فهرست مطالب

فهرست مطالب


تقریرات دروس خارج مدرسه فقهی امام محمد باقر علیه السلام

 

 

الاقوال في الاستصحاب.. 1

الاجوبة عن اشكال معارضة استصحاب عدم الجعل الزائد مع استصحاب بقاء المجعول. 1

الجواب الثالث: ما عن البحوث.. 1

عدة ملاحظات علی کلام البحوث.. 4

الجواب الرابع: ما ذكره في كتاب الأضواء 8

مناقشات.. 10

الجواب الخامس: عن بعض الاعلام. 13

الجواب السادس: استصحاب عدم الجعل الزائد لا يجري في نفسه. 15

مناقشات.. 19

الجواب السابع: 20

الجواب الثامن: 21

الجواب التاسع: 24

مناقشات.. 25

 

موضوع: اقوال /استصحاب /اصول

خلاصه مباحث گذشته:

متن خلاصه …

 

 

الاقوال في الاستصحاب

الاجوبة عن اشكال معارضة استصحاب عدم الجعل الزائد مع استصحاب بقاء المجعول

الجواب الثالث: ما عن البحوث

ما ذكره في البحوث و محصله أنه تارة يبنى على مسلك المشهور من وجود مرحلتين للحكم مرحلة الجعل ومرحلة المجعول، بتقريب أن هناك نحوين من الثبوت للمحمول في القضايا الحقيقية الشرعية، -قياسا لها بالقضايا الحقيقية الخارجية، كقولنا “النار حارة”- احدهما: الثبوت التقديري للمحمول على فرض تحقق موضوعه، و الذي يكون صادقا، و لو لم يتحقق موضوع في الخارج بعد، و هذا ما يسمى بالجعل، و ثبوت فعلي عند فعلية الموضوع في الخارج و يسمى بالمجعول، و الجعل يوجد بوجود القضية التقديرية، بينما المجعول لا يوجد إلّا بوجود موضوعه في الخارج.

وأخرى يبنى على ما هو الصحيح من وجود مرحلة واحدة للحكم وهو مرحلة الجعل، وانكار مرحلة المجعول رأسا، بمعنى أنه لا يحدث وراء وجود صغرى الجعل خارجا شيء يسمى بالمجعول والحكم الفعلي، بتقريب أن الحكم الذي يتحقق في طول الجعل لا يعقل‏ أن يكون له وجود ثانٍ وراء نفس الجعل، يتحقق خارجا عند تحقق موضوعه، لأن هذا الوجود الثاني ان أريد به الوجود الخارجي فهو واضح الفساد، و ان أريد به وجود اعتباري في نفس المولى فمن الواضح عدم تحقق شي‏ء في نفس المولى عند تحقق الموضوع خارجا، بل قد لا يكون المولى ملتفتا أو عالما بتحقق موضوع جعله.

فعلى مسلك المشهور يتغاير وجود الجعل والمجعول، فيكون الاصل الجاري في احدهما لتنقيح حال الآخر من الاصل المثبت، فان كان الاثر كالمنجزية مترتبا على خصوص ثبوت المجعول فيلغو جريان ااستصحاب عدم الجعل وان كان يترتب على ثبوت الجعل وتحقق صغراه، كما يترتب على ثبوت المجعول، فاستصحاب عدم الجعل انما ينفي الاثر المترتب على ثبوت الجعل ولا يكفي لنفي الاثر المترتب على ثبوت المجعول، فيجري استصحاب بقاء المجعول لاثبات المنجزية المترتبة عليه بلا معارض، نعم لو كان المجعول مترتبا شرعا على الجعل جرى استصحاب عدم الجعل الزائد لنفي بقاء المجعول وكان حاكما على استصحاب بقاء المجعول، لكنه خلف مبنى المعارضة، على أن حكومته عليه غير صحيحة بعد عدم كون ترتب المجعول على الجعل ترتبا شرعيا.

وأما على المسلك الصحيح من وجود مرحلة واحدة للحكم وهي مرحلة الجعل فتارة ينظر الى الجعل بالنظر الدقي الفلسفي وبالحمل الشائع فيرى جعلاً، و أخرى ينظر إليه بالنظر العرفي و بالحمل الأوّلي فيرى مجعولاً، مثال ذلك ما اذا انشأ النبي (صلی الله علیه وآله) نجاسة الماء المتغير، فانه قد تلحظ نجاسة الماء المتغير بما هي صورة ذهنية حدثت في نفس النبي في يوم كذا من الهجرة، وأخرى تلحظ وصفا عارضا على الماء المتغير في الخارج، وبهذا النظر الثاني العرفي يكون للحكم حدوث وبقاء ببقاء موضوعه، ويكون قابلا لاستصحاب البقاء، دون النظر الاول العقلي، و لا معنى لجريان الاستصحاب في كليهما، إذ لا معنى لافتراض أنّ العرف ينظر إلى الجعل بكلا النظرين لتهافت النظرين، فإن كان العرف ينظر إليه بالنظر الدقّي الفلسفي وبالحمل الشائع([1]) جرى استصحاب العدم في مرحلة الجعل دون مرحلة المجعول، وإن كان ينظر إليه بالنظر المسامحي و بالحمل الأوّلي جرى الاستصحاب في مرحلة المجعول دون الجعل، وبما أنّ الصحيح هو أنّ العرف ينظر إليه بالنظر المسامحي (كما يشهد لذلك ما نراه من أنّه لم يخطر على بال أحد منهم من أيّام العضدي و الحاجبي إلى زماننا هذا الإستشكال في استصحاب الحكم بعدم تصوّر الحدوث و البقاء، و حتّى من أنكره كالمحقق النراقي و السيّد الخوئي “قدهما” قد اعترف بهذا الاستصحاب في نفسه، و إنّما أنكره بدعوى التعارض مع استصحاب آخر) فلايجري الاستصحاب في مرحلة الجعل، وانما يجري في مرحلة المجعول.

والحاصل أن النظر العرفي يرى كون الجعل اي الحكم وصفا للموضوع الكلي و يحدث بحدوثه و يبقي ببقاءه، و المراد أنه يرى حدوث هذا الحكم بالحدوث العنواني لموضوعه و يبقى ببقاءه العنواني، من دون حاجة الى تحقق وجوده الخارجي، فحينما انشأ الشارع نجاسة الماء المتعير، فيقول العرف “الماء المتغير لم يكن نجسا شرعا قبل ذلك و الآن صار نجسا” مع أنه قد لا يوجد ماء متغير خارجا، و عليه فلا يرى العرف المجعول الكلي الا وصفا للموضوع الكلي و حادثا بحدوثه، فاستصحاب عدم الجعل لا يعني الا استصحاب عدم وجود الحكم عقيب وجود موضوعه او فقل عدم وجود الجزاء عقيب وجود شرطه، فاذا شك في حرمة شرب التتن، واريد التمسك لنفي حرمته باستصحاب عدم الجعل فمعناه أنه يقال لم يكن شرب التتن متصفا بالحرمة قبل الشرع ويشك في حدوث اتصافه بها بعد الشرع فيستصحب عدم اتصافه بها.

