فهرست مطالب

فهرست مطالب

تقریرات دروس خارج مدرسه فقهی امام محمد باقر علیه السلام

بسمه تعالی

تنبيهات البراءة. 1

التنبيه الاول: في تقدم الاصل الموضوعي على البراءة. 1

وجه تقدم الاستصحاب المثبت للتكليف الوجوبي او التحريمي على البراءة. 2

استصحاب بقاء التكليف يكون حاكما على اصالة البراءة والحل.. 2

مفاد دليل الاستصحاب ترتيب آثار اليقين، وعدم جريان البراءة والحل من آثار اليقين بالتكليف2

دليل الاستصحاب آب عن التخصيص بموارد لا تكون نتيجته مخالفة للبراءة والحل.. 3

اشتراط جريان البراءة بعدم وجود اصل موضوعي او استصحاب حكمي نافٍ للتكليف.. 3

استصحاب عدم التذكية. 4

حكم مشكوك التذكية بلحاظ حرمة الاكل.. 4

الصورة الأولى: الشك في حرمة اللحم بعد الفراغ عن تذكية الحيوان. 4

اربعة وجوه فی أن الاصل في اللحوم الحرمة. 8

مناقشات.. 9

الصورة الثانية: كون الشك في حرمة اللحم لاجل الشك في قابلية الحيوان للتذكية ذاتا 10

الشكّ في القابلية الذاتية للتذكية بنحو الشبهة الحكمية. 11

الايراد الاول: 11

الايراد الثاني: 13

الايراد الثالث: 28

الايراد الرابع: 29

الايراد الخامس: 30

الايراد السادس: 31

الصورة الثالثة: الشك في طروّ مانع عرضي عن قابلية الحيوان للتذكية. 32

الصورة الرابعة: الشك في تحقق التذكية بعد احراز قابلية الحيوان للتذكية. 33

 

 

 

تنبيهات البراءة

التنبيه الاول: في تقدم الاصل الموضوعي على البراءة

ذكر الشيخ الأعظم “قده” أن جريان أصالة البراءة مشروط بعدم وجود أصل موضوعي في مورده ينقح موضوع التكليف وإلّا قدم عليه بالحكومة، وذلك من قبيل استصحاب عدم التذكية عند الشك في تذكية لحم، فانه مقدم على أصالة الحلّ، ثم شرع في البحث عن تفاصيل جريان استصحاب عدم التذكية، وكان ينبغي أن يضيف الى اعتبار عدم وجود الاصل الذي يثبت موضوع التكليف، عدم وجود الاصل الذي يثبت نفس التكليف، كاستصحاب حرمة ما علمنا بحدوث الحرمة له وشككنا في بقاءها، كما في الشك في بقاء حرمة وطء الحائض بعد انقطاع دمها وقبل اغتسالها، ولعل مراده من الاصل الموضوعي هو الاصل الرافع لموضوع البراءة، لا خصوص الاصل الجاري في موضوع الحكم، وان كان خلاف الظاهر، لصيرورته قضية ضرورية بشرط المحمول، حيث يقول بأنه يشترط في جريان البراءة عدم جريان اصل رافع لموضوعها.

وجه تقدم الاستصحاب المثبت للتكليف الوجوبي او التحريمي على البراءة

وكيف كان فقد ذكر في وجه تقدم الاستصحاب المثبت للتكليف الوجوبي او التحريمي على البراءة او قاعدة الحل عدة وجوه ستأتي في آخر بحث الاصول العملية عند الكلام حول نسبة الاصول العملية، واهمها ما يلي:

استصحاب بقاء التكليف يكون حاكما على اصالة البراءة والحل

1- ما يقال –كما عليه السيد الخوئي “قده”- من ان مفاد دليل الاستصحاب هو اعتبار العلم بالبقاء، فيكون استصحاب بقاء التكليف بمعنى العلم ببقاء التكليف وبذلك يكون حاكما على اصالة البراءة والحل حيث ان موضوعهما عدم العلم بالتكليف.

ولكن المبنى غيرتام، فانه لايستفاد من دليل الاستصحاب اكثر من النهي عن النقض العملي لليقين بالشك، دون اعتبار العلم، فلا يستفاد منه اكثر من التنجيز والتعذير بالنسبة الى الواقع.

مفاد دليل الاستصحاب ترتيب آثار اليقين، وعدم جريان البراءة والحل من آثار اليقين بالتكليف

2- ما يقال من أن مفاد دليل الاستصحاب ترتيب آثار اليقين، وعدم جريان البراءة والحل من آثار اليقين بالتكليف.

وفيه أن النهي عن نقض اليقين بالشك ليس ظاهرا عرفا في ترتيب آثار اليقين الموضوعي، فاذا قال المولى لعبده “اذا تيقنت بوجود زيد في الدار في يوم الجمعة فيجوز لك أن تدخلها، واذا شككت فلا يجوز” وتيّقن العبد بوجود زيد في الدار يوم الخميس وشك في بقاءه فيها الى يوم الجمعة فدخل الدار، فلم يكن زيد فيها، فالعرف لا يقبل اعتذاره بأن المولى قال لي مرة حينما شككت في بقاء وضوئي “انك كنت على يقين من طهارتك وليس ينبغي أن تنقض يقينك بالشك ابدا”، حيث لا يفهم منه اكثر من ترتيب آثار الواقع، او فقل: آثار القطع الطريقي المحض، أي المنجزية والمعذرية للواقع.

دليل الاستصحاب آب عن التخصيص بموارد لا تكون نتيجته مخالفة للبراءة والحل

3- ما هو الصحيح من أن دليل الاستصحاب آب عن التخصيص عرفا بموارد لا تكون نتيجته مخالفة للبراءة والحل، حيث ان لسان الاستصحاب “عدم انبغاء نقض اليقين بالشك ابدا” وتكون نتيجة تقديم البراءة والحل، أنه اذا تعلق اليقين بموضوع الحكم الترخيصي او بنفس الحكم الترخيصي ثم شك في بقاءه فلا ينبغي نقض اليقين بالشك وأما اذا تعلق اليقين بموضوع الحكم الالزامي او نفس الحكم الالزامي فلا مانع من نقض اليقين بالشك، فانه خلاف ما يفهم من كون نكتة النهي عدم مناسبة نقض اليقين لمكان ابرامه بالشك، ويلغو حينئذ دليل الاستصحاب عرفا لعدم بقاء خصوصية فيه بعد جريان قاعدة الحل فيه، وهذا هو الموجب لتقدم دليل الاستصحاب على البراءة والحل.

اشتراط جريان البراءة بعدم وجود اصل موضوعي او استصحاب حكمي نافٍ للتكليف

وهل جريان البراءة مشروط بعدم وجود اصل موضوعي او استصحاب حكمي نافٍ للتكليف، ام لا؟، اشترط ذلك جماعة من الاعلام، كالسيد الخوئي “قده” بدعوى حكومة الاستصحاب على البراءة وان كانا متوافقين في النتيجة، لرفعه موضوعها وهو الشك تعبدا، وفيه أنه مضافا الى ابتناءه على مسلك اعتبار اليقين بالبقاء في مورد الاستصحاب ولم نسلم ذلك، ان موضوع ادلة البراءة عدم العلم بوجود التكليف واستصحاب عدم التكليف يعتبر العلم بعدم التكليف، ولا يكفي مجرد ذلك في ارتفاع موضوع البراءة، وهو عدم العلم بوجود التكليف تعبدا، والحاصل أن موضوع البراءة ليس هو الشك، حتى يقال بارتفاعه تعبدا، عند حصول العلم التعبدي بعدم التكليف، لدلالة التعبد بالعلم بعدم التكليف على رفع الشك بالملازمة، بل موضوعه عدم العلم بالتكليف.

