فهرست مطالب

فهرست مطالب


تقریرات دروس خارج مدرسه فقهی امام محمد باقر علیه السلام

 

 

الاقوال في الاستصحاب.. 2

الاجوبة عن اشكال معارضة استصحاب عدم الجعل الزائد مع استصحاب بقاء المجعول. 2

البحث عن حكومة استصحاب عدم الجعل.. 2

تعارض مختار بعض الاجلة فی الاستصحاب و مختارهم فی البرائة. 2

محقق الخویی: حكومة استصحاب عدم الجعل على استصحاب بقاء المجعول. 2

مناقشه. 3

الملاك في الحكومة كون المشكوك فيه في أحد الأصلين أثراً مجعولا شرعياً للأصل الآخر. 5

المختار: الصحيح استقرار المعارضة بين استصحاب عدم الجعل الزائد وبقاء المجعول. 5

کلام شيخنا الاستاذ “قده”.. 6

وجه حكومة استصحاب بقاء الجعل.. 7

استصحاب عدم الجعل الزائد و استصحاب بقاء المجعول في عرض واحد. 8

الجواب العاشر: 8

جواب السيد الخوئي عن معارضة استصحاب عدم جعل تکلیف مع استصحاب عدم جعل الإباحة. 9

الوجه الاول: لا مجال لاستصحاب عدم جعل الحلية او الطهارة 9

الوجه الثاني: لزوم المخالفة القطعية العملية من معارضه. 9

الوجه الثالث: وجود طرف ثالث للمعارضة. 10

مناقشات فی کلام السید الخویی.. 12

بیان المختار: معارضة استصحاب عدم الجعل الزائد مع استصحاب بقاء المجعول في الشبهات الحكمية مستقر. 25

 

موضوع: اقوال /استصحاب /اصول

 

 

الاقوال في الاستصحاب

الاجوبة عن اشكال معارضة استصحاب عدم الجعل الزائد مع استصحاب بقاء المجعول

البحث عن حكومة استصحاب عدم الجعل

نعم بناء على مسلك من يرى حكومة استصحاب عدم الجعل الزائد على استصحاب بقاء المجعول فإيقاع التعارض بين استصحاب عدم الجعل الزائد مع استصحاب عدم جعلٍ آخر يوجب تساقطهما فتصل النوبة لامحالة الى جريان الاصل المحكوم وهو استصحاب بقاء المجعول.

تعارض مختار بعض الاجلة فی الاستصحاب و مختارهم فی البرائة

ولأجل ذلك اختار بعضهم في بحث الاستصحاب جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية([1])، و لكنه ينافي ما اختاره في بحث التعبدي والتوصلي من ان البراءة الشرعية عن الجعل الزائد تكون حاكمة بل واردة على استصحاب بقاء التكليف([2])، فان لازمه المنع عن جريان استصحاب بقاء الحكم التكليفي لحكومة البراءة الشرعية عليه دائما، وهو كذلك ان اخترنا حكومة الاصل الجاري في مقام الجعل على الاصل الجاري في مقام المجعول.

محقق الخویی: حكومة استصحاب عدم الجعل على استصحاب بقاء المجعول

و قد نسب الى السيد الخوئي “قده” أنه اختار حكومة استصحاب عدم الجعل على استصحاب بقاء المجعول في أواخر حياته -بعد ما كان يرى في الأصول المعارضة بينهما- بدعوى أن الشك في بقاء المجعول ناشٍ من الشك في الجعل الزائد، فاذا جرى استصحاب عدم الجعل الزائد فلا يبقى شك في بقاء المجعول، بل يعلم تعبدا بارتفاعه، وبذلك يكون استصحاب عدم الجعل الزائد حاكما على استصحاب بقاء المجعول([3]).

مناقشه

و قد ورد فيه أن الحكم اذا كان ثابتا في زمانٍ وشك في بقاءه بعد ذلك الزمان، كما لو علم بحرمة وطء الحائض مادامت حائضا فبعد انقطاع الدم يشك في بقاء الحرمة ما لم‌ تغتسل، فذكرنا في محله ان بقاء الحرمة وعدم بقاءها ناش من الشك في مقدار الجعل، فاذا كان الاستصحاب جاريا بالنسبة الى الجعل لايبقى مجال لاستصحاب الحرمة، ومع التنزل وفرض بقاء الشك ايضا، يتعارض الاستصحابان ويتساقطان فتصل النوبة الى البرائة.

و أما ما ذكره “قده” في مباني تكملة المنهاج و حكي عنه في موضع آخر من أنه اذا شك في كون عقد الزواج دائما او منقطعا، فالشك في بقاء الزوجية وعدمه بعد انقضاء الاجل مسبب عن ضيق المجعول وسعته، بمعنى الشك في كون الزوجية التي أنشأها المتعاقدان زوجية محدودة الى أمد معين او مطلقا، ومن هنا يكون استصحاب عدم جعل الزوجية بعد تلك المدة حاكما على هذا الاستصحاب ومقدما عليه، وبه يحكم بعدم كونها بعد تلك المدة المتيقنة زوجة له([4])، فلا يظهر منه اختياره لحكومة استصحاب عدم الجعل الزائد في الشبهات الحكمية على بقاء المجعول، فان ما ذكره “قده” في هذا المثال مما لاينبغي الارتياب فيه حيث ان موضوع الحكم الشرعي بالزوجية هو جعل المتعاقدين وإنشاءهما، فان ظاهر قوله تعالى “اوفوا بالعقود” و”فانكحوا ما طاب لكم من النساء” وكذا ما ورد في الروايات من الحكم بصحة التزويج، وكذا صحيحة أبان ‌بن ‌تغلب قال: قلت لابي‌ عبد الله ‌(عليه ‌السلام) كيف أقول لها إذا خلوت بها؟ قال: تقول: أتزوجك متعة… فإذا قالت: نعم فقد رضيت وهي امرأتك وأنت أولى الناس بها([5])، هو كون موضوع الحكم الشرعي بالزوجية العقد الواقع بين المرأة والرجل، و ليس هو الا جعلهما، وأما المجعول بالعرض فليس له اي دخل في ثبوت هذا الحكم الشرعي، بل لايعتبر العرف والعقلاء أيّ ثبوت وهمي له، بأن يكون له حدوث و بقاء في عالم الاعتبار زائدا على ما في نفس المتعاقدين، مادام بقاء تلك المدة للعقد الموقت مثلا، وانما يكون الثبوت الوهمي للمجعول العقلائي او الشرعي في فرض امضاء العقلاء او الشرع لذلك العقد، فلايرى العرف مثلا في موارد النكاح الفاسد بنظر العقلاء والشرع عدا جعل المتعاقدين، ولايرى للزوجية المنشأة من قبلهما اي ثبوت في عالم الاعتبار حتى يكون له حدوث وبقاء، كي يستصحب مثلا بقاء الزوجية المنشأة للمتعاقدين في موارد الشك في كون الزواج بينهما دائما او منقطعا، ثم يدعى أنه على مسلك المشهور يجري استصحاب بقاء الزوجية بلامعارض الحاقا له بما اختاروه من جريان استصحاب بقاء المجعول في الشبهات الحكمية وعدم ابتلائه بالمعارضة مع استصحاب عدم الجعل الزائد، فانه على مسلك المشهور ايضا لابد في مثل المقام من الالتزام بكون استصحاب عدم جعل المتعاقدين للزوجية الزائدة اصلا موضوعيا حاكما على استصحاب بقاء الزوجية الشرعية بعد انقضاء الاجل، كما لايصح تطبيق نظرية معارضة استصحاب بقاء المجعول مع استصحاب عدم الجعل الزائد عليه، فما عن بعض السادة الاعلام “دام ‌ظله”، من أنه التزم بجريان استصحاب بقاء الزوجية في مثل المقام ايضا في غير محله.