و في مثال نجاسة الماء المتغير فاللحاظ العرفي للجعل هو لحاظ النجاسة وصفا ثابتا لطبيعي الماء حال تغيره و يحدث بحدوث الموضوع و يبقى ببقاءه، فبعد ما زال تغير الماء بنفسه يكون الشك في بقاء هذا الوصف لطبيعي الماء، فيكون من الشكّ في البقاء لا في الحدوث، فلا معنى لاستصحاب عدم الجعل فيه، اذ لا يصح أن يقال “الماء الذي زال تغيره لم يكن نجسا” فان الماء الذي زال تغيره هو نفس الماء المتغير مع ارتفاع حالة التغير عنه، فكيف يقال انه لم يكن نجسا، فيجري فيه استصحاب بقاء النجاسة بلا معارض، و أما اذا لوحظت نجاسة هذا الماء في عرض نجاسة الماء المتغير بعنوان أنهما مجعولان دفعة واحدة و في عرض واحد، فهذا يحتاج الى لحاظ الجعل بالنظر العقلي و بما هو صورة ذهنية قائمة بذهن المولى، و العرف لايلتفت اليه ابدا([2]).

عدة ملاحظات علی کلام البحوث

اقول: توجد على كلامه عدة ملاحظات:

الملاحظة الاولى:

ان ما ذكره هنا من أنه لا يوجد امر وراء الجعل -الذي ذكر أنه بالحمل الشايع يعني المجعول بالذات الذي هو موجود ذهني قائم بنفس المولى، و بالحمل الاولي يعني المجعول الكلي و الحكم الانشائي- وتحقق موضوعه، ان كان المقصود منه انكار حدوث شيء في الخارج او في نفس المولى حين حدوث الموضوع، فهو امر واضح، و لا يدعي احد خلاف ذلك، ولكنه لا ينفي حدوث حكم اعتباري بالنظر العرفي عقيب حدوث الموضوع، كيف والمجعول الكلي ايضا موجود بوجود اعتباري.

و كيف يتم انكار المجعول الذي يترتب على وجود الموضوع في الخارج، فانه مضافا الى مخالفته للوجدان العرفي منافٍ لتصريحه في بحث الاستصحاب بجريان استصحاب الحكم الجزئي، فلو لم يكن شيء وراء الجعل الكلي الذي لا شكّ فيه والموضوع المفروض عدم جريان الاستصحاب فيه فكيف يجري استصحاب الحكم الجزئي.

ولذا ذكر هناك أن لحاظ الحكم والجعل بالنظر العرفي كما يقتضي تصور الحدوث والبقاء لحصص المجعول بهذا الجعل في الشبهة الحكمية، كذلك يقتضي ان يكون هناك ثبوت للمجعول وفعلية عند تحقق موضوعه في الخارج، لأن الملاحِظ من خلال العنوان يرى المعنون في الخارج، فكأن هناك امرا يتحقق بتحقق الموضوع ويزول بزواله خارجا، وهذا وان كان مجرد أمر اعتباري ووهمي لا حقيقي إلّا انه يكفي لصدق دليل الاستصحاب وجريانه فيه، وان شئت قلت: ان المجعول وان كان امرا وهميا لا حقيقيا إلّا ان هذا الأمر الاعتباري وفي طول اعتباره وجعله يكون له حدوث وبقاء حقيقي فينطبق عليه دليل الاستصحاب حقيقة([3]).

نعم قد مر أن نسبة الحكم الفعلي الى الجعل بمعنى المجعول الكلي ليست نسبة اللازم الى الملزوم، بل نسبة الجزئي الى الكلي، ولذا لا يكون الاصل الجاري في احدهما من الاصل المثبت بالنسبة الى تنقيح حال الآخر، فان كان هذا هو مقصوده فلا بأس به، ويكون الفرق بين القضايا الشرعية والتكوينية، في أن اقتضاء الموضوع في القضايا التكوينية تكويني كامن في ذات الموضوع، وفي القضايا الشرعية منتزع من حكم الشارع بثبوت الحكم للموضوع على نهج القضية الحقيقية.

وعليه فبعد ما تبين اتحاد الجعل بمعنى المجعول الكلي والمجعول الفعلي اتحاد الكلي مع افراده وعدم تغايرهما وجودا، فيلزم من الجمع بين استصحاب عدم الجعل واستصحاب عدم المجعول المناقضة في المؤدى، ولا يتم اشكال البحوث على مسلك المشهور.

الملاحظة الثانية:

ان العرف و ان كان لا يلحظ المجعول بالذات بما هو صورة ذهنية قائمة بنفس المولى، الا أنه لا يعني عدم لحاظه لعملية الجعل، نعم يراها متعلقة بالمجعول بالعرض و هو المجعول الكلي او الجزئي، و حيث يشك في سعة المجعول، اي نجاسة الماء بعد زوال تغيره، فيستصحب عدم جعلها، فيتعارض مع بقاء المجعول اي بقاء النجاسة الثابتة له قبل زوال تغيره فيتعارضان.

الملاحظة الثالثة:

ان لحاظ المجعول الكلي -كنجاسة الماء المتغير- بالنظر العرفي لا ينحصر في لحاظ المحمول فيه و هو النجاسة في المثال المذكور وصفا عارضا -بنحو مفاد كان الناقصة- على الموضوع الخارجي و هو الماء المتغير، بحيث يحدث هذا الوصف بحدوث التغير و يبقى ببقاءه، بل يوجد لحاظ عرفي آخر، و هو لحاظ ثبوت هذا القانون و الكبرى الشرعية في عالم الشرع، فان الشارع حينما يجعل النجاسة للماء المتغير ويقول ان الماء المتغير نجس فيرى العرف ان لهذه القضية ثبوتا اعتباريا في الشرع، و يكون حدوثها بعملية الانشاء و الجعل، و بقاءها بعدم النسخ، و هذا لحاظ عرفي ايضا، و لا علاقة له بلحاظ الجعل بما هو صورة ذهنية قائمة بنفس المولى.

هذا وأما ما اورده في كتاب الأضواء على كلام البحوث اولا: من أنّه لا موجب لفرض التهافت في النظر العرفي بين اللحاظين للجعل، بل يقال انّ كليهما عرفي، لأنّ العرف أيضاً يميّز بين الحملين الأولي و الشائع في لحاظ الجعل، فتارة يلحظ نفس النسبة و القضية الحقيقية بالحمل الشائع فيراها مسبوقة بالعدم، و أخرى يلحظ محكيها بالحمل الأولي فيرى حدوثاً للماء المتغير و نجاسته و بقاء لها بعد زوال تغيّره؛ بل العرف يتعامل مع القضايا الجعلية الاعتبارية تعاملها مع القضايا الحقيقية الواقعية، و من هنا يرى تعدد الجعل و المجعول و الاثنينية بينهما، فالتهافت إنّما نشأ من افتراض وحدة الجعل و المجعول الذي ثبت بالبرهان العقلي لا بالنظر العرفي، و من هنا لم يكن اشكال في جريان استصحاب عدم الجعل عند الشك في أصله، و كذلك استصحاب بقاء الجعل في موارد الشك في النسخ.

