كلام السيد اليزدي “قده” في حاشية الرسائل.. 2
اشكالات حول جريان استصحاب الحكم الشرعي المستكشف من حكم العقل.. 4
الاشكال الاول: الحكم العقلي موضوعه معلوم تفصيلا للعقل الحاكم به فلا يجوز استصحابه. 4
المقدمة الاولى: الشك في الحكم العقلي، غیر معقول. 5
المقدمة الثانية: دائرة ما يقوم به مناط الحكم الشرعي واحد مع ما يقوم به مناط الحكم العقلي.. 5
عدة مسالك في تفسير الحسن والقبح العقليين.. 13
الاشکال الثاني: أن الحيثيات التعليلية لحكم العقل راجعة الى الحيثیات التقييدية. 19
المختار: عدم تمامية التفصيل بين ما ثبت بالنقل او بالعقل في الشبهة الحكمية. 22
الکلام فی التفصيل بين ما ثبت بالنقل او بالعقل في الشبهة الموضوعیه. 23
موضوع: اقوال – قول ثالث /استصحاب /اصول
خلاصه مباحث گذشته:
متن خلاصه …
الاقوال فی الاستصحاب
القول الثالث: التفصيل بين الحكم الشرعي المستكشف من النقل، وبين الحكم الشرعي المستكشف من حكم العقل
وهذا التفصيل ايضا قد اختاره الشیخ الاعظم “قده” ايضا فمنع من جريان الاستصحاب في الأحكام الشرعية المستندة إلى الأحكام العقلية، والكلام يقع تارة في الشبهة الحكمية كما لو كان كذبٌ مضرا فحكم العقل بقبحه وكشفنا حرمته شرعا من قاعدة الملازمة بين حكم بالعقل وحكم الشرع، ثم خرج عن كونه مضرا، فشككنا في حرمته، او كشفنا من حكم العقل بقبح تكليف الناسي عدم وجوب الصلاة مع السورة مثلا على ناسي السورة في اول الوقت، فإنه اختار أنه لا يجوز استصحاب هذا العدم الى ما بعد الالتفات، وهكذا كشفنا من حكم العقل بقبح تكليف غير المميز عدم تكليفه فذكر أنه لا يجوز استصحاب عدم تكليفه بعد بلوغه فيما شك في تكليف البالغ به.
وأخرى في الشبهة الموضوعية كما لو شككنا في حرمة هذا الكذب للشك في بقاء اضراره، او كان يحكم العقل بقبح شرب سم مضر وكشفنا من ذلك حرمته شرعا، ثم شككنا في بقاء اضراره، فقد منع الشيخ الاعظم من جريان استصحاب الحرمة فيه ايضا، بل منع من جريان الاستصحاب الموضوعي فيه، كما سيأتي توضيحه.
كلام السيد اليزدي “قده” في حاشية الرسائل
هذا وقبل الدخول في البحث ينبغي نقل كلام للسيد اليزدي “قده” في حاشية الرسائل وهو أنه قال:ان ما هو ظاهر كلام الشيخ “ره” من اختصاص عنوان هذا البحث بالمستقلات العقلية، و بما كان منها مبنيا على قاعدة التحسين و التقبيح، ففيه أن الظاهر أنه لا وجه لهذا الاختصاص، بل يجري أيضا في الاستلزامات العقلية كما إذا علم بوجوب شيء من جهة كونه مقدمة لواجب أو حرمته لكونه ضدا لواجب ثم شك في بقاء ذلك الوجوب أو الحرمة، و كذا يجري في المستقلات غير المبنية على قاعدة التحسين و التقبيح كما إذا علمنا بعدم وجوب شيء من جهة كونه موردا لنهي فعلي منجز يمتنع معه الأمر به لعدم جواز اجتماع الأمر و النهي على القول بأنه من قبيل التكليف المحال بالمحال، ثم لو فرضنا الشك في تعلق الأمر به بزوال النهي عنه مثلا فإنه محل البحث أيضا([1]).
مناقشه
ويرد عليه أن مصب اشكال الشيخ الاعظم هو ما اذا علم بارتفاع الملاك العقلي للحكم السابق وشك في ثبوت مثله بملاك جديد تعبدي، فمنع من جريان الاستصحاب فيه لكونه شكا في حكم جديد، واين هذا من الامثلة التي ذكرها السيد اليزدي “ره” فانه مع احتمال بقاء الوجوب النفسي لذي المقدمة فلا مانع من استصحاب وجوب مقدمته، ان ترتب عليه اثر، ومع العلم بارتفاع الوجوب النفسي له يعلم بارتفاع الوجوب الغيري الثابت لمقدمته، فلا مجال لاستصحابه وان احتمل كونه مقدمة لواجب نفس آخر، وفي مثال العلم بعدم الامر بشيء للعلم بحرمته، فعدم الامر به لم يكن بملاك حرمته او فقل لا يعلم بكونه بهذا الملاك، وانما كان العلم بحرمته كاشفا عن عدم ثبوت الامر به، فلا يأتي فيه اشكال الشيخ من المنع عن جريان استصحاب عدم الامر به للعلم بانتفاء ملاكه العدم السابق.
اشكالات حول جريان استصحاب الحكم الشرعي المستكشف من حكم العقل
وكيف كان فيقع الكلام فعلا في الشبهة الحكمية، فقد ذكرت حول جريان استصحاب الحكم الشرعي المستكشف من حكم العقل عدة اشكالات:
الاشكال الاول: الحكم العقلي موضوعه معلوم تفصيلا للعقل الحاكم به فلا يجوز استصحابه
الاشكال الاول: ما ذكره الشيخ الاعظم “قده” من أن المتيقن السابق إذا كان مما يستقل به العقل كحرمة الظلم و قبح التكليف بما لا يطاق و نحوهما من المحسنات و المقبحات العقلية فلا يجوز استصحابه، لأن الاستصحاب إبقاء ما كان، والحكم العقلي موضوعه معلوم تفصيلا للعقل الحاكم به، فإن أدرك العقل بقاء الموضوع في الآن الثاني حكم به حكما قطعيا، كما حكم أولاً، و إن أدرك ارتفاعه قطع بارتفاع ذلك الحكم و لو ثبت مثله بدليل لكان حكما جديدا حادثا في موضوع جديد، ولا يتصور الشك في بقاء موضوع حكم العقل بنحو الشبهة الحكمية، لأن العقل لا يستقل بالحكم إلا بعد إحراز الموضوع و معرفته تفصيلا، فلا يعقل إجمال الموضوع في حكم العقل، مع أن الشك في الموضوع خصوصا لأجل مدخلية شيء مانع عن إجراء الاستصحاب، والحكم الشرعي المستند إلى الحكم العقلي حاله حال الحكم العقلي في عدم جريان الاستصحاب، لكونه بنفس ملاك الحكم العقلي، نعم لو ورد في مورد حكم العقل حكم شرعي من طريق النقل و حصل التغير في حالٍ من أحوال موضوعه مما يحتمل مدخليته وجودا أو عدما في الحكم جرى الاستصحاب و حكم بأن موضوعه أعم من موضوع حكم العقل([2]).
