القول الثاني: تفصيل الشيخ الاعظم “قده” بين الشك في المقتضي والشك في الرافع. 2
في وجه التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع. 2
الوجه الاول: ما ذكره الشيخ الاعظم “ره” بعبارتين.. 2
المراد بالنقض فی کلام الشیخ ره 4
الجواب عن الوجه المذكور في كلام الشيخ الاعظم. 7
الوجه الثاني: النقض يتعلق باليقين بما هو مقتضٍ للجري العملي وفق المتيقن.. 20
لااقتضاء لليقين للجري العملي فی كثير من الامور التكوينية. 21
الوجه الثالث: النقض يرجع إلى رفع الهيئة الاتصالية و تشتيت الاجتماع الحاصل للأجزاء. 22
مقتضى النهي عن النقض اختصاص الاستصحاب بمورد الشك في الرافع. 24
مختار: المنع من تعلق النقض باليقين في باب الاستصحاب، و أنه یتعلق بالمتيقن.. 26
المجعول في باب الاستصحاب هو المتيقن لا اليقين.. 26
الوجه الرابع: ما ذكره المحقق الهمداني.. 28
الوجه الخامس: ما ذكره المحقق الهمداني ایضا 30
مختار: جریان الاستصحاب فی الشک فی المقتضی و الرافع. 32
القول الثاني: تفصيل الشيخ الاعظم “قده” بين الشك في المقتضي والشك في الرافع
في وجه التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع
فقد ذكر لذلك عدة وجوه:
الوجه الاول: ما ذكره الشيخ الاعظم “ره” بعبارتين
ما ذكره الشيخ الاعظم “ره” بعبارتين مختلفتين:
1- ما ذكره في موضع من بحثه من أن النقض رفع الامر المستمر في نفسه، وقطع الشيء المتصل كذلك، فلابد أن يكون متعلقه ما يكون له استمرار واتصال، وليس متعلقه نفس اليقين، لانتقاضه بغير اختيار المكلف، فلا يقع في حيِّز التحريم، ولا أحكام اليقين من حيث هو وصف من الأوصاف، لارتفاعها بارتفاعه قطعا، بل المراد به بدلالة الاقتضاء احكام المتيقن، لأن نقض اليقين بعد ارتفاعه لا يعقل له معنى سوى ذلك، وحينئذ لابد أن يكون أحكام المتيقن كنفسه مما يكون مستمرا لولا الناقض([1]).
2- ما ذكره في موضع آخر من أن حقيقة النقض هو رفع الهيئة الاتصالية كما في نقض الحبل، والأقرب اليه على تقدير مجازيته هو رفع الامر الثابت -لولا الرافع- وقد يطلق على مطلق رفع اليد عن الشيء و لو لعدم المقتضي له بعد أن كان آخذا به، فالمراد من النقض عدم الاسترار عليه والبناء على عدمه بعد وجوده.
اذا عرفت ذلك فالامر يدور بين أن يراد بالنقض مطلق ترك العمل وترتيب الأثر وهو المعنى الثالث، ويبقى المنقوض عاما لكل يقين، وبين أن يراد من النقض ظاهره وهو المعنى الثاني، فيختص متعلقه بما من شأنه الاستمرار.
و لا يخفى رجحان هذا على الاول، لأن الفعل الخاص يصير مخصصا لمتعلقه العام كما في قول القائل “لا تضرب أحدا” فإن الضرب -الظاهر في الضرب المؤلم- قرينة على اختصاص العام بالأحياء، و لا يكون عمومه للأموات قرينة على إرادة مطلق الضرب.
ثم لا يتوهم الاحتياج حينئذ الى تصرف في اليقين بارادة المتيقن منه، لأن هذا التصرف لازم على كل حال، فإن النقض الاختياري القابل لورود النهي عليه لا يتعلق بنفس اليقين على كل تقدير بل المراد نقض ما كان على يقين منه و هو الطهارة السابقة أو أحكام اليقين.
والمراد من احكام اليقين ليس آثار نفس وصف اليقين إذ لو فرضنا حكما شرعيا محمولا على نفس صفة اليقين ارتفع بالشك قطعا كمن نذر فعلا في مدة اليقين بحياة زيد، بل المراد أحكام المتيقن لئلا يكون اليقين مثبتا لها، و هذه الأحكام كنفس المتيقن أيضا لها استمرار شأني لا يرتفع إلا بالرافع فإن جواز الدخول في الصلاة بالطهارة أمر مستقر إلى أن يحدث ناقضها.
وكيف كان فالمراد إما نقض المتيقن والمراد بالنقض رفع اليد عن مقتضاه وإما نقض احكام اليقين اي الثابتة للمتيقن من جهة اليقين به والمراد حينئذ رفع اليد عنها.
ثم قال: قد يدعى وجود قرينة على ارادة المعنى الاعم من النقض و هو رفع اليد عن العمل بشيء، بحيث يشمل الشك في المقتضي، و هذه القرينة هي مثل قوله في الصحيحة الثالثة لزرارة “بل ينقض الشك باليقين” وقوله “ولا يعتد بالشك في حال من الحالات” و قوله في رواية الحسن بن راشد “من كان على يقين فشك فليمض على يقينه فإن اليقين لا يدفع بالشك” وقوله في موثقة اسحاق بن عمار “إذا شككت فابن علي اليقين” فإن المستفاد منها أن المراد بعدم النقض عدم الاعتناء بالاحتمال المخالف لليقين السابق نظير قوله “اليقين لا يدخله الشك، صم للرؤية و أفطر للرؤية” فإن مورده استصحاب بقاء رمضان و الشك فيه ليس شكا في الرافع.
ولكن الإنصاف أن شيئا من ذلك لا يصلح لصرف لفظ النقض عن ظاهره، لأن قوله “بل ينقض الشك باليقين” معناه رفع الشك، لأن الشك مما إذا حصل لا يرتفع إلا برافع، وأما قوله “من كان على يقين فشك” فقد عرفت أنه كقوله “إذا شككت فابن على اليقين” غير ظاهر في الاستصحاب، مضافا الى إمكان أن يجعل قوله “فإن اليقين لا ينقض بالشك” أو “لا يدفع بالشك” قرينة على اختصاص صدر الرواية بموارد النقض، مع أن الظاهر من المضي الجري على مقتضى الداعي السابق و عدم التوقف إلا لمانع، نظير قوله “إذا كثر عليك السهو فامض على صلاتك”، فهو أيضا مختص بما ذكرنا، وأما قوله “اليقين لا يدخله الشك صم للرؤية وأفطر للرؤية” فتفريع “أفطر للرؤية” عليه من جهة استصحاب الاشتغال بصوم رمضان إلى أن يحصل الرافع.
وقد ذكر أن اختصاص الروايات الخاصة كصحيحة عبد الله بن سنان بالشك في الرافع واضح([2]).
الفرق بين العبارتين
والفرق بين العبارتين أنه في العبارة الأولى لم يدع استعمال كلمة اليقين في المعنى المجازي، وانما ادعى أن معنى النقض رفع الامر المستمر لولا الرافع، وحيث يلزم حمل اليقين على المتيقن على اي حال فيختص بقرينة تعلق النهي عن النقض به بما كان له اقتضاء البقاء.
بينما أنه في العبارة الثانية ذكر أنه لابد من حمل كلمة النقض على المعنى المجازي وهو رفع الامر الثابت، وحينئذ يقع الكلام في وجه تعذر حمل كلمة النقض على معناها الحقيقي، وليس وجهه هو عدم امكان النهي عن نقض اليقين، لخروج نقضه عن اختيار المكلف عادة، فانه صرح بأنه يوجب حمل كلمة اليقين على المتيقن على اي حال، وما يذكر في وجهه عدة امور:
المراد بالنقض فی کلام الشیخ ره
1- ما نقله المحقق الآشتياني “ره” عن مجلس بحث الشيخ من أنّه قال: النقض بحسب الحقيقة عبارة عن قطع الشيء المتّصل و رفع الهيئة الاتّصاليّة مع بقاء المادّة بحالها فلا يطلق حقيقة إلّا على هذا، فاستعماله في رفع مطلق الأمر الثّابت لا يكون على حقيقة، ولو قلنا بكون النّقض حقيقة في رفع الأمر الثابت لكان استعمال النقض في المقام أي الشك في الرافع حقيقة لا مجازا([3]).
