فهرست مطالب

فهرست مطالب

تقریرات دروس خارج مدرسه فقهی امام محمد باقر علیه السلام

بسمه تعالی

دوران الامر بين المحذورين.. 1

اذا تمكن المكلف من التخلص عن الوقوع في موضوع دوران الامر بين المحذورين، فهل يجب عليه عقلاً ذلك ام لا؟. 2

ثلاث صور لدوران الامر بين المحذورين.. 3

الصورة الاولى: أن تكون الواقعة واحدة، مع كون كلا الحكمين المحتملين على تقدير الثبوت توصليين.. 3

القول الاول: لزوم تقديم جانب احتمال الحرمة. 4

مناقشه. 4

القول الثاني: التخيير بينهما شرعا 4

مناقشه. 4

القول الثالث: الاباحة شرعا والتخيير عقلا.. 5

مناقشه. 5

الصحيح جريان البراءة العقلية في المقام. 7

وجوه لزوم الترجيح باحتمال الاهمية في التزاحم. 7

القول الرابع: التخيير بين الفعل والترك عقلا مع عدم جريان أي اصل شرعي مؤمِّن عن احتمال الوجوب والحرمة من أصالة الحل او البراءة او الاستصحاب.. 10

الفرق بين أصالة الإباحة والبراءة والاستصحاب.. 10

وجوه عدم جريان البراءة الشرعية في المقام. 12

الصورة الثانية: أن تكون الواقعة واحدة، مع فرض كون احد الحكمين المحتملين على تقدير الثبوت تعبديا 15

 

موضوع: دوران بین محذورین /تنبیهات /برایت

خلاصه مباحث گذشته:

متن خلاصه …

 

 

دوران الامر بين المحذورين

يقع الكلام في دوران الامر بين المحذورين، ومورده العلم الاجمالي بكون فعلٍ إما واجبا نفسيا او حراما نفسيا، وانما قيدنا متعلق العلم في الدوران بين المحذورين بكونه واجبا نفسيا او حراما نفسيا لاجل الاحتراز عن موردين:

احدهما: دوران الامر بين الوجوب والحرمة التشريعية، مثل صوم يوم الشك من آخر رمضان، بناءا على القول بالحرمة التشريعية لصوم يوم العيد، فيمكن الصوم رجاءا، وهذا ليس من العلم الاجمالي بالتكليف.

ثانيهما: دوران الامر بين الوجوب الضمني والحرمة الضمنية، بأن دار امر فعل في المركب الارتباطي بين الجزئية والمانعية، فان كان وقته موسعا فيمكنه تكرار المركب بايجاد ذلك الفعل المشكوك فيه مرة وتركه فيه أخرى، ومع ضيق الوقت يكون من موارد العلم الاجمالي بين المتباينين عدم التمكن من الموافقة القطعية، وسيأتي حكمه، نعم بالنظر الى حرمة قطع الفريضة، فان ثبت حرمة قطع الفريضة الصحيحة واقعا مطلقا وان لم تكن مجزئة ظاهرا فيصير بلحاظه من موارد الدوران بين المحذورين، ومما ذكرنا يظهر الخلل فيما افاده الشيخ الاعظم “قده” في المقام، فراجع.

وكيف كان فاذا حصل العلم الاجمالي بكون فعل معيَّنٍ متعلقا لحكم الزامي، ولم يعلم أن هذا الحكم الالزامي هل هو الوجوب او الحرمة، ولم توجد أمارة او اصل مثبت لأحدهما، فيكون من دوران الامر بين المحذورين، وبحكم هذا العلم الاجمالي ما اذا قامت حجة اجمالية على احد الحكمين، ومنه ما اذا قام خبر على وجوب شيء وخبر آخر على حرمته، وقلنا بحجية الخبرين المتعارضين لنفي الاحتمال الثالث، إما من باب بقاء الدلالة الالتزامية لكل من الخبرين المتعارضين وان سقطت دلالتهما المطابقية عن الحجية بالتعارض، كما هو مسلك الشيخ الاعظم “قده” او من باب حجية احد الخبرين المتعارضين لا بعينه، كما هو مسلك صاحب الكفاية “قده” حيث ذكر أن لا وجه لتساقط الدليلين المتعارضين بنحو مطلق، بل الساقط عن الحجية الدليل الذي علم اجمالا بكذبه، فيبقى الدليل الآخر على حجيته بلا تعين له واقعا، وهذه الحجية وان كانت لاتفيد في إثبات المدلول المطابقي لكل منهما بعينه، الا انها مفيدة بلحاظ المدلول الالتزامي لكليهما كنفي الثالث([1])، وقد ذكرنا في بحث التعارض عدم تمامية أي من المسلكين.

اذا تمكن المكلف من التخلص عن الوقوع في موضوع دوران الامر بين المحذورين، فهل يجب عليه عقلاً ذلك ام لا؟

ثم انه قبل أن نتكلم عن حكم دوران الامر بين المحذورين، ينبغي أن نشير الى بحث فقهي، وهو أنه اذا تمكن المكلف من التخلص عن الوقوع في موضوع دوران الامر بين المحذورين، فهل يجب عليه عقلاً ذلك ام لا؟، مثال ذلك ما اذا علم المكلف بأنه اذا لم يسافر فسوف يقع في محذور دوران الامر بين المحذورين في يوم الشك من آخر رمضان حيث يفتي احد المجتهدين المتساويين بثبوت عيد لاكتفاءه برؤية الهلال في أي بلد آخر، وأن صوم يوم العيد حرام ذاتا، في حين أن المجتهد الآخر يفتي بعدم كفايته، فهل يجب عليه عقلا أن يسافر، حتى يتخلص بذلك عن محذور المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال، المسألة غير معنونة في الكلمات، وقد ذكر بعض الاجلاء “دام ظله” أنه يلزم ذلك، ويمكن أن يقال بعدم اللزوم، فان العقل كما لا يحكم على العاجز عن امتثال تكليف بحرمة ايجاده لموضوع ذلك التكليف، او بلزوم اعدامه لذلك الموضوع، كمن يعلم بأنه لا يقدر على الانفاق على زوجته، فانه لا يحرم عليه الزواج كما أنه لو تزوج فلا يجب عليه الطلاق، كذلك لا يحكم على العاجز عن احراز امتثال تكليف بحرمة ايجاده لموضوع ذلك التكليف او لزوم اعدامه له، لأن حكم العقل بوجوب طاعة المولى لا يقتضي اكثر من اتيانه بمتعلق التكليف بالمقدار الميسور له، لا اعدام موضوعه مع عدم القدرة على امتثالها، او مع عدم القدرة على احراز امتثاله.

ثلاث صور لدوران الامر بين المحذورين

وكيف كان فقد ذكر الأعلام لدوران الامر بين المحذورين ثلاث صور:

الصورة الاولى: أن تكون الواقعة واحدة، مع كون كلا الحكمين المحتملين على تقدير الثبوت توصليين

كما لو علم بأنه حلف على فعل شيء مباح في وقت معين او حلف على تركه، (بناء على انعقاد اليمين في مورد شيء مباح يتساوى فعله وتركه شرعا)، وخصوصية هذه الصورة أنه لا يمكن المخالفة القطعية للعلم الاجمالي ولا موافقته القطعية، لأنه إما يكون فاعلا للفعل او تاركا له، وكلّ من الحالتين يحتمل فيها موافقة التكليف الواقعي المعلوم بالاجمال، كما يحتمل مخالفته.