هذا كله في البراءة الشرعية، وقاعدة الحل، وأما البراءة العقلية والعقلائية فدليل الاستصحاب المنجز للتكليف وارد على موضوعها، وهو عدم وصول الواقع او ما يبرز اهتمام المولى بالواقع، حتى مثل دليل وجوب الاحتياط فكيف بالاستصحاب.

استصحاب عدم التذكية

ان صاحب الحدائق تعجب من حكم الاصوليين بحرمة اللحم المشكوك تمسكاً بأصالة عدم التذكية، مع أنّهم يقولون بعدم جريان الأصل مع وجود الدليل، والدليل على الحلّ موجود في المقام، وهو قوله (عليه السلام): “كل شي‏ء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتّى تعرف الحرام منه بعينه”([1])، وضعفه وان كان ظاهرا، لحكومة استصحاب عدم التذكية على مدلول حديث الحلّ الذي يكون اصلا عمليا ويتقدم عليه الاستصحاب المثبت لموضوع الحرمة بلا اشكال، ولعله لأجل كلامه تعرض الأعلام هنا الى مسألة استصحاب عدم التذكية عند الشك فيها، ونحن نقتفي اثرهم فنقول:

انه تارة يراد اجراء استصحاب عدم التذكية لإثبات حرمة اكل لحم الحيوان مشكوك التذكية، وأخرى لإثبات نجاسة هذا الحيوان من لحمه وجلده، وثالثة لإثبات حرمة الصلاة في جلده، ورابعة لإثبات حرمة بيعه.

حكم مشكوك التذكية بلحاظ حرمة الاكل

أما بلحاظ اثر حرمة الاكل فاعلم: أنّ الشك في حرمة اللحم له صور اربعة:

الصورة الأولى: الشك في حرمة اللحم بعد الفراغ عن تذكية الحيوان

أن يكون الشك في حرمة اللحم بعد الفراغ عن تذكية الحيوان، فان التذكية لا تختص بالحيوان المحلل الاكل، ففي موثقة سماعة قال سألته عن جلود السباع ينتفع بها، فقال (عليه السلام): اذا رميت وسميت فانتفع بجلده وأما الميتة فلا([2])، وفي صحيحة زرارة “ما حرم عليك اكله فالصلاة في وبره…فاسد ذكاه الذبح ام لم يذكه([3])” والشبهة في هذه الصورة قد تكون حكمية، كما لو شكّ في حلية لحم الأرنب، مع العلم بوقوع التذكية عليه، وقد تكون موضوعية، كما لو شكّ في أن الحيوان الذي وقعت عليه التذكية هل هو شاة او ثعلب.

فذکر جمع من الاعلام أن المرجع في الشبهة الحكمية عمومات الحلّ ان كانت، والا فأصالة الحلّ، وفي الشبهات الموضوعية وان لم يمكن التمسك بعمومات الحلّ، لكونه من التمسك بالعامّ في الشبهة المصداقية للمخصص المنفصل، وهو دليل حرمة السباع، لكن بناء على القول بجريان الاستصحاب في الاعدام الازلية، وامكان اثبات موضوع العامّ باجراء هذا الاستصحاب لنفي العنوان الخاص، يمكن التمسك بالعام ببركة التعبد بانتفاء العنوان المخصص، وان لم نقل بجريان استصحاب العدم الازلي او امكان تنقيح موضوع العام به فيكون المرجع أصالة الحل.

والمهم عندنا الاشكال في جريان استصحاب العدم الازلي، وأما شبهة عدم امكان تنقيح موضوع العام به فتوضيحها أنه حتى لو فرض جريان استصحاب العدم الازلي في حد ذاته، لكن يوجد اشكال اثباتي في خصوص اثبات موضوع العام باستصحاب العدم الازلي لنفي كون الفرد المشكوك من افراد المخصص المنفصل، وهو أنه لا يظهر عرفا من الخطاب المنفصل أن موضوع الحكم في المراد الجدي من العام مركب من جزءين: احدهما وجود موضوع العام، وثانيهما عدم اتصافه بعنوان المخصص، فلو ورد في خطابٍ “أكرم كل عالم” وورد في خطاب منفصل “لا تكرم العالم الاموي” فلا يظهر منه أن موضوع وجوب الاكرام هو من كان عالما ولم‌ يكن امويا، حتى يحرز ذلك في العالم الذي يشكّ في كونه امويا بواسطة استصحاب عدم كونه امويا قبل وجوده، فلعل موضوعه هو العالم غير الاموي، وهذا يعني كون الموضوع هو العالم المتصف بعدم كونه امويا، وهذا مما لايثبت باستصحاب عدم اتصافه بكونه امويا قبل وجوده الا بناء على حجية الاصل المثبت.

ولكن الانصاف أن الظاهر من المخصص المنفصل او ما يكون كالاستثناء من المتصل أن المأخوذ في موضوع العام هو عدم كون المرأة قرشية مثلا، وهذا في المخصص المتصل واضح، مثل قوله “كل امرأة تحيض الى خمسين سنة الا أن تكون امرأة من قريش” والظاهر أنه المتفاهم عرفا من المخصص المنفصل ايضا، كما لو ورد في خطاب “كل امرأة تحيض الى خمسين سنة” وورد في خطاب منفصل “القرشية تحيض الى ستين سنة” فان العرف يحتجّ بما هو المذكور في خطابات المولى، فلا يعتنى باحتمال أن الملحوظ في المراد الجدي للعام هو المرأة غير القرشية.

نعم يبقى اشكال ذكرناه في بحث حجية الظواهر وهو ان جواز النقل بالمعنى كما هو منصوص، بل شياع النقل بالمعنى في الروايات، كما يساعده الاعتبار ويشهد عليه اختلاف التعابير فيها، يمنع من احراز العنوان المأخوذ في كلام الشارع، فلعل الوارد في كلام الشارع هو أن كل امرأة غير قرشية تحيض الى خمسين سنة، ولكن الراوي لكلامه نقله بالمعنى فقال “كل امرأة ليست بقرشية تحيض الى خمسين سنة” وهكذا في الخطاب المنفصل الدال على أن القرشية تحيض الى ستين سنة، فانه يحتمل عرفا أن الشارع قال: كل امرأة غير قرشية تحيض الى خمسين سنة، والقرشية تحيض الى ستين سنة، ولكن الراوي اكتفى ببيان الجملة الثانية.