والانصاف عدم تمامية هذا الوجه، لشهادة الوجدان بعدم مجازية الاخبار بانتقاض اليقين في مورد الشك الساري، فانه لا يصح سلب النقض عنه بالوجدان، نعم قد يكون الاصل في النقض في ما تبقى مادته، لكن الكلام في الظهور الفعلي.
2- ما نسبه السيد اليزدي “ره” في حاشيته على الرسائل الى الشيخ من أنه قال: ان المعنى الحقيقي للنقض مختص بالامور المحسوسة كما في نقض الغزل او الحبل، فاستعماله في الامر غير المحسوس يكون مجازيا ولو كان في مورد الشك في الرافع([4]).
وهذا الوجه ايضا غير متجه، لوجدانية عدم صحة سلب النقض في التعبير بنقض البيعة والعقد واليمين، فقد قال تعالى “ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها” وكذا الاخبار عن انتقاض اليقين.
3- ما ذكره في البحوث وفاقا للمحقق الايرواني في تفسير كلام الشيخ من أن النقض حقيقة في رفع الهيئة الاتصالية ولا يوجد هيئة اتصالية حقيقة بين المتيقن والمشكوك حتى في مورد الشك في الرافع، حيث ان اليقين تعلق بالحدوث والشك بالبقاء، فيختلف عن رفع الهيئة الانصالية في عالم التكوين، كنقض الحبل او في عالم الاعتبار كنقض الطهارة بالحدث.
نعم يوجد مصحح للاستعمال المجازي لكلمة النقض في موارد الشك في الرافع، بادعاء أن ما له مقتضي البقاء فكأنه باقٍ، فتحققت بالعناية هيئة اتصالية بين حدوث الطهارة في زمان اليقين وبقاءها العنائي في زمان الشك، فيتعلق النهي بنقض هذه الهيئة الاتصالية، ولا يوجد هذا المصحح للاستعمال المجازي في موارد الشك في المقتضي([5]).
ويبعِّده أنه لو أخبر شخص بأن يقينه قد انتقض بالشك فبشهادة الوجدان يكون استعمال النقض فيه حقيقيا، وهذا في مورد قاعدة اليقين واضح، نعم توجد عناية في مورد الاستصحاب وهو الغاء حيث الحدوث والبقاء عن متعلق اليقين والشك، ولولا ذلك لم يصدق انتقاض اليقين لعدم تعلقه من الاول الا بالحدوث، لكنه بحث آخر، ولا يوجد فرق من هذه الجهة بين موارد الشك في المقتضي والشك في الرافع.
4- ما عن بعض الاعلام “قده” في المنتقى من أن المعنى الحقيقي للنقض هو تشتيت اجزاء شيء واحد، كنقض الدار اذا شتت اجزاءها، ونقض الحبل كذلك، وحيث ان اليقين او المتيقن كالطهارة ليس له اجزاء، فيكون استعماله في خطاب الاستصحاب مجازيا بعناية ان اليقين او المتيقن ذا اجزاء بلحاظ الحدوث والبقاء([6]).
والانصاف عدم احساس عناية في التعبير بنقض العهد واليمين والبيعة و نحو ذلك.
5- ما يخطر بالبال من أنه بعد ما يدعى من لزوم حمل اليقين على المتيقن، كالوضوء، فنقضه الحقيقي هو اعدامه واقعا، ومن الواضح أن المقصود من النهي عن نقضه بالشك ليس ذلك، وانما هو النهي عن رفع اليد عن العمل بمقتضاه، فيكون استعمالا مجازيا، نعم لو حمل لفظ اليقين على معناه الحقيقي كما لو لم يكن في حيز النهي، بأن أخبر شخص بأن يقينه قد انتقض بالشك كان النقض مستعملا في معناه الحقيقي، كما تقدم توضيحه.
الجواب عن الوجه المذكور في كلام الشيخ الاعظم
الجواب الاول: عدة نقوض علی قول الشیخ ره فی کلام محقق الخویی
الجواب الاول: ما اورده السيد الخوئي “قده” من عدة نقوض:
منها: استصحاب عدم نسخ الحكم الشرعي، فان الشيخ قائل به، بل ادعي عليه الإجماع حتى من المنكرين لحجية الاستصحاب، بل هو من ضرورة الدين على ما ذكره المحدث الأسترآبادي، مع أن الشك فيه من قبيل الشك في المقتضي، لأنه لم يحرز فيه من الأول جعل الحكم مستمراً أو محدوداً إلى غاية، فان النسخ في الحقيقة انتهاء أمد الحكم، و إلا لزم البداء المستحيل في حقه تعالى.
و منها: الاستصحاب في الموضوعات، فانه قائل به مع تفصيله بين الشك في المقتضي و الشك في الرافع كما ذكره في أول تنبيهات الاستصحاب، و مثَّل للشك في الرافع بالشك في كون الحدث أكبر أو أصغر، ثم الوضوء بعده، فيجري استصحاب الحدث. و مثَّل للشك في المقتضي بالشك في كون حيوان من جنس الحيوان الفلاني الّذي يعيش خمسين سنة أو من جنس الحيوان الفلاني الّذي يموت بعد ثلاثة أيام مثلا، مع أنه يلزم من تفصيله عدم حجية الاستصحاب في الموضوعات، كحياة زيد و عدالة عمرو مثلاً، فان إحراز استعداد أفراد الموضوعات الخارجية مما لا سبيل لنا إليه، و ان أخذ مقدار استعداد الموضوع المشكوك بقاؤه من استعداد الجنس البعيد أو القريب، فتكون أنواعه مختلفة الاستعداد، و كيف يمكن إحراز مقدار استعداد الإنسان من استعداد الجسم المطلق أو الحيوان مثلاً؟، و إن أخذ من الصنف فأفراده مختلفة باعتبار الأمزجة و الأمكنة و سائر جهات الاختلاف، فيلزم الهرج و المرج.
و منها: استصحاب عدم الغاية و لو من جهة الشبهة الموضوعية، كما إذا شك في ظهور هلال شوال أو في طلوع الشمس، فان الشك فيه من قبيل الشك في المقتضي، لأن الشك في ظهور هلال شوال في الحقيقة شكٌّ في أن شهر رمضان كان تسعة و عشرين يوماً أو لا، فلم يحرز المقتضي من أول الأمر، و كذا الشك في طلوع الشمس شك في أن ما بين الطلوعين ساعة و نصف حتى تنقضي بنفسها أو أكثر، فلم يحرز المقتضي، مع أن الشيخ قائل بجريان الاستصحاب فيه، بل الاستصحاب مع الشك في هلال شوال منصوص بناءً على دلالة قوله “صُم للرؤية و أفطر للرؤية” على الاستصحاب([7]).
مناقشه: شرائط جریان استصحاب عدم نسخ الحكم الشرعي
اقول: أما النقض الاول فانما يتم مع توفر ثلاثة امور في النسخ الشرعي: احدها: فرض الاستناد في استصحاب عدم النسخ الى الروايات دون السيرة العقلائية، و هذا قابل للنقاش، وثانيها: الالتزام بكون النسخ الشرعي كاشفا جزما او احتمالا عن ضيق الجعل الشرعي، وثالثها: عدم استظهار كون غاية الحكم الشرعي عدم نسخه، و الا فيكون الشك في نسخه من قبيل الشك في الرافع.
الشك في بقاء العدالة يكون من الشك في الرافع عرفا
و أما النقض الثاني ففيه أن الشك في بقاء العدالة يكون من الشك في الرافع عرفا، لأنها مقتضية للبقاء، ولا تنقضي بانقضاء الزمان عرفا، و كذلك الحياة فيما لا يحتمل استناد الموت الى انتهاء قابلية الشخص للبقاء، بل يكون موته المحتمل مستندا الى عروض عارض ولو كان تأثيره فيه لأجل ضعفه.
و أما النقض الثالث ففيه ان الشك في بقاء شهر رمضان يكون ناشئا عن احتمال دخول شهر شول و ثبوت هلاله و يكون ذلك من الشك في الرافع و كذا الشك في طلوع الشمس.
