بسمه تعالی
رؤوس المطالب:
الاشكال في علامية صحة الحمل الاولی.. 11
الاشكال في علامية صحة الحمل الشايع. 13
فتحصل، تمامية علامية صحة الحمل الأولي والشائع معا 16
یجری علامية صحة الحمل فی فرض كون المعنى مجازيا لا حقیقیا 17
المراد من الاطراد هو اطراد الاستعمال في معنى بلاقرينة. 20
وضع المركبات
يقع الكلام في انه في المركب مثل قولنا “زيد قائم” بعد وضع زيد لمعناه ووضع مادة القائم لمعناها ووضع هيئته بالوضع النوعي لمعناها وكذا وضع هيئة الجملة لمعناها الذي هو النسبة التامة فهل هناك وضع آخر لمجموع الجملة بموادها وهيئاتها على مجموع المعاني مرة أخرى، ويكون هذا الوضع لامحالة وضعا نوعيا بعد عدم امكان الوضع الشخصي لكل جملة متصورة.
فنقول ان من البعيد جدّا ان يدعي احد ثبوت هذا الوضع، ولعل من حكى عنه ذلك اراد وضع هيئة الجملة للنسبة التامة، وقد ذكر السيد الإمام “قده” انه يمكن ان يكون النزاع في ان الدال على النسبة التامة هل هو مجموع الجملة او الهيئات، فالمشهور على الثاني وشرذمة على الأول([1]).
وكيف كان فاستدل في الكفاية على ابطال احتمال وضع المركب بما محصله ان تعدد الوضع يوجب تعدد الدال وتعدد الدال يوجب تعدد تصور المعنى، وهو غير محتمل في المركب([2])،
وما ذكره غريب جدّا فان تعدد الواضع لدال الواحد لايعني تعدد الدال حيث يكون نظير ما لو وضع كل من الاب والأم اسما واحدا على ولدهما، فانه لايعني تعدد الدال حتى يكون لازمه تعدد تصور المعنى، وان شئت قلت ان سبب تصور المعنى هو نفس اللفظ والوضع موجد لسببيته فمع وحدة اللفظ فلايتعدد تصور المعنى.
فالمهم ان وضع المركب مرة اخرى لمعناه لغو محض([3])، نعم ذكر المحقق الايرواني “قده” انه حيث لايدل الحرف على معنى مستقل فلابد من وضع الجملة المشتملة على الحرف على معناها([4])، وقد ذكر في البحوث أيضا ان الحروف الدالة على النسب التحليلية لايمكن وضعها الا بوضع جملتها بالوضع النوعي على معنى الجملة الذي يكون معنى بسيطا تصورا لامحالة وان كان ينحل بالتعمل العقلي الى ثلاثة أجزاء، فجملة “الجالس في الدار” موضوعة على حصة خاصة من الجالس ونظير الحروف الهيئات الدالة على النسب التحليلية، فجملة الاضافة كقولنا: “ضرب زيدٍ” موضوعة على حصة خاصة من الضرب، والجملة الوصفية كقولنا “الرجل العالم” موضوعة لحصة خاصة من الرجل، وقدمرعدم تمامية هذا الكلام.
علائم الحقيقة والمجاز
قبل الكلام حول علامات الحقيقة لابأس بنقل كلام المحقق العراقي”قده” في المقام حيث أنكر الثمرة العملية لهذا البحث بدعوى ان مدار الحجية على الظهور سواء كان حقيقة او مجازا، فلو فرض اجمال اللفظ سقط عن الحجية ولو ثبت كونه حقيقة في معنى معين، ولامجرى هنا لأصالة الحقيقة لان مرجعها الى اصالة الظهور([5])،
ولكن يرد عليه انه لايرفع الحاجة الى كشف المعنى الحقيقي للّفظ فانه يعلم غالبا بظهور الكلام في معناه الحقيقي المعلوم لدى العرف العام اذا احرز عدم قرينة خاصة في البين، فيكون البحث عن المعنى الحقيقي وسيلة لإحراز الظهور التصديقي النوعي للكلام.
وكيف كان فقد ذكروا علامات لمعرفة المعنى الحقيقي عن المعنى المجازي وهي التبادر وصحة الحمل والاطراد.
التبادر
فيقع الكلام اولا في التبادر، وقد ذكروا ان التبادر وهو انسباق معنى عند سماع اللفظ بلا قرينة يكشف عن تحقق العلقة الوضعية بينهما، كما يكشف انسباق خصوص ذلك المعنى دون غيره ان اللفظ ليس مشتركا لفظيا بين هذا المعنى وبين معنى آخر في العرف العام الذي يعيش فيه هذا السامع.