ولكن لا وجه لتخصيص هذه الصورة بفرض كون كلا الحكمين توصليين، بل لو فرض العلم الاجمالي إما بوجوب الاتيان بفعلٍ بقصد القربة او بحرمة الاتيان به بقصد القربة كان كذلك، كما لو قلنا بحرمة صوم يوم العيد حرمة ذاتية وفسّرنا الحرمة الذاتية بحرمة الاتيان بفعل بقصد القربة ولو رجاء واحتياطا، (حيث يقال بأن الظاهر من قوله (عليه السلام) “صوم يوم العيدين حرام” أن الصوم المعهود الواجد للشرائط ومنها قصد القربة حرام، لا الصوم الباطل في حد ذاته مع قطع النظر عن هذه الحرمة) ففي اليوم الذي يشكّ في كونه آخر يوم من شهر رمضان او اول يوم من شهر شوال، يحصل العلم الاجمالي بوجوب صوم ذلك اليوم بقصد القربة او بحرمة صوم ذلك اليوم بقصد القربة ولو رجاء واحتياطا، وهكذا الشك في الحيض وعدمه كما في النقاء المتخلل بأن رأت امرأة دم الحيض ثلاثة ايام ثم طهرت يوما ثم رأت دم الحيض وانقطع قبل مضي عشرة ايام من بداية رؤية الدم، لو قلنا بالحرمة الذاتية لصلاة الحائض، بمعنى أن الصلاة الصحيحة لولا الحيض حرام عليها بحرمة ذاتية، وليس مجرد حرمة تشريعية حتى لا تتنافى مع اتيانها بالصلاة بقصد الاحتياط.

والاقوال في هذه الصورة خمسة:

القول الاول: لزوم تقديم جانب احتمال الحرمة

القول الاول: لزوم تقديم جانب احتمال الحرمة، فلابد أن يترك الفعل من باب قاعدة عقلية او عقلائية تحكم بأن دفع المفسدة اولى من جلب المنفعة.

مناقشه

وفيه اولاً: أنه اخصّ من المدعى، فقد يكون طلب الترك من باب المصلحة في الترك لا المفسدة في الفعل، ويكون لزوم الفعل او لزوم الترك احيانا بمناط واحد، كما في مثال العلم الاجمالي بحلفه إما على اتيان الفعل او على تركه له، فمناط الحكم فيهما واحد، وهو وجوب الوفاء باليمين، او حرمة حنثه.

وثانيا: انه لا يوجد شاهد عقلي او عقلائي او شرعي يدلّ على هذه القاعدة ، بل الشاهد على خلافها، فانه قد يتحمل العقلاء بعض المضار والمفاسد لاجل منفعة اهم منه.

وثالثا: انه لو تمت هذه القاعدة فانما تتم في مورد تزاحم المصلحة المعلومة والمفسدة المعلومة، ولا ترتبط بالمقام مما يكون فيه احتمال المفسدة، فلا دليل على لزوم دفع المفسدة المحتملة، كيف وتجري البراءة العقلية والعقلائية والشرعية في مشكوك الحرمة مع عدم احتمال وجوبه، وهذا يعني أنه لا يجب دفع المفسدة المحتملة مع عدم احتمال جلب المنفعة في ارتكابه، فكيف يجب هنا دفع المفسدة المحتملة مع احتمال كون ارتكابه موجبا لجلب منفعة.

القول الثاني: التخيير بينهما شرعا

القول الثاني: التخيير بينهما شرعا، فان اريد منه التخيير الاصولي أي الحجة التخييرية نظير ما التزم به المشهور من الحجية التخييرية في الخبرين المتعارضين او الفتويين المتعارضتين، أي حجية كل منهما مشروطة بالأخذ به،

مناقشه

فهذا وان كان معقولا ثبوتا، لكنه لا دليل عليه اثباتا، الا اذا قام على كل من احتمال الوجوب او الحرمة خبر معتبر في حد ذاته، فانه يثبت فيه الحجية التخييرية على مسلك المشهور، وان كان الصحيح فيه تساقط الخبرين وعدم دليل على الحجية التخييرية، وان اريد منه التخيير الفقهي، وهو التخيير العملي فان اريد منه ترخيص الشارع ظاهرا في الفعل والترك، فمرجعه الى جريان الاصل المؤمِّن كاصالة البراءة من الوجوب والحرمة، ولا يكون قولا مستقلا في قبال القول الآتي بجريان البراءة عن الوجوب والحرمة، وان اريد منه الوجوب التخييري بأن يوجب الشارع احد الامرين من الفعل او الترك، فهذا غير معقول، لكونه من طلب الحاصل.

القول الثالث: الاباحة شرعا والتخيير عقلا

القول الثالث: الاباحة شرعا والتخيير عقلا، وهو مسلك صاحب الكفاية “قده”، وقد انكر جريان البراءة العقلية في المقام، بدعوى أن قبح العقاب على الفعل او الترك لا يستند الى عدم البيان، لعدم قصور في البيان في المقام، بعد وجود العلم الاجمالي بجامع الطلب الالزامي، وان تردد متعلقه بين كونه هو ارتكاب الفعل او تركه، فالعلم الاجمالي هنا بيان على حد كونه بيانا في سائر الموارد وانما المشكلة هنا ترجع الى عدم تمكنه من الاحتياط التام، فهو مضطر الى الجامع بين الفعل والترك، ويحكم العقل بتخييره بين الفعل والترك من باب عدم ترجيح احدى الموافقتين الاحتماليتين على الأخرى، وأما الحكم بالاباحة الشرعية الظاهرية فهو لاجل شمول مثل “كل شيء لك حلال حتى تعرف أنه حرام”([2]).

مناقشه

وفيه أن البيان في قاعدة قبح العقاب بلا بيان ان كان بمعنى تبين الواقع فلا يتبين في العلم الاجمالي الا الجامع، دون خصوصية كلّ من الطرفين، فيكون العقاب على مخالفة خصوصية وجوب الفعل او خصوصية حرمته عقابا بلا بيان، وأما الجامع هنا فهو غير قابل للتنجيز، لعدم امكان ارتفاع الجامع بين الفعل والترك، وان اريد من البيان الحجة فهی لا تتحقق فی المقام، فان مثل هذا العلم الاجمالي الذي لا يمكن موافقته القطعية لا يكون حجة ومصصحا للعقاب على طرف معيَّن.

وخلاصة الكلام أنه لا يصح قياس فرض العجز عن احراز امتثال التكليف المعلوم بالاجمال، كما في العلم الاجمالي بوجوب احد الضدين، بفرض العجز عن امتثال التكليف المعلوم، بناء على كون القدرة شرطا لتنجز التكليف دون اصل التكليف كما عليه جماعة كالسيد الامام، فان قبح العقاب فيه لا يستند الى قصور البيان، وانما يستند الى عجزه عن الامتثال، وأما فرض العجز عن احراز امتثال التكليف المعلوم بالاجمال فحيث ان امتثال التكليف الواقعي مقدور، وانما المانع عن احراز الامتثال هو الجهل التفصيلي به فيستند قبح العقاب على اختياره لما يخالف الواقع الى جهله،.

الا أن يكون مقصوده من نفي جريان البراءة العقلية عند الدوران بين المحذورين الى ان البراءة العقلية هو نفي حق الطاعة، وهو فيما يمكن الاحتياط، فان موضوع حق الطاعة هو امكان الاحتياط، فالبراءة هو نفي حق الطاعة بنحو السالبة بانتفاء المحمول، وفيما نحن فيه ينتفي حق الطاعة لعدم موضوعه وهو الاحتياط فلاتجري البراءة العقلية، ولكنه لا وجه لاختصاص البراءة العقلية بذلك، وعليه فالبراءة العقلية على القول بها جارية في المقام، وهذا لا ينافي وجود ملاك آخر لقبح العقاب في بعض موارد دوران الامر بين المحذورين، وهو ما اذا تساوى احتمال وجوب الفعل وحرمته من حيث درجة الاحتمال وقوة المحتمل، وهو لابدية الجامع بين الفعل والترك، وعدم ترجيح احدهما على الآخر.