الجواب الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية: أن اسناد النقض الى نفس اليقين، لا المتيقن
الجواب الثاني: ما ذكره صاحب الكفاية “قده” ومحصله أن اسناد النقض الى نفس اليقين، لا المتيقن، ويشهد على ذلك، أنه لو كان اسناد النقض بلحاظ وجود المقتضي في متعلق اليقين للبقاء، لزم منه أن يصحّ اسناد النقض إلى نفس ما فيه المقتضي للبقاء، فيصح أن يقال “نقضت الحجر من مكانه” (اذا كان الحجر موجودا في مكان فرفعه) مع أنه ركيك، كما لزم منه أن لا يصح أن يقال “انتقض اليقين باشتعال السراج” فيما إذا شك في بقاءه للشك في استعداده للبقاء، مع بداهة صحته و حسنه، و بالجملة لايكاد يشك في أن اليقين كالبيعة و العهد إنما يكون حسن إسناد النقض إليه بملاحظة ما يتصور فيه من الابرام والاستحكام، بخلاف الظن، فإنه يظن أنه ليس فيه إبرام و استحكام و إن كان متعلقا بما فيه اقتضاء البقاء، فلا موجب لحمل اليقين على ارادة المتيقن.
إن قلت: حيث لم ينتقض اليقين في باب الاستصحاب حقيقة، لتعلقه الحدوث، فلو لم يكن هناك اقتضاء البقاء في المتيقن لما صح إسناد الانتقاض إلى اليقين بوجهٍٍ، ولو مجازا، وأما لو كان هناك اقتضاء البقاء في المتيقن، فيصح اسناد النقض الى اليقين مجازا، فإن اليقين معه كأنه تعلق بأمر مستمر مستحكم قد انحلّ بسبب الشك فيه من جهة الشك في رافعه.
قلت: الظاهر أن وجه إسناد النقض الى اليقين هو لحاظ اتحاد متعلقي اليقين و الشك ذاتا، و عدم ملاحظة تعددهما زمانا و هو كافٍ عرفا في صحة إسناد النقض إليه و استعارته له بلا تفاوت في ذلك أصلا في نظر أهل العرف بين ما كان هناك اقتضاء في المتيقن للبقاء، و ما لم يكن، و كونه مع المقتضي أقرب بالانتقاض و أشبه لا يقتضي تعيينه، لأجل قاعدة “إذا تعذرت الحقيقة فاقرب المجازات اولى” فإن الاعتبار في الأقربية إنما هو بنظر العرف لا الاعتبار، و قد عرفت عدم التفاوت بحسب نظر أهل العرف.
وما ذكره الشيخ من لزوم حمل كلمة اليقين على كون المراد بها المتيقن، لخروج نقض اليقين عن اختيار المكلف يرد عليه أن المراد من النهي عن نقض اليقين هو النهي عن النقض العملي، وما هو خارج عن اختيار المكلف انما هو نقضه الحقيقي، الحمل على النقض العملي مما لابد منه، حتى لو اريد باليقين المتيقن، لخروج نقضه الحقيقي عن اختيار المكلف، فلا يكون حمل كلمة اليقين على المتيقن موجبا لبقاء كلمة النقض على معناها الحقيقي.
ودعوى أن النهي عن النقض العملي لايكاد يراد بالنسبة إلى اليقين و آثاره لمنافاته مع مورد الروايات حيث يكون النقض العملي بلحاظ المتيقن و آثاره مندفعة، حيث ان الظاهر عرفا في مثل قضية “لا تنقض اليقين” أنها كناية عن لزوم البناء و العمل بالتزام حكم مماثل للمتيقن تعبدا إذا كان حكما، و لحكمه إذا كان موضوعا، لا عبارة عن لزوم العمل بآثار نفس اليقين بالالتزام بحكم مماثل لحكمه شرعا، و ذلك لسراية الآلية و المرآتية من اليقين الخارجي إلى مفهومه، فيكون ملحوظا بالنظر الآلي، دون النظر الاستقلالي، فيؤخذ في موضوع الحكم في مقام بيان حكم ذلك الموضوع مع عدم دخله فيه أصلا([8]).
مناقشات
ويورد عليه اولا: انه لا يصدق انتقاض اليقين الا فيما كان متعلقا بما يكون مقتضيا للبقاء، فلو كان السراج مقتضيا للاشتعال الى ساعة وتيقن باشتعاله ساعة، فلا يصح أن يقول انتقض يقيني باشتعال السراج، وهكذا لو تيقن بزوجية منقطعة الى سنة فبعد مضي السنة لا يصح أن يقول انتقض يقيني بالزوجية بالشك او باليقين بعدمها بعد ذلك.
وثانيا: ان ما ذكره من أن اسناد النقض الى اليقين لما يتخيل فيه من ابرام واستحكام بخلاف الظن، فهو خلاف ما ورد في الصحيحة الثالثة لزرارة من قوله “ولكن ينقض الشك باليقين”، كما يعبر بنقض الشبهة مع أن الشبهة واهية وليست بمبرمة، ولم يؤخذ في موضوع النقض كونه مبرما ومستحكما، فاذا تفرق جماعة مجتمعون، فيقال انتقض صفهم، وان لم يكن اجتماعهم مشتملا على الابرام والاستحكام، ولذا يتوارد الابرام والنقض على محل قابل لهما فيقال ابرم العقدة كما يقال نقضها، وهذا يعني عدم اخذ الابرام في متعلق النقض.
وثالثا: ان ما ذكره من لزوم حمل النقض على النقض العملي على اي حال فهو مما يعترف به الشيخ، حيث صرح بأن المراد من نقض اليقين او المتيقن رفع اليد عن العمل بمقتضاه، وهو لم يذكر في كلامه أنه حيث لا يمكن النهي عن النقض الحقيقي لليقين فلابد من حمل البقبن على المتيقن، وانما ذكر أنه حيث أن نقضه خارج عن اختيار المكلف فلابد من حمل اليقين على المتيقن، فلعله يريد أن يقول ان اليقين حيث يكون مرتفعا وجدانا فلا يوجد مجال لنقضه ولو عملا حتى يتعلق به النهي بخلاف المتيقن حيث يحتمل وجوده فيصح النهي عن نقضه عملا.
ورابعا: ان ما ذكره أخيرا من كون مرآتية واقع اليقين تسري الى مفهوم اليقين، والمتكلم الذي تكلم بلفظ اليقين يجعله مرآة الى المتيقن، فانه -مضافا الى أنه ينتج خلف مبناه من كون مصحح اسناد النقض الى اليقين نفسه لا المتيقن، فانه لا يجتمع مع دعوى أن المتكلم حينما تلفظ بلفظ اليقين تصور المتيقن- قياس مع الفارق، فان واقع اليقين يعنى الصورة الذهنية الموجودة في ذهن المتيقن متحدة بالنظر التصوري مع الخارج اتحاد العنوان ومعنونه، اي يراها العرف عين الخارج، نظير المفاهيم التصورية مثل شريك الباري، حيث يتصور الذهن هذا المفهوم ويراه بالحمل الاولي عين الخارج، فيحكم عليه بالامتناع، بينما أنه بالحمل الشايع كيف نفساني ممكن الوجود، واين هذا من مفهوم اليقين فانه كيف يرى عين المتيقن مع عدم كون نسبته اليه نسبة العنوان الى المعنون، وكيف يجتمع ذلك مع اضافة اليقين الى المتيقن في قوله “انه على يقين من وضوءه” وقوله “انك كنت على يقين من طهارتك” فانه لا يعقل أن يراد من اليقين المتيقن ايضا ثم يضاف الى نفسه، كما أنه خلاف ظاهر سياق قوله “ولكن ينقضه بيقين آخر”، فانه لا اشكال في كون اليقين الآخر بمعنى نفس اليقين دون المتيقن، فارادة المتيقن من اليقين الاول خلاف وحدة السياق.
کلام المحقق العراقي
واغرب من كلام صاحب الكفاية ما ذكره المحقق العراقي “قده” دفاعا عنه من أن اليقين اذا لوحظ فانيا في المتيقن فيسري لون اليقين من ابرام واستحكام الى المتيقن فيُرى المتيقن مبرما ومستحكما، فان لون الفاني قد يسري الى المفني فيه، كما أن الزجاج المحيط بضوء السراج يلحظ فانيا في الضوء، ولكن الضوء يكتسب لون الزجاج من بياض او حمرة او نحو ذلك([9]).