وهذا الاختلاف بين نقل الراوي وكلام الشارع الحاصل من النقل بالمعنى او التقطيع مما لايمكن نفيه بوثاقة الرواي او أصالة عدم خطأه، بعد عدم كونه مما يلتفت اليه الانسان العرفي حين نقله لكلام الآخرين، واذا علم بخروج افراد معنون عن العام ولم‌ يعلم العنوان الخارج، فيكون من الموارد التي علم بخروج فرد وشكّ في كيفية خروجه، حيث لم‌ يثبت بناء العقلاء على نفي تخصيصه بالعنوان الذي لا يمكن معه اجراء الاستصحاب لالحاق الفرد المشكوك بالعام، مثل ما ورد الأمر بغسل الميت، ثم ورد في خطابٍ “ان غسل الميت المسلم واجب” وورد في خطاب آخر “غسل الميت الكافر غير واجب” ثم وجدنا ميتا مشكوك الاسلام، فلم‌يثبت بناء العقلاء على نفي التخصيص بعنوان المسلم، كي يمكن التمسك بالعام بعد اجراء استصحاب عدم كفره بنحو استصحاب العدم الازلي.

وكيف كان فالمتحصل عدم جريان الاستصحاب في العدم الازلي لنفي حكم الخاص، فضلا عن جريانه لتنقيح موضوع العام وترتيب حكمه، فيكون المرجع قاعدة الحلّ.

نعم قد يكون الحيوان المشكوك حلالا ذاتيا، ويشكّ بنحو الشبهة الموضوية في طروّ الحرمة له لعارضٍ، كاحتمال شرب شاة للبن خنزيرة، بناء على كونه سببا لحرمة اللحم من دون أن يمنع عن قبولها للتذكية، فلا اشكال في امكان احراز موضوع الحلّية باستصحاب العدم النعتي.

والعمومات التي استدل بها للحلّ إما قوله تعالى “قل لا اجد فيما اوحي الي محرما على طاعم يطعمه الا أن يكون ميتة او دما مسفوحا او لحم خنزير، فانه رجس او فسقا اهلّ لغير الله به” او ما ورد في بعض الروايات، كصحيحة محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه سئل عن سباع الطير والوحش حتى ذكر له القنافذ والوطواط والحمير والبغال والخيل فقال ليس الحرام إلا ما حرم الله في كتابه، وقد نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) يوم خيبر عنها وإنما نهاهم من أجل ظهورهم أن يفنوها وليس الحمر بحرام ثم قال اقرأ هذه الآية قل لا أجد…([4]).

وفي صحيحة محمد بن مسلم وزرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنهما سألاه عن أكل لحوم الحمر الأهلية فقال نهى رسول الله (صلى الله عليه وآله) عن أكلها يوم خيبر، وإنما نهى عن أكلها في ذلك الوقت، لأنها كانت حمولة الناس وإنما الحرام ما حرم الله في القرآن([5])، وفي صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كلْ كلَّ شي‌ء من الحيوان غير الخنزير والنطيحة والمتردية وما أكل السبع وهو قول الله عزوجل إلا ما ذكيتم فإن أدركت شيئا منها وعين تطرف أو قائمة تركض أو ذنب يمصع فقد أدركت ذكاته فكله([6]).

وقد ناقش بعض السادة الاعلام “دام ظله” في دلالة الآية بأنه في الآيات السابقة على هذه الآية، نقل عن المشركين ما حرّموا على انفسهم من الطيبات، كبعض الأنعام، فردّ عليهم بطرق شتى، منها: أنه افتراء على الله، ومنها: أني لا أجد فيما اوحي الي محرما الا الخبائث التي انتم تُحلّونها وترتكبونها، ولم يكن يناسب المقام ذكر ما لا يتعارف اكلهم له كالكلب، او كان متعارفا ولم يكن من الخبائث كالارنب، وأما الروايات الدالّة على أن الحصر في الآية حقيقي، فغير معمول بها عندنا فهي إما مطروحة او مؤوّلة.

وقد ذكر في موضع آخر أن الحرمة اخصّ من النهي الالزامي، وما يظهر منها الآن أعم مما كان يظهر منها في عصر الأئمة (عليهم السلام) فانه كان الحرام يطلق آنذاك على ما كان ثابتا بالكتاب والسنة القطعية، ويظهر هذا المعنى من الحرام من جملة من الروايات ايضا.

ففي رواية الحسن بن علي بن أبي حمزة عن أبيه عن علي بن يقطين قال: سأل المهدي أبا الحسن (عليه السلام) عن الخمر هل هي محرمة في كتاب الله؟ فان الناس يعرفون النهى عنها ولا يعرفون التحريم لها…([7])، ولا يقدح ضعف سند الرواية بالحسن بن علي بن ابي حمزة وابيه، فهب انها موضوعة من الحسن، ولكنها تدل على تفكيك اصطلاح الحرام والمنهي عنه في تلك الأعصار، ثم ذكر مثل صحيحة محمد بن مسلم السابقة، فيظهر بالتامل في الروايات ان عنوان الحرام كان خاصا بما حرم الله في كتابه او حرّمه رسوله بدليل قاطع، ولأجل ذلك التزم بأن ما ورد في موثقة ابن بكير من ان الصلاة في كل شيء حرام اكله فاسد([8]) لا يشمل الا الصلاة في أجزاء الخنزير حيث حرمه الله في كتابه، والسباع حيث حرّمه رسوله (صلى‌الله‌ عليه‌ وآله) دون مطلق ما حرم أكله في الروايات مثل الجلّال والموطوء ونحوهما، والحاصل ان الحرام في مصطلح الروايات هو ما كان حراما في القرآن والسنة القطعية ويطلق على غيره المكروه او المنهي عنه.

اقول: يمكن أن يراد من الحصر في الآية الكريمة حصر الحرام الإلهي الى زمان نزول الآية فيما يتعارف اكله في المذكورات، ولذا لم يذكر الكلب لأنه لم يكن مما يتعارف اكله، كما أنه لا ينفي تحريم النبي (صلى الله عليه وآله) لبعض الاشياء، والروايات الظاهرة في حصر الحرام فيما حرم الله في القرآن لابد أن تحمل على التقية، لضرورة كثرة الأطعمة والاشربة المحرمة التي لم ترد في القرآن، كالمسكرات غير الخمر، وكل سمك لا فلس له، والسباع والمسوخ، فهذا المضمون موافق للعامة، وقد ورد في موثقة عبيد بن زرارة عن ابي عبد الله (عليه السلام) ما سمعته مني يشبه قول الناس ففيه التقية([9])، وقد أوّل الشيخ الطوسي “ره” هذه الروايات بأن المعنى أنه ليس الحرام المغلظ الشديد الخطر إلا ما ذكره الله في القرآن وإن كان فيما عداه محرمات كثيرة إلا أنها دونه في التغليظ([10]).

اربعة وجوه فی أن الاصل في اللحوم الحرمة

وعليه فيشكل التمسك بعمومات الحلّ، وأما الرجوع الى قاعدة الحلّ، فقد منع منه الشهيد “ره” وذهب الى أن الاصل في اللحوم الحرمة، ويمكن أن يذكر له اربعة وجوه:

1- ما قد يقال من أن الظاهر من قوله تعالى “يسألونك ماذا أحلّ لهم قل أحلّ لكم الطيبيات، ان الحلال هو الطيبات دون غيرها، فاستصحاب عدم الطيب يخرج المشكوك عن الحلية، او يتمسك بقاعدة أسسها المحقق النائيني “قده” وهي لزوم التمسك بالعام المتضمن لحكم الزامي في الشبهة المصداقية لمخصصه الترخيصي في الحرام، كقوله “لا تكرم احدا الا من كان هاشميا”.