ومن الغريب ما جاء في كلمات المحقق النائيني “ره” من أنه بعد حكم العقل بقبح العقاب بملاك اللابدية بين الفعل والترك وعدم ترجيح احدهما على الآخر، فلا حاجة الى حكم العقل بقبح العقاب بلا بيان([3])، ونحو ذلك ما ذكره المحقق العراقي “قده” في المنع من جريان البراءة العقلية في المقام من أن جريانها موقوف على سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية، وسقوطه عن المنجزية موقوف على حكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك بمناط لابدية الموافقة الاحتمالية إما بالفعل او الترك، وعدم المرجح لاختيار جانب الفعل او الترك، ومعه لا يبقى مجال لحكم عقلي آخر بمناط عدم البيان، كما لا يبقى مجال لاثبات العذر بادلة البراءة الشرعية([4])، فانه بعد عدم صلاحية العلم الاجمالى بوجوب الفعل او حرمته لتنجيز الجامع، ولا لتنجيز كل من الوجوب او الحرمة، فيدرك العقل قبح العقاب على مخالفة كل من الوجوب او الحرمة لعدم تمامية البيان على اي منهما، وهذا ليس حكما اختياريا ينشأه العقل، حتى يقال بأن الترخيص في كل من الفعل او الترك بمناط عدم البيان بعد الترخيص فيهما بمناط اللابدية العقلية للجامع بين الفعل والترك وعدم المرحج لاحدهما على الآخر لغو، وان شئت قلت: ان النافي لمنجزية العلم الاجمالي وان كان هو نكتة اللابدية العقلية للجامع وعدم المرحج، فصار هذا العلم الاجمالي كالعدم والتحق العلم الاجمالي بوجوب فعل وحرمته بفرض ما لو احتمل كون هذا الفعل مباحا لا واجبا ولا حراما فيستند قبح عقابه على مخالفته لتكليف الواقعي المحتمل الى عدم البيان عليه، نعم ان اريد من البراءة العقلية نفي وجوب الاحتياط عقلا لقصور في حق طاعة المولى بحيث لو لم يكن قصور في حق طاعته لاختلف الحال فليس المورد من هذا القبيل، مع تساوى الوجوب والحرمة احتمالا ومحتملا، اذ بعد تكافؤ احتمال الوجوب والحرمة لا يوجد مجال لوجوب الاحتياط عقلا، فالمقام غير قابل لثبوت حق طاعة المولى، حيث ان موضوعه فرض امكان الاحتياط من المكلف، وهذا منتفٍ في المقام، لكنه لا ينافي قبح العقاب بمناط عدم البيان ايضا، بحيث لو ثبت ترجيح لاحد الحكمين من ناحية قوة الاحتمال او اهمية المحتمل فمع ذلك يقبح العقاب عليه بنكتة عدم البيان بعد أن لم يكن العلم الاجمالي حجة عليه.

ويمكن ان نذكر ثمرة لهذا النزاع وهو أنه اذا علم المكلف اجمالا بأنه إما يجب اكرام زيد او يحرم اكرامه او يجب اكرام عمرو، فبناءا على تمامية البيان واستناد قبح العقاب الى اللابدية فيتنجز الطرف الثالث وهو اكرام عمرو، بينما أنه بناءا على ما ذكرنا من عدم كون هذا العلم الاجمالي الذي لا يمكن موافقته القطعية ولا مخالفته القطعية ليس بيانا فلا يتنجز الطرف الثالث ايضا.

هذا كله بناء على الاعتراف بالبراءة العقلية او ما يقوم مقامها من البراءة العقلائية، وأما بناء على مسلك حقّ الطاعة ومنجزية احتمال التكليف، ففي البحوث انه مع تساوي الحكمين احتمالا ومحتملا، يتزاحم مقتضي حق طاعة الوجوب المحتمل، ومقتضي حقّ طاعة الحرمة المحتملة، والانسب ان يقال انه لا مقتضي هنا لحقّ طاعة المولى، حيث مر أن موضوعه امكان الاحتياط، ولا يمكن الاحتياط هنا، بعد أن كان احتمال الوجوب والحرمة متكافئين.

الصحيح جريان البراءة العقلية في المقام

وكيف كان فالصحيح جريان البراءة العقلية في المقام على القول بها او البراءة العقلائية على المختار، من دون فرق بين تساوي الحكمين احتمالا ومحتملا، او رجحان احدهما بعينه.

وما ذكره صاحب الكفاية (من أن استقلال العقل بالتخيير إنما هو فيما لا يحتمل الترجيح في أحدهما على التعيين ومع احتماله لا يبعد دعوى استقلاله بتعيينه‏، كما هو الحال‏ في دوران الأمر بين التخيير والتعيين في غير المقام، ولكن الترجيح إنما يكون لشدة الطلب في أحدهما وزيادته على الطلب في الآخر بما لا يجوز الإخلال بها في صورة المزاحمة) فلا يرى له وجه، فان مجرد العلم بكون الوجوب المحتمل على تقدير ثبوته اهم من الحرمة المحتملة او احتمال اهميته بعينه لا يكون منجزا عقليا بالنسبة الى احتمال الوجوب، او فقل انه لا يوجب منجزية العلم الاجمالي لهذا الوجوب، كما ان قوة احتمال الوجوب مثلا ليس منجزا له عقلا.

وجوه لزوم الترجيح باحتمال الاهمية في التزاحم

ولا يقاس المقام بمرجحية احتمال اهمية احد الحكمين المتزاحمين بعينه في باب التزاحم، فان ما ذكر في وجه لزوم الترجيح باحتمال الاهمية في التزاحم احد وجوه اربعة لا يجري شيء منها في المقام:

الوجه الاول: ما ذكره المحقق النائيني والسيد الخوئي “قدهما” من أن اطلاق التكليف الذي لا يحتمل أهميته معلوم السقوط اذ لا اشكال في أن المولى لا يوجب اختياره في حال التزاحم، وأما التكليف محتمل الأهمية فحيتمل بقاء وجوبه، فتجري فيه أصالة الاطلاق بلامعارض([5]).

الوجه الثاني: ما ذكره السيد الخوئي “قده” من كون مقتضى قاعدة الاشتغال لزوم الاتيان بمحتمل الاهمية، اذ نعلم بثبوت التكليف فيه ونشك في ان الاشتغال بالواجب الآخر هل هو مسقط للتكليف في محتمل الاهمية ام لا؟ وعند الشك في سقوط التكليف يكون مقتضى قاعدة الاشتغال هو لزوم الاحتياط وعدم الاجتزاء بالاتيان بما يحتمل كونه مسقطا للتكليف([6]).

الوجه الثالث: ما يقال من أن القدر المتيقن تقييد خطاب التكليف في كل واجب بعدم صرف القدرة في امتثال التكليف الذي يعلم او يحتمل كونه اهم او يعلم بتساويه ولادليل على تقييده بأكثر من ذلك، ولا اشكال في أن بقاء اطلاق التكليف بداعي التحريك الى متعلقه بصرف المكلف عن امتثال التكليف الآخر في فرض احتمال اهمية هذا التكليف بعينه عقلائي، وعليه فلامانع من التمسك باطلاق الخطاب لإثبات وجوب محتمل الأهمية.

الوجه الرابع: ما ذكره السيد الامام “قده” من أن اطلاق خطاب التكليف في كلا المتزاحمين وان كان ثابتا في حال التزاحم وفقا لمسلك الخطابات القانونية، الا ان العقل لايعذر المكلف في ترك التكليف محتمل الأهمية.