فان كلامه لا يخلو عن غرابة، فانه اذا لوحظ شيء فانيا في شيء آخر ومتحدا معه تصورا كيف يكتسب المفني فيه لون الفاني، فانه امر غريب. ولا يصح قياسه بما يكون من الالتباس في الرؤية في التكوين، كمثال الزجاج.
نعم يمكن أن يكون مقصود صاحب الكفاية ما صرح به في حاشية الرسائل من كون النهي عن نقض اليقين كناية عن النهي عن نقض المتيقن([10])، فانه غير لحاظ لفظ اليقين مرآة الى المتيقن، بل يكون الملحوظ الاستعمالي نفس اليقين، وبهذا يرتفع الايراد الأخير، لكن يرد عليه أن الكناية خلاف الظاهر ولا يصار اليها الا بقرينة.
الجواب الثالث: ما في البحوث
الجواب الثالث: ما في البحوث من أن كلام الشيخ الاعظم “ره” كان مشتملا على مقدمتين:
اوليهما: ان اليقين حيث انتقض حقيقة فلا يعقل النهي عنه فلابد ان يراد من اليقين المتيقن.
ثانيتهما: أن النقض هو الرفع الهیئة الاتصالیة، فاذا لم يوجد المقتضي للبقاء في المتيقن، فلا توجد هيئة اتصالية بين الحدوث والبقاء ولو مجازا، فلا يصح استعمال النقض فيه، بخلاف موارد احراز وجود المقتضي للبقاء في المتيقن، حيث ان العرف ولو بعنايةٍ يرى بقاءً تقديريا له ويرى عدم ترتيب آثار البقاء نقضا للهيئة الاتصالية بين حدوث المتيقن وبقاءه التقديري.
مناقشه
ولكن في كلتا المقدمتين اشكال:
أما المقدمة الأولى فهي خلاف الظاهر، وذلك لأن ما يقال في وجهها قابل للنقاش:
منها: ما يقال من أن متعلق النهي لابد من أن يكون مقدورا ونقض اليقين بما هو يقين غير مقدور، و انما المقدور نقض المتيقن، وقد أجاب عنه في الكفاية بأن المراد منه على اي حالٍ النقض العملي، والا فالنقض الحقيقي للمتيقن كالطهارة لو كان مقدورا مع ذلك ليس المراد النهي عنه.
ومنها: ما يقال من أن النقض لو كان مسندا إلى اليقين لزم أن يكون المقصود ترتيب الاحكام الشرعية المترتبة على نفس اليقين، أي ترتيب آثار القطع الموضوعي فقط، مع أنه خلاف مساق روايات الاستصحاب، فلابد و أن يراد منه المتيقن.
والجواب أن رفع اليد عن آثار المتيقن رفع اليد عن اثر محركية اليقين نحو المتيقن و منجزيته ومعذريته.
أما المقدمة الثانية فيرد عليها أن النقض ليس هو حلّ الهيئة الاتصالية، ولذا لا يعد الفصل بين اجزاء شيء متصل نقضا ما لم تكن تلك الاجزاء مفتولا ومعقودا بعضها ببعض عرفا، كأجزاء ماء واحد، فمجرد الفصل بين حدوث الشيء وبقاءه لا يعدّ نقضا، بل النقض هو حلّ العقدة، (وليس هو حل الابرام، وانما النقض والابرام ضدان يردان على محل واحد، فيقال نقض العقدة والبرم كما يقال ابرمهما اي شدها) فلابد أن يكون متعلق النقض شيئا مفتولا ومعقودا، نعم يوجد فرق بين حل العقدة ونقضها وهو أن النقض هو حلّ العقدة بشدة، وقد يكون التعبير بالنقض في حل العقدة لا لشدة في حلها وانما بعناية كون المرفوع شديدا او كون رفعه بكامله كما في نقض الشبهة.
فظهر بما ذكرناه أن وجود المقتضي للبقاء في المتيقن كالطهارة، وان فرض كونه موجبا لوجود تقديري شأني لبقاءه، فغايته أنه يوجب اتصالا عنائيا بين حدوثه وبقاءه، ولكن مجرد الاتصال بين حدوث شيء وبقاءه لا يصحح استعمال النقض.
الصحیح فی معنی النقض
والصحيح أن نكتة استعمال النقض في نقض اليقين هو التفاف اليقين بمتعلقه وفتله به، فينهى الشارع عن حله عنه عملا بسبب الشك، كما أن نكتة التعبير بنقض البيعة والعهد، هو أنهما مفتولان بمتعلقهما، ويراد من نقضهما حلهما عنه عملا، بالتخلف عن البيعة والعهد، وهذا الذي ذكرناه يشمل اليقين في موارد الشك في المقتضي ايضا، لأن كل يقين مفتول بمتعلقه لكونه من الصفات ذات الاضافة.
نعم اليقين بالحدوث لا يزال مفتولا به وغير منقوض وجدانا في مورد الاستصحاب، كما أن اليقين بذات الشيء كالطهارة مع عدم لحاظ حيث حدوثه قد انحل عن متعلقه وانتقض وجدانا، لكن حينما ينهى الشارع عن نقض اليقين بذات الشيء فيكون ظاهرا في النهي عن نقضه عملا.
هذا والتعبير بالنقض في نقض اليقين بالشك يمكن أن يكون بعناية بيان فظاعة رفع اليد عن اليقين السابق، كما يمكن أن تكون بعناية بيان شدة المرفوع اي اليقين.
ان قلت: يمكن الدفاع عن الشيخ الأعظم بأن يقال: يمكن جعل النقض قرينة على لحاظ المولى حدوث المتيقن مفتولا ببقاءه، لكونه مما يوجد فيه مقتضي البقاء لو لم يرفعه رافع، وهذا لا يأتي في موارد الشك في المقتضي.
قلت: بعد ما كان النقض بمعنى رفع البرم والعقدة، فلابد أن يكون فرض كون حدوث المتيقن مفتولا ببقاءه ظاهرا من الخطاب، حتى تتم علاقة المجاز، والا فلا يكفي اللحاظ الثبوتي، فهو كما لو قال المولى “جرى الحديد” فانه ركيك عرفا بخلاف “جرى الميزاب” حيث توجد فيه قرينة على لحاظ علاقة الظرفية والمظروفية باعتبار جريان ماء الميزاب، وهذا بخلاف ما نقول به من كون اليقين مفتولا بمتعلقه فانه ظاهر لفظ اليقين باعتبار كونه من الصفات ذات الاضافة.
وأما حمل كلمة النقض على مطلق الرفع، لا خصوص رفع البرم فهو خلاف الظاهر، مضافا الى أنه حينئذ تنتفي النكتة التي لأجلها حول الشيخ الاعظم اليقين الى المتيقن، اذ يصير المعنى لا ترفع اليد عن اليقين بالشك([11]).
ویرد علیه اولاً: ان معنى النقض وان كان هو حل العقدة، فلا يضاف الا الى العقدة الحقيقية كالحبل والغزل او الدار، او الى العقدة الاعتبارية كالبيعة والعهد واليمين، فلا يقال لمن خالف امر المولى ورفع يده عن امتثاله أنه نقض امره، لكن لا وجه لما ذكره من كون النقض هو حل العقدة بشدة، فانه يصدق على حل عقدة غير مشددة برفق انه نقضها كما أنه اذا تفرّق صف يقال انتقض الصف، الا أن هذا الايراد ليس بمهم.
وثانیا: المفروض في الاشكال على المقدمة الثانية غمض العين عن الاشكال على المقدمة الاولى، اي يفرض كون المراد النهي عن نقض المتيقن بالشك، والانصاف أنه مع افتراض ذلك تتم دعوى الشيخ، لأن ظاهر اسناد النقض الى شيء اقتضاءه للبقاء لولا الرافع، فلا يقال عند انتهاء أمد الزوجية المنقطعة انها انتقضت، وعليه فلم يكن ينبغي الخوض في الاشكال في المقدمة الثانية، اذ لولا رفضها كان نفس دعوى الشيخ الاعظم لزوم حمل اليقين على المتيقن -لأجل أنه لا يعقل النهي عن نقض نفس اليقين، بعد بقاء اليقين بحدوث الطهارة مثلا، وانتقاض اليقين بذات الطهارة، فلابد أن يراد به المتيقن- قرينة على كون متعلق النقض امرا قابلا للبقاء لولا الرافع، فلابد من حصر الاشكال على الشيخ في انكار المقدمة الاولى كما سيأتي، والحاصل أن ما ذكره في المناقشة في المقدمة الثانية راجع الى انكار المقدمة الاولى من كون المراد من اليقين المتيقن.
وثالثا: النقض وان كان حل البرم والعقدة، لكنه بضاف الى مجموع طرفي العقدة لا الى طرف واحد منها، فيقال نقض الحبل والغزل، اي تشتيت أجزاءهما، فلو قطع من الحبل خيطا لا يقال نقض هذا الخيط من الحبل، كما لا يقال عند انتقاض الصف الذي فيه زيد انه انتقض زيد عن الصف، وعليه فلا يصح أن يسند النقض الى اليقين بلحاظ التفافه بالمتيقن، فيقال:انتقض اليقين بالطهارة عن الطهارة.
وثالثا: ما ذكره من امكان أن يكون التعبير بنقض اليقين لبيان فظاعة رفع اليد عنه بالشك او لبيان شدة اليقين، ففيه أنه خلاف ظاهر السياق لتكرر النقض في الصحيحة الاولى لزرارة في قوله “ولا ينقض اليقين بالشك ولكن ينقضه بقين آخر” فان من الواضح عدم كون بيان النقض في الجملة الثانية لابراز فظاعة ذلك، كما يظهر من سياق ما ورد في صحيحة زرارة الثالثة من قوله “ولا ینقض الیقین بالشک و لکن ینقض الشک بالیقین” أنه ليس استعمال النقض لعناية شدة متعلقه فانه لا شدة في الشك، فالظاهر ان المرادف للنقض في الفارسية “بهم زدن” نعم لو شك في عرفية التعبير بنقض الشك فلا دافع لاحتمال كون الاتيان به في الصحيحة من باب المشاكلة كقوله تعالى “ومكروا ومكر الله”.
الجواب الرابع:
ما يقال من أنه حتى لو تم اشكال الشيخ الاعظم في الروايات المشتملة على جملة “لا تنقض اليقين بالشك” وما هو مثلها مثل جملة “اليقين لا يدخله الشك” او جملة “اليقين لا يدفعه الشك” كما أن صحيحة ابن سنان في الثوب الذي يستعيره الذمي حيث قال الامام (عليه السلام) “صل فيه ولا تغسله من اجل ذلك لأنك أعرته اياه ولم تستيقن أنه نجسه” واردة في مورد الشك في الرافع، ولكن يكفينا رواية اسحاق بن عمار “اذا شككت فابن على اليقين” ولو ادعي اجمالها واحتمال كون مفادها قاعدة اليقين فيحصل علم اجمالي إما بحجية قاعدة اليقين او حجية الاستصحاب في مورد الشك في المقتضي فتجب مراعاة الاحتياط([12]).
مناقشه
وفيه أنه ناقش في تمامية سند رواية اسحاق بن عمار، بل في دلالتها([13])، وان مر الجواب عن الاشكال السندي، نعم الاشكال الدلالي عليها تام، فانه قد مر احتمال كون مفادها الامر باتباع اليقين عند التحير والشك وعدم اتباع الطرق المشكوكة، فلا يتشكل علم اجمالي.
الجواب الخامس:
لا اشكال في صحة استعمال النهي عن نقض اليقين بالشك في مورد قاعدة اليقين، وهذا مما اعترف به الشيخ الاعظم “ره” في حديث الاربعمأة “من كان على يقين فشك فليمض على يقينه” بل مال الى استظهر كونه ظاهرا في قاعدة اليقين، مع أنه لا معنى لحمله على النهي عن نقض المتيقن، للشك في حدوثه، وهذا يعني أن اليقين وان كان مرتفعا لكن يصح النهي عن نقضه ويكون ظاهرا في النهي عن نقضه العملي بعدم ترتيب آثاره الطريقية من المحركية نحو متعلقه، ولو بعد انتقاض اليقين وجدانا، فتكون نتيجته بقاء منجزيته ومعذريته.
وكيف يحمل اليقين في روايات الاستصحاب على كون المراد به المتيقن مع أن اليقين قد اضيف الى المتيقن في قوله “انه على يقين من وضوءه” وقوله “انك كنت على يقين من طهارتك” فانه لا يعقل أن يراد من اليقين المتيقن ايضا ثم يضاف الى نفسه، كما أنه خلاف ظاهر سياق قوله “ولكن ينقضه بيقين آخر”، فانه لا اشكال في كون اليقين الآخر بمعنى نفس اليقين دون المتيقن، فارادة المتيقن من اليقين الاول خلاف وحدة السياق.
وعليه فاسناد النقض يكون الى نفس اليقين، نعم لابد من فرض عناية في التعبير بنقض اليقين بالشك في مورد الاستصحاب ولو بعدم لحاظ حيث الحدوث والبقاء في متعلق اليقين والشك، فانه لولا هذه العناية لم يصدق انتقاض اليقين بالشك في مورد الاستصحاب حتى مع وجود المقتضي للبقاء، فمن يعلم باستعداد السراج للاشتعال، ولكنه من الاول يعلم او يحتمل أن هبوب الريح سوف يطفأه بعد ساعة من اشتعاله فلا يصدق أن يقينه باشتعال السراج ساعة انتقض باليقين او بالشك بعدم اشتعاله بعد تلك الساعة.
ولكن بعد وجود القرينة على هذه العناية في روايات الاستصحاب، فلا يختلف الشك في المقتضي عن الشك في الرافع، وأما التعبير بنقض ما تعلق به اليقين بالشك فهو ركيك جدا، حتى لو كان متعلق اليقين مثل الوضوء الذي يكون قابلا للنقض، كما في الصحيحة الاولى لزرارة، اذ لا يصح عرفا أن يتعلق النهي بنقضه بالشك، فضلا عن مثل طهارة الثوب في الصحيحة الثانية لزرارة، فان الطهارة من الخبث لا يسند اليها النقض عرفا بخلاف الطهارة من الحدث كالوضوء والغسل.
ان قلت: بعد كون استعمال نقض اليقين بالشك في مورد الاستصحاب استعمالا عنائيا، والقدر المتيقن من العناية فرض اقتضاء المتيقن للبقاء، نظير ما سيأتي في قاعدة التجاوز من أن قوله “اذا خرجت من شيء ثم دخلت في غيره فشككت فشكك ليس بشيء” لا يشمل التجاوز عن المحل الاعتيادي، كما لو خرج من مكان التخلي فشك في الاستنجاء، لأن ظاهر الخروج عن الشيء الخروج والتجاوز عن ذات العمل بالفراغ منه، ولكن قامت قرينة على عدم كونه المراد من الخطاب لوروده في مورد قاعدة التجاوز، الا أنه لم يظهر منه كون استعمال الخروج من الشيء بعناية الخروج عن مطلق محل الشيء، ولو كان محلا عاديا او أن المراد الخروج عن خصوص المحل الشرعي، فلابد من الأخذ بالقدر المتيقن، وهو الخروج عن المحل الشرعي.
قلت: يوجد فرق بين دليل قاعدة التجاوز وبين المقام، فان نكتة العناية في المقام واضحة، وهي عدم لحاظ حيث الحدوث والبقاء في متعلق اليقين والشك، فتعلق النهي عن نقض اليقين السابق بالشك اللاحق فصار مثل قاعدة اليقين، وهذا مما لا يؤثر فيه احراز المقتضي في المتيقن السابق للبقاء، ويكون فرض الشك في المقتضي والشك في الرافع فيه على حد سواء.
هذا تمام الكلام في الوجه الاول المذكور في كلام الشيخ الاعظم حول التفصيل بين الشك في المقتضي والشك في الرافع، والجواب عنه.
الوجه الثاني: النقض يتعلق باليقين بما هو مقتضٍ للجري العملي وفق المتيقن
الوجه الثاني: ما ذكره المحقق النائيني “قده” من أن اسناد النقض وان كان الى اليقين وارادة المتيقن منه من الاغلاط، ولكن النقض يتعلق باليقين بما هو مقتضٍ للجري العملي وفق المتيقن، وهذا هو السر في اسناد النقض الى اليقين دون العلم او القطع، فانه اشرب في مفهوم اليقين حيث الاقتضاء للجري العملي وفق متعلقه، وصحة اسناد النقض الى اليقين تختص بموارد الشك في الرافع، دون الشك في المقتضي([14]).
مناقشه
وفيه ما مر من أن انتقاض اليقين بالشك في مورد الاستصحاب لايصدق حقيقة حتى مع وجود المقتضي للبقاء، فمن يعلم باستعداد السراج للاشتعال، ولكنه من الاول يعلم او يحتمل أن هبوب الريح سوف يطفأه بعد ساعة من اشتعاله فلا يصدق أن يقينه باشتعال السراج انتقض باليقين او بالشك بعدم اشتعاله، وانما يصدق انتقاض اليقين بالشك حقيقة في مورد قاعدة اليقين، مع أنه بيس الشك فيه في الرافع، بل في اصل الحدوث المتيقن سابقا.
ولكن بعد وجود القرينة على عناية في روايات الاستصحاب، ولو بعدم لحاظ حيث الحدوث والبقاء في متعلق اليقين والشك فيصدق نقض اليقين بالشك ومعه فلا يختلف الشك في المقتضي عن الشك في الرافع.
لااقتضاء لليقين للجري العملي فی كثير من الامور التكوينية
هذا وأما ما ذكره من أنه اشرب في مفهوم اليقين اقتضاء الجري العملي فهذا ممنوع، كيف وقد يتعلق اليقين بما لا اقتضاء فيه للجري العملي كاليقين بكثير من الامور التكوينية، نعم اخذ في مفهوم اليقين الثبات والاستقرار، يقال “یَقِنَ الماء” أی ثبت و استکان، والتعبير بالنقض في مورد اليقين دون العلم والقطع لعله لهذه النكتة التي توجب تصورا استمراره واقتضاءه لليقاء، او لأجل ما يتصور فيه من شانية الابرام والاستحكام، والنقض ضد الابرام ويتواردن على محل واحد، بل ولو فرض كون اقتضاء الجري العملي في اليقين مصححا لاسناد النقض اليه فحيث ان الملحوظ في دليل الاستصحاب اليقين بذات الشيء فيكون هو مقتضيا للجري العملي نحو ذاته ولو بقاءا، وانما يرى الشارع انتفاء اليقين فينهى عن نقضه بالشك، نظير ما في قاعدة اليقين.
الوجه الثالث: النقض يرجع إلى رفع الهيئة الاتصالية و تشتيت الاجتماع الحاصل للأجزاء.
الوجه الثالث: ما ذكره بعض الاعلام “قده” من أن النقض يرجع إلى رفع الهيئة الاتصالية و تشتيت الاجتماع الحاصل للأجزاء. و بذلك يكون نقض الدار بمعنى هدمها لأنه بالهدم تنعدم الهيئة الاجتماعية لأجزاء الدار، كما ان نقض العظم يكون بكسره، لأنه يفصل اجزاء العظم بعضها عن الآخر، و معنى نقض الحبل نكثه و حله، و مثله نقض الغزل و هكذا، و عليه فإسناد النقض إلى ما لا أجزاء له كالحكم و البيعة و العهد و اليقين، اسناد مجازي، و المصحح له لحاظ استمرار وجود الشيء، فتكون له وحدة تركيبية بلحاظ الاجزاء التدريجية المتصلة، فان الموجود التدريجي المتصل وجود واحد ذو اجزاء بلحاظ تعدد آنات الزمان، و يكون المراد من نقضه قطع الاستمرار و عدم إلحاق الاجزاء المفروضة المقدرة بالاجزاء المتقدمة، فيصدق النقض بنحو المجاز بهذه الملاحظة، و لا يكون صدقة حقيقيا، لعدم تحقق الأجزاء اللاحقة، بل ليس المجرد الفرض و التقدير.
و أما كون مصححه لحاظ عدم ترتب الأثر على المنقوض، فيشابه المنقوض حقيقة من هذه الجهة، فليس بمطرد، إذ نفي الأثر مع عدم إلغاء الهيئة التركيبية للشيء المركب حقيقة لا يطلق بلحاظه النقض و لو بنحو المجاز.
ثم لا يخفى عليك أنه لا يعتبر ان يكون متعلق النقض مما فيه إبرام فعلا، لصدق النقض بدونه، كما لو كان صف من اشخاص واقفين بلا استحكام و إبرام فيه، فتفرقة افراد الصف نقض للصف مع عدم الإبرام، و لعله مما يشهد لما ذكرنا ان أهل اللغة يفسرون نقض الحكم برفعه في مقابل إبرامه، فيجعلون الإبرام في عرض النقض لا في مرحلة سابقة عليه.
و بذلك يظهر أن صدق النقض في مورد اليقين يكون مجازيا، لأنه لا اجزاء له، فلابد من ملاحظة وحدته الاستمرارية، فرفع اليد عن استمراره يكون نقضا له، ورفع اليد عن استمراره و انقطاع الاتصال في عمود الزمان ينشأ تارة: من انتهاء أمد الشيء لتحديد ثبوته بأمد خاص، كالزوجية المنقطعة بعد انتهاء الزمن، و أخرى: من وجود ما يرفعه بحيث لولاه لاستمر وجوده لعدم تحديده بأمد معين، و نقض الشيء بلحاظ عدم استمراره انما يصدق في المورد الثاني، دون الأول، فلا يكون ارتفاع الطهارة الموقتة بوقت خاص بعد حصول الوقت نقضا لها، بخلاف ارتفاعها بالحدث القاطع لاستمرارها، كما أن انتهاء الصلاة بالسلام لا يكون نقضا للصلاة، لكن الخروج عن الصلاة بالحدث يكون نقضا لها، و الزوجية لا تنتقض بانتهاء المدة، لكنها تنتقض بالفسخ أو الطلاق.
و على هذا نقول: ان صدق نقض اليقين يكون بلحاظ وحدته الاستمرارية، و بما أن اليقين يتبع المتيقن، فاستمراره باستمرار وجود اليقين و ارتفاعه بارتفاع المتيقن، و عليه فارتفاع اليقين تارة: يكون لأجل ارتفاع المتيقن من جهة انتهاء أمده، و أخرى: لارتفاع المتيقن من جهة تحقق الرافع مع استعداده للبقاء لولا الرافع، و انتقاض اليقين انما يصدق في الصورة الثانية دون الأولى، لما عرفت من ان ارتفاع الشيء لعدم مقتضيه و انتهاء أمده لا يعد نقضا، و بما أن الظاهر من قوله “ولا ينقض اليقين بالشك” كون مورد الاستصحاب هو الشك في البقاء والانتقاض، و دوران الأمر بينهما، كان مقتضى ذلك اختصاص الروايات بالشك في الرافع، إذ مع الشك في البقاء من جهة الشك في قصور المقتضي و انتهاء أمده لا انتقاض قطعا، بمعنى انه يعلم بعدم الانتقاض، إما للارتفاع بانتهاء الأمد و اما لعدم الارتفاع، وكلاهما لا يعد انتقاضا، فلا يكون مشمولا لدليل الاستصحاب.
النقض بمعنی رفع الید
ثم ان الشيخ عبر عن النقض بأنه رفع اليد، و خصه برفع اليد عن الأمر الثابت، فأورد عليه المحقق العراقي “ره”: بأنه لا وجه لتقييده برفع اليد عن الأمر الثابت، بل مقتضى الإطلاق التعميم لغير الأمر الثابت([15])،
ولكن يمكن دفع هذا الإيراد عنه، بأنه ليس المقصود كون حقيقة النقض و مفهومه هو رفع اليد، بل المقصود ان النقض حيث لا يصدق حقيقة، لأنه ليس فعلا اختياريا للمكلف، فلابد أن يراد به النقض العملي الراجع إلى عدم ترتيب الآثار و رفع اليد عن المتيقن، فإذا فرض كون مفهوم النقض يساوق فصم الوحدة التركيبية، كان المقصود به ههنا رفع اليد عن خصوص الأمر الثابت لانسجامه مع مفهوم النقض.
مقتضى النهي عن النقض اختصاص الاستصحاب بمورد الشك في الرافع
و المتحصل ان مقتضى النهي عن النقض اختصاص الاستصحاب بمورد الشك في الرافع سواء تعلق النقض باليقين أم بالمتيقن.
ثم ان النقض في باب الاستصحاب لا يتعلق باليقين أصلا، لأن نقض اليقين يرجع إلى عدم وحدته الاستمرارية و تخلل العدم بينها، و عليه نقول: ان لدينا يقينين:
قسمان من الیقین
أحدهما: اليقين بالوجود الفعلي للشيء، و هذا لا شبهة في انتقاضه بالشك، لأن اليقين بوجود الشيء له وحدة استمرارية، فإذا زالت بقاء بالشك فقد اختلت الوحدة، و يتحقق الانتقاض، و لذا لا يجتمع اليقين بالوجود الفعلي مع الشك فيه.
ثانيهما: اليقين الفعلي بالوجود السابق و هذا لا ينتقض بالشك في الوجود الفعلي بقاء، بل قد يجتمعان في آن واحد كما لا يخفى، بل لا يكون اليقين بوجوده فعلا استمرار لليقين بالوجود السابق، إذ قد يحصلان في آن واحد، فلا معنى لأن يكون أحدهما استمرارا للآخر، و سرّ ذلك: ان وحدة اليقين بلحاظ وحدة متعلقه، فإذا اختلف المتعلق اختلف اليقين، فاليقين يوم السبت بعدالة زيد يوم الجمعة و اليقين بعدالته يوم السبت فردان لليقين لاختلاف متعلقهما، و لأجل ذلك لا يكون اليقين بعدم العدالة يوم السبت ناقضا لليقين يوم السبت بعدالته يوم الجمعة، لعدم إخلاله بوحدته الاستمرارية، كيف؟ و قد يجتمعان معا في آن واحد.
وإذا اتضح ذلك فنقول: ان كان المأخوذ في باب الاستصحاب هو اليقين السابق بالوجود الفعلي، كان الشك بقاء ناقضا له لإخلاله باستمراره، فصح ان يسند النقض إلى اليقين.
و لكن الأمر ليس كذلك، فان المأخوذ هو اليقين الفعلي بالوجود السابق، سواء كان يقين سابق بالوجود الفعلي أم لم يكن، و لذا قد يحصل الشك في البقاء قبل اليقين بالحدوث، وقد عرفت أن مثل هذا اليقين لا يكون الشك ناقضا له، فلا معنى للنهي عن نقضه به، فلا محيص عن أن يكون المسند إليه النقض هو المتيقن نفسه بلحاظ انقطاع استمراره بوجود الرافع المشكوك، و يكون التعبير باليقين طريقيا.
و أما ما أفاده الشيخ من عدم اسناد النقض إلى اليقين، بل إلى المتيقن، فان أراد به عدم قابلية اليقين في حد نفسه لإسناد النقض إليه -كما هو ظاهر عبارته- فقد عرفت أنه قابل لذلك بلحاظ الاستمرار فيه، و ان أراد به ما ذكرناه من أن اليقين في باب الاستصحاب لا معنى لإسناد النقض إليه، فهو تام كما عرفت.
مختار: المنع من تعلق النقض باليقين في باب الاستصحاب، و أنه یتعلق بالمتيقن
و الحاصل المنع عن تعلق النقض باليقين في باب الاستصحاب، و أنه لابد من رجوعه إلى المتيقن، ولا يختلف الحال فيما ذكرناه بين الالتزام باختصاص الاستصحاب بمورد الشك في الرافع أو عمومه لمورد الشك في المقتضي، ولو سلم إمكان تعلق النقض باليقين، فلا يساعده مقام الاثبات، و ذلك بملاحظة مورد الرواية، فانه (عليه السلام) نفي وجوب الوضوء عند عدم الاستيقان بالنوم بقاء معللا ذلك بعدم نقض اليقين بالشك، و ظاهر ذلك هو نفي الوجوب شرعا لا عقلا، و هذا لا يتلاءم الا مع جعل المتيقن نفسه بقاء، لا جعل اليقين أو المنجزية كما لا يخفى.
المجعول في باب الاستصحاب هو المتيقن لا اليقين
و الذي يتحصل: أنه يتعين الالتزام بأن المجعول في باب الاستصحاب هو المتيقن لا اليقين، سواء التزام بعدم إمكان تعلق النقض باليقين في هذا الباب أو التزم بإمكانه، فمقام الثبوت و مقام الإثبات يشتركان في أن المجعول هو المتيقن، وليس من استعمال لفظ اليقين في المتيقن مجازا؟، فانه استعمال غير صحيح، ولا يعهد مثله في الاستعمالات، و لا من جعل لفظ اليقين عنوانا للمتيقن و مرآة له -كما ذهب إليه صاحب الكفاية- فان مرآتية مفهوم اليقين تتوقف على كون اليقين من عناوين المتيقن، و ليس الأمر كذلك، و لذا لا يصح حمل اليقين على المتيقن، كما أنه ليس من باب الكناية و التلازم بين نقض اليقين و نقض المتيقن؟، فانه انما يتم لو فرض صحة تعلق النقض باليقين ههنا، و قد عرفت انه لا محصل له، فينحصر أن يكون من باب التلازم بين نفس اليقين و المتيقن، فالنقض و ان كان مسندا إلى لفظ اليقين في الكلام، لكن يراد به نقض المتيقن الذي حضرت صورته في الذهن بواسطة اليقين، فيجعل لفظ اليقين قنطرة و كناية عن المتيقن([16]).
وحاصل ما ذكره أن اسناد النقض الى اليقين باعتبار كونه طريقا الى المتيقن، لا بما هو صفة نفسانية، ولذا لو كان المتيقن مبرما ومستحكما بأن وجد فيه المقتضي للبقاء، فيكتسب اليقين منه وصف الابرام والاستحكام، فيصح حينئذ اسناد النقض الى اليقين، بخلاف ما اذا شك في وجود المقتضي، فانه لا يصدق نقض الیقین بالشك.
نعم لو قلنا بكون ركن الاستصحاب اليقين السابق بذات الشيء من دون لحاظ اليقين الفعلي بحدوثه فحيتئذ يصدق نقض اليقين بالشك، ولكن الصحيح أن ركنه اليقين الفعلي بالحدوث، فانه لا يشترط في الاستصحاب سبق اليقين على الشك زمانا بل يمكن تحقق اليقين بالحدوث مفارنا للشك او متأخرا عنه، وهذا اليقين بالحدوث لا ينتقض ابدا بالشك في البقاء، بل هما متقارنان في الوجود، فاسناد النقض الى اليقين ليس لأجل نفسه، وانما هو لأجل المتيقن لما يرى فيه من الابرام والاستحكام والاستعداد للبقاء
ولكن يرد عليه أن عدم لزوم سبق اليقين زمانا على الشك وكون ركن الاستصحاب اليقين بالحدوث وان كان صحيحا، لكن الملحوظ في صحيحة زرارة الثانية هو سبق اليقين بذات الشيء بشهادة التعبير عن اليقين بالفعل الماضي حيث قال “انك كنت على يقين من طهارتك فشككت”، وانما تعدينا عنه بالغاء الخصوصية ونحوها، بل لو كان يصرح بأنه لا ينقض اليقين بالحدوث بالشك في البقاء، كما قويناه في الصحيحة الاولى لزرارة حيث عبر بقوله “انه على يقين من وضوءه” فمصحح التعبير بنقض اليقين هو عناية تعلق اليقين بالحدوث والشك في البقاء بشيء واحد، يعلم بحدوثه ويشك في بقاءه، فانه لا يحس بشهادة الوجدان بأي فرق في أن يقال “انه على يقين من وضوءه ولا ينقض اليقين بالشك” او يقال حينما شك في انطفاء ضوء السراج لانتهاء نفطه “انه على يقين من اشتعال السراج ولا ينقض اليقين بالشك”، فالعناية فيهما على حد سواء، والشاهد عليه صحة هذا التعبير في مورد قاعدة اليقين، مع انه لا معنى لكون ابرام المتيقن فيها مصححا لاسناد النقض الى اليقين، بعد أن صار حدوثه مشكوكا.
الوجه الرابع: ما ذكره المحقق الهمداني
الوجه الرابع: ما ذكره المحقق الهمداني “قده” من أن النقض لما كان هو تشتيت اجزاء شيء واحد، فصدق نقض اليقين بالشك بأن يكون لليقين وجود فعلي بالحدوث ووجود تقديري بالبقاء، وحيث عبر الشارع عن دليل الاستصحاب بنقض اليقين بالشك نستكشف أنه فرض وجود اليقين بالبقاء، فصار اليقين في فرض الشارع ذا جزءين، فنهى عن تشتيت اجزاء اليقين، ولا يوجد مصحح لليقين التقديري بالبقاء الا مع اليقين بوجود المقتضي في المتيقن للبقاء، فكأن اليقين به يقين بوجود مقتضاه وهو بقاء المتيقن، ولأجل ذلك يختص خطاب الاستصحاب بموارد الشك في الرافع([17]).
مناقشه
وهذا الوجه قد ذكره صاحب الكفاية في حاشية الرسائل واشكل عليه، واشكاله في محله، فان من البعيد عن ذهن العرف كون المصحح لصدق نقض اليقين بالشك هو اليقين التقديري بالبقاء، كيف وهو صادق في مورد قاعدة اليقين ايضا.
على أن مجرد العلم بوجود مقتضي بقاء المتيقن ليس كافيا في وجود المقتضي لبقاء اليقين، فان المقتضي يعني ما منه الاثر، فاذا وجد شرط تأثيره وفقد المانع عن تأثيره أثّر المقتضي في وجود ذلك الأثر وليس العلم بمقتضي الشيء كالعلم بوجود النار مع عدم العلم بتحقق الشرط وفقد المانع لاحتراق القطنة مؤثرا لحصول اليقين بالاحتراق، بل المؤثر اليقين بالمقتضي والشرط وعدم المانع، اللهم الا أن يدعى كون العلم بوجود مقتضي المتيقن كافيا في تصحيح تقدير وجود اليقين ببقاءه، لأجل حسن اسناد النقض الى اليقين، ولكنه لم يقال بأن سبق اليقين بالوجود كافٍ في ذلك.
هذا وقد حكي عن بعض السادة الاعلام “دام ظله” أنه على ما ذكره المحقق الهمداني من أن الوجود التقديري لبقاء الشيء انما يكون مصححا لصدق النقض مع فقد الوجود الاعتباري له، كما في نقض الحدث للطهارة، حيث أنه ليس للطهارة وجود اعتباري بعد الحدث، فوصلت النوبة الى مصححية وجودها التقديري اي اقتضاءها للبقاء لولا الرافع، ولكن مع فرض وجود اعتباري لا تصل النوبة الى الوجود التقديري، فالوجود التقديري لليقين بالبقاء انما يكون مصححا لصدق نقض اليقين اذا لم يكن وجود اعتباري له، لأن الوجود الاعتباري نحو من الوجود، بخلاف الوجود التقديري الذي هو مجرد فرض وتخيل، ولا واقع له حتى في عالم الاعتبار، كما أن الوجود الاعتباري انما يكون مصححا لصدق النقض اذا لم يكن هناك وجود تكويني لاجزاء المنقوض مثل ما في نقض الحيل والغزل.
والقرينة في روايات الاستصحاب على الوجود الاعتباري لليقين بالبقاء استعمال كلمة النقض، فانه لولا اعتبار الشارع كون اليقين بالحدوث يقينا بالبقاء فلا مصحح للتعبير بالنقض، فبدل أن يقول “اعتبرت اليقين بالحدوث يقينا بالبقاء ذكر لازمه وهو كلمة النقض، نظير قول الشاعر:
واذا المنية أنشبت أظفارها الفيت كل تميمة لا تنفع
فاعتبر في ذهنه أن المنية سبع، ولكن اكتفى بذكر لازم ذلك، وهو أنها انشبت أظفارها، ومع لحاظ الوجود الاعتباري لليقين بالبقاء لا يختلف الشك في الرافع او الشك في المقتضي في ذلك.
اقول: كون الوجود الاعتباري للبقاء على تقدير ثبوته اولى بمصحيحة صدق النقض من الوجود التقديري لا يعني لزوم اعتباره للشارع وعدم جواز اكتفاءه بالوجود التقديري مع امكان اعتباره للبقاء.
على انه حيث لا معنى لكون المصحح لحاظ الوجود الاعتباري لليقين بالبقاء بالنسبة الى قوله “ولكن ينقضه بيقين آخر” فلحاظه في قوله “لا ينقض اليقين بالشك” يكون خلاف الظهور السياقي.
الوجه الخامس: ما ذكره المحقق الهمداني ایضا
الوجه الخامس: ما ذكره المحقق الهمداني “قده” ايضا من أنه لو حملت أخبار الاستصحاب على التعبّد المحض لما صحّ لنا دعوى ظهور قوله “اليقين لا ينقضه الشكّ” في إرادة الجنس من لفظ اليقين و الشكّ حتّى تدلّ على حجّية الاستصحاب مطلقا، لأنّ سبق ذكر اليقين و الشكّ في الأخبار المعلّلة من قرائن العهد، فلا يبقى معه ظهور في إرادة الجنس، و أمّا الظهور الذي تجده من نفسك، من عدم مدخلية خصوصية المورد في الحكم، فليس منشأه إلّا ما هو المرتكز العقلائي من عدم الفرق في موارد الشك في الرافع من حيث جريان الاستصحاب، و أمّا لو أغمض عن ذلك و نزّل الحكم على التعبّد، فليس حاله إلّا حال ما لو علّله بأمر تعبّدي، في أنّه لا يتخطّى عن مورده([18]).
ويقال ايضا: ان مورد الروايات التي تم الاستدلال بها على الاستصحاب كالصحيحة الاولى والثانية لزرارة الشك في الرافع، كما أن مورد الصحيحة الثالثة استصحاب العدم، وأما معتبرة اسحق بن عمار “اذا شككت فابن على اليقين” فلم يعلم كون مفادها الاستصحاب، كما سبق بيانه، وأما حديث الأربعمأة “من كان على يقين فشك فليمض على يقينه فان اليقين لا ينقض بالشك” فضعيف سندا.
والغاء الخصوصية عن مواردها كان بضم الارتكاز العقلائي في عدم الفرق، ومن الواضح أنه لا يوجد ارتكاز عقلائي في عدم الفرق بين الشك في المقتضي والشك في الرافع.
ومن الغريب ما عن بعض السادة الاعلام “دام ظله” من دعوى بناء العقلاء على الاستصحاب حتى عند الشك في المقتضي.
مناقشه
وكيف كان فيرد على هذا الوجه أن ظاهر الصحيحة الاولى ايضا وحدة متعلق اليفين والشك خصوصا مع تذييله بقوله ولكن ينقضه بيقين آخر، فتوصيف اليقين بكونه يقينا آخر ظاهر في تعلقه بارتفاع ما تعلق به اليقين الاول، اي بارتفاع الوضوء، لا بوجود الرافع كالنوم، وظاهر وحدة السياق كون الامر في متعلق الشك كذلك، فليس معنى الصحيحة نقض الیقین بالوضوء بالشک فی النوم.
والحاصل أنه قد سبق في تقريب الاستدلال بروايات الاستصحاب كصحيحة زرارة الاولى والثانية كون مفادها عاما غير مختص بموردها، فيكون مدلولها عدم جواز نقض اليقين بالشك وهذا شامل لمورد الشك في المقتضي، ولو فرض التشبث بذيل ارتكاز العقلاء فانما هو للمنع من حمل اللام في اليقين على ارادة العهد الذكري وظهورها في ارادة الجنس، وبعد ذلك نتمسك بعموم خطاب الاستصحاب الشامل لموارد الشك في المقتضي.
هذا وقد ذكر بعض الاعلام “فده” أن صحيحة زرارة الاولى لا تشمل مورد الشك في المقتضي لأن المذكور فيها أن من كان على وضوء ثم شك أنه نام فلا يجب عليه الوضوء، لأنه على يقين من وضوءه ولا ينقض اليقين بالشك، فلعل المراد من الشك الشك في النوم اي الرافع، وهذا لا ينطبق على موارد الشك في المقتضي، وانما يختص عمومها بكل يقين سابق بشيء والشك االاحق في رافعه.
الا أن صحيحته الثانية تشمل موارد الشك في المقتضي حيث ان موردها اليقين السابق بالطهارة والشك اللاحق فيها، ولكن حيث ان اللام فيها للجنس فيفيد العموم لكل مورد حصل اليقين السابق بشيء والشك اللاحق فيه([19]).
مختار: جریان الاستصحاب فی الشک فی المقتضی و الرافع
وبذلك تبين جريان الاستصحاب في مورد الشك في المقتضي كما يجري في مورد الشك في الرافع.