فتحصل من كلامه كما ذكر المحقق النائيني والسيد الخوئي “قدهما”([3]) أنّ اشكاله يبتني على مقدمتين:
المقدمة الاولى: الشك في الحكم العقلي، غیر معقول
انه لا يعقل الشك في الحكم العقلي، فان الحكم العقلي مما لا يكاد يتطرّق اليه الإهمال، فانّ العقل لا يستقلّ بقبح شيء أو حسنه إلّا بعد الالتفات إلى الموضوع بجميع ما يعتبر فيه من القيود و الخصوصيّات، فكلّ قيد اعتبره العقل في حكمه فلابدّ و أن يكون له دخل في الموضوع، ومع بقاء الموضوع على ما هو عليه يقطع ببقاء الحكم العقلي، ومع انتفاء بعض الخصوصيات يقطع بارتفاع الحكم العقلي، لأنّ المفروض أنّ لتلك الخصوصيّة الزائلة دخلا في موضوع حكم العقل.
المقدمة الثانية: دائرة ما يقوم به مناط الحكم الشرعي واحد مع ما يقوم به مناط الحكم العقلي
المقدمة الثانية: الحكم الشرعي المستكشف من حكم العقل بقاعدة الملازمة، يكون تابعا لحكم العقل، لأنّ المناط للحكم الشرعي هو المناط في الحكم العقلي، فلا يمكن أن يكون دائرة ما يقوم به مناط الحكم الشرعي أوسع من دائرة ما يقوم به مناط الحكم العقلي، فلابدّ من أن يكون للخصوصيّة الزائلة دخل في مناط حكم الشرع أيضا، لاتّحاد ما يقوم به المناط فيهما، فالعلم بارتفاع مناط الحكم العقلي يلازم العلم بارتفاع مناط الحكم الشرعي، فمع انتفاء بعض خصوصيّات الموضوع، فيقطع بارتفاع ذلك الحكم الشرعي المستفاد من الحكم العقلي، نعم يحتمل ثبوت فرد آخر من توع ذلك الحكم الشرعي بمناط تعبدي، ولكن يكون استصحابه من قبيل القسم الثالث من الكلي.
جواب محقق النائینی عن المقدمة الاولى
وقد اجاب المحقق النائيني عن كلتا المقدمتين:
أما جوابه عن المقدمة الاولى: فهو أنّ العقل وان كان لا يشك في حكمه الفعلي بالحسن والقبح، لكن يشك في في وجود ملاك حكمه في مورد، وان كان يمنعه ذلك عن الحكم بحسنه وقبحه، فدعوى أن كلّ خصوصيّة أخذها العقل في موضوع حكمه لابدّ و أن يكون لها دخل في مناط حكمه واقعا، ممنوعة، بداهة أنّه ربّما لا يدرك العقل دخل الخصوصيّة في مناط الحسن و القبح واقعا، و إنّما أخذها في الموضوع لمكان أنّ الموضوع الواجد لتلك الخصوصيّة هو المتيقّن في قيام مناط الحسن أو القبح فيه، مع أنّه يحتمل واقعا أن لا يكون لها دخل في المناط، مثلا يمكن أن يكون حكم العقل بقبح الكذب الضّار الّذي لا يترتّب عليه نفع للكاذب إنّما هو لأجل أنّ الكذب المشتمل على هذه الخصوصيّات هو القدر المتيقّن في قيام مناط القبح فيه، مع أنّه يحتمل أن لا يكون لخصوصيّة عدم ترتّب النّفع دخل في القبح، بل يكفي في القبح مجرّد ترتّب الضرر عليه و إن لزم منه حصول النفع للكاذب، و الحكم الشرعي المستكشف من حكم العقل إنّما يدور مدار ما يقوم به مناط القبح واقعا، فيمكن بقاء الحكم الشرعي مع انتفاء بعض الخصوصيّات التي أخذها العقل في الموضوع من باب القدر المتيقّن، لاحتمال أن لا تكون لتلك الخصوصيّة دخل فيما يقوم به الملاك واقعا، فيكون وزان الحكم الشرعي المستفاد من الحكم العقلي وزان الحكم الشرعي المستفاد من الكتاب و السنّة يصحّ استصحابه عند الشكّ في بقائه لأجل زوال بعض خصوصيّات الموضوع الّتي لا تضرّ بصدق بقاء الموضوع و اتّحاد القضيّة المشكوكة للقضيّة المتيقّنة عرفا.
جوابه عن المقدمة الثانية
وأما جوابه عن المقدمة الثانية: فهو أنه لو سلّم أنّ كلّ خصوصيّة أخذها العقل في موضوع حكمه لها دخل في مناط الحكم بنظر العقل و يكون بها قوام الموضوع، إلّا أنّه يمكن أن يكون ملاك الحكم الشرعي قائما بالأعمّ من الواجد لبعض الخصوصيات و الفاقد لها، فيمكن أن تكون لخصوصية الضرر دخل في مناط حكم العقل بقبح الكذب من دون أن يكون لها دخل في مناط الحكم الشرعي بحرمة الكذب، و الحاصل: أنّ القيد الّذي أخذ في موضوع حكم العقل لا يزيد عن القيد الذي أخذ في موضوع الدليل الشرعي كالكتاب و السنة، فكما أن أخذ القيد في الدليل وان كان يمنع من دلالة الدليل على بقاء الحكم بعد زوال ذلك القيد، لكنه لا يمنع من جريان الاستصحاب إذا لم يكن القيد من مقوّمات الموضوع عرفا، كذلك أخذ القيد في حكم العقل إنّما يكون كاشفا عن دخله في ملاك حكم العقل ثبوتا، لكنه لا يضرّ بجريان استصحاب الحكم الشرعي المستكشف من حكم العقل عند انتفاء القيد إذا لم يكن القيد من مقوّمات الموضوع عرفا.
نعم: انتفاء بعض القيود التي اعتبرها العقل في موضوع حكمه يوجب رفع الحكم العقلي، ولكن ليس المقصود استصحاب الحكم العقلي، بل المقصود استصحاب الحكم الشرعي المستكشف منه، و هو بمكان من الإمكان، فالموضوع في حكم العقل و إن كان مقيّدا بالخصوصيّة المنتفية، إلّا أن تقييد الموضوع العقلي بالخصوصية كتقييد الموضوع الشرعي في الكتاب و السنة بها، كقوله “الماء المتغير نجس”، فكما أن زوال وصف التغير عن الماء لا يضرّ بصدق بقاء موضوع النجاسة عرفا، لأنّ العرف بمناسبة الحكم و الموضوع يرى أنّ موضوع النجاسة هو الماء و وصف التغير علة لعروض النجاسة على الماء، غايته أنه يشكّ في كونه علة لها حدوثا و بقاء أو حدوثا فقط، و هو الموجب لجريان الاستصحاب، كذلك عدم ترتّب وصف الضرر على الكذب لا يضرّ بصدق بقاء موضوع الحرمة عرفا، فانّ موضوع الحرمة بنظر العرف هو نفس الكذب لا بوصف كونه مضرّا([4]).