وثانيا: أنه لو فرض عدم رؤية العرف للجعل إلّا بالحمل الأولي، فهذا لا يمنع عن جريان الاستصحاب فيه بالحمل الشائع إذا كانت أركانه تامة و لو بنظر العقل، لعدم كون النظر العرفي ميزانا في تشخيص المصاديق، فإذا كان الجعل بمعنى القضية الحقيقية هو المنجز عقلاً و كان اليقين بعدمه سابقاً جرى استصحاب عدمه لا محالة، لتحقق مصداق اليقين و الشك في أمر منجز، سواءً شخّصه العرف أم لا، و أمّا الجعل بالحمل الأولي فإذا فرض عرفيته بدرجة بحيث يتشكل لدليل الاستصحاب إطلاق له أيضاً كان معارضاً مع الإطلاق السابق و إلّا لم يكن جارياً، و النتيجة عدم جريان‏ استصحاب المجعول([4]).

ففيه أن عدم كون المجعول بالذات مجعولا بنظر العرف يعني انكار العرف لكون الصورة الذهنية هي المجعول، و هذا مآله الى أن العرف يحدد مفهوم الجعل و المجعول بنحو لا يتعلق الجعل بتلك الصورة الذهنية، كما في تعلق الارادة بالصورة الذهنية، حيث انها وان كانت مرادا بالذات اي بالنظر العقلي، لكنها ليست مرادا بنظر العرف، فكيف نطبق عليها الخطاب الملقى الى العرف.

وأما ما اورده من النقض بجريان استصحاب عدم الجعل في موارد الشك في اصل الجعل، فقد ظهر الجواب عنه، حيث ان مدعى البحوث أن هذا الاستصحاب يعني استصحاب عدم المجعول الكلي اي استصحاب عدم اتصاف شرب التتن بالحرمة مثلا، و كذا استصحاب بقاء الجعل في موارد الشك في النسخ يعني استصحاب بقاء اتصافه بها، واين هذا من موارد الشك في الجعل الزائد في مثل الشك في نجاسة الماء بعد زوال تغيره، فان حالته السابقة الاتصاف بالنجاسة لا عدم الاتصاف.

الجواب الرابع: ما ذكره في كتاب الأضواء

الجواب الرابع: ما ذكره في كتاب الأضواء من أنّ ما هو المنجّز عقلاً ليس هو الجعل بما هو اعتبار و انشاء، و إنّما التنجيز في الجعل بلحاظ تعلقه بالخارج، و جهة حكايته عنه، و التي هي من شئون لحاظه بالحمل الأولي، بدليل انّه لو فرض العلم بالجعل كوجود ذهني، و لكن لم يعلم ما تعلق به، أو لم يعلم تعلقه بالعنوان المنطبق على المكلف لم يكن منجزاً، كما أنّه لو علم شمول الجعل للمكلف و لكن لم يعلم انّه شمله بأي عنوان بحيث كانت القضية الحقيقية المجعولة مجهولة، فمع ذلك يكون الحكم منجزاً في ذلك الفرد، فالمنجز إنّما هو شمول الجعل للعنوان المنطبق على المورد، لا بمعنى الطرفية للجعل بالحمل الشايع، الذي هو معنى انتزاعي، بل بمعنى الحكاية و المرآتية، و التي هي من شؤون لحاظ الجعل بالحمل الأولي، و هذا ليس أمراً عرفياً فحسب، بل عقلي دقي في تحديد ما هو موضوع التنجيز عقلا([5]).

و يرد عليه المنع من عدم منجزية العلم بوجود الجعل بما هو موجود ذهني قائم بنفس المولى بضم العلم بكون الوجود الخارجي لذلك العنوان الموجود في ذهن المولى المعلوم تفصيلا او اجمالا متحققا بالنسبة الى المكلف.

فما كرره بعد ذلك من كون العلم بالجعل بالحمل الشايع مع العلم بالموضوع ليس سببا للتنجز، فلو احرزهما و لكن لم يحرز انطباقه على الموضوع او المكلف لم يكن منجزا و استصحاب عدم الجعل لنفي انطباق المجعول عليه اصل مثبت([6])، فهو خلاف الوجدان من حكم العقل بالتنجز بمجرد العلم بجعل المولى بالذات و العلم بالوجود الخارجي للصورة الذهنية التي اخذها المولى في موضوع جعله.

هذا و قد اضاف الى ما ذكره أنا لو سلّمنا جريان استصحاب عدم الجعل بالحمل الاولي الذي هو من استصحاب عدم المجعول الكلي الثابت قبل التشريع، في مورد العلم بأصل الجعل و الشك في سعته كما في الماء المتغير بلحاظ الشك في ثبوت مجعول كلي يتضمن نجاسته لما بعد زوال تغيره، مع ذلك قلنا بأنّ هذا الاستصحاب انما ينفي التنجيز الناشء عن احتمال ثبوت الجعل الموسع، و لا ينفي التنجيز الناشء من ناحية احتمال كون الجعل الشخصي المعلوم تحققه موسعا وشاملاً لما بعد زوال التغير، فإذا اريد نفيه باستصحاب عدم صدور الجعل الموسع بضمه إلى العلم بأنّ الجعل المضيق لو كان فقد ارتفع يقينا بعد زوال التغير، فهذا من أوضح أنحاء الأصل المثبت، و إن اريد نفيه باجراء استصحاب عدم شمول ذلك الجعل الشخصي للماء بعد زوال تغيره و لو بنحو العدم الأزلي، فهذا مضافاً إلى كونه من الاستصحاب في الفرد المردد، لا تتم فيه أركان استصحاب العدم، لأنّ المجعول عند ما يضاف إلى الجعل المعلوم بالاجمال تكون حالته السابقة الثبوت لا العدم، فلا يجري إلّا استصحاب بقاؤه، الذي هو استصحاب المجعول، و الذي لم يشكك في تمامية أركان الاستصحاب فيه أحد، حتى القائل بالمعارضة، و إنّما توهم سقوطه بالمعارضة([7]).

