فهرست مطالب

فهرست مطالب


تقریرات دروس خارج مدرسه فقهی امام محمد باقر علیه السلام

بسمه تعالی

التنبيه الثالث: اقسام الشبهة الموضوعية التحريمية. 2

القسم الاول: ما اذا كان النهي عن الطبيعة بنحو الاطلاق الشمولي.. 2

الكلام في جريان البراءة العقلية في الشبهة الموضوعية. 2

کلام المحقق الايرواني فی عدم جریان البراءة العقلية في الشبهة الموضوعية. 2

مناقشه. 3

کلام المحقق النائيني لجريان البراءة العقلية في الشبهة الموضوعية. 4

کلام المحقق البروجردي فی عدم جریانها 4

اختصاص البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية بموارد عدم اهمية المحتمل، والا لزم الاحتياط.. 7

مناقشه. 7

ثمرة الالتزام بجريان البراءة العقلية في الشبهة الموضوعية. 8

بيان ضابط جريان البراءة في الشبهات الموضوعية. 8

کلام المحقق النائيني “قده”.. 8

الملاک فی جريان البراءة في الشبهات الموضوعية. 12

جريان قاعدة الاشتغال عند الشك في القدرة العقلية. 13

القسم الثاني: ما اذا تعلق النهي بصرف وجود الطبيعة بحيث لو اتى بفرد منها خالف النهي نهائيا وسقط النهي بالعصيان. 15

کلام صاحب الکفایه ره 15

مناقشه. 16

تنبيه: الكلام في اللباس المشكوك في امكان الرجوع الى البراءة… 24

القسم الثالث: ان يتعلق النهي بالاتيان بمجموع افراد الطبيعة بحيث يكفي في امتثاله ترك فرد واحد من افراد الطبيعة. 26

کلام شيخنا الاستاذ “قده”.. 27

الكلام في حقيقة النهي المجموعي.. 27

القسم الرابع: ما لو كان المطلوب عنوان بسيط متحصل عن ترك افراد الطبيعة، بحيث تكون نسبته الى ترك الافراد نسبة المسبب الى سببه عرفا 28

 

موضوع: تنبیه سوم /تنبیهات /برائت

خلاصه مباحث گذشته:

متن خلاصه …

 

 

التنبيه الثالث: اقسام الشبهة الموضوعية التحريمية

ان الشبهة الموضوعية التحريمية على اقسام:

القسم الاول: ما اذا كان النهي عن الطبيعة بنحو الاطلاق الشمولي

القسم الاول: ما اذا كان النهي عن الطبيعة بنحو الاطلاق الشمولي، كما في قوله “لا تشرب النجس” فتكون الحرمة منحلة بتعداد افرادها، فتجري البراءة الشرعية وأصالة الحل بالنسبة الى حرمة الفرد المشكوك، كما قد يجري الاستصحاب الموضوعي النافي للحرمة.

الكلام في جريان البراءة العقلية في الشبهة الموضوعية

وقد وقع الكلام في جريان البراءة العقلية في الشبهة الموضوعية فعن المشهور جريانها فيها، وقد صرح الشيخ الاعظم “قده” بذلك، من غير تفصيل بين أن تكون الشبهة البدوية قبل الفحص او بعد الفحص، وعن صاحب المعالم وصاحب القوانين “ره” جريانها في الشبهة البدوية بعد الفحص، ولكن خالف في ذلك المحقق الايرواني والسيد البروجردي “قدهما”.

کلام المحقق الايرواني فی عدم جریان البراءة العقلية في الشبهة الموضوعية

فذكر المحقق الايرواني: أن البيان الذي يلزم على المولى، ويقبح منه تركه، ويعذّر العبد إذا ترك المولى ذلك البيان، هو البيان للحكم الكلّي في الموضوع الكلّي، فإذا حصل هذا البيان انقطع عذر العبد، وكانت مخالفته بعد ذلك مخالفة عن تقصير، وعقابه عقابا ببيّنة وبرهان، وأمّا التنبيه على الجزئيّات فذلك ليس على المولى كي يعذّر العبد عند عدم التنبيه، بل عليه أن يحتاط في الجزئيات المشتبهة حتّى يقطع بالخروج عن عهدة الخطاب، نعم، إذا كان الحكم متوجّها إلى الجزئيّات، ومنحلّا إلى تكاليف حسب كثرة تلك الجزئيّات جرت البراءة عن تكاليف الجزئيّات المشتبهة، وكان على المولى البيان، والشبهة مع عدم البيان تكون حكمية لا موضوعيّة([1]).

مناقشه

وفيه أن ما هو من شأن المولى هو بيان الكبريات وجعلها في معرض الوصول بالطريق العادي، وقد يضيع بيان المولى قبل وصوله الى المكلف او يصل الى جماعةٍ، دون جماعة آخرين، لمناقشتهم في سنده او دلالته، ومع ذلك تجري في حقهم البراءة العقلية بناء على قبول قاعدة قبح العقاب بلا بيان، مع أن ما يلزم على المولى ويقبح منه تركه -على حد تعبيره وان كنا لا نوافق مع هذه التعابير حيث ان نصب البيان تفضل محض منه تعالى- ليس الا نصب بيان قابل للوصول بالنحو المتعارف، لا بأن يكون قابلا للوصول الى كل مكلف، بحيث لا يحجب علمه عنهم ولو بحجب الظالمين، والانصاف أنه لا يفرَّق في الوجدان العقلي، او الوجدان العقلائي (بناء على ما مر منا من انكار البراءة العقلية واختيار البراءة العقلائية) بين الشبهة الحكمية بعد الفحص او الشبهة الموضوعية بعد الفحص، فلو قال المولى لعبده “لا تكرم الفاسق” وشكّ العبد في فسق شخص فاكرمه بعد ما فحص فحصا متعارفا فلم يتبين له فسقه، فيقبِّح العقلاء عقاب هذا العبد وان كان من أكرمه فاسقا واقعا.

وأما ما ذكره في آخر كلامه من أنه تتم البراءة العقلية لو توجه النهي على الافراد فلم نفهم مقصوده، فانه ان اراد منه توجه خطاب النهي الى كل فردٍ فردٍ على نحو القضية الخارجية، فنشكّ في وجود خطاب زائد بالنسبة الى حرمة اكرام عمرو المشكوك الفسق مثلا، فلا كلام في الحاقه بالشبهة الحكمية، وان كان من الشبهة المصداقية لما احرز كونه متعلق غرض المولى، وهو الاجتناب عن اكرام الفاسق، لكنه لا مجال له في الاحكام الشرعية التي تكون بنحو القضايا الحقيقية، وان اراد منه أن يكون خطاب النهي بنحو العموم كما لو قال “لا تكرم أي فاسق” او قال “كلّ من كان فاسقا فلا تكرمه” فالفرق بينه وبين الخطاب المطلق كقوله “لا تكرم الفاسق” خلاف الوجدان.

وأما السيد البروجردي “قده” فانه حكي عنه أنه نقل اولاً تقريب المحقق النائيني “قده” لجريان البراءة العقلية في الشبهة الموضوعية ثم ذكر ايراده عليه.

کلام المحقق النائيني لجريان البراءة العقلية في الشبهة الموضوعية

أما تقريب المحقق النائيني، فهو أن جريان البراءة فيها يكون نتيجة انحلال النهي بعدد افراد الموضوع الخارجي المأخوذ على نحو الاطلاق الشمولي، كقوله “لا تشرب الخمر” فيكون مآله الى قضية شرطيةٍ، مفادها أنه كلما وجد فرد من افراد الخمر فيحرم شربه، وهذه القضية كما ترى يكون تحريم الشرب فيها مترتبا على وجود الخمر، وقبل وجود الخمر يكون التحريم حكما إنشائيا ولا يترتب على العلم به أي اثر عقلي من التنجيز والتعذير، وانما يترتب الأثر العقلي على العلم بالحكم الفعلي، فتنجّز الحرمة في كل فرد من الخمر يتوقف على العلم بحرمته الفعلية، وهو يتوقف على العلم بكونه خمرا، ومن هنا يظهر عدم جريان البراءة في الشبهة الموضوعية التي لم يتم فيها انحلال الحكم إما لكون متعلق التكليف عنوانا لا يتعلق بالموضوع الخارجي كالنهي عن الضحك او البكاء ونحوهما، او لكون متعلق التكليف عنوانا يكون له تعلّق بالموضوع الخارجي، ولكن كان ذلك الموضوع أمرا جزئيا متحققا في الخارج، كاستقبال القبلة واستدبارها، او لكون متعلق التكليف عنوانا يكون له تعلق بالموضوع الخارجي، ولكن اخذ صرف وجود هذا الموضوع في الحكم كما في الوضوء بالماء، فاذا شك في كون مايع ماء فلا يقتضي جريان البراءة جواز الوضوء منه.

