فهرست مطالب

فهرست مطالب

تقریرات دروس خارج مدرسه فقهی امام محمد باقر علیه السلام

 

بسمه تعالی

اقسام البرائة. 2

أصالة البراءة العقلیة. 2

الثمرات المترتبة على مسلك حق الطاعة. 4

الثمرة الاولى: 5

الثمرة الثانية: 5

الثمرة الثالثة: 6

کلام المحقق الاصفهاني “قده” في قاعدة قبح العقاب.. 9

البراءة الشرعية. 13

الآيات المستدل بها على البراءة 14

الآية الاولى: 14

عدة ايرادات.. 14

.. 17

الآية الثانية: 19

الآية الثالثة: 19

الآية الرابعة: 20

الآية الخامسة: 21

الآیه السادسة: 24

الآیه السابعة: 25

 

 

 

اقسام البرائة

أصالة البراءة العقلیة

قسمّوا البراءة الى البراءة العقلية والشرعية، والمهمّ وان كان هو البحث عن البراءة الشرعية وادلتها، لكن لا بأس أن نقدِّم بحثا مختصرا حول البراءة العقلية، فنقول: ان المشهور هو القول بالبراءة العقلية، وقد سمّوا ذلك بقاعدة قبح العقاب بلا بيان، بل ذكر السيد الخوئي “قده” أن هذه الكبرى -و هي عدم كون العبد مستحقّاً للعقاب على مخالفة التكليف مع عدم وصوله إلى المكلف- مسلّمة عند الجميع، ولم يقع فيه نزاع بين الاصوليين والأخباريين، كيف وإنّ العقاب على مخالفة التكليف غير الواصل من أوضح‏ مصاديق الظلم([1]).

اقول: ان اريد من الكبرى التي ادعى أنها بديهية، قبح العقاب بلا حجة، أي من دون وجود ما يحتجّ به على العبد، فهو وان كان مسلَّما، لكن الكلام في أن نفس الشكّ في ثبوت التكليف من قبل المولى الحقيقي جلّ وعلا، من دون وصول ترخيص منه في ارتكاب المشكوك، هل يكون كافيا لدى العقل في حكمه بجواز ارتكاب المشكوك، وقبح العقاب عليه، ام لا؟، فانه مما قد وقع فيه الخلاف، مع أنه لم‌ يتمّ البيان بالمعنى المقصود للمشهور، ومنهم السيد الخوئي “قده” نفسه، وهو وصول التكليف بنفسه او بطريقه او بوصول الامر بالاحتياط بالنسبة اليه من قبل الشارع، فرأي المشهور هو استقلال العقل بالحكم بجواز الارتكاب، وقبح العقاب عليه، بينما أن مختار جماعة هو استقلال العقل بالمنع من الارتكاب، ونحن نقول بأنّا لا ندرك رخصة العقل الفطري في مخالفة التكليف المحتمل، فلا نجزم بأنه يقبح أن يعاقبنا الله تعالى عليها، بعد أن كنا لا ندرك الرخصة عقلا.

توضيح ذلك أن حق الطاعة الثابت بجعل العقلاء في الموالي العقلائية، وان كان مختصّا بوصول اوامره ونواهيه، ولكن المولى الحقيقي حيث تكون مولويته ثابتة بحكم العقل، فالذي يقتضيه الوجدان ثبوت حق الطاعة له في مورد احتمال التكليف، فاننا حينما نرجع الى وجداننا لا ندرك رخصة العقل في ارتكاب ما نحتمل كونه مبغوضا له تعالى، فلو عاقبنا الله تعالى على ذلك، مع فرض عدم جزمنا برخصة العقل فلا ندرك قبحه، فيجب دفع العقاب المحتمل، وهذا يعني منجزية احتمال التكليف في المولى الحقيقي، ما لم ‌يصل ترخيص من المولى في ارتكابه، ولو بنحو الترخيص الظاهري، نعم لا اشكال في قبح عقاب من جزم بالرخصة عقلا، فما عليه المشهور من البراءة العقلية، لثبوت قاعدة قبح العقاب بلا بيان في احتمال التكليف بعد الفحص، قياسا لمولوية المولى الحقيقي بالمولويات العقلائية التي لا تثبت في غير موارد وصول التكليف، غير متجه.

هذا وقد يناقش في مسلك حق الطاعة بأنه كما يكون للمولى حقّ في حفظ غرضه اللزومي، كذلك له حقّ في حفظ غرضه الترخيصي، فيما كانت الحليّة اقتضائية، أي ناشئة عن مصلحة في الترخيص([2])، وحيث يحتمل في جميع موارد الشك في التكليف في فعل كونه مباحا بالاباحة الاقتضائية، فلا ترجيح لجانب حفظ الغرض اللزومي.

وفيه اولاً: النقض بوجوب الاحتياط في العلم الاجمالي، والشبهة الحكمية قبل الفحص، حيث انه يعني ترجيح العقل حفظ الغرض اللزومي فيهما على الغرض الترخيصي، فكلما قيل في الجواب فيهما، فهو الجواب عن حكم العقل بوجوب الاحتياط في مطلق الشبهة.

وثانيا: انه لو كان غرض المولى في المباحات الاقتضائية كون العامي مرخَّص العنان فعلاً، بحكم الشرع، فلا ينافيه وجوب الاحتياط عقلاً، وان كان غرضه كون المكلف مرخَّص العنان فعلاً، بحكم الشرع والعقل، فحيث انه غرض تكويني للمولى، بمعنى أنه ليس أمرا يجعله المولى في عهدة المكلف، ويريد منه ان يحقِّقه، فهذا يعني انه لو كان غرض المولى كون المكلف مرخَّص العنان فعلاً، عقلاً وشرعاً، فهو يحاول تحقيق هذا الغرض بنفسه، ومع عدم تحققه في حق العامي نستكشف عدم كونه غرضا للمولى، والّا لكان عدم قيامه بتحقيقه نقضا للغرض.

نعم يمكن أن يقال بأن العرف العام حيث يجري البراءة العقلائية في الشكّ في التكليف في الموالي العقلائية (كما ذكر الشيخ الأعظم “ره” في بيان حكم العقل بقبح العقاب على شي‏ء، من دون بيان التكليف‏، ويشهد له حكم العقلاء كافة بقبح مؤاخذة المولى عبده على فعل ما يعترف بعدم إعلامه أصلا بتحريمه([3]) ويكون غافلاً نوعاً عن الفرق بين المولى العقلائي والحقيقي، كما يشهد له التزام المشهور بجريان قاعدة قبح العقاب بلا بيان في الاحكام الشرعية، فسكوت الشارع عن الردع يكون كاشفاً عن قبول البراءة العقلائية في مجال الاحكام الشرعية، والّا لكان ينبغي أن ينبِّه العرفَ على لزوم الاحتياط فيها، والّا كان منشأ للخطر على اغراض المولى.

ولاجل قبول البراءة العقلائية الممضاة، مكان البراءة العقلية، فلا تترتب أية ثمرة على انكار البراءة العقلية، فلا يتجه ما يدعيّه السيد الصدر “قده” من ترتب ثمرات على انكار البراءة العقلية، والالتزام بمسلك حق الطاعة، الا اذا التزم بعدم جريان البراءة العقلائية بالنسبة الى المولى الحقيقي، بدعوى عدم الغفلة النوعية عن احتمال الفرق بينه تعالى الذي مولويته ذاتية، وبين الموالي العقلائية الذين تكون مولويتهم بجعل العقلاء واعتبارهم، وهذا ما قد يوهمه بعض العبارات المحكية عنه حيث قال: انه قد استدلّ على قاعدة قبح العقاب بلا بيان، بالإحالة إلى الوجدان العقلائي في باب المولويات العقلائية، حيث نرى انهم لا يؤاخذون على ارتكاب مخالفة التكليف الواقعي في موارد الجهل بالحكم الإلزامي، فيكون هذا منبِّها مثلا على ارتكازية قاعدة قبح العقاب بلا بيان وعقليتها، ثم ذكر أن هذا الوجه قد وقع فيه الخلط بين المولويات الاعتبارية المجعولة والمولوية الحقيقية الذاتية، وبالالتفات إلى التمييز بينهما لا يبقى في الإحالة إلى السيرة العقلائية أو الوجدان العرفي، أيّة دلالة أو تنبيه على حقانية قاعدة عقلية باسم قبح العقاب بلا بيان([4]).

ولكن الانصاف كما ذكرنا أنه لأجل الغفلة النوعية عن الفرق بين الموالي العقلائية والمولى الحقيقي فلو كان الشارع غير موافق للبراءة العقلائية في المجالات الشرعية لكان ينبغي أن يردع عنه.

الثمرات المترتبة على مسلك حق الطاعة

ولنذكر هنا بعض الثمرات المترتبة على مسلك حق الطاعة:

الثمرة الاولى:

اذا انكرنا وجود دليل لفظي مطلق على البراءة الشرعية، فقد نحتاج حينئذ الى البراءة العقلية، وحاصل الاشكال في وجود الدليل اللفظي ما ذكره بعض الأجلاء “دام ظله” أنه يحتمل كون المراد من العلم في قوله “رفع ما لا يعلمون” الالتفات، كما هو المراد من قوله في صحيحة زرارة “فإن حُرِّك في جنبه شيء وهو لا يعلم” فان من الواضح أن مراده أنه حرّك في جنبه شيء، وهو لم ‌يلتفت اليه، ولأجل ذلك يشكّ الآن في أنه هل نام أم لا؟، وأما حديث “ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم” ففيه أن المنقول في الكافي أن ما حجب الله عن العباد فهو موضوع عنهم([5])، فيحتمل أن يراد به أن ما لا يكون مقدورا فهو موضوع عن المكلف، حيث ان الحجب بمعنى المنع، على أنه يرد على الاستدلال بكلتا الروايتين أن توجيه خطاب عام يشتمل على البراءة في الشبهات الحكمية من دون بيان اشتراط جريانها بالفحص واليأس عن الظفر بالدليل غير عرفي، ويوجب حمله على الشبهة الموضوعية.

كما أنه قد يورد عليهما بضعف السند، كما سيأتي توضيحه.

الثمرة الثانية:

ما ذكره في البحوث من أنه بناء على قبول قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فحيث ان العلم الاجمالي لا يكون بيانا الا على الجامع، وهو ثبوت التكليف في احد الطرفين، وليس بيانا على خصوصية التكليف في هذا الطرف او ذاك الطرف، فيكون العقاب على مخالفة خصوصية التكليف في اي منهما عقابا بلا بيان، وهذا يعني عدم اقتضاء العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية، فتجوز المخالفة الاحتمالية للتكليف المعلوم بالاجمال، بمقتضى البراءة العقلية عن الخصوصية المشكوكة في كل من الطرفين، وأما بناء على مسلك حق الطاعة فبعد تعارض الاصول المؤمنة الشرعية فيجب الاحتياط بمقتضى حق الطاعة.

نعم تختصّ هذه الثمرة بما اذا لم‌ يعلم المكلف بكون العنوان الجامع المعلوم بالاجمال واجبا شرعا بعنوانه، كما لو علم اجمالا بأن المولى إما أمره باكرام زيد او باكرام عمرو، وأما لو علم بكون الجامع المعلوم بالاجمال واجبا شرعا بعنوانه، وعلم اجمالا بانطباقه على احد الطرفين، كما لو ورد في الخطاب “اكرم العالم” وعلم بأن زيدا عالم او عمرو، فحيث تمّ البيان على وجوب اكرام العالم المردد بين الفردين فلو اكتفى باكرام احدهما فيشك في فراغ ذمته من الواجب الذي دخل في عهدته فيحكم العقل بلزوم الاحتياط من باب قاعدة الاشتغال.

ويرد عليه اولا: ان موضوع قاعدة قبح العقاب بلا بيان هو عدم البيان الاعمّ من البيان التفصيلي او الاجمالي، لما يرى بشهادة الوجدان من صحة العقاب على مخالفة التكليف المعلوم ولو اجمالا، حيث يعلم المكلف أن التكليف المعلوم اجمالا متعلق واقعا بطرف معين منهما فيصلح لتنجيزه.

بل نحن انكرنا كون موضوع حكم العقل بقبح العقاب هو عدم البيان بمعنى تبين الواقع، وانما البيان بمعنى الحجة، وهو ما يصحّ أن يحتجّ به المولى على العبدّ اي المصحح للعقاب، ومن الواضح أن قبح العقاب مع عدم المصحح له يكون من القضية الضرورية بشرط المحمول، ويكون منتزعا عن احكام عقلية مختلفة ندركها بالوجدان، كعدم كون عقاب المولى عبده ظلما في فرض ارتكابه الحرام الواقعي في الشبهة قبل الفحص، ولو كان خطاب التكليف ضايعا بحيث لو فحص لم ‌يظفر به، ولو قيل بكونه ظلما فيمكن دعوى كون موضوع قبح العقاب هو عدم البيان التفصيلي او الاجمالي في معرض الوصول على التكليف الواقعي او على اهتمام المولى به.

وثانيا: ان لازم كلامه عدم وجوب الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال بين الموالي والعبيد العقلائية لاختصاص حق الطاعة به تعالى، وهذا خلاف الوجدان العقلائي، فانهم يرون وجوب الاحتياط بالموافقة القطعية، خاصة فيما اذا كان الاحتياط سهلاً على المكلف، وهذا يعني أن العلم الاجمالي حتى وان فرض عدم كونه بيانا على خصوصية التكليف في كل طرف، فلم يكن منجزا عقلا لتلك الخصوصية، لكنه منجزا عقلاءا لتلك الخصوصية، ولذا يحتجّ العقلاء على العبد فيما اذا ارتكب احد طرفي العلم الاجمالي وصادف الحرام واقعا، فهو حجة عقلائية غير مردوعة، فيكون بيانا تعبديا كسائر الأمارات والاصول العقلائية.

الثمرة الثالثة:

ما اذا كانت الاصول المؤمنة الشرعية متعارضة في طرفي العلم الاجمالي، وكان احد الطرفين مجرى لقاعدة الاشتغال في حد نفسه، بخلاف الطرف الثاني، كما لو علم في وقت صلاة الظهر بأنه إما بطلت صلاة ظهره بنقصان ركن او ركعة، فوجبت عليه اعادتها او فاتت منه صلاة الصبح، فوجب عليه قضاءها، فتتعارض قاعدة الفراغ في الظهر مع قاعدة الحيلولة والبراءة عن وجوب قضاء الفجر، وتتساقط الجميع، فتصل النوبة في صلاة الظهر الى قاعدة الاشتغال، واستصحاب عدم الامتثال، وأما في قضاء صلاة الفجر فان قلنا بمسلك حق الطاعة فلابد من الاحتياط فيه لعدم ثبوت ترخيص شرعي في تركه، وأما بناءا على قبول البراءة العقلية حتى في احد طرفي العلم الاجمالي الذي يوجد منجز تفصيلي في طرفه الآخر، فتجري البراءة العقلية للتأمين عن وجوب القضاء، لأن القضاء بأمر جديد، فيكون من الشك في حدوث التكليف.

والحاصل أنه مع قبول البراءة العقلائية في المجالات الشرعية كما هو الظاهر فلا تبقى ثمرة لانكار البراءة العقلية.

ثم انه قد يتمسك للقول بالبراءة العقلية (او فقل: البراءة العقلائية) باجماع العلماء، وهذا وان لم‌ يكن كاشفا عن الحكم الشرعي، ولكنه يؤكد على كون المرتكز العقلائي هو البراءة، الا أن ثبوت الاجماع غير واضح، والذي يوضِّح ذلك ما ذكره الشيخ الطوسي “ره” من أنهم اختلفوا في الأشياء التي ينتفع بها هل هي على الحظر، أو الإباحة، أو على الوقف؟، ذهب كثير من البغداديين، وطائفة من أصحابنا الإمامية إلى أنها على الحظر، ووافقهم على ذلك جماعة من الفقهاء، وذهب أكثر المتكلّمين من البصريين، وهي المحكي عن أبي الحسن وكثير من الفقهاء إلى أنها على الإباحة، وهو الذي يختاره‏ سيدنا المرتضى‏ “ره”، وذهب كثير من الناس إلى أنها على الوقف‏، ويجوَّز كلّ واحد من الأمرين فيه، وينتظر ورود السمع بواحد منهما، وهذا المذهب كان ينصره شيخنا المفيد “ره”، وهو الذي يقوى في نفسي، والذي يدلّ على ذلك أنّه قد ثبت في العقول أن الإقدام على ما لا يؤمن المكلّف كونه قبيحا، مثل إقدامه على ما يعلم قبحه… وفي هذه الأحوال لا يجوز له أن يقدم إلّا على قدر ما يمسك رمقه ويقوم به حياته.

وقد استدلّ من قال إنّ الأشياء على الحظر قطعا بأنا قد علمنا أنّ هذه الأشياء لها مالك، ولا يجوز لنا أن نتصرّف في ملك الغير إلّا بإذنه، ورُدّ بأن التصرف في ملك الغير انما يكون قبيحا لكونه ظلما ومزاحمة لمالكه، فلا ينطبق على التصرف في ملكه تعالى…([6]).

وهذا الكلام يكشف بوضوحٍ عن عدم التسالم على البراءة العقلية، كما لعله يشهد لذلك استدلال ابن زهرة في الغنية للبراءة العقلية -على ما حكى عنه الشيخ “ره” في الرسائل- بأن التكليف بما لا طريق إلى العلم به تكليف بما لا يطاق، ولعله ناظر الى فرض عدم الالتفات الى الحكم.

وعليه فاستدلال المحقق الحلي “ره” على البراءة بأن أهل الشرائع كافّة لا يخطّئون من بادر إلى تناول شي‏ء من المشتهيات، سواء علم الإذن فيها من الشرع أو لم‌ يعلم، ولا يوجبون عليه عند تناول شي‏ء من المأكل أن يعلم التنصيص على إباحته‏، ويعذرونه في كثير من المحرّمات إذا تناولها من غير علم، ولو كانت محظورة لأسرعوا إلى تخطئته، حتى يعلم الإذن([7])، فان اريد به التسالم على البراءة العقلية فغير متجه.

هذا وقد حكي عن السيد البروجردي “قده” ما محصله أن هناك حيثيتين للبحث:

احديهما: انه هل يكون صرف احتمال التكليف كافیا لتنجزه أم لا؟، والبراءة بهذا النحو كانت مبحوثا عنها في كلام القدماء، وربما كانوا يعبرون عنها باستصحاب حال العقل.

ثانيتهما: ما كان يعبر عنه في كلمات القدماء بأصالة الحظر، وموضوعها تصرف العبيد في الأعيان الخارجية أو في انفسهم باصدار فعلٍ، مع قطع النظر عن ورود الشرع، فكان بعضهم يقول: بالحظر في الأفعال المتعلقة بالأعيان الخارجية، وبعضهم بالحظر في مطلق الأفعال سوى الأفعال الضرورية كالتنفس ونحوه، بدعوى أن العبد بشراشر وجوده وكذا الأعيان الخارجية ملك لله تعالى، والعقل مستقل بعدم جواز تصرف أحد في ملك غيره الا بإذنه، فيكون ذلك بيانا وحجة على الواقع فيما احتمل حرمته فيصلح للمولى العقاب عليه.

أما الحيثية الأولى، فالظاهر عدم الخلاف في جريان البراءة، والدليل عليه هو العقل الحاكم في باب الإطاعة والعصيان، فانه يحكم بالضرورة أن العبد إذا تفحص عن أوامر المولى ونواهيه في مظانّ وجودها، ولم يظفر بشي‏ء، فلو ترك محتمل الوجوب بعد ذلك أو أتى بمحتمل الحرمة لم ‌يكن بذلك خارجا عن رسم‏ العبودية ومضيّعا لحقوق المولوية، ولم يعدّ طاغيا على المولى، وليس للمولى عتابه وعقابه، محتجّا عليه بأنك ضيّعت حقوقي عليك، وهذا من غير فرق بين صورة عدم البيان واقعا، وبين صورة وجوده مع عدم ظفر العبد به بعد إعمال قدرته في الفحص عنه، فإن البيان بوجوده الواقعي لا يصلح للاحتجاج به، فوجوده حينئذ كعدمه، وبالجملة فصرف الاحتمال لا يصلح للتنجيز بضرورة من العقل، فانه يحصل له الجزم بقبح العقوبة بعد تصور الموضوع، أعني عدم وصول حجة من المولى أصلا، وعدم كون شي‏ء في البين سوى الاحتمال بعد الفحص واليأس، وهذا معنى قولهم بقبح العقاب بلا بيان، فقبح العقاب بلا بيان هو عين المدعى وهو امر ضروري لا يحتاج إثباته إلى توسيط واسطة، ولا يحسن ذكره بصورة الدليل.

وبالنسبة الى الحيثية الثانية نقول: ان مبنى القول بالحظر فاسد، فإن عنوان التصرف في ملك الغير بما هو هو ليس موضوعا لحكم العقل بالقبح، وانما يستقل بقبحه إذا انطبق عليه عنوان الإضرار بالغير والظلم عليه، وهذا المعنى لا يتحقق بالنسبة إلى ملك اللَّه تعالى، فان الناس ينتفعون بأملاكهم ويصرفونها في حوائجهم، فمزاحمتهم في ذلك إضرار بهم وظلم عليهم، وأما ملكه تعالى فواسع لا حدّ له، ولا ينتفع به، ولا يتضرر بتصرف الغير فيه، وهل يحتمل أحدٌ أن يكون تصرف الناس في ملكه تعالى ظلما قبيحا، مع أنه خلقهم وهم فقراء محتاجون في ادارة شؤون حياتهم، الى الاستفادة مما خلق من العالم الذي يوجد فيه جميع ما يحتاجون إليه، ويناسب طباعهم، وهو تعالى غني عنه، بل لا يحتمل ذلك في الموالي العرفية أيضا إذا جمع أحدهم عبيده في مكانٍ، وهيّأ فيه جميع وسائل الحياة لهم([8]).

اقول: أما ما ذكره بالنسبة الى بداهة قبح العقاب بلابيان أي عدم منجزية احتمال التكليف بعد الفحص فقد مر الاشكال فيها بالنسبة الى المولى الحقيقي جلّ وعلا، نعم نقبل ارتكازية البراءة العقلائية، ولم يكن الاختلاف في القدماء متمحضا في الحيثية الثانية، كما يشهد له ما مرّ عن الشيخ الطوسي “ره” من أن الاقدام على ما لا يؤمن من قبحه قبيح، فقد استدل للبراءة بقوله “ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا” ثم ناقش فيه، فهذا شاهد على ملاحظة الحيثية الاولى ايضا.

وأما ما ذكره حول التصرف في ملكه تعالى فلا يبعد أن يقال ان حرمة التصرف في الملك الاعتباري للغير بدون رضاه حرمة عقلائية، ويلحق به التصرف في جسد الغير، كمسّه بدون اذنه، وليس هذا مما يدركه العقل الفطري، وقد ردع الشارع عن هذا الارتكاز العقلائي في موارد، كمال الكافر الحربي او اكل المارة، وهذا الارتكاز يشمل حتى الملك الاعتباري له تعالى كالخمس، وأما التصرف في الملك التكويني للغير، كما في تصرف الانسان في نفسه او في الاشياء التي هي ملك تكويني له تعالى، فلا دليل على قبحه عقلا او عقلاءا، ويتمحض ترك الاحتياط في الشبهة الوجوبية في الحيثية الاولى، حيث انه ترك التصرف، كما يتمحض في الحيثية الثانية ما اذا علم المكلف بعدم توجه تكليف من المولى اليه نحو تصرفه في نفسه او في الاشياء كما في شرب التتن، فان التصرف في ملك الغير يحتاج الى احراز رضاه، فتجري فيه اصالة الحظر بملاك قبح التصرف في ملك الغير من غير رضاه، دون حق الطاعة.

وأما ما ذكره من عدم امكان الاستدلال على قبح العقاب بلا بيان فهو متين جدا، فليس قبول المشهور لها او انكار جماعة لها او تشكيكنا فيها الا راجعا الى الوجدان، ولا يخضع للبرهان.

کلام المحقق الاصفهاني “قده” في قاعدة قبح العقاب

هذا وقد ذكر المحقق الاصفهاني “قده” في توضيح قاعدة قبح العقاب بلا بيان أن مدار الاطاعة والعصيان على الحكم الحقيقي، وأن الحكم الحقيقي متقوم بالوصول، لعدم معقولية تأثير الانشاء الواقعي في انقداح الداعي، وحينئذ فلا تكليف حقيقي مع عدم الوصول، فلا مخالفة للتكليف الحقيقي، فلا عقاب، ولكن ذلك ليس مفاد قاعدة قبح العقاب بلا بيان، فان عدم العقاب لعدم التكليف شيء، وعدم العقاب لعدم وصوله شيء آخر، ومفاد القاعدة هو الثاني، دون الأول، مضافا إلى أن قاعدة قبح العقاب بلا بيان مما اتفق عليه الكلّ، وتقوّم التكليف بالوصول مختلف فيه، بل صريح صاحب الكفاية انفكاك مرتبة الفعلية البعثية والزجرية عن مرتبة التنجز، فالاولى تقريب القاعدة بوجه عامّ مناسب للمقام.

فنقول: في توضيح المقام إن هذا الحكم العقلي حكم عقلي عملي بملاك التحسين والتقبيح العقليين، وقد بيّنا مرارا أن مثله مأخوذ من الاحكام العقلائية التي حقيقتها ما تطابقت عليه آراء العقلاء حفظا للنظام وإبقاء للنوع، وهي المسماة بالقضايا المشهورة، ومن الواضح أن حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان ليس حكما عقليا عمليا منفردا عن سائر الاحكام العقلية العملية، بل هو من أفراد حكم العقل بقبح الظلم عند العقلاء، نظرا إلى أن مخالفة ما قامت عليه الحجة خروج عن زي الرقية ورسم العبودية، وهو ظلم من العبد على مولاه، فيستحقّ منه الذم والعقاب.

كما أن مخالفة ما لم‌ تقم عليه الحجة ليست من أفراد الظلم، إذ ليس من زي الرقية أن لا يخالف العبد مولاه في الواقع، وفي نفس الامر، فليس مخالفة ما لم ‌تقم عليه الحجة خروجا عن زيّ الرقية حتى يكون ظلما، وحينئذ فالعقوبة عليه ظلم من المولى على عبده؛ بل حيث إن موضوع استحقاق العقاب هو الظلم على المولى، فمع عدمه لا استحقاق قطعا، وضمّ قبح العقاب من المولى أجنبي عن المقدار المهم هنا، وإن كان صحيحا في نفسه([9]).

اقول: أما ما ذكره من تقوم التكليف الفعلي بالوصول فلا يخلو عن كونه مجرد بحث لفظي محض، وترتيب أي اثر عليه مصادرة محضة، فان غاية ما ذكره في تقريبه أن كون فعلية الحكم التكليفي من قبل المولى، وان كانت تتمّ بمجرد انشاءه، لكن فعليته المطلقة تكون بوصوله ولو اجمالاً، فان الحكم التكليفي حيث يكون انشاء البعث بداعي جعل ما يمكن ان يكون داعيا لزوميا للمكلف نحو الفعل، بحيث لو كان العبد منقادا لصار داعيا له بالفعل نحوه، وفعلية أي شيء هو أن يتحقق فيه ما اوجد لأجله، وهو العلة الغائية من ايجاده، فاذا تحققت هذه العلة الغائية فيه يصير فعليا، ففعلية الحكم هو أن يبلغ حدّا يمكن ان يكون داعيا لزوميا نحو الفعل، ولاجل ذلك تتوقف فعلية الحكم بالوصول، فانه ما لم يصل لا يحكم العقل بلزوم امتثاله فلا ينطبق عليه هذا الداعي([10]).

ولكن يورد عليه اولاً: ان هذا البيان فرع أن يكون حكم العقل بلزوم الامتثال موقوفا على وصوله، وهذا اول الكلام، فلا يمكن أن يكون حكم العقل متفرعا عليه، كما هو المفروض في كلامه، حيث قال ان حكم العقل بلزوم الامتثال مختص بالتكليف الحقيقي، وما لم‌ يصل الحكم فلا يتصف بكونه حكما حقيقيا.

وثانيا: لماذا لا نقول بأن الداعي من انشاء الحكم باعثيته على تقدير وصوله، وهذا الداعي التعليقي موجود قبل الوصول، ويكون كافيا في فعلية الحكم، وان لم‌ يتحقق الوصول.

وثالثا: ان في انشاء الحكم داعيا اوسع، وهو مطلق باعثيته ولو بنحو رحجان الاحتياط في مورد الالتفات اليه ولو لم‌ يكن واصلا.

وأما ما ذكره حول عدم استحقاق العقاب على مخالفة التكليف المحتمل ما لم‌ يصل الى المكلف لعدم كونه ظلما على المولى وخروجا عن زي رقيته، فهو مما لا ندركه بوجداننا بالنسبة الى اغراضه اللزومية جلّ وعلا.

وان شئت قلت ان الظلم هو فعل ما لا ينبغي فعله، ولذا قلنا ان قضية قبح الظلم من القضية الضرورية بشرط المحمول، فانكار كون مخالفة التكليف المحتمل ظلما ليس الا انكارا لقبح هذا الفعل، وانكار قبحه بملاك عدم كونه ظلما ليس الا مصادرة بالمطلوب. ومن هنا يكون الأصل الأولي في الشبهات هو الاحتياط، ولا نخرج عنه إلّا بمقدار ما يثبت من الترخيص الشرعي والحكم الظاهري في موارد الأمارات أو الأصول الشرعية.

هذا وقد حكي عن بعض الأعلام “قده” في تقريب انكار البراءة العقلية أنه لم يعلم كون العقاب مع شك العبد في رضا المولى بالعمل وعدم رضاه، من منافرات القوة العاقلة، هذا بناءا على تفسير قبح الظلم وحسن العدل بالمنافرة للقوة العاقلة او الملائمة لها، وأما بناءا على كونهما ببناء العقلاء حفظا للنظام، فلا يعلم أن بناء العقلاء على عدم العقاب على مخالفة التكليف المشكوك حفظا للنظام، لعدم العلم بأن المؤاخذة مخلّة بالنظام، فمثلاً لو ضرب العبد مولاه جاهلا برضى المولى بذلك، لاحتماله انه ليس بمولاه، فلا يعلم قبح المؤاخذة من المولى

ولو سلّم قبح مؤاخذة المولى العرفي عبده على المخالفة في صورة الشك في التكليف، فلا سبيل إلى الجزم بقبح المؤاخذة الدنيوية بالنسبة إلى المولى الحقيقي، إذ كثيرا ما يتحقق الإيلام بالمرض ونحوه بالنسبة إلى المطيع، فضلا عن المخالف، من دون أن يرى العقل القبح فيه، وذلك لأنه لا يتصور أن يكون للعبد حق خاص على المولى الحقيقي الخالق له، إذ هو ملكه ومخلوقه يتصرف به ما يشاء، يفقره ويمرضه، وغير ذلك، مع علم العبد بالمخالفة وجهله، بل ومع إطاعته لمولاه وخضوعه لأوامره ونواهيه، ولا يتنافى ذلك مع بناء العقلاء، كما أنه لا ينافر القوة العاقلة.

وأما المؤاخذة الأخروية فان قلنا بأنها من قبيل تجسم الأعمال، فحال العمل كحال البذرة التي تتجسم فتصير زرعا طيبا أو غير طيب باختلاف جنس البذر، فالمعصية تتجسم فتصير عقربا مثلا، او قلنا بأنها من قبيل الأثر الوضعي للمعصية، كالموت المسبب عن السم القاتل، فلا مجال لحكم العقل بقبح العقاب بلا بيان، إذ ليس هو فعلا اختياريا، كي يتصف بالقبح والحسن، بل هو أمر قهري يترتب على العمل.

وان قلنا بأن العقاب عمل المولى بقرار منه، حيث أوعد على المخالفة بالعقاب، كما وعد على الإطاعة بالثواب، فيكون من باب المجازاة التي قررها المولى نفسه، فلا سبيل إلى حكم العقل بقبح العقاب على المخالفة في صورة الشك وعدم البيان، لعدم العلم بالملاك الذي بملاحظته أوعد الشارع بالعقاب على المخالفة، إذ الملاك في ثبوت العقاب دنيويا أنما هو ردع المخالف عن العودة في الفعل أو تأديب غيره لكي لا يرتكب المعصية، وهذا إنما يتحقق بلحاظ العالم الدنيوي، لا العالم الأخروي، إذ ليس هو عالم التكليف والعمل، فلابد أن يكون العقاب الأخروي بملاك آخر لا نعرفه، وإذا لم نتمكن من معرفته وتحديده لم يمكن الجزم بثبوته في صورة دون أخرى.

وعليه، فمن المحتمل أن يكون الملاك ثابتا في مورد المخالفة مع الشك، فكيف يدعى منافرته للقوة العاقلة، أو انه يتنافى مع بناء العقلاء لأجل حفظ النظام؟، وانما يدور الأمر مدار بيان الشارع لموضوع العقاب وتحديده([11]).

وقد ذكر ايضا: ان العقاب الأخروي لا يمكن أن يكون لأجل التشفي، فان التشفي مستحيل في حقه تعالى، بل في حق كل عاقل بما هو عاقل لملائمته مع القوة الغضبية، كما لا يمكن أن يكون للتأديب، اذ لم ‌يبق مجال في الآخرة لذلك، فلابد في توجيهه من الالتزام بكونه تجسما للأعمال السيّئة او أنه لازم تكويني لها، او الالتزام بانه طريق لتكميل النفس وايصالها الى المرتبة الكاملة، كما يقال في المرض في دار الدنيا، او الالتزام بكونه على طبق المصلحة النوعية لعالم الآخرة، كاختلاف احوال الأشخاص في دار الدنيا، لكونه على طبق المصلحة النوعية لعالم الدنيا.

ومن الواضح ان العقاب بأحد هذه الوجوه الثلاثة لا دخل لحكم العقل فيه، بل يدور سعة وضيقا وتحديدا لموضوعه مدار الدليل النقلي، فما يبحث عنه علماء الأصول من حكم العقل باستحقاق العقاب في بعض المجالات، كالتجرّي ومخالفة العلم الإجمالي، او حكمه بعدم استحقاق العقاب في بعض المجالات الأخرى، كما في البراءة العقلية اي قبح العقاب بلا بيان، ففي غير محلّه، وبذلك أنكر حكم العقل باستحقاق العقاب الأخروي او عدم الاستحقاق([12]).

اقول: ان المهمّ في علم الكلام والأصول البحث في أن عقاب المولى في موردٍ هل يعتبر تضييعا لحقّ العبد، فيقبح لأجل ذلك، كما في عقاب المطيع، أم لا يعتبر تضييعا لحقه، خاصة بعد تحقق الوعيد منه تعالى كما في المعصية، وهذا معنى ادراك العقل كون العقاب في محله ام لا، ولا يلزم أن يدرك كون العقاب في محله من جميع الجهات، وهذا الإدراك العقلي واضح جدّا، فهل ترى في نفسك التردد في حكم العقل بعدم كون عقاب العاصي في الآخرة ظلما له، بخلاف عقاب المطيع من باب المجازاة والانتقام، فما دُمنا نحتمل صدور العقاب الأخروي من باب الجزاء فنحتاج الى توسيط العقل في ادراك حسن العقاب وقبحه، ولا يحصل الجزم بعدم مصلحة في العقاب الأخروي، فاننا كيف نحيط بمصالح افعاله تعالى، خاصة وأن ظاهر الكتاب والسنة هو كون العقاب الأخروي من باب الجزاء، فقد قال تعالى “و جزاء سيئة سيئة مثلها” و”من جاء بالسيئة فلا يجزى الا مثلها وهم لا يظلمون”، وهذا هو المتناسب مع العفو والشفاعة، كما سمّي الثواب بالأجر أيضا فقد قال تعالى “ليوفيهم اجورهم ويزيدهم من فضله”، وقد يكون ملاك العقاب الأخروي تشفي قلوب المؤمنين من ظلم الظالمين، بل لعل نفس الانتقام من المجرمين غاية العذاب الأخروي، ومما يشهد على كون العقاب الأخروي من باب الجزاء قوله تعالى: كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب.

وأما ما ورد من مثل قوله تعالى “فمن يعمل مثقال ذرّة شرّا يره ومن يعمل مثقال ذرّة خيرا يره”، وكذلك قوله تعالى “انما تجزون ما كنتم تعملون”، وما في الحديث “انما هي اعمالكم تردّ اليكم([13])، فليس الا بيانا عرفيا للجزاء، فيكون المراد من رؤية العمل رؤية جزاءه، ولا اقلّ أن يكون ما ذكرناه مقتضى الجمع بين الآيات والروايات، بل يمكن أن يكون نفس تجسيم الأعمال جزاء اختياريا منه تعالى على الأعمال فهو يخلق صورة سيئة بعنوان صورة الأعمال السيئة مثلا، فيعذب بها اهل العذاب، ومما يؤكد ذلك وجود شبهة عقلية في تجسّم الأعمال وهو صيرورة العرض جوهرا، اذ ليس المراد منه خصوص انكشاف واقع الانسان له، بل العذاب يكون بأمر خارج من ذاته وهو الاحتراق بالنار ونحوه.

والحاصل أننا ما دمنا نحتمل وجود العقاب في الآخرة من باب الجزاء فنحتاج الى توسيط ادراك العقل لحسن العقاب او قبحه، فاذا لم‌ يحكم العقل بقبح العقاب في موردٍ فيجب على العبد دفع العقاب المحتمل.

على أنه لو فرض قيام البرهان على امتناع العقاب الأخروي من باب الجزاء وانحصاره في تجسّم الأعمال فلا ينسدّ بذلك باب ادراك العقل، حيث انه يدرك ان الانقياد للمولى تعالى لو تجسّم في الآخرة لم‌ يتجسّم بصورة العقاب، ولكن لو تمثّل عصيانه كان في معرض تمثّله بصورة العقاب، فيجب حينئذ بحكم الفطرة دفع العقاب المحتمل.

نعم ما ذكره من عدم ادراك قبح عقاب المولى الحقيقي على مخالفة التكليف المشكوك متين جدا.

هذا وقد ذكر بعض السادة الاعلام “دام ظله” أن منشأ استحقاق العقاب هو استبطان خطاب الامر من المولى للوعيد على مخالفة الامر عند وصوله، الا ان يكون من الامور المهمة، فيكفي الاحتمال، وقد سبق الاشكال في المبنى.

البراءة الشرعية

انه قد استدل لاثبات البراءة الشرعية بالآيات والروايات.

الآيات المستدل بها على البراءة

أما الآيات فنذكر أهمها:

الآية الاولى:

“و ما كنا معذبين حتى نبعث رسولا([14])“.

وقد ذكر صاحب الكفاية أنها أظهر الآيات التي استدل بها على البراءة([15])، وتقريب الاستدلال بها أن بعث الرسول كناية عرفا عن اتمام الحجة على الناس بالبيان الشرعي للأحكام، اذ لا يكفي في العقاب مجرد بعث الرسول، ولو من دون تبليغه بعدُ، او تبليغه لجماعة آخرين، غايته أن الآية تقيّد بموارد كشف الحكم الشرعي من طريق حكم العقل بقبح الظلم في موارد الملازمة، او يحمل بعث الرسول على كونه كناية عن الأعم من البيان الشرعي او البيان العقلي الكاشف عن الحكم الشرعي، نظير ما يقال “قم هنا حتى يؤذن المؤذن” فيكون كناية عن دخول الوقت لكونه مقارنا له غالبا، وعلى أي حال فتدلّ الآية على نفي العقاب على ارتكاب مشكوك الحرمة، وترك مشكوك الوجوب.