کلام السید الخویی
وأما السيد الخوئي “قده” فقبل المقدمة الاولى من الشيخ واشكل على المقدمة الثانية فقط، ونسب ذلك الى صاحب الكفاية([5])، فذكر أن الظاهر كون مراد الشيخ في المقدمة الاولى من الحكم العقلي المستفاد منه الحكم الشرعي هو ادراك العقل العملي لحسن شيء او قبحه، كما صرح به في تنبيهات الاستصحاب، وحكم العقل بالحسن أو القبح لا يمكن أن يكون مهملا، فان العقل لا يحكم بحسن شيء او قبحه إلا مع تشخيصه بجميع قيوده، نعم لوكان مراد الشيخ من حكم العقل ادراك العقل النظري للملاك، أي المصلحة الملزمة غير المزاحمة بشيء من الموانع، أو المفسدة كذلك، تم جواب المحقق النائيني عنه، لإمكان أن يحكم العقل بوجود الملاك من باب القدر المتيقن، فبعد انتفاء أحد القيود لا يحكم العقل بانتفاء الحكم، لاحتمال بقاء الملاك، فيكون مورداً للاستصحاب، إلا أن هذا مجرد فرض، لأنا لم نجد إلى الآن مورداً حكم فيه العقل بوجود الملاك، و أنى للعقل هذا الإدراك، وما ورد في الأخبار من أن دين اللَّه لا يصاب بالعقول و أنه ليس شيء أبعد عن دين اللَّه من عقول الرّجال، ناظر إلى ذلك.
نعم الجواب عن المقدمة الثانية تام، فانه لا يلزم من انتفاء الحكم العقلي انتفاء الحكم الشرعي، لإمكان بقاء ملاك الحكم الشرعي في الواقع، فان انتفاء ما يراه العقل ملاكاً للحكم الشرعي لا يوجب انتفاء الملاك الواقعي له، فان الشرع قد حكم بأمور كثيرة لا يدرك العقل ملاكها أصلا، مضافا إلى ما في الكفاية من أنا لو سلمنا انتفاء الملاك الواقعي الّذي أدركه العقل فيحتمل بقاء الحكم الشرعي، لاحتمال وجود ملاك آخر لنفس هذا الحكم، فنجري الاستصحاب في الحكم الشرعي الشخصي لا في الملاك حتى يكون من قبيل القسم الثالث من استصحاب الكلي([6]).
اقول: حدوث الحكم الشرعي بملاك الحسن او القبح لا يمنع من صدق بقاءه ولو كان بقاءه بملاك آخر
اقول: نعم الجواب عن المقدمة الثانية تام، فان كون حدوث الحكم الشرعي بملاك الحسن او القبح لا يمنع من صدق بقاءه ولو كان بقاءه بملاك آخر، نظير ما لو سجد بملاك سجود التلاوة واحتمل بقاءه على السجود بملاك وداعٍ آخر، واوضح منه كون عدم الحكم الشرعي في السابق بملاك قبح تكليف غير المميز او التكليف بما لا يطاق ونحوهما، ثم نحتمل عدم التكليف بعد التميز والقدرة بملاك عدم المقتضي للتكليف، فانه بقاء لنفس ذلك العدم، فلا مانع من استصحابه.
لكن مناقشة السيد الخوئي في الجواب عن المقدمة الاولى في غير محلها، فان ما ذكره من المنع عن كشف الحكم الشرعي بادراك الملاك، ففيه أنه يمكن أن يدرك العقل احيانا وجود الملاك التام في موردٍ للحكم الشرعي، ولذا حكم الفقهاء بثبوت الولاية على اموال القصَّر، وثبوت الولاية العامة في عصر الغيبة لغير المعصوم في الامور التي يتوقف عليها حفظ نظام المجتمع، كما أنه كثيرا ما يتمسك بمذاق الشارع الذي مرجعه الى الجزم بالحكم الشرعي من خلال معرفة الملاكات التي يلحظها الشارع، والذي قد لا يكون له منشأ لفظي، وانما هو حساب الاحتمالات في الشارع، ولعل من هذا القبيل لزوم انقاذ حياة المؤمن اذا لم يتوقف على بذل مال كثير ونحوه، وقد تمسك السيد الخوئي بمذاق الشارع في عدم صلاحية المرأة او الفاسق للمرجعية، وفي وجوب ارشاد الجاهل بالموضوع في الموضوعات المهمة، كما فيما لو اراد قتل شخص بتخيل أنه ساب النبي (صلى الله عليه وآله).
وما ذكره من كشف الحكم الشرعي بادراك ملاكه هو القدر المتيقن من قوله (عليه السلام) “ان دين اللَّه لا يصاب بالعقول” وقوله (عليه السلام) “ليس شيء أبعد من دين اللَّه عن عقول الرجال” ففيه أن الروايتين على ما وجدنا في الكتب الروائية ليستا كما نُقِل، فقد روى الصدوق في كمال الدين، عن محمد بن محمد بن عصام عن محمد بن يعقوب الكليني عن القاسم بن العلاء عن إسماعيل بن علي عن عاصم بن حميد عن محمد بن قيس عن أبي حمزة الثمالي قال قال علي بن الحسين (عليه السلام): إن دين الله لا يصاب بالعقول الناقصة والآراء الباطلة والمقاييس الفاسدة([7])، ولعل المراد من العقول الناقصة هو الاشارة الى ما كان متداولا بين ابناء العامة من الاستدلال بالقياس الظني والمصالح المرسلة والاستحسان وشبه ذلك، وكذا روى في الوسائل عن أبي شيبة الخراساني قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن دين الله لا يصاب بالمقاييس([8])، كما أن الرواية الثانية منقولة في الوسائل عن تفسير العياشي عن عبد الرحمن بن الحجاج قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول ليس شيء أبعد من عقول الرجال عن القرآن([9])، وعن تفسير العياشي عن زرارة عن ابي جعفر (عليه السلام) ليس شيء ابعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، ان الآية ينزل اولها في شيء واوسطها في شيء وآخرها في شيء([10])، فلاعلاقة لها بكشف الحكم الشرعي من خلال ادراك الملاك التام غير المبتلى بالمزاحم.
هذا مضافا الى أنه لو فرضنا كون الروايتين كما نُقِل، فينصرف حسب المرتكز العقلائي عن فرض الوثوق بكون الملاك الذي يدركه العقل تاما بلا مزاحم، فلا ينفي امكان ادراك العقل للملاك التام والذي يلازم الحكم الشرعي.