ولكن هذه القاعدة ممنوعة، والطيّب هو الطيّب العرفي، ولحم الارنب مثلا طيّب عرفي، وليس المراد الطيّب الشرعي والا لصار قضية ضرورية بشرط المحمول، كما أنه لا يناسب أن يكون موضوع تشريع الحلية هو الطيّب الواقعي، والذي يكون من الامر المبهم الذي لا يدركه الناس عادة، وأما اجراء استصحاب عدم الطيب بنحو العدم الازلي فمضافا الى توقفه على قبول جريان الاستصحاب في الاعدام الازلية، يمكن أن يقال ان الطيب من عوارض المهية عرفا، فلحم الشاة طيب عرفا، وجد او لم يوجد، والخنفساء خبيث عرفا وجد او لم يوجد، فلا حالة سابقة للمشكوك كي تستصحب.

2- ما ذكره المحقق الاصفهاني “قده” من أن موضوع حلية اللحم مرتبة من التذكية، وهي منفية بالاستصحاب.

ولكنه مندفع بعدم شاهد على ما ذكره، بل الظاهر عرفا أن التذكية شيء واحد، يثبت للحيوان المحلل او المحرم كالسباع على نحو واحد، كما يشهد لذلك معتبرة ابن بكير حيث كرّر فيها استعمال التذكية في كل منهما، وظاهره أنه بمعنى واحد.

3- قد يستفاد من بعض الروايات حصر اللحم الحلال في بهيمة الانعام، فقد روى البرقي في محاسنه عن أبيه عن محمد بن يحيى الخزاز عن غياث([11]) عن أبي عبد الله عن آبائه عن علي (عليهم السلام) أنه سئل عن لحم الفيل فقال ليس من بهيمة الأنعام([12])، فيستفاد من جواب الامام (عليه السلام) أن كل لحم ليس من بهيمة الانعام فليس بحلال، ولعله لاجل هذه الرواية ذكر الشهيد ان الاصل في اللحوم الحرمة.

ولكن يرد عليه أنه لم يذكر فيه حكم ما ليس ببهيمة الانعام، فلعله هو عدم الحلّ بالمعنى الاخص، المستفاد من قوله تعالى “احلت لكم بهيمة الانعام” فيجتمع مع الكراهة، وهذا لا ينافي ثبوت الحرمة في لحم الفيل واقعا.

هذا مع ان البهيمة مجملة مفهوما، فان كان المراد منها خصوص الاهلي من الحيوانات لم يكن الحصر حقيقيا، حيث انه لم يكن جميع الحيوانات غير الاهلية حراما.

4- انه يوجد أصل حاكم عليها، وهو استصحاب بقاء حرمة الاكل الثابتة حال حياة الحيوان.

مناقشات

وفيه اولاً: أن حدوث حرمة الأكل حال حياة الحيوان غير معلوم، فان قوله “الا ما ذكيتم” ظاهر في الاستثناء عن الحيوان الزاهق الروح، فلو بلع سمكا صغيرا حيّا داخل الماء فلا دليل على حرمته، وأما لو اخرجه من الماء فهو مذكى فيجوز بلعه حيّا، فما في مصباح الاصول من أن تذكية السمك بموته خارج الماء لا بمجرد اخراجه منه، ولذا التزموا بعدم جواز اكل القطعة المبانة من السمك الحي بعد اخراجه من الماء حيا([13])، ففيه أن مقتضى اطلاق ما دلّ على أن ذكاة السمك اخراجه من الماء حيا، عدم اعتبار موته، ولذا لا مانع من الحكم بجواز اكل تلك القطعة المبانة، وقد افتى هو “قده” في المنهاج أنه إذا أخرج السمك من الماء حيا فقطع منه قطعة وهو حي وألقى الباقي في الماء فمات فيه حلت القطعة المبانة منه وحرم الباقي([14]).

وكيف كان فلا دليل على حرمة اكل الحيوان الحي ان امكن، بل جعل الحرمة فيما لا يمكن بلعه حيّا لغو محض.

وثانيا: من المحتمل كون الحرمة ثابتة لعنوان الحيوان المتقوم بالحياة، والموجود بعد زهاق الروح ليس الا اللحم، دون الحيوان، فلا يجري الاستصحاب لتعدد الموضوع، نعم لو احرز كون الحرمة ثابتة لعنوان اللحم فبناء على جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية يجري استصحاب الحرمة، (مع عدم جريان عموم الحل) ويكون هذا من قبيل استصحاب القسم الثاني من الكلي، حيث لا يعلم ان الحرمة الثابتة لهذا اللحم المشكوك هل هي الحرمة المغياة بعدم التذكية ام هي الحرمة الذاتية المطلقة، نعم لو علم بأنه في اللحم المحرم ذاتا يثبت حرمتان، احديهما لأجل عدم تذكيته، وثانيتهما: لأجل كونه لحما محرما ذاتا، فيكون استصحاب كلي الحرمة من قبيل استصحاب القسم الثالث من الكلي.

وعليه فالصحيح الحكم بحلية اللحم في هذه الصورة.

الصورة الثانية: كون الشك في حرمة اللحم لاجل الشك في قابلية الحيوان للتذكية ذاتا

وأما الصورة الثانية: فهي كون الشك في حرمة اللحم لاجل الشك في قابلية الحيوان للتذكية ذاتا، فالكلام يقع تارة فيما لو كانت الشبهة حكمية، كما في الشكّ في قابلية المسوخ مثل القرد، او سباع الطيور للتذكية، وأخرى فيما لو كانت الشبهة موضوعية، كما لو شكّ في كون المذبوح شاة او كلبا.

الشكّ في القابلية الذاتية للتذكية بنحو الشبهة الحكمية

أما الشكّ في قابلية الحيوان للتذكية ذاتا بنحو الشبهة الحكمية فالمشهور بين الألسنة جريان استصحاب عدم التذكية لاثبات حرمة الأكل، ولكن يورد عليه بعدة ايرادات:

الايراد الاول:

ما ذكره صاحب الجواهر “ره” من وجود عموم يقتضي قابلية كل حيوان للتذكية، وهو ظاهر معتبرة ابن بكير حيث ان مفاد قوله “فان كان غير ذلك مما نهيت عن أكله وحرم عليك أكله فالصلاة في كل‌ شي‌ء منه فاسدة، ذكاه الذابح أو لم يذكه” هو أن الذبح تذكية لكل حيوان، وكذا لو كانت الرواية “ذكاه الذبح او لم يذكه” بناء على أن المراد منه ذبح أو لم يذبح، وأظهر منه‌ صحيحة علي بن يقطين قال: “سألت أبا الحسن (عليه السلام) عن لباس الفراء والسمور والفنك والثعالب وجميع الجلود قال: لا بأس بذلك” إذ لو لم تقبل التذكية كانت ميتة لا يجوز لبسها([15]).

اقول: الظاهر عدم تمامية الاستدلال بهاتين الروايتين، أما معتبرة ابن بكير فلا يستفاد منها قابلية كل حيوان للتذكية، فان قوله “و أما ما حرم عليك اكله فالصلاة فيه فاسد، ذكاه الذبح او لم يذكه” لا يعني أن كل حيوان قابلا لأن يذكّيه الذبح، بل يمكن أن لا يذكّيه الذبح، لأجل عدم قابليته للتذكية.