مناقشات

ويرد عليه اولا: أنه لا وجه للمنع من كفاية استصحاب عدم حكم شرعي يشتمل على نجاسة الماء الذي زال تغيره، مثلا، -الذي هو استصحاب عدم الجعل اي المجعول الكلي الموسع بنحو مفاد ليس التامة- لنفي اتصاف الماء الذي زال تغيره بالنجاسة لانه عينه عرفا كما مر بيانه سابقا، حيث قلنا بأنه يصح عرفا لحاظ المجعول الكلي تارة على نحو مفاد كان التامة كقانون من قوانين الشريعة يحدث بحدوث الجعل ويبقى مادام لم ينسخ، وأخرى على نحو مفاد كان الناقصة كوصف من اوصاف الموضوع الخارجي ويحدث بحدوثه ويبقى ببقاءه ويكون مقتضى اللحاظ الاول جريان استصحاب عدم القانون الموسع ومقتضي اللحاظ الثاني جريان استصحاب الحكم كوصف من اوصاف الموضوع الخارجي، وبذلك يتعارض الاستصحابان بعد عدم تغاير المستصحب فيهما وجودا.

وثانيا: انه لو لزم اجراء الاستصحاب لنفي كون الجعل المعلوم تحققه موسعا، فبناء على قبول الاستصحاب في العدم الأزلي يمكن اجراء استصحاب عدم كونه موسعا، ولا يعارضه استصحاب عدم كونه مضيقا، لعدم اثباته للجعل الموسع او لبقاء المجعول، الا بنحو الاصل المثبت، ودعوى كونه من قبيل استصحاب الفرد المردد غير وجيه، فان المقام لا يرتبط باستصحاب الفرد المردد الذي يكون موضوع الاثر فيه مرددا بين الفرد المقطوع الارتفاع و الفرد المشكوك الحدوث، بينما أن الاثر في المقام وهو تنجز حكم الماء بعد زوال تغيره مترتب على كون الجعل موسعا، فلو كان مشكوكا لاستصحب عدمه لا محالة، نعم لو كانت النجاسة المستمرة الى بعد زوال التغير فردا طويلا من النجاسة غير الفرد القصير منها و هو النجاسة التي تزول بزوال التغير، فمع احراز كونهما فردين من النجاسة و ترتب الاثر على افراد النجاسة بنحو الانحلال كان استصحاب جامع النجاسة من قبيل استصحاب الفرد المردد، و حين ذاك كان يجري استصحاب عدم اتصاف الماء قبل تغيره بالنجاسة المطلقة، اي بالفرد الطويل من النجاسة، لنفي اثره، مع احراز انتفاء اثر الفرد القصير من النجاسة لانتفاءه بعد زوال التغير وجدانا، وحينئذ لم نحتج الى الاستصحاب في العدم الازلي، بل جرى استصحاب العدم النعتي، و أما استصحاب عدم كون اتصاف الماء المتغير بالنجاسة مثلا اتصافا بالنجاسة المطلقة لما بعد زوال التغير، فهو و ان كان من استصحاب العدم الازلي، و لكن لا حاجة اليه، بعد أن كانت النجاسة المطلقة فردا من النجاسة و جرى استصحاب العدم النعتي لنفي الاتصاف بها،.وهكذا يستصحب عدم اتصاف الكافر الكتابي بكونه نجسا بنجاسة مطلقة مستمرة الى ما بعد اسلامه ظاهرا مع عدم اعتقاده به باطنا، حيث يعلم بعدم اتصافه قبل الشرع بذلك، و يشك في اتصافه به بعد الشرع، وبضم ذلك الى احراز انتفاء اتصافه فعلا بالنجاسة القصيرة المغياة بالاسلام الظاهري يحرز انتفاء الآثار الانحلالية للنجاسة.

لكن المهم أن الاثر مترتب على صرف وجود نجاسة الشيء، كحرمة الشرب في مثال نجاسة الماء، فلا يكون استصحاب صرف وجود النجاسة عند دوران فردها بين القصير و الطويل من قبيل الفرد المردد بل من قبيل القسم الثاني من الكلي، فانه لو كان الاثر مترتبا على صرف وجود النجاسة فاحراز انتفاء صرف الوجود باستصحاب عدم الفرد الطويل و وجدانية انتفاء الفرد القصير يكون من الاصل المثبت.

مضافا الى المنع من كون النجاسة المطلقة والمقيدة فردين من النجاسة، ولا أقل من عدم احراز كونهما فردين، وعليه فلو انحصر لحاظ الجعل بمعنى المجعول الكلي في لحاظ الحكم وصفا للموضوع الخارجي كما يدعيه البحوث، فيتم اشكال البحوث من أن الحالة السابقة في موارد الشك في بقاء المجعول للشك في الجعل الزائد كنجاسة الماء الذي زال تغيره وجودية لا عدمية، لاحراز اتصاف الماء الذي زال تغيره بالنجاسة سابقا حينما كان متغيرا بالفعل.

فالمهم ما مر منا من امكان لحاظه على نحو مفاد كان التامة فيجري استصحاب عدم مجعول كلي موسع، فيتعارض معه من باب المناقضة في المؤدى حيث ان اثر الاول منجزية نجاسة الماء بعد زوال تغيره واثر الثاني المعذرية عنه.

هذا و أما ما ذكره في الأضواء من أنه يمكن للسيد الخوئي أن يدعي أن سبب التنجز العلم بالمجعول مع احتمال جعل بالحمل الشايع مما يصلح لشموله، و مع استصحاب عدم الجعل يرتفع سبب التنجز، فلا يرد عليه أن سبب التنجز كل من العلم بالجعل مع تحقق موضوعه و كذا العلم بالمجعول فاستصحاب عدم الجعل لا ينفي سببية المجعول للتنجز، فالمهم انكار سببية الجعل و لو مع العلم بالموضوع للتنجز([8]).

ففيه أن انكار سببية العلم بالمجعول للتنجز خلاف الوجدان الفطري، و لو مع جريان استصحاب عدم الجعل بالحمل الشايع.

الجواب الخامس: عن بعض الاعلام

الجواب الخامس: ما حكي عن بعض السادة الاعلام “دام ‌ظله” من أنه ذكر في تقريب مثبتية استصحاب عدم الجعل لنفي المجعول أنه ان اريد من الجعل مجرد الإنشاء و من المجعول الحكم المُنشأ فمن الواضح ان ترتب الحكم على إنشاءه ليس ترتبا شرعيا وانما هو ترتب عقلي.

وان اريد من الجعل الحكم الانشائي، ومن المجعول الحكم الفعلي فهنا عدة احتمالات:

1- أن يلتزم بمغايرة الحكم الانشائي والفعلي فإشكال المثبتية حينئذ واضح، ولكن هذا الاحتمال باطل، لوضوح انه لم‌يصدر من الشارع الا حكم واحد، فمَن هو جاعل الحكم الآخر.

2- أن يلتزم بان الحكم الفعلي هو الحكم الإنشائي نفسه ولكن بضميمة تحقق الموضوع خارجا فتكون نسبة الحكم الإنشائي الى الحكم الفعلي كنسبة الجزء الى الكل، فحينئذ لايلزم اشكال المثبتية الا ان هذا الاحتمال ضعيف، كما يظهر لك وجهه حين تقريب الاحتمال الآتي.