عدة ايرادات

و اورد عليه بعدة ايرادات:

الايراد الاول: ما ذكره جماعة من الأعلام من أن نفي العقاب قبل إتمام الحجة ببعث الرسل، لعله كان منة منه تعالى على عباده، مع استحقاقهم لذلك، فانه لا ملازمة بين نفي وقوع العقاب خارجا وبين نفي استحقاقه، وما يكون موجبا للترخيص في ارتكاب الفعل المشكوك الحرمة او ترك الفعل المشكوك الوجوب هو العلم بعدم استحقاق العقاب، لا العلم بعدم وقوع العقاب خارجا، ولذا لا يكون العلم بعدم وقوع العقاب على معلوم الحرمة موجبا لحكم العقل بجواز ارتكابه، كما في مورد ارتكاب الصغائر مع الاجتناب عن الكبائر، حيث يستفاد من قوله تعالى “ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفِّر عنكم سيئاتكم([16])” وقد قيل في الظهار بأنه حرام، قد وعد الله تعالى بالعفو عنه، حيث قال “الذين يظاهرون من نسائهم…و انهم ليقولون منكرا من القول وزورا وإنّ الله لعفوّ غفور([17])

وأجيب عنه باحد وجوه اربعة:

الوجه الاول: ما ذكره الشيخ الأعظم “ره” من أنّ الخصم (أي الأخباري المنكر للبراءة) يقبل الملازمة بين نفي فعلية العقاب ونفي الاستحقاق، فنفي الفعلية كافٍ في إلزامه‏([18]).

وفيه أنه -كما ذكر صاحب الكفاية([19])– لو فرض قبول الخصم للملازمة بينهما، كان الاستدلال بها جدلياً لا يفيد بالنسبة الينا، بعد عدم تمامية الملازمة عندنا، مع وضوح منع قبول الأخباري للملازمة، كيف واستحقاق العقاب على مخالفة التكليف القطعي لا يلازم وقوع العقاب خارجا.

الوجه الثاني: ما ذكره جماعة من أنه يكفي للعبد أن يحصل له الأمن من العقاب، ولو بوعده تعالى بعدم العقاب.

وفيه اولا: انه مبني على كون وجه قبح عصيانه تعالى هو خوف العقاب، كما يظهر من السيد الخوئي وصرح به شيخنا الاستاذ “قده”، لكن الفطرة تشهد بقبح عصيانه تعالى، ولو مع الجزم بعدم العقاب، وذلك لا لأجل لزوم شكر المنعم، حتى يقال بأنه لا يحكم العقل بأكثر من حسن شكر المنعم دون لزومه، والا لزم طاعة كل منعم، كالابوين او من أنقذ طفلا من المهالك، فربّاه احسن تربية، ولا لأجل قبح عقوق المنعم، فان عقوقه لا يتحقق بمطلق عصيانه، على أن المهم في لزوم الترك عقلا هو كون القبح بحيث يستحق العقاب عليه، وليس العقوق من هذا القبيل، فهو نظير اخراج الضيف من البيت، ولا لأجل ما في البحوث من خالقيته المستتبعة لمالكيته التكوينية، وهي تستتبع مالكيته التشريعية، فانه يرد عليه النقض بأنه لو فرض كون الخالق غيره تعالى، كما لو اعطى سبحانه القدرة على الخلق الى الشيطان، وخلق خلقاً، فلا تجب عليه طاعة الشيطان في غير ما كان امرا بالقبيح، ولا يجدي في دفع هذا النقض كون قدرته على الخلق منه تعالى، فانه على أي حال مخلوق للشيطان ايضا، خاصة اذا فرضنا أن الله نهاه عن خلقه تشريعا، بل دليل وجوب طاعته تعالى هو حكم العقل الفطري بذلك بعد كونه تعالى هو خالقنا العظيم، ولا يتمّ هذا الحكم فيما لو كان الخالق والمالك التكويني غيره.

وثانيا: ان غايته هو كون ظاهر الآية هو الوعد بعدم العقاب الأخروي على ارتكاب المشكوكات، وهذا لا يوجب الجزم بعدم العقاب، غايته قيام الحجة على عدم العقاب، فيبقى موضوع وجوب دفع العقاب المحتمل، نعم لو كان ظاهر الخطاب الترخيص في ارتكاب المشكوكات، والمفروض حجية الظهور فيقبح بعد ذلك العقاب، فالمقام يكون نظير شمول عموم “و اني لغفار لمن تاب” لقاتل الحسين (عليه السلام)، فانه لو تبين له يوم القيامة أنه لم يكن مشمولا لعموم الآية حسب المراد الجدي، فليس عقابه امرا قبيحا.

الوجه الثالث: ما في مصباح الاصول من أنّ جملة ما كان أو ما كنّا وأمثالهما من هذه المادة مستعملة في أنّ الفعل غير لائق به تعالى، ولا يناسبه صدوره منه، ويظهر ذلك من استقراء موارد استعمالها، كقوله تعالى: وما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ([20]) وقوله تعالى: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ([21])، وقوله تعالى: وما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وأَنْتَ فِيهِمْ([22]) وقوله تعالى: وما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً([23])، إلى غير ذلك، فجملة الفعل الماضي من هذه المادة منسلخة عن الزمان في هذه الموارد، فيكون المراد أنّ التعذيب قبل البيان لا يليق به تعالى، ولا يناسب حكمته وعدله، وعليه فعدم لياقة التعذيب قبل البيان يدلّ على عدم كون العبد مستحقّاً للعذاب، إذ مع فرض استحقاق العبد لا وجه لعدم كونه لائقاً به تعالى، بل عدم لياقته به تعالى إنّما هو لعدم استحقاق العبد له، فالمدلول المطابقي للآية الشريفة، وإن كان نفي فعلية العذاب، إلّا أنّها تدلّ على نفي الاستحقاق بالالتزام على ما ذكرناه([24]).

وكذا يقال بأنه اذا دخل “كان” على النفي، فلا يفيد انسلاخه عن الزمان الماضي، مثل “كانوا لا يتناهون عن منكر فعلوه” وأما إذا دخل النفي على “كان” فيفيد انسلاخه عنه، ويدلّ التركيب على نفي النسبة مطلقا، بل على أنه ليس من شأنها الوقوع.

وفيه اولا: انه لو فهم من سياق الآية كون العقاب قبل بعث الرسول غير مناسب لشأنه، فلعله لعدم تناسبه مع فضله ورحمته، مثل قوله تعالى “و ما كان الله ليعذبهم وانت فيهم، وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون” وثانيا: انه لا يستفاد من هذا السياق اكثر من الإخبار عن كون دأبه تعالى ذلك، فلا يرى العرف أيّة مؤونة في ما لو قيل “و ما كان الله ليثيب على عمل بدون اخلاص النية”، ولعل منه قوله تعالى “و ما كان الله ليطلعكم على الغيب” او قوله “ما كان الله ليذر المؤمنين على ما انتم عليه حتى يميز الخبيث من الطيّب”.

هذا ولا يخفى أن ظاهر البحوث هنا قبول أن ظاهر الآية منافاة العقاب بلا بيان مع شأنه تعالى، بمعنى حكمته وعدله، وهذا لا ينافي انكاره للبراءة العقلية واختياره لمسلك حق الطاعة، فانه يعترف بقبح العقاب مع عدم صدور البيان منه تعالى واقعا، وانما لا يقبله في فرض صدوره منه والشك فيه، ولكنه في ذيل قوله تعالى “و ما كان الله ليضل قوما بعد اذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون” ذكر أن منافاته لشأنه يمكن أن تكون بمعنى منافاته لرأفته، وكيف كان فالتعبير ب “و ما كنا” ان كان ظاهرا في أن الفعل مما لا ينبغي صدوره منه تعالى، فمن يرى مسلك حق الطاعة وينكر البراءة العقلية فلابد أن يحمل بعث الرسول على كونه مثالا المطلق المنجز، ولو كان هو حكم العقل بحق الطاعة، حيث انه مع العلم بهذا الحق العقلي لا يقبح صدور العقاب منه تعالى على مخالفة التكليف المشكوك، والمهم في الاشكال على البحوث هنا أنه ان كان عدم صدور البيان كاشفا عن عدم تعلق الغرض اللزومي للمولى بأن كان متمكنا من اصدار البيان فلا اشكال في قبح العقاب، ولكن لا معنى لكون هذا الفرض مرادا من الآية الكريمة، فان عدم العقاب حينئذ يكون مستندا الى انتفاء الغرض اللزومي، فيكون من قبيل السالبة بانتفاء الموضوع، لعدم تفويتهم لأي غرض لزومي للمولى، ولكن ان لم يكن عدم صدور البيان كاشفا عن عدم تعلق الغرض اللزومي، كما في الموضوعات المستحدثة في زمان الغيبة كشرب التتن، فالظاهر عدم فرق بينه وبين فرض احتمال ضياع البيان على التكليف مع صدوره من المولى واقعا.

الوجه الرابع: ما هو الصحيح من أن ظاهر الآية –لو غمضنا العين عن اشكال اختصاصها بنفي العقاب الدنيوي في الأمم السابقة- هو كونها بصدد الترخيص في ارتكاب ما لم‌ يقم البيان على التكليف فيه، والا فلو كان لا يرضى الشارع بارتكاب ما لم‌ يقم البيان على ثبوت التكليف فيه، لم ‌يكن الاخبار بعدم العقاب عليه مناسبا، لكونه موجبا لجرءة الناس، ولا يقاس المقام بقوله تعالى “ان تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه …” حيث ان شرط العفو عن الصغائر هو الاجتناب عن الكبائر الى آخر العمر، اذ من الواضح أنه لا يكفي الاجتناب عنها في زمان ما، وهذا الشرط لايمكن احرازه، فلا يكون موجبا لجرءة الناس، وهكذا الوعد بعدم العقاب على النية المجردة للسيئة، لأن من نوى السيئة لا يرى نيته مجردة عن السيئة، وأما في الظهار فنلتزم بأن مجرد بيان أن الله عفوّ غفور، لا يدلّ على العفو القطعي المطلق عنه.