الکلام فی ان الشک فی حکم العقلی غیر معقول
وأما ما ذكره وفاقا للشيخ الاعظم والمحقق النائيني “قدهما” من أن حكم العقل العملي بالحسن و القبح مما لا يدخل فيه الشك، فقد نقل عنه في الدراسات في توضيح ذلك أنه لا معنى للإهمال في حكم العقل، لأنه ان أدرك استحقاق المدح أو اللوم في مورد فحكمه بالحسن أو القبح ثابت قطعا، و إلّا فهو منتف قطعا، لما عرفت من انه لا واقع له سوى الإدراك، فلا معنى فيه للشك و الترديد إلّا لشبهة موضوعية، أي من جهة الشك في ان المضروب مثلا كان ممن يستحق الضرب ليكون ضربه حسنا، أو ممن لا يستحقه ليكون ظلما قبيحا، و هذا خارج عن مورد البحث، أعني استصحاب الحكم الكلي([11]).
فيظهر منه كون المراد من الحسن والقبح العقليين استحقاق الثواب والعقاب، ومعه فيقال ان من شك في قبح فعل بمعنى عدم انبغاء صدوره فحيث لم يتم عليه البيان فيكون معذورا ويقطع بقبح عقابه عليه، وهذا موافق لما نقل في البحوث عنه من أنه تارة يراد من حسن العدل وقبح الظلم استحقاق الثواب والعقاب عليهما وأخرى منشأ الاستحقاق وهو انبغاء صدور العدل وعدم انبغاء صدور الظلم، فان ادعي الملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل بالمعنى الاول فمع الشك في الظلم يرتفع موضوع الملازمة جزما ولا يبقى مجال للحكم الشرعي التابع للملازمة، حيث انه اخذ في موضوع استحقاق العقاب على الظلم مثلا علم الفاعل بمنشأ الاستحقاق([12]).
ولكن يرد عليه اولا: ان دعوى عدم امكان الشك في حكم العقل في استحقاق العقاب على شيء غير واضحة، فقد يشك في استحقاق عقاب من يرتكب الشبهة البدوية مع عدم جزم المرتكب لقبح العقاب بلا بيان، او يشك في استحقاق العقاب على التجري، بعد ما وقع الخلاف بين الاعلام في استحقاق العقاب عليه وعدمه، او يشك في استحقاق العقاب على ارتكاب الظلم على غير المولى، من دون أن يكون عصيانا او تجريا على المولى، وقد اختار المحقق الحائري “قده” في الدرر عدم استحقاق العقاب عليه عقلا.
نعم لو كان مراده أن من لا يعلم بكون الفعل مما لا ينبغي صدوره عقلا فالصحيح بنظره “قده” أنه يقبح عقابه عليه لكون قاعدة قبح العقاب بلا بيان تامة عنده وفاقا للمشهور، فهو كلام متجه اذا كان الشك بعد الفحص بالتأمل او رجوع الجاهل الى العالم.
وثانيا: أنه لا يحتمل كون موضوع الملازمة قبح الظلم بمعنى استحقاق العقاب عليه، اذ يقبح ترخيص الشارع في الظلم، ولو فرض عدم استحقاق فاعله العقاب عليه، لجهله بكونه ظلما، فيتعين كون المراد من القبح العقلي لابدية ترك الفعل عقلا، والمراد من الحسن العقلي جواز الفعل او لابدية عقلا، وقد يكون فاعل القبيح معذورا لا يصح عقابه، فعقاب المولى عليه موضوع آخر للحسن والقبح، وحينئذ يمكن الشك في الحسن والقبح، فيقال مثلا ان ضرب اليتيم للتشفي قبيح قطعا، وضربه للتأديب حسن قطعا، وأما ضربه للتعليم فهو مما لا نعلم بقبحه او حسنه، و هكذا نشك في قبح البيع الغبني.
ان قلت: ان حكم العقل حكم صادر من العقل، وكيف يشك العقل في صدور الحكم من نفسه، فهو نظير أن يشك المولى في صدور حكم منه فعلا.
عدة مسالك في تفسير الحسن والقبح العقليين
قلت: ان في تفسير الحسن والقبح العقليين عدة مسالك:
المسلك الاول: ما اختاره المشهور
المسلك الاول: ما اختاره المشهور ومنهم السید الخوئي نفسه من كونهما من اللوازم الواقعية للعدل والظلم اي من الامور الازلية التي موطنها عالم الواقع ويدركها العقل، فكما أن امتناع اجتماع النقيضين ثابت في عالم الواقع الذي هو اوسع من عالم الوجود وهكذا عدم العنقاء له واقعية وان لم يكن له وجود فكذلك قبح الخيانة ثابت في عالم الواقع.
ومن الواضح امكان الشك في كون اللازم الواقعي للخيانة في اموال الكافر الحربي مثلا القبح او عدمه.
المسلك الثاني: ما ذكره المحقق الخراساني
المسلك الثاني: ما ذكره المحقق الخراساني “قده” في فوائده من أن المراد من الحسن والقبح العقلي كون الشيء في نفسه ملائما للقوة العاقلة فيعجبها أو منافرا لها فتتنفر منه([13])، وقد اختار ذلك بعض الاعلام “قده” ذلك([14]).
وبناء على هذا المسلك ايضا يصح دعوى الشك في الحسن والقبح، اذ اولا: قد يشك الانسان في أنه هل يتلذذ من فعل او لا يتلذذ منه او يشك في أنه هل يتنفر من فعل اولا يتنفر منه، كما يشك في بعض وجدانياته مثل انه هل يسمع صوتا ام لا.
وثانيا: قد يحرز الانسان التذاذه من فعل او تنفره منه، ولكن يمكن أن يشك في أن تنفره من شيء او تلذذه منه من حيث قوة عاقلته او من حيث سائر قواه من قوة الغضب او الرأفة والمحبة ونحو ذلك.
وثالثا: انه يمكن أن يكون منشأ الشك الجهل بخصوصيات الفعل وما يترتب عليه من مفاسد، وهذا لا ينافي التنفر منه مع معرفة كنهه، وهذا على تقدير تعلق القبح بعنوان الظلم واضح، حيث انه لا ينافي الشك في كون فعلٍ ظلما، بل الامر كذلك على ما هو الصحيح من كون قضية حسن العدل وقبح الظلم من القضايا الضرورية بشرط المحمول، -حيث ان الظلم ليس الا ما لا ينبغي فعله، فيكون مفاد قولنا “الظلم قبيح” الى أن ما لا ينبغي صدوره لا ينبغي صدوره، فهذه القضية تكون تجميعا لاحكام متعددة عقلية، كقولنا “الكذب قبيح” و”الخيانة قبيحة”، وهكذا- فانه حينئذ يكون منشأ الشك الجهل بخصوصيات الفعل.