وانت ترى أن جميع هذه الوجوه انما تجري في فرض العلم بخطاب التكليف محتمل الاهمية واين هذا من المقام مما لا نعلم الا بأنه لو كان الفعل واجبا لكان وجوبه اهم او نحتمل كون وجوبه اهم على تقدير ثبوته، لكن المفروض ان اصل ثبوت الوجوب مشكوك، نعم لو كان العلم الاجمالي مما يمكن مخالفته القطعية، وانما لا يمكن موافقته القطعية، كالعلم الاجمالي بوجوب احد ضدين لهما ثالث، مثل ما لو علم بان المولى إما امره بالقيام في هذا الآن او امره بالجلوس، فحيث يكون هذا العلم الاجمالي منجزا للتكليف في الجملة، فقد يقال بأنه بعد تعارض الاصول المؤمنة في الطرفين، يحكم العقل بتعين الاحتياط باختيار الطرف الذي كان وجوبه على تقدير ثبوته اهم او كان احتمال وجوبه اقوى، وان کان الظاهر فيه ايضا عدم حکم العقل والعقلاء بتعيّن ذلك، كما سيأتي الكلام فيه في الصورة الثانية من صور دوران الامر بين المحذورين، الا أن العلم الاجمالي في هذه الصورة الاولى كالعدم حيث لا يمكن مخالفته القطعية كما لم يكن يمكن موافقته القطعية، ولو فرض حكم العقل في هذه الصورة بتنجز الوجوب في فرض اهميته على تقدير ثبوته او فرض كون احتمال الوجوب اقوى، فلا ينبغي الاشكال في كونه حكما اقتضائيا يرفعه الاصول الشرعية المؤمنة الجارية في المقام.

هذا وقد يقال بأنه مع تساوي احتمال وجوب الفعل وحرمته وعدم اهمية احدهما بعينه على تقدير ثبوته من الآخر، يكون ثبوت الحكم الواقعي لغوا، بعد أن لم يكن له داعوية الى متعلقه، ففي مثال الحلف على فعل شيء مباح او تركه، فلو كان الحلف على اتيان الفعل، فحيث لا يعلم به تفصيلا فلا اثر لوجوب الوفاء به في هذا الفرض، اذ اثره في فرض الجهل به هو حسن الاحتياط والمفروض هنا عدم حسن الاحتياط باتيان الفعل بعد تكافؤ احتمال الحلف على فعل الشيء وتركه، لتساويهما احتمالا ومحتملا، وهذا يوجب انتفاء الحكم الواقعي، كما أنه لو كان احدهما بعينه اقوى احتمالا او محتملا، فيلغو ثبوت الحكم الآخر، فيخرج بذلك عن مورد دوران الامر بين المحذورين، ويكون الشك في ثبوت هذا الحكم الاقوى احتمالا او محتملا من الشبهة البدوية المحضة.

واصل هذا الاشكال موجود في كلام المحقق الايرواني “قده”([7]) والانصاف أنه لا دافع له على مباني المشهور كالسيد الخوئي “قده”، وان كان جوابه عندنا أن الاطلاق وكذا العموم لا تكون فيهما مؤنة زائدة عرفا على أصل الجعل، بل لا تكون مؤنة زائدة عقلا في الاطلاق على القول بانه أمر عدمي، فلو سمّى الزعيم جميع المولودين في يوم الغدير باسم علىّ، فهذا الاسم يكون لجميع المولودين فيه، وان كان يعلم بأنه سيموت فرد معين منهم، ولا يكون لتسميته أثر، اذ التسمية لم ‌تكن لخصوصه، بل قد صدرت على نحو الوضع العام، وبالجملة لايرى العقل والعقلاء مانعا من شمول الخطابات القانونية لمثل المقام مما لا يكون فيه اثر الداعوية قبل الوصول التفصيلي، كما في موارد قيام الحجة الإلزامية على خلاف الواقع، كما لو قامت الامارة على وجوب الحرام الواقعي او حرمة الواجب الواقعي، وكذا في موارد الجهل المركب وهكذا، حيث يكفي المحركية على تقدير الوصول.

هذا وأما ما ذكره صاحب الكفاية من جريان اصل الاباحة شرعا في الصورة الاولى من صور دوران الامر بين المحذورين، فلم يُعلم أنه هل اراد بذلك انكار جريان البراءة الشرعية المتمثلة في مثل حديث الرفع او الحجب، او انكار جريان استصحاب عدم الوجوب واستصحاب عدم الحرمة، والبراءة الشرعية، وسنتكلم في القول الرابع عن الاشكالات التي وُجِّهت على اجراء الاصول الشرعية المؤمِّنة في المقام فانتظر.

القول الرابع: التخيير بين الفعل والترك عقلا مع عدم جريان أي اصل شرعي مؤمِّن عن احتمال الوجوب والحرمة من أصالة الحل او البراءة او الاستصحاب

القول الرابع: التخيير بين الفعل والترك عقلا مع عدم جريان أي اصل شرعي مؤمِّن عن احتمال الوجوب والحرمة من أصالة الحل او البراءة او الاستصحاب، وهذا ما اختاره المحقق النائيني”قده”.

وقد ذكر في وجه عدم جريان أصالة الإباحة التي يتمثل دليلها في روايات الحل اولاً: انّ دليل أصالة الحل يختص بالشبهات الموضوعية ولا يعمّ الشبهات الحكمية، بينما أن مسألة دوران الامر بين المحذورين لا تختص بالشبهة الموضوعية، وتجري في الشبهات الحكمية.

وثانيا: أن دليلها لا يشمل صورة دوران الأمر بين المحذورين، فانّه يختص بما إذا كان الفعل مما يحتمل فيه الإباحة واقعا، كما هو الظاهر من قوله (عليه السّلام) “كل شي‏ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال” وليس في باب دوران الأمر بين المحذورين احتمال الإباحة في الفعل، بل ان لم يكن حراما فهو واجب.

وثالثا: إنّ جعل الإباحة الظاهرية مع العلم بجنس الإلزام غير ممكن، فانّ أصالة الإباحة بمدلولها المطابقي تنافي المعلوم بالإجمال، لأنّ مفاد أصالة الإباحة الرخصة في الفعل والترك، وذلك يناقض العلم بالإلزام، فإنه وان لم يكن لهذا العلم أثر عملي، وكان وجوده كعدمه من حيث اقتضاء التنجيز، إلّا أنّ العلم بثبوت الإلزام المولوي حاصل بالوجدان، وهذا العلم لا يجتمع مع جعل الإباحة ولو ظاهرا، فانّ الحكم الظاهري إنّما يكون في مورد الجهل بالحكم الواقعي، فمع العلم به وجدانا لا يمكن جعل حكم ظاهري يناقض بمدلوله المطابقي نفس ما تعلق العلم به.

الفرق بين أصالة الإباحة والبراءة والاستصحاب

والحاصل: أنّ بين أصالة الإباحة والبراءة والاستصحاب فرقا واضحا، فانّ مورد أصالة البراءة والاستصحاب- على ما سيأتي بيانه- إنّما يكون خصوص الوجوب المحتمل او الحرمة المحتملة، فيحتاج كل من الوجوب والحرمة إلى براءة أو استصحاب يخصّه، ولا تغني أصالة البراءة في طرف الوجوب عن أصالة البراءة في طرف الحرمة، وكذا الاستصحاب.

وأمّا وجه عدم جريان البراءة الشرعية فلأنّ مدركها قوله “رفع ما لا يعملون” والرفع فرع إمكان الوضع، وفي موارد دوران الأمر بين المحذورين لا يمكن وضع الوجوب والحرمة كليهما ظاهرا، ومع عدم إمكان الوضع لا يعقل تعلق الرفع.