وأما صحيحة علي بن يقطين فالاستدلال بها على قابلية كل حيوان ذي جلد للتذكية يكون بثلاث تقاريب:

1- ما ذكره السيد الخوئي “قده” في بحث الطهارة من أن معنى نفي البأس في جميع الجلود أنه لا مانع من لبسها مطلقاً ولو في حال الصلاة، فتدلّ بالدلالة الالتزامية على تذكيتها، إذ لو لم تكن كذلك لم يجز لبسها إما مطلقاً لو قلنا بعدم جواز الانتفاع بالميتة أو في خصوص حال الصلاة، فما نقطع بوقوع التذكية عليه مع الشك في قابليته لها فعموم نفي البأس في جميع الجلود يشمله، وبه نحكم بقبول كل حيوان للتذكية إلّا ما خرج بالدليل، ومع هذا العموم لا مجال لاستصحاب عدم التذكية([16]).

وفيه أنه كما ذكر في بحث لباس المصلي أن صحيحة ابن يقطين ناظرة إلى مجرد اللبس، وغير متعرضة للصلاة([17])، فنفي البأس فيها ناظر الى الحكم التكليفي للبس الجلود في حد ذاته، من غير نظر الى حيث مانعيته في الصلاة وعدمها، فالاستدلال باطلاقها لاثبات الحلية الوضعية للبسها في الصلاة نظير التمسك باطلاق دليل حلية اكل الجبن، لاثبات حليته الوضعية وعدم مانعيته في الصلاة، على أن لبس أجزاء الحيوان الذي يحرم اكله مانع في الصلاة جزما، فهو خارج عن مورد الصحيحة، ومما يؤكد ما ذكرناه أنه ذكر في السؤال بعض الحيوانات المحرمة كالثعلب.

2- أن يقال: انه بناء على حرمة الانتفاع بالميتة يثبت عدم كون جلد الحيوان الذي اجريت عليه عملية التذكية جلد الميتة، ولكن الصحيح جواز الانتفاع بالميتة.

وقد يورد على هذين التقريبين بأنه بعد ورود الدليل على عدم الانتقاع بالميتة وحرمة الصلاة فيها فيكون المشكوك شبهة مصداقية للمخصص المنفصل، فلا يمكن التمسك فيه بالعموم، وفيه أن العرف يستظهر من هذا العموم كونه بصدد بيان أن جلد كل نوع من انواع الحيوانات ليس جلد الميتة، فهو من قبيل ما لو امر المولى باكرام جماعة معينة، وقد ورد عنه في خطاب آخر النهي عن اكرام الفاسق، فانه يظهر من الخطاب الاول أن المولى بنفسه تصدى لاحراز أنه ليس بين تلك الجماعة فاسق والا لما امر باكرامهم مطلقا.

3- أن يقال بأن الانتفاع بالميتة وان لم يحرم بحرمة نفسية، لكن حيث يكون المكلف في معرض الابتلاء بالنجاسة فلا يناسب نفي البأس عن الانتفاع بها، وقد ورد في رواية الحسين بن محمد عن معلى بن محمد عن الحسن بن علي قال: سألت أبا الحسن (عليه السلام) فقلت جعلت فداك إن أهل الجبل تثقل عندهم أليات الغنم فيقطعونها قال هي حرام قلت فنستصبح بها قال أ ما تعلم أنه يصيب اليد والثوب وهو حرام([18])، وعليه فيكون نفي البأس عن لبس الجلود ظاهرا في عدم كونه ميتة.

وفيه أن لبس الجلد ليس مثل الانتفاع بدهن الميتة ولو في الاستصباح، فانه لا يخلو عن تنجيس المكلف، بخلاف لبس جلد الميتة.

وعليه فيمكن أن يكون نفي البأس عن لبس الجلود من باب أنها ولو كانت جلود الميتة جاز لبسها، وعلى اي تقدير لا تشمل هذه الصحيحة مثل سباع الطيور التي ليس لها جلد ينتفع به.

والمقدار الذي دل عليه الدليل هو قابلية بهيمة الانعام والخيل والبغال والحمر الاهلية والوحشية، والسباع من حيوانات البرّ للتذكية، والجراد والسمك حيث ورد أن ذكاة الجراد اخذه حياً، وذكاة السمك اخراجه من الماء حياً، وان كان قد لا يوجد اثر ظاهر لذكاة السمك الذي لا فلس له، لكونه طاهرا ولو كان ميتة، وحراما ولو حكم بتذكيته، وأما المسوخ كالفيل والدبّ والقرد فلا دليل على قابليته للتذكية، وكذا السباع من الطيور.

هذا وقد ذكر شيخنا الاستاذ “قده” أنه يمكن الاستدلال على قبول كل حيوان للتذكية برواية علي بن محمد عن عبد الله بن اسحق العلوي عن الحسن بن علي عن محمد بن سليمان الديلمي عن علي بن أبي حمزة قال سألت أبا عبد اللّه وأبا الحسن (عليهما السلام) عن لباس الفراء والصلاة فيها؟ فقال: لا تصلّ فيها إلّا فيما كان منه ذكيا، قال قلت: أ وليس الذكي مما ذكّي بالحديد؟، قال: بلى، إذا كان مما يؤكل لحمه([19])، فإن ظاهرها كون ذبح الحيوان بالحديد ذكاته، وقوله “إذا كان مما يؤكل لحمه” راجع إلى جواز الصلاة، وليس بقيد للذكاة ليكون جواز أكل الحيوان مأخوذاً في ذكاته، ولكنها لضعف سندها غير صالحة للاعتماد عليها([20]).

وفيه أنها ليست ظاهرة في كفاية الذبح بالحديد في تحقق الذكاة مطلقا من دون اعتبار القابلية في المذبوح، بل قد يكون المراد منها السؤال عن شرطية الذبح بالحديد، خصوصا وأنه لم يرد التعبير بأنه أ وليس الذكي ما ذبح بالحديد، وانما ورد بأنه أ وليس الذكي ما ذكي بالحديد، وصدقه على الخنزير المذبوح اول الكلام.

الايراد الثاني:

ان جريان استصحاب عدم التذكية لاثبات حرمة اللحم متوقف على تنقيح معنى التذكية، فانه يوجدفي معنى التذكية عدة احتمالات:

الاحتمال الاول: ما ذكره المحقق النائيني “قده” من أن التذكية ليست الا فعل المكلف مع الشرائط الخاصة، من دون اخذ قابلية الحيوان، ومعه فلا مجال لاستصحاب عدم التذكية بعد احراز وقوع التذكية على الحيوان، وان شكّ في تأثيرها في طهارة المذبوح وحليته.

وقد استظهر المحقق النائيني “قده” هذا الاحتمال من قوله تعالى “إلّا ما ذكّيتم” بدعوى أنّ نسبة التذكية إلى المكلفين تدل على أنّها من فعلهم([21]).

وفيه اولا: النقض بأن لازم ما ذكره صدق المذكى على الكلب او الخنزير المذبوحين، مع أنه خلاف الارتكاز المتشرعي، فهو لا يقبل أن يكون الكلب المذبوح مع التسمية مذكى، و لا تكون الشاة المذبوحة من دون تسمية بمذكى.