المسلك الثالث: ما نسب الى مشهور الفلاسفة
المسلك الثالث: ما نسب الى مشهور الفلاسفة من أن حسن العدل بمعنى استحقاق الثواب عليه و قبح الظلم بمعنى استحقاق العقاب عليه من الآراء المحمودة والقضايا المشهورة التي تطابق عليها آراء العقلاء حفظا للنظام، فلا يكون لها واقع وراء بناء العقلاء، وهذا ما تبناه المحقق الاصفهاني “قده”([15]).
وبناء على هذا المسلك فقد يقال بأن الإنسان أحد العقلاء فلا يعقل ان يشك في حكمه، ولكن ذكر في البحوث انه يمكن للانسان أن يشك فيه نتيجة أنه لم يتضح لشخصه جعل العقلاء و تشخيصهم للمصالح و المفاسد، و كون القضية عقلائية و هو منهم لا يمنع عن حصول الشك لديه فيما إذا لم تكن المصلحة التي دعت العقلاء قبله إلى جعله بدرجة كافية من الوضوح و البداهة في نفسها، و لهذا قد يقع الشك في الأوضاع اللغوية الموضوعة من قبل العرف و العقلاء لدى الإنسان العرفي أيضا([16]).
والانسب أن يقال: ان النزاع في المقام ليس في الشك في استحقاق العقاب على الظلم، وانما هو الشك في قبح الفعل بمعنى كونه موجبا للنقص بمرتبة يتنزع منها لابدية تركه، بل لا وجه لتفسير حسن العدل باستحقاق الثواب وقبح الظلم باستحقاق العقاب، فانه قد يكون الفعل قبيحا ومع ذلك حيث يصدر من الجاهل القاصر فيقبح عقابه عليه، فلو فرض أن شخصا تربّى في عائلة او مجتمع يحسِّنون له الكذب.
المسلك الرابع: حسن و القبح بمعنى الوجوب الشرطي
المسلك الرابع: ما قيل من أن حسن العدل ليس الا بمعنى الوجوب الشرطي، أي ان كنت تريد الكمال فافعل العدل، كما أن قبح الظلم بمعنى أنك ان كنت تريد الكمال فاترك الظلم، نظير ما يقول الطبيب للمريض “لابد أن تشرب هذا الدواء” أي ان كنت تريد أن تبرأ من مرضك فلابد أن تشربه، او يقال لمن يريد فتح بابٍ مقفلٍ “لابد أن تفتح القفل بهذا المفتاح”.
وبناء على هذا المسلك ايضا يمكن الشك في حسن فعل او قبحه للشك فيما يترتب عليه.
المسلك الخامس: الحسن والقبح العقليين قوانين فطرية
المسلك الخامس: ما حكي عن بعض السادة الأعلام “دام ظله” من أن الحسن والقبح العقليين قوانين فطرية اودعها الله تعالى في باطن الانسان يدركها من خلال قوة خاصة تسمى بالوجدان، وبالتالي فهي امور جعلية مقننة جهِّز بها الانسان في داخله وليست ميولا نفسانية محضة على حد سائر الميولات النفسانية، ومن ذلك تكتسب قيمتها واعتبارها.
وقد حكي عنه ايضا أنه تعالى عندما خلق الإنسان أودع فيه تلك الأحكام الفطرية على نحو الإجمال، فتكون الشرائع الإلهية تفصيلا لذلك الإجمال، وهذا هو المطابق للروايات الدالة على أن لله على الناس حجتين: حجة ظاهرة وحجة باطنة، فأما الظاهرة فالرسل والأنبياء والأئمة (عليهمالسلام) وأما الباطنة فالعقول([17])، وفي نهج البلاغة “فبعث فيهم رسله، وواتر إليهم أنبياءه ليستأدوهم ميثاق فطرته، وليذكروهم منسي نعمته ويثيروا لهم دفائن العقول”.
فبناء على هذا المسلك ايضا يمكن الشك في حسن فعل او قبحه، وان لم يكن للحسن او القبح العقليين واقع وراء ما في نفس الانسان.
المسلك السادس:
ما هو الظاهر من أن حسن العدل وقبح الظلم من منشئات العقل واحكامه، فانه تعالى اودع في الانسان قوة يصدر منها تلك الاحكام، فهو يحكم بقبح الخيانة وينهى عنها، فقد مر أنه لا واقع لحسن العدل بمعنى كونه مما ينبغي أن يفعل، وكذا قبح الظلم بمعنى أنه لا ينبغي أن يفعل، وراء انشاء المنشئ، نعم كون الظلم موجبا للنقص او مشتملا على المفسدة امر واقعي، وكذا كون العدل موجبا للكمال او مشتملا على المصلحة فيما كان راجحا او واجبا عقلا، او عدم كونه موجبا للنقص او مشتملا على المفسدة فيما كان الفعل جائزا فقط، كالقصاص من الجاني او طلاق الزوجة.
و لا يراد من العقل القوة المدركة للكليات، حتى يقال” ليس شأن العقل الا ادراك الواقع، دون اعمال المولوية بانشاء البعث والزجر، بل المراد منه الفطرة الانسانية، فانها اذا تصورت الخيانة في الامانة مثلا تشمئز منها وتزجر عن ارتكابها زجرا لا رخصة في خلافه، ولا تمنع من عقاب المولى عليها، واذا تصورت اداء الامانة ترغب اليه وتبعث نحوها، وهذا التحسين او التقبيح وان لم يكن جزافا بل ينشأ عن اشتمال اداء الامانة او الخيانة على خصوصية واقعية قد تسمى بالمصلحة والمفسدة، لكن هذه الخصوصية ليست بنفسها هي الحسن والذي يعبر عنه ب “ينبغي أن يفعل” او القبح والذي يعبر عنه ب “لاينبغي أن يفعل” فانه ليس كل مصلحة مما يجب تحصيلها عقلا، حتى لو كانت مصلحة نوعية، فضلا عما لو كانت مصلحة شخصية، ولا كل مفسدة مما يجب الاجتناب عنها عقلا، فالفارق بين المرتبة اللزومية للمفسدة مثلا وغير اللزومية منها هو ما تكون بحيث اذا تصورها النفس الانسانية تزجر عنها زجرا لا رخصة في خلافه، ومن الواضح أن الزجر عن شيء او البعث نحوه من الانشائيات التي تحتاج الى من يُنشِئها، ولا واقع لها وراء الانشاء، والمنشئ يكون هو النفس التي قد يعبر عنها بالعقل، والحاصل أن ما هو ثابت في الواقع في موارد قبح الظلم مثلا ليس الا سنخ المفسدة التي تكون بحيث اذا لاحظتها الفطرة الانسانية (التي يعبر عنها بالنفس الملهَمة التي قال عنها القرآن الكريم “و نفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها”) تتنفر منها بحد لا ترضى بارتكابها ابدا، وتزجر عنها زجرا لا رخصة فيها، ولا يمكن بيان مائز آخر لتلك المفسدة في حد ذاتها، فانها قد تكون مفسدة شخصية أي ترجع الى شخص المرتكب كما في هتك النفس أمام الناس، وقد تكون نوعية، كما في الخيانة في الامانة ونحوها، وان كان قد يترتب على الفعل مصلحة شخصية، وقد لا تبلغ المفسدة حدّا يمنع العقل من ارتكابها منعا لزوميا، وقد تبلغ هذا الحدّ، ويمكن أن يجعل عدم قبح عقاب المولى علامة القبح اللزومي للفعل.