الايراد الثاني: ان المراد من الآية هو الاخبار عن عدم وقوع العذاب الدنيوي على الامم السابقة إلّا بعد اتمام الحجة عليهم ببعث الرسول، بقرينة التعبير بلفظ الماضي في قوله تعالى “وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ”، وعليه فلا تدلّ على نفي العذاب الاخروي عند عدم تمامية البيان.

اجوبة عن الایرادات

واجيب عنه بعدة اجوبة:

الجواب الأول: ان ظاهر العذاب هو العذاب الأخروي أو ما يعمّه، ولا سيما بملاحظة ورود الآية في سياق الآيات المناسبة للعذاب الأخروي، فقد قال تعالى “وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ ونُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً، اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى‏ بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً، مَنِ اهْتَدى‏ فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ، ومَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها، ولا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى،‏ وما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا([25]).

وأما الاستشهاد بكون فعل الماضي ظاهرا في لحاظ ما مضى، فلا يشمل عقاب الآخرة، فقد أجاب عنه صاحب الكفاية بأن الافعال المنسوبة اليه تعالى منسلخة عن الزمان.

وفيه أن ظاهر الفعل الماضي حتى بالنسبة اليه تعالى لولا القرينة على الخلاف هو لحاظ الزمان السابق، نعم لو كان مفاد الخطاب عدم تناسب الفعل معه تعالى فهم منه الاستمرار ولكنه مطلب آخر، وعليه فظاهر الآية أن العذابات النازلة على الامم السابقة كلها كانت بعد بعث الرسول اليهم.

الجواب الثاني: ما في مصباح الاصول وغيره من أنّ نفي العذاب الدنيوي عند عدم تمامية البيان يدل بالأولوية القطعية على نفي العذاب الاخروي، إذ العذاب الدنيوي أهون من العذاب الاخروي، لكونه منقطعاً غير دائم.

وفيه أن الاولوية ممنوعة، فان العذاب الدنيوي استعجال بالعذاب ومانع من التوبة بعد ذلك، مضافا الى أنه اذا جاء قد يعمّ البريء، كالطوفان والسيل والزلزال، وقال تعالى “فاتقوا فتنة لا تصيب الذين ظلموا منكم خاصة”.

الجواب الثالث: ما في مصباح الاصول ايضا من ان مساق هذه الآيات نفي كون العقاب قبل البيان لائقا به تعالى، ومن الواضح انه لا يختلف العذاب الدنيوي والأخروي.

وقد مر الاشكال فيه آنفا فراجع.

فالانصاف قوة هذا الايراد الثاني، فتكون الآية نظير قوله تعالى “وَ مَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا([26])، ولايخفى أن مورده العقاب على عدم الايمان بالله ورسالة الرسول، والمعاد، دون العمل بالأحكام الفرعية.

الايراد الثالث: ما في البحوث من أن المقدار الذي يثبت بها البراءة التكليف الذي لم‌ يبيّنه الشارع، لا ما بيّنه ولكن خفي عن المكلفين لكتمان الظالمين ونحوه، وإحراز عدم بيان الشارع باستصحاب عدمه رجوع إلى الاستصحاب الذي يمكن إجراؤه في عدم جعل الحكم ابتداء، وان كان يختلف عنه في كون استصحاب عدم البيان اصلا موضوعيا، لكنه ليس بفارق.

وفيه أنه الظاهر من بعث الرسول في خطاب نفي العذاب قبل بعث الرسول هو البيان في معرض الوصول، لا مطلق البيان، وذلك بمناسبة الحكم والموضوع، ويشهد له قوله تعالى “و لئن أهلكناهم بعذاب من قبله لقالوا لولا ارسلت الينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذلّ ونخزى” اذ مجرد البيان الذي لا يكون في معرض الوصول لا يمنع من قولهم “لولا ارسلت الينا” الظاهر في البيان الذي في معرض الوصول اليهم.

فالمهم في الايراد على الاستدلال بالآية هو الايراد الثاني، ولو فرض تمامية دلالتها على البراءة فيكون دليل وجوب الاحتياط شرعا واردا عليها لكون بعث الرسول في الآية كناية عن البيان الشرعي على الوظيفة الفعلية، ولو كان بيانا على وجوب الاحتياط.

الآية الثانية:

رُسُلاً مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ

ومما استدل به على البراءة الشرعية، قوله تعالى: رُسُلاً مُبَشِّرِينَ ومُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ([27])، وتقريب الاستدلال بها على البراءة أن مفادها أنه لولا ارسال الرسل لكان للناس حجة على الله، بل لعل الآية تقرّ بالبراءة العقلية او العقلائية الممضاة.

وفيه أنه لا يظهر منها اكثر من وجود حجة للناس مع عدم ارسال الرسل في الجملة، فيمكن أن تكون هي الغفلة عن حكم العقل بحق طاعته تعالى، وعدم التمكن من الهداية الى الحق، كما يحتمل ان يكون المراد احتجاجهم على الله بأن يقولوا كما في الآية الأخرى “لولا ارسلت الينا رسولا فنتبع آياتك من قبل أن نذلّ ونخزى” ولا يلزم منه أن يكون كلامهم مقبولا عقلا من حيث عدله تعالى، نعم قد يكون متوقعا منه من حيث فضله ومنّه وكرمه، كيف ومورد الآية الايمان بالله ومعرفته، ولا يحتمل جريان البراءة العقلية والعقلائية عنه، ولو قبل ارسال الرسل.

الآية الثالثة:

وما اهلكنا من قرية الا لها منذرون، ذكرى وما كنا ظالمين

ومما استدل به على البراءة الشرعية، قوله تعالى: وما اهلكنا من قرية الا لها منذرون، ذكرى وما كنا ظالمين([28])، بتقريب أن ظاهر الآية كون نزول الهلاك من دون منذر يكون ظلما، وموردها وان كان هو العذاب الدنيوي، لكن نكتة كونه ظلما تجري في العذاب الأخروي ايضا.

وفيه أنه لا يستفاد منها أكثر من كون نزول الهلاك على قرية ليس لها منذرون بداعي المجازاة لهم ظلماً في الجملة، ولو لأجل غفلة كثير منهم، والّا فمن الواضح أنه لا يكون سبحانه وتعالى ظالما لو عاقب من احتمل وجوده تعالى ولم ينبعث من ذلك نحو معرفته والايمان به، ولو من دون وجود المنذر.

الآية الرابعة:

وما كان الله ليضلّ قوما بعد اذ هداهم حتى يبيّن لهم ما يتقون

ومما استدل به على البراءة الشرعية، قوله تعالى: وما كان الله ليضلّ قوما بعد اذ هداهم حتى يبيّن لهم ما يتقون([29])، وقد استقرب في البحوث دلالتها على البراءة، بتقريب أن الإضلال سواء اريد منه تسجيلهم في الضالّين أو خذلانهم والاعراض عنهم المؤدي إلى ضلالهم، ظاهر في كونه كناية عن عقابهم، وقد علِّق في الآية على بيان الواجبات والمحرمات لهم، وحيث ان نفي العقاب بلسان “ما كان الله” فيكون مفاده قبح العقاب مع عدم البيان وهو معنى البراءة، كما ان البيان لهم ظاهر في الوصول والعلم، وليس كبعث الرسول كناية عن مجرد الصدور، ولا يبعد أن يراد بما يتقون ما يتقونه بالعنوان الأولي فهو مختص ببيان الحكم الواقعي، وذلك بقرينة ان الإضلال والعقاب انما يكون بلحاظ مخالفة الواقع دائما، ولذا تدل الآية على البراءة بالمعنى الأخص، أي البراءة التي تعارض دليل وجوب الاحتياط، وليس المراد منه ما يتقونه ولو بعنوان ثانوي بحيث يشمل دليل وجوب الاحتياط، حتى تدل على البراءة بالمعنى الاعمّ، أي البراءة مع الجهل بالوظيفة الفعلية بحيث يكون دليل وجوب الاحتياط واردا عليها، وترتفع بوصول هذا الدليل.

هذا ومن جهة أخرى ان التعبير ب “و ما كان الله” وان كان بمعنى عدم مناسبة الفعل لشأنه تعالى، لكنه لا يعني أنه لا يناسب عدله، فان العقاب على مخالفة التكليف المشكوك، ليس قبيحا، على ما هو الصحيح من مسلك حق الطاعة، بل مطلقا، لامكان العقاب مع عدم تبيين التكليف الواقعي، وذلك بأن يوجب الاحتياط عند الشك في التكليف، بل العقاب لا يناسب شأن رأفته، وهذا يفيد لاثبات البراءة لكونه من ألسنة الترخيص في ارتكاب المشكوك.

اقول: يرد عليه اولاً: أنه يحتمل في الاضلال في الآية معنى آخر، بل لعله الظاهر منه، وهو أن الله بعد ما بعث الرسول الى الناس، وهداهم للايمان، لا يتركهم بحالهم، بل يبين لهم الفروع، وما يجب عليهم أن يتقوا منه، حتى يهتدوا بذلك هداية كاملة، فلا يستند ضلال كل قوم ضلّوا عن طريق الحقّ الى عدم بيان الشارع لهم ما يتقى منه، والظاهر من قوله “حتى يبيّن لهم” هو جعل خطاب التكليف في معرض الوصول اليهم بالنحو المتعارف، وقد يختفي على الناس بسبب اخفاء الظالمين ونحوه، وعليه فالآية لا ترتبط بنفي العقاب قبل وصول البيان على التكليف، فان المراد من الاضلال ليس هو التسجيل في الضالّين كناية عن عقابهم، بل هو عبارة اخرى عن ضلالهم، فانه يصدق في حقّ كل من ضلّ او اهتدى أن الله أضلّه او هداه، فقد قال تعالى “يضلّ من يشاء ويهدي من يشاء” و”من يرد أن يضلّه يجعل صدره ضيقا حرجا” وليس كل ضالّ مستحقّا للعقاب فقد يكون ضالّا قاصرا.