وأمّا وجه عدم جريان الاستصحاب فهو أن الاستصحاب من الأصول المحرزة والتنزيلية ولا يمكن التعبد باستصحابين يعلم بمخالفة احدهما للواقع، وذلك كاستصحاب نجاسة انائين يعلم بتطهير احدهما اجمالا، فان جريان استصحاب نجاستهما مع العلم بطهارة احدهما اجمالا يعني التعبد بالعلم على خلاف العلم الوجداني، وهذا غير معقول وان لم يلزم من جريانهما الترخيص في المخالفة العملية لتكليف معلوم بالاجمال([8]).

وقد وافقه السيد الخوئي “قده” في نفي جريان أصالة الحلّ دون نفيه لجريان البراءة والاستصحاب، وانكر في البحوث جريان أصالة البراءة فقط.

والصحيح جريان جميع هذه الاصول:

أما أصالة الاباحة فنحن وان كنا نسلم باختصاصها بالشبهة الموضوعية ولكن لا مانع من جريانها في الشبهة الموضوعية في دوران الامر بين المحذورين، وما ذكره المحقق النائيني والسيد الخوئي “قدهما” من أنه يعتبر في الحكم الظاهري احتمال مطابقته مع الواقع، فكيف يتعبد باباحة الفعل في المقام مع العلم بأنه ليس بمباح جزما، بل إما واجب او حرام، ففيه اولاً: ان مفاد قاعدة الحلّ الحلية بالمعنى الاعم في قبال الحرمة، كما هو كذلك في قوله “حلال بيِّن وحرام بيِّن وشبهات بين ذلك” وهذا مما لا علم بانتفاءه في الفعل المعلوم كونه واجبا او حراما اجمالا، نعم يتوجه الاشكال حينئذ بأنها لا تؤمِّن عن احتمال الوجوب، الا أن نجري قاعدة الحل مرة آخرى في ترك هذا الفعل بناء على ما ذكره صاحب الكفاية من أن ترك مشكوك الوجوب مشمول لقاعدة الحلّ، حيث يشك في كونه حراما غيريا، لأن الامر بالشيء يقتضي حرمة ضده العام، فتكون حينئذ حليتان ظاهريتان، احدهما حلية الفعل في قبال حرمته وثانيتهما حلية الترك في قبل حرمته، وكل منهما محتمل المطابقة للواقع، وانما يعلم بمخالفة احدهما للواقع، وهذا غير مضر كما يأتي في اجراء البراءة عن الوجوب واجراء البراءة عن الحرمة او استصحاب عدم الوجوب واستصحاب عدم الحرمة.

نعم اننا ذكرنا في الاستدلال على البراءة بروايات الحلّ أنها لا تجري للتأمين عن احتمال الوجوب، فان ظاهر الشيء في قوله “كل شيء لك حلال” هو العين الخارجية التي يشك في حرمته النفسية، ولذا مثل لها في الروايات بالحبنّ الذي شك في اتخاذه من الميتة والثوب الذي شك في غصبيته والمرأة التي تزوجها الانسان وشك في كونها اختا رضاعية له، وهكذا.

وثانيا: قد مرّ منا مرارا أنه لا يعتبر في الحكم الظاهري اكثر من كونه صالحا لتنجيز الواقع المشكوك او التعذير عنه، ولا يعتبر فيه احتمال وحدة صياغته مع الحكم الواقعي، فانه لا دليل على اشتراط احتمال مطابقة الحكم الظاهري للواقع، وانما يشترط فيه أن يكون الحكم الواقعي مشكوكا ويكون الحكم الظاهري صالحا لتنجيزه أو التعذير عنه، وهذا متحقق في المقام.

نعم هذا الجواب الثاني لا يدفع الاشكال الاثباتي من أن مورد جريان قاعدة الحلّ كون الشيء مشكوك الحلّية الواقعية، فاذا فسرنا الحلّية بما يقابل الوجوب ايضا، فليس مورد دوران الامر بين المحذورين محتمل الحلّية بهذا المعنى، فالمهم هو الجواب الاول.

وأما البراءة الشرعية فالظاهر عدم مانع عن جريانها في المقام، وما يمكن ان يذكر للمنع من جريانها عدة وجوه كلها مندفعة:

وجوه عدم جريان البراءة الشرعية في المقام

1- ما مر عن المحقق النائيني “ره” من أن الرفع الظاهري انما يكون في مورد قابل للوضع الظاهري بإيجاب الاحتياط، والمفروض عدم إمكانه في المقام، فإذا لم يمكن جعل الإلزام لا يمكن رفعه أيضا، فالمورد غير قابل للتعبد الشرعي بالوضع أو الرفع.

وفيه أن بالامكان ان يوجب الشارع الاحتياط بالنسبة الى احتمال الوجوب فيجب الفعل ظاهرا، او يوجب الاحتياط بالنسبة الى احتمال الحرمة، فيحرم الفعل ظاهرا، ولدفع الاحتمال تجري البراءة عن الوجوب ولدفع الاحتمال الثاني تجري البراءة عن الحرمة.

2- ما يقال من أن الحكم الظاهري لابد له من أثر، وإلا لكان جعله لغوا، ولا فائدة في جعل حكم ظاهري في المقام، لعدم خلو المكلف من الفعل أو الترك تكوينا.

وفيه أن فائدة جعل البراءة عن الوجوب نفي احتمال جعل وجوب الاحتياط باتيان الفعل، وفائدة جعل البراءة نفي احتمال جعل وجوب الاحتياط بالترك.

3- ما ذكره المحقق العراقي “قده” في المقالات من أن جريان البراءة الشرعية موقوف على سقوط العلم الإجمالي عن المنجزية بسبب حكم العقل بالتخيير بين الفعل والترك، فلا يبقى مجال لاثبات العذر بادلة البراءة الشرعية.

وفيه أن اثر دليل البراءة الشرعية ليس هو اثبات التعذر العقلي بمناط لابدية الجامع بين الفعل والترك وعدم ترجيح احدهما على الآخر، بل اثره نفي احتمال ايجاب الاحتياط شرعا بالنحو الذي ذكرناه، ولاجل ذلك عدل “قده” عن هذا الاشكال في تعليقته على تقريرات النائيني “ره”.

4- ما في البحوث من أن جريان البراءة في المقام موقوف على القول بجريانها مرة عن احتمال الوجوب وأخرى عن احتمال الحرمة، وأما بناء على ما هو الظاهر من مثل حديث الرفع وحديث الحجب، جريان براءة واحدة عن الحكم الواقعي المشكوك، حيث ان معنى قوله “رفع ما لا يعلمون” وقوله “ما حجب الله علمه عن العباد فهو موضوع عنهم” أن الحكم الواقعي المجهول مرفوع عن الامة ظاهرا، فانه لا يمكن وضع ذلك الحكم الواقعي ظاهرا في مورد دوران الامر بين المحذورين، حتى يمكن رفعه الظاهري، فان امر الشارع بالاحتياط باتيان الفعل مثلاً في موارد دوران الامر بين المحذورين، لا يكون وضعا للحكم الواقعي في الموارد التي يكون الحكم الواقعي فيها الحرمة، وان امر بالاحتياط بترك الفعل في موارد دوران الامر بين المحذورين فلا يكون وضعا للحكم الواقعي في الموارد التي يكون الحكم الواقعي فيها الوجوب.