کلام المحقق البروجردي فی عدم جریانها

فاورد عليه السيد البروجردي أولا: بالمنع من انحلال تحريم شرب الخمر مثلا إلى أحكام كثيرة بعدد افراد الخمر، بل هو تكليف واحد له عصيانات وامتثالات متعدّدة، توضيح ذلك: أنّ المشهور ذهبوا إلى أنّ معنى النهي هو طلب الترك، وتبعهم جماعة من المتأخرين منهم صاحب الكفاية، ولازمه أن من خالف النهي عن شرب الخمر مثلا مرة واحدة فيسقط النهي عن شرب الخمر عنه رأسا، اذ كان المطلوب منه ترك طبيعة شرب الخمر، والمفروض شربه للخمر، واجتنابه بعد ذلك عن بقية افراد الخمر لا يجدي بحاله حيث لا يصدق في حقه أنه ترك شرب الخمر، وحينئذ يلزم سقوط النهي، بناء على ما يقولون من أنّ العصيان مسقط للتكليف كامتثاله، فيلزم عدم استحقاق العقاب إذا ارتكبه بعد ذلك، وبطلانه واضح، والصحيح أن معنى النهي ليس هو طلب الترك، بل الزجر عن إيجاد الفعل، كما أنّ معنى الأمر هو البعث إلى إيجاد الفعل المأمور به، فمتعلق النهي هو عين متعلق الأمر، غاية الأمر أنّ للنهي عصيانات متعدّدة حسب تعدّد وجود الطبيعة المتعلقة للنهي، لأنّ متعلقه هو الوجود على ما عرفت، فكلما يوجد شرب الخمر فيحصل به العصيان، كما أنّ بوجود متعلّق الأمر يحصل الامتثال.

وتوهّم أنّه لا يعقل تحقق العصيان المتعدد بالنسبة إلى تكليف واحد، لأنّ العصيان مسقط للتكليف مندفع بانه لامعنى لكون العصيان مسقطا للتكليف، وسقوطه في بعض موارد العصيان إنّما هو لكون التكليف فيه مشروطا وموقّتا بوقت خاصّ، ولم يؤت به في وقته، فسقوطه إنّما هو لمضيّ وقته، وهو يستلزم سلب القدرة على الامتثال المعتبرة في ثبوت التكليف بلا إشكال، ولا دخل للعصيان فيه أصلا.

وهذا بخلاف الامتثال في الامر، فإنّه بمجرّد تحققه يسقط الأمر لحصول الغرض به، وانقدح من جميع ما ذكرنا بطلان القول بانحلال النواهي إلى تكاليف عديدة حسب تعدّد الموضوع.

وثانيا: منع كون التكليف في هذا القسم مشروطا بوجود الموضوع، إذ المراد من التكليف المشروط أن يكون البعث أو الزجر ثابتا على فرض وجود الشرط، وحينئذ لا يمكن أن يقال إنّ الزجر في النواهي مشروط بوجود موضوعاتها.

وثالثا: لو سلّمنا جميع ذلك، لكن لا نسلّم قبح العقاب من المولى في نظر العقل مع احتمال المكلف وجود الموضوع، لأنّ المفروض أنّ البيان من قبله تامّ لا نقص فيه، إذ لا يجب عليه بیان الصغريات حتى على القول بالانحلال([2]).

وقد حكي عنه ايضا أنه قال لو لم يكن قيام الحجة على الكبرى كافيا في تنجز الحكم بالنسبة الى العبد لزم القول بجواز التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص المنفصل، كما لو ورد عن المولى خطاب “أكرم كل عالم” ثم ورد خطاب “لا تكرم الفساق منهم” وشك في فسق عالمٍ، فان نكتة عدم جواز التمسك هو تمامية البيان من قبل المولى بالنسبة الى حرمة اكرامه لو كان فاسقا واقعا، وبذلك قد تنجزت حرمة اكرامه على تقدير فسقه.

اقول: أما ما ذكره في اشكاله الاول من انكار انحلال تحريم شرب الخمر الى احكام عديدة بعدد افراد الخمر ففيه اولاً: انه ان كان مراده انكار الانحلال في الجعل فهذا ليس بمهمّ، اذ المهم الانحلال في المجعول بالنظر العرفي، ولا اشكال في أن العرف يري ثبوت وصف طبيعة الخمر وهو حرمة الشرب لجميع افراد الخمر، كما هو الحال في سائر اوصاف الطبيعة، فيرى العرف حرمة شرب هذا الفرد من الخمر، سواء حلّ شرب فرد آخر من الخمر لاضطراره اليه ونحوه ام لا، و عليه فتكون حرمة الفرد المشكوك الخمرية مشكوكة فتجري البراءة عنه عقلا وشرعا.

وثانيا: قد سبق منا لزوم الالتزام بالانحلال في الجعل، وهذا في العام الشمولي الذي ينصبّ الحكم فيه في الخطاب على الافراد واضح، بل لاموجب لاختلاف قول المولى “اكرم العالم” الذي هو مطلق شمولي، مع المطلق البدلي كقوله “راجِعْ الى الطبيب” او “توضأ بالماء” وكذا النهي عن الطبيعة على نحو المطلق الشمولي مع النهي عن الطبيعة على نحو صرف الوجود، الا باختلاف كيفية الجعل، والا فلاموجب لاختلافه عن النهي عن صرف الوجود.

وثالثا: سلمنا عدم انحلال تحريم شرب الخمر الى احكام عديدة بعدد افراد شرب الخمر، لكن بعد أن كان له عصيانات وامتثالات متعددة، فلا يكون العلم بالخطاب منجزا عقلا وعقلاء لوجوب الاحتياط في شبهته الموضوعية، سواء في الشبهة التحريمية كمثال شرب الخمر او شرب النجس، او في الشبهة الوجوبية كمثال وجوب اكرام العالم بالنسبة الى من يشك في كونه عالما.

وأما ما ذكره من عدم سقوط التكليف بالعصيان دون الامتثال فلم نفهم وجه الفرق بينهما، فانه بناء على انكار الانحلال فكما أن تحقق العصيان في فرد لا يوجب سقوط التكليف لما يتصور له عصيان بالنسبة الى سائر الأفراد، فكذلك تحقق الامتثال في فرد لا يوجب سقوط التكليف لما يتصور له امتثال بالنسبة الى سائر الافراد.

وأما ما ذكره في الاشكال الثاني من عدم اخذ الخمر موضوعا لحرمة الشرب، بل الظاهر من الخطابات أن حرمة شرب الخمر فعلية ولو قبل وجود الخمر فهو كلام متين، وسيأتي توضيحه، لكن الامر الذي لابد من الالتفات اليه هو أن جريان البراءة في الشبهات الموضوعية تابع لكون الشك شكا في ثبوت التكليف الزائد، ولذا نلتزم بجريان البراءة في كثير من الأقسام التي ذكرها المحقق النائيني “ره” في رسالة اللباس المشكوك، كما سياتي توضيحه.

وأما ما حكي عنه من أن وظيفة المولى بيان الكبريات، فقد مر أنه لا يمنع من جريان البراءة عند عدم قيام الحجة على الصغريات والمصاديق، وقياس المقام ببحث التمسك بالعام في الشبهة المصداقية قياس مع الفارق، فان المانع عن جريان البراءة هو الحجة على التكليف الفعلي، فان مجرد قيام الحجة على الكبرى أي حرمة اكرام العالم الفاسق، مع الشك في الصغرى أي كون زيد مثلا عالما فاسقا، لايرفع موضوع البراءة عن حرمة اكرام زيد، فان موضوعها عدم قيام الحجة على حرمة اكرامه، وأما المانع عن التمسك بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص المنفصل فهو قيام الحجة على الكبرى، فانه اذا ورد “لاتكرم العالم الفاسق” فيكشف عن ضيق المراد الجدي في قوله “اكرم كل عالم” واختصاصه بوجوب اكرام العالم الذي ليس بفاسق، فلا يفترق عن قوله “اكرم كل عالم ليس بفاسق” الا في ان انكشاف تمام المراد الجدي فيه يكون بتعدد الدال والمدلول، وحينئذ فلايكون العام حجة في الفرد المشكوك بعد انكشاف اختصاص المراد الجدي منه بالعالم الذي ليس بفاسق.

اختصاص البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية بموارد عدم اهمية المحتمل، والا لزم الاحتياط

هذا، وقد خصّ بعض السادة الاعلام “دام ظله” البراءة العقلية في الشبهات الموضوعية –التي تجري عنده حتى فيما قبل الفحص- بموارد عدم اهمية المحتمل، والا لزم الاحتياط.

مناقشه

وفيه أن الانصاف عدم احراز جريان البراءة العقلائية فضلا عن العقلية فيما اذا امكن رفع الشك بالفحص مع سهولة، وأما موارد اهمية المحتمل فان احرز مذاق المولى من لزوم الاحتياط فيها او كان هناك ارتكاز عقلائي او متشرعي على لزوم الاحتياط فيها كقتل مشكوك الاسلام بناء على كون الاسلام سببا لحرمة القتل كما هو المشهور، فهو والا فالظاهر عدم فرق بينها وبين سائر موارد الشبهة.

ثمرة الالتزام بجريان البراءة العقلية في الشبهة الموضوعية

ثم ان ثمرة الالتزام بجريان البراءة العقلية في الشبهة الموضوعية أنه اذا تعارضت الاصول المؤمنة الشرعية في طرفي العلم الاجمالي، وكان احد الطرفين مجرى لقاعدة الاشتغال في حد نفسه، بخلاف الطرف الثاني، كما لو علم في وقت صلاة الظهر بأنه لم يصل اليوم من طلوع الفجر الا اربع ركعات، فإما أنه لم يصل الفجر فوجب عليه قضاءها او صلى الظهر ركعتين فوجبت عليه اعادتها، فتتعارض قاعدة الفراغ في الظهر مع قاعدة الحيلولة والبراءة عن وجوب قضاء الفجر، وتتساقط الجميع، فتصل النوبة في صلاة الظهر الى قاعدة الاشتغال واستصحاب عدم الامتثال وأما في قضاء صلاة الفجر فان قلنا بمسلك حق الطاعة فلابد من الاحتياط فيه لعدم ثبوت ترخيص شرعي في تركه، وأما بناء على قبول البراءة العقلية حتى في احد طرفي العلم الاجمالي الذي يوجد منجز تفصيلي في طرفه الآخر فتجري البراءة العقلية للتأمين عن وجوب القضاء، لأن القضاء بأمر جديد، فيكون من الشك في حدوث التكليف، نعم قد مر أنه مع قبول البراءة العقلائية في المجالات الشرعية كما هو الظاهر فلا تبقى ثمرة لانكار البراءة العقلية.