3- أن يلتزم بوحدة الحكمين في الوجود المحمولي، وتعددهما في الوجود الرابط، فعلى هذا يتم اشكال المثبتية، وهذا هو المختار، وتوضيحه أن بعض الأعراض يكون ظرف العروض وظرف الاتصاف به معاً هو الخارج، وذلك كالبياض، حيث ان معروضه والموصوف به شيء واحد وهو الجسم الخارجي، وهذا خارج عن محل الكلام،(كما أن بعض الاعراض يكون ظرف العروض والاتصاف به معا هو الذهن كقولنا “الانسان نوع”) وبعض الاعراض ظرف عروضه الذهن وظرف الاتصاف به هو الخارج، كالأبوة فان معروضها هو الأب في الذهن، ولكن الموصوف بها هو الأب في الخارج، وهكذا العلم فانك اذا علمت بشيء كمجيئ زيد غدا، فالمعروض للعلم ليس هو وجود مجيئه خارجا، اذ لم‌يتحقق بعد، وانما هو الموصوف به، فتقول بعد مجيئه كنت أعلم بهذا وتشير الى وجوده الخارجي، وكذلك الإرادة والكراهة وما شابههما، وهذا ما يسمى في الفلسفة بالمعقول الثاني.

ومن هذا القبيل جميع الأمور الانتزاعية والاعتبارية التي منها الحكم الشرعي، فان المعروض الذي يتقوم به الحكم هو العنوان الذي يتصوره الحاكم كعنوان المستطيع الذي هو معروض وجوب الحج، ولكن الموصوف بوجوب الحج هو نفس المستطيع خارجا، فالحكم بوجوده المحمولي وان كان واحدا الا ان له ارتباطين، فيعبر عن الحكم بلحاظ ارتباطه مع معروضه بالحكم الانشائي، وهو بهذا اللحاظ ليس له استمرار الا بالحمل الاولي، وبلحاظ ارتباطه بموصوفه يعبر عنه بالحكم الفعلي، وبهذا اللحاظ يكون له الاستمرار ويكون قابلا للبقاء والارتفاع وموضوعا لحكم العقل بوجوب الطاعة وحرمة المعصية وغيرهما من الآثار.

فمن ارتباط الحكم بمعروضه وموصوفه تنشأ قضيتان ويكون الموضوع في الأولى هو العنوان المتصور في وعاء الاعتبار و في الثانية هو الموجود الخارجي الذي ينطبق عليه ذلك العنوان، و لكن المحمول فيهما واحد وهو الحكم الاعتباري، وإثبات القضية الثانية باستصحاب القضية الأولى او نفيها بنفيها يكون من قبيل الاصل المثبت الذي لاحجية له.

اقول: أما ما ذكر من اشكال مثبتية استصحاب عدم عملية الانشاء لنفي المنشأ، فقد مر الجواب عنه، و أما ما ذكر من أن الحكم الانشائي ليس له بقاء و استمرار فيرد عليه ان المراد منه ليس هو الصورة الذهنية الموجودة في نفس المولى، بل القضية الإنشائية التي لها وجود عرفي في عالم الاعتبار، و يكون لها بقاء واستمرار مادام لم‌تنسخ، و يرى العرف ان هذه القضية الإنشائية هي الطرف لعملية الجعل، و يلحظ العرف هذه القضية بنحو مفاد كان التامة فيقول هذا القانون لم يكن ثابتا في الشريعة ثم شرّع فيها، و هذا يختلف عن لحاظ الحكم وصفا عارضا على الموضوع الكلي على نحو مفاد كان الناقصة، و حادثا بحدوثه و باقيا ببقائه، وحصر لحاظ الحكم عرفا في الأخير خلاف الوجدان، وحيث ان مآل كلامه الى ما مر في الجواب الثالث من انحصار لحاظ الحكم عرفا في ذلك فيتوجه عليه الاشكالات التي مر منا على ذاك الجواب، فلا نعيد.

و أما ما ذكره وفاقا للفلاسفة من اختلاف ظرف الاتصاف و العروض في المعقولات الثانية الفلسفية، ففيه أن العروض والاتصاف واحد، فكيف يعقل أن يكون ظرف العروض الذهن وظرف الاتصاف الخارج، وكيف يعقل أن يكون اتصاف الموجود الخارجي بعرض في الخارج، ولكن وجود هذا العرض يكون في الذهن، فانه يلزم اتحاد ظرف وجود العرض والمعروض، وعليه ففي المعقولات الثانية كامكان الانسان نلتزم بثبوتها في عالم الواقع الذي هو اوسع من عالم الوجود، وفي العلم يكون المعروض والمتصِف بالذات هو الصورة الذهنية وما في الخارج هو المعلوم بالعرض والمجاز وليس هو المعلوم حقيقة.

الجواب السادس: استصحاب عدم الجعل الزائد لا يجري في نفسه

الجواب السادس: ما عن بعض الاعلام “قده” حيث قال ان استصحاب عدم الجعل الزائد لا يجري في نفسه كي يعارض استصحاب بقاء المجعول، وذلك لوجهين:

احدهما: ان التعبد والاعتبار لا يتعلق بالأمور التكوينية الخارجية، فانها لا تقبل الجعل، وانما يطرء على الأمور الاعتبارية التي يكون وجودها بالجعل و الاعتبار، و من الواضح ان الجعل و الاعتبار الصادر من المولى انما هو فعل تكويني للمولى، و ليس من الأمور الاعتبارية، و عليه فإذا فرض أن مفاد دليل الاستصحاب هو التعبد ببقاء المتيقن، لم يشمل الجعل، و أما استصحاب بقاء الجعل في مورد الشك في النسخ، فهو إما أن يرجع إلى التمسك بإطلاق الدليل و إما ان يرجع إلى استصحاب المجعول التعليقي لا الفعلي.

فاذا ثبت عدم قابلية الجعل للتعبد و الاعتبار لكونه فعلا تكوينيا للمولى، يكون امتناع التعبد بعدمه من الواضحات، إذ ما لا يقبل الوضع الشرعي لا يقبل الرفع.