شبهة الدور
وقد اورد عليه بان التبادر يكون موقوفا على العلم بالوضع حيث لايحصل ذلك لدى الجاهل بالوضع، وحينئذ فلو اريد جعل التبادر علة لحصول العلم بالوضع لزم الدور.
اجوبه عن هذا الدور
وقد أجيب عن هذا الدور بوجوه:
1- ما حكي عن المحقق الطهراني “قده” ان العلم بالوضع ليس مقتضيا وعلة للتبادر بل المقتضي والعلة للتبادر هو الوضع وانما يكون شرط تأثيره في تحقق التبادر هو العلم به.
وهذا الجواب لايخلو من غرابة، فان مجرد ما ذكره لايرفع غائلة الدور، اذ يقال حينئذ بانه يمتنع كون التبادر سببا للعلم بالوضع بعد ان كان العلم بالوضع موقوفا عليه توقف المعلول على تحقق شرطه.
الا ان المحقق الاصفهاني “قده” لميكتف بهذا، بل تصدى لإبطال ما ذكره من كون الوضع مقتضيا للتبادر فذكر ان الوضع هو إنشاء كون طبيعي اللفظ هو طبيعي المعنى، وهذه الملازمة الجعلية بين اللفظ والمعنى ليست من سنخ الوجود الحقيقي حتى يمكن تأثيرها في إيجاد تبادر المعنى الذي هو من سنخ الوجود الحقيقي الذهني، فالوضع لايمكن ان يكون مقتضيا ومؤثرا في تحقق تبادر المعنى، وانما يكون المقتضي له هو العلم بالوضع اي الملازمة الجعلية بين اللفظ والمعنى، فكما ان العلم بالإحراق يكون معلولا للعلم بالملازمة بين النار والإحراق بشرط العلم بالنار فكذلك تصور المعنى يكون معلولا للعلم بالوضع التي هي ملازمة جعلية بين اللفظ والمعنى بشرط تصور اللفظ.
وأما كون تصور المعنى معلولا لتصور اللفظ بان يكون تصور اللفظ مقتضيا لتصور المعنى ويكون العلم بالملازمة الجعلية شرطا في تأثيره في تحققه فلايتم أيضا، لان تصور احد المتلازمين عند تصور الآخر لايختص باحدهما دون الآخر، فيلزم حينئذ علية تصور كل واحد منهما لتصور الآخر وهو غير معقول، مضافا الى ان اللفظ أمر مباين عن المعنى فلايعقل ان يكون تصوره علة لتصور المعنى، فتحصل ان العلم بالوضع او فقل الملازمة الجعلية بين اللفظ والمعنى هو العلة لتصور المعنى بشرط تصور اللفظ، وادعاء ان العلم بالملازمة الجعلية معلول لنفس الملازمة الجعلية فيكون تصور المعنى معلولا لها بالواسطة غير متجه، لان الواقع الذي يتعلق به العلم لايكون علة للعلم، مضافا الى انه لايضر بالمقصود من اثبات علية العلم بالملازمة الجعلية لتصور المعنى([6]).
واورد في البحوث على ما ذكره المحقق الاصفهاني “قده” بأنا اذا قسنا الملازمة الجعلية الوضعية بالملازمات الواقعية وطبّقنا عليه القانون الذي ادعاه من ان العلم باللازم يستند دائما الى العلم بالملازمة لاالى ذات الملزوم -كما في العلم بالإحراق حيث يستند الى العلم بالملازمة بين النار والإحراق بشرط العلم بالنار- وجدنا الأمر يؤدي الى عكس مقصوده لأنه يرى اللازم في المقام هو المعنى ويقصد من العلم باللازم تبادر المعنى الى الذهن، بينما ان هذا التبادر ليس علما باللازم وانما هو نفس اللازم، لوضوح ان الملازمة قائمة بين تصور اللفظ وتبادر المعنى، ولاشك في ان اللازم يتحقق بمجرد تحقق الملزوم ولايحتاج الى العلم بالملازمة، فإدراك شيء انما يكون موقوفا على ادراك الملازمة اذا كانت الملازمة بين ذات الشيء وبين شيء آخر، وأما اذا كان طرفها نفس الادراك كما في المقام فلااشكال في حصوله بمجرد حصول الملزوم من دون حاجة الى ادراك الملازمة([7]).