الملاك في الحكومة كون المشكوك فيه في أحد الأصلين أثراً مجعولا شرعياً للأصل الآخر

وكيف كان فما ذكره السيد الخوئي يعتبر عدولا عما كان يصرح به سابقا، من أنه ربما يقال ان أصالة عدم جعل الحرمة حاكمة على استصحاب بقاء المجعول، لكون الأول أصلا سببياً بالنسبة إلى الثاني، فان الشك في بقاء الحرمة مسبب عن الشك في سعة جعل الحرمة و ضيقها، فأصالة عدم جعل الحرمة موجبة لرفع الشك في بقاء المجعول، فلا يبقى للاستصحاب الثاني موضوع، و هذا الكلام و إن كان موافقاً للمختار في النتيجة، إلا أنه غير صحيح في نفسه، لأن الملاك في الحكومة ليس مجرد كون أحد الأصلين سببياً و الآخر مسببياً، بل الملاك كون المشكوك فيه في أحد الأصلين أثراً مجعولا شرعياً للأصل الآخر، و ليس عدم حرمة الوطء من الآثار الشرعية لأصالة عدم جعل الحرمة، بل من الآثار التكوينية له، لأن عدم الحرمة خارجاً ملازم تكويناً مع عدم جعل الحرمة، بل هو عينه حقيقة، و لا مغايرة بينهما إلا نظير المغايرة بين الماهية و الوجود، فلا معنى لحكومة أصالة عدم جعل الحرمة على استصحاب بقاء المجعول([6]).

وقد يستشهد على مسلك الحكومة بأنه في موارد الشك في النسخ لا ينبغي الاشكال في حكومة استصحاب بقاء الجعل على استصحاب عدم المجعول، كما لو شككنا في نسخ الحكم بنجاسة الماء المتغير فاستصحاب بقاء هذا الجعل يثبت نجاسة الماء الذي حدث له التغير بعد زمان الشك في النسخ، و لا يتعارض مع استصحاب عدم نجاسته قبل تغيره، فكما أن استصحاب بقاء الجعل يكون حاكما على استصحاب عدم المجعول، فكذلك يقال في المقام بأن استصحاب عدم الجعل الزائد يكون حاكما على استصحاب بقاء المجعول، لاشتراك نكتة الحكومة فيهما، وهي كون منشأ الشك في المجعول هو الشك في الجعل.

المختار: الصحيح استقرار المعارضة بين استصحاب عدم الجعل الزائد وبقاء المجعول

هذا، ولكن الصحيح استقرار المعارضة بين استصحاب عدم الجعل الزائد وبقاء المجعول، فانه لو فرض كون استصحاب عدم الجعل الزائد منقحا لحال المجعول دون العكس تم فيه نكتة الحكومة، كما مر تقريبه في حكومة استصحاب الحكم التعليقي على استصحاب الحكم التنجيزي، ولكن الامر في المقام ليس كذلك، فانه كما يكون استصحاب عدم الجعل الزائد منقحا لحال المجعول، فكذلك استصحاب بقاء المجعول يكون منقحا لحال الجعل، بل بناء على كون حقيقتهما واحدة، و كون منشأ تعارض الاستصحاب فيهما امكان ان تلحظ بلحاظين مختلفين، كما هو ظاهر مصباح الاصول فلا معنى للحكومة ابدا.

کلام شيخنا الاستاذ “قده”

هذا و قد ذكر شيخنا الاستاذ “قده” بعد دعوى حكومة استصحاب عدم الجعل الزائد على استصحاب بقاء المجعول أن دعوى الحكومة مجرد تعبير، و إلّا فإن الاستصحاب في عدم الجعل عين الاستصحاب في عدم المجعول، و يعبَّر عنه قبل فعلية الموضوع بالجعل، و بعد فعلية الموضوع له يقال له الحكم المجعول الفعلي([7]).

مناقشه

و مآل ما ذكره الى انكار المقتضي لجريان استصحاب بقاء المجعول، و هو لا يخلو من غرابة، و نحوه ما قد يقال في توجيه الحكومة من أن المجعول و الحكم الفعلي ليس الا المركب من وجود الحكم الانشائي مع تحقق موضوعه، فلا معنى لاستصحاب بقاء المركب بعد نفي جزءه المشكوك و هو الحكم الانشائي الموسع بالاستصحاب، و فيه أن مآل ذلك الى انكار المقتضي لجريان الاستصحاب في مرحلة المجعول، لا الى حكومة الاستصحاب الجاري في مرحلة الجعل -اي الحكم الانشائي- عليه، او فقل ان مآله الى انكار وجود الحكم الفعلي بوجود اعتباري وهمي عقيب وجود موضوعه، كحدوث نجاسة الماء عقيب حدوث تغيره و من الواضح أن انكاره خلاف الوجدان العرفي، و خلاف ما أنشأه الحاكم، و الا فماذا يقال في استصحاب الحكم الفعلي الجزئي وجودا او عدما في الشبهات الموضوعية، فانه ان كان هو عبارة أخرى عن المركب من الحكم الانشائي و تحقق موضوعه، ففي الشبهة الموضوعية لا يشك في الحكم الانشائي كما قد لا يتم اركان الاستصحاب الموضوعي بلا معارض، فكيف يستصحب نفس الحكم الجزئي وجودا او عدما، نظير الشك في بقاء ملكية المشتري لتعاقب الحادثين في فسخ البايع وانقضاء المجلس بناء على معارضة استصحاب بقاء المجلس الى زمان الفسخ مع استصحاب عدم الفسخ الى زمان انقضاء المجلس، وكذا مثال غسل المتنجس بمايع توارد فيه حالة الاطلاق والاضافة، و منعه من جريان استصحاب الحكم الجزئي الوجودي لاشكال المعارضة غير عدم المقتضي لجريانه.