وثانيا: الحلّ بأنه يكفي في استناد التذكية الى المكلف هو كون ذكاة الحيوان فعلا توليديا له، فيمكن أن تكون التذكية مثل التطهير الذي هو ايجاد الطهارة التي لا اشكال في كونها امرا مسببا عن غسل المتنجس بالماء مثلا، مع أن التطهير يستند الى المكلف نفسه، بل يمكن ان يكون التذكية هو الفعل المباشري للمكلف ولكنه هو الذبح الخاص، مثل ان البيع تمليك خاص، وهو الذبح الواقع على حيوان خاص، فيشك في كون ذبح المسوخ تذكية ام لا، حيث اخذ في مفهوم التذكية هذا القيد عرفا او شرعا.

وثالثا: ان كون التذكية هو الذبح مخالف لما في معتبرة ابن بكير من قوله “ذكاه الذبح” وقوله “ذكاه الذبح ام لم يذكه” فانه لا معنى لأن يقال “ذبحه الذبح” وما في الجواهر من نقل “ذكاه الذابح” و”ذكاه الذابح ام لم يذكه” فلم نجده في النسخ التي بايدينا من الكتب الروائية، نعم هو موافق لما في كتاب المعتبر للمحقق الحلي “ره”، وبناء على نقل المعارج تكون المعتبرة مثل الآية ولا يظهر منها شيء.

كما أنه مخالف لمثل موثقة عبد الله بن بكير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) الرجل يبول، ولا يكون عنده الماء، فيمسح ذكره بالحائط، قال كل شي‌ء يابس ذكي([22])، فان من الواضح أنه ليس معنى الذكاة فيه الذبح وما شابهه، وانما المراد منه أنه طاهر ولو ادعاء بلحاظ عدم تنجيسه لما يلاقيه، وهكذا نقل ابن اثير في موضع أن فى حديث محمد بن على (يعني الباقر عليه السلام) ذكاة الأرض يبسها: يريد طهارتها من النجاسة، جعل يبسها من النجاسة الرطبة فى التطهير بمنزلة تذكية الشاة فى الإحلال؛ لأن الذبح يطهرها ويحل أكلها([23])، ولكن رواها في موضع آخر عن الباقر (عليه السلام) “زكاة الأرض يبسها” ‌يريد طهارتها من النجاسة كالبول وأشباهه بأن يجف ويذهب اثره([24])، وهكذا قوله “”إن كان الوبر ذكيا حلت الصلاة فيه إن شاء الله([25])” وقوله “كل شي‌ء يحل لحمه فلا بأس بلبس جلده الذكي منه وصوفه وشعره ووبره، وإن كان الصوف والشعر والريش والوبر من الميتة وغير الميتة ذكيا، فلا بأس بلبس ذلك والصلاة فيه([26])، وقوله “عشرة أشياء من الميتة ذكية: القرن والحافر والعظم والسن والإنفحة واللبن والشعر والصوف والريش والبيض([27])، وفي رواية إسماعيل بن مرار عن يونس عنهم (عليهم السلام) قالوا خمسة أشياء ذكية مما فيه منافع الخلق الإنفحة والبيض والصوف والشعر والوبر([28])، وفي رواية حريز “اللبن واللبأ والبيضة والشعر والصوف والقرن والناب والحافر وكل شي‌ء يفصل من الشاة والدابة فهو ذكي وإن أخذته منه بعد أن يموت فاغسله وصل فيه([29])، وفي رواية الحسين بن زرارة قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) وأبي يسأله عن السن من الميتة والبيضة من الميتة وإنفحة الميتة فقال كل هذا ذكي، قال الكليني وزاد فيه علي بن عقبة وعلي بن الحسن بن رباط قال: والشعر والصوف كله ذكي([30])، وفي رواية عبد الرحمن بن الحجاج قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) إني أدخل سوق المسلمين أعني هذا الخلق الذين يدعون الإسلام، فأشتري منهم الفراء للتجارة، فأقول لصاحبها أ ليس هي ذكية، فيقول بلى فهل يصلح لي أن أبيعها على أنها ذكية، فقال لا ولكن لا بأس أن تبيعها وتقول قد شرط لي الذي اشتريتها منه أنها ذكية قلت وما أفسد ذلك قال استحلال أهل العراق للميتة وزعموا أن دباغ جلد الميتة ذكاته ثم لم يرضوا أن يكذبوا في ذلك إلا على رسول الله (صلى الله عليه وآله)([31]).

وفي رواية الفضل بن شاذان عن الرضا (عليه السلام) قال: إنما لم يجب الغسل على من مس شيئا من الأموات غير الإنسان كالطيور والبهائم والسباع وغير ذلك، لأن هذه الأشياء كلها ملبسة ريشا وصوفا وشعرا ووبرا، وهذا كله ذكي لا يموت، وإنما يماس منه الشي‌ء الذي هو ذكي من الحي والميت([32]).

ورواية أحمد بن محمد بن أبي نصر عن الرضا (عليه السلام) قال: سألته عن الخفاف يأتي السوق فيشتري الخف لا يدري أ ذكي هو أم لا([33])، ونحوها رواية الحسن بن الجهم قال: قلت لأبي الحسن (عليه السلام) أعترض السوق فأشتري خفا لا أدري أ ذكي هو أم لا([34])، وكذا رواية جعفر بن محمد بن يونس أن أباه كتب إلى أبي الحسن (عليه السلام) يسأله عن الفرو والخف ألبسه وأصلي فيه ولا أعلم أنه ذكي فكتب لا بأس به([35])، وفي رواية أحمد بن محمد بن أبي نصر عن أبي جرير القمي قال: سألت الرضا (عليه السلام) عن الريش أ ذكي هو فقال كان أبي يتوسد الريش([36])، وفي رواية أبي البختري عن جعفر عن أبيه (عليه السلام) أن عليا (عليه السلام) قال: غسل الصوف الميت ذكاته([37])، وقوله “الحوت ذكي حيه وميته”.

ورواية أنس بن عياض عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليهما السلام) أن عليا (عليه السلام) كان يقول الجراد ذكي والحيتان ذكي فما مات في البحر فهو ميت، ونحوها رواية عمر بن هارون الثقفي([38]).

فيتضح من خلال هذه الروايات واشباهها أن الذكاة ليست بمعنى الذبح ونحوه، فانه لا يوصف الشيء اليايس او الارض اليابسة او الوبر او الصوف او الشعر او الريش او البيض او الجلد وما شابه ذلك بكونه مذبوحا، ويدلّ عليه ايضا ما قد يقال “رائحة ذكية” أي طيّبة، وفي الحديث “أذك بالادب قلبك، كما تُذكى النار بالحطب([39]) فقد فسّره في مجمع البحرين بقوله “أي طهره ونظفه عن الأدناس والرذائل([40])، كما يقال: أَرضٌ زَكِيَّةٌ وفسّره في تاج العروس بقوله: طَيِّبَةٌ سَمِينَةٌ([41])، ويؤيد ذلك ايضا قوله (عليه السّلام) “ذكاة الجنين ذكاة أمّه” اذ لا يناسب أن يقال ذبح الامّ ذبح لجنينه”.