اقول: هذا الإيراد وان كان قد يرد على تمثيل المحقق الاصفهاني “قده” للمقام بالعلم بالإحراق، حيث ذكر انه كما يكون العلم بالإحراق معلولا للعلم بالملازمة بين النار والإحراق بشرط العلم بالنار فكذلك تصور المعنى معلول للعلم بالملازمة الجعلية بشرط تصور اللفظ، ولكن حاقّ مقصود محقق الاصفهاني “قده” ان الوضع حيث يكون امرا اعتباريا وملازمة جعلية بين اللفظ والمعنى فلايعقل ان يكون هو المؤثر في تحقق تبادر المعنى، وانما المؤثر فيه هو العلم بهذه الملازمة الجعلية، وهذا كلام متين جدّا، وعملية الجعل والاعتبار وان كانت تكوينية ويمكن ان تكون علة لأمر تكويني آخر كتبادر المعنى، لكن لاريب في عدم كونه علة فاعلة له، وانما هي مجرد معدّ له، ويشهد عليه بقاء تبادر المعنى عند سماع اللفظ حتى بعد ذهاب عملية الجعل والاعتبار، كما ان ما ذكره المحقق الاصفهاني “قده”-من ان اللفظ يباين المعنى في حد ذاته فلايعقل ان يكون تصوره مقتضيا ومؤثرا في تصور المعنى، بحيث يكون العلم بالوضع شرطا في تأثيره فقط- تام أيضا، نعم سيأتي ان ما هو المقتضي والمؤثر لتبادر المعنى وتصوره ليس هو العلم بالوضع وانما هو الاقتران الأكيد بين اللفظ والمعنى وهو ليس من مقولة العلم كما سيأتي توضيحه.
ثم لايخفى أنا لمنفهم وجه ما ذكره المحقق الاصفهاني “قده” من عدم معقولية صلاحية علية تصور كل من المتلازمين لتصور الآخر، فانه لميقم أي برهان على عدم معقوليته، وأي مانع من ان يفرض شيئان، يكون كل منهما مقتضيا لإيجاد الآخر بشرط عدم انحصار المقتضي بهما فأيهما وجد أولاً بسبب مقتضٍ ثالث اقتضي تحقق الآخر.
2- ما ذكره صاحب الكفاية “قده” من انه تارة يراد جعل التبادر لدى العالم بالوضع أمارة على الوضع كي يكون سببا لعلم الجاهل الذي يستعلم الحال، فلاتأتي شبهة الدور في هذا الفرض أبدا، وأخرى يراد جعل التبادر لدى نفس المستعلم سببا لعلمه بالوضع فهنا تأتي شبهة الدور، وحلها بان يقال ان الموقوف عليه التبادر هو العلم الارتكازي بالوضع والحاصل بعد التبادر هو العلم التفصيلي وبذلك يرتفع الدور([8]).
ولابأس به لولا ما نذكره من ان ما يتوقف عليه التبادر ليس من مقولة العلم.
3- مافي البحوث من ان الذي يتوقف عليه التبادر انما هو الملازمة الذهنية بين اللفظ والمعنى، وليست هذه الملازمة من سنخ العلم بل هي حالة استجابة شرطية توجد في الطفل الرضيع أيضا، كما توجد نظيرها في البهائم أيضا، ويسمى ذلك بالقرن الأكيد، نعم هذه الملازمة الذهنية لاتستند دائما الى الوضع التعييني، بل قد تستند الى كثرة الاستعمال التي تسمى بالوضع التعيني، لكنه ليس بمهم في المقام([9])، ولابأس بما أفاده.
هذا وقد ذكر في البحوث انه بناء على كون الوضع من مقولة الاعتبار لاالقرن الأكيد فلايصح جعل التبادر لدى المستعلم علامة، حيث ان المقصود ان كان جعل التبادرلديه كاشفا إنّيا عن الوضع بما هو جعل قائم بالواضع، فيرد عليه ان الوضع بماهو جعل قائم بالواضع ليس علة للتبادر، ليكون التبادر كاشفا إنّيا عنه، بل تمام العلة للتبادر نفس العلم بالوضع سواء كان هناك وضع في الواقع ام لا، وان كان المقصود جعل التبادر برهانا انيا عند المستعلم على علمه بالوضع فهو غير معقول، لان العالم بمجرد استعلامه عن علم نفسه يحصل له اليقين بعلمه اذا كان عالما، لان العلم حاضر في افق نفسه، فيستحيل ان يحتاج الى وسيط يكشف عنه.
نعم بناء على مسلكنا من كون الوضع هو القرن الاكيد بين اللفظ والمعنى في ذهن السامع بنحو يوجب انتقال الذهن من احدهما الى الآخر، تكون علامية التبادر معقولة لان انسباق ذهن السامع الى معنىً من اللفظ فرع الملازمة بين تصور اللفظ وتصور المعنى في ذهنه، وهذه الملازمة فرع القرن الأكيد بين اللفظ والمعنى الذي هو روح المعنى، وهو امر واقعي وليس من مقولة العلم والتصديق فلايكون التبادر موقوفا على العلم بالوضع.
نعم علامية التبادر لدى العالم بالوضع بالنسبة الى الآخرين ليس فيها محذور على جميع المسالك في حقيقة الوضع([10]).