وجه حكومة استصحاب بقاء الجعل

وأما وجه حكومة استصحاب بقاء الجعل في موارد الشك في النسخ على استصحاب عدم المجعول فهو أننا مثلا حينما نشك في نسخ قانون “ان الماء المتغير نجس” ثم يحدث التغير في ماء فنعلم بأن الحالة السابقة للماء هي الطهارة المغياة بعدم تغيره فنستصحب بقاء هذه الحالة، وأما في مورد استصحاب عدم الجعل الزائد فنشك في ان الجعل الحادث في الشريعة من الاول هل كان جعلا موسعا او جعلا مضيقا، فلاتتم فيه نكتة الحكومة.

ولايخفى انه توجد ثمرة عملية بين مسلك الحكومة والمعارضة وان كان يظهر مما حكي عن السيد الخوئي “قده” عدم ثمرة عملية بينهما([8])، فانه لو تعارض ما دل على ان عدة المتعة حيضتان مع ما دل على انها حيضة واحدة ووصلت النوبة الى الاستصحاب فبناء على المعارضة تكون من الشبهة المصداقية لدليل حرمة الزواج بذات عدة، فلايمكن الرجوع الى عمومات حلية النكاح، بينما انه على مسلك الحكومة يجري استصحاب عدم كونها ذات عدة بعد انقضاء الحيضة الأولى، وبذلك يمكن التمسك في حلية الزواج منها بالعمومات، وكذا لو تعارض استصحاب بقاء الزوجية مع عدم جعل الزوجية الزائدة في مورد فبناء على المعارضة يمكن الرجوع في حلية النظر اليها مثلا الى قاعدة الحل بعد كونها مشكوكة الزوجية، ولكن بناء على الحكومة يحكم بعدم زوجيتها بمقتضى استصحاب عدم جعل الزوجية الزائدة، فلايجوز النظر اليها مثلا.

استصحاب عدم الجعل الزائد و استصحاب بقاء المجعول في عرض واحد

وكيف كان فقد اتضح أن استصحاب عدم الجعل الزائد و استصحاب بقاء المجعول في عرض واحد ولا تتم دعوى حكومة الاول على الثاني، كما لم تتم دعوى حكومة الثاني على الاول، وان حكي عن المحقق الحائري “ره” أنه ذكر في درسه أن استصحاب بقاء الحكم السابق كاستصحاب بقاء وجوب الجلوس حاكم على استصحاب عدم وجوب الجلوس بعد الزوال، لأن الشك في وجوبه ناشٍ عن الشك في بقاء الوجوب السابق([9])، فانه لو شك في أن الحكم الذي أنشاه الشارع هل كان هو وجوب الجلوس الى الزوال او وجوب الجلوس الى الغروب، فاستصحاب بقاء وجوب الجلوس الى الغروب وان كان ينقح كون المجعول الشرعي هو الثاني ولكن يمكن العكس بأن يجري استصحاب عدم ثبوت الحكم الموسع فيثبت به عدم وجوب الجلوس بعد الزوال، وبذلك تقع المعارضة بين الاستصحابين، هذا مع وحدة المستصحب فيهما ونشوء الاختلاف بينهما من اختلاف اللحاظ، و أما مع تعددهما كما لو كان استصحاب عدم الوجوب الموسع في مرحلة الجعل و استصحاب بقاء وجوب الجلوس الى ما بعد الزوال في مرحلة المجعول وقلنا بتعدد الجعل والمجعول فمن الواضح أن سعة الجعل ليس مترتبا على بقاء المجعول فضلا عن كون ترتبه عليه شرعيا، فلا وجه لدعوى حكومة استصحاب بقاء المجعول على استصحاب عدم الجعل الزائد.

الجواب العاشر:

ما ذكر في البحوث من أنه حينما ادعى السيد الخوئي “قده” معارضة استصحاب بقاء المجعول في الشبهات الحكمية كاستصحاب بقاء التكليف او النجاسة مع استصحاب عدم الجعل الزائد للتكليف او النجاسة، اورد عليه في مجلس بحثه بأن استصحاب عدم جعل التكليف او النجاسة وجوب أو النجاسة مثلا معارض باستصحاب عدم جعل الإباحة أو الطهارة، و منشأ المعارضة العلم الإجمالي بجعل أحدهما لا محالة، لعدم خلو كل واقعة من حكم شرعي.

جواب السيد الخوئي عن معارضة استصحاب عدم جعل تکلیف مع استصحاب عدم جعل الإباحة

فأجاب عنه السيد الخوئي بثلاثة وجوة:

الوجه الاول: لا مجال لاستصحاب عدم جعل الحلية او الطهارة

الوجه الاول: أنه لا مجال لاستصحاب عدم جعل الحلية او الطهارة([10])، لأنها كانت متيقنة في صدر الإسلام و لو بالإمضاء، و انما شرعت الأحكام الإلزامية بالتدريج.

و بعبارة أخرى إنما الشك في أن الصلاة مشروطة بخصوص الطهارة الثانية- أي الحاصلة بعد خروج المذي- أو مشروطة بالأعم منها و من الطهارة الأولى- أي الحاصلة قبل خروج المذي- و الأصل عدم اشتراطها بخصوص الطهارة الثانية.

الوجه الثاني: لزوم المخالفة القطعية العملية من معارضه

الوجه الثاني: أن ملاك معارضة الاصول استلزام الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال، او المناقضة في المؤدى كما في الاستصحاب في مورد توارد الحالتين، و هذا لا ينطبق على المقام، لعدم لزوم المخالفة القطعية العملية و لا المناقضة في المؤدى من جريان استصحاب عدم جعل النجاسة و لا الطهارة مثلا.

الوجه الثالث: وجود طرف ثالث للمعارضة

الوجه الثالث: لو فرض تعارضهما فغايته وجود طرف ثالث للمعارضة، فاستصحاب عدم‏ جعل النجاسة الزائدة في الماء بعد زوال تغيره يعارض كلا من استصحاب بقاء المجعول و هو نجاسة الماء، و استصحاب عدم جعل الطهارة له بعد زوال تغيره، فيسقط الجميع([11]).

جواب البحوث

و قد اجاب في البحوث عن جميع ذلك، فقال:

أما الوجه الأول: ففيه أن الشك في بقاء الإباحة الثابتة في أول الشرع بالنسبة للحصة المشكوكة يكون من الشك في النسخ، و استصحاب عدم النسخ عند السيد الخوئي معارض باستصحاب عدم جعل الحصة الزائدة من الحكم المحتمل نسخه، لأن النسخ الشرعي راجع الى التقييد الأزماني للحكم فكما يكون استصحاب بقاء المجعول معارضا عنده باستصحاب عدم الجعل الزائد كذلك استصحاب عدم النسخ و بقاء المنسوخ معارض باستصحاب عدم جعله للزمان الثاني.