وثانيا: انه لو فرضت دلالة الآية على البراءة، فهي تدلّ على البراءة بالمعنى الأعم، فيكون دليل وجوب الاحتياط واردا عليها، لان الامر بالاحتياط والتوقف في الشبهة مصداق للتبيين للناس ما يتقون، وكون العقاب على مخالفة التكليف الواقعي لا يتنافى مع كون غاية نفي هذا العقاب هو بيان مطلق التكليف، ولو كان تكليفا ظاهريا كوجوب الاحتياط.

وثالثا: ان قوله تعالى “حتى يبين لهم” ليس ظاهرا من حيث الاتيان بالجار والمجرور في وصول البيان الى كل مكلف بنحو الانحلال، اذ يكفي في صدقه توجيه البيان اى عامة الناس، بنحو يكون قابلا للوصول اليهم بالطريق المتعارف، ولا يضر بصدقه حجب الظالمين ونحوه، والشاهد على ذلك قوله تعالى “ان الذین یکتمون ما انزلنا من البینات والهدی، من بعد ما بینّاه للنّاس فی الکتاب” فجمع بين التبين للناس، وبين كتمان العالمين.

نعم لو كان المراد من الآية نفي العقاب فمناسبة الحكم والموضوع تقتضي كون الغاية وصول البيان الى المكلف نفسه.

الآية الخامسة:

“لا يكلف الله نفسا الا ما آتاها”

ومما استدل به للبراءة قوله تعالى: لا يكلف الله نفسا الا ما آتاها([30])، بتقريب أن تنجيز الحكم المجهول يكون مصداقا لايقاع الناس في كلفة حكمٍ لم يؤته الله لهم، بايصاله اليهم، ومما يظهر منه ارادة الاعلام من الايتاء، رواية حمزة الطيار عن أبي عبد الله عليه السلام قال: إن الله احتج على العباد بالذي آتاهم وعرفهم([31]).

وفيه أن الظاهر من الايتاء في الآية هو الاقدار والاعطاء، فيكون مفاده من قبيل قوله تعالى “لا يكلف الله نفسا الا وسعها”، ويشهد لذلك ورودها بعد قوله تعالى “لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما آتاه الله”، فان المراد من الايتاء في قوله “فلينفق مما آتاه الله” ليس الا الاقدار والاعطاء.

ان قلت: ايتاء كل شيء بحسبه، فايتاء الفعل الى المكلف باقداره عليه، وايتاء المال اليه بتسليطه عليه، وايتاء الحكم اليه هو اعلامه به وايصاله اليه، ولا مانع من ارادة المعنى الجامع من الايتاء، بل هو مقتضى ظهور كل لفظ في معناه الجامع.

قلت: مضافا الى أن التعبير باعلام الحكم لشخص بايتاءه له غير عرفي، نقول: ان الموصول في “ما آتاها” بلحاظ مورده، وهو تطبيقه على الانفاق بماله، او تطبيقه على المال، بحذف المتعلق يكون مفعولا به للتكليف، فلو اريد تطبيقه على الحكم صار الموصول مفعولا مطلقا، اذ يكون معناه بلحاظه أنه لا يكلف الله نفسا الا تكليفا آتاها، والتعبير بالتكليف بوجوب الصلاة مثلاً تعبير مسامحي، والتكليف أي الايقاع في الكلفة يضاف الى الأفعال، ولذا ورد في الروايات “فهل كلفوا المعرفة” و”إن الله لا يكلف أحدا ما لا يطيق([32])” و”ما كلّف الله العباد إلا ما يطيقون إنما كلّفهم في اليوم والليلة خمس صلوات، وكلّفهم من كل مأتي درهم خمسة دراهم، وكلّفهم صيام شهر رمضان في السنة، وكلّفهم حجة واحدة، وهم يطيقون أكثر من ذلك، وإنما كلّفهم دون ما يطيقون([33])، و”إن الله لم ‌يكلّف العباد إلا ما آتاهم، وكل شي‌ء لا يطيقونه فهو عنهم موضوع”، وحيث ان مورد الآية هو ايتاء المال، فيكون الموصول مفعولا به لا مفعولا مطلقا.

هذا وقد أجاب المحقق العراقي “قده” عن اشكال عدم امكان الجمع بين ارادة المفعول المطلق والمفعول به، اولاً: بأن “ما” الموصولة مستعملة في جامع الشيء، وأحد مصداقيه وهو الفعل -كالانفاق بالمال- مفعول به، والآخر وهو الحكم مفعول مطلق، ونستفيد خصوصية كون الاول مفعولا به وكون الثاني مفعولا مطلقا من القرائن، فلا يلزم استعمال اللفظ في معنيين، لكون المستعمل فيه هو الجامع.

وثانيا: بأن التكليف في الآية اريد به معناه اللغوي، وهو الايقاع في الكلفة، دون معناه الاصطلاحي وهو الحكم، فلا يكون الحكم مفعولا مطلقا، حتى يلزم اشكال استعمال اللفظ في المفعول المطلق والمفعول به معا، وعليه فاذا قيل: كلّفه بوجوب الحج، أي اوقعه في كلفته، فيكون وجوب الحج مفعولا به، او يعني أنه اوقعه في الكلفة من ناحية وجوب الحج، فيكون مفاد الآية انه لا يوقعكم في الكلفة الا من ناحية مال اعطاكم اياه او فعل اقدركم عليه او حكم اعلمكم به.

ثم قال: نعم بناء على ما هو الظاهر من كون القدر المتيقن في مقام التخاطب مانعا عن الاطلاق، فحيث ان مورد الآية ايتاء المال او الاقدار على الفعل، والايتاء في قوله “فلينفق مما آتاه الله مختص به، فيكون اعلام الحكم خارجا عن القدر المتيقن فلا ينعقد اطلاق في الآية بالنسبة اليه، بل ولو قلنا بعدم مانعيته عن الاطلاق، فلا تدلّ الآية الا على البراءة بالمعنى الاعمّ، لأن نفي ايقاع الكلفة من ناحية الحكم الواقعي المجهول لا ينفي ايقاع الكلفة من ناحية وجوب الاحتياط، هذا مضافا الى أن ايتاءه تعالى للحكم ليس مساوقا لايصاله الى آحاد المكلفين، وانما يعني صدور الخطاب منه، فلا تدلّ على البراءة عند الشك في صدور الخطاب([34]).

وفيه اولاً: ان ما ذكره من كون “ما” الموصولة مستعملة في جامع الشيء وخصوصية كون بعض المصاديق مفعولا مطلقا او مفعولا به، خارجة عن المعني المستعمل فيه، ففيه أنه لا جامع بينهما، فاضافة الفعل الى المفعول به غير اضافته الى المفعول المطلق، ولا يمكن الجمع بينهما في استعمال واحد، فهنا معنيان حرفيان متغايران، ولا جامع عرفي بينهما يكون هو الرابط بين الفعل والمفعول، وهذا مما يحس بالوجدان في قولك “ضربت ضربا شديدا” وقولك “ضربت زيدا” ولذا لو قال شخص “لا أضرب الا ما يعجبك” واراد به أنه لا يضرب الا ضربا يعجب المخاطب، ولا يضرب الا الحيوان الذي يعجبه، فيعدّ خلاف الظاهر جدا، فلا نحتاج الى التشبث بمبنى مانعية القدر المتيقن في مقام التخاطب عن الاطلاق، والذي ثبت عدم تماميته.

وثانيا: ان ما ذكره من كون التكليف بمعني الايقاع في الكلفة فهو كلام متين، لكن استنتاجه منه ان الحكم مفعول به او مفعول منه غير صحيح، فان الظاهر من استعمالات هذا اللفظ كما مر ذكر بعض رواياته أن متعلقه يكون هو الفعل، فالتعبير بأنه تعالى كلف الناس وجوب الحج ليس تعبيرا متعارفا، نعم قد يقال “كلفهم بوجوب الحج” بأن تكون الباء للسببية، لكن ليس في الآية حرف الباء.

وثالثا: ان ما ذکره من أن ايتاءه تعالى للحكم انما هو بصدور الخطاب منه، فهو خلاف ظاهر انحلالية قوله “لا يكلف نفسا الا ما آتاها” ولذا يصح لمن فحص ولم يظفر بخطاب وجوب غسل الجمعة أن يقول: ان الله لم يؤتني هذا الحكم، نعم سبق أن التعبير باعلام الحكم لشخص بايتاءه له غير عرفي، ولكنه اشكال آخر.

ورابعا: ما ذكره من ورود دليل وجوب الاحتياط على الآية، غير متجه، فانه لو كان معنى الآية أن الله لا یوقع الناس فی کلفة حکم الا حکما اعلمهم به، فظاهره نفي الكلفة في مورد الحكم الواقعي المشكوك، ولذا لو امر المولى بالاحتياط في موارد الشك في التكليف فيراه العرف منافيا مع مدلول الآية، بل لو كان مفاده نفي ايقاع الناس في الكلفة من ناحية الحكم المجهول، فالعرف يفهم منه عدم اهتمام الشارع بالحكم الواقعي المجهول فينافي دليل وجوب الاحتياط حيث انه مبرز للاهتمام.

هذا وقد ذكر بعض الاعلام في تعليقة البحوث أن الظاهر أنّ المفعول في الآية مفعول مطلق، أي لا يكلف اللّه نفسا كلفة الا كلفة آتاها، وليس مفعولا به، لأن التكليف لا يتعدى إليه بدون الباء فلا يقال كلّفه بمعنى كلف به، وحيث لم ‌يرد حرف الجرّ في الآية، فيكون المراد المفعول المطلق، ومعنى الإيتاء هنا هو الإقدار على الكلفة والجهد، لأن هذا هو المتفاهم من إضافة الإيتاء إلى الكلفة، وشمول الآية لمورد المال بهذا الاعتبار، وعليه تكون الآية أجنبية عن محل الكلام رأسا([35]).

ويرد عليه اولا: انه كما ظهر من الروايات لا يلزم في تعدية التكليف الى المفعول به من دخول حرف الباء، فيكون “ما” الموصولة في الآية مفعولا به، بل سياق الآية قرينة على ذلك، حيث ورد في صدرها “فلينفق مما آتاه الله” والمراد به المال، وهو مفعول به، نعم المفعول به الحقيقي في الذيل هو انفاق المال، فان الله يوقع الناس في كلفته.