 

 

بيان ضابط جريان البراءة في الشبهات الموضوعية

کلام المحقق النائيني “قده”

ذكر المحقق النائيني “قده” في رسالة اللباس المشكوك ضابطا لجريان البراءة في الشبهات الموضوعية الأعم من الشبهة التحريمية او الوجوبية، ومحصله أن الشك إذا كان فيما يستتبع التكليف كان مجرى للبراءة، وأما اذا كان ما يستتبع التكليف معلوما وكان الشك في امر خارجي لا يستتبع التكليف فهو مجرى للاحتياط، لأن الشكّ حينئذ يكون في الامتثال.

وذكر في توضيح ذلك أن متعلق التكليف لابد أن يكون دائما هو الفعل الاختياري للمكلف فقد يكون فعلا مباشريا له كالتكلم وقد يكون فعلا تسبيبيا له كالقتل، والفعل المباشري للمكلف وهو القاءه من شاهق مثلا سبب توليدي له، ولا يمكن تطرق الشك في الاول، اذ لا يعقل شكّ المكلف حين العمل في فعله الارادي، بخلاف الشكّ في تحقق المسبب التوليدي للشكّ في سببية فعله له فيكون من الشكّ في المحصّل، فتجري قاعدة الاشتغال، وأما اذا كان لمتعلق التكليف متعلق، فله ثلاثة اقسام:

اذ قد يكون متعلق المتعلق امرا خارجيا جزئيا مفروغ الوجود، كالقبلة في الامر باستقبال القبلة وعرفات في الامر بالوقوف بعرفات فكذلك تجري قاعدة الاشتغال لكون الشك في كون الاستقبال الى جهةٍ استقبالا للقبلة شكا في تحقق الامتثال بعد العلم بالتكليف، وكذلك لو شك في مكان أنه من عرفات أم لا؟، ولو تعلق النهي باستقبال القبلة كما في حال التخلي فيجب الاحتياط ايضا للعلم الاجمالي بحرمة استقبال احدى الجهات الاربعة حال التخلي(اذا كان التخلي نحو كل واحد من تلك الجهات مقدورا له، فلة عجز عن التخلي نحو واحد منها جرت البراءة عن حرمة التخلي الى سائر الجهات) نعم بالنسبة الى حرمة الافاضة من عرفات قبل غروب الشمس من يوم عرفة، تجري البراءة عن حرمة الافاضة الى المكان المشكوك كونه من عرفات، لان حرمة الافاضة انحلالية، فكلما صدق عليه الافاضة من عرفات فهو حرام، فيشك في انطباقها على هذا الفعل المشكوك.

وقد يكون متعلق المتعلق امرا كليا مأخوذا على نحو صرف الوجود كالماء في الامر بالوضوء بالماء، فانه ان علم بصرف وجود ماء فيعلم بوجوب الوضوء بالماء، ويكون الشك في كون الوضوء بمايع مشكوك وضوءا بالماء من الشك في الامتثال فتجري قاعدة الاشتغال، نعم لو شك في اصل وجود الماء فيكون من الشك في القدرة مع كون القدرة شرعية فتجري البراءة عن وجوب الوضوء، ثم انه لا يتصور هذا القسم في الشبهة التحريمية.

وقد يكون متعلق المتعلق امرا كليا مأخوذا على نحو مطلق الوجود كالعالم في الامر بوجوب اكرام العالم والعقد في وجوب الوفاء بالعقد والوقت في وجوب الصلاة في الوقت، والخمر في النهي عن شرب الخمر -على اختلاف بين الامثلة في كون وجود العالم والوقت خارجا عن اختيار المكلف، بخلاف العقد والخمر، فحيث ان مرجعه الى اخذ هذه الموضوعات في خطاباتها التي تكون قضايا حقيقية مفروضة الوجود في مقام ترتب الحكم، فالحكم فيها مترتب على الافراد المقدرة الوجود، فينحل حينئذ إلى عدة قضايا شرطية شرطها تحقق فرد من ذلك الموضوع وجزاؤها فعلية الحكم، فمع الشك في كل فرد يتحقق شك في تكليف فعلي زائد مرتبط بذلك الفرد فتجري البراءة عنه.

كما أنه لو شك في بقية شرائط التكليف فتجري البراءة عن التكليف، كما لو شك في الشرائط الخاصة للتكليف كما لو شك في تحقق الاستطاعة التي هي شرط وجوب الحج فتجري البراءة عن وجوب الحج، كما أنه لو شك في الشرائط العامة للتكليف، كالبلوغ، أما الشك في القدرة فهو وان كان موجبا للشك في التكليف ايضا، لكن يلزم فيه الاحتياط اذا كانت القدرة شرطا لاستيفاء الملاك، وذلك فيما اذا كانت القدرة عقلية أي لم تكن القدرة مأخوذة في الخطاب الشرعي، وانما كانت باقتضاء العقل، وتكون هي القدرة التكوينية، دون ما اذا كانت القدرة شرعية أي ماخوذة في الخطاب الشرعي، فانها تكون شرطا للاتصاف بالملاك، وتكون بمعنى القدرة العرفية التي تتقوم بعدم التكليف بالخلاف ايضا([3]).

مناقشه

اقول: أما ما ذكره من عدم تطرق الشك في المتعلق اذا كان فعلا مباشريا للمكلف فلا وجه له، فان الغناء هو الصوت المشتمل على الترجيع المطرب او أنه الصوت المناسب لمجالس اللهو واللعب، ويشك الانسان احيانا في أن ما يصدر منه من الصوت هل يشتمل على الترجيع أم لا، وكذا الجهر في القراءة، حيث يشك المكلف احيانا لابتلاءه بثقل الأذن في أنه هل يجهر بقراءته أم لا، او التكلم بجملتين متساويتين، وايجاد خطين متوازيين، وهكذا. وقد حكي عن المحقق العراقي “قده” أنه ذكر له مثالا آخر، وهو الشك في كون كلامه كذبا ام لا، فتجري البراءة، وفيه أن الشبهة المصداقية للكذب مضافا الى كونه قولا بغير علم وقد ثبت من بعض الروايات حرمته مطلقا، أنه دائما يكون موردا للعلم الاجمالي إما بكون الاخبار عن وجود المشكوك كذبا محرما او الاخبار عن عدمه، فتكون الشبهة متنجزة، لمن التفت الى هذا العلم الاجمالي.

وأما ما ذكره حول متعلق المتعلق كالعالم في وجوب اكرام العالم (من كونه هو الموضوع الذي رتب الحكم على وجوده فيكون مآل الخطاب الى قضية شرطية وهي أنه اذا وجد العالم فيجب اکرامه) ففيه أنه ليس كل متعلقِ متعلقٍ، موضوعا للحكم، وهذا كالماء في وجوب الوضوء بالماء ولذا التزم الفقهاء بان من تمكن من اذابة ثلج للوضوء وجب عليه ذلك، فيكون نظير الامر باكل المريض ماء اللحم، فانه لا يعني أنه اذا وجد ماء اللحم فيجب اكله، بل يكفي تمكنه من ايجاده.

وقد التزمنا في خطابات التحريم مثل ” لا تشرب الخمر” بفعلية الحرمة ولو قبل تحقق متعلق متعلقه وهو الخمر في هذا المثال، فان الموجب للالتزام بكون متعلق المتعلق موضوعا للحكم أي كون فعلية الحكم منوطة بوجوده إما كون فعلية الحكم قبل وجوده مستلزما للتكليف بغير المقدور، مثل “اكرم العالم” فيكون مآله حينئذ الى قضية شرطية وهي أنه اذا وجد العالم فأكرمه، او كون متعلق المتعلق شرطا للاتصاف المتعلق بالملاك عرفا، مثل امر الطبيب بعلاج المريض، فان مرض الغير شرط في اتصاف علاجه بالملاك، فيكون متعلق المتعلق في هذين الموردين شرط التكليف، ويكون وجوده مستتبعا للتكليف الزائد، فمع الشك في وجوده تجري البراءة عن التكليف، وأما في غير هذين الموردين كما في خطاب النهي عن شرب الخمر فلا موجب عقلا ولا عرفا لحمله على قضية شرطية مفادها أنه اذا وجد خمر فيحرم شريه، بل الشارع حرّم علينا شرب الخمر وتركه لايتوقف على وجود الخمر.