جواب السید الخویی

و قد أجاب السيد الخوئي عن هذا الايراد ب‍أن الإباحة قد قيدت في مثل قوله “كل شي‏ء مطلق حتى يرد فيه نهي” أو “اسكتوا عما سكت اللَّه عنه” بعدم الحرمة و النهي، و استصحاب عدم الغاية حاكم على استصحاب عدم المغيى، لأنه بمثابة أصل موضوعي بالنسبة إلى المغيى([12])، و ليس المراد منه أخذ عدم أحد الضدين غاية للضد الآخر، حتى يقال بكونه محالا، و انما المراد منه كون خطاب النهي و بيان الحرمة غاية، لا واقع الحرمة، فيستصحب عدم بيانها([13]).

لكن اورد عليه في البحوث، بأن هاتين الروايتين -مضافا إلى ضعف سنديهما بالإرسال- لا تدلان على جعل النهي أو بيانه غاية للحلية الواقعية في الأشياء، ليكون استصحاب عدم جعل النهي أو عدم بيانه حاكما عليها، بل المراد من الورود في رواية “كل شي‏ء مطلق حتى يرد فيه نهي” هو الوصول، فيكون ظاهرا في جعل الإباحة الظاهرية، على أنها واردة عن الإمام الصادق (عليه السلام) و من الواضح انه لا معنى لتفسيرها بالإباحة الواقعية قبل الشرع، و جعلها مغياة بورود النهي و انما تناسب إرادة الإباحة الظاهرية منها.

و أما رواية “اسكتوا عما سكت اللَّه عنه” المنقولة عن أمير المؤمنين (عليه السلام) فهي أجنبية عن مسألة الإباحة، و انما مفادها النهي عن السؤال و التفحص و التشكيك و الذي قد يوجب التشديد من قبل المولى، كما أوجبه على بني إسرائيل في موضوع البقرة على ما تقدم في بحث أدلة البراءة([14]).

و مع الغمض عن جميع ذلك فهذا انما يفيد فيما لم يعلم بعدم جعل الاباحة للمشكوك و الا فان علم بأنه إما حرام او مكروه مثلا فيتعارض استصحاب عدم جعل الحرمة مع استصحاب عدم جعل الكراهة.

مناقشات فی کلام السید الخویی

هذا و لازم ما ذكره السيد الخوئي الالتزام بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية لكل حكم ثابت في أول الشريعة بالإمضاء، كما في الملكيات و الاعتبارات العقلائية الثابتة قبل الشرع، فلو شك في بقاء المجعول في مورد من موارد هذه الأحكام لم يكن يجري استصحاب عدم الجعل الزائد فيها ليكون معارضا مع استصحاب بقاء المجعول‏، لأن أصل جعل تلك الأحكام و تشريعها في أول الشرع ثابت و لو بالإمضاء، و كأن السيد الخوئي التزم بذلك من خلال البحث و جعله استثناء آخر من عدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية.

الاشكال على الوجه الثانی

هذا كله بالنسبة الى الوجه الاول المذكور في كلام السيد الخوئي، و أما الوجه الثاني ففيه أنه بناء على مبناه من قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي و ان لم يكن للواقع المستصحب اي اثر عملي فيلزم من جريان استصحاب عدم جعل النجاسة و استصحاب عدم جعل الطهارة جواز الإخبار بعدم جعلهما و هذا مستلزم للترخيص في المخالفة القطعية العملية للعلم الاجمالي بحرمة الاخبار باحدهما.

و دعوى أن استصحاب عدم جعل النجاسة يترتب عليه أثر مختص و هو المعذرية عن النجاسة المشكوكة، فيتعارض الاستصحابان بلحاظ اثرهما المشترك و هو جواز الإخبار، و لكن يجري استصحاب عدم جعل النجاسة بلحاظ اثره المختص غير متجهة، لما مر في محله -خلافا للمحقق النائيني “قده”- من كون الاثر المختص ايضا طرفا للمعارضة مع الاثر المشترك في الطرف الآخر.

هذا و قد يحاول دفع هذا الايراد فيقال بأن حكومة دليل الاستصحاب على دليل حرمة الاخبار بغير علم لما كانت حكومة واقعية، فيثبت معه جواز الاخبار واقعا، فلا يلزم من الجمع بينه و بين الحكم الظاهري بعدم نجاسة الماء الذي زال تغيره ترخيص في المخالفة القطعية لحرمة الاخبار بغيرعلم، بل الامر كذلك حتى لو فهم من دليل حرمة اسناد ما لا يعلم من الدين بالملازمة العرفية حرمة مجموع إسنادين يعلم إجمالا بان أحدهما ليس من الدين، فانه انما يوجب سقوط استصحاب عدم جعل الطهارة و النجاسة بلحاظ اثر جواز الاخبار، دون استصحاب عدم جعل النجاسة بلحاظ اثره الظاهري التعذيري، لعدم محذور في الجمع بينه و بين جواز الاخبار عن عدم جعل الطهارة([15]).

و لكن يقال في الجواب -أنه لو سلم صحة هذا التفكيك في الآثار بلحاظ دليل الاستصحاب- ان دليل الاستصحاب ليس حاكما بحكومة واقعية على دليل حرمة الكذب، فيلزم من جواز الاخبار في كلا طرفي العلم الاجمالي الترخيص في الكذب المحرم، لأن احد الاخبارين كذب قطعا، وحينئذ فتسري المعارضة بين الاستصحابين الى الاثر التعذيري لأحدهما.

اما الوجه الثالث المذكور في كلام السيد الخوئي “قده” فبناء على مبناه من عدم سقوط الأصل المتأخر زمانا بالمعارضة مع الأصل المتقدم إذا لم يكن معلوما من أول الأمر، فيبقى استصحاب بقاء المجعول سليما عن المعارض، لأن استصحاب عدم الجعل الزائد لنجاسة الماء بعد زوال تغيره يسقط مع استصحاب عدم جعل الطهارة له بمجرد شك المجتهد بنحو الشبهة الحكمية في الجعل، و أما استصحاب بقاء المجعول فهو انما يجري -بناءً على توهم التفكيك بين الجعل و المجعول كما هو مبنى شبهة المعارضة- في زمان متأخر، أعني زمان فعلية الموضوع في الخارج فلا وجه لسقوطه بالمعارضة مع تأخر زمان جريانه([16]).

اقول: اصل الاشكال على السيد الخوئي بتشكل علم اجمالي مبني على احراز جعل الطهارة و الحلية لما ليس بحرام او نجس، و هذا اول الكلام، لعدم احراز كون حلية ما ليس بحرام انشاء للاباحة والرخصة دائما، فلعلها عدم الحرمة لكن لا عن اهمال، بل عن رضىً بارتكاب ذلك الفعل، فانه لا يظهر من مثل قوله (عليه السلام)” ما من شيء الا وفيه كتاب او سنة” او قوله “انما الامور ثلاثة: حلال بيِّن وحرام بيِّن وشبهات بين ذلك” أكثر من ذلك، و كذلك الحال في طهارة ما ليس بنجس، و حينئذ فلا يوجد علم اجمالي بجعل احدهما.