نعم، بناء على ما قربّناه من أن دليل الاستصحاب لا يتكفل التعبد بالمتيقن ابتداء، و انما يتكفل الإلزام بمعاملة المتيقن معاملة الباقي الثابت، و يكون ذلك إرشادا إلى ثبوت التعبد في كل مورد بحسبه أمكن دعوى شمول دليل الاستصحاب لاستصحاب الجعل، و يكون لازمه ثبوت التعبد بالمجعول، لا التعبد بالجعل، ولكن لا يشمل عدم الجعل، حيث لا يتم دعوى أن المدلول المطابقي لدليل الاستصحاب هو لزوم معاملة المتيقن السابق معاملة الباقي، و هذا لا مانع من شموله لعدم الجعل، و يكون إرشادا إلى ثبوت التعبد في مورده بما يناسبه، و حيث لا يمكن ان يكون المتعبد به هو عدم الجعل، لما عرفت انه غير قابل للتعبد، فلابد أن يكون التعبد متعلقا بعدم المجعول، فاستصحاب عدم الجعل يفيد التعبد بعدم المجعول، يعني عدم التكليف، والوجه في عدم تمامية هذه الدعوى أن التعبد بعدم التكليف غير صحيح، بيان ذلك: ان التعبد بعدم التكليف تارة يكون واقعيا، و أخرى يكون ظاهريا، فان كان واقعيا، بأن اعتبر الشارع عدم التكليف في الواقع، و جعل عدمه واقعا، فلا يخلو الحال إما أن يكون التكليف ثابتا في الواقع، فيكون من الجمع بين الضدين، وأما أن لا يكون ثابتا في الواقع، فيلغو جعل العدم، إذ مجرد جعل التكليف في الواقع يكفي في تحقق عدم التكليف و ترتب الأثر عليه، بلا حاجة إلى اعتبار العدم .

و ان كان ظاهريا فتارة: يراد به جعل عدم التكليف الظاهري، فهو -مضافا إلى عدم ترتب الأثر عليه من التعذير و التأمين عن العقاب، إذا المدار في ذلك على عدم التكليف الواقعي- فانه لا يحتاج إليه فانه يكفي عنه مجرد عدم جعل التكليف الظاهري، و أخرى: يراد به جعل العدم الظاهري للتكليف الواقعي، كسائر الأحكام الظاهرية المجعولة بلسان الواقع، و هو غير صحيح أيضا، لأن التكليف الواقعي ان لم يكن له ثبوت، كفى عدمه في ترتب الآثار بلا حاجة إلى جعل عدمه في مرحلة الظاهر، و ان كان له ثبوت فإما أن لا يترتب عليه أثر عقلي وجودي في مقام الشك، بحيث يحكم العقل بالمعذورية و الأمان من العقاب، فلا أثر لجعل العدم، إذ غاية ما يراد به هو إثبات المعذورية، و المفروض أنها ثابتة عقلا مع قطع النّظر عن جعل العدم.

و إما أن يترتب عليه أثر وجودي عقلي بحيث يحكم العقل بمنجزيته في ظرف الشك، امتنع جعل العدم لمنافاته لحكم العقل بلزوم الاحتياط نظير موارد العلم الإجمالي.

نعم لو كان الحكم العقلي بالاحتياط تعليقيا، بحيث يرتفع باعتبار الشارع عدم التكليف، كان جعل العدم ذا أثر عملي، لكن الأمر ليس كذلك، فان حكم العقل بالاحتياط في موارده يكون تنجيزيا لا تعليقيا، فيتحقق التنافي بين جعل التكليف الواقعي و جعل عدمه ظاهرا من حيث الأثر العملي العقلي، فلا يصح الجمع بينهما.

ثانيهما: ان الجعل على المسلك الصحيح لا يختلف سعة و ضيقا باختلاف المجعول سعة و ضيقا، فلا معنى لاستصحاب عدم الجعل الزائد، وأما اصل وجود الجعل فمعلوم، و انما الشك في بماذا تعلق، و هذا مما لا يمكن ان يجري فيه الأصل، إذ لا حالة سابقة له.

و الوجه في ذلك أن الصحيح كما عليه المشهور هو كون الجعل والانشاء عبارة عن مجرد التسبيب لتحقق الاعتبار العقلائي في ظرفه، و بعبارة أخرى: انه عبارة عن استعمال اللفظ في المعنى بداعي تحقق اعتباره من قبل العقلاء في ظرفه المناسب له، فلا يصدر من المنشئ سوى الاستعمال بالقصد المزبور، ، وعليه فلا يكون الجعل قابلا للسعة و الضيق بسعة المجعول و ضيقه، لأن الجعل هو الاستعمال بقصد تحقق الاعتبار في ظرفه من قبل من بيده الاعتبار، و من الواضح ان المستعمل فيه لو كان مفهوما اسميا يقبل السعة و الضيق بأن ينشئ الوجوب بمفهومه الاسمي، أمكن ان يتأتى فيه البيان المزبور، فيقال: ان الاستعمال يرجع إلى جعل اللفظ مرآة و حاكيا عن المعنى، و الحكاية تتسع و تضيق بسعة المحكي و ضيقه، فمع الشك في زيادة الحكاية للشك في سعة المحكي تكون مجرى لأصالة العدم.

و لكنه غالبا يكون الإنشاء بالصيغة، و هي لا تتكفل إنشاء الوجوب بمفهومه الاسمي القابل للسعة و الضيق، بل بالمفهوم الحرفي الّذي ليس له إلّا نحو واحد، و هو المعبر عنه بالوجود الرابط الّذي لا يقبل السعة و الضيق، فلا يتصف الإنشاء بهذا المعنى بالسعة و الضيق، بل له وجود واحد مردد بين نحوين متباينين، فلا مجال حينئذ لأصالة العدم فيه بعد كون الشك في كيفية، و انه تعلق بهذا أو بذلك لا في أصل وجوده.

نعم يتسع الجعل بسعة المجعول بناء عى مسلكين آخرين، اولهما مسلك صاحب الكفاية من أن الانشاء عبارة عن إيجاد المعنى بوجود إنشائي يكون موضوعا للاعتبار العقلائي أو الشرعي في ظرفه، فما يصدر من المنشئ هو الاستعمال بقصد تحقق وجود إنشائي للمعنى يترتب عليه الاعتبار العقلائي عند وجود موضوعه، فان مرجع الجعل إلى إيجاد الحكم بوجود إنشائي، و من الواضح اتساع دائرة الوجود و ضيقها باتساع دائرة الموجود و ضيقه، وثانيهما مسلك السيد الخوئي من أنه عبارة عن إبراز الاعتبار النفسانيّ الشخصي، بدعوى ان للمنشئ اعتبارا شخصيا يكون موردا للآثار العقلائية إذا أبرز بمبرز من لفظ أو غيره، وعليه يتسع الجعل بسعة المجعول لأن مرجع الجعل إلى الاعتبار الشخصي الصادر من المعتبر، و من الواضح ان الاعتبار في السعة و الضيق يتبع الأمر المعتبر، فان نسبته إليه نسبة التصور إلى المتصور و الموجود، فمع سعة الأمر الاعتباري يتسع الاعتبار و مع ضيقه يضيق.

هذا اذا كان الزمان ظرفا وأما اذا كان قيدا بأن كانت الأحكام واردة على الموضوعات المتعددة المتباينة فهذا يستلزم تعدد الجعل و لو كان إنشاؤها واحدا بالصورة، فحين يقول “أكرم‏ كل عالم” ينحل إنشاءه إلى إنشاءات متعددة بتعدد الموضوعات خارجا، فيتعدد الجعل حقيقة و ان كان واحدا صورة.