ودعوى لغوية جعل الحرمة لما قبل وجود الخمر مندفعة بأنه اولا: قد يتمكن المكلف من ايجاد الخمر فيكون شربه مقدورا له بواسطته، وثمرته انه لو علم شخص انه لو اوجد خمرا لألجئ على شربه فلا يجوز له ايجاده، حتى على القول بعدم لزوم التحفظ على المقدمات المفوتة قبل فعلية التكليف، كما افتى السيد الخوئي “قده” بجواز اهراق ماء الوضوء قبل دخول الوقت، وثانيا: انه لا دليل على كون القدرة على العصيان شرطا للتكليف، بعد أن كان ثبوت التكليف لهذا الفرض مستفاد من اطلاق الخطاب الذي ليس فيه مؤونة عرفا.

فالحاصل انه ليس وجود كل متعلق متعلق شرطا لفعلية التكليف، هذا مع غمض العين عما مر في بحث الواجب المشروط من رجوعه الى الواجب المعلق، فيكون وجوب اكرام العالم على تقدير وجوده فعليا وان كان الواجب هو اكرام العالم على تقدير وجوده، والا فالامر هو ابراز الارادة، وقد لا يبقى المولى الى حين تحقق متعلق المتعلق، كما لو قال الاب لابنه “اكرم كل من حضر تشييع جنازتي”.

الملاک فی جريان البراءة في الشبهات الموضوعية

فالمهم في نكتة جريان البراءة في الشبهات الموضوعية هو كون الشك راجعا الى الشك في سعة التكليف وضيقه، ويختص المنع عن جريان البراءة بمورد ايجاب صرف الوجود، كما في وجوب صرف وجود الوضوء بالماء، فيما اذا شك في كون مايع ماء بنحو الشبهة المصداقية، فتجري فيه قاعدة الاشتغال، مع العلم بفعلية الوجوب لتمكنه من الوضوء بالماء، وفيما عدا ذلك تجري البراءة، سواء كان التكليف بنحو وجوب مطلق الوجود، كقوله “اكرم كل عالم من علماء البلد” او مجموع الوجود، كقوله “أكرم مجموع علماء البلد” ومنه ما اذا تعلق الامر بالوقوف في كل مكان من امكنة عرفات، او كان النهي عن مطلق الوجود، كقوله “لا تكذب” او “لا تشرب الخمر” او “لا تستقبل القبلة حال التخلي” فيما اذا لم يتشكل علم اجمالي منجز بان لم يتمكن من التخلي نحو جميع الجهات، او كان النهي عن صرف الوجود، كما سيأتي في القسم الثاني من اقسام الشبهة الموضوعية التحريمية، او النهي عن مجموع الوجود، كما لو قال “لا تتخاصم مع كل اشرار البلد” كما سيأتي في القسم الثالث، فانه لو شك في كون زيد من اشرار البلد يجوز مخاصمة من سواه من اشرار البلد، تمسكا باصل البراءة، نعم لو علم بانطباق الحرام على فرد وشك في وجوده فلا مجال لاصالة البراءة كما لو نهاه المولى عن النوم، وشك أنه هل يغلب عليه النوم أم لا، فانه لو قبلنا جريان استصحاب عدم النوم على نحو الاستصحاب الاستقبالي فهو والا فلا مجال لجريان البراءة للعلم بحرمة النوم والشك في امتثاله، فتجري قاعدة الاشتغال، ودعوى كون القبيح عقلا في مورد النهي احراز العصيان ولا يلزم احراز الامتثال بخلاف الواجبات مخالفة للوجدان.

هذا ولا فرق في جميع الموارد التي مرّ جريان البراءة فيها بين كون القضية حقيقية او خارجية، مع أنه صرح بعدم رجوع جعل الحكم على نهج القضية الخارجية الى القضية الشرطية مفادها ثبوت الحكم على تقدير تحقق الشرط، فيعلم أن هذا الامر الذي ركّز عليه المحقق النائيني “ره” في كلماته من أنه حيث يرجع الشك في متعلق المتعلق الى الشك في شرط التكليف أي ما انيط به فعلية التكليف فيكون مجرى للبراءة، ليس بمهم، بل المهم في جري ان البراءة ما ذكرناه من كون الشك في سعة التكليف وضيقه، لا في الامتثال بعد العلم بالتكليف بحده، والثاني يختص بوجوب صرف وجود طبيعة، كوجوب الوضوء بالماء.

وأما ما ذكره شيخنا الاستاذ “قده” في مثال وجوب الوضوء بالماء ايضا من أنه لو شك في امتثاله فان جرى استصحاب عدم الاتيان به فهو وان لم يجر، كما لو توضأ بمايع توارد فيه حالتا الاطلاق والاضافة، فتجري البراءة عن بقاء التكليف ولكن سيأتي الجواب عنه في مباحث فاعدة الاشتغال.

جريان قاعدة الاشتغال عند الشك في القدرة العقلية

اما ما اشار اليه المحقق النائيني “قده” من جريان قاعدة الاشتغال عند الشك في القدرة العقلية فهو بحث مهم، فانه قد يناقش فيه بأنه ما هو المقيِّد لاطلاق دليل البراءة بعد كون الشك في القدرة موجبا للشك في التكليف لكون القدرة شرطا في فعلية التكليف، وقد جعل السيد الامام “قده” الاجماع على لزوم الاحتياط في موارد الشك في القدرة نقضا على القائلين باشتراط التكليف بالقدرة([4])، وحكي عن السيد الخوئي “قده” أنه التزم بجريان البراءة عندالشك في القدرة([5])، ولكن الظاهر لزوم الاحتياط لانصراف دليل البراءة عنها قطعا او احتمالا بعد كون السيرة العقلائية على الاحتياط، ولعل منشأ السيرة ان القدرة شرط لاستيفاء الملاك في الخطاب المطلق غالبا، فيكون موجباً لظهوره في كون القدرة في جميع الخطابات المطلقة شرطا لاستيفاء الملاك، ولأجل ذلك لايعذر العقلاء الشاك في القدرة اذا ترك الاحتياط، بعد احرازه لفوت الملاك الملزم.

وأما النقض المذكور في كلام السيد الامام “فده” ففيه أنه لابد من علاج هذه المشكلة على اي حال، لان امكان شمول الخطابات القانونية للعاجز لايحل المشكلة بعد ورود مايدل على عدم تكليف العاجز كقوله تعالى “لا يكلف الله نفسا الاوسعها” وفحوى قوله تعالى “ماجعل عليكم في الدين من حرج “ونحو ذلك، فالجواب هو ما مر من كون الارتكاز العقلائي على لزوم الاحتياط في موارد الشك في القدرة موجبا لانصراف دليل البراءة، وقد ذكر السيد الحكيم “قده” في بحثه أنه يوجد في موارد الشك في القدرة اصل عقلائي وهو أصالة القدرة، ولكن الظاهر أنه عبارة أخرى عن بناء العقلاء على لزوم الاحتياط، والا فمع الاحتمال المعتد به لطروّ العجز عن امتثال الواجب الموسع لم يحرز بناء العقلاء على بقاء القدرة.

هذا وقد يستدل على لزوم الاحتياط عند الشك في القدرة بأن خطابات التكليف المجعول على نهج القضية الحقيقية حيث تكون مطلقة وانما نرفع اليد عن اطلاقها بالنسبة الى مورد علم المكلف بعجزه، للغوية تكليفه وأما بقاء اطلاقها بالنسبة الى الشكّ في القدرة، فليس لغوا، فان اثره فحص المكلف عن قدرته([6]).

ولكنه غير تام، اذ اولاُ: الصحيح أن خطاب البعث منصرف الى موارد امكان الانبعاث، وليس تقييده بالقدرة بمناط اللغوية، وثانيا: ماذا يجاب عن المقيد اللفظي المنفصل كقوله تعالى “لايكلف الله نفسا الا وسعها” فانه يكون التمسك بعموم خطاب التكليف في مورد الشكّ في القدرة تمسكا بالعام في الشبهة المصداقية للمخصص المنفصل.

القسم الثاني: ما اذا تعلق النهي بصرف وجود الطبيعة بحيث لو اتى بفرد منها خالف النهي نهائيا وسقط النهي بالعصيان

القسم الثاني: ما اذا تعلق النهي بصرف وجود الطبيعة، بحيث لو اتى بفرد منها خالف النهي نهائيا وسقط النهي بالعصيان، كما لو نهاه المولى عن التصريح باسمه أمام الناس، لغرض أن لا يعرفوه، فانه ان صرح باسم المولى مرة واحدة سقط النهي بالعصيان، وكذا لو منع المولى عبده من التكلم أمام الناس حتى يزعمون أنه اصمّ، فلو تكلم أمام الناس مرة واحدة انتقض غرض المولى، ومثاله الفقهي وجوب الصوم حيث انه يعني وجوب ترك المفطرات عن نية، بحيث لو ارتكب مفطرا فقد انتقض صومه، وكذا نذر ترك صرف وجود شيء، فان وجوب الوفاء بهذا النذر يعني وجوب ترك صرف وجود ذلك الشيء، وهكذا حرمة ابطال صلاة الفريضة ونقضها فانه لا يصدق الابطال والنقض الا على اول وجود ناقض في الصلاة.

کلام صاحب الکفایه ره

وقد ذكر في الكفاية حول هذا القسم أنه تجري قاعدة الاشتغال في الفرد المشكوك منه، حيث يكون النهي عن صرف وجود الطبيعة معلوما ويكون الشك في أنه لو اتى بهذا الفرد المشكوك فهل امتثل هذا النهي ام لا؟، فقد ذكر أن النهي عن شي‏ء إذا كان بمعنى طلب تركه في زمان أو مكان بحيث لو وجد في ذاك الزمان أو المكان ولو دفعة لما امتثل أصلا كان اللازم على المكلف إحراز أنه تركه بالمرة، فلا يجوز الإتيان بشي‏ء يشك معه في تركه، فان الفرد المشتبه وإن كان مقتضى أصالة البراءة جواز الاقتحام فيه، إلا أن مقتضى لزوم إحراز الترك وجوب التحرز عنه، ولا يكاد يحرز إلا بترك المشتبه أيضا، نعم إذا كانت الحالة السابقة للمكلف ترك الطبيعة، فتستصحب، الى ما بعد الاتيان بهذا الفرد المشكوك([7]).

وقد نقل المحقق المشكيني “ره” في حاشيته على الكفاية عن صاحب الكفاية أنه قال إنّ عدم صرف الوجود أو عدم الطبيعة، عدم بسيط متحصّل من عدم الافراد، فيكون من قبيل الشكّ في المحصّل، وما يقال من أنه كما يكون وجود الطبيعة عين وجود الأفراد، كذلك عدمها يكون عين عدم الأفراد فهو ممنوع في العدم وان تمّ في الوجود، لأنّه لا ميز في الأعدام، فليس للطبيعة الا عدم واحد، ولا يتعدد بعدد عدم الافراد، بينما أن وجود الطبيعة يتعدد بعدد وجود الافراد، وعليه فاذا كان المطلوب ترك الطبيعة فيجب إحراز تركها بترك الفرد المشكوك([8]).

مناقشه

اقول: محصل كلامه أن النهي حيث يكون بمعنى طلب ترك الطبيعة، وترك الطبيعة وعدمها واحد عرفا ولا يتعدد بعدد عدم الافراد بخلاف وجود الطبيعة حيث يتعدد عرفا بعدد وجود الافراد، فانه اذا وجد انسانان في الدار فيقال اثنان من وجود الانسان واذا لم يوجدا فلا يقال اثنان من عدم الانسان، ولذا ذكرنا في بحث الاستصحاب وفاقا لجماعة منهم السيد الصدر “قده”([9])، أنه لا يمكن نفي صرف وجود الكلي باستصحاب عدم الفرد الطويل مع ضمه إلى الوجدان، لأنَّ ترتب انتفاء صرف وجود الكلي على انتفاء الافراد عقلي وليس شرعياً، مثال ذلك أنا لو علمنا بوجود زيد في الدار امس وخروجه منها اليوم واحتملنا وجود عمرو معه في الدار فاستصحاب بقاء صرف وجود الانسان في الدار وان كان لا يجري، لكونه من القسم الثالث من الكلي، لكنه في نفس الوقت لا يمكن نفي وجوده في الدار بضم العلم بعدم زيد في الدار اليوم، الى استصحاب عدم سائر الافراد، لأن انتفاء صرف الوجود لازم عقلي لانتفاء افراده، والا فلو افاد ذلك فيتعارض استصحاب عدم الفرد الطويل المنضم الى العلم الوجداني بعدم الفرد القصير مع استصحاب الكلي في مورد القسم الثاني من الكلي.

وعليه فلو كان مفاد النهي عن صرف وجود الطبيعة طلب ترك صرف وجود الطبيعة اشكل جريان البراءة، ولذا نلتزم بعدم جريان البراءة عن حرمة المايع المشكوك الخمرية فيما اذا قال المولى لعبده “كن تارك شرب الخمر” او “كن لا شارب الخمر”، وهكذا لو قال “كن تارك لبس اجزاء ما لا يؤكل لحمه” فلا تجري البراءة عن طلب ترك لبس هذا اللباس المشكوك، لان الواجب امر وحداني وهو كون المكلف تارك طبيعة لبس ما لا يؤكل لحمه، ومع لبس هذا المشكوك يشك في امتثاله، فلو كان حين توجه هذا الخطاب من المولى لابس فرو من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، ولذلك اللباس المشكوك، فلا يكفيه أن ينزع الاول فورا، حيث لا يحرز أنه امتثل الامر بكونه تارك لبس ما لا يؤكل لحمه، ودعوى كون ترك الطبيعة متحدا عينا مع ترك الافراد، فطلب ترك الطبيعة طلب ضمني لترك كل فرد من افرادها، غير متجه، بعد تغايرهما مفهوما لبساطة احدهما وتركب الآخر.

فينحصر الجواب عن كلام صاحب الكفاية بأحد امرين: إما بأن نقول ان حقيقة النهي هو الزجر عن ايجاد الفعل، دون طلب الترك، والمفروض قبول اتحاد ايجاد الطبيعة مع ايجاد افرادها، وهذا لا ينافي ما اخترناه في بحث النواهي من ان روح النهي ليست هي بغض الفعل وكراهته، فقد ينهى الانسان عن شيء وهو لا يبغضه، كما في من ينهى عن منكرٍ يريد الغير ان يرتكبه وهو يحب ذلك الفعل، وانما ينهاه عنه خوفا من أن يعاقبه المولى على تركه للنهي عن المنكر، فليست روح النهي الا تعلق غرض المولى بعدم صدور الفعل من العبد، الا أن المهمّ أن المولى قد صاغ حكمه بصياغة الزجر عن ايجاد الفعل، حتى لو قال “اترك شرب الخمر” مثلاً، فانه كناية عن الزجر عن الفعل لاشتماله على المفسدة، نعم لا يتمّ هذا البيان في طلب ترك المفطرات في الصوم، لنشوءه عن مصلحة في الترك.

وإما بأن نقول بأنه لا يظهر من طلب ترك الطبيعة أكثر من كونه مشيرا الى ترك افرادها، فيكون طلبا لترك كل فرد من افراد الطبيعة بطلب واحد، بل احتمال ذلك كافٍ في امكان اجراء البراءة، نعم لا يتمّ هذا الجواب فيما لو كان ظاهر الخطاب هو طلب الاتصاف بترك الطبيعة كوصف وحداني كما لا يبعد استظهاره في مثل قوله “كن تارك شرب الخمر” او “كن لا شارب الخمر”، وهذا هو الظاهر من جعل عدم صرف وجود الطبيعة موضوعا لحكم شرعي، كما لو قال المولى بعبده “اذا لم يكن انسان في الدار فسدّ الباب” والا فلو كان هو ايضا ظاهرا في اخذ عدم افراد الانسان في الدار موضوعا لحكمه امكن احراز هذا العدم بضم استصحاب عدم الفرد الطويل الى وجدانية عدم سائر الافراد.

هذا وقد وافق بعض الاعلام “قده” صاحب الكفاية في منعه عن جريان البراءة في هذا القسم، فذكر بأن النهي عن صرف وجود الطبيعة حيث يعني النهي عن اول وجود الطبيعة فالتكليف معلوم بحده، ولا شك فيه سعة وضيقا، وإنما الشك في انطباق اول الوجود المعلوم بحدّه على هذا الفرد المشكوك، ومن الواضح أنه بعد ان كان النهي متعلقا باول وجود طبيعةٍ، فكون هذا الفرد المشكوك من افراد الحرام واقعا لا يستلزم سعة وزيادة في التكليف، كما أن عدم كونه من افراده واقعا لا يستلزم نقصا في دائرة التكليف، إذ لا علاقة لانطباق متعلق التكليف المعلوم بمفهومه على فرد وعدم انطباقه عليه بزيادة التكليف او نقيصته.

وإذا تبين ذلك، فلا مجال لإجراء البراءة في هذا الفرد المشكوك لعدم تعلق التكليف به، ولا يكون ثبوت الحكم له على تقدير كونه من أفراد الحرام مستلزما لسعة التكليف وزيادته عما كان معلوما، وقد عرفت ان البراءة إنما تجري فيما إذا كان الشك في أصل التكليف أو زيادته وسعته، وعليه فمقتضى قاعدة الاشتغال لزوم اجتنابه، ليعلم بترك اول وجود الطبيعة فيعلم بالامتثال، نعم لو قلنا بأن النهي عن صرف وجود الطبيعة ينبسط على افرادها فتجري البراءة عن حرمة الفرد المشكوك ضمنا.

ثم قال: ان قلنا بأن النهي عبارة عن طلب الترك، كما فرضه المحقق العراقي “قده” فقد يتخيل جريان البراءة للشك في سعة التكليف، لأن الشك في كون هذا فردا للحرام يلازم الشك في أن تركه مشمول للطلب أم لا، فيرجع الشك إلى الشك في سعة التكليف وانبساطه على ترك المشكوك، ولكن فيه أن الالتزام بان النهي عبارة عن طلب الترك مع كونه مخالفا لظاهر النهي في كونه زجرا عن الفعل وردعا عنه، إنما هو من جهة عقلية، وهي أن التكليف لتحريك الإرادة، والمتصور في باب النهي هو تحريك الإرادة الى ترك الفعل.

الا أنه لا يخفى ان هذا المعنى يرجع إلى ان المطلوب في موارد النهي هو عدم إعمال الإرادة في الفعل، وعدم إعمال الإرادة في صرف وجود الفعل لازم للترك المستمر بين المبدأ والمنتهى، فليس المطلوب هو الترك بنفسه، بل ما هو لازمه، وعليه فالشك في فردية فرد للحرام لا يستلزم الشك في سعة التكليف، لأن متعلقه أمر بسيط لازم للمتروك، فلا يكون مجرى للبراءة، بل تجري قاعدة الاشتغال، نعم لو كانت الحالة السابقة ترك صرف وجود الطبيعة او فقل ترك اول وجود الطبيعة او عدم ارادة صرف الوجود جرى استصحابها ونفع بحال الامتثال تعبدا([10]).

اقول: لو كان مآل النهي عن صرف الوجود الى النهي عن اول الوجود، لكان معناه أن كل ما انطبق عليه أنه اول وجود الطبيعة فهو حرام، وحيث يشك في انطباقه على الاتيان بهذا الفرد المشكوك، فيشك في حرمة هذا الفرد فتجري البراءة عنه، بل جريان البراءة فيه اوضح، لعدم توقفه على قبول البراءة في الاقل والاكثر الارتباطيين، بخلاف القول بانبساط النهي عن صرف وجود الطبيعة الى النهي عن جميع افرادها بنهي واحد ارتباطي.

هذا ولا يخفى أن القول بكون متعلق النهي عن صرف وجود الطبيعة هو اول وجودها خلاف الظاهر، حيث ان الظاهر أن متعلق النهي هو الطبيعة على نحو يكون كل فرد منها متعلقا لنهي ضمني، حيث ان الطبيعة عين افرادها، ولما كان المفروض في هذا القسم كون النهي عن الطبيعة نهيا وحدانيا منبسطا على كل الافراد، فامتثاله يكون بترك جميع الافراد، وعصيانه يكون بايجاد فرد منها.

على أن القول بكون متعلق النهي عن صرف الوجود هو اول وجود الطبيعة يورّطنا في علم اجمالي لا يمكن التخلص منه، حيث يقال بأنه يعلم اجمالا بأنه إما يحرم ارتكاب هذا المشكوك لكونه اول وجود الطبيعة او يحرم ارتكاب الفرد المتيقن من الطبيعة بعد ارتكاب هذا المشكوك، لكونه اول وجود الطبيعة، واستصحاب بقاء حرمة ارتكاب اول وجود الطبيعة لا يجدي لانحلال هذا العلم الاجمالي، فانه لا يثبت حرمة ارتكاب الفرد المتيقن بعد ارتكاب هذا المشكوك الا بنحو الاصل المثبت، حيث لايثبت أنه اول وجود الطبيعة.

وأما بناء على كون متعلق النهي هو الطبيعة بحيث يتعلق النهي الضمني بكل فرد من افراد الطبيعة، فقد يقال بانحلال هذا العلم الاجمالي حكما، بسبب جريان استصحاب عدم كون المشكوك من افراد الطبيعة او استصحاب عدم الاتيان بالطبيعة بعد ارتكاب المشكوك، فيثبت بذلك بقاء الحرمة بالنسبة الى سائر افراد الطبيعة، فتجري البراءة عن حرمة هذا الفرد المشكوك بلا محذور ومعارض، وعليه فنحتاج في اجراء البراءة عن الحرمة الضمنية للفرد المشكوك في موارد النهي عن صرف وجود الطبيعة الى استصحاب عدم الطبيعة بعد ارتكاب المشكوك، وبهذا اقتربنا مع مسلك صاحب الكفاية في هذا القسم من اقسام الشبهة الموضوعية التحريمية، ولكن لا لقصور في جريان البراءة عن حرمة الفرد المشكوك كما ادعاه، بل لأن الرافع لمعارضتها مع البراءة عن حرمة ارتكاب الفرد المتيقن من الطبيعة بعد ارتكاب هذا الفرد المشكوك ليس الا استصحاب عدم ارتكاب الطبيعة المنقح لموضوع بقاء حرمة ذلك الفرد المتيقن.

لكن هذا البيان لا يتم في موردين:

المورد الاول: ما لو علم اجمالا بنحو الشبهة الحكمية بتعلق النهي إما بصرف وجود شرب الماء او بصرف وجود شرب الماء البارد، فانه لو شرب الماء غير البارد فلا يجري الاصل الموضوعي لاثبات بقاء حرمة شرب الماء البارد، فيقال حينئذ بتعارض أصالة البراءة عن حرمة شرب الماء غير البارد، مع أصالة البراءة عن حرمة شرب الماء البارد بعد شرب الماء غير البارد، فيجب الاحتياط.

ولكن توجد لاثبات سلامة البراءة الأولى عن المعارض محاولتان:

المحاولة الاولى: دعوى تنجز حرمة شرب الماء البارد، لكونه من قبيل تنجز الاقل في موارد دوران الامر بين الاقل والأكثر الارتباطيين، نظير ما لو علم بوجوب الامساك عن الاكل والشرب إما من طلوع الفجر الى الغروب او من طلوع الشمس الى الغروب، فان وجوب الامساك من طلوع الشمس الى الغروب هو القدر المتيقن فيتنجز تفصيلا، فتجري البراءة عن وجوب الامساك من طلوع الفجر بلا معارض، وفرض ارتفاع تنجز القدر المتيقن بعد العمل بمقتضى البراءة والاكل قبل طلوع الشمس يكون من الخلف الواضح.

وفيه أن التنجز التفصيلي تابع لمقدار انحلال العلم الاجمالي الى علم تفصيلي باشتغال العهدة بالاقل، وشك في اشتغال العهدة بالزائد، واشتغال العهدة بالامساك من طلوع الشمس الى الغروب في فرض الاكل بعد طلوع الشمس مشكوك وليس معلوما، ولذا لو اكل قبل طلوع الفجر ثم التفت الى التكليف لما وجب عليه الامساك من طلوع الشمس ابدا.

المحاولة الثانية: التمسك باستصحاب حرمة شرب الماء البارد، وفيه اولا: انه موقوف على قبول جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية، وثانيا: ان استصحاب حرمة شرب الماء البارد يكون من قبيل استصحاب الجامع بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبله، وسيأتي أن ما يكون من هذا القبيل فلا يكون العلم الاجمالي به منجزا -كما لو علم إما بوجوب اكرام زيد المقدور اكرامه او وجوب اكرام عمرو غير المقدور اكرامه- فكيف باستصحابه، نظير استصحاب بقاء الوجوب في الاقل والاكثر الارتباطيين بعد الاتيان بالاقل، فانه ليس بمنجز، اذ لو اريد به اثبات تعلق الامر بالاكثر فهو اصل مثبت، وبدونه لا يجدي شيئا، لأن هذا الوجوب لو كان متعلقا بالاقل لا بشرط فلا يصلح للتنجز لأنه قد امتثله، والمقام من هذا القبيل، فان استصحاب حرمة شرب الماء البارد ان اريد به اثبات حرمته الاستقلالية، فهو اصل مثبت، وبدونه لا يجدي شيئا، لأنها لو كانت حرمة ضمنية والحرمة الاستقلالية قد تعلقت بصرف وجود شرب الماء فلا تصلح للتنجز، لعدم امكان امتثالها بعد فرض شربه للماء غير البارد قبل ذلك.

وبهذا تحدث مشكلة في الرجوع الى البراءة في موارد الشك في مفطرية شيء في الصوم كالارتماس في الماء، توضيح ذلك أنه يوجد في الصوم مسلكان:

1- ما عليه جماعة من أن قيام الحجة على عدم مفطرية شيء يوجب صحة الصوم واقعا مع ارتكابه استناد الى تلك الحجة من أمارة او اصل، إما مطلقا بمقتضى معتبرة زرارة وأبي بصير قالا: سألنا أبا جعفر (عليه السلام) عن رجل أتى أهله في شهر رمضان وأتى أهله وهو محرم وهو لا يرى إلا أن ذلك حلال له قال ليس عليه شي‌ء([11])، او في غير فرائض الصوم وهو الاكل والشرب والجماع كما عليه بعض السادة الاعلام “دام ظله” تمسكا بقاعدة أن السنة لا تنقض الفريضة، وحينئذ فلا محذور في جريان البراءة عن مفطرية المشكوك.

2- ما عليه جماعة آخرون كالسيد الخوئي “قده” من أن مجرد قيام الحجة على عدم مفطرية شيء حكم ظاهري لتصحيح الصوم، بحيث لو ارتكبه ثم انكشف كونه مفطرا حكم ببطلان صومه، فبناء على هذا المسلك فجريان البراءة عن مفطريته تتعارض مع البراءة عن الحرمة التكليفية لارتكاب المفطر القطعي بعد ذلك، في مثل قضاء صوم شهر رمضان بعد الزوال، حيث انه لو بطل صومه بارتكاب ذلك المشكوك المفطرية لم يحرم عليه ارتكاب المفطرات بعد ذلك تكليفا، بخلاف ما لو لم يبطل صومه به فانه يحرم عليه تكليفا افطار ذلك الصوم بعد الزوال اذا كان القضاء لنفسه، فيتنجز العلم الاجمالي في حقه، نعم لا يتم هذا العلم الاجمالي في شهر رمضان حيث انه حتى لو بطل صومه بارتكاب ذلك المفطر حرم عليه ارتكاب المفطرات الى الليل من باب لزوم الامساك التادبي، وهذا يؤدي الى نتيجة غريبة وهو جواز ارتكاب ذلك المشكوك في صوم شهر رمضان او صوم القضاء عن الغير دون صوم القضاء لنفسه.

المورد الثاني: ما لو تعلقت الحرمة بعنوان لا ينطبق الا على اول وجود الطبيعة كعنوان ابطال الفريضة ونقضها فانه لو شك في كون شيء قاطعا للفريضة بنحو الشبهة الحكمية او الموضوعية فأجرى البراءة عن قاطعيته فارتكبه فيشك في الحرمة التكليفية لارتكاب ما يبطل الفريضة قطعا كاستدبار القبلة حيث لا يعلم بانطباق عنوان نقض الفريضة عليه، وبهذا يحدث علم اجمالي إما بحرمة الفعل الاول او حرمة الفعل الثاني، فتتعارض البراءتان فيهما، والظاهر انحصار طريق الحل إما بكون أصالة البراءة في الاول موجبة لصحة الفريضة واقعا من باب حديث لا تعاد ونحوه، بناء على شمول الحديث للجاهل القاصر، وعدم اختصاصه بالناسي حسب مبنى المشهور ، فبذلك ينحل العلم الاجمالي وجدانا، وإما باستظهار كون الحرام هو ايجاد ذات الناقض كاستدبار القبلة في اثناء الفريضة الصحيحة، وباجراء أصالة البراءة عن حرمة الفعل الاول يثبت حرمة الفعل الثاني تعبدا، وبذلك ينحل العلم الاجمالي حكما.

والمسالة مشكلة جدا، ولابد من مزيد تأمل.

بقيت نكتة في هذه البحث يبنغي الاشارة اليها، وهي أنّا ذکرنا أنه لو تعلق النذر -ونحوه اليمين او العهد او الشرط- بترك طبيعة، كما لو نذر أن لا يكذب، فان كان مقصود الناذر ترك صرف وجود الكذب، فلا اشكال في أنه بأول ارتكابه للكذب قد خالف النذر وعليه الكفارة، وان كان مقصوده ترك مطلق الوجود -كما هو ظاهر نذر ترك القبيح والحرام، اذ الظاهر أن غرضه ترك الكذب حتى في غير الدفعة الاولى- فقد صدر منه التزامات متعددة بعدد افراد الكذب، ويخطر بالبال حينئذ أنه وان كان النذر في الفرض الثاني غير منحلّ الى نذور متعددة عرفا، فإن النذر اسم لعملية إنشاء الالتزام، وعملية الانشاء واحدة عرفا لوحدة الخطاب الصادر من الناذر، نظير وحدة عملية الوضع في موارد الوضع العام والموضوع له الخاص، ولكن قد يقال بأنه كلما ارتكب الكذب فيصدق عليه أنه حنث أي خالف نذره، وتترتب عليه الكفارة، ونحوه العهد واليمين.

واوضح منها الشرط، فان الظاهر عدم الاشكال من أحد في أنه لو شرط أحد المتعاقدين على الآخر أن لا يدخِّن عنده او شرط عليه أن يخيط له كل سنة ثوباً، فترك الوفاء بالشرط مرة، فلا يوجب ذلك انحلال الشرط وعدم وجوب الوفاء به في المرات الأخرى، ولعل نكتة اوضحية الحكم فيه أن وجوب الوفاء في الشرط ثابت ببناء العقلاء، وهم يلحظون انحلالية الغرض، بخلاف وجوب الوفاء بالنذر مثلا حيث انه تعبدي محض، فقد يدعى ان ظاهر خطاب وجوب الوفاء به وحدته تبعا لوحدة النذر وان كان متعلق النذر ترك مطلق وجود طبيعة.

هذا ولكن المسألة ليست واضحة في كلمات الاعلام، فقد حكي عن السيد الخوئي “قده” أنه ذكر ان من عاهد عهدا شرعيا على أن لا يفعل فعلا معيَّنا، فإذا خالف عهده مرة فينحل عهده بالمخالفة الأولى ولا كفارة للثانية والثالثة، وهكذا الحكم في اليمين والنذر([12])، وكذا ذكر السيد الامام “قده” أنه لو كان المحلوف عليه ترك عمل، فحنث اليمين بإرتكاب الفعل ولو مرة واحدة، فلو أتى به حنث وانحلت اليمين، فلو أتى به مرارا لم‌يحنث إلا مرة واحدة، فلا تتكرر الكفارة([13])، وذكر بعض السادة الاعلام “دام ظله” اولاً: أنه إذا حلف ان لا يدخّن فلو اتى‏ به أكثر من مرة لم‌يحنث إلّا بالمرة الاولى‏ فلا تتكرر عليه الكفارة، ثم ذكر بعد ذلك أنه إذا كان حلف أن يصوم كل يوم من شهر رجب مثلًا، أو ترك التدخين في كل نهار منه‏ فان قصد تعدّد الالتزام والملتزم به‏ بعدد الأيام تعدّد الوفاء والحنث بعددها، وإن صدر منه التزام واحد متعلق بالمجموع لم‌يكن له إلّا وفاء أو حنث واحد، فلو ترك الصوم في بعض الأيام أو استعمل الدخان فيه تحقق الحنث وثبتت الكفارة، ولا حنث ولا كفارة بعده وإن ترك الصوم أو استعمل الدخان في سائر الأيام، ولو تردد فيما قصده حين الحلف جرى‏ عليه حكم الصورة الثانية على‏ الأقوى‏، ومثله ما إذا حلف ان يصوم كل خميس أو حلف ان لا يأكل الثوم في كل جمعة([14]).

اقول: إن كون المنذور او المحلوف عليه هو ترك اول وجود الطبيعة كالتدخين بحيث لا يتعلق غرضه بترك الفرد الثاني منه بعد ارتكاب اول فرد منه خلاف الظاهر عرفا بنفس نكتة ظهور خطاب النهي عن الطبيعة في انحلال النهي الى نواهي متعددة بعدد افرادها.

تنبيه: الكلام في اللباس المشكوك في امكان الرجوع الى البراءة…

تنبيه: وقع الكلام في اللباس المشكوك في امكان الرجوع الى البراءة عن مانعية الصلاة في اللباس المشكوك كونه من اجزاء ما لا يؤكل لحمه،

فقد وقع الكلام بين الفقهاء في ظهور خطاب النهي عن الصلاة فيما لا يؤكل لحمه، في كون الواجب مشروطا بعدم صرف وجود لبس ما لايؤكل لحمه، او أنه مشروط بعدم كل فرد من افراد لبس ما لايؤكل لحمه فبناء على الثاني تثبت المانعية لكل فرد منها بنحو الانحلال، بخلاف الاول حيث تثبت المانعية لصرف وجود لبس ما لايؤكل لحمه.

وتظهر ثمرة الفرق بينهما في موردين:

1- اذا كان المكلف مضطرا الى الصلاة مع الابتلاء بالمانع كنجاسة البدن، فبناء على كون المانع هو صرف وجود نجاسة البدن اذا تمكن من تقليل النجاسة فلايجب عليه ذلك، بل يجوز له تكثير النجاسة، بينما أنه بناء على الانحلال في المانعية يجب عليه تقليل النجاسة.

2- في مسئلة اللباس المشكوك كما لو شك في لباس أنه هل هو جلد حيوان حرام اللحم او جلد صناعي، فبناء على انحلالية المانعية فتثبت لهذا اللباس على تقدير كونه جلد الحيوان المحرم اللحم مانعية زائدا على ثبوت المانعية لكل فرد من افراد اللباس المتخذ من أجزاء ما لا يؤكل لحمه، فتجري البراءة عن هذه المانعية للشك في كون هذا اللباس جلد الحيوان المحرم اللحم.

قد اختار جماعة –منهم السيد الخوئي “قده”- ظهور خطاب النهي الضمني في الانحلال بنفس نكتة ظهور خطاب النهي الاستقلالي كخطاب النهي عن الكذب وشرب الخمر في الانحلال، وقدمر أن نكتته ظهور النهي في قيام المفسدة بكل فرد من افراد متعلق النهي، ولذا لو أضطر او أكره على ايجاد فرد من المانع كالصلاة مع ابتلاء يده بالنجاسة فالظاهر عرفا وفقهيا أنه لا يجوز له تنجيس جميع جسده، فهذا يكشف عن انحلالية المانعية والا فلو كان المانع هو صرف وجود نجاسة الجسد فالمفروض اضطراره الى ايقاع الصلاة فيها.

وخالف في ذلك جماعة آخرون منهم السيد الامام “قده” فادعوا عدم ظهور خطاب النهي الضمني في الانحلال، بدعوى أنه يوجد فرق بين النواهي النفسية والنواهي الضمنية؛ فإنه في النهي النفسي لامانع من وقوع جميع مصاديق الطبيعة ‏ كالكذب على‏ صفة المبغوضية الفعلية، بخلاف النهي الضمني كالنهي عن الصلاة في وبر ما لايؤكل لحمه ارشادا الى مانعيته؛ فانه لو لبس وبرا مما لايؤكل لحمه ثم لبس وبرا آخر منه لم ‌يمكن اتصاف الوبر الثاني بالمانعية الفعلية مع اتصاف الوبر الاول بها، فلابدّ من الالتزام بالمانعية الشأنية والتقديرية، وهو خلاف ظاهر الأدلّة.

وفيه اولا: ان المراد من انحلالية المانعية هو ظهور خطاب النهي عن شيء في المركب هو النهي عن كل فرد منه أي يكون المركب مشروطا بعدم كل فرد من افراد ذلك الشيء لامشروطا بعدم صرف وجود ذلك الشيء، بل لو ورد في الخطاب مثلا أن القهقهة مانعة عن الصلاة فظاهرها ان كل فرد من افراد القهقهة مانع عن الصلاة في حد ذاته فان معنى كون الشيء مانعا أنه اذا وجد المقتضي فيكون ذلك الشيء مانعا عنه كما يقال الدرع مانع عن القتل، ونتيجته أنه لو اضطر الى فرد من القهقهة فلايجوز له ارتكاب فرد آخر منها.

وثانيا: انه حتى لو فرض كون النهي عن لبس ما لايؤكل لحمه نهيا عن صرف الوجود، لكنه مع ذلك يكون من قبيل النهي الاستقلالي عن صرف وجود طبيعة حيث يتعلق نهي ضمني بكل فرد من افراد تلك الطبيعة، وعليه فيمكن اجراء البراءة عن المانعية الضمنية للجلد المشكوك.

وأما ما قد يخطر بالبال من أن مآل النهي عن الصلاة فيما لايؤكل لحمه حيث يكون الى تقيد الصلاة بعدم كونها فيما لايؤكل لحمه فيكون نظير ما لو قال المولى لعبده “جئني بماء ليس بمالح”، فان الظاهر منه تقيده بقيد واحد، وهو عدم كونه مالحا، فلو شك في كون مالحا، فلا يكون شكّا في تكليف زائد، بل يكون التكليف فيه معلوما ويشك في امتثاله فتجري قاعدة الاشتغال، ففيه أن هذا الاشكال يختص بما اذا كان المانع راجعا الى وصف عرفي في الواجب بحيث يوجب تصنيف الواجب الى صنفين، والأمر بصنف معين منهما، كالمثال المذكور، ومن هذا القبيل مثال مانعية نجاسة ماء الوضوء حيث انها راجعة الى أخذ وصف عرفي عدمي في الواجب، فان معناها وجوب الوضوء بماء ليس بنجس، فاذا شك في طهارة الماء الذي توضأ به ولم تجر أصالة الطهارة فيه لجهة من الجهات، فيكون شكا في الامتثال، فتجري قاعدة الاشتغال، وأما اذا كان المانع فعلا آخر للمكلف بحيث يرجع الأمر الى الأمر الضمني بايجاد فعل كالصلاة والنهي الضمني عن ايجاد فعل آخر مقارن له كلبس ما لا يؤكل لحمه ، فالعرف يلحقه بالنهي الاستقلالي عن الفعل، فكما أنه اذا قال المولى لعبده في يوم من الايام “لاتلبس ثوبا متخذا من أجزاء ما لايؤكل لحمه” فالعرف يطبق قول المولى “رفع ما لايعلمون” على لبس الثوب المشكوك، فكذلك لو قال المولى له “يجب عليك القيام أمام الباب عند مجيئ الضيوف ولا تلبس ثوبا متخذا من أجزاء ما لا يؤكل لحمه” فان الظاهر جريان البراءة عن تعلق النهي الضمني بلبس الثوب المشكوك.

القسم الثالث: ان يتعلق النهي بالاتيان بمجموع افراد الطبيعة بحيث يكفي في امتثاله ترك فرد واحد من افراد الطبيعة

القسم الثالث: ان يتعلق النهي بالاتيان بمجموع افراد الطبيعة بحيث يكفي في امتثاله ترك فرد واحد من افراد الطبيعة، كما لو قال المولى لعبده “لا تشرب جميع المياه الموجودة في الدار، فشك في مائية مايع في الدار، فحيث ان المتيقن حرمة شرب جميع المياه المعلومة في الدار مع شرب هذا المايع المشكوك، وتكون حرمة شربه في حال ترك شرب هذا المايع المشكوك مشكوكة فتجري البراءة عنها كسائر موارد الاقل والاكثر الارتباطيين، بل حيث ان المورد من الشبهة التحريمية فجريان البراءة في الاقل والاكثر الارتباطي فيها اوضح من جريانها في الشبهة الوجوبية، حيث انه كان هناك شبهات كلزوم احراز حصول الغرض او لزوم احراز سقوط الامر بعد العلم بثبوته، بينما أنه يقال في الشبهة التحريمية بكفاية عدم احراز العصيان وعدم مخالفة الغرض.

کلام شيخنا الاستاذ “قده”

وما ذكره شيخنا الاستاذ “قده” من أن استصحاب عدم كون هذا المايع المشكوك ماء ولو بنحو العدم الازلي يثبت كون مجموع المياه تلك المياه المعلومة، فان عنوان المجموع كعنوان بسيط ليس موضوعا للاثر وانما موضوع الاثر واقع المجموع أي كون هذه الأفراد مياهً، وعدم كون غيرها ماء، فيثبت ذلك بضم الوجدان الى الاصل، فیرد علیه أن من أمثلة النهي عن المجموع هو النهي عن تجسيم الحيوان حيث يقال بعدم صدقه على تجسيم بعضه فاذا شك في أن هذا الذي يصنعه هل يشتمل على رأس الحيوان او فاقد له فتجري البراءة عن حرمة صنعه، كما أنه لو قال له المولى لا تجعل الدار بلا ماء، فلو ترك المايع المشكوك فيشك في العصيان، ومن الواضح أن استصحاب عدم كون المشكوك ماء لا يثبت أنه جعل الدار بلا ماء، بل لو قال له المولى “لا تشرب كل مياه الدار”، فدعوى كون لفظ كل مشيرا الى واقع مركب وهو شرب هذه المياه وعدم كون غيرها ماء فخلاف ظاهر بساطة الالفاظ المفردة.

الكلام في حقيقة النهي المجموعي

هذا وقد وقع الكلام في أن حقيقة النهي المجموعي هل هو النهي عن احد الأجزاء ان وجدت دفعة واحدة والا فالنهي عن الجزء الأخير منها او أن النهي متعلق بتمام الأجزاء في حال انضمام بعضها الى بعض؟، فيه قولان: اختار في البحوث الاول، بدعوى أن لازم الثاني هو تعلق الحرمة والمبغوضية الضمنية بكل واحد من تلك الأجزاء وهذا غير معقول، فان البغض الاستقلالي اذا تعلق بمجموع جزئين فيقتضي إعدام المجموع بإعدام أحد جزئيه، لا إعدام كليهما، فلا يمكن ان ينحلّ الى بغضين ضمنيين على كل من الجزئين، اذ لو كان هناك بغض ضمني فان كان لا يقتضي شيئا فهو خلف البغض، وان كان يقتضي إعدام ذلك الجزء كان معناه زيادة اقتضاء البغض الضمني على البغض الاستقلالي، حيث ان البغض الاستقلالي لم‌ يكن مقتضيا الّا لاعدام المجموع، بينما أن البغض الضمني يقتضي اعدام الجميع، وهو غير معقول أيضا، ولو كان البغض الضمني يقتضي اعدام المجموع فقط فهو خلف كونه ضمنيا لاقتضاءه تعلقه بكل واحد من الجزءين([15]).

وفيه أنه لا محذور في تعلق النهي الضمني بالجزء الذي ينضمّ اليه سائر أجزاء المركب الذي تعلق به النهي، نعم يختص ذلك بما اذا ساعد عليه ظاهر خطاب التحريم، كما قد يقال به في تحريم التجسيم الكامل لذوات الأرواح، وثمرته أنه لو علم شخص بأنه لو صنع نصف جسد حيوان فسيجيء شخص آخر ويكمله فانه يصدق عليه التعاون على الاثم، حيث صدر الحرام منهما معا، بخلاف ما لو كان الحرام هو الجزء الأخير فان الحرام يصدر من الشخص الثاني، فلم يرتكب الاول محرَّما.

القسم الرابع: ما لو كان المطلوب عنوان بسيط متحصل عن ترك افراد الطبيعة، بحيث تكون نسبته الى ترك الافراد نسبة المسبب الى سببه عرفا

القسم الرابع: ما لو كان المطلوب عنوان بسيط متحصل عن ترك افراد الطبيعة، بحيث تكون نسبته الى ترك الافراد نسبة المسبب الى سببه عرفا، لا نسبة العنوان الى معنونه، فلا اشكال في وجوب الاحتياط في هذا الفرض، لكونه من قبيل الشك في المحصل.

وقد مثل له المحقق النائيني “قده” بمثل “كن لا شارب الخمر” ولكن منع منه المحقق العراقي “قده” بدعوى أن المطلوب فيه الاتصاف بعدم شرب الخمر وحيث ان عدم الطبيعة عين عدم افرادها فلا محالة يدور الاتصاف به بين الاقل والاكثر، فتجري البراءة عن لزوم اتصافه بعدم شرب هذا الفرد المشكوك الخمرية.

وقد سبق منا آنفا تمامية ما استظهره المحقق النائيني “ره” في هذا المثال.

 



[1] – الأصول في علم الأصول ج‏2 ص310

[2] – نهاية التقرير ج‌1 ص 324‌

[3] – رسالة الصلاة في المشكوك ص188

[4] – تهذيب الاصول ج1 ص 239

[5] – محاضرات في اصول الفقه ج2ص246، ولكن نقل عنه خلافه في ج3ص207

[6] – تعليقة البحوث ج5 ص 146

[7] – كفاية الأصول ص353

[8] – كفاية الاصول مع حواشي المشكيني ج‏4 ص138

[9] – بحوث في علم الأصول ج‏6 ص244

[10] – منتقى الأصول ج‏5 ص17

[11] – وسائل الشيعة؛ ج‌10، ص: 53

[12] – صراط النجاة ج1ص387

[13] – تحرير الوسيلة ج2ص 115

[14] – منهاج الصالحين ج3 ص227

[15] – بحوث في علم الاصول ج3ص28