وما ورد في كلمات بعض اللغويين مما قد يلوح منه تفسير التذكية بالذبح (مثل ما ذكر الخليل في كتاب العين: التذكية في الصيد والذبح إذا ذكرت اسم الله وذبحته، ومنه قوله تعالى‏: إلا ما ذكيتم‏، وذكر الراغب في المفردات: ذكيت‏ الشاة: ذبحتها، وحقيقة التذكية: إخراج الحرارة الغريزية، وذكر ابن اثير في النهاية: التذكية: الذبح والنحر، يقال: ذكيت الشاة تذكية، والاسم الذكاة، والمذبوح ذكي، وذكر الطريحي في مجمع البحرين: قوله تعالى: إلا ما ذكيتم أي إلا ما أدركتم ذبحه على التمام، ومعنى “ذكيتم” ذبحتم، أي قطعتم الأوداج وذكرتم اسم الله عليه إذا ذبحتموه، و”التذكية” الذبح والنحر، والاسم الذكاة، والمذبوح ذكي) فليس ظاهرا في اكثر من بيان مصاديق التذكية بالاجمال، كما هو دأبهم من تفسير المفهوم بذكر المصداق، فلا يستفاد منه صدق التذكية على وقوع الذبح مع التسمية في الحيوان الذي لا يؤثر في حليته او طهارته ابدا، كالكلب والخنزير او الحشرات، على أن قول اللغوي ليس بحجة بالتوضيح الذي مرّ في محّله.

وعليه فليست الذكاة والتذكية مرادفة لمعنى الذبح ونحوه، وبذلك تبين بطلان الاحتمال الاول.

هذا وأما ما حكي عن السيد الخوئي “قده” أنه استدلّ في بعض كلماته على صحة هذا الاحتمال الاول برواية علي بن ابي حمزة السابقة بدعوى أن الظاهر من قوله “بلى” في جواب “أ وليس الذكي ما ذكي بالحديد” هو أن التذكية فعل المكلف وهو الذبح بالحديد([42])، وفيه أنه لا يستفاد من الرواية كون الذكاة مطلق الذبح بالحديد، ولو لم يكن الحيوان قابلا للتذكية، كما مر سابقا.

الاحتمال الثاني: ما هو ظاهر المشهور من كون التذكية امرا مسببا عن وقوع الذبح او الصيد بشرائطهما على الحيوان الخاصّ الذي يعبر عنه بالحيوان القابل للتذكية.

وبناء على هذا المعنى يتم دعوى جريان استصحاب عدم التذكية فيما اذا شك في قابلية الحيوان المذبوح للتذكية.

ويمكن أن يستدل على هذا المعنى بما في معتبرة ابن بكير من قوله “ذكاه الذبح، ام لم يذكه”، فان ظاهره أن الذكاة مسببة من الذبح، وهذا يعني وجود حالة اعتبارية بسيطة في الحيوان تحصل بسبب الذبح.

كما يقال بأن التذكية هي ايجاد الذكاة، فالاختلاف بينهما بالاعتبار، كاخـتلاف الايجاد والوجود، وحيث ان الظاهر كون الذكاة هو الطهارة والطيب والنقاء عمّا يوجب النفرة، والذبح ونحوه يكون علة ايجاد تلك الحالة في الحيوان، وليس نفس ايجادها، فيكون ايجاد تلك الحالة أي التذكية مسببة عن الذبح الخاص في حيوان خاصّ.

وقد اشكل بعض الاعلام “قده” على هذا الاحتمال الثاني وهو كون التذكية امرا بسيطا مسببا عن هذه الافعال في المحل القابل، بأنه إما ان يكون ذلك الامر البسيط امرا واقعيا تكوينيا أو يكون أمرا اعتباريا مجعولا، أما الأول: فممنوع للجزم بعدم وجود أثر واقعي يختلف الحال فيه وجودا وعدما بقول بسم اللّه وعدمه، وأما الثاني: فهو يقتضي فرض حكم وضعي متوسط بين الأفعال الخاصة والحكم الوضعي بالطهارة والتكليفي بالحلية، وهو مما ليس له اثر فيكون لغوا([43]).

ويلاحظ عليه أن اشكاله على كون الامر البسيط المسبب تكوينيا صحيح، لكن اشكاله على كونه امرا اعتباريا شرعيا غير صحيح، اذ لا مانع لأجل تنظيم قانون طهارة الحيوان المذبوح الواجد لشرائط خاصة وسهولة تفهيمه للناس أن يجعل الطهارة لحيوان تحقق فيه الذكاة ثم يعتبر تحقق الذكاة عقيب افعال خاصة في موارد مختلفة، والا فيأتي اشكال اللغوية في جعل جميع الاحكام الوضعية كالزوجية والملكية والقضاوة وما اشبه ذلك.

فهذا الاحتمال الثاني لمعنى التذكية معقول، بل هو ظاهر معتبرة ابن بكير، لكن الذي يمنعنا من اختياره أنه توجد عدة روايات طبّقت الذكاة على نفس العملية التي يقوم بها المكلف، من صيد او ذبح ونحوهما، في حيوان خاصّ مما يترتب عليه أثر كالطهارة او حلية الاكل، ومن جملة تلك الروايات قوله (عليه السلام) “إذا أرسلت الكلب المعلم فاذكر اسم الله عليه فهو ذكاته”([44])، وقوله “أ وليس قد جامعوكم على أن قتله –أي قتل الكلب المعلم- ذكاته”([45])، وصحيحة علي بن جعفر في كتابه عن أخيه موسى بن جعفر (عليهما السلام) قال: سألته عما أصاب المجوس من الجراد والسمك أ يحلّ ‌أكله، قال صيده ذكاته لا بأس([46]).

ومقتضى هذه الروايات كون النسبة بين الذكاة وتلك العملية نسبة العنوان الى المعنون، كما قال جمع مثل السيد الخوئي “قده” بذلك في نسبة عنوان الطهارة الى الوضوء والغسل والتيمم، وتكون التذكية ايجاد هذه العملية، فيكون المراد من الحيوان الذكي هو الحيوان الذي تحققت فيه الذكاة أي تلك العملية، نعم لو وصف الجلد او الوبر او البيض بكونه ذكيا فيراد به نفس معنى كونه طاهرا.

وحمل هذه الروايات على التجوز بارادة كون التسمية او قتل الكلب المعلم او صيد السمك والجراد سببا للذكاة، من باب اطلاق اسم المسبب على سببه، ليس باولى من حمل معتبرة ابن بكير على التجوز من جهة أن الذكاة وان كانت عنوانا منطبقا على عملية خاصّة لحيوان خاصّ، لكن قيل بأن الذبح اوجد الذكاة، حيث ان وجود هذا العنوان تابع لوجود معنونه، فكأنه اوجد المعنون أي الذبح ذاك العنوان، نظير ما لو قيل أن قيامك أمام الضيف حين مجيئه موجب لتعظيمه، مع أن التعظيم عنوان منطبق على نفس هذا القيام، وليس علة له حقيقة، فلا يتم دعوى أن قوله في الروايات السابقة “ان قتله ذكاته” او “صيده ذكاته” يكون من باب حمل اسم المسبب على السبب، وشاهده أن الصيد ونحوه فعل المكلف، وحمله على الذكاة التي ليست فعل المكلف وانما هي ظاهرة في حالة حاصلة للحيوان، يحتاج الى مؤونة وعناية زائدة، فلا يدرى أن هذه المؤونة والعناية هي عناية التطبيق التعبدي بتطبيق الذكاة تعبدا على فعل المكلف بل لعلها عناية حمل اسم المسبب على السبب، فيحتمل كون المراد به أن صيده سبب لذكاته، وحينئذ فتكون معتبرة ابن بكير “ذكاه الذبح” قرينة على هذا الاحتمال الثاني.

فالانصاف أن الجزم بهذا المعنى الثاني الذي هو مسلك المشهور مشكل بعد وجود هذه الروايات.

هذا وأما الجواب عن هذا الاحتمال الاول (بقبول أن الذكاة امر بسيط مسبب من ذبح الحيوان الخاص، لكن عنوان التذكية الذي هو الموضوع للحلّ في مثل قوله تعالى “الا ما ذكيتم” منطبق على نفس السبب، فلا يكون مجال لجريان استصحاب عدم التذكية كما يتضح في تقريب الاحتمال الثالث، قياسا للمقام بما قلناه في بحث الطهارات الثلاث من أن الطهارة وان كانت مسببة عن الوضوء والتيمم والغسل، لما ورد من الروايات من التعبير بأنه دخل في الصلاة بطهر بتيمم، وظاهر الباء السببية والآلية، بل نفس تطبيق الطهور على الوضوء والغسل والتيمم في الروايات ظاهر في ذلك، حيث ان الطهور ليس هو الطهارة، وانما هو ما يتطهر به كالوقود الذي هو ما يتوقد به والسحور الذي هو ما يتسحر به، الا أنه يحتمل أن يكون شرط الصلاة هو نفس الطهور -لا الطهارة المسببة منه- ان لم يظهر ذلك من آية “اذا قمتم الى الصلاة فاغسلوا وجوهكم…” والروايات الدالة على أنه لا صلاة الا بطهور، وعليه فيمكن الرجوع الى البراءة في الشك في اشتراط الوضوء مثلا بشيء، ولا يضر بما ذكر وجود روايات فرض فيها حلية الحيوان الذكي في قبال الميت، فانه لو لم يتعين تقديم الآية الكريمة لكون الروايات في طولها فغايته اجمال النصوص في أن موضوع الحرمة الحيوان الذي ليس بذكي او الحيوان الذي ليس بمذكى، والاجمال كافٍ في امكان الرجوع الى الاصل الحكمي من قاعدة الحل والطهارة بعد عدم احراز جريان استصحاب عدم التذكية كأصل موضوعي منقح لموضوع الحرمة والنجاسة).

فغير متجه، فان التذكية ليست الا ايجاد الذكاة، والاختلاف بينهما كاختلاف الايجاد والوجود واين هذا من الطهور الذي هي آلة التطهير، فالحيوان المذكى ليس الا ما وجد فيه الذكاة، ولا أقل من أن يكون ما ذكرناه مقتضى الجمع بين مثل قوله تعالى “الا ما ذكيتم” وبين الروايات الكثيرة الواردة في كون موضوع الحلية الحيوان الذكي.

فالمهم في المنع عن مسلك المشهور من جريان استصحاب عدم التذكية عدم تعين الاحتمال الثاني في قبال الاحتمال الثالث.

الاحتمال الثالث: ما اختاره جماعة من كون التذكية عنوانا منطبقا على نفس الفعل الخاصّ الواقع على حيوان خاص يعبر عنه بكونه قابلا للتذكية، ويكون هذا القول نظير القول بكون الطهارة من الحدث عنوانا منطبقا على نفس الوضوء والغسل والتيمم، لا امرا مسببا عنها، فكما تجري البراءة هناك في موارد الشك -في جزئية شيء او شرطيته او مانعيته في تلك الافعال- فكذلك تجري البراءة هنا في موارد الشك، حيث لا يدرى أن الكنغر المذبوح هل هو حرام ام حلال فتجري قاعدة الحل، كما تجري قاعدة الطهارة فيه لنفي احتمال نجاسته.

وقد اورد بعض الاعلام “قده” على هذا الاحتمال أنه ان اريد من كون التذكية عبارة عن المركب من الأفعال الخاصة ومن قابلية المحل، كون قابلية المحل مأخوذة في معنى التذكية بنحو الجزئية، ففيه أن التذكية من المعاني الحدثية، ولا معنى لأن تكون القابلية التي ليست من المعاني الحدثية، بل هي من الجوامد، جزءً لها.

وان اريد منه كون قابلية المحل شرطا بأن تكون التذكية الافعال الخاصة في المورد القابل، فيرد عليه أنه لا يتلاءم مع بعض استعمالات لفظ التذكية في النصوص، وذلك كاستعمالها بإضافتها ونسبتها إلى المورد المعلوم القابلية كالغنم فيقال: “ذكّاه الذابح” وفي مثله لا يمكن ان يراد منه الذبح في المورد القابل، فانه لا معنى لأن يكون قوله “ذكّ الغنم” مرادفا لقوله “اذبح في المورد القابل الغنمَ”([47]).

اقول: اشكاله على جزئية القابلية صحيح، ولكن اشكاله على الشرطية غير متجه، فانه نظير تعريف البيع بأنه تمليك العين بعوض، حيث يعني وضع لفظ البيع على حصة خاصة من التمليك وهي الحصة التي يكون متعلقها العين، ولكنه لايعني كون معنى بيع العين تمليك العين بالعوض، وعليه فالتذكية تكون حصة خاصة من الذبح، وهي الحصة من الذبح التي تقع على الحيوان المخصوص كالشاة دون الخنزير.

فهذا الاحتمال الثالث ايضا معقول، ونحن وان لم نجزم بتعين هذا الاحتمال الثالث لمعنى التذكية، لكن احتماله كافٍ للرجوع الى قاعدة الحل والطهارة في مشكوك التذكية، بعد أن لم نحرز جريان اصل موضوعي حاكم عليه وهو استصحاب عدم التذكية.

وأما ما ذكره السيد الخوئي “قده” من أنه بناء على هذا المعنى من كون التذكية مركبة من الذبح بشرائطه ومن قابلية المحل، فيجري ايضا استصحاب عدم تحقق التذكية([48])، ففيه أنه بناء على هذا المعنى تكون التذكية عنوانا منطبقا على موضوع خارجي مركب، وهو ذبح الحيوان القابل، فاذا ذبح ما يشكّ في قابليته، كالحيوان المتولد من الشاة والخنزير، فان اريد من استصحاب عدم تذكيته استصحاب عدم اعتبار الشارع ذبحه تذكية، ففيه اولاً: النقض بموارد الشك في شرطية شيء كتقديم مسح الرجل اليمنى على اليسرى، في الوضوء ونحوه، فانه قد التزم بجريان البراءة عن شرطيته، بتقريب أن الطهارة التي هي شرط في الصلاة عنوان منطبق على الوضوء، وليس امرا مسببا عنه، مع أن شبهة جريان استصحاب عدم اعتبار الشارع الطهارة للوضوء لفاقد لما يشك في شرطيته موجودة فيه، ولأجل ذلