأغراض كالسخريّة و غيرها، فحينئذ لا وجه لأن يقول في المقام: أمّهم بعضهم الّذي هو الإمام بل طريق المحاورة أن يقول: أمّهم الإمام. و لا يقتضي نكتة بيان أنّ الإمام عليه السّلام أحد السّبعة ذلك، لتقدّم التصريح به في أوّل الحديث.
و أمّا الثالث: فهو خلاف الظاهر قطعا، و إلّا لخرج أكثر ذيول أخبار «الفقيه» عن الحجّيّة، و ليس في المقام قرينة بالخصوص على ذلك، خصوصا مع كون المبحوث عنه هو الحديث الثاني من الباب، و الفتوى إنّما تذكر بعد نقل مجموع الرّوايات. و ما ذكره من أنّ أقوى الشواهد ذكر ذلك في الهداية عجيب منه قدّس سرّه، لأنّه قد ذكر في أوائل الرسالة «1» نقلا عن أوّل مبسوط الشيخ قدّس سرّه أنّه كان ما يذكر في الكتب عين ما ورد في الرّوايات، فعبارة الهداية بنفسها بمنزلة الرّواية الواردة عنهم. فكيف بما يكون مؤيّدا بحديث «الفقيه» الظاهر أنّه من تتمّة الحديث، هذا.
مع أنّ قوله عليه السّلام: «أمّهم بعضهم» كاد أن يكون صريحا في عدم الاشتراط بنائب مخصوص، فهو لا بدّ أن يكون إمّا من ذيل هذا الحديث و إمّا حديثا آخر. و لا يمكن الاستفادة من صدر ذلك الحديث و لا الحديث السّابق عليه إلّا من جهة الإطلاق. و الفتوى بالصراحة بمقتضى الإطلاق في ذيل الرّوايات المطلقة ليست من دأب الصّدوق قدّس سرّه. مع أنّ قوله عليه السّلام «فإذا اجتمع» ظاهر في الاتّصال بقوله عليه السّلام «تجب على سبعة نفر من المسلمين» لمكان الفاء.
وقد اشكل عليه السيد الخوئي “قده” بأن الرواية إن كانت ناظرة إلى بيان شرط الواجب و ما يعتبر في صحة الجمعة، فهي حينئذ أجنبية عن محل الكلام، و إن كانت ناظرة إلى بيان شرط الوجوب و أنه معلّق على مجرد وجود السبعة كما عليه مبنى الاستدلال، و هو الظاهر منها بقرينة السؤال الذي هو عن نفس الوجوب، إلا أن تعليق الوجوب على وجود السبع لغو عرفا، لحصوله دائماً، إذ بعد ملاحظة اختصاص الحكم بالحاضرين لسقوط الوجوب التعييني عن المسافر جزما، فما من بلد بل و لا قرية إلا و يوجد سبع نفر من المسلمين فيها و فيما حولها إلى ما دون فرسخين من كل جانب، فلا مناص من أن يكون المراد بالشرط اجتماع العدد المزبور بصفة الانضمام، احترازاً عما إذا كانوا متفرقين غير قاصدين لإقامتها فلا تجب حينئذ على أحد منهم، و لازم ذلك عدم ثبوت الوجوب التعييني لإقامة صلاة الجمعة[29].
الرواية الثالثة: صحيحة منصور بن حازم
الرواية الثالثة: صحيحة منصور بن حازم عن أبي عبد اللّٰه (عليه السلام) في حديث قال: يجمع القوم يوم الجمعة إذا كانوا خمسة فما زادوا، فإن كانوا أقلّ من خمسة فلا جمعة لهم، الجمعة واجبة على كل أحد، لا يعذر الناس فيها إلا خمسة: المرأة و المملوك و المسافر و المريض و الصبي[30] و هذه الرواية آبية عن الحمل على الوجوب التخييري، فإن التعبير بعدم المعذورية إنما يصح بالإضافة إلى الواجبات التعيينية، و إلا فمن اختار أحد عدلي الواجب التخييري فهو معذور في ترك الآخر..
