فهرست مطالب

فهرست مطالب


تقریرات دروس خارج مدرسه فقهی امام محمد باقر علیه السلام

بسمه تعالی

تنبیهات البرائة. 2

التنبيه الثاني: في حسن الاحتياط.. 2

الجهة الأولى:محل حسن الاحتیاط قبل الفحص او بعده؟. 2

الجهة الثانية: الاحتياط في العبادات عند عدم العلم بتعلق الامر بها ولو استحبابا. 4

الشيخ الاعظم “قده”: الأقوى عدم جريان الاحتياط فيها 4

وجه جریان الاحتیاط.. 4

الملاک فی قصد القربة. 6

الوجه الاول: 6

الوجه الثاني: 7

الوجه الثالث: 8

الوجه الرابع: 9

المختار: كفاية قصد امتثال الامر بالاحتياط في قصد القربة في العبادة المشكوك13

الكلام في ثبوت الاستحباب الشرعي بالاحتياط.. 13

الاستدلال بأخبار من بلغ لحلّ اشكال عدم جريان الاحتياط في العبادة المشكوك. 15

مفاد أخبار من بلغ. 16

القول الاول: موضوع هذه الأخبار هو بلوغ الثواب على عمل مفروغ عن استحبابه، فلا يشمل البلوغ بخبر ضعيف17

القول الثاني: مفادها الترغيب الى الاحتياط بداعي الارشاد الى حسن الاحتياط.. 19

القول الرابع: ما ينسب الى المشهور من كون مفادها حجية الخبر الضعيف القائم على استحباب عمل.. 20

القول الخامس: مفادها استحباب العمل البالغ عليه الثواب بهذا العنوان الثانوي.. 20

القول السادس: مفاده مجرد الإخبار عن تفضله تعالى وإحسانه. 21

الايراد الاول: 22

الايراد الثاني: 26

الايراد الثالث: 27

الايراد الرابع: 28

 

 

 

تنبیهات البرائة

التنبيه الثاني: في حسن الاحتياط

ذكر الاعلام كصاحب الكفاية “ره” أنه لا شبهة في حسن الاحتياط شرعا وعقلا واستحقاق الثواب عليه في مورد الشبهة التحريمية او الوجوبية في التوصليات، بل في العبادات مع احراز الامر بالعبادة وان شك في كونها واجبة او مستحبة كغسل الجمعة، وانما طرحوا اشكالا في امكان الاحتياط في عبادةٍ مع الشك في اصل الامر بها، من جهة أنه يعتبر في العبادة قصد القربة، وقد فسّر قصد القربة في كلمات جماعة بقصد امتثال الامر، فيقال انه يتوقف على العلم بأمر الشارع، فيتوقف الاحتياط في العبادة على العلم بالامر بها ومع عدمه فلا يتمكن المكلف من الاحتياط فيها، ولا يجدي الامر الاستحبابي بالاحتياط شرعا، فان الاتيان بالعبادة بقصد هذا الامر موقوف على شمول هذا الامر لها، وشمول الامر لها موقوف على انطباق عنوان الاحتياط عليها، والمفروض توقف انطباق عنوان الاحتياط عليه على قصد هذا الامر، وهذا دور واضح، ثم حاولوا حلّ هذا الاشكال بطرق: منها: التمسك بأخبار من بلغ، اذا فرض قيام خبر ضعيف على الامر بتلك العبادة، على ما سوف يأتي توضيحه.

فلنتكلم في عدة جهات:

الجهة الأولى:محل حسن الاحتیاط قبل الفحص او بعده؟

ان حسن الاحتياط شرعا في جميع موارد الشبهة الموضوعية او الحكمية البدوية بعد الفحص، خلاف ما يستفاد من جملة من الروايات، من عدم الترغيب الى الاحتياط في مورد الشك في النجاسة، او حرمة اللحم الموجود في السوق اذا شك في تذكيته، ففي صحيحة زرارة: قلت فهل علي إن شككت في أنه أصابه شي‌ء أن أنظر فيه([1]) قال لا ولكنك إنما تريد أن تذهب الشك الذي وقع في نفسك([2])، فانه لو كان الاحتياط مطلوبا لما حصر الامام (عليه السلام) فائدة الفحص والنظر في أنه يذهب الشك.

وفي صحيحة محمد بن مسلم قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) الحمام يغتسل فيه الجنب وغيره أغتسل من مائه قال نعم، لا بأس أن يغتسل منه الجنب ولقد اغتسلت فيه ثم جئت فغسلت رجلي وما غسلتهما إلا مما لزق بهما من التراب([3]).

وفي صحيحة أخرى له قال: رأيت أبا جعفر (عليه السلام) جائيا من الحمام وبينه وبين داره قذر- فقال لو لا ما بيني وبين داري ما غسلت رجلي ولا نحيت ماء الحمام([4]).

وفي رواية حفص بن غياث عن جعفر عن أبيه عن علي (عليه السلام) قال: ما أبالي أ بول أصابني أو ماء إذا لم أعلم([5]).

وفي صحيحة أحمد بن محمد بن أبي نصر قال: سألته عن الرجل يأتي السوق فيشتري جبة فراء لايدري أ ذكية هي أم غير ذكية أ يصلي فيها فقال نعم ليس عليكم المسألة إن أبا جعفر (عليه السلام) كان يقول إن الخوارج ضيقوا على أنفسهم بجهالتهم إن الدين أوسع من ذلك([6]).

وفي مرسلة الحسن بن الجهم قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام) أعترض السوق فأشتري خفا لا أدري أ ذكي هو أم لا قال صل فيه قلت فالنعل قال مثل ذلك قلت إني أضيق من هذا قال أ ترغب عما كان أبو الحسن (عليه السلام) يفعله([7]).

وفي رواية محمد بن سنان عن أبي الجارود قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن الجبن فقلت له أخبرني من رأى أنه يجعل فيه الميتة فقال أ من أجل مكان واحد يجعل فيه الميتة- حرم في جميع الأرضين إذا علمت أنه ميتة فلا تأكله وإن لم تعلم فاشتر وبع وكل- والله إني لأعترض السوق فأشتري بها اللحم والسمن والجبن والله ما أظن كلهم يسمون هذه البربر وهذه السودان([8])

وفي رواية حماد بن عيسى قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول كان أبي يبعث بالدراهم إلى السوق فيشتري بها جبنا ويسمي ويأكل ولا يسأل عنه([9]).

وبذلك اتضح أن سيرة الأئمة (عليهم السلام) لم تقم على الاحتياط في مجالات الطهارة والنجاسة او الشك في عدم تذكية ما يشترونه من السوق من اللحوم والأجبان، ولا على الترغيب الى ذلك، ولو كان خيرا لسبقونا اليه، فيكون ذلك مخصصا لمثل قوله “اخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت” وقوله “اورع الناس من وقف عند الشبهة” مع غمض العين عن ضعف سندهما، على أنه مر عدم استفادة حسن الاحتياط المصطلح من الحديث الاول، بل هو بمعنى الاحتفاظ على الدين، ومن يعمل بالحجة الشرعية فهو حافظ لدينه، كما أنه يخرج المورد بالحجة الشرعية عن الشبهة بقول مطلق، كما مر توضيحه سابقا.

ومجرد ثبوت الحكم الواقعي في مورد الجهل لا يلازم حسن الاحتياط عقلا ولا شرعا، بل يتبع داعي المولى، فقد لا يكون له داعٍ اصلا الى انبعاث المكلف نحو الفعل الا بعد وصول الحكم، فيكون مثل مورد قيام الحجة الالزامية على خلاف الحكم الالزامي الواقعي كانحصار ماء الوضوء في ماء مغصوب واقعا، فقد مرّ أنه لا يوجب ارتفاع حرمة الغصب واقعا، لكونها ثابتة بالاطلاق الذي لا مؤونة فيه عرفا، ومع ذلك ليس له اثر فعلي حتى بنحو حسن الاحتياط.

الجهة الثانية: الاحتياط في العبادات عند عدم العلم بتعلق الامر بها ولو استحبابا

الجهة الثانية: وقع الكلام في امكان الاحتياط في العبادات عند عدم العلم بتعلق الامر بها ولو استحبابا، كقضاء الصلاة والصوم مع الشك في فوتهما،

الشيخ الاعظم “قده”: الأقوى عدم جريان الاحتياط فيها

فقد ذكر الشيخ الاعظم “قده” أن الأقوى عدم جريان الاحتياط فيها، لأن العبادة لا بد فيها من نية التقرب المتوقفة على العلم بأمر الشارع تفصيلا أو إجمالا كما في كل من الصلوات الأربع عند اشتباه القبلة،

وجه جریان الاحتیاط

ويحتمل الجريان، بناء على منع توقف نية التقرب على ورود أمر بالعبادة، بل يكفي الإتيان بها لاحتمال كونه مطلوبا، ولذا استقرت سيرة العلماء والصلحاء فتوى وعملا على إعادة العبادات لمجرد الخروج عن مخالفة النصوص غير المعتبرة والفتاوى النادرة.

واستدل في الذكرى في خاتمة قضاء الفوائت على شرعية قضاء الصلاة لمجرد احتمال خلل فيها موهوم بقوله تعالى‏ “فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ”‏ و”اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ”‏ و”وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى‏ رَبِّهِمْ راجِعُونَ‏”.

والتحقيق أنه إن قلنا بكفاية احتمال المطلوبية في صحة العبادة فهو، وإلا فما أورده في الذكرى كأوامر الاحتياط لا يجدي في صحتها، لأن موضوع التقوى والاحتياط الذي يتوقف عليه هذه الأوامر لا يتحقق إلا بعد إتيان محتمل العبادة على وجه يجتمع فيه جميع ما يعتبر في العبادة حتى نية التقرب وإلا لم يكن احتياطا فلا يجوز أن تكون تلك الأوامر منشأ للقربة فيها([10]).