وبناء على هذا المسلك فقد يقال بأنه لا معنى لشكّ النفس في انشاءها، فانه لا يعقل جهل الجاعل بجعله، وشكه فيه الا اذا كان لاجل نسيانه لجعله السابق، وهذا لا يتصور في التحسين والتقبيح العقليين، فانه ليس جعلا صادرا من النفس في زمان سابق، ولكن الصحيح امكان الشك فيه، بعد عدم كون هذا الانشاء فعلاً اختياريا للنفس بحيث تتمكن من التخلف عنه، بل النفس البشرية مجبولة على أنها متى تصورت الظلم تشمئز منه وتزجر عنه، على أنه قد يشك في أنه حكم عقلي او عقلائي او من العادات والآداب الاجتماعية التي تربى عليها، فان كثيرا من موارد الحسن والقبح لا يكون عقليا محضا، بل يكون عقلائيا.
وكيف كان فقد اتضح من جميع ما ذكرناه عدم تمامية الاشكال الاول على جريان الاستصحاب في الحكم الشرعي المستكشف من الدليل العقلي.
الاشکال الثاني: أن الحيثيات التعليلية لحكم العقل راجعة الى الحيثیات التقييدية
ما قد يقال من أن الحيثيات التعليلية لحكم العقل راجعة الى الحيثیات التقييدية، فاذا حكم العقل بقبح الكذب لكونه مضرا، كان موضوع القبح هو الكذب المضر، لا ذات الكذب، فاذا ارتفعت حالة اضرار الكذب كان ذلك من تبدل الموضوع، فلا معنى لاستصحاب بقاء قبحه، كما انه بعد عدم استفادة حرمته الشرعية من خطاب لفظي وانما استفيد حرمته من الدليل العقلي اي قاعدة الملازمة، فاحتمال كون ذلك القيد المرتفع مأخوذا في موضوع الحكم، كافٍ في المنع من جريان استصحاب الحرمة، بعد ارتفاع القيد للشك في بقاء الموضوع.
وقد يستظهر هذا الاشكال ايضا من بعض كلمات الشيخ الأعظم “قده” حيث قال: ان الأحكام العقلية كلها مبيَّنة من حيث مناط الحكم، والجهات المقتضية للحكم العقلي بالحسن و القبح كلها راجعة إلى قيود فعل المكلف الذي هو الموضوع، فالشك في حكم العقل لا يكون إلا للشك في موضوعه، لأن ارتفاع الحكم العقلي لا يكون إلا بارتفاع موضوعه، فيرجع الأمر بالأخرة إلى تبدل العنوان، أ لا ترى أن العقل إذا حكم بقبح الصدق الضار فحكمه يرجع إلى أن الضار من حيث إنه ضار حرام و معلوم أن هذه القضية غير قابلة للاستصحاب عند الشك في الضرر مع العلم بتحققه سابقا لأن قولنا المضر قبيح حكم دائمي لا يحتمل ارتفاعه أبدا و لا ينفع في إثبات القبح عند الشك في بقاء الضرر، و لا يجوز أن يقال إن هذا الصدق كان قبيحا سابقا فيستصحب قبحه، لأن الموضوع في حكم العقل بالقبح ليس هذا الصدق، بل عنوان المضر و الحكم له مقطوع البقاء.
وحينئذ فلو علم بحدوث حكم شرعي من خلال حكم العقل، فلا محالة يكون الشك في بقاء هذا الحكم الشرعي بمعنى الشك في بقاء موضوع هذا الحكم المعلق عليه في حكم العقل، ومع الشك في بقاء الموضوع لا مجال لجريان الاستصحاب، نعم لو ثبت الحكم الشرعي بدليل نقلي، وشك في بقاءه، فمع بقاء موضوعه المأخوذ في لسان الدليل يمكن استصحاب حكمه، فإذا حكم الشارع بحرمة شيء في زمانٍ، و شك فيها في الزمان الثاني، فيصدق هنا أن الحكم الشرعي الثابت لما هو الموضوع له في الأدلة الشرعية كان موجودا سابقا و شك في بقائه و يجري فيه أخبار الاستصحاب([18]).
وفيه أن كون الخصوصية حيثية تقييدية لحكم العقل بأن يكون موضوع القبح مثلا الكذب المضر، ونتيجة ذلك كون موضوع حكم الشرع ايضا هو ذلك جزما او احتمالا، لا يمنع من جريان استصحاب الحكم الشرعي بعد كون المهم في استصحاب الحكم بقاء معروض الحكم في نظر العرف، فلا يلحظ موضوعه بنظر العقل او بجعل الشرع، ولذا يجري استصحاب بقاء نجاسة الماء الذي زال تغيره ولو احتمل كون الموضوع في جعل الشارع للنجاسة هو الماء المتغير، حيث يصدق نقض اليفين بالشك عرفا.
وعليه فيكفي في المقام كون معروض القبح العقلي والحرمة الشرعية بنظر العرف في حال الاضرار هو ذات الكذب، والا لكان يمنع ذلك من الاستصحاب حتى لو كان دليل حرمة الكذب النقل، وكان المتيقن منه الكذب المضر ثم ارتفع اضراره، كما هو الحال فيما لو كان موجبا لتعدد الكذب عرفا.
والحاصل أنه حتى لو كان في علم الله موضوع القبح هو الكذب المضر وقلنا بتبعية حكم الشرع له فكان موضوع الحرمة ايضا هو الكذب المضر صح أن يقال عرفا ان هذا الكذب كان محرما حينما كان مضرا، وما ذكره بعض الاعلام “قده” من أن كل خصوصية تؤخذ في المتعلق تكون مقومة بنظر العرف، و ليس الحال فيه كالحال في الموضوع، فمع الشك في تلك الخصوصية يمتنع الاستصحاب([19])، ففيه المنع من ذلك، فان معروض الحرمة عرفا قد يكون ذات الفعل، وتكون خصوصية الفعل حيثية تعليلية لذلك، على أنه قد تكون الخصوصية دخيلة في الموضوع فقط دون نفس الفعل، كما لو حكم العقل بقبح الخيانة في امانة الانسان غير الظالم ثم صار هذا الانسان ظالما فشك في بقاء قبح الخيانة في امانته، فان كونه ظالما او غير ظالم من حالاته ولا يوجب تبدل الموضوع عرفا، فلا مانع من استصحاب حرمته ابدا.