وقد اجاب عنه السيد الخوئي “قده” بأن الاستدلال بها موقوف على أن يكون متعلق الوجوب في قوله “الجمعة واجبة ..” هي الإقامة، دون الحضور على فرض إقامة الجمعة، و الظاهر من الصحيحة هو الثاني، بقرينة استثناء المسافر، إذ الساقط عنه إنما هو الحضور دون المشروعية و أصل الوجوب، و إلا فهي مشروعة منه لو أحبّ الحضور و رغب فيه، فلا يصح الاستثناء لو كان النظر إلى أصل الإقامة دون الحضور لثبوتها في حقه كالحاضر[31]، كما لا يصح استثناء مَن كان على رأس فرسخين الوارد في غير واحد من الأخبار و قد تقدّم بعضها، إذ هو إنما يتجه لو كان الواجب هو الحضور في البلد الذي تقام فيه الجمعة فيرفع الحكم عنهم إرفاقاً كي لا يتحملوا مشقة الحضور من مساكنهم، و إلا فلو كانت الإقامة بنفسها واجبة تعييناً كان اللازم على البعيدين عقدها في أماكنهم مع اجتماع الشرائط، و كذا الحال في الاستثناء حال نزول المطر كما ورد به النص الصحيح فإنه إنما يتجه لو كان الواجب هو الحضور بعد الانعقاد، و إلا فوجوب العقد و الإقامة تعييناً لا يكاد يسقط بمثل هذه الأحوال و العوارض كما في سائر الفرائض.
و يؤيده: استثناء المرأة و المملوك في هذه الصحيحة و غيرها، فان المشروعية ثابتة في حقهما أيضاً لو رغبا في الحضور كالمسافر على ما نطقت به بعض الأخبار و إن كان سندها لا يخلو عن خدش[32]، و إنما الساقط عنهما وجوب الحضور[33].
اقول: الظاهر في قوله “الجمعة واجبة” كون المقدر العرفي هو الايجاد كما في اشباهه ونظائره، بل الايجاد لا يحتاج الى عناية تقدير، بخلاف الحضور، فكأنه قال اداء صلاة الجمعة وايجادها واجب على كل احد، فيقتضي اطلاقه وجوب اقامتها مع التمكن، وأما تأييد كون المراد منه وجوب الحضور بما في الصحيحة من استثناء المسافر، حيث انه بقرينة مشروعية صلاة الجمعة منه فلا يجب عليه الحضور فغريب، اذ اي مانع من استثناءه عمن وجبت عليه بالوجوب التعييني اقامة صلاة الجمعة، كما لا تجب عليه المشاركة في صلاة الجمعة المنعقدة وان حضر في المكان، وهذا لا ينافي مشروعية اقامته لها من باب الواجب التخييري، وأما التأييد باستثناء من كان على رأس فرسخين فالظاهر أنه لا وجه له لأن غايته كونه قرينة على أن ما ذكر فيه هذا الاستثناء فهو ناظر الى الحضور، ولم يذكر هذا الاستثناء في هذه الرواية.
نعم حيث ان هذه الرواية ليست في مقام بيان شرائط صحة صلاة الجمعة فلاستدلال بها على وجوب اقامتها تعيينا في عصر الغيبة انما يتم فيما لو احرزنا من الخارج مشروعية صلاة الجمعة في عصر الغيبة.
الرواية الرابعة: صحيحة أبي بصير و محمد بن مسلم
الرواية الرابعة: صحيحة أبي بصير و محمد بن مسلم: من ترك الجمعة ثلاثاً متواليات بغير علة طبع اللّٰه على قلبه[34].
وقد يستفاد من السيد الخوئي “قده” أنه يرى اجمالها في حد ذاتها من حيث كون المقدر هو الحضور على فرض الاقامة او نفس الاقامة، ولكن تيين أن الظاهر كون المراد اداء صلاة الجمعة، ولو باحداث اقامتها، نعم يمكن أن يقال لعل نفس عدم كون اقامة الجمعة بحضور الامام او نائبه الخاص يكون من العلة التي يجوز ترك صلاة الجمعة لأجلها، حتى لو ثبتت مشروعية صلاة الجمعة في عصر الغيبة فكيف بما اذا شك في مشروعيتها.
الرواية الخامسة: صحيحة زرارة
الرواية الخامسة: صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: صلاة الجمعة فريضة و الاجتماع إليها فريضة مع الإمام، فإن ترك رجل من غير علة ثلاث جمع فقد ترك ثلاث فرائض، و لا يدع ثلاث فرائض من غير علة إلا منافق[35].
وفيه أن من المحتمل كون المراد من الامام هو المعصوم (عليه السلام) فيكون الاجتماع الى صلاة الجمعة واجبا مع حضوره او حضور نائبه الخاص.
الرواية السادسة: صحيحة أبي بصير و محمد بن مسلم
الرواية السادسة: صحيحة أبي بصير و محمد بن مسلم جميعاً عن أبي عبد اللّٰه (عليه السلام) قال: إن اللّٰه عز و جل فرض في كل سبعة أيام خمساً و ثلاثين صلاة، منها صلاة واجبة على كل مسلم أن يشهدها إلا خمسة: المريض و المملوك و المسافر و المرأة و الصبي[36]، وفيه أن الظاهر من قوله “ان يشهدها” وجوب الحضور دون وجوب الاقامة، هذا مضافا الى ما مر من أنه لو شك في مشروعية صلاة الجمعة في عصر الغيبة فلا يمكن استفادة مشروعيتها من هذه الصحيحة لعدم كونها في مقام بيان شرائط صحة صلاة الجمعة.
الرواية السابعة: صحيحة محمد بن مسلم و زرارة
صحيحة محمد بن مسلم و زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: تجب الجمعة على كل من كان منها على فرسخين[37].
والانصاف بقرينة ايجابها على كل من كان منها على فرسخين فأقلّ جعل انعقاد صلاة الجعمة مفروغا عنه فلا يستفاد منها اكثر من وجوب الحضور على تقدير الاقامة بشرائطها فان ثبت من الخارج مشروعيتها في عصر الغيبة امكن الاستدلال بهذه الصحيحة لاثبات وجوب الحضور.
هذا كله بالنظر الى هذه الروايات، ولو فرض دلالتها في حد ذاتها على وجوب اقامة صلاة الجمعة تعيينا في عصر الغيبة فقد ذكر السيد الخوئي “قده” أن هناك ادلة أخرى يمكن جعلها قرينة على حمل هذه الروايات على الوجوب التخييري للاقامة او وجوب الحضور على فرض الاقامة، بل الحمل الثاني هو المتعين في جملة منها:
فمن تلك الأدلة الروايات الدالة على عدم وجوب صلاة الجمعة إذا لم يكن لهم من يخطب بهم، كصحيحة محمد بن مسلم عن أحدهما (عليه السلام) قال: سألته عن أُناس في قرية هل يصلّون الجمعة جماعة؟ قال: نعم، و يصلّون أربعاً إذا لم يكن من يخطب[38]، و صحيحة الفضل بن عبد الملك قال: سمعت أبا عبد اللّٰه (عليه السلام) يقول: إذا كان القوم في قرية صلّوا الجمعة أربع ركعات، فان كان لهم من يخطب لهم جمَّعوا …[39]، و موثقة سماعة عن الصادق (عليه السلام): فان لم يكن إمام يخطب فهي أربع ركعات و إن صلّوا جماعة[40]، و موثقة ابن بكير قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السلام) عن قوم في قرية ليس لهم من يجمع بهم، أ يصلّون الظهر يوم الجمعة في جماعة؟ قال: نعم إذا لم يخافوا[41]، فيقال بأن الظاهر من قوله “ولم يكن لهم امام يخطب” عدم وجوده بالفعل، والا فبعد فرض وجود عادل بينهم حيث امر بصلاة الجماعة، فقدرته على اقل الخطبة الواجبة متحققة عادة، اذ لا يحتاج القاء الخطبة الى أكثر من الامر بالتقوى و قراءة سورة ولو كانت سورة الفاتحة وحمد الله و السلام على ائمة المؤمنين، ومعه لم يكن التأكيد على هذا الشرط اي أن يكون لهم امام يخطب عرفيا، ولو فرض عدم معرفته فعلا بكيفية القاء الخطبة فلا اقل من تمكنه من تعلم ذلك فكان يجب عليه من باب مقدمة الواجب، فلو ترك ذلك عد فاسقا مع وجوب اقامة الجمعة تعيينا عليه ولم يكن يصح الاقتداء به في صلاة الظهر، فكيف امر الامام بالاقتداء به في الظهر، على فاذا حمل على من يخطب لهم بالفعل كان معناه أنه اذا اقيمت الجمعة بشرائطها وجب الحضور فيها.
كما يدل على عدم وجوب اقامة الجمعة تعيينا ما ورد من سقوط الصلاة عمن زاد على رأس فرسخين، كصحيحة محمد بن مسلم قال: سألت أبا عبد اللّٰه (عليه السلام) عن الجمعة؟ فقال: تجب على كل من كان منها على رأس فرسخين، فان زاد على ذلك فليس عليه شيء[42]، فإنه لو كان واجباً تعيينياً على كل أحد و لم يكن مشروطاً بإمام مأذون من الامام (عليه السلام) لم يكن وجه لسقوط الصلاة عمن بعد عن محل انعقاد صلاة الجمعة، مع تمكنه من اقامتها بشرائطها في مكانه، و حملها على عدم استكمال العدد، أو عدم وجود من يخطب كما ترى، فإنه فرض نادر التحقق جدّاً، إذ الغالب وجود خمسة او سبعة نفر من المسلمين في مقرهم و ما حوله إلى الفرسخين بحيث تنعقد بهم الجمعة.
هذا مضافا الى أن الوجوب التعييني لو كان ثابتاً في مثل هذه المسألة الكثيرة الابتلاء لبان و اشتهر كالفرائض اليومية، و لم يختلف فيه اثنان، مع أنه وقع التسالم و قام الإجماع بين قدماء الاصحاب على عدم الوجوب التعييني، بل أنكر بعضهم المشروعية رأساً كابن إدريس و سلار، و إنما حدث الخلاف من زمن الشهيد الثاني و من تأخر عنه، فلو كان الوجوب ثابتاً تعييناً فكيف أنكره الأصحاب، و هذه الأخبار بمرأى منهم و مسمع.
نضيف الى ذلك أنه استقرت سيرة أصحاب الأئمة (عليهم السلام) على عدم إقامة صلاة الجمعة، مع أنهم هم الرواة لهذه الأحاديث، فلو كان واجباً تعييناً كيف أهملوها و لم يعتنوا بشأنها، لا سيما زرارة الذي هو الراوي لأكثر تلك الأخبار، و هو على ما هو عليه من عظم الشأن و علوّ المقام، و يكشف عن تركهم لهذه الصلاة -مضافاً إلى أنهم لو أقاموها لنُقل إلينا بطبيعة الحال- صحيحة زرارة قال: حثّنا أبو عبد اللّٰه (عليه السلام) على صلاة الجمعة حتى ظننت أنه يريد أن نأتيه، فقلت: نغدو عليك، فقال: لا إنما عنيت عندكم[43] فانّ الحثّ و الترغيب على إقامة الجمعة من الصادق (عليه السلام) لمثل زرارة الذي هو الراوي لأغلب تلك الأخبار كما عرفت يكشف عن عدم التزامه بها، بل إهماله لها، بل نفس التعبير بالحث يدل على الاستحباب، بمعنى كونها أفضل عِدلي الواجب التخييري، وفي معتبرة عبد الملك أخي زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال: مثلك يهلك و لم يصل فريضة فرضها اللّٰه، قال قلت: كيف أصنع؟ قال: صلوا جماعة، يعني صلاة الجمعة[44]. و وظاهرها عدم مباشرة عبد الملك مع جلالته لهذه الصلاة طيلة حياته قط، و دعوى: أن من الجائز أنهم كانوا يقيمونها مع المخالفين تقية فيكون الحث في تلك الرواية و التوبيخ في هذه على الإتيان بالوظيفة الواقعية عارية عن التقية مندفعة: بعدم تأتّي التقية في مثل هذه الصلاة لبطلان الصلاة معهم، فلا تنعقد الجماعة التي هي من مقوّماتها، نعم في سائر الصلوات يشاركهم في صورة الجماعة تقية، فيأتي بها فرادى و يقرأ في نفسه متابعاً لهم في الصلاة إراءة للاقتداء بهم.