ولست ادري كيف قوّى الشيخ الأعظم اولاً عدم امكان الاحتياط في العبادة المشكوك تعلق الامر بها، مع اعترافه بالسيرة على الاحتياط، والحاصل أن منشأ الاشكال تخيل تقوم قصد القربة بقصد امتثال الامر الجزمي، وهذا غير صحيح، وان ذكر صاحب الجواهر لزوم قصد امتثال الأمر في العبادة([11])، فانه يكفي في تحقق قصد القربة إضافة العمل اليه تعالى ولا يلزم قصد امتثال الأمر الجزمي، وذلك لأنه لا يظهر من مثل قوله تعالى “و أتمّوا الحج والعمرة لله([12])“، او قوله (عليه ‌السلام): قال الله عز وجل: من عمل لي ولغيري فهو لمن عمل له([13])، وكذا قوله (عليه ‌السلام) في صحيحة عبدالله‌بن‌سنان فقال: فلمن تصلي؟ قال: لله عز وجل، قال: فكيف تكون منافقا وأنت تصلي لله عز وجل لا لغيره([14])، وكذا قوله: لا صدقة ولا عتق الا ما اريد به وجه الله([15] اكثر من إضافة العمل اليه تعالى، ولا اشكال في تحقق اضافة العمل اليه تعالى بإتيان العمل برجاء كونه محبوبا للمولى.

ثم انه لا فرق فيما ذكرناه من كفاية الاتيان بالعبادة برجاء محبوبيته له تعالى بين فرض التمكن من تحصيل العلم بتعلق الامر بهذه العبادة اجتهادا او تقليدا ام لا، فما صوّره المحقق النائيني “قده” من مراتب الامتثال، وأن العقل يتنزل من مرتبة الامتثال العلمي مع عدم تمكن المكلف منها الى مرتبة الامتثال الاحتمالي، فمما لا وجه له، كما سبق الكلام فيه في محله.

الملاک فی قصد القربة

وكيف كان فالمهم أنه يكفي في قصد القربة الاتيان بالعبادة برجاء محبوبيتها والامر بها، وبذلك يصدق عليه الاحتياط، فلا دور ابدا، ولكن لو فرض القول بتقوم قصد القربة بقصد امتثال الامر الجزمي، فقد يحاول تطبيق الامر بالاحتياط على العبادة المشكوك امرها بعدة وجوه:

الوجه الاول:

ما ذكره الشيخ الأعظم “قده” بعد كلامه الذي نقلناه آنفا، (من عدم صدق الاحتياط الا بالاتيان بالعبادة مع جميع ما يعتبر فيها ومنه قصد القربة فلو لم يكف في قصد القربة الاتيان برجاء الامر لم يمكن التمسك بخطاب الامر بالاحتياط في موردها) بقوله: اللهم إلا أن يقال ان المراد من الاحتياط في خطاب الامر بالاحتياط هو مجرد الفعل المطابق للعبادة من جميع الجهات عدا نية القربة، وحينئذ فيقصد المكلف فيه التقرب بإطاعة هذا الأمر ومن هنا يتجه الفتوى باستحباب هذا الفعل وإن لم يعلم المقلد كون هذا الفعل مما شك في كونها عبادة ولم يأت به بداعي احتمال المطلوبية، فانه لو أريد بالاحتياط في هذه الأوامر معناه الحقيقي وهو إتيان الفعل لداعي احتمال المطلوبية لم يجز للمجتهد أن يفتي باستحبابه إلا مع التقييد بإتيانه بداعي الاحتمال حتى يصدق عليه عنوان‏الاحتياط مع استقرار سيرة أهل الفتوى على خلافه، فيعلم أن المقصود إتيان الفعل بجميع ما يعتبر فيه عدا نية الداعي([16]).

وقد اورد عليه في الكفاية بأنه -مضافا الى كونه تسليما للاشكال- لا يساعد دليل حينئذ على حسنه بهذا المعنى فيها، بداهة أنه ليس باحتياط حقيقة، بل هو أمر لو دل عليه دليل كان مطلوبا مولويا نفسيا عباديا والعقل لا يستقل إلا بحسن الاحتياط والنقل لا يكاد يرشد إلا إليه، نعم لو كان هناك دليل على الترغيب في الاحتياط في خصوص العبادة([17]) لما كان محيص عن دلالته اقتضاء على أن المراد به ذاك المعنى، بناء على عدم إمكانه فيها بمعناه حقيقة([18]).

وما ذكره متين جدا.

الوجه الثاني:

ما ذكره صاحب الكفاية من أن منشأ الإشكال هو تخيل كون القربة المعتبرة في العبادة مثل سائر الشروط المعتبرة فيها مما يتعلق بها الأمر، فقال بعدم التمكن من قصد القربة المعتبر فيها مع الشك في تعلق الامر بها، ولكنك عرفت في بحث التعبدي والتوصلي أن قصد القربة انما اعتبر في العبادة عقلا، لأجل أن الغرض منها لا يكاد يحصل بدونه، وعليه كان جريان الاحتياط فيها بمكان من الإمكان، ضرورة التمكن من الإتيان بما احتمل وجوبه بتمام شرائطه الشرعية، وهذا هو الاحتياط المأمور به، غاية الأمر أن العقل يحكم بأنه لابد أن يؤتى به على نحو لو كان مأمورا به لكان مقربا بأن يؤتى به بداعي احتمال الأمر أو احتمال كونه محبوبا له تعالى فيقع حينئذ على تقدير الأمر به امتثالا لأمره تعالى وعلى تقدير عدمه انقيادا لجنابه تبارك وتعالى ويستحق الثواب على كل حال إما على الطاعة أو الانقياد([19]).

وفيه أن معنى الاحتياط الاتيان بالعمل المشكوك بنحو يعلم بسقوط امره على تقدير ثبوته، فالاتيان بذات العبادة المحتمل تعلق الامر بها من دون قصد القربة ليس احتياطا، وان فرض عدم كون قصد القربة مأخوذا شرعا في متعلق الامر بالعبادة، لعدم امكان اخذه فيه شرعا مطلقا، كما عليه صاحب الكفاية “ره” فضلا عن مبنى المحقق النائيني “ره” من امكان اخذه في متمم الجعل، بأن يأمر المولى بذات الصلاة مثلا، ثم يأمر ثانيا بالاتيان بمتعلق الامر الاول بقصد امتثال امره، وعليه فان دل الدليل على أن قصد القربة هو قصد امتثال الامر الجزمي وانه لا يكفي فيه رجاء امتثال الامر، فلا يتمكن الشاكّ في الامر بعبادة من الاحتياط فيها، فتكون تلك العبادة غير مقدورة فيسقط الامر بها، وحينئذ لا يمكن التمسك باطلاق الامر بالاحتياط للتمكن من قصد امتثال الامر بالاحتياط، حيث انه فرع انطباق عنوان الاحتياط عليه مع قطع النظر عن الامر بالاحتياط، كما هو شأن كل متعلق بالنسبة الى حكمه.

الوجه الثالث:

ما حكي عن بعض السادة الاعلام “دام ظله” من أن الاحتياط يطلق على معنيين:

احدهما: الاتيان بالشيء بداعي احتمال امره، وهو بهذا المعنى مما يعتبر فيه قصد القربة حيث يساوق التذلل والانقياد، ولاجل ذلك يحكم العقل بحسنه، وهذا الحكم في سلسلة معاليل الأحكام.

ثانيهما: الاتيان بما يحتمل الامر به، ولو بدواعي نفسانية، وهذا هو الظاهر من الروايات الآمرة بالاحتياط والاتقاء، وحكم العقل بحسن الاحتياط بهذا المعنى يكون في سلسلة علل الاحكام من جهتين: من جهة أن الاتيان بمحتمل الوجوب مظنة الحصول على المصلحة، او الاجتناب عن المفسدة، فيكون حسنا، وعلى هذا فالملاكات الواقعية التي هي من قبيل علة تشريع الاحكام الالزامية تكون حكمة للامر بالاحتياط، وذلك مناسب للمولوية، ومن جهة أن الاحتياط يوجب تقوية الارادة لارتكاب الواجبات واجتباب المحرمات، كما في الحديث “من ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له اترك”، وعليه فالامر بالاحتياط بهذا المعنى الثاني يكون مولويا استحبابيا.

ثم ذكر انه بناء على مسلك المشهور من عدم امكان اخذ قصد القربة في متعلق الامر، فلا يكون قصد القربة مشمولا للامر بالاحتياط ايضا، اذ ليس هو الا انعكاسا للامر الواقعي المحتمل فليس متعلقه الا نفس متعلق الامر المحتمل، من دون اخذ قصد القربة فيه، لما مر من أن الاحتياط بالمعنى الثاني الذي هو متعلق الامر المولوي ليس الا الاتيان بذات العمل المتعلق للامر الواقعي المحتمل، فيكون الاتيان بذات العمل المحتمل تعلق الامر به متعلقا للامر بالاحتياط، وعليه فحتى لو قلنا بكون قصد القربة هو قصد امتثال الامر الجزمي فيمكن الاحتياط في العبادة بقصد امتثال الامر الجزمي بالاحتياط، ولكن حيث انه في العبادة لا يحصل الغرض الا باتيانه بقصد القربة فإما أن نقول بوجوب قصد امتثال الامر بالاحتياط عقلا، او نقول بوجود متمم الجعل، أي تعلق أمر ثانٍ بالاحتياط بقصد امتثال الامر بالاحتياط في العبادة المشكوك تعلق الامر الواقعي بها([20]).

ويلاحظ عليه اولا: ما مر في الجواب عن الوجه السابق من أن الاحتياط المتعلق لأي امر ولو كان امرا نفسيا ليس الا الاتيان بالعمل المشكوك بنحو يعلم بسقوط امره على تقدير ثبوته، فالاتيان بذات العبادة المحتمل تعلق الامر بها من دون قصد القربة ليس احتياطا، ولو كان اعتبار قصد القربة فيها عقليا او بمتمم الجعل، فانه لا يستلزم ما ذكرناه أن يؤخذ في متعلق الامر بالاحتياط قصد امتثال الامر بالاحتياط، حتى يرد عليه المحاذير المدعاة في اخذ قصد امتثال الامر في متعلق نفس هذا الامر.