وفيه أنه يصح ان يقال في كل مورد من موارد دوران الامر بين المحذورين أن حكمه ان كان هو الوجوب واقعا فكان يمكنه وضعه ظاهرا بايجاب الاحتياط باتيان الفعل في جميع موارد دوران الامر بين المحذورين، كما ان حكمه لو كان هو الحرمة كان يمكنه وضعها ظاهرا بايجاب الاحتياط بترك الفعل في جميع موارد الدوران، وحيث لم يوضع ايّا منهما فيصح ان يقال أن الحكم الواقعي المشكوك مرفوع ظاهرا في مورد دوران الامر بين المحذورين، فهنا براءة واحدة في قبال وضعين، وهذا نظير أن الجمع بين وجوب القيام ووجوب القعود وان كان محالا، لكنه لا يمنع من الترخيص في تركهما.

5- ما في مباحث الاصول من أن الذي يمنع من جريان حديث الرفع في موارد الدوران بين المحذورين مشكل اثباتي وهو اختصاص حديث الرفع بمورد ترجيح الغرض الترخيصي على الغرض الالزامي لمصلحة التسهيل عند التزاحم الحفظي بينهما، ولا يوجد غرض ترخيصي في موارد الدوران بين المحذورين([9]).

وفيه انه لا دليل على اختصاص حديث الرفع بذلك، فانه كان يمكن للمولى ترجيح جانب الوجوب وايجاب الاحتياط بالفعل في جميع موارد دوران الامر بين المحذورين كما كان يمكنه ترجيح جانب الحرمة وايجاب الاحتياط بالترك في جميعها، وانما لا يمكنه الجمع بين ايجاب الاحتياطين، فيستفاد من حديث الرفع أن الشارع لمصلحة التسهيل لم يختر أيّا منهما، بل خيّر المكلف بين الفعل والترك، ولولا مصلحة التسهبل فلعله كان يضع الحرمة الواقعية ظاهرا بايجاب الاحتياط بالترك ولعله كان يضع الوجوب الواقعي ظاهرا بايجاب الاحتياط بالغعل.

6- ما ذكره المحقق الأصفهاني “قده” من أن ظاهر دليل البراءة كونه في مقام معذورية الجهل وارتفاعها بالعلم، فما كان تنجزه وعدمه من ناحية العلم والجهل كان مشمولا للغاية والمغيى، وما كان من ناحية التمكن من الامتثال وعدمه فلا ربط له بأدلة البراءة، وما نحن فيه من الثاني لعدم القصور في العلم، وانما القصور من جهة عدم التمكن من امتثال الإلزام المعلوم([10]).

وفيه أنه حتى لو كان العذر العقلي بمناط اللابدية دون عدم البيان فمع ذلك لا يوجد أي مانع في تطبيق دليل البراءة على الحكم الواقعي المجهول لنفي ايجاب الاحتياط شرعا بالنحو الذي مر آنفا.

7- ما عن بعض الاعلام “قده” من أنه بناء على ان النهي عبارة عن الزجر عن الفعل لا طلب الترك فيكون مورد الوجوب والحرمة شيئا واحدا وهو الفعل، فالجامع بين الوجوب والحرمة معلوم التعلق بالفعل، ولنسمِّه بالإلزام، فالإلزام الجامع يعلم تفصيلا بتعلقه بالفعل، وإنما الشك في خصوصية الإلزام من وجوب أو حرمة، فان أريد إجراء البراءة من خصوصية الوجوب أو الحرمة. ففيه: انه ان اريد إجراء البراءة من كل منهما باعتبار جهة الإلزام والكلفة التي فيه، فهي معلومة بالفرض، وإن أريد إجراء البراءة بملاحظة الشك في انطباق الإلزام المعلوم على الوجوب أو على الحرمة، نظير الشك في انطباق النجس المعلوم على أحد الإناءين. ففيه: ان الانطباق الواقعي على كل من الحكمين إذا لم يكن بذي أثر، فلا معنى لنفيه ورفعه بدليل البراءة مع الشك فيه، لأنه لا يمكن وضع الإلزام ظاهرا لعدم امكان الاحتياط بالنسبة اليه، وان أريد إجراء البراءة بملاحظة جامع الإلزام المعلوم المتعلق بالفعل. ففيه انه معلوم تفصيلا، مضافا الى انه مما لا يمكن جعل الاحتياط بالنسبة إليه ومما لا يتمكن من امتثاله.

وهذا البيان لا يتأتى بناء على كون النهي عبارة عن طلب الترك، لاختلاف متعلق الإلزام المعلوم، إذ الوجوب والحرمة لا يردان على شي‏ء واحد، فكل من الفعل والترك مشكوك الإلزام، فقد يقال بجريان البراءة فيه لعدم العلم بالإلزام في كل طرف([11]).

وما ذكره غريب جدا، فانا لم نفهم وجه منعه من جريان البراءة عن خصوصية الزجر من الفعل بعد أن كان اثره نفي وجوب الاحتياط بالترك، وكذلك البراءة عن البعث نحو الفعل، على ما ذكره من نكتة المنع عن جريان البراءة عن الخصوصية تجري بناءا على كون النهي طلب الترك.

8- ما قد يقال من أن حديث الرفع منصرف عن اطراف العلم الاجمالي، فان التكليف في مورد العلم الاجمالي مما يُعلم، وليس مما لا يعلم.

وفيه أن الانصراف انما هو في ما لو كان العلم الاجمالي حجة ومقتضيا للتنجيز، والعلم الاجمالي في الصورة الاولى كالعدم عرفا.

هذا كله في البراءة الشرعية، وأما الاستصحاب فلا يرى وجه للمنع عن جريانه لنفي الوجوب والحرمة في الشبهة الموضوعية، بل الحكمية، بناء على ما هو الصحيح من جريان استصحاب عدم التكليف في الشبهة الحكمية، وما ذكره المحقق النائيني “قده” من عدم معقولية جريان اصلين محرزين كالاستصحاب مع العلم بمخالفة احدهما للواقع، فمضافا الى النقض بالتزامه بجريان استصحاب الحدث والطهارة من الخبث فيما اذا توضأ بمايع مشكوك البولية والمائية، فان ما ذكره من اختلاف سنخ المستصحبين في هذا المثال لا يرفع المحذور الذي ادعاه من عدم معقولية علمين تعبديين على خلاف العلم الوجداني الاجمالي، والحلّ أنه لا وجه لدعوى عدم المعقولية بعد فهم العرف كون اعتبار العلم بغرض التنجيز والتعذير في ترتيب اثار الواقع، فكأنه قال “اعمل كأنك متيقن ببقاء نجاسة هذا الاناء واعمل كانك متيقن ببقاء بنجاسة ذلك الاناء،” مع علمه بطهارة احدهما اجمالا، واثر هذا الاستصحاب الحكم بنجاسة ملاقي احدهما، على ان مفاد دليل الاستصحاب ليس هو اعتبار العلم بالبقاء، وانما هو النهي الطريقي عن النقض العملي لليقين بالشك، وتفصيل الكلام في محله.

تنبيه

ان ما ذكرناه من التخيير بين الفعل والترك بمقتضى البراءة عن كل من وجوب افعل وحرمته، انما كان بالنظر الى العلم الثنائي الاطراف بوجوب الفعل او حرمته، ولكن قد يتعين الاحتياط بسبب علم اجمالي آخر، كما لو علمنا اجمالا بوجوب اكرام زيد او حرمته وعلمنا بوجوب اكرامه او وجوب اكرام عمرو، فانه يجب حينئذ الموافقة القطعية للعلم الاجمالي الثاني باكرام زيد وعمرو، فان العلم الدائر بين المحذورين يكون لا اقتضاء بالنسبة الى التنجيز، ولا يتزاحم مع علم اجمالي آخر له اقتضاء التنجيز، نعم لو كان علم اجمالي آخر بأنه إما يحرم اكرام زيد او يحرم اكرام بكر مثلا فيتزاحم العلمان الاجماليان بالنسبة الى اكرام زيد وعدمه فيتخيير بينهما، لكن يجب عليه عقلا اكرام عمرو وترك اكرام بكر، لمنجزية العلمين الاجمالين بالنسبة اليهما، بل يتشكل علم اجمالي بأنه إما أن يكون الواجب المعلوم بالاجمال اكرام عمرو، والا فيكون هو اكرام زيد ويكون الحرام المعلوم بالاجمال هو اكرام بكر .