المختار: عدم وجوب اقامة صلاة الجمعة تعيينا في عصر الغيبة
فتحصل من جميع ما ذكر عدم كون اقامة صلاة الجمعة واجبة تعيينة في عصر الغيبة، نعم لو اقيمت بشرائطها فالمستفاد من الروايات وجوب الحضور فيها[45].
اقول: يرد على استدلاله بالروايات التي تدل على اشتراط وجوب صلاة الجمعة بأن يكون لهم امام يخطب ففيه اولا: ان بيان شرطية من يقدر على القاء خطبة الجمعة، ليس مستهجنا، اذ ليس كل احد يقدر على ذلك فقد لا يعرف كثير من الناس واجبات الخطبة، ولا يلازم ذلك تقصيرهم وخروجهم عن العدالة لينافي ما هو المفروض في هذه الروايات من عدالة الامام فقد يكون الجاهل قاصرا لعدم وصول روايات خطبة الجمعة اليه في ذلك الزمان، وقد يستوحش بعضهم من القاء الخطبة أمام جمع من الناس، كما حصل ذلك بالنسبة الى عثمان حيث خطب في أول جمعة، فقال: الحمد اللّٰه، ثم ارتجّ عليه، فقال: إنكم إلى إمام فعّال أحوج منكم إلى إمام قوّال، و إنّ أبا بكر و عمر كانا يرتادان لهذا المقام مقالا، و ستأتيكم الخطب من بعد، و أستغفر اللّٰه العظيم لي و لكم، و نزل فصلّى[46]، هذا مضافا الى التأمل في كفاية اقل الواجبات الشرعية للخطبة بل قد يقال بلزوم صدق الخطبة عرفا، كما التزموا بذلك في صلاة القصر على المسافر من أنه لابد مضافا الى اجتماع الشروط الشرعية من صدق عنوان المسافر، فلا يجب القصر على من خرج من بلده ودار حوله.
وثانيا: كيف توجب هذه الروايات حمل مثل صحيحة زرارة قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) على من تجب الجمعة؟ قال: تجب على سبعة نفر من المسلمين، و لا جمعة لأقل من خمسة من المسلمين أحدهم الإمام، فإذا اجتمع سبعة و لم يخافوا أمّهم بعضهم و خطبهم[47]، على وجوب الحضور بعد اقامة الجمعة بشرائطها، مع قوة ظهورها في وجوب الاقامة على سبعة نفر من المسلمين، بل بعض هذه الروايات التي ذكرها لايقبل ارادة وجوب الحضور دون الاقامة مثل صحيحة محمد بن مسلم “سألته عن أُناس في قرية هل يصلّون الجمعة جماعة؟ قال: نعم، و يصلّون أربعاً إذا لم يكن من يخطب”، و صحيحة الفضل بن عبد الملك “إذا كان القوم في قرية صلّوا الجمعة أربع ركعات، فان كان لهم من يخطب لهم جمَّعوا …[48].
وأما استدلاله بما دل على عدم وجوب الجمعة على من زاد على فرسخين كصحيحة محمد بن مسلم ففيه اولا: انه لا منافاة بين دلالة هذه الصحيحة على عدم وجوب الحضور عليه ودلالة بعض الروايات الأخرى على وجوب الاقامة عليها ان تيسر له ذلك، ولم يحضر تلك الجمعة المنعقدة التي يبعد عنها بأكثر من فرسخين، وتظهر الثمرة فيمن لا يتيسر له الاقامة إما لعدم امام عادل يقدر على الخطبة او لعدم اجتماع سبعة من الشيعة او للخوف ونحو ذلك، فلا يجب عليه الاقامة كما لم يجب عليه الحضور.
وثانيا: ما مر من أن بعض الروايات السابقة تأبى عن الحمل على وجوب الحضور كصحيحة زرارة المذكورة آنفا.