وثانيا: ان المفعول المطلق للتكليف ليس هو الكلفة، بل الايقاع في الكلفة، فكيف فرض كون المراد من “ما” الموصولة نفس الكلفة، كمفعول مطلق، وايتاء الايقاع في الكلفة لا ينطبق على مورد الآية، بل يختص بالبراءة، لأن ايتاءه هو الاعلام به.

وكيف كان فلم يتم الاستدلال بالآية على البراءة، نعم قد يقال بأنه ورد في بعض الروايات تطبيق الآية على موارد عدم البيان، ففي رواية عبد الاعلی بن اعين قال: قلت لأبي عبد الله (علیه السلام) أصلحك الله هل جعل في الناس أداة ينالون بها المعرفة؟، قال: فقال: لا، قلت فهل كلفوا المعرفة؟، قال لا على الله البيان، لا يكلف الله نفسا إلا وسعها ولا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها([36])، ولعله يفهم ذلك من رواية حمزة بن محمد الطیار عن ابی عبد الله (علیه السلام): ان الله احتجّ علی الناس بما آتاهم وعرّفهم([37])، حيث اردف في هذه الرواية كلمة التعريف بكمة الايتاء، ولعلة ناظر الى الآية.

وفيه أن الظاهر من الروايات عدم تمكن الناس من المعرفة قبل البيان، ولعل المراد بها معرفة النبي والامام، ولذا ورد في رواية محمد بن حکیم: قلت لابی عبدالله (علیه السلام) المعرفة من صنع من هی؟، قال من صنع الله لیس للعباد فیها صنع([38])، كما ورد في صدر رواية عبد الاعلى أنه لم يجعل في الناس اداة ينالون بها المعرفة، كما تمسك الامام (عليه السلام) بقوله تعالى “لا يكلف الله نفسا الا وسعها” ثم اردفه بذكر آية “لا يكلف الله نفسا الا ما آتاها”، وأما رواية حمزة بن محمد الطیار مضافا الى عدم شاهد على كونها ناظرة الى هذه الآية، أن من المحتمل كون المقضود بها عدم القدرة على المعرفة قبل البيان.

الآیه السادسة:

قل لا أجد فیما اوحی اليّ محرما …

ومما استدل به على البراءة قوله تعالى: قل لا أجد فيما اوحي اليّ علی طاعم یطعمه الا ان یکون میتة او دما مسفوحا او لحم خنزیر([39])“، بتقريب أن الله تعالى علّم النبي (صلى الله عليه وآله) طريقة الاستدلال على جواز ارتكاب شيء بعدم وجدان ما يدلّ على حرمته.

وفيه اولاً: ان عدم وجدان النبی دالّ علی عدم وجود البیان، بخلاف عدم وجداننا، فانه لا یدلّ علی عدم وجود البیان.

وثانیا: ان المقصود في الآية الاعتراض على الكفار والمشركين في تشريعهم تحريم بعض الأطعمة المحللة، كما ورد في قوله تعالى “وَ قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وأَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وأَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُون” وكان الاعتراض ببيان أني لا أجد فيما اوحي اليّ محرما عدا المذكورات في الآية، فلا ترتبط هذه الآیة ببحث البرائة.

الآیه السابعة:

ما لکم ان لا تأکلوا مما ذکر اسم الله علیه وقد فصل لکم ما حرّم علیکم

ومما استدل به على البراءة قوله تعالى: فما لکم ان لا تأکلوا مما ذکر اسم الله علیه، وقد فصّل لکم ما حرّم علیکم([40])، فقيل بأن مفاده جواز ارتكاب ما لم يبيَّن حرمته للناس، وفيه أن الآية لا ترتبط بالبراءة، فغايته أن مفادها عموم الحلّ في الاطعمة والاشربة، مضافا الى أن المنصرف منها ما مرّ في الآية السابفة من الاعتراض على تشريع الكفار والمشركين.

هذا تمام الکلام فی الآیات، وقد تحصل مما ذکرنا عدم دلالة أي منها علی البرائة الشرعیة.

 



[1] – مصباح الأصول ج‏2 ص 294

[2] – ينبغي توضيح الفرق بين الحلية الاقتضائية والحلية غير الاقتضائية، فقد ذكر في البحوث ج4ص204 في توضيح الفرق بينهما انَّ الترخيص على قسمين: فتارة يكون ناشئاً من عدم المقتضي في الإلزام، وأخرى يكون ناشئاً من المقتضي في الإباحة وإطلاق العنان، بمعنى انَّ هناك مصلحة في أَن يكون العبد مطلق العنان من قبل مولاه وإِن كان كل من الفعل والترك خالياً عن مصلحة، وقد ذكر السيد الامام “قده” ان الواقعة لو كانت خالية عن المصلحة المقتضية لجعل الترخيص فيكون جعل الترخيص والاباحة الشرعية له لغوا وبلاملاك وهذا دليل على عدم تمامية مايقال من عدم خلو الواقعة من الحكم الشرعي نعم تثبت حينئذ الاباحة العقلية. “مناهج الوصول ج2ص18،تهذيب الاصول ج1ص235″،وفيه اولا: أن الاباحة الشرعية بالمعنى الاخص لاتلزم ان تكون دائما امرا وجوديا بمعنى انشاء الترخيص بل قد تكون مجرد عدم جعل الوجوب والحرمة والاستحباب والكراهة، كما ذكر ذلك في البحوث (ج5ص493) نعم لابد ان لايكون عدم الجعل ناشئا عن الاهمال بل يكون موقفا سلبيا للشارع، ولعله المراد من قوله (عليه‌السلام) “وسكت عن اشياء لم‌يسكت عنها نسيانا فلاتتكلفوها”، ولايظهر من الروايات ( كقوله: ما من شئ الاوفيه كتاب اوسنة، اوقوله: انما الامور الثلاثة: حلال بين، وحرام بين، وشبهات بين ذلك) اكثر من وجود موقف للشارع في كل واقعة اعم من الموقف الايجابي او السلبي، لا انشاء الحكم الوجودي دائما، والاباحة الشرعية بمعني عدم الاحكام الاربعة الاخرى لا تحتاج الى مصلحة في عدم الجعل بل يكفي فيه عدم الملاك لتلك الاحكام الاربعة.

وثانيا: لو فرض قيام الدليل على عدم خلو الوقايع عن حكم شرعي وجودي فيكشف ذلك عن وجود المصلحة في انشاء الترخيص في موارد عدم الالزام، ويكفي في ذلك أنه من الطرق المتعارفة لابراز الرضا بالفعل والترك، وقد يقال انه يكفي فيه المصلحة الاستنادية لا انه يستند المؤمن في اقتضاء ترجيح الفعل على الترك او بالعكس الى حلية الفعل فان هذا لامعني له بعد عدم اقتضاء الحلية بالمعنى الاخص لارتكاب الفعل او تركه بل يستند في عدم ارتداعه عما يتحقق له الداعي النفساني من ارتكاب الفعل اوتركه الى حليته بحيث لوكان حراما لامتنع عن ارتكابه ولوكان واجبا لم‌يكن يتركه، وفيه أنه يكفي في هذه المصلحة الاستنادية الحلية الشرعية بمعنى عدم جعل الاحكام الاربعة الأخرى.

ومن هنا تبين أن الاباحة الشرعية بمعنى انشاء الترخيص ينشأ دائما عن مصلحة في الترخيص بينما ان الحلية الشرعية بمعنى عدم جعل الاحكام الاربعة الأخرى اوفقل عدم الالزام لاتنشأ دائما عن مصلحة في هذ الموقف السلبي للشارع الذي يكون روحه الرضا بالفعل والترك، بل قد تنشأعن عدم المصلحة والمفسدة في الفعل، وهذا لاينافي ترتب الفائدة عليها دائما، فان ترتب الفائدة غير كونها هي المنشأ للحلية.

هذا والأنسب أن يقال في الفرق بين الحلية الاقتضائية وغير الاقتضائية انه تارة تكون الحلية لأجل مصلحة في الحلية بنحو تغلب هذه المصلحة على اقتضاء مفسدة الفعل مثلاً للحرمة اواقتضاء مصلحة الفعل للوجوب، ولعل من هذا القبيل حلية الطلاق، وقد لاتكون كذلك ولو فرض كون الحلية لأجل ثبوت المصلحة في الحلية في فرض خلو الفعل عن المفسدة والمصلحة.

[3] – فرائد الاصول ج‏1 ص 335

[4] – بحوث في علم الاصول ج5ص26

[5] -الكافي ج1ص64

[6] – العدة في أصول الفقه ج‏2 ص741

[7] – معارج الأصول ص285

[8] – نهاية الأصول ص 567

[9]– نهاية الدراية ج‏4 ص83

[10] – نهاية الدارية ج2ص73، ج3ص92

[11] منتقى الأصول ج‏4 ص439

[12] – منتقى الاصول ج4ص28 وص440 وج5ص80

[13] – بحار الانوار ج3ص90

[14] سورة الاسراء الآية15

[15] – كفاية الأصول ص339

[16] – سورة النساء الآية31

[17] – سورة المجادلة الآية2

[18] – فرائد الاصول ج 1ص 359

[19] – كفاية الأصول ص339

[20] – التوبة 9: 115

[21] – آل عمران 3: 179

[22] – الأنفال 8: 33

[23] – الكهف 18: 51

[24] – مصباح الاصول ج2ص256

[25] – سورة الإسراء الآية: 13- 15.

[26] – القصص‏ الآية 59

[27] – النساء الآية 164

[28] – الشعراء الآية 209و208

[29] – سورة التوبة الأیة 115.

[30] سورة الطلاق الآية 7

[31] – محاسن البرقي ج1ص236

[32] – قرب الاسناد ص309

[33] – المحاسن للبرقي ج‌1 ص 296

[34] نهاية الافكار ج 3ص202

[35] – بحوث في علم الاصول ج5ص 31

[36] – الكافي ج1ص163

[37] – الكافي ج1ص163

[38] – الكافي ج1ص163

[39] الانعام الآية 145

[40] الانعام الآية119