نعم لو غمضنا العين عن ذلك، وقلنا بوجود علم اجمالي بجعل الحرمة او الحلية لكل شيء فالاشكال على الوجه الاول للسيد الخوئي متجه، حيث لا يوجد دليل لفظي على جعل الحلية و الطهارة لكل شيء في اول الشريعة، كما لم يثبت الامضاء لجميع البناءات العقلائية، فلعله لم يكن الردع عنها متيسرا للشارع، على أنه ليس لامضاءها لسان فالقدر المتيقن امضاءها لما قبل اكمال الشريعة.

و أما الاشكال على الوجه الثاني فلا يختص بمسلك قيام الاستصحاب مقام القطع الموضوعي، حيث ان حكومة الاستصحاب على حرمة الكذب حكومة ظاهرية، فالاستصحاب فيها يقوم مقام القطع الطريقي المحض، و لا اشكال فيه عند الكل.

و ما يقال من أن انتساب صدور الكذب الى الشخص فيما كان اخباره مخالفا للواقع متقوم بأن لا يكون عالما بمطابقة خبره للواقع، فلو توهم شخص مجيء زيد فاخبر به، فلا يقال “انه قد كذب” وبناء على اعتبار الاستصحاب علما ببقاء المتيقن فيكون حاكما على موضوع حرمة الكذب حكومة واقعية، فيرد عليه أن مفهوم الكذب ليس مركبا من الاخبار المخالف للواقع وعدم العلم بمطابقته للواقع، وانما هو مفهوم بسيط منتزع منهما، وليس ظاهر دليل اعتبار الاستصحاب علما حكومته الواقعية على دليل حرمة الكذب بلحاظ منشأ انتزاعه.

التعويض عن استصحاب عدم جعل الطهارة، باستصحاب عدم حرمة الاخبار

نعم الصحيح حينئذ في بيان هذه المعارضة التعويض عن استصحاب عدم جعل الطهارة، باستصحاب عدم حرمة الاخبار عن عدم جعل الطهارة من باب حرمة الكذب، لأن استصحاب عدم جعل الطهارة لا ينفي عنوان الكذب عن الاخبار بعدم جعلها الا بنحو الاصل المثبت، لان عنوان الكذب عنوان بسيط منتزع عن جزئين: الاخبار بشيء وعدم كونه مطابقا للواقع، و ليس مركبا منهما، و حيث يلزم من جريان استصحاب عدم حرمة الاخبار بعدم جعل الطهارة و استصحاب عدم جعل النجاسة الترخيص في المخالفة القطعية العملية للعلم الاجمالي إما بحرمة اخباره بعدم جعل الطهارة من باب حرمة الكذب او حرمة شرب هذا الماء مثلا فيتعارضان.

و ما في كتاب الاضواء من أن البراءة عن حرمة الاخبار بعدم جعل الطهارة حيث تتعارض مع البراءة عن حرمة الاخبار بعدم جعل النجاسة فيكون استصحاب عدم جعل النجاسة لجواز الشرب خطابا مختصا([17])، ففيه أن الاستصحاب ايضا مبتلى بالمعارضة مع استصحاب عدم حرمة الاخبار.

كما أن ما ذكره في موضع آخر من أن التخلص عن هذا الاشكال يتوقف على القول بأنّ حرمة الكذب موضوعها عدم العلم بالواقع، لا عدم الواقع([18]) ففيه أن احتمال كون الكذب شاملا للقول بغيرعلم وان كان مطابقا للواقع ليس عرفيا، ولذا لم يلتزم هو ولا غيره بكون القول بغير علم على الله من مفطرات الصوم، و قد ورد في معتبرة ابي بصير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) ترد علينا أشياء ليس نعرفها في كتاب الله و لا سنة فننظر فيها فقال لا أما إنك إن أصبت لم تؤجر و إن أخطأت كذبت على الله عز و جل([19]).

وما قد يقال من أن ظاهر صحيحة عبد الله بن سنان عن ابي عبد الله (عليه السلام) انه نهي عن قذف من ليس على الاسلام، فان ايسر ما يكون أن يكون قد كذب([20]) أن القول بغير علم كذب ولو تعبدا، والا كان هو ايسر ما يكون، بعد كونه محرما، لاحتمال كون ما يقذف به الكافر مطابقا للواقع، ففيه أن الاستعمال اعمّ من الحقيقة، على أن الكلام في القول بغير علم على الله، ولعل القول بغير علم على غيره ليس بحرام نفسي.

هذا وأما ما قد يقال من انحلال العلم الاجمالي بالعلم التفصيلي بكون الاخبار بعدم جعل الحلية حراما قطعا، لكونه قولا على الله بغير علم، نعم لو كان مخالفا للواقع فتكون حرمته اشد لكونه كذبا وافتراء على الله، ولكن النفي الظاهري لشدة الحرمة ليس له اثر عملي حتى يجري بلحاظه الاصل العملي، ففيه أنه لو فرض عدم كفاية نفي شدة الحرمة في جريان الاصل العملي فيمكن التعويض عن طرفية حرمته النفسية من باب الكذب بمفطريته للصوم لو كان كذبا، وبذلك يتشكل علم اجمالي بجعل الحرمة للشيء او بحرمة الاخبار بعدم جعل حليته في حال الصوم.

وعليه فاشكال المعارضة قوية، والذي أمكننا أن نجيب عنه هو ما مر منا في بحث البراءة من أن هذا العلم الاجمالي لو تم فيجري في ما هو القدر المتيقن من جريان الاصول ايضا، و هو الشبهات البدوية الموضوعية، حيث يقال بأنه يعلم بأن هذا الفعل حرام او أن الاخبار عن عدم حليته كذب محرم، فيعلم من ادلة الاستصحاب و البراءة و قاعدة الحل عدم اعتناء الشارع بهذا العلم الاجمالي حتى على تقدير حصوله للمكلف بعد أن كان منشأه موجودا في كل مورد، وبذلك يمكن دفع الاشكال على الجواب الثاني للسيد الخوئي.

الاشكال على الوجه الثالث

أما الاشكال على الوجه الثالث ففيه أنه لا اشكال في أن الغرض الاصلي من اجراء الفقيه في مقام الافتاء لاستصحاب عدم جعل التكليف الزائد هو ترتيب اثر المعذرية بالنسبة الى بقاء المجعول في فرض الشك فيه بعد اليقين بحدوثه، و المفروض أنه يعلم بأنه في ظرف ترتب الاثر في ظرف الشك الفعلي في بقاء المجعول بعد اليقين بحدوثه يكون مجري لاستصحاب مناقض له و هو استصحاب بقاء المجعول.

على أن الشك في بقاء المجعول حيث يكون بنحو الشبهة الحكمية فما يعلم بحدوثه هو نجاسة الماء المتغير الكلي، و يشك في بقاءها بعد زوال تغيره، فلا حاجة في اجراء استصحاب بقاء المجعول الى وجود ماء متغير جزئي، فيوجد من الاول معارض معاصر لاستصحاب عدم جعل التكليف الزائد.

و لتوضيح ذلك نقول انه ذكر في البحوث أنه يخطر في الاذهان ابتداءً أن هناك نحوين من الثبوت للمحمول في القضايا الحقيقية الشرعية نظير ما يقال في القضايا الشرطية التكوينية كقولنا “النار حارة”، احدهما: الثبوت التقديري للمحمول على فرض تحقق موضوعه، و الذي يكون صادقا، و لو لم يتحقق موضوع في الخارج بعد، و هذا ما يسمى بالجعل، و ثبوت فعلي عند فعلية الموضوع في الخارج و يسمى بالمجعول، و الجعل يوجد بوجود القضية التقديرية بينما المجعول لا يوجد إلّا بوجود موضوعه في الخارج، و الحصة الثانية المشكوكة من الحكم إذا أريد بها الوجود الأول التقديري له فلا يكون بقاء للحصة الأولى، و اما إذا أريد بها الوجود الثاني الفعلي فهي لا محالة بقاء و امتداد للحصة الأولى فيكون التعبد بها استصحابا.

و إذا كان مركز الاستصحاب الوجود الفعلي بهذا المعنى للحكم لزم عدم جريان استصحاب المجعول الا عند ما يتحقق هذا الوجود للحكم فلا يمكن للمجتهد ان يجري استصحاب بقاء النجاسة في الماء المتغير بعد زوال تغيره إلّا إذا تحقق ماء متغير في الخارج فوجدت نجاسته الفعلية و شك في بقاءها، لأن حال هذا الاستصحاب عنده حال استصحاب بقاء أي وجود خارجي يشك في بقائه، و هذا خلاف ما هو المرسوم و المرتكز في محله فقهيا من ان المفتي في الشبهات الحكمية يفتي بالمستصحب على أساس الاستصحاب في الحكم الكلي كما إذا دل عليه دليل اجتهادي، لا انه يفتي مقلديه بالرجوع إلى الاستصحاب عند تحقق الحكم الفعلي في حقهم و شكهم في بقائه.

قياس القضايا المجعولة بالقضايا الحقيقية الخارجية غير صحيح

و لكن قلنا في محله ان قياس القضايا المجعولة بالقضايا الحقيقية الخارجية غير صحيح، و ان الحكم الذي يتحقق في طول الجعل و الاعتبار لا يعقل‏ ان يكون له وجود ثان وراء نفس الجعل يتحقق خارجا عند تحقق موضوعه، لأن هذا الوجود الثاني ان أريد به الوجود الخارجي فهو واضح الفساد، و ان أريد به وجود اعتباري في نفس المولى فمن الواضح عدم تحقق شي‏ء في نفس المولى عند تحقق الموضوع خارجا، بل قد لا يكون المولى ملتفتا أو عالما بتحقق موضوع جعله.

و يرد الاشكال ايضا في استصحاب الفقيه للمجعول على ما تبناه المحقق العراقي “قده” (من كون ظرف عروض الأحكام على الموضوعات الذهن، و ظرف اتصافها الخارج، و بلحاظ كون الموضوع الخارجي متصفا بالحكم يتصور للحكم حدوث و بقاء، و لأجل ذلك صح إجراء الاستصحاب فيه، لأن الوحدة المعتبرة في الاستصحاب أعني الوحدة الخارجية في الاتصاف محفوظة فيه) فانه بناء على ذلك فحيث يكون ظرف الاتصاف هو الوجود الخارجي للموضوع فلا يمكن للمجتهد ان يفتي استنادا إلى الاستصحاب إلّا بالحكم الجزئي عند تحقق الموضوع خارجا([21]).

كما ذكر في المباحث أنه قد يبيَّن كلام المحقق العراقي ببيان عرفي و هو أن الحكم و ان كان امرا ذهنيا قائما بنفس الحاكم لكنه يحمل على موضوعه بما هو مرآة الى الخارج، فيحمل هذا الحكم بالعرض و المجاز على الخارج، الا أنه يمكن الجواب عنه بأن هذا العروض على الخارج مسامحي ناش من الخلط بين الصورة و ذي الصورة و هذا الخلط موجود من اول الامر و قبل تحقق ذلك الشيء الخارجي، فلا يكون في المقام حدوث و بقاء، لأن العروض المسامحي نفس العروض الحقيقي في نفس المولى و انما فرض مسامحة عروضا على الخارج، و المفروض أن العروض الحقيقي ليس له حدوث و بقاء، و انما كلتا الحصتين وجدتا في الذهن دفعة واحدة، على أنه لو فرض صحيحا لزم منه عدم امكان الاستصحاب الا عند وجود الموضوع خارجا.

و انما يعالج مشكلة فتوى الفقيه في الشبهة الحكمية استنادا الى الاستصحاب على مبنانا في تفسير المجعول من أنه نفس الجعل بالحمل الاولي، لأن الحدوث و البقاء العنواني ثابت بالحمل الأولي للمجعول الكلي من أول الأمر بهذا النظر بلا حاجة إلى انتظار تحققه في الخارج كما هو واضح([22]).

اقول: الانصاف أن العرف بعد اعتبار الشارع لنجاسة الماء المتغير مثلا يرى للقانون وجود اعتباريا في وعاء الشريعة بنحو مفاد كان التامة، كما أنه يرى الحكم وصفا من اوصاف الموضوع و يحدث بحدوثه و يبقى ببقاءه، فله ثبوت اعتباري في عالم اوصاف الموضوع، فلا مانع من التخريج الاول في عالم الوهم العقلائي.

و لا توجد مشكلة في الاستصحاب، بل لا يوجد فرق بين ما ذكر من المباني من هذه الناحية، فانه ان جاز للفقيه أن يفتي بالحكم الواقعي على اساس الاستصحاب فحيث انه متيقن بنجاسة الماء المتغير الكلي و شاك في بقاء نجاسته بعد زوال تغيره، فلا مانع ان يخبر عن بقاء نجاسته، نظير ان يعلم المكلف بكون طبيعة كلية متصفة بصفة في ابتداء تكونها و يشك في تبدل تلك الصفة في اثناء وجودها فيستصحب بقاء تلك الصفة فيخبر به، و ان لم يوجد في الخارج مصداق لهذه الطبيعة فعلا.

و ان اراد الفقيه أن يفتي بالحكم الظاهري الاستصحابي الجاري في حق المقلد -كما هو المتعين على مسلكه حيث يرى عدم جواز الافتاء بالواقع على اساس الاستصحاب- فله أن يفتي بكون الماء الذي زال تغيره نجسا ظاهرا، كما يفتي على اساس قاعدة الطهارة في الشبهات الحكمية، و اختلافه عن الاستصحاب في الحكم الجزئي في المتنجس الذي شك في تطهيره مثلا هو أنه لابد من فرض الفقيه سبق يقين المكلف بنجاسته و شكه في تطهيره حتى يفتي له بجريان استصحاب النجاسة في حقه، بخلاف استصحاب النجاسة في الشبهة الحكمية حيث ان الفقيه يحرز أن اركان الاستصحاب متحققة للمقلد، فيفتي بالنجاسة الاستصحابية في حقهم، و لا فرق في ذلك بين جريان استصحاب نجاسة الماء الذي زال تغيره في حق كل مكلف فعلا و لو قبل وجوده في الخارج باعتبار كون النجاسة وصف الماء المتغير الكلي، و بين جريانه في حقه بعد وجود الماء الجزئي الذي زال تغيره في الخارج.

وان شئت قلت: ان الاستصحاب في الشبهات الحكمية لا يقل عن الاستصحاب الجاري في الموضوعات التكوينية اذا كان منشأ فيها جهة كلية، كما لو كان يشك في بقاء وصف نوع بعد مضي سنة على حدوثه، ولنفرض أن بقاء ذلك الوصف له اثر شرعي، فيلحظ الفقيه كون ثبوت الوصف لذاك التوع عتد حدوثه معلوما على وجه كلي ويشك في بقاء ذلك الوصف له بعد مضي سنة على حدوثه فيستصحب ذلك ويفتي على نهج القضية الحقيقة بثبوت الحكم الشرعي له، ولو لم يوجد فرد منه في الخارج فعلا.

و أما ما ذكره حول العروض المسامحي فغريب، لأن المراد منه العروض العرفي الذي يرى الحكم وصفا من اوصاف الموضوع الخارجي و يحدث بحدوثه و يبقى ببقاءه، و الا فكيف اشكل عليه بأنه يلزم منه عدم جريان الاستصحاب الا عند وجود الموضوع خارجا.

جواب النقضي عن الاشكال الثالث

ثم انه قد حكي عن السيد الخوئي”قده” أنه ذكر جوابا نقضيا عن الاشكال الثالث، فقال انه لو كان مجرد العلم الاجمالي بمخالفة بعض الأدلة والاصول للواقع، من دون اداء جريانها للترخيص في المخالفة القطعية العملية للتكليف المعلوم بالاجمال موجبا لتساقط تلك الأدلة والاصول بلحاظ اثر جواز الاخبار، لمنع كل فقيه عن الإفتاء في تمام الفقه رأسا؛ لأن الفقيه بعد أن ينتهي من استنباطاته في الفقه يعلم إجمالا أن نتيجة تلك الأدلة والاصول في بعض الموارد تكون مخالفة للواقع، وحيث لا يمكن الالتزام بهذا النقض يستكشف عدم تمامية الاشكال.

اقول:

لو سلمنا حصول علم اجمالي من هذا القبيل للمجتهد بعد فراغه من استنباط جميع الاحكام بالخلاف فلا يحدث الاشكال في موارد جريان الاصل غير المحرز كالبراءة او الاحتياط حيث لا يفتي فيها الفقيه الا بالحكم الظاهري، نظير فتواه بجريان الحكم الظاهري الترخيصي في حق كل من واجدي المني في ثوب مشترك، مع علمه بمخالفة احد الحكمين الظاهريين للواقع، ولو كان العلم الاجمالي في دائرة الأمارات تعمق الاشكال، لأن المدلول الالتزامي لكل أمارة يعلم اجمالا بكذبها او كذب أمارة أخرى هو أن الكاذب هو الأمارة الثانية، وحيث ان المشهور حجية مثبتات الأمارات مطلقا، فيؤدي ذلك الى التناقض في مدلول الحجتين، فلا يمكن شمول دليل الحجية لهما معا، ولا فرق في ذلك بين القول بجواز الاخبار بالواقع استنادا الى الأمارة وبين القول بعدمه.

ولعل السيد الخوئي “قده” كان نظره الى حصول العلم الاجمالي بالخلاف في دائرة الاعم من الأمارات والاصول المحرزة التي تكون مجوزة للافتاء بالواقع على وفقها وتنحصر في الشبهات الحكمية بالاستصحاب فبناء على مسلكه من اختصاص الاستصحاب المعتبر باستصحاب عدم التكليف، فيكون مقتضي حجية مثبتات الأمارة كون المخالفة للواقع في ضمن موارد جريان هذا الاستصحاب، فان كانت هذه الاستصحابات تجري في حق مكلف واحد فيتعمق الاشكال، حيث يكون جريانها مستلزما للترخيص في المخالفة القطعية العملية، وهو قبيح بنظره وان كانت الشبهة غير محصورة (وان كان الصحيح عندنا عدم تنجز التكليف المعلوم بالاجمال في الشبهات غير المحصورة) وأما ان لم يجتمع جريانها في حق مكلف واحد، فيكون نظير ما لو علم المجتهد بثبوت تكليفٍ إما في حق الرجال او في حق النساء فتتوقف المعارضة بين استصحاب عدم التكليف في حق كل منهما على القول بكون اثر الاستصحاب هو جواز الاخبار والافتاء بالواقع على وفقه، وغاية ما يلزم من النقض هو الالتزام بسقوط الاستصحابين الجاريين في حق المجتهد بلحاظ اثر جواز الافتاء، وحينئذ فلابد أن يفتي بالحكم الظاهري الترخيصي الجاري في حق كل من الرجل والمرأة، نعم قد يشكل جريان الاستصحاب في حقهما ايضا، وهذا فيما اذا علما اجمالا بثبوت هذا التكليف في حق احدهما، حيث ان الرجل مثلا يعلم إما بأن هذا التكليف ثابت في حقه او أنه يحرم عليه الاخبار بعدم ثبوت التكليف في حق المرأة، فيتعارض جريان استصحاب عدم تكليفه لغرض نفي تنجزه عليه مع جريان استصحاب عدم تكليفها لغرض جواز اخباره به، فينحصر الاصل الترخيصي النافي لتنجز التكليف في حق كل منهما بالاصل الذي لا يترتب عليه جواز الاخبار بالواقع كأصل البراءة الشرعية او العقلية.

وأما بناء على مسلك المشهور من جريان استصحاب بقاء التكليف فتكون نتيجة العلم الاجمالي بالخلاف في دائرة الاعم من الامارات والاستصحاب بضم كون لازم الأمارات حينئذ كون المخالفة للواقع في دائرة الاستصحاب هي وقوع العلم الاجمالي بمخالفة احد الاستصحابات التي اجراها المجتهد للواقع، فتتعارض الاستصحابات التى اجراها المجتهد بغرض جواز الافتاء، ولكن يمكنه أن يفتي بالحكم الظاهري الاستصحابي الذي يجري في حق كل مكلف، ولو بنحو التقليد الطولي، أي يبين المجتهد له حدوث التكليف سابقا، حتى يتم في حقه اركان الاستصحاب، ومن هنا اتضح أن ما اورده من النقض ليس مما لا يمكن الالتزام به.

هذا وقد ذكر في المباحث أنه لو كان مراد السيد الخوئي “قده” من العلم الاجمالي بالخلاف هو الاطمئنان الاجمالي الذي يجتمع مع الاحتمال الضعيف بالعدم، فليس بحجة، لأن مدرك حجية الاطمئنان هو السيرة العقلائية، ولا يوجد مثل هذه السيرة في اطمئنان إجمالي ذي أطراف غير محصورة، والاطمئنان في المقام من هذا القبيل، فإنّه إنّما نشأ هذا الاطمئنان بالخلاف من تجمّع احتمالات الخلاف من أطراف كثيرة جدا.

بل لو حصل للمجتهد قطع اجمالي بالخلاف في دائرة الامارات والاستصحاب في الشبهات الحكمية الذي مرّ أنه عند السيد الخوئي” قده” منحصر بالاستصحاب النافي للتكليف، فلازم الامارات وان كان هو أن المخالفة للواقع تكون في دائرة الاستصحاب، فلو كان هذا اللازم حجة فيؤدي ذلك الى الحجة الاجمالية على مخالفة احد الاستصحابات الترخيصية للواقع، فيتعمق الاشكال لاداءه الى الترخيص في المخالفة العملية، الا أن حجية لوازم الامارة حيث تكون ببناء العقلاء فلنا أن نمنع من انعقاد بناءهم على حجية اللازم ايضا في مثل المقام، لان هذا اللازم ثابت بنحو الاطمئنان الاجمالي الحاصل من تجمع الاحتمال في الشبهة غير المحصورة، وعليه فيرتفع الاشكال([23]).

ولا بأس بما افاده، نعم ظهر مما سبق أن مجرد علم المجتهد بمخالفة بعض الاستصحابات النافية للتكليف للواقع لا يوجب كون جريانها مستلزما للترخيص في المخالفة العملية بل لابد أن يكون العلم الاجمالي بالتكليف حاصلا في حقّ مكلف واحد حتى يتعارض استصحاب عدم التكليف في اطرافه.

بیان المختار: معارضة استصحاب عدم الجعل الزائد مع استصحاب بقاء المجعول في الشبهات الحكمية مستقر

الى هنا تم الكلام حول التفصيل في جريان الاستصحاب بين الشبهات الحكمية و الموضوعية، و قد تبين أن الظاهر القول بمعارضة استصحاب عدم الجعل الزائد مع استصحاب بقاء المجعول في الشبهات الحكمية، خلافا للمشهور القائلين بجريان استصحاب بقاء المجعول بلا معارض.

 



[1] – تسديد الاصول ج2ص343

[2] – تسديد الاصول ج1ص154

[3] – كتاب القضاء و الشهادات ج1 ص186 وقد ورد ذلك ايضا في التقرير المطبوع بقلم المرحوم آغا رضا الخلخالي.

[4] – مباني تكملة المنهاج ج 1ص 60، موسوعة الامام الخوئي ج 32ص 157

[5] – وسائل الشيعة ج 21ص 43

[6] – مصباح الاصول ج 3ص44

[7] – دروس في مسائل علم الاصول ج 5ص 133

[8] – مصباح الاصول ج 3ص453

[9] – الرسائل ص 162

[10] – مصباح الاصول ج 3 ص 47

[11] – مصباح الأصول ج 3 ص 40

[12] – و قد يقال حينئذ كما في الاضواء ج 3ص 234 أنه ان تم ذلك فيكون هذا الاصل الموضوعي المثبت للحلية مثلا حاكما على استصحاب بقاء المجعول اي بقاء الحرمة، و فيه أن الاصل الموضوعي المثبت لأحد الضدين كيف يكون نافيا للضد الآخر مع عدم كونه اصلا موضوعيا بالنسبة اليه.

[13] – نقل في البحوث أن هذا كان جواب السيد الخوئي “قده” عن الاشكال الذي وجهه اليه، و لكن اقول: كان بامكانه أن يجيب بأنه لا مانع بنظره من جعل الحلية مغياة بعدم جعل الحرمة له، وهذا ليس من اشتراط حدوث الحلية بعدم الحرمة، و ان كان مر منا في بحث البراءة خلافا للمحقق الاصفهاني و السيد الخوئي “قدهما” امكان جعل الحلية لكل فعل لم يجعل له الحرمة، اذا لم يكن جعل الحرمة للفعل مشروطا بعدم جعل الاباحة له، نعم كما ذكر في البحوث يحتمل في الرواية كونها بمعنى الاباحة الظاهرية ما لم يصل النهي .

[14] – اقول: ذكرنا هناك أن ما في نهج البلاغة من قوله “ان الله سكت عن اشياء لم يسكت عنها نسيانا فلا تتكلفوها ” ايضا غير تامّ، فانه مضافا الى عدم تلا يدل على جعل الحلية الى أن يصدر فيه خطاب النهي وانما ينهى عن التكلف وجعل النفس في الضيق لمجرد احتمال كون الفعل مبغوضا في علم الله، واين هذا من جعل الحلية لكل شيء مشروطا بعدم النهي عنه او مغيىً بعدمه.

[15] – اقول: نعم و لكن بعد عدم احتمال الجمع بين جواز الاخبار بكل من عدم جعل الطهارة و النجاسة مع العلم الاجمالي بجعل احداهما لاداءه الى امر غريب عرفا، حيث ان لازمه حرمة ما لو اخبر باخبار واحد عن عدم جعل الحلية والحرمة لفعلٍ، لعلمه بكذب هذا الخبر، و جواز أن يخبر مرة بعدم جعل الحلية له وأخرى بعدم جعل الحرمة له، كما يجوز له أن يخبر في نفس الوقت بجعل احديهما، لعلمه الوجداني به، وغرابة ذلك يوجب عدم امكان الجمع عرفا بين استصحاب عدم جعل الحلية بغرض جواز الاخبار، وبين استصحاب عدم جعل الحرمة بلحاظ جواز الاخبار والارتكاب، فلا يحتمل عرفا جريان استصحاب عدم جعل الطهارة لتجويز الاخبار به و جريان استصحاب عدم جعل النجاسة لا لجواز الاخبار به بل لاثره التعذيري، و هذا يوجب التكاذب بين دليل الاستصحابين.

[16] – بحوث في علم الاصول ج6ص 139

[17] – اضواء و آراء ج 3 ص 232

[18] – الاضواء والآراءاضواء وآراء ج2ص392

[19] – وسائل الشيعة ج 27 ص 40

[20] – وسائل الشيعة ج 28ص172

[21] – بحوث في علم الاصول ج 6ص 133

[22] – مباحث الاصول ج 5 ص 198

[23] – مباحث الاصول ج5 ص206