وأما استدلاله تبعا للمحقق الهمداني بقضية أنه لو كان لبان فقد يجاب عنه بأن عدم وضوح حكم صلاة الجمعة لعله لأجل وجود التقية في زمان الأئمة (عليهم السلام) المانعة من اقامة الشيعة لها، ثم في عصر الغيبة وقع الخلاف بين الفقهاء وهذا لا يكشف عن عدم وجوب الاقامة تعيينا مع عدم الخوف واجتماع العدد، ولو سلم ما ذكر فلا يمنع من وجوب الاقامة في زمان تشكل حكومة شرعية، كما ان اصحاب الأئمة ايضا كثرا ما كانوا يخافون من الحكام و من عامة الناس، وان سلم فغايته عدم وجوب الاقامة في زمان حضور الامام الا بامامته او امامة المأذون الخاص من قبله، فلا ينافي وجوب الاقامة في عصر الغيبة خصوصا مع تشكل حكومة شرعية.
هذا كله حول الاستدلال بالروايات على تمامية القول الاول وهو وجوب اقامة صلاة الجمعة تعيينا في عصر الغيبة، وقد حاولنا الى الآن دفع الاشكالات عنه، وقد قوى المحقق الشيخ مرتضى الحائري “قده” في كتاب صلاة الجمعة هذا القول وفاقا للشهيد الثاني في رسالة صلاة الجمعة وصاحب المدارك والحدائق، وفعلا ننتقل الى بيان ادلة سائر الاقوال قبل أن نذكر المختار النهائي.
[9] – الموجود في البدر الزاهر التمثيل لهذا الصنف بحفظ الانتظامات الداخلية و سدّ ثغور المملكة و الأمر بالجهاد و الدفاع و نحو ذلك، والظاهر أنه خطأ من المقرر، اذ لا يتناسب مع سياقه كلامه في ولاية الفقيه حيث عد في ص 74سد الثغور وادراة امور المسلمين مما لا ينبغي اهماله، وقد نقل في تقرير آخر عن بحثه في صلاة الجمعة أن مثّل للصنف الثاني بالدفاع راجع تبيان الصلاة للمرحوم الشيخ علي الصافي ص 91.
[31] – ويدل على مشروعية صلاة الجمعة في حق المسافر موثقة سماعة عن جعفر عن ابيه (عليهما السلام) ايما مسافر صلى الجمعة رغبة فيها وحبا لها اعطاه الله أجر مأة جمعة للمقيم (وسائل الشيعة ج7ص 239)
[32] – راجع وسائل الشيعة ج7 ص 337 روى الشيخ في التهذيب بِإِسْنَادِهِ عَنْ سَعْدِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْحُسَيْنِ عَنْ عَبَّادِ بْنِ سُلَيْمَانَ عَنِ الْقَاسِمِ بْنِ مُحَمَّدٍ عَنْ سُلَيْمَانَ عَنْ حَفْصِ بْنِ غِيَاثٍ عن َالصادق (عليه السلام)َ: انَّ اللَّهَ عَزَّ وَ جَلَّ فَرَضَ عَلَى جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِنَاتِ- وَ رَخَّصَ لِلْمَرْأَةِ وَ الْمُسَافِرِ وَ الْعَبْدِ أَنْ لَا يَأْتُوهَا- فَلَمَّا حَضَرُوا سَقَطَتِ الرُّخْصَةُ- وَ لَزِمَهُمُ الْفَرْضُ الْأَوَّلُ- فَمِنْ أَجْلِ ذَلِكَ أَجْزَأَ عَنْهُمْ.
وروى الْحِمْيَرِيُّ فِي قُرْبِ الْإِسْنَادِ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْحَسَنِ عَنْ جَدِّهِ عَلِيِّ بْنِ جَعْفَرٍ عَنْ أَخِيهِ مُوسَى بْنِ جَعْفَرٍ ع قَالَ: سَأَلْتُهُ عَنِ النِّسَاءِ- هَلْ عَلَيْهِنَّ مِنْ صَلَاةِ الْعِيدَيْنِ وَ الْجُمُعَةِ- مَا عَلَى الرِّجَالِ قَالَ نَعَمْ.