ويلاحظ عليه: ان التبادر يكون معلولا للملازمة الذهنية بين اللفظ والمعنى، وهذه الملازمة الذهنية إما ناشئة من الوضع التعييني او الوضع التعيني، حتى لو قلنا بان الوضع التعييني اعتبار خاص بين اللفظ والمعنى، فان اختلاف المسالك في تفسير حقيقة الوضع لايؤثر في المقام أبدا.
نعم اذا احتمل الشخص أن تبادر المعنى الى ذهنه عندسماع اللفظ لاجل نشوء الملازمة بين اللفظ والمعنى في ذهنه عن عوامل شخصية محيطة به غير الوضع فلابد من المحاولة لزوال هذا الاحتمال، فانّ تبادر المعنى لدى شخص المستعلم لايكفي بمجرده لإحراز الوضع اذ قد يكون هذا التبادر ناشئا من ظروف خاصة -عائلية ونحوها- تحيط بهذا الشخص المستعلم، فلابد من تأكده من استناد هذا التبادر الى ذهنه العرفي.
وما ذكر في البحوث من انه ان اريد جعل تبادر المعنى لدى العالم بالوضع علامة توجب حصول العلم للجاهل بالوضع، فالصحيح انه يلزم التأكد من اطراد هذا التبادر لدى العرف العام ولايكفي التبادر لدى شخص واحد ما لميحصل التأكد من عدم شذوذه عن الآخرين، ولكن لو أريد جعل التبادر لدى المستعلم نفسه علامة على الوضع فيكفي هذا التبادر الشخصي لان احتمال نشوءه من ظروف خاصة في حياته بحيث جعلته يتبادر الى ذهنه هذا المعنى منفي بالاصل العقلائي الحاكم بحجية الظهور لدى الشخص على كونه ظهورا نوعيا لدى العرف العام([11]).
ففيه انه لميعلم اصل عقلائي من هذا القبيل بل لابد من حصول الاطمئنان بتبادره لدى العرف العام ولو لأجل الاطمئنان بعدم خصوصية لذهنه، او بملاحظته حال الآخرين ومشاهدة تبادر هذا المعنى في ذهنهم أيضا.
هذا ومن جهة أخرى يلزم في علامية التبادر من التأكد من استناد تبادر المعنى الى ذات اللفظ دون القرائن المحتفة به أحيانا، ويكون ذلك بتكرار الاستعمال ونحوه، ليحصل الاطمئنان بكون التبادر مستندا الى حاق اللفظ.
وأما ما قد يقال من انه في مورد الشك في استناد التبادر الى القرينة تجري اصالة عدم القرينة لنفي هذا الاحتمال فقد اجاب عنه صاحب الكفاية “قده” ان العقلاء انما يجرون الاصول اللفظية لإحراز المراد، اما مع احرازه والشك في كيفيته وانه بنحو الحقيقة والمجاز فلا مجرى لاصالة عدم القرينة كما لامجرى لاصالة الحقيقة([12]) وما ذكره متين جدا، اضف اليه انه لااساس لاصالة عدم القرينة اذ مع احتمال القرينة المتصلة فلايحرز ظهور الكلام، ولادليل على عمل العقلاء بخطاب يحتمل احتفافه بالقرينة المتصلة الصارفة عن ظهوره الاولي، الا اذا كان سكوت الراوي لهذا الخطاب عن بيان قرينة متصلة نافيا لهذا الاحتمال كما هو كذلك في القرينة اللفظية او الحالية الشخصية المتصلة، دون موارد احتمال قرينة نوعية متصلة من ارتكاز متشرعي ونحوه، ومع احتمال القرينة المنفصلة فبعد الفحص يبني العقلاء على العمل بظهور الكلام من غير سبق بناء منهم على عدم القرينة المنفصلة، هذا وأما اجراء استصحاب عدم القرينة مطلقا فيكون اثبات كون المتبادر معنى حقيقيا للفظ به يكون من اوضح انحاء الاصل المثبت.
وبذلك تبين الاشكال فيماذكره المحقق الايرواني “قده”من أنه لا يبعد جريان أصالة عدم القرينة في مثل ذلك وان بناء العرف على حمل لفظ كل لغة على المعنى الّذي يرى إطلاق لفظه عليه من أهل تلك اللغة ولو دفعة واحدة أو فهمهم ذلك عند إطلاقه ولا يعتنون باحتمال ان ذلك من جهة القرينة([13]).
ثم انه قد يحتاج احراز ظهور خطاب صادر في الازمنة السابقة التي يحتمل تغير معنى اللفظ في خلالها الى اصالة عدم النقل ولكنه امر آخر لاربط له بالمقام، وسيأتي انه لااصل لها الا الاطمئنان.
صحة الحمل
ذكروا ان صحة حمل اللفظ -بما له من المعنى المرتكز في الأذهان- على معنى يكون علامة على كونه هو المعنى الموضوع له لذلك اللفظ، وهذا الحمل يكون حملا اوليّا، كقولنا “الجلوس هو القعود”، كما ان صحة حمل اللفظ -بما له من المعنى المرتكز في الأذهان- على فرد يكون علامة كونه مصداقا للمعنى الموضوع له ذلك اللفظ، كما لو أشير الى الماء المختلط بمقدار قليل من التراب فقيل”هذا ماء”، وهذا الحمل يكون حملا شايعا صناعيا.
الاشكال في علامية صحة الحمل الاولی
وقد يستشكل في علامية صحة الحمل بكلا قسميه من الحمل الأولي والشائع.
أما الإشكال في علامية الحمل الأولي فبأحد وجهين:
1-ان الحمل الأولي كما يحتاج الى اتحاد بين الموضوع والمحمول كذلك يحتاج الى مغايرة ما بينهما، والا لميكن للحمل معنى، وعليه فكيف يكشف الحمل الأولي للفظ -بما له من المعنى المرتكز- على معنى عن كونه نفس المعنى الموضوع له، مع أنه يلزم المغايرة بين الموضوع والمحمول بالحمل الأولي أيضا.
مناقشات
وفيه اولا: انه لاملزم في الحمل الأولي من فرض مغايرة ما بين الموضوع والمحمول، فلامانع من ان يقال” الانسان انسان”، ويراد به عينية مفهوم الموضوع والمحمول في هذه القضية، ولايصح دعوى ان الحمل عملية ذهنية بين شيئين حيث يحمل احدهما على الآخر، فلابد من فرض المغايرة بينهما، فانه يكفي في الحمل الذهني وجود تصورين عن شيء واحد، فيحمل احدهما على الآخر بلحاظ وحدة المتصور بالعرض، فيقال “الانسان انسان”، وما يرى من عدم معهودية مثل هذا الكلام فانما هو لأجل عدم فائدة فيه، فيكون لغوا، وهذا المحذور لايأتي في المقام كما في قولنا “الجلوس هو القعود”، حيث ان الغرض معرفة المعنى الموضوع له للفظ، فلايكون لغوا.
وثانيا: انه يكفي مغايرة الموضوع والمحمول في الحمل الأولي من حيث اختلاف اللفظ، فهذا يوجب التغاير بين الموضوع والمحمول من حيث اضافتهما الى اللفظ الدال عليهما، فيصح ان يقال “الجلوس قعود” و”البشر انسان”، اي ان مفهوم الجلوس هو مفهوم القعود ومفهوم البشر هو مفهوم الانسان.
2-ما ذكره المحقق العراقي “قده” أن المدار في الحقيقة انما هو على وحدة المفهوم كما في الإنسان والبشر، وصحة الحمل الاولي لا تقتضي وحدة المفهوم بنحم توجب صحة استعمال أحد اللفظين في الآخر بنحو الحقيقة، لأنه يكفى في صحة الحمل الاولي مجرّد الاتّحاد ذاتا وان اختلفا في حدود المفهوم، مثل قولهم “الانسان حيوان ناطق”، فانه وان صح الحمل الاولى بينهما ولكنهمامتغايران بالإجمال والتفصيل، فكيف يفرض وحدة مفهومهما([14]).
ويلاحظ عليه: ان المراد من علامية صحة الحمل الاولي بين مفهومين احرازوحدتهما ذاتا مع غمض العين عن خصوصية الاجمال والتفصيل.
هذا كله بلحاظ الاشكال في علامية صحة الحمل الاولي.
الاشكال في علامية صحة الحمل الشايع
أما الاشكال في علامية صحة الحمل الشايع فهو ما ذكره المحقق العراقي “قده” من أن ملاك الحمل الشائع هو الوحدة الوجودية بين الموضوع والمحمول، فلاتكشف عن المعنى الموضوع له للفظ، ويشهد على ذلك صحة حمل الجنس على الفصل كما في قولنا “الناطق حيوان”، ولكنه لاينكشف به مفهوم الحيوان ولا اشتمال معنى الناطق له ابدا، اذ الجنس ليس داخلا في مفهوم الفصل، وكذا لو كان الموضوع والمحمول عرضيين كما في قولنا “الضاحك متعجب”، او كان احدهما عرضيا كما في قولنا “الضاحك حيوان “او” الناطق ضاحك”، فان صحة الحمل الشائع في هذه الموارد لاتستلزم انكشاف اشتمال معنى الموضوع لمعنى المحمول، فان معنى الضاحك لايشتمل على مفهوم المتعجب مثلا،.
وعليه فلا يكون مجرد صحة الحمل وعدم صحة السلب علامة الحقيقة بقول مطلق وكاشفا عن وحدة المفهوم، نعم صحّة السلب بقول مطلق من علائم المجاز من جهة كشفه حينئذ عن اختلاف المفهومين وعدم اتّحادهما، و لذلك ترى خلوّ كلمات السابقين عن ذلك حيث انّهم جعلوا صحّة السلب بقول مطلق من علامات المجاز و لميذكروا صحة الحمل وعدم السلب من علامات الحقيقة([15]).
مناقشه
اقول: ان فائدة الحمل الشائع هو استكشاف ان مفهوم المحمول شيء ينطبق على الموضوع وجودا، والغرض من ذلك هو التمسك بعموم دليله بالنسبة الى هذا الموضوع، وهذا مما يحصل من خلال صحة الحمل الشائع.
هذا وقد يفصَّل في علامية صحة الحمل الشائع فيدَّعى اختصاصهابما اذا احرز في موردٍ بكونه على تقدير صحة الحمل الشائع يكون من قبيل حمل النوع على فرده او من قبيل حمل الجنس على نوعه كقولنا” الانسان حيوان” اومن قبيل حمل الفصل على نوعه كقولنا” الانسان ناطق”، فتكشف صحة الحمل الشائع عن اشتمال معنى الموضوع على مفهوم المحمول؛ فالانسان يشتمل على مفهوم الحيوان والناطق باعتبار ان الجنس والفصل جزءان تحليليان للنوع، وهذا ما يستفاد من حاشية المحقق الخراساني “قده” على الكفاية، حيث قيَّد علامية الحمل الشائع على كون الموضوع من مصاديق المحمول وافراده الحقيقية بما اذا كان نسبة المحمول الى الموضوع نسبة الكلي الى الفرد، لافيما اذا كانا كليين متساويين.
وقد أجاب في البحوث عن ذلك بما محصله: ان فائدة الحمل الشائع هو تضييق دائرة احتمالات معنى المحمول، فاذا قيل” الضاحك حيوان” فبعد ما يرى ان الضاحك ليس بحجر ولاشجر فيعلم ان مفهوم الحيوان لايساوي مفهوم الحجر او الشجر، حيث يصح حمل الحيوان على الضاحك ولايصح حمل الشجر او الحجر عليه، والأمر كذلك حتى في حمل النوع على فرده والجنس على نوعه والفصل على نوعه، اذ لاينكشف بهذا الحمل المعنى الموضوع له في المحمول، بعد انطباق غير واحدمن العناوين على الموضوع.
وقد يعيّن المعنى الموضوع له من طريق صحة الحمل الشائع اذا امكن ابطال سائر المحتملات، كما في لفظ الصعيد، حيث يدور امره بين ان يكون موضوعا لخصوص التراب او لمطلق وجه الأرض، فبعد ما يرى من صحة حمله على الحجر حيث يقال الحجر صعيد، ومن ناحية أخرى يعلم ان الحجر ليس ترابا فيعلم من خلال ذلك ان مفهوم الصعيد غير مفهوم التراب، فينحصر معناه الموضوع له في كونه مطلق وجه الأرض([16]).
اقول:ان القائل بالتفصيل كان بصدد استخدام صحة الحمل الشائع لغرض استكشاف معنى الموضوع في القضية حتى يعلم أنه هل يكون متضمنا لمفهوم المحمول في القضية ام لا، فذكر انه لايجدي بحاله صحة الحمل الشائع، الا اذا علم من الخارج النسبة بين الموضوع والمحمول في القضية على تقدير صحة الحمل هي نسبة النوع الى جنسه او الفرد الى نوعه.
بينما انه في البحوث كان بصدد كشف معنى المحمول في القضية كقولنا “الحجر صعيد” فالملحوظ في كلام البحوث يختلف عما هو الملحوظ في كلام المفصِّل فلاينبغي عد ما ذكره اشكالا عليه.
فتحصل، تمامية علامية صحة الحمل الأولي والشائع معا
وكيف كان فقدتحصل مما ذكرناه تمامية علامية صحة الحمل الأولي والشائع معا.
ثم انه اورد على علامية صحة الحمل بايرادين آخرين ايضا:
احدهما:ما ذكره السيد الخوئي “قده” من ان صحة الحمل تابعة لما يراد من اللفظ، فاذا اريد من لفظ الاسد مثلا الرجل الشجاع صح حمله على الإنسان، واذا اريد به الحيوان المفترس لميصح حمله على الانسان، فيلزم في استكشاف ان أيّا من المعنيين هو المعنى الحقيقي للفظ الاسد الى طريق آخر غير صحة الحمل، ولايكون ذلك الا التبادر([17])
وفيه ان وجدانية صحة حمل اللفظ بما له من المعنى المرتكز على شيء تصلح ان تكون كاشفة عن وجود الملازمة الذهنية بين اللفظ والمعنى.
ثانيهما:ما قد يقال من ان ادراك صحة الحمل يتوقف على العلم بالوضع، فلايمكن ان يجعل علامة توجب العلم بالوضع، فانه مستلزم للدور.
وفيه ان ادراك صحة حمل اللفظ بما له من المعنى المرتكز على شيء لايتوقف على العلم التفصيلي بالوضع، وانما يتوقف على وجود الملازمة الذهنية بين اللفظ والمعنى في صقع النفس وان لميلتفت اليها تفصيلا، بل مرَّ ان الملازمة الذهنية ليست من مقولة العلم فقد توجد لدى الحيوانات او الطفل الرضيع كمالواقترن لفظ الحليب في ذهنه بالحليب، وقد يشك الانسان في تلك الملازمة الذهنية مع وجودها في صقع ذهنه، فيتوصل الى استكشافها من خلال احساسه بصحة حمل اللفظ بما له من المعنى المرتكز على هذا المعنى.
وهذا هو الجواب الصحيح عن اشكال الدور، وقد سبق نظيره في علامية التبادر، ومعه فلاحاجة الى ما ذكره في الكفاية من جواز جعل صحة الحمل لدى العالم بالوضع علامة موجبة لعلم المستعلم الجاهل بالوضع فعلا([18]).
یجری علامية صحة الحمل فی فرض كون المعنى مجازيا لا حقیقیا
ثم ان ما ذكرناه من علامية صحة الحمل وعدم صحة السلب على كون المعنى حقيقيا يجري في علامية صحة السلب وعدم صحة الحمل على كون المعنى مجازيا، كصحة سلب الماء بما له من المعنى المرتكز عن الماء الخليط بالتراب بدرجة يصح سلب الماء عنه عرفا، فيقال “هذا ليس ماء”، وينكشف به عدم كونه مصداقا للمعنى الموضوع له لفظ الماء.
ولايخفى انه قد لايمكن التوصل بعلامية التبادر لكشف الحقيقة، كما لو شك في مايع مخلوط بمقدار من التراب انه ماء ام لا، فلايتبادر عادة من لفظ الماء الا معناه في الجملة من دون تبين حدوده، فحينئذ يتوسل بصحة الحمل وعدم صحة السلب الى تحديد حدود معناه، فيشار الى هذا المائع المخلوط بالتراب ويقال “انه ماء”، فاذا احسَّ بصحة هذا الحمل وعدم صحة سلب الماء بما له من المعنى المركوز في الذهن عنه، فيثبت بذلك انه ماء مطلق ويترتب عليه احكامه.
الاطراد
ذكروا ان الاطراد وشيوع الحمل يكون علامة على الحقيقة، وقد ذكر في تقريبه عدة وجوه.
وجوه علامیة الاطراد
1-الاطراد بلحاظ نكتة الاستعمال فان اطلاق لفظ الاسد على مصاديق ذاك الحيوان المفترس يكون مطردا وشائعا بخلاف اطلاقه على غيرها بعلاقة المشابهة، فانه لايكون مطردا وشائعا، حيث يختص بالرجل الشجاع ولايطرد في غيره، فلايقال مثلا لأبخر الفم مثلا انه اسد مع وجود نكتة المشابهة بينه وبين الاسد، بل لايقال للنملة الشجاع انها أسد.
واشكل عليه في الكفاية بان حمل اللفظ على المعنى المجازي بلحاظ شخص المشابهة التي اوجبت استعمال اللفظ في المعنى المجازي يكون مطردا وشائعا، فترى ان لفظ الاسد يحمل على كل رجل شجاع([19]).
2- ماذكره المحقق الايرواني “قده” من ان المرادمن الاطراد هو الاطراد في التراكيب المختلفة فلايقال عندمايأكل الرجل الشجاع “أكل الاسد”، ولاعند نومه “انه نام الاسد” وكذا لايقال “جاء رقبة ” وانما يقال “اعتق رقبة” في مقام فك الرقية عنها([20]).
وهذاان تمّ فانما يتمّ في المجاز الادعائي، حيث انه يحتاج الى نكتة مصححة للادعاء واما في المجاز اللغوي فقد يكون الحمل المجازي مطردا وشائعا، كما في حمل الذهب على البلاتين.
3-ماحكي عن المحقق النائيني “قده”ومحصله: أن مورد الاطراد وعدمه ما اذا إطلق لفظ على فردٍ باعتبار أنه مصداق لمعنى كلي، فان كان مطرداً كشف عن كون ذلك المعنى الكلى معنى حقيقيا لذاك اللفظ وان لميكن مطرداً كشف عن كونه معنى مجازيا.
مثال ذلك أنّ لفظ الأسد يطلق على كل فرد من افراد الحيوان المفترس مع العلم بعدم كون الفرد بخصوصه هو الموضوع له للفظ الاسد، وحيث أنه يكون مطرداً فيكشف ذلك عن كون الحيوان المفترس معنى حقيقياً له، وهذابخلاف إطلاقه على كل فرد من افراد الشجاع فانه ليس مطرداً، حيث يصح إطلاق لفظ الاسد باعتبار معنى الشجاع على الإنسان الشجاع وعلى بعض الحيوانات، إلا انه لا يصح إطلاقه على النملة الشجاع مثلا كشف ذلك عن كون الشجاع معنى مجازيا للفظ الاسد.
واورد عليه السيد الخوئي “قده” أن انطباق الطبيعي على افراده والكلي على مصاديقه أمر عقلي، وأجنبي عن الاستعمال بالكلية، فلا يعقل ان يكون المعنى كلياً ومع ذلك لا ينطبق على تمام افراده ومصاديقه، فهذا من الواضحات الأولية وغير قابل للنزاع فيه أصلا.
و اما عدم انطباق بعض المفاهيم في بعض الموارد فهو انما كان من جهة ضيق دائرة ذلك المفهوم من ناحية تخصصه بخصوصية ما عرفاً، ومن الواضح ان مثل هذا المفهوم لا ينطبق إلا على افراد تلك الحصة خاصة، دون غيرها.
فعدم اطراد إطلاق لفظ الأسد باعتبار مفهوم الشجاع على كل فرد من افراده، لا يكون إلا من جهة تقييد ذلك المفهوم بقيد يمنعه من شمول بعض افراد الشجاع كالنملة الشجاع وانمايشمل حصة من الشجاع، ومن المعلوم أن إطلاق لفظ الاسد باعتبار تلك الحصة من الشجاع مطرد([21])، ولابأس بما افاده.
المراد من الاطراد هو اطراد الاستعمال في معنى بلاقرينة
4-ماهوالصحيح من ان المراد من الاطراد هو اطراد الاستعمال في معنى بلاقرينة، فانه يوجب حصول الاطمئنان عادة بكونه استعمالا حقيقيا، كما لو ذهبنا الى بلدة اجنبية فرأينا شيوع استعمال اللفظ في معنى بلاقرينة معينة، فيحصل الاطمئنان بكون استعماله فيه استعمالا حقيقيا.
وقد ذكر السيد الخوئي “قده” ان الاطراد الكاشف عن الحقيقة في الجملة عبارة عن استعمال لفظ خاص في معنى مخصوص في موارد مختلفة بمحمولات عديدة، مع إلغاء جميع ما يحتمل أن يكون قرينة على إرادة المجاز، فهذا طريقة عملية لتعليم اللغات الأجنبية، واستكشاف حقائقها العرفية.
توضيح ذلك: هو ان من جاء من بلد إلى بلد آخر لا يعرف لغتهم إذا تصدى لتعلم اللغة الشائعة في هذا البلد رأى ان أهل البلد يطلقون لفظاً ويريدون به معنى، ويطلقون لفظاً آخر ويريدون به معنى آخر، وهكذا، ولكنه لا يعلم ان هذه الإطلاقات من الإطلاقات الحقيقية، أو المجازية، فإذا رأى أنهم يطلقون هذه الألفاظ ويريدون بها تلك المعاني في جميع الموارد حصل له العلم، بأنها معاني حقيقية، لأن جواز الاستعمال معلول لأحد أمرين: اما الوضع، أو القرينة وحيث فرض انتفاء القرينة من جهة الاطراد فلا محالة يكون مستنداً إلى الوضع – مثلا – إذا رأى أحد ان العرب يستعملون لفظ الماء في معناه المعهود، ولكنه شك في انه من المعاني الحقيقية، أو من المعاني المجازية، فمن إلغاء ما يحتمل أن يكون قرينة من جهة الاطراد علم بأنه من المعاني الحقيقية، ولا يكون فهمه منه مستنداً إلى قرينة حالية، أو مقالية.
و بهذه الطريقة غالباً يتعلم الأطفال اللغات والألفاظ.
فقد تحصل من ذلك ان الاطراد بهذا التفسير الّذي ذكرناه علامة لإثبات الحقيقة بل ان هذا هو السبب الوحيد لمعرفة الحقيقة غالباً، فان تصريح الواضع وان كان يعلم به الحقيقة إلا انه نادر جداً، واما التبادر فهو وإن كان يثبت به الوضع، كما عرفت إلا انه لا بد من أن يستند إلى العلم بالوضع، إما من جهة تصريح الواضع، أو من جهة الاطراد، والأول نادر فيستند إلى الثاني لا محالة([22]).
هذا تمام الكلام في علائم الحقيقة.