هذا ولو كان العلم الاجمالي ثلاثي الاطراف بأن علم اجمالا إما بوجوب اكرام زيد او حرمته او وجوب اكرام عمرو، فهل يتنجز عليه اكرام عمرو، لتمكنه من هذا المقدار من الموافقة للعلم الاجمالي، الظاهر لا، لان العلم الاجمالي الذي لا يمكن موافقته القطعية ولا مخالفته القطعية كهذا المثال يكون عقلا وعقلاء كالعدم ولا تتعارض الاصول المؤمنة الشرعية في اطرافه.

الصورة الثانية: أن تكون الواقعة واحدة، مع فرض كون احد الحكمين المحتملين على تقدير الثبوت تعبديا

أن تكون الواقعة واحدة، مع فرض كون احد الحكمين المحتملين على تقدير الثبوت تعبديا، وتوجد لها امثلة فقهية، نذكر بعضها:

1- اليوم الذي يشك كونه آخر يوم من شهر رمضان او اول يوم من شهر شوال، حيث يعلم اجمالا بوجوب صوم ذلك اليوم بقصد القربة او بحرمة صوم ذلك اليوم ولو بدون قصد القربة، بناء على القول بالحرمة الذاتية لصوم يوم عيد الفطر، وتفسير الحرمة الذاتية بحرمة ذات الصوم ولو كان بدون قصد القربة، كما هو مختار بعض الاعلام كالسيد الصدر “قده”.

2- لو كان ماء منحصر فيه شبهة الغصبية مما لا تجري فيه أصالة الحل، فانه ان كان مباحا وجب الوضوء منه بقصد القربة، وان كان مغصوبا حرم الوضوء منه ولو بدون قصد القربة.

3- الصلاة في زمان النقاء المتخلل بين دم الحيض، بناء على الحرمة الذاتية للصلاة بغير طهارة ولو بدون قصد القربة استنادا الى موثقة مسعدة بن صدقة “ان‌ قائلا قال لجعفر بن محمد (عليه السلام) جعلت فداك إني أمرّ بقوم ناصبية وقد أقيمت لهم الصلاة وأنا على غير وضوء فإن لم أدخل معهم في الصلاة قالوا ما شاءوا أن يقولوا أ فأصلي معهم ثم أتوضأ إذا انصرفت وأصلي، فقال جعفر بن محمد (عليه السلام) سبحان الله، أ فما يخاف من يصلي من غير وضوء، أن تأخذه الأرض خسفا([12])، فان موردها الصلاة مع عدم قصد القربة.

4- الطواف في زمان النقاء المتخلل، كما لو كانت حائضا حال الاحرام فاحرمت بقصد ما في ذمتها من حج الافراد او التمتع، ثم حصل لها نقاء متخلل قبل انقضاء وقت عمرة التمتع، حيث انه لو لم يكن النقاء المتخلل حيضا كما عليه جماعة منهم بعض الاجلاء “دام ظله” كانت وظيفتها حج التمتع ووجب عليها الطواف لعمرة التمتع والتقصير مع قصد القربة، وان كان حيضا كما عليه المشهور حرم عليها الطواف ولو من دون قصد القربة، لحرمة كون الحائض في المسجد الحرام، كما حرم عليها التقصير ولو بدون قصد قربة، لكونها محرمة باحرام حج الافراد ويحرم عليها اخذ شعرها قبل يوم النحر.

وخصوصية هذه الصورة امكان المخالفة القطعية للعلم الاجمالي، وذلك بأن ياتي بذات الفعل بدون قصد القربة، فانه لو كان حراما فقد ارتكبه ولو كان واجبا تعبديا فقد ترك قصد القربة، وانما لا يمكن موافقته القطعية، وأما الصورة الاولى فلم يكن يمكن المخالفة القطعية فيها كالموافقة القطعية.

ومن هذه الصورة ما لو علم بتعلق الطلب اللزومي إما بفعل شيء بقصد القربة او بتركه بقصد القربة، فانه يمكن مخالفته القطعية إما بفعله بلا داع قربي او بتركه كذلك، ويمكن التمثيل له بالغسل الارتماسي في نهار شهر رمضان للجنب الذي لا يقدر على الغسل الترتيبي، فانه ان كان الارتماس في الماء مبطلا للصوم وجب عليه تركه بقصد القربة، وانتقلت وظيفته الى التيمم، والا وجب عليه الارتماس بقصد القربة.

فاختار صاحب الكفاية “ره” حرمة المخالفة القطعية وعدم جريان الاصل الشرعي هنا وكونه مخيرا عقلا بين الموافقتين الاحتماليتين، ما لم يكن احد الحكمين اهم او محتمل الاهمية على تقدير ثبوته.

واورد عليه المحقق العراقي “قده” بأن ما ذكره مناف لمبناه من الملازمة بين وجوب الموافقة القطعية وحرمة الموافقة القطعية، وأنه اذا اضطر المكلف الى احدى ارتكاب احد طرفي العلم الاجمالي لا بعينه جاز له ارتكاب الآخر.

وفيه أن مبناه امتناع اجتماع الاذن الشرعي في ارتكاب المشكوك مع فعلية الحكم الواقعي، فمع الاضطرار العرفي الى ارتكاب احد طرفي العلم الاجمالي لا بعينه فمقتضى “رفع ما اضطروا اليه” جواز ارتكاب احدهما تخييرا، ومعه فما ارتكبه لدفع الاضطرار فهو ماذون فيه جزما والفرد الآخر لا يعلم بكونه حراما اصلا، فلا يعلم بوجود تكليف فعلي لا تفصيلا ولا اجمالا، فيجوز ارتكاب الطرف الآخر ايضا، واين هذا من المقام حيث يكون الاضطرار الى ارتكاب الجامع بين الفعل والترك، اضطرارا عقليا، وليس الاذن في اختيار احدهما لا بعينه شرعيا، ولذا التزم صاحب الكفاية في الصورة الثانية بالتخيير العقلي فقط دون اصل الاباحة، والاذن العقلي في ارتكاب احدهما لا بعينه لا ينافي فعلية الحكم الواقعي، فتجوز عقلا مخالفته بالمقدار المضطر اليه لا اكثر.

وبهذا نجيب ايضا عما ذكره في البحوث من أنه على مسلك المحقق العراقي “ره” في الاضطرار الى احد طرفي العلم الاجمالي لا بعينه من أنه لا يمكن الترخيص في ارتكاب احدهما مع بقاء اطلاق الحرمة الواقعية لعلية العلم الاجمالي بالنسبة الى وجوب موافقته القطعية، وعليه فالترخيص في ارتكاب احد الاطراف تخييرا انما هو بتقييد اطلاق حرمة الحرام الواقعي بأن تكون حرمته مشروطة بما اذا ارتكب الطرف الآخر، وحرمة المخالفة القطعية حينئذ تكون بنكتة العلم الاجمالي بحرمة مشروطة في احد الطرفين، وهذا لا يتصور في المقام، فانه كيف يمكن اشتراط ايجاب الفعل بقصد القربة بارتكاب محتمل الحرمة وهو نفس هذا الفعل، فانه مع فرض الفعل في المرتبة السابقة يستحيل محركية داعي القربة، وهذا يعني العلم التفصيلي بسقوط وجوب الفعل بقصد القربة، لأن بقاءه مطلقا ينافي الترخيص التخييري، وبقاءه مشروطا غير معقول، فتجري البراءة عن حرمة الفعل لكونه شكّا في أصل التكليف، نعم لو كان كل من الحكمين على تقدير الثبوت تعبديا بان علمنا اجمالا إما بطلب فعل شيء بقصد القربة او طلب تركه بقصد القربة لم يتوجه هذا الاشكال لان فرض مخالفة الحكم الثاني المحتمل وهو لزوم الترك القربي ليس مساوقا لفرض وجود الفعل، وعليه فلا يختص هذا الاشكال بصاحب الكفاية([13]).