اللهم الا أن يكون مقصوده ما سبق نقله عن السيد الخوئي “قده” من المنع من جريان استصحاب الحرمة من حيث كونها انحلالية، لكنه مضافا الى ما تقدم من الجواب عنه في بحث الاستصحاب في الشبهات الحكمية أنه مما لم يعهد هذا الاشكال منه في المنتقى على أنه لا يختلف فيه الحكم الشرعي الثابت بالعقل عن الثابت بالنقل، فليس تفصيلا في المقام.
الاشكال الثالث:
ما ذكره بعض الاعلام “قده” من أن موضوع القبح العقلي ليس الا الظلم، والحكم بقبح الكذب المضر مثلا من باب أنه مصداق للظلم، وموضوع الحكم الشرعي بالحرمة الثابتة بالحكم العقلي ايضا يكون هو الظلم، فلو فرض زوال عنوان الظلم عن الكذب بعد زوال اضراره، و مع هذا احتمل أن يبقى على حرمته، فانه لا معنى لاستصحاب حرمته، إذ متعلق الحرمة السابقة زال قطعا، و هذا الكذب فعلا ليس من افراده جزما، فيمتنع صدق البقاء، والتأمل في كلام الشيخ يقتضي أن يستظهر ان مراده ما ذكرناه، لا ما فهمه الأعلام ([20]).
مناقشه
وفيه اولا: ما مر من أن قضية “قبح الظلم” ان كانت بمعنى عدم انبغاء فعله فهي قضية ضرورية بشرط المحمول، اذ الظلم ليس الا ما لا ينبغي فعله، فهي تجميع لاحكام عقلية موضوعها العناوين التفصيلية كالخيانة في الامانة ونحوها، وان كانت بمعنى استحقاق العقاب عليه فهي وان كانت قضية عقلية لكن طرف الملازمة بين حكم العقل والشرع هو القبح بالمعنى الاول.
وثانيا: ان ما ذكره اخص من المدعى، اذ لا يجري فيما لو شك في كون الفعل ظلما، فانه يستصحب بقاء كونه ظلما، فيثبت به حرمته، كما لا يجري في ما ثبت عدم التكليف في السابق بدليل عقلي كقبح تكليف العاجز، ثم احتمل بقاء عدم التكليف بعد طرو القدرة لعدم المقتضي للتكليف، حيث صرح الشيخ بعدم جريان الاستصحاب فيه.
وثالثا: لو فرض العلم بارتفاع الظلم عن الكذب بعد زوال اضراره فعلم بارتفاع قبحه فلا ينافي ذلك بقاء حرمته الشرعية، لاحتمال كون موضوع الحرمة هو ذات الكذب وكونه ظلما حال اضراره من الحالات غير المقومة لمعروض الحرمة، فانه حتى لو كان موضوع الحرمة في الجعل الشرعي في علم الله هو الظلم، فيصح أن يقال عرفا ان الكذب حال اضراره كان حراما شرعا فيستصحب، و هكذا بالنسبة الى الخيانة في امانة من كان غير ظالم للمكلف، فصار ظالما له.
المختار: عدم تمامية التفصيل بين ما ثبت بالنقل او بالعقل في الشبهة الحكمية
فاتضح عدم تمامية التفصيل في جريان استصحاب الحكم الشرعي الكلي بين ما ثبت بالنقل او بالعقل.
هذا كله في الشبهة الحكمية.
الکلام فی التفصيل بين ما ثبت بالنقل او بالعقل في الشبهة الموضوعیه
وأما في الشبهة الموضوعية فقد ذكر الشيخ الاعظم “قده” في التنبيه الثالث من تنبيهات الاستصحاب، فقال: اذا كان الشك في بقاء الموضوع للحكم الشرعي المستكشف من الحكم العقلي بنحو الشبهة الموضوعية، فلا يجري استصحاب الموضوع، -كما لم يكن يجري استصحاب الحكم لما سبق- لأن حكم العقل هو ما علم انطباق العنوان الذي حكم بقبحه، وليس وجود العنوان واقعا موضوعا لحكم العقل حتى يتبعه حكم الشرع، فمع الشك في انطباق العنوان يعلم بارتفاع حكم العقل، وكذا الحكم الشرعي التابع له، نعم ان كان حكم العقل شاملا للظن، كما في قبح شرب السم المضر حيث يقبح شرب السم المقطوع او المظنون الضرر، وشك في ارتفاع حالة الاضرار في السم، وقلنا باعتبار الاستصحاب من باب الظن عمل به هنا، لأنه يظن الضرر بالاستصحاب([21])، و إن كان اعتبار الاستصحاب من باب التعبد لأجل الأخبار، فحيث لا يوجب الظن بالضرر فلا يجوز العمل به للقطع بانتفاء حكم العقل([22]).
کلام السيد الخوئي
وقد حكي عن السيد الخوئي “قده” أنه اورد على ما ذكره الشيخ “قده” من استثناء الضرر بأن الاستصحاب لا يفيد الظن الشخصي، كما صرح به الشيخ نفسه، و لا الظنّ النوعي كما بيّناه، مضافا الى أن الميزان في الضرر -على النفس- خوفه، لا الظن به، و هو يحصل بنفس الاحتمال العقلائي من دون احتياج إلى الاستصحاب.
كما اورد على ما ذكره في وجه عدم جريان الاستصحاب في غير الضرر مما أخذ في موضوع الحكم المستكشف بدليل العقل، أنه لم يكن مترقبا منه “قده”، لأن تبعية حكم الشرع لحكم العقل إنما هي في الكبريات، لا في تطبيقها على الصغريات، بل ليس للعقل فيها حكم أصلا، و إنما شأنه إدراك الأحكام الكلية، و أما اتصاف الفعل الخاصّ الصادر من الشخص المعين بالحسن أو القبح فإدراكه ليس من شأنه، اذ لا طريق للعقل الى احراز قصد الفاعل وداعيه الذي يختلف به حسن الفعل وقبحه([23]).
ولم يذكر هذا الكلام الأخير في دورته المتأخرة الاصولية في مصباح الاصول، ولعله لأجل أن مدعى الشيخ الاعظم أن موضوع حكم العقل بالحسن والقبح العلم بانطباق العنوان على الفعل، فاكل مال الغير مع الجهل بكونه مال الغير ليس قبيحا، و انما القبيح اكل ما علم انه مال الغير، وهذا لا ينافي كون حكم العقل بنحو الكبرى.