ولو تمّ ما ذكره من اتحاد متعلق الامر الواقعي بالعبادة والامر بالاحتياط، فلا يتجه ما ذكره من أنه لو كان متعلق الامر الاول ذات العبادة من دون اخذ قصد القربة فيه، تعلق الامر بالاحتياط بالاتيان بذات العبادة، ثم تعلق امرٌ ثانٍ على نحو متمم الجعل بالاتيان بها بقصد امتثال الامر الاول، وذلك لأنه لا يوجد خطاب لفظي يدل على هذا الامر الثاني في مورد الاحتياط في العبادة المشكوك تعلق الامر بها، فانه لم يرد الامر بالاحتياط في خصوص هذه العبادة، حتى ينكشف الامر الثاني بنكتة لغويته بدونه من باب دلالة الاقتضاء، حيث لا تتم دلالة الاقتضاء فيما لو كان يلزم من اطلاق الخطاب اللغوية بدون ضم التعبد بشيء آخر اليه، فان كشف ذلك التعبد من الاطلاق ليس عرفيا، بل العرف يقيد ذلك الاطلاق بموارد لا يلزم منه اللغوية.

وثانيا: ان حكم العقل بحسن الاحتياط من شؤون حسن طاعة المولى، فلو كان الامر الواقعي بفعلٍ توصليا، كوجوب اداء الدين، فكما يكفي في امتثال حكم العقل بلزوم طاعة الامر المعلوم اتيان ذات العمل ولو بدون قصد القربة، وان كان لا يستحق الثواب عليه فكذلك يكون الاتيان بذات العمل المشكوك تعلق الامر به حسنا عقلا ولو بدون قصد القربة، نعم لا يستحق الثواب عليه، وهكذا الامر المولوي الطريقي بالاحتياط.

الوجه الرابع:

ما يقال من أن وجود الاحتياط في العبادة في الخارج وان توقف على شمول الامر بالاحتياط لها، حتى يتمكن من الاتيان بالعبادة بقصد الامر الجزمي، لكن الامر بالاحتياط كالأمر بأي عنوان آخر، لا يتوقف على امكان وجود ذلك العنوان في الرتبة السابقة على الامر، بل يكفي امكان وجوده ولو في طول وجود الأمر، ولذا مرّ في بحث التعبدي والتوصلي أنه لا مانع من الامر بالصلاة مثلا بقصد امتثال امرها الواصل، فان هذا الامر بوصوله يوجب اقدار المكلف على امتثاله، وعليه فنقول في المقام ان حصة من الاتيان بصلاة القضاء مع الشك في فوتها، وهي الاتيان بها بقصد امتثال الامر الواصل بالاحتياط بالنسبة اليها، مما ينطبق عليها عنوان الاحتياط، وان لم يمكن ايجادها الا بعد شمول الامر بالاحتياط له، فيشمله خطاب الامر بالاحتياط، وبذلك يتمكن المكلف من ايجاد هذه الحصة.

وفيه أن قياس المقام بالامر بالاتيان بالصلاة مثلا بقصد امتثال امرها قياس مع الفارق، حيث ان المولى بيّن تعلق الامر بذات الصلاة في خطاب الامر، وحينما يأتي المكلف بالصلاة بقصد امتثال امرها فانطباق المأمور به عليه قهري، فلو امر الشارع في خصوص صلاة القضاء عند الشك في فوتها بالاتيان بها بقصد امتثال الامر بالاحتياط فيها كان القياس صحيحا، لكن المفروض في المقام عدم تبيين الشارع لذلك وانما امر بشكل عام بالاحتياط، وذكر ان الصلاة لا تصح الا بقصد امتثال الامر المعلوم بها، وتكون نتيجة الجمع بينهما أن الاتيان بصلاة القضاء عند الشك في الفوت في فرض وصول الامر بالاحتياط فيها يكون متعلقا للامر بالاحتياط، وحيث لا تتكفل أية قضية حقيقية لاثبات وجود موضوعها في الخارج، فهذه القضية ايضا لا تتكفل لاثبات وصول الامر بالاحتياط بالنسبة اليها.

وبذلك تبين أنه لو تقومت صحة العبادة بقصد امتثال الامر الجزمي كان تصحيح الاحتياط في العبادة التي يشك في تعلق الامر الواقعي بها بالتمسك بخطاب الامر العام بالاحتياط دوريا.

نعم لو غمضنا العين عن هذا الاشكال، والتزمنا بشمول خطاب الامر بالاحتياط لهذه العبادة، باحد هذه الوجوه فهل يمكن قصد القربة فيها بقصد امتثال الامر بالاحتياط ام لا؟، فقد منع منه المحقق النائيني “فده” بدعوى أنه امر توصلي فلا يكفي قصد امتثاله في عبادية العبادة، توضيح ذلك أنّ الأمر إمّا أن يكون بنفسه تعبديا، كالأمر المتعلق بالصلاة، وإمّا أن يكتسب التعبدية من أمر آخر لأجل اتحاد متعلقهما، كوجوب الوفاء بالنذر بالاتيان بصلاة الليل، فانّ الأمر بالوفاء بالنذر بنفسه ليس تعبديا، ولكن لو تعلق النذر بالعبادة كصلاة الليل، يكتسب الأمر بالوفاء بالنذر التعبدية من الأمر بصلاة الليل، كما أنّ الأمر بصلاة الليل يكتسب الوجوب من الأمر بالوفاء، فانّ النذر إنّما يتعلق بذات صلاة الليل، لا بها بما أنّها مستحبة بحيث يؤخذ استحبابها قيدا في متعلق النذر، وإلّا كان النذر باطلا، لعدم القدرة على وفائه، اذ تصير صلاة الليل بالنذر واجبة، فلا يمكن بعد النذر الاتيان بها بقيد كونها مستحبة، فلابد وأن يتعلق النذر بذات صلاة الليل، والأمر الاستحبابي الّذي تعلق بها أيضا قد تعلق بذات صلاة الليل لا بوصف كونها مستحبة، فانّ هذا الوصف إنّما جاء من قبل الأمر بها فلا يمكن أخذه في متعلق‏ الأمر، فيكون كل من الأمر الاستحبابي والأمر بالوفاء بالنذر قد تعلق بذات صلاة الليل، ولمكان اتحاد متعلقهما يكتسب كل منهما من الآخر ما كان فاقدا له، هذا إذا اتحد متعلق الأمرين.

وأمّا إذا لم يتحد متعلقهما: فلا يكاد يمكن أن يكتسب أحد الأمرين التعبدية مع كونه فاقدا لها من الآخر الواجد لها، كالأمر بالوفاء بالإجارة إذا كان متعلق الإجارة أمرا عباديا، كما لو أستؤجر شخص على الصلاة الواجبة او المستحبة عن الغير، فانّه استؤجر لتفريغ ذمّة الغير، فالإجارة إنّما تتعلق بما في ذمّة المنوب عنه، وما في ذمّة المنوب عنه، إنّما هي الصلاة الواجبة او المستحبة بوصف كونها واجبة او مستحبة على المنوب عنه لا بذات الصلاة بما هي هي، بينما أن متعلق الأمر المتوجه الى المنوب عنه إنّما هو نفس الصلاة، ومع عدم اتحاد المتعلق لا يمكن أن يكتسب الأمر بالوفاء بالإجارة التعبدية من الأمر المتوجه الى المنوب عنه، كما لا يكتسب الأمر الاستحبابي المتوجه الى المنوب عنه وصف الوجوب من أمر النائب بالوفاء بالإجارة، وعليه فالأمر بالوفاء بالإجارة وإن صح التقرب به كسائر الأوامر التوصلية، إلّا أنّ قصد امتثاله لا يوجب صحة العبادة المستأجر عليها، فانّ المعتبر في صحة العبادة قصد أمر نفسها والأمر بالوفاء بالإجارة لم يتعلق بذات العبادة، ليكتسب العبادية من الأمر المتعلق بها.

وحينئذ نقول: انّ الأمر بالاحتياط ليس تعبديا في حد ذاته ولا يمكن أن يكتسب التعبدية من امر آخر، أما الاول فواضح والا لزم بطلان الاحتياط في التوصليات، وأما الثاني فلأنّ الأمر بالاحتياط لم يتعلق بذات العمل، كي يتحد متعلقه مع متعلق الامر الواقعي العبادي، بل تعلق باتيان العمل بداعي احتمال الامر، والا لم يكن احتياطا، فان كان إتيان العمل بداعي الاحتمال كافيا في العبادية فلا يحتاج إلى أوامر الاحتياط، وإن لم يكن كافيا فأوامر الاحتياط لا توجب عبادية العمل([21])

ويرد عليه اولا: ان عدم كون الامر بالاحتياط تعبديا كما في مورد الاحتياط في التوصليات يعني عدم توقف سقوط امره من حيث هو على قصد القربة، واين هذا من عدم تتحقق عبادية العبادة بقصد امتثاله، فانه بعد امكان التقرب بقصد امتثال الامر التوصلي كما اعترف به نفسه، فلا دليل على أنه يعتبر في العبادة اتيانها بقصد امتثال الامر العبادي المتوجه اليها، بل يكفي اتيانها بأي داع قربي، ولذا نلتزم بأنه لو امر الاب ولده بغسل الجمعة فاتى به الولد قاصدا امتثال الامر باطاعة الوالدين صح غسله، وان كان غافلا عن استحبابه النفسي.

وثانيا: ان العبادية ليست الا دخل قصد القربة في سقوط الامر، وهذا ينطبق على الامر بالاحتياط في مورد العبادة، فيكون الامر بالاحتياط فيها تعبديا.

وثالثا: ان ما ذكره من التفصيل بين مثل الوفاء بنذر صلاة الليل وبين الوفاء بالاجارة للصلاة عن الغير مما لا محصل له، فان متعلق النذر لابد أن يكون راجحا فيتوقف وجوب الوفاء بالنذر على اصل رجحان المنذور وارتفاع حد استحبابه على القول به لا ينافي بقاء الرجحان، فلم يتحد متعلق الامر بالوفاء بالنذر وهو الاتيان بصلاة الليل بداعي مطلوبيتها شرعا مع متعلق الامر الاولي بصلاة الليل وهو ذات صلاة الليل، على أن الصحيح كون متعلق الامر الاولي ايضا ولو بنحو متمم الجعل هو الاتيان بصلاة الليل بداعي مطلوبيتها.

هذا مضافا الى أن وحدة متعلق امرين لا يرجب انداكهما واكتساب كل منهما وصف الآخر، فلو امر الاب ابنه بذات عمل عبادي كغسل الجمعة، فيتحد متعلق الامر باطاعة الاب مع متعلق الاستحباب النفسي لغسل الجمعة، ولكن لا موجب لانداكهما بعد أن كانت النسبة بينهما العموم من وجه، ومن الغريب أن يلتزم هو في هذا المثال بكفاية قصد امتثال الامر باطاعة الاب في عبادية غسل الجمعة، ولا يلتزم بكفاية قصد امتثال الامر بالوفاء بالاجارة في عبادية عمل النائب، ولا يخفى انه لا معنى لأن يقصد النائب امتثال الامر المتوجه الى المنوب عنه، لأن الامر المتوجه الى أي مكلف لا يصلح الا لداعويته دون داعوية غيره، بل يستفاد من الأدلة توجه امر استحبابي الى سائر المكلفين بالعمل النيابي عن الغير، ويمكن للنائب أن يقصد امتثال هذا الامر.

ثم لا يخفى أن مقصوده من أن الامر بالاحتياط تعلق باتيان العمل بداعي احتمال الامر هو الاحتياط في خصوص العبادة، والا فقد اعترف في كلماته بأن الاحتياط في التوصليات لا يتقوم الا بالاتيان بذات العمل في حال الشك في كونه مأمورا به واقعا، ولو لم يكن بداعي امتثال الامر المحتمل، فالوجه في كون الاحتياط في العبادة متقوما باتيان العمل بداعي امتثال الامر المحتمل، توقف صحة العبادة عليه وانما قيده بالاحتمال لاخراج قصد امتثال الامر المعلوم فانه يخرج بذلك عن الاحتياط، ولكنك ترى أنه في مورد العلم باصل الامر والشك في وجوبه واستحبابه لا يوجب التقييد باتيان العمل بقصد امتثال الامر المعلوم الخروج عن الاحتياط، وأما في مورد الشك في اصل الامر فلو كان قصد امتثال الامر المعلوم شرط صحة العبادة كما هو المفروض في الاشكال في المقام، فيكون تبديله بقصد امتثال الامر المحتمل مصادرة، اذ غايته عدم جريان الاحتياط فيه، ان لم يكف فصد امتثال الامر المعلوم بالاحتياط.

المختار: كفاية قصد امتثال الامر بالاحتياط في قصد القربة في العبادة المشكوك

وكيف كان فالصحيح كفاية قصد امتثال الامر بالاحتياط في قصد القربة في العبادة المشكوك تعلق الامر بها،

الكلام في ثبوت الاستحباب الشرعي بالاحتياط

انما الكلام في ثبوت الاستحباب الشرعي بالاحتياط، فانه لا يمكن استكشافه من خلال حكم العقل بحسن الاحتياط من باب الملازمة بين حكم العقل والشرع، لا لما ذكره الميرزا الشيرازي الكبير “قده” وقبله أكثر المتأخرين، من أن هذه القاعدة لا تجري في حكم العقل في مرحلة امتثال الحكم الشرعي كوجوب الاطاعة وقبح المعصية، وقد يعبر عنه بحكم العقل في سلسلة معاليل الحكم الشرعي، وحكم العقل بحسن الاحتياط من هذا القبيل، وانما تختص قاعدة الملازمة بحكم العقل في مرحلة ملاكات الاحكام او فقل في سلسلة علل الاحكام كقبح قتل النفس.

فانه قد مرّ في مباحث القطع أنه لا دليل على الملازمة بين حكم العقل والشرع في حد ذاتها، فانه اذا حكم العقل بقبح فعل ولابدية الاجتناب عنه بنحو التنجيز، أي بنحو لا يرتفع قبحه حتى لو فرض ترخيص الشارع في ارتكابه، كتعذيب شخص على عدم اتيانه الفعل مع عجزه عنه، فيقبح للشارع الحكيم أن يرخص في ارتكابه، لأن الترخيص في ارتكاب القبيح قبيح، لكن يمكن للشارع ايكال الناس الى حكم عقلهم، من دون أن يحرم عليهم ذلك الفعل شرعا، وهذا المقدار كافٍ في صحة عقاب المولى عبده على ارتكابه للقبيح والظلم، فان الوجدان حاكم بصحة عقابه تعالى قابيل على قتله لهابيل بمجرد أنه كان يدرك بعقله كون عمله ظلما قبيحا، بلا حاجة الى تحريمه شرعا.

وان لوحظت قاعدة الملازمة مع ضميمة ما ورد من عدم خلوّ أية واقعة من حكم شرعي، كصحيحة حماد عن‌ ابي‌عبدالله (عليه‌السلام) ما من شيء الا وفيه كتاب او سنة([22])، فيقال ان الحكم الشرعي الثابت في كل واقعة من الوقايع حيث لا يمكن أن يكون مخالفا لحكم العقل، فلابد أن يكون موافقا له، فيقال حينئذ ان الاحتياط في العبادات واقعة من الوقايع فلا يخلو عن حكم شرعي، بعد أن لم يكن جعل الحكم الشرعي لغوا، بخلاف حكم العقل بحسن الطاعة وقبح المعصية، ولا يحتمل ان يكون الحكم الشرعي للاحتياط مخالفا لحكم العقل بحسن الاحتياط، فيثبت بذلك استحبابه شرعا.

فالمهم في الجواب عنه أن عدم خلو كل واقعة عن حكم لا يعني ثبوت الحكم لكل فعل بجميع عناوينه، فمن الممكن أن يكون حكم الفعل هو الاباحة واقعا ولو في حال الاحتياط، ولا يتعرض الشارع لحكم الفعل من حيث انطباق عنوان الاحتياط عليه، على أن حكم الشارع بعدم استحباب الاحتياط ليس قبيحا، فان حكم العقل بحسنه يكون بنحو الاقتضاء لا الفعلية.

نعم توجد روايات قد يستظهر منها الامر الشرعي بالاحتياط، ولكن ذكر المحقق النائيني “قده” أنه يحتمل أن تكون تلك الروايات للإرشاد إلى ما يستقل به العقل من حسن الاحتياط بملاك حفظ الواقع، نعم يمكن أن يستفاد استحبابه الشرعي من بعض الأخبار الواردة في الترغيب على الاحتياط بملاك نفسي، كقوله (عليه السلام) “من ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له أترك” وإن كان للمنع عن ذلك أيضا مجال([23]).

واورد عليه السيد الخوئي “قده” بأن مجرد ورود الأمر في مرحلة معلولات الأحكام لا يستلزم كونه إرشاديا، فلا يجوز رفع اليد عن ظهور اللفظ في المولوية، ولا يقاس المقام بالأمر بالطاعة، لأن الأمر بالطاعة يستحيل فيه المولوية، ولو لم نقل باستحالة التسلسل، لأن مجرد الأمر المولوي ولو لم يكن متناهيا لا يكون محركا للعبد ما لم يكن له إلزام من ناحية العقل فلابد من أن ينتهي الأمر المولوي في مقام المحركية نحو العمل إلى الإلزام العقلي، فلا مناص من أن يكون الأمر الوارد في مورده إرشادا إلى ذلك، وهذا بخلاف الأمر بالاحتياط، فان حسن الاحتياط وإن كان من المستقلات العقلية الواقعة في سلسلة معلولات الأحكام الشرعية الواقعية، إلا أن العقل بما أنه لا يستقل بلزوم الاحتياط في كل مورد فلا مانع من ان يأمر به المولى مولويا بنحو الوجوب او الاستحباب، حرصا على إدراك الواقع لزوما او استحبابا، وعليه فالامر بالاحتياط مولوي([24]) .

وما ذكره وان كان متينا، فان مجرد ورود خطاب شرعي في مورد حكم العقل في مرحلة الامتثال لا يوجب رفع اليد عن ظهوره في الجعل المولوي، بعد وجود اثر له وهو تشديد المحركية والداعوية، لكن الكلام في وجود حديث معتبر يدل على استحباب بالاحتياط، فقد مر أن قوله “اخوك دينك فاحتط لدينك بما شئت” ليس ظاهرا في اكثر من الاحتفاظ على الدين، ومن يرتكب مشكوك الحرمة استنادا الى الترخيص الشرعي الظاهري يكون محتفظا على دينه، كما ان الأئمة (عليهم السلام) كانوا يرتكبون الشبهات الموضوعية التحريمية، كأكل مشكوك التذكية ونحوه، وأما بقية الروايات فيظهر حالها مما سبق من الكلام فيها، فراجع

وأما ما في البحوث في مقام الرد على المحقق النائيني “قده” من أن الذي هو في سلسلة معلولات الأحكام هو حكم العقل بإطاعة المولى المتوقف على قصد الإطاعة، وما ورد الأمر به في هذه الأوامر مجرد الاحتياط وعدم اقتحام الشبهة، ولو لم يكن بقصد الإطاعة والامتثال، فليس المأمور به شرعا نفس ما حكم به العقل في مرتبة معلولات الأحكام ليستحيل تعلق حكم شرعي به([25])، ففيه ما مر من أن حسن الاحتياط في التوصلي ليس منوطا بقصد قربي، كما أن حكم العقل بلزوم طاعته تعالى في التكليف التوصلي المعلوم كذلك، وعليه فموضوعه متحد مع موضوع خطاب الامر بالاحتياط والوقوف في الشبهة.

هذا وقد ذكر أن ظاهر خطاب الامر بالاحتياط كونه مولويا طريقيا وفائدته تأكد حسن الاحتياط عند العقل ومزيد تحريك للمكلف، نعم لو تم سند مثل قوله “من ترك ما اشتبه عليه من الاثم فهو لما استبان له اترك” فيثبت استحباب آخر للاحتياط ايضا، ويكون هذا الاستحباب نفسيا([26])، ولكن من الممكن أن تكون تقوية الارادة فائدة مترتبة على الاحتياط من دون أن تكون هي الغرض للأمر بالاحتياط، نعم اجتماع الملاك الطريقي والنفسي في الامر بالاحتياط يوجب تعدد روح الاستحباب، بلحاظ أن روح الحكم الظاهري يختلف عن روح الحكم الواقعي، ولعل هذا مراده من تعدد الاستحباب.

الاستدلال بأخبار من بلغ لحلّ اشكال عدم جريان الاحتياط في العبادة المشكوك

ثم انه تمسك جماعة لحلّ اشكال عدم جريان الاحتياط في العبادة المشكوك تعلق الامر بها من ناحية عدم امكان قصد امتثال الامر فيها، بأخبار من بلغ، لاثبات استحباب العمل الذي بلغ عليه الثواب ولو بخبر ضعيف، ولكنه كما ذكر صاحب الكفاية يوجب خروج المورد عن محل النزاع، حيث ان الكلام في مورد الشك في تعلق الامر بعبادة، هذا اذا كان مفاد تلك الاخبار استحباب ما بلغ عليه الثواب بخبر ولو كان خبرا ضعيفا، إما بنحو حجية ذلك الخبر كما هو ظاهر المشهور او بنحو استحباب العمل البالغ عليه الثواب بعنوان ثانوي كما هو مختار صاحب الكفاية، وأما اذا كان مفاده الترغيب الى الاحتياط، والاتيان بالعمل برجاء المطلوبية، فتكون كسائر ادلة استحباب الاحتياط التي مرّ أن التمسك بها موقوف على تمشي قصد القربة في العبادة المشكوك تعلق الامر بها مع قطع النظر عن استحباب الاحتياط.

مفاد أخبار من بلغ

وحيث وصل الكلام الى أخبار من بلغ فينبغي البحث تبعا للأعلام عن تلك الاخبار وما هو مفادها:

فقد روى في الوسائل عن الصدوق في كتاب ثواب الاعمال عن ابيه قال حدثني علي بن موسى (هو الكُمُنداني الذي هو احد من يقصد الكليني في الكافي بقوله “عن عدة من اصحابنا” ولا يبعد وثاقته، لاكثار الكليني الرواية عنه، كما نقل الصدوق في الفقيه عن والده عنه روايات مالك الجهني وجعفر بن عثمان) عن احمد بن محمد (بن عيسى) عن علي بن الحكم عن هشام عن صفوان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من بلغه شي‌ء من الثواب على شي‌ء من الخير فعمله كان له أجر ذلك وإن كان رسول الله لم يقله([27])، ونحوه ما في الوافي([28])، وما هو الموجود في نسخ ثواب الاعمال “هاشم بن صفوان”([29])، خطأ جزما، لعدم عين منه ولا أثر في سائر الروايات ولا الرجال، بل الظاهر أن الصحيح “هشام وصفوان” فانه مضافا الى عدم معهودية نقل هشام بن سالم عن صفوان أنه روى في المحاسن عن احمد بن ابي عبد الله البرقي عن علي بن الحكم عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من بلغه عن النبي (صلى الله عليه وآله) شي‌ء من الثواب فعمله كان أجر ذلك له وإن كان رسول الله لم يقله([30])، كما نقل في الكافي عن علي بن ابراهيم عن ابيه عن ابن ابي عمير عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من سمع شيئا من الثواب على شي‌ء فصنعه كان له (في عدة من نسخ الكافي: كان له اجره) وإن لم يكن على ما بلغه([31]).

وروى في المحاسن ايضا عن احمد بن النضر عن محمد بن مروان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: من بلغه عن النبي (صلى الله عليه وآله) شي‌ء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي كان له ذلك الثواب، وإن كان النبي لم يقله([32])، ولا يبعد تمامية سند الرواية فان احمد بن النضر وثقه النجاشي، كما يمكن اثبات وثاقة محمد بن مروان برواية صفوان بن يحيى عنه، في المحاسن والكافي([33])، وان كان قد روى عنه في بعض روايات أخرى بواسطة ابن مسكان([34]).

وفي الكافي بسنده عن محمد بن سنان عن عمران الزعفراني عن محمد بن مروان قال سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول من بلغه ثواب من الله على عمل، فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه([35])، ولكن عمران الزعفراني مجهول.

وقد ادعى العلامة المجلسي كون روايات التسامح في ادلة السنن مستفيضة([36])، وهو غير بعيد، لأن اسانيد تلك الروايات لا تقلّ من اول السند الى آخره عن ثلاثة طرق، وينتهي آخرها الى هشام وصفوان ومحمد بن مروان.

والمحتمل في هذه الأخبار عدة اقوال:

القول الاول: موضوع هذه الأخبار هو بلوغ الثواب على عمل مفروغ عن استحبابه، فلا يشمل البلوغ بخبر ضعيف

القول الاول: ما يقال من أن موضوع هذه الأخبار هو بلوغ الثواب على عمل مفروغ عن استحبابه، فلا يشمل البلوغ بخبر ضعيف، وذلك لأحد وجهين:

1- ما حكي عن بعض السادة الاعلام “دام ظله” بالنسبة الى صحيحة هشام على نقل الكافي أن الموجود فيها “و ان لم يكن على ما بلغه” فان المتبادر منه أن اصل الثواب في العمل كان ثابتا، وانما لم يكن الثواب بمقدار ما بلغه، فلا يدل على استحباب ما لم يثبت استحبابه بدليل معتبر.

على أن الموجود في هذه الصحيحة بعض نسخ الكافي “كان له اجره” فيكون التصريح به بدل أن يقول “كان له ذلك” قرينة على ارادة اعطاء الاجر الواقعي للعمل، أي اذا اتى المكلف بعمل له اجر واقعي، بداعي الحصول على ثواب بالغ، لا يمنع المولى من اعطاءه ذلك الاجر الواقعي وان كان داعيه الى الاتيان بذلك العمل امر موهوم.

وأما صحيحة هشام على نقل المحاسن فالموجود فيه وان كان قوله “كان له اجر ذلك وان كان رسول الله لم يقله” وقد يوهم التعبير بأن رسول الله لم يقله، هو عدم صدور بيان اصل الثواب عليه واستحبابه، لكن يمكن أن يكون المراد ولو بمناسبة التعبير بـ “كان له اجر ذلك” أنه يعطى الاجر الواقعي لذلك العمل وان كان لم يصدر من النبي (صلى الله عليه وآله) الوعد بذلك الثواب البالغ، لا أنه وان كان لم يصدر من النبي اصل الثواب واستحباب العمل، على أن الاعتماد على كتاب المحاسن في قبال نقل الكافي غير صحيح، لأن كتب الكافي منذ تاليفه كان مقروّا على العلماء ولم يزل كذلك، وأما المحاسن فهو مضافا الى عدم وصول جميعه الى المتأخرين قد كان مهجورا منذ اعصار فليست نسخه مشهورة.

وأما روية صفوان حسب نقل ثواب الاعمال، فقد ورد فيها التقييد ببلوغ الثواب على شيء من الخير، فيكون مقيدا لاطلاق سائر الأخبار، بكون العمل الذي بلغ عليه الثواب خيرا أي مستحبا في حد نفسه.

وأما رواية مروان فالموجود في نقل الكافي “و ان لم يكن الحديث كما بلغه” فقد يكون معناه أن الحديث ليس بالحد الذي وصل اليه من مقدار الثواب، وان كان اصل الثواب ثابتا.

فيكون موضوع هذه الأخبار العمل المستحب في حد ذاته، فلا يشمل موارد قيام الخبر الضعيف على استحباب عملٍ.

2- ما يقال من ان موضوع هذه الأخبار بلوغ الثواب بخبر معتبر، فلا يشمل البلوغ بخبر ضعيف، إما لما يقال من ظهور لفظ البلوغ في ذلك، ففي لسان العرب أن العرب تقول للخبر الذي يبلغ احدهم ولا يحققونه “سمع لا بلغ” أي نسمعه ولا يبلغنا([37])، او لما جاء في كلام المحقق النائيني “ره” من أن الظاهر من قوله “فعمله” أن يكون العمل اعتمادا على البلوغ، والعامل لا يعتمد على خبر بالغ الا اذا كان معتبرا.

والانصاف عدم تمامية أي من الوجهين، أما الوجه الاول، فلأنه ان اريد من التعبير الموجود في الكافي “و ان لم يكن على ما بلغه” أنه لم يكن العمل على ما بلغه من اعطاء ذلك الثواب عليه فاطلاقه يشمل ما لو لم يكن يعطى واقعا أيّ ثواب عليه، وهكذا لو اريد منه أنه لم يكن الواقع على ما بلغه، بل لو اريد منه أنه لم يكن الثواب على ما بلغه” يشمل ما لو تبين أن الثواب لم يكن يعطى على هذا العمل اصلاً.

واما ما في الكافي من قوله “كان له اجره” فان ظاهره نفس هذا الاجر البالغ، والا فلا يتوهم ان الاتيان بعمل مستحب بداعي الحصول على الثواب البالغ الموهوم يمنع من اعطاء اصل الثواب الثابت له.

وأما اشكاله على كتاب المحاسن فهو تامّ عندنا، حيث انكرنا وجود سند معتبر لمثل صاحب الوسائل الى نسخ الكتب التي ينقل عنها، فلابد من حصول الوثوق الشخصي بصحة النسخة، وقد لا يحصل بعد عدم كونه من الكتب المتداولة المشهورة، لكن لا يبعد حصول الوثوق بأن النسخة الاصلية للمحاسن ايضا كانت “و ان كان رسول الله لم يقله” لعدم اضطراب وتشويش فيه، كما أن توجيه قوله “و ان كان رسول الله لم يقله” بأن رسول الله لم يقل هذه المرتبة من الثواب، فهو خلاف اطلاق العبارة، اذ تشمل العبارة ما لو لم يقل بالنسبة الى اصل ثواب العمل و استحبابه شيئا.

أما ذكر كلمة “الخير” في صحيحة صفوان في نقل الصدوق في كتاب ثواب الاعمال فليس له مفهوم مطلق، بل له مفهوم في الجملة والقدر المتيقن منه الاحتراز عما فامت الحجة على حرمته، بل ما احتمل حرمته، فيكون المرجع اطلاق صحيحة هشام، نعم ما في تعليقة البحوث من أن ظاهره الخير العنواني اي ما بلغ المكلف أنه خير، لا الخير الواقعي فالانصاف كونه خلاف الظاهر.

وكذا ظاهر قوله في رواية محمد بن مروان “و ان لم يكن الحديث كما بلغه” هو فرض كذب الحديث، ولم يفرض فيه ثبوت اصل الثواب.

وأما الوجه الثاني وهو ظهور الأخبار في بلوغ الثواب بخبر معتبر ففيه أن لفظ البلوغ يشمل عرفا البلوغ بخبر ضعيف، وما في لسان العرب فلعل المراد من قولهم “سمع لا بلغ” أنه لم يؤثر علينا هذا المسموع، كما في قوله تعالى “أيمان علينا بالغة” اي مؤثرة في نفوسنا، والا فلا يكاد يشك في صدق البلوغ على البلوغ بخبر ضعيف، وأما ما ذكره المجقق النائيني “ره” ففيه أن كون بلوغ الثواب داعيا الى الاتيان بالعمل يشمل ما لو بلغ الثواب بخبر ضعيف فصار داعيا الى اتيان ذلك العمل برجاء ذلك الثواب.

وعليه فلا يتم هذا القول الاول.

القول الثاني: مفادها الترغيب الى الاحتياط بداعي الارشاد الى حسن الاحتياط

القول الثاني: ما قد يقال من كون مفادها الترغيب الى الاحتياط بداعي الارشاد الى حسن الاحتياط مع بيان تفضله تعالى بالاثابة بنفس الثواب البالغ.

وهذا هو الذي يظهر اختياره من السيد الخوئي “قده” في مصباح الاصول حيث ذكر من جملة الاحتمالات احتمال أن يكون مفادها الإرشاد إلى حكم العقل بحسن الانقياد، وترتب الثواب على الإتيان بالعمل الّذي بلغ عليه الثواب وان لم يكن الأمر كما بلغه‏، ثم قال: المتعين هو هذا الاحتمال، فان مفادها مجرد الاخبار عن فضل اللَّه تعالى، وأنه سبحانه بفضله ورحمته يعطي الثواب البالغ، وإن كان غير مطابق للواقع([38]).

وفيه أنه ان كان الظاهر منها الترغيب الى الاحتياط فلا وجه لحملها على الارشادية بعد كون الظاهر من الترغيب الصادر من الشارع هو الامر المولوي.

القول الثالث: ما يقال من كون مفادها بيان استحباب الاحتياط شرعا

القول الثالث: ما يقال من كون مفادها بيان استحباب الاحتياط شرعا مع بيان تفضله بالاثابة بنفس الثواب البالغ.

القول الرابع: ما ينسب الى المشهور من كون مفادها حجية الخبر الضعيف القائم على استحباب عمل

القول الرابع: ما ينسب الى المشهور من كون مفادها حجية الخبر الضعيف القائم على استحباب عمل، وقد يناسب هذا القول التعبير بقاعدة التسامح في ادلة السنن.

القول الخامس: مفادها استحباب العمل البالغ عليه الثواب بهذا العنوان الثانوي

القول الخامس: ما اختاره جماعة من كون مفادها استحباب العمل البالغ عليه الثواب بهذا العنوان الثانوي، وقد صرح صاحب الكفاية “قده” باختيار هذا القول، وكذا المحقق النائيني “قده” في دورته الاصولية التي قرِّرت عنه في اجود التقريرات، وقد اختار السيد الخوئي “قده” هذا القول في دورة اصولية سابقة له حسب تقرير الدراسات، كما ذكر بعض السادة الاعلام “دام ظله” أنه لو لم يتم الوجه الذي دعاه الى القول الاول وهو القول باختصاص أخبار من بلغ بالعمل المستحب في حد ذاته لكان الأقوى هو هذا القول.

القول السادس: مفاده مجرد الإخبار عن تفضله تعالى وإحسانه

القول السادس: ما ذكره الشيخ الأعظم “قده” بعنوان احد الاحتمالات ولكن اختاره بعض الاعلام في المنتقى بتقريب أن مفاد أخبار “من بلغ” مجرد الإخبار عن تفضله تعالى وإحسانه وأنه لا يخيّب رجاء من رجاه وأمل من اتى بعمل بلغه الثواب عليه، فيثيبه بنفس الثواب البالغ، ولا ظهور لها في الترغيب نحو العمل وان حصلت الرغبة فيه بعد ملاحظة هذا الوعد، فيكون نظير قول القائل “ان من قصد داري بتخيل وجود الطعام فيه لا أحرمه من ذلك وأطعمه”، فانه في مقام بيان كرمه، وليس في مقام الترغيب إلى قصد داره، بل قد يكون كارها له لضيق ما في يده([39]).

اقول: هذا القول الأخير لا يخلو من قوة، فانه لا يظهر من هذه التعابير أكثر من الاخبار عن فضله تعالى وكرمه، دون كونه بصدد الترغيب الى الاتيان بذاك العمل، فلا يبقى مجال للبحث عن كون مفادها استحباب الاحتياط او حجية الخبر الضعيف في المستحبات، او استحباب العمل البالغ عليه الثواب بعنوان ثانوي، ولكن لو غمضنا العين عن هذا الاشكال وقلنا بظهورها في الترغيب الى الاتيان بذاك العمل فلا يظهر منها القول بحجية الخبر الضعيف او الاستحباب الثانوي، وتكون القدر المتيقن حسب النتيجة استحباب الاحتياط.

أما أنه لا يظهر منها القول بحجية الخبر الضعيف، فقد ذكر في اجود التقريرات في وجه ذلك أن لسان هذه الروايات هو ترتب الثواب مع احتمال كذب الخبر، كما هو صريح قوله “و إن كان رسول اللَّه لم يقله” وهذا لا يتناسب مع جعل الحجية، لأن الحجية سواء كانت بمعنى جعل العلمية، كما هو المختار عندنا أو بمعنى تنزيل المؤدى منزلة الواقع، لابد وأن تكون متكفلة لإلغاء احتمال الخلاف وإثبات الواقع بعد قيام الحجة عليه فكيف يجتمع مع بيان احتمال عدم مطابقة الخبر للواقع، وبالجملة دليل حجية الأمارة لا بد وأن يكون ناظرا إلى الواقع ومثبتا له بإلغاء احتمال خلافه والرواية صريحة في عدم الغاء احتمال الخلاف، ولأجل ذلك قوّى القول بالاستحباب الثانوي([40]).

ولكن يرد عليه أنه لا مانع من أن يقول المولى “ان اخبرك ثقة بشيء فيجب عليك العمل بخبره ما دمت تحتمل صدقه وان كان كذبا واقعا” حتى لو قبلنا كون الحجية في الامارات بجعل العلمية لها كما هو مبناه “قده” فضلا عما هو المختار من عدم انحصار صياغة جعل الحجية فيه، هذا مضافا الى أنه لا يعني عدم دلالة تلك الأخبار على جعل الحجية دلالتها على جعل الاستحباب الثانوي، بعد احتمال كون مفادها استحباب الاحتياط.

والصحيح أن يقال: ان الامر بالاتيان بعملٍ قام الخبر على الثواب فيه، يجتمع مع كونه من باب الامر الطريقي بالاحتياط ولا يظهر منه الحجية بجعل الحكم الظاهري بترتيب آثار استحبابه كاغناء الغسل الذي قام خبر ضعيف على استحبابه عن الوضوء، بناء على اغناء كل غسل مستحب او واجب عن الوضوء، فلا يتم القول الخامس المنسوب الى المشهور.

وأما أنه لا يظهر منها استجباب العمل البالغ عليه الثواب بالعنوان الثانوي، فلأن غاية ما يقال في تقريب القول بظهورها في الاستحباب الثانوي ما ذكره صاحب الكفاية من أن ظاهر تلك الأخبار الوعد باعطاء الثواب بإزاء الاتيان بذلك العمل البالغ عليه الثواب مطلقا، من غير تقييده باتيانه برجاء استحبابه والوصول الى ثوابه الواقعي المحتمل، وحينئذ يكون نظير سائر موارد بيان استحباب عملٍ بالوعد بالثواب عليه، نعم لو كان مفاد تلك الأخبار الوعد باعطاء الثواب البالغ على عملٍ، بإزاء الاتيان بذلك العمل برجاء استحبابه والثواب عليه لم يظهر منه أكثر من بيان الثواب على الاحتياط، فان استظهر منه حكم شرعي فانما هو استحباب الاحتياط.

ولكن قد يورد عليه عدة ايرادات:

الايراد الاول:

ان فاء التفريع في قوله “من بلغه ثواب على عمل فعمله” يقتضي كون السبب والمحرك نحو العمل بلوغ الثواب عليه، فيختص بالعمل الصادر بداعي الوصول الى ذلك الثواب المحتمل، وهذا هو الاحتياط، فتكون هذه الاخبار بصدد الترغيب الى الاحتياط ببيان الثواب عليه.

ويجاب عن هذا الايراد بعدة اجوبة:

الجواب الاول:

ما ذكره المحقق الاصفهاني “ره” من أن التفريع على قسمين:

أحدهما: تفريع المعلول على علته الغائية، (بأن يكون ما قبل الفاء داعيا ومحركا لايجاد مدخول الفاء) ومعناه هنا انبعاث العمل عن داعي الوصول الى الثواب البالغ المحتمل.

ثانيهما: مجرد الترتيب، (بأن يكون ما قبل الفاء بيانا لمجرد ظرف تحقق مدخول الفاء) نظير أن يقال “من سمع الأذان فبادر الى المسجد فله كذا من الثواب” فان الداعي والمحرك إلى المبادرة الى المسجد فضيلة المبادرة، لا سماع الأذان، وإن كان لا يدعوه فضيلة المبادرة إلا في ظرف دخول الوقت المكشوف بالأذان، فعلى هذا المعنى الثاني قد يكون الاتيان بالعمل لاجل استحبابه الثانوي بعنوان ما بلغ عليه الثواب، وان كان محركية هذا الاستحباب يكون في ظرف بلوغ الثواب المحتمل، ولأجل هذا رتّبه عليه بالفاء، فلا يتعين التفريع في الأول حتى يختص باتيان العمل بداعي ذلك الثواب المحتمل.

وأما ما ذكره الشيخ الأعظم “قده” من منع دلالة الفاء على السببية، بل هي عاطفة، فهو خلاف الاصطلاح، لعدم التقابل بين السببية والعطف، بل العاطفة تارة للسببية، وأخرى للترتيب، وهكذا، والامر سهل([41])..

وفيه -مع غمض العين عن كون مجرد احتمال كون الفاء للترتيب لا يكفي في الاستدلال على الاستحباب الثانوي، بل لابد من دفع احتمال كون الفاء للسببية- ان الظاهر من التعبير بقوله “من بلغه ثواب على عمل فعمله” هو السببية والداعوية لا مجرد الترتيب، ولا يقاس بمثال “من سمع الاذان فبادر الى المسجد فله كذا من الثواب” فان سماع الأذان ليس له شأنية المحركية والداعوية نحو المبادرة الى المسجد، فانه ليس غاية مترتبةً عليها، بحيث يؤتى بها لاجل تحصيله، بخلاف بلوغ الثواب على عملٍ، فان له شأنية المحركية والداعوية نحو الاتيان بالعمل لغاية تحصيل ذلك الثواب البالغ، وما كان من هذا القبيل فيكون ما قبل الفاء ظاهرا في كونه داعيا ومحركا بالفعل نحو مدخول الفاء، دون مجرد بيان ظرف تحققه.

الجواب الثاني: ما عن بعض السادة الاعلام “دام ظله” من أنه توجد في هذه الاخبار قرينة على كون الفاء فيها لمجرد الترتيب، وهي أن هذه الأخبار بنفسها مسوقة لايجاد الداعي الى العمل، فلا يناسب فرض صدور العمل بداعوية الثواب البالغ المحتمل مع قطع النظر عن هذه الروايات.

وفيه أنه يمكن أن تكون هذه الأخبار من قبيل الداعي على الداعي، أي ان هذه الأخبار ترغِّب الى الاتيان بالعمل بداعوية ذلك الخبر الضعيف والتي تكون داعوية انقيادية واحتياطية، فان من يقول “بلغني ثواب على عمل كذا فعملت به” حيث يكون ظاهرا في العمل بداعي الوصول الى ذاك الثواب رجاء، فاذا ورد في خطاب المولى الترغيب الى ذلك ببيان اعطاء الثواب القطعي على هذا العمل الصادر بداعي الرجاء، فيكون ترغيبا الى العمل الصادر بداعي الرجاء، لا الى ذات العمل عقيب بلوغ الثواب عليه، ويشهد على ما ذكرناه خبر محمد بن مروان “من بلغه عن النبي شي‌ء من الثواب ففعل ذلك طلب قول النبي كان له ذلك الثواب” او “من بلغه ثواب من الله على عمل، فعمل ذلك العمل التماس ذلك الثواب أوتيه وإن لم يكن الحديث كما بلغه”، حيث لا يوجد فيه توجيه آخر غير ما ذكرناه.

الجواب الثالث: ما قد يقال بأن الظاهر في موارد العطف بفاء التفريع على مدخول أداة الشرط، هو كون الحكم ثابتا لذات مدخول الفاء، وأن ما قبله ذكر توطئة وتمهيدا، كما لو قال: إذا رأيت زيدا فاحترمته كان لك كذا من الأجر، فان ظاهره أن رؤية زيد ذكرت توطئة لذكر موضوع الحكم.

وفيه أنه ممنوع، الا اذا اوجب الفهم العرفي الغاء الخصوصية عما قبل الفاء، فلو قال المولى “اذا احتاج زيد فاعطيته درهما فلك كذا” فلا اطلاق له لفرض اعطاءه درهما مع عدم حاجته.

الجواب الرابع: ما يظهر من صاحب الكفاية “قده” من أن الفاء وان كانت للسببية، فيكون بلوغ الثواب على العمل داعيا ومحركا نحو الاتيان به، لكن لايوجب ذلك تعنون العمل بعنوان هذا الداعي، فان الداعي يدعو الى ذات العمل، لا العمل المعنون بذلك الداعي والثواب المترتب في هذه الأخبار يكون على ذات العمل، فان العمل المنبعث عن داعوية الثواب المحتمل باقٍ على ما هو عليه من عنوانه، ولا يتعنون من قبل داعوية الثواب المحتمل بعنوان خاصٍ بحيث يدعو الثواب المحتمل إلى هذا العنوان الخاص، وهو عنوان العمل بداعي الثواب المحتمل، وحينئذ فلا ينافي ظهور الأخبار في ترتب الثواب على العمل غير المتقيد بداعي الثواب المحتمل.

هذا وقد ذكر المحقق الاصفهاني “قده” اشكالا على هذا الجواب وهو أنه مع فرض انبعاث المكلف عن الأمر الأولي المحتمل لا يعقل جعل الداعي بجعل الاستحباب بالعنوان الثانوي، وذلك لأن الفعل ما لم ينبعث عن هذا الاستحباب الثانوي فلا يترتب عليه ثواب إمتثال هذا الاستحباب، فجعل هذا الاستحباب الثانوي يكون بغرض داعويته الى العمل، ومع فرض كون العمل بداعي الامر الاولي المحتمل فيستحيل انبعاثه عن هذا الداعي الثانوي، فان انبعاث عمل واحد عن داعيين متماثلين مستقلين في الدعوة محال، فجعل الداعي مع فرض وجود الداعي المؤثر بالفعل محال.

ثم اجاب عنه بأن الغرض من الاستحباب الثانوي جعل الداعي نحو ذات العمل الذي يوجد له داع شأني يصلح أن يدعو نحوه وهو الامر الاولي المحتمل، وليس الغرض منه جعل الداعي نحو العمل الذي كان الامر الاولي المحتمل محركا نحوه بالفعل([42]).

وكيف كان فيرد على جواب صاحب الكفاية أنه وان لم يكن العمل في قوله “فعمله” مقيدا لحاظيا، باتيانه بداعي الوصول الى ذلك الثواب المحتمل، لكنه مقيد ذاتي بعد كونه مدخول فاء السببية، نظير ما يقال من أن الحرارة الصادرة من النار مثلا ليست الحرارة المقيدة بوصف صدورها عن هذه النار، بل ذات الحرارة ولكنها مقيدة ذاتا، أي لا اطلاق لها بحيث تشمل الحرارة غير الصادرة عن هذه النار، فظاهر الأخبار أن الثواب على هذا العمل المتضيق قهرا بحيث لا اطلاق له يشمل العمل الصادر لا بداعي الوصول الى الثواب المحتمل.

وان كان مقصوده كفاية عدم ذكر هذا القيد في الخطاب في انعقاد ظهور صحيحة هشام في كون الثواب على طبيعي العمل، لا العمل المقيد بكونه بداعي الوصول الى الثواب المحتمل، ففيه أن الظاهر كفاية التضيق القهري في المنع من هذا الاطلاق، فيكون نظير ما لو قال شحص لآخر “لو طلب منك زيد مالا فاعطيته كان لك عليّ الف درهم” فلا يستحق هذا الجعل لو كان اعطاءه المال من دون طلب زيد.

كما أنه لو كان مقصوده أن ظاهر صحيحة هشام كون الثواب على ذات العمل لا على عنوان الانقياد، فيدل على استحباب العمل لا الانقياد والاحتياط، فيرد عليه أنه لا يكون الثواب على ذات العمل ابدا، بل هو إما على الاطاعة لو كان الامر معلوما، او على الانقياد لوكان الامر محتملا، والحاصل انه لا ينافي ترتب الثواب على العمل في ظاهر الرواية ترتبه على الانقياد، كما لم يكن ينافي ترتبه على الاطاعة في موارد العلم بالامر، نعم ان الثواب التفضلي يمكن ان يترتب على ذات العمل، ولكنه لايكشف عن الاستحباب.

الجواب الخامس: ما يقال من أن الظاهر من أخبار من بلغ هو كونها في مقام تثبيت ذلك الثواب البالغ على ذات العمل، فلو كان مفاد هذه الأخبار ترتب الثواب على العمل المتقيد بكونه بداعي الوصول الى ذلك الثواب المحتمل، كان ثوابا آخر لموضوع آخر.

وفيه أنه لم يظهر من هذه الأخبار وحدة الثواب البالغ مع الثواب الموعود في هذه الاخبار بهذه الدقة، بل الظاهر منها وحدتهما في مقدار الثواب واشتراك ذات العمل فيه، لا أكثر، والا فان الثواب على العمل بعنوان البالغ عليه الثواب ايضا غير الثواب على نفس العمل.

الجواب السادس: ما يقال أن اطلاق قوله “من بلغه ثواب على عمل فعمله”، وان كان مختصا بما لو كان الداعي الى العمل بلوغ الثواب المحتمل، لكن يشمل فرض ما لو اتى بالعمل بقصد الامر الجزمي به، لا بعنوان الاحتياط، وهذا يكشف بالالتزام عن تعلق الامر الثانوي بذات العمل، والا كان تشريعا محرما لا يستحق عليه الثواب.

وفيه أنه يوجد مقيد لبي لخطابات الوعد بالثواب، وهو صدور العمل بقصد القربة وبحسن فاعلي، لا بداع التشريع ونحوه، فلا يمكن كشف أن العمل الصادر بقصد الامر الجزمي به باطلاقه موعود عليه الثواب، حتى يثبت به تعلق الامر بذات العمل بالعنوان الثانوي.

ومن جميع ما ذكرناه تبيّن تمامية الايراد الاول.

الايراد الثاني:

ما يقال من أنه حتى لو فرض خلوّ الاخبار عن الفاء، بأن قيل “من أتى بالعمل الذي بلغ عليه الثواب اوتي ذلك الثواب وان لم يكن كما بلغه” فلا يكشف ذلك عن استحباب العمل بالعنوان الثانوي، فان بيان الثواب على عملٍ انما يكشف عن رجحان ذلك العمل شرعا إما بالملازمة او بالكناية، ولا يجدي ايّ منهما في المقام:

أما الملازمة فلأن المفروض أن الاتيان بالمستحب الواقعي من دون علم باستحبابه لا يلازم الثواب، نعم ان العلم بالاستحباب قد يلازم الثواب، ولكن لامعنى لاستكشاف العلم بالاستحباب من ترتب الثواب، فانه امر وجداني لا معنى لاستكشافه من الخارج، حيث يكون نظير استكشاف الانسان عطش نفسه من خلال اعطاء شخص آخر الماء اليه، وأما احتمال الاستحباب فلو فرضت ملازمته مع الثواب فلا يمكن أن يكشف عن ثبوت الاستحباب واقعا.

أما الكناية فهي انما تتمّ فيما اذا انحصر عرفا الوعد بالثواب على عمل في بيان استحبابه، كما في قوله “من سرح لحيته فله كذا من الثواب” فانه لا منشا للوعد بالثواب عليه الا بيان رجحان الفعل والترغيب اليه، وأما اذا كان لا ينحصر منشأ الوعد بالثواب في ذلك، بل يمكن ان يكون بنكتة أخرى، كنكتة بيان فضله وكرمه تعالى وأنه لا يبخل عن اعطاء الثواب البالغ على عملٍ فيما اذا اتى المكلف بالعمل البالغ عليه الثواب، او نكتة الثواب على الاحتياط، فحينئذ لا يستظهر عرفا كون الخطاب بصدد بيان استحباب العمل بالعنوان الثانوي.

ولا بأس بهذا الايراد ابضا.

الايراد الثالث:

ما يقال من أن التقييد الوارد في خبر محمد بن مروان من قوله “فعمله التماس ذلك الثواب” او “…طلب قول النبي” ظاهر في العمل بداعي الوصول الى الثواب المحتمل وهو العمل بداعي الاحتياط، وهذا يوجب حمل بقية المطلقات عليه.

وقد اجاب صاحب الكفاية عن هذا الايراد بأن اختصاص هذا الخبر بفرض الرجاء والاحتياط لا يوجب تقييد صحيحة هشام الظاهرة بمقتضى اطلاقها في ترتب الثواب على نفس العمل، والمطلق انما يحمل على المقيد في فرض المنافاة بينهما، ولكن لا منافاة بين أخبار من بلغ في المقام، فلو أتى بالعمل طلب قول النبي أو التماس ذلك الثواب، لأوتي الثواب على نفس العمل، لا بما هو احتياط وانقياد.

توضيح كلامه أن حمل المطلق على المقيد انما يكون في موردين، احدهما: مورد اختلافهما في النفي والاثبات، مثل “أكرم العالم” و”لا تكرم العالم الفاسق” ثانيهما: مورد احراز وحدة الحكم، كما في قوله “ان افطرت فاعتق رقبة” و”ان افطرت فاعتق رقبة مؤمنة”، وذلك لعدم احتمال اكثر من وجوب واحد لعتق رقبةٍ عند الافطار، ولكن أخبار من بلغ كلها مثبتة للثواب بنحو الانحلال، لا بنحو وحدة الحكم، فلا منافاة بين اثبات الثواب على العمل بداعي الثواب البالغ، واثبات الثواب على مطلق العمل البالغ عليه الثواب، فالمقام مثل قوله “اكرم العالم” وقوله “أكرم الفقيه”، حيث لا يمنع الثاني من العمل باطلاق الخطاب الأول.

الا أن الانصاف تمامية هذا الايراد الثالث ايضا، فانه يوجد مفهوم لخبر محمد بن مروان، وليس هذا مفهوم الشرط، لما مر منا مرارا أن الجملة الشرطية التي يكون الشرط فيها الموصول وصلته لا ينعقد لها مفهوم الشرط، مثل قوله “من كان عالما فأكرمه” حيث يكون الظاهر من الضمير في الجزاء هو رجوعه الى من كان عالما، فيكون انتفاء الجزاء بانتفاءه من باب السالبة بانتفاء الموضوع، فلايكون من مفهوم الشرط في شيء، بل يكون من مفهوم الوصف، على أن ظاهر خبر محمد بن مروان كون نكتة اعطاء الثواب البالغ هو الاحتياط باتيان العمل بداعي الثواب البالغ، فلو كان هناك نكتة أخرى للثواب وهو الاتيان بذات العمل لكونه مستحبا نفسيا بعنوان ثانوي، لزم اعطاء ثوابين، مع أنه خلاف الظاهر.

هذا وقد يقال في تقريب جواب صاحب الكفاية بأنه لا يحمل المطلق على المقيد في المستحبات، بل يحملهما العرف على اختلاف مراتب الفضل، ولكنه لا وجه له بعد كون المحمول فيهما واحدا وهو اعطاء الثواب البالغ، فلا يتصور فيه مراتب الفضل.

وقد يقال ايضا في تقريب جوابه أنه يشترط في حمل المطلق على المقيد الاتحاد في سنخ المحمول والحكم، والحكم في الخبر المقيد كقوله “من بلغه ثواب على عمل فعمله التماس ذلك الثواب اوتي ذلك الثواب” هو الارشاد الى حسنه العقلي، وفي الخبر المطلق هو الاستحباب المولوي بذات العمل.

ولكن يورد على هذا التقريب أن المهم وحدة المدلول المطابقي في تلك الاخبار وهو بيان الثواب، فالمحمول يكون واحدا، على أن الارشاد الى الحسن العقلي في الخبر المقيد مما لاوجه له بعد ظهوره في الترغيب المولولي لو تمّ اصل ظهوره في الترغيب.

الايراد الرابع:

ما يقال من أنه إذا كان عنوان البلوغ من العناوين الثانوية الموجبة لاستحباب العمل بملاك نفسي واحد، فالمرتكز العرفي أن يكون له حكم واحد وثواب واحد، لا ان يختلف شدة وضعفا وكثرة وقلة باختلاف المقدار البالغ من الثواب، فينكشف من اختلاف مقدار الثواب عدم تمامية القول بالاستحباب النفسي.

وفيه أن ملاك بلوغ الثواب ليس ملاكا عرفيا للاستحباب النفسي للعمل، حتى يرجع فيه الى مرتكز العرف، بل ملاك تعبدي، ولا مانع من أن يكون بلوغ الثواب الأشد موجبا لملاك نفسي اشد وبلوغ الثواب الأخف موجبا لملاك نفسي اخف، فيكون استحبابه اخفّ.

وكيف كان فقد تحصل عدم ظهور أخبار من بلغ في استحباب العمل البالغ عليه الثواب بالعنوان الثانوي، ولا حجية الخبر الضعيف، فان استفيد ترغيب الى العمل في هذه الأخبار فنلتزم بظهورها في استحباب الاحتياط، مع الوعد باعطاء الثواب البالغ عليه، لكن سبق المنع عن اصل ظهورها في الترغيب الى العمل غير واضح.

 

 



[1] – في علل الشرايع ج2ص361 “أن انظر فيه فأقلبه”، ولكنه لا يقدح بما هو المقصود في المقام.

[2] – وسائل الشيعة ج‌3 ص 466

[3] – وسائل الشيعة ج‌1 ص 148

[4] – وسائل الشيعة ج‌1 ص 149

[5] – وسائل الشيعة ج‌3 ص 467

[6] – وسائل الشيعة ج‌3 ص 491

[7] – وسائل الشيعة ج‌3 ص 493

[8] – وسائل الشيعة ج‌25 ص 119

[9] – وسائل الشيعة ج‌25 ص 119

[10] فرائد الاصول ج‏1 ص381

[11] – جواهر الكلام ج9 ص121وص155وص157

[12] – سورة البقرة الآية 196

[13] – وسائل الشيعة ج1 ص67

[14] – وسائل الشيعة ج1 ص60

[15] – وسائل الشيعة ج19 ص210

[16] – فرائد الاصول ج 1ص381

[17] – اي في خصوص العبادة المشكوك تعلق الامر بها، والا فلو دليل الدليل على الاحتياط في العبادات فلعل موردها فرض العلم باصل الامر، وان شكّ في كونه بنحو الوجوب او الاستحباب.

[18] – كفاية الاصول ص 350

[19] – كفاية الاصول ص351

[20] – التقرير المخطوط لابحاث البراءة ص320

[21] – فوائد الاصول ج‏3 ص 406

[22] – الكافي (طبع دار الحديث) ج1ص151

[23] – فوائد الاصول ج3ص 399

[24] – مصباح الاصول ج2 ص317

[25] – بحوث في علم الأصول ج‏5 ص118

[26] – بحوث في علم الأصول ج‏5 ص118

[27] – وسائل الشيعة ج1ص80

[28] – الوافي ج4ص370

[29] – ثواب الاعمال ص132

[30] – المحاسن ج1ص25

[31] – الكافي طبع دار الحديث ج3ص225

[32] – المحاسن ج1ص25

[33] – المحاسن ج1ص202 الكافي طبع دار الحديث ج1ص405و ج2ص250و ج3ص539

[34] – المحاسن ج‌2 ص 615 والكافي ج6ص380

[35] – الكافي طبع دار الحديث ج3ص225

[36] – مرآة العقول ج8ص113

[37] – لسان العرب ج8ص420

[38] – مصباح الاصول ج2ص319

[39] – منتقی الاصول ج4ص525

[40] – اجود التقريرات ج‏2 ص208

[41] – نهاية الدراية ج‏4 ص176

[42] – نهاية الدراية ج‏4 ص176