فان ما ذكره المحقق العراقي هناك كان نتيجة ذهابه وفق مسلك العلية الى امتناع الترخيص في ترك الموافقة القطعية للعلم الاجمالي، فاضطر الى الالتزام بالتكليف المشروط، وأما في المقام فليس عدم وجوب الموافقة القطعية الا لعدم التمكن منها تكوينا فلا يؤثر فيه القول بمسلك عليّة وجوب الموافقة القطعية، وأما ما قد يخطر بالبال من الجواب عن الاشكال بأن الالتزام بالامر بالفعل بقصد القربة مشروطا بارتكابه، لما كان لدفع المحذور العقلي المختص بالامر والطلب، دون حبّ المولى، فحبّه للفعل على تقدير ثبوته مطلق، ويمكن تمشي قصد القربة منه، ففيه أنه اذا يلغو الامر المشروط بالفعل، حيث انه ان كان حب المولى كافيا في تحريك العبد فهو والا فهذا الامر لا يصلح لتحريكه.

ثم انه اذا لم يكن الحكم التعبدي المحتمل اقوى احتمالا او محتملا من الحكم الآخر فقد يقال بأنه يستحيل تمشي الداعي القربي نحو الفعل، لعدم وجود مرجح إلهي يحرِّك المكلف نحو اختيار الفعل، فيكون الاتيان به بداع قربي غير مقدور، فيسقط الوجوب واقعا بملاك العجز عن متعلقه ايضا، وحينئذ يخرج المورد عن فرض العلم الاجمالي بوجوب شيء او حرمته.

والصحيح أن نقول: ان الغرض من جعل الحكم هو المحركية على تقدير الوصول، فيكفي فيه القدرة على الامتثال في فرض الوصول، ولذا لا موجب للالتزام بسقوط الوجوب التعبدي، الا أن المهم اضطراره الى ترك امتثاله في المقام، فيكون من قبيل الاضطرار الى احد اطراف العلم الاجمالي بعينه حيث لا يكون العلم الاجمالي منجزا، حتى ان قلنا بأن القدرة شرط التنجز لا التكليف.

وقد يجاب عن اصل الاشكال بما حكي عن السيد الصدر “قده” من أنه يوجد وجهان لامكان قصد القربة في المقام:

1- انه يوجد في المقام داعيان إلهيان متصوران أحدهما احتمال الوجوب الداعي إلى الفعل والآخر احتمال الحرمة الداعي إلى الترك فإذا فرضنا ان كلا من الداعيين علة تامة في نفسه لتحريك المكلف لكنه مبتلى بالمزاحمة بمثله، احتاج المكلف الى تحصيل داع نفساني لترجيح الفعل على الترك، ولكنه غير ضائر، لكفاية هذا المقدار في قصد القربة المعتبر في العبادات لأن أصل الداعي القربي لما كان حاصلا غاية الأمر تزاحم بداع قربي آخر مثله فلا يضرّ بالقربية لأن جهة النقص فيها انما نشأت من المزاحمة بداع قربي لا بداع دنيوي، فلايقاس بموارد المزاحمة مع داع آخر دنيوي يحرك نحو ضده وفرض ترجيح فعله بداع آخر دنيوي.

2- انه حيث يمكن المخالفة القطعية في الصورة الثانية، فصدور كل من الفعل والترك من المكلف بداعي ترك المخالفة القطعية كاف في القربية اللازمة لتحقق الغرض الشرعي من الفعل أو الترك إذا كان الأمر به قربيا لأن الدليل على اشتراط قصد القربة ليس لفظيا بل مثل الإجماع ونحوه وهو لا يقتضي أكثر من هذا المقدار([14]).

فانه يرد على ما ذكره في الوجه الاول ان المستفاد من النصوص مثل قوله تعالى: اتمّوا الحج والعمرة لله، او ما ورد في الصدقة والعتق من انه “لاصدقة ولا عتق الا ما اريد به وجه الله” والارتكاز المتشرعي في الصلاة والصوم يقتضي لزوم اتيانهما لله، وأنها لا تختلف عن الحج والصدقة والعتق، كون قصد القربة بمعنى اتيان العمل لله، (لا مجرد اقتران العمل بحالة معنوية وهي أن يحصل للمكلف داعٍ إلهي نحو جامع الموافقتين الاحتماليتين، وهما فعل الشيء او تركه، بحيث لو لم يكن مضطرا تكوينا الى الجامع بين الفعل والترك لحرّكه هذا الداعي القربي نحو اختيار هذا الجامع) ولا يصدق اتيان العمل لله الا مع وجود مرجح إلهي يدعو نحو اختيار الفعل على الترك، والمفروض فقدانه في المقام، الا اذا فرض انطباق عنوان آخر قربي على الفعل، كاجابة دعوة المؤمن، لكنه خلف الفرض، فلا يقاس المقام بمثال التزاحم بين واجبين تعبديين متساويين، فان اختيار فعل احدهما المعين على تركه يكون بالمحرك الإلهي نحو الجامع بينهما، بعد أن كان بامكانه ترك كليهما، او فقل ان المحرك الإلهي يحرك المكلف نحو اختيار فعل هذا المزاحم المساوي في حال تركه للمزاحم الآخر، بينما أن الظاهر من اتيان العمل لله هو أن يكون اختيار الفعل على الترك بمحرِّك إلهي، فلا يمكن تحققه في المقام.

وأما ما ذكره من امكان قصد القربة بداعي الفرار من المخالفة القطعية، وأن الدليل على اشتراط قصد القربة ليس لفظيا، بل مثل الإجماع ونحوه، وهو لا يقتضي أكثر من هذا المقدار ففيه أنه تبيّن أن ما ذكره من انحصار الدليل على اشتراط قصد القربة بالاجماع ونحوه ممنوع، بل المستفاد من النصوص لزوم الاتيان بالعمل لله، ويلزم في صدق اتيان العمل لله أن يكون ترجيح الفعل على الترك بداعي الهي، وفي المقام لايمكن ذلك.

وأما ما ذكره من امكان قصد القربة بداعي الفرار من المخالفة القطعية ففيه أن المقصود من قصد القربة ما يكون محرّكا نحو ذات العمل، فانه لايعقل داعوية قصد القربة الى العمل بقصد القربة، فلايمكن اتيان الجامع بين الترك والفعل بقصد القربة بقصد القربة أي بداعي الفرار من المخالفة القطعية.

 



[1] – كفاية الاصول ص439

[2] – کفاية الاصول ص 355

[3] – فوائد الاصول ج 3ص 448

[4] – مقالات الاصول ج2ص83

[5] اجود التقريرات ج1ص279، محاضرات في اصول الفقه ج3ص278

[6] – محاضرات في اصول الفقه ج3ص275

[7] – الاصول في علم الاصول ج2 ص 317

[8] – فوائد الاصول ج3ص 445

[9] – مباحث الاصول ج3 ص 598

[10] – نهایة الدراية ج4 ص 218

[11] – منتقى الاصول ج 5ص24

[12] – وسائل الشيعة ج‌1 ص 367

[13] – بحوث في علم الاصول ج 5ص 160

[14] – بحوث في علم الاصول ج 5ص162