و عليه، فيتلخص إيراد الشيخ: في انه ان لوحظ الزمان قيدا، كان الفعل في كل حصة زمانية موضوعا مستقلا فلا مجال لجريان استصحاب الوجود لتعدد الموضوع، بل يتعين استصحاب عدم الجعل للشك في حدوثه بالإضافة إلى هذه الحصة المشكوكة، و ان لوحظ ظرفا، كان الحكم الثابت على تقرير استمراره واحدا، فلا مجال لاستصحاب عدم الجعل لعدم الشك فيه، و لا في زيادته لعدم قابليته للسعة و الضيق، بل الشك في كيفيته، و هي لا تكون مجرى لأصالة العدم كما عرفت، بل يتعين استصحاب وجود المجعول.

و عليه، فلا مانع من التمسك في الشبهات الحكمية باستصحاب بقاء المجعول إذا تمت شرائط الاستصحاب في أنفسها، و لا مجال لدعوى معارضته([9]).

مناقشات

ويرد على ما ذكره في الوجه الاول: أن اثر قيام الحجة على الجعل مع تحقق موضوعه لما كان هو التنجيز، فأثر الحجة على عدم الجعل هو التعذير ونفي التنجيز، ويكون تأكيدا لحكم العقل بالمعذرية او رافعا لحكم العقل بالتنجز، بناء على مسلك حق الطاعة كما هو مختاره، وكذا في مورد الشك في الامتثال كالصلاة في ثوب مشكوك النجاسة، فان استصحاب عدم جعل النجاسة له يكون حجة على الامتثال، ولا ريب في ورود ذلك على قاعدة الاشتغال ورفعه لموضوعها.

ويرد على الوجه الثاني أن الاختلاف في حقيقة الانشاء في العقود والايقاعات لا يرتبط بحقيقة جعل الشارع والمقنن لاحكامه، فانه اعتبار منه، على أنه لا اشكال في صحة اضافة الجعل الى المجعول، فيصح أن يقال مثلا انه يشك في جعل النجاسة لما بعد زوال تغير الماء، وهذا معنى الشك في سعة الجعل.

الجواب السابع:

ما يقال من أن ذهن العرف لا ينتقل الى لحاظ القانون على نحو مفاد كان التامة، الا مع لفت نظره اليه، و لذا لم يلتفت اليه كثير من الاعلام الذين تمسكوا باخبار الاستصحاب في الشبهات الحكمية من والد الشيخ البهائي فما بعده عدا الفاضل النراقي و السيد الخوئي و امثالهما، بخلاف لحاظ ثبوت الحكم في السابق، فانه لا اشكال في التفات العرف اليه، فيكون المدار في شمول دليل الاستصحاب على ما وصل اليه العرف الساذج دون العرف الدقيق اي العرف المعترف بشيء بعد لفت نظره من قبل المدققين.

و فيه أنه مع اعتراف العرف بسبق عدم القانون الموسع سابقا و الشك في وجوده لاحقا فلا وجه لغمض العين عنه، و ان كان ينسبق الى الذهن اولا بقاء المجعول، و اي فرق بينه و بين استصحاب عدم القانون في مورد الشك في اصل جعله، كجعل نجاسة الكافرالكتابي، او جعل حرمة شرب التتن، او الشك في السعة العرضية للقانون المجعول، كما لو شك في أن قانون الماء المتغير نجس هل يشمل الماء المتغير بمجاورة النجس ام لا.

الجواب الثامن:

ما كان يخطر بالبال من عدم حالة سابقة متيقنة لعدم جعل التكليف، و ذلك لأن انشاء التكاليف ليس الا ابرازا لارادته تعالى، او فقل: ابراز لتعلق غرضه اللزومي بفعل العبد، و ما هو الموضوع لحكم العقل بالطاعة هو غرضه و ارادته تعالى، و هي روح التكليف، و احتمال كون ارادته تعالى ازلية كافٍ في عدم جريان استصحاب عدم ارادته بشيء لعدم اليقين بالحالة السابقة.

وعليه فحيث ان استصحاب عدم جعل التكليف لا ينفي روح التكليف، وهي ارادته تعالى للترك، فنحتاج الى اجراء الاستصحاب في نفس عدم ارادته تعالى، والمفروض عدم تمامية اركان الاستصحاب فيها، بل حيث لا يترتب اثر عملي على استصحاب عدم جعل الحرمة ما لم يؤمّن عن روحها، فيلغو جريانه.

و هذا البيان حيث يختص بالاحكام التكليفية و لا يجري في الاحكام الوضعية لعدم كون روحها ارادة فعل العبد، فيؤدي الى التفصيل بين الاحكام التكليفية والوضعية، حيث يجري استصحاب بقاء التكليف و لا يعارضه استصحاب عدم جعل التكليف الزائد، بينما أنه يتعارض استصحاب بقاء المجعول في الحكم الوضعي مع استصحاب عدم الجعل الزائد.

وقد رأيت أن المحقق الشيخ مرتضى الحائري “قده” ذكر هذا التفصيل، و ان كان الاختلاف بينه و بين ما ذكرناه هو أنه اختار في الأحكام الوضعية حكومة استصحاب عدم الجعل الزائد على استصحاب بقاء المجعول([10]) بينما أننا اخترنا المعارضة.

هذا و قد يعمم الاشكال الذي ذكرناه حول الحكم التكليفي الى مطلق جعله تعالى ولو للاحكام الوضعية، حيث ان الجعل لا يتقوم بالابراز بالخطاب حتى يقال بأن الخطاب حادث لا محالة، وانما هو الاعتبار القائم بالنفس، فيحتمل كون الاعتبار فعلا صادرا من المولى ازلا.

و لكن هذا التعميم غير صحيح، اذ اولا: ان الاعتبار فعل تكويني صادر منه تعالى و مفاد الروايات حدوث ارادته و مراداته التكوينية، ففي صحيحة عاصم ‌بن ‌حميد عن ‌ابي‌ عبدالله (عليه‌السلام) قال قلت له: لم ‌يزل الله مريدا؟، قال ان المريد لا يكون الا لمراد معه، لم‌ يزل الله عالما قادرا ثم أراد، وصحيحة محمد ‌بن ‌مسلم عن ‌ابي ‌عبدالله (عليه‌السلام) المشية محدثة([11])، و في صحيحة صفوان‌ بن ‌يحيى قال قلت لابي ‌الحسن (عليه‌السلام) أخبرني عن الإرادة من الله ومن الخلق، فقال الإرادة من الخلق الضمير وما يبدو لهم بعد ذلك من الفعل، وأما من الله تعالى فإرادته إحداثه، لا غير ذلك، لأنه لا يروّي، ولا يهمّ، ولا يتفكر، وكذا صحيحة عمر ‌بن‌ أذينة عن‌ ابي‌ عبدالله (عليه‌السلام) ان الله خلق المشية بنفسها ثم خلق الأشياء بالمشية([12]).

نعم لا يظهر من هذه الروايات اكثر من حدوث الارادة التكوينية التي تساوق صرف النفس قدرتها في ايجاد الفعل دون العزم على الايجاد، ويؤيده التعبير بان المريد لا يكون الا لمراد معه، فلا ينفي قدم الارادة التشريعية التي ليست الا تعلق غرضه تعالى بفعل العبد، كالتزامه بالعدل و اجتنابه عن الظلم.

و ثانيا: الانصاف أن المتفاهم العرفي من خطابات الجعل الإلهي كونه حادثا، ولو لأجل تقوم الجعل بالابراز، فلا يقال ان الله جعل الحكم الفلاني الا بعد أن ابرزه، ويشهد على كون الجعل حادثا مرسلة أبان بن عثمان عمن ذكره عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله أعطى محمدا (صلى الله عليه وآله) شرائع نوح وإبراهيم وموسى وعيسى إلى أن قال ثم افترض عليه فيها الصلاة والزكاة والصيام والحج والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والجهاد في سبيل الله وزاده الوضوء وأحل له المغنم والفي‌ء وجعل له الأرض مسجدا وطهورا([13])، وفي صحيحة داود بن‌ فرقد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان بنو إسرائيل إذا أصاب أحدهم قطرة بول قرضوا لحومهم بالمقاريض وقد وسع الله عليكم بأوسع ما بين السماء والأرض وجعل لكم الماء طهورا فانظروا كيف تكونون([14]).

و كيف كان فقد يستشكل على هذا الجواب الثامن بما هو مدعى بعض السادة الاعلام “دام ظله” من أن المولى لو كان مشرعا للقوانين فلا يكون اغراضه و منها ارادته النفسانية منجزة عقلا.

و لكن الانصاف أنه مخالف للوجدان الفطري و العقلائي من منجزية العلم بالاغراض اللزومية للمولى مطلقا.

و المهم في الاشكال على هذا الجواب أن هناك امورا تمنع من احراز انعقاد الظهور التصديقي لخطاب الاستصحاب في استصحاب بقاء المجعول، لاحتمال ابتلاءه بالمعارضة مع استصحاب عدم الجعل الزائد بالتعارض الداخلي من باب المناقضة في المؤدى، و ذلك للغفلة النوعية العرفية في الجعل الالهي للتكليف عن روحه و هو ارادة الله، و كونها ازلية، فيتعامل العرف معه معاملة غيره كجعل التكليف من قبل النبي (صلى الله عليه وآله) في سننه، حيث انه لو شك أنه هل اوجب التعزير على من ظلم غيره ما لم يتب او اوجبه عليه و ان تاب، فيتعارض استصحاب عدم ايجابه التعزير بنحو مطلق مع استصحاب وجوب تعزير من ظلم غيره بعد توبته، ارتكب الكبيرة حد على يتعارض فيه استصحاب عدم الجعل الزائد مع بقاء المجعول.

فهذا الجواب يؤدي الى التفصيل بين فرائض الله و سنن النبي، و في فرائض الله بين احكامه التكليفية و الوضعية و من البعيد كل البعد ثبوت هذا التفصيل في الاستصحاب شرعا، كيف و لم يلتفت اليه اغلب الاعلام و التفصيل المبحوث عنه في الاصول بين الاستصحاب في الاحكام التكليفية و الوضعية بنكتة أخرى و هي أن الاحكام الوضعية مجعولة شرعا ام لا، فلا يرتبط بالنكتة المطروحة في المقام.

و يمكن أن يذكر وجه لابطال هذا الجواب الثامن، و هو أن استصحاب عدم جعل التكليف ظاهر في نفي جعل التكليف بما له من الروح، نظير دليل البراءة، و هذا ظهور عرفي و ليس ناشئا عن دلالة الاقتضاء بنكتة لغوية نفي الجعل بدون التأمين عن روحه، فلا يصح أن يقال انه يوجد فرق بين دليل البراءة وبين دليل الاستصحاب، فان البراءة مضافا الى جريانها في نفس ارادته تعالى المشكوكة لابد أن تكون مؤمنة عن روح التكليف المجهول، و الا كان دليلها لغوا محضا، ولكن دليل الاستصحاب ليس كذلك، لانه لم‌ يرد في خصوص استصحاب عدم جعل التكليف، بل له موارد أخر لا يبتلى باشكال عدم تمامية اركان الاستصحاب في روحه، فلا تتم دلالة الاقتضاء في دليل الاستصحاب اذ لا يلغو بدون ذلك.

و عليه فالظاهر لزوم ملاحظة مقام الجعل، دون مقام ارادته تعالى -التي هي ازلية جزما او احتمالا-، و قد مرّ استقرار المعارضة بين استصحاب عدم الجعل الزائد مع بقاء المجعول.

الجواب التاسع:

ما قد يقال من أن استصحاب عدم الجعل الزائد اي عدم قانون يكون مفاده بالخصوص او العموم ان الماء الذي زال تغيره نجس مثلا متعارض في حد ذاته مع استصحاب عدم جعل قانون يكون مفاده بالخصوص ان الماء المتغير بالفعل نجس، ومنشأ المعارضة العلم الإجمالي بمخالفة احد الاستصحابين للواقع، فيتساقطان و ينجو بذلك استصحاب بقاء المجعول عن المعارضة.

مناقشات

ويرد عليه اولا: انه لا أثر لجريان استصحاب عدم قانون يكون مفاده بالخصوص ان الماء المتغير بالفعل نجس، اذ لو اريد بذلك التأمين عن نجاسة الماء المتغير بالفعل فهو خلاف المعلوم بالوجدان، وان اريد به اثبات كون الجعل متعلقا بما يشمل نجاسة الماء الذي زال تغيره بنفسه فيكون من اوضح انحاء الأصل المثبت.

و ثانيا: ان استصحاب بقاء المجعول لا ينجو عن طرفية المعارضة مع استصحاب عدم الجعل الزائد بمجرد ثبوت معارض آخر لاستصحاب عدم الجعل الزائد.

 



[1] – اي يلحظه بما هو مصداق للوجود الذهني لا بما هو فانٍ في معنونه، في قبال الحمل الاولي، كما قيل: فما بحمل اول شريك خق عد بحمل شايع مما خلق.

[2] – مباحث الاصول ج3ص304 بتصرف منا.

[3] بحوث في علم الأصول ج‏6 ص 147

[4] – اضواء و آراء ج 3 ص 222

[5] – أضواء وآراء ج3ص 222

[6] – اضواء و آراء ج3ص 227

[7] – اضواء و آراء ج3ص 239

[8] – اضواء و آراء ج3ص 239

[9] – منتقى الأصول ج‏6 ص 81

[10] – مباني الأحكام ج3ص55

[11] – التوحيد ص417

[12] – انظر الروايات في كتاب الكافي باب الإرادة انها من صفات الفعل ج1ص109

[13] – وسائل الشيعة ج‌1 ص 17

[14] – وسائل الشيعة ج1ص134