ولكن الصحيح أن يقال بالتفصيل: فانه تارة يرخص العقل في مشكوك العنوان كما في مثال اكل مال الغير فلا محالة يكون قبحه مختصا بفرض العلم بالعنوان، حتى لو اريد من القبح عدم انبغاء صدوره فضلا عن كونه بمعنى استحقاق العقاب عليه، فهنا يتم كلام الشيخ من الجزم بارتفاع القبح ومعه فلا كاشف عن ثبوت الحرمة الشرعية لواقع العنوان المجهول، حتى يجري الاستصحاب الموضوعي لبقاء العنوان لغرض اثبات حرمته الشرعية، بعد انحصار الكاشف عن الحكم الشرعي بحكم العقل، نعم يجدي ذلك بناء على قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي، فيكون مستصحب العنوان كمستصحب مال الغير بحكم معلوم العنوان، كما لا مانع من جريان الاستصحاب بنحو الشبهة الحكمية فيقال بأن هذا الفعل كان حراما سابقا حينما كان معلوم العنوان والآن كما كان، حيث ان العلم بالعنوان من الحالات فلا يوجب ارتفاعه تبدل الموضوع عرفا كي يمنع من جريان الاستصحاب.
وأخرى: يمنع العقل من ارتكاب المشكوك ولو من باب لزوم الاحتياط عقلا كما في الامور المهمة فهذا يعني ثبوت القبح النفسي لارتكابه مع انطباق العنوان الواقعي القبيح عليه، فيثبت كون العنوان الواقعي محرما في فرض الشك ايضا فيمكن جريان الاستصحاب الموضوعي فيه، ككون هذا الكذب مضرا([24]).
وبما ذكرناه تبين الخلل فيما اورد بعض الاعلام على السيد الخوئي من أنه يكون العلم بالصغرى مأخوذا في أحكام العقل العملي، فالعلم بكون الفعل خيانة مثلًا شرط في حكم العقل بقبح ذلك الفعل، و العلم بأنّ هذا مولاه و مخالفته شرط في حكم العقل بقبح مخالفة أمره و حسن اطاعته جزماً، وعليه فيكون الحكم الشرعي المستكشف بمثل هذا الحكم العقلي العلمي أيضاً منوطاً و مشروطاً بالعلم بالصغرى، فمع الشك فيه يرتفع مع قطع النظر عن الاشكال السابق([25]).
کلام المحقق الاصفهاني
هذا وقد ذكر المحقق الاصفهاني “قده” أنه لا يعقل الشك في أحكام العقل العملي حتى بنحو الشبهة الموضوعية، حيث ان موضوع الحسن و القبح العقليين هو الفعل الاختياري، و الاختيارية فرع العلم والالتفات، فمع الشك يقطع بارتفاع الحكم العقلي، فقال ان حسن العدل لما كان بمعنى استحقاق المدح عليه ومدح المولى ثوابه، و قبح الظلم بمعنى استحقاق الذم عليه وذم المولى عقابه، وموضوع المدح والذم الفعل الاختياري، لاستحالة تعلقهما بالفعل غير الاختياري، فلابدّ من أن يصدر العنوان الذي يستحق عليه المدح، أو الذم عن قصد الفاعل و عمده، فلو صدر منه ضرب اليتيم، و ترتب عليه الأدب من دون أن يصدر منه بعنوان التأديب لم يصدر منه التأديب الممدوح، و من الواضح أنّ صدوره بعنوانه بالاختيار ليس إلّا بكون الفعل بما له من العنوان الممدوح الملتفت إليه الّذي لا وعاء له إلّا وجدان فاعله صادراً منه بالإرادة المتعلقة به بعنوانه، و منه علم أنّ عنوان المضر مثلاً ليس بوجوده الواقعي محكوماً بالقبح، حتى يشك في صدقه على موضوع مفروض صدقه عليه سابقاً، بل بوجوده في وجدان العقل، و هو مقطوع الارتفاع مع عدم إحراز صدقه([26]).
مناقشه
وفيه أنه لا يعتبر في اختيارية الفعل أكثر من اعمال السلطنة، بأن كان صادرا عن الشخص مع تمكنه من تركه، فلا يعتبر فيه الالتفات الى العنوان فضلا عن العلم به، نعم العلم بعنوان الفعل دخيل في التعمد.
وبهذا تم الجزء الاول من الاستصحاب، ويتلوه البحث عن التفصيل بين الاحكام الوضعية والتكليفية، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
[5] – هذه النسبة غير متجهة، بل يظهر من الكفاية المناقشة في كلتا المقدمتين حيث قال: ان حكم الشرع إنما يتبع ما هو ملاك حكم العقل واقعا، لا ما هو مناط حكمه فعلا، و موضوع حكمه الفعلي وان كان مما لا يكاد يتطرق إليه الإهمال و الإجمال، ولكنه يتطرق الاهمال والاجمال إلى ما هو موضوع حكمه شأنا، و هو ما قام به ملاك حكمه واقعا، فربّ خصوصية لها دخل في استقلال العقل بحكمٍ، مع احتمال عدم دخلها واقعا، فبدونها لا استقلال له بشيء قطعا، مع احتمال بقاء ملاكه واقعا، و معه يحتمل بقاء حكم الشرع جدا لدورانه معه وجودا و عدما، فلا مانع من استصحاب الحكم الشرعي المستكشف بحكم العقل عند انتفاء ما احتمل دخله في موضوعه اذا لم يكن مقوما له عرفا، بعد كون الحكم الشرعي مشكوك البقاء عرفا لاحتمال عدم دخله فيه واقعا و إن كان لا حكم للعقل بدونه قطعا.
والحاصل أن الملازمة بين حكم العقل والشرع إنما تكون في مقام الإثبات و الاستكشاف، لا في مقام الثبوت، فعدم استقلال العقل إلا في حالٍ، غير ملازم لعدم حكم الشرع في غير تلك الحال و ذلك لاحتمال أن يكون ما هو ملاك حكم الشرع من المصلحة أو المفسدة التي هي ملاك حكم العقل كان على حاله في كلتا الحالتين و إن لم يدركه إلا في إحداهما لاحتمال عدم دخل تلك الحالة فيه أو احتمال أن يكون معه ملاك آخر بلا دخل لها فيه أصلا و إن كان لها دخل فيما اطلع عليه من الملاك (كفاية الاصول ص ص 386).
فانه يمكن أن يكون كلامه ايرادا على المقدمة الاولى ايضا، لأنه قسم حكم العقل الى الحكم الشأني و الحكم الفعلي وادعى تطرق الاهمال في الاول والحكم الشرعي تابع له لا للثاني.
[24] – وما في منتقى الاصول ج6ص20 من دعوى أن استصحاب كون الكذب مضرا من الاستصحاب التعليقي في الموضوعات، وهو غير جار جزما، لانه ما لم يوجد الكذب المضر لم يتحقق الاضرار، فيكون استصحابه بمعنى أنه لو وجد هذا الكذب سابقا لكان مضرا[24]، ففيه أن ترتب الضرر على وجود الكذب يكفي في صدق الكذب المضر عليه ولو قبل وجوده، كعنوان الفعل ذي مفسدة، نعم لو كان القبيح هو عنوان الاضرار كما في قضية شرب السم المضر فان ما هو الحرام هو الاضرار بالنفس كان استصحاب كون هذا السم مضرا او كون شربه مضرا اي من شأنه الاضرار من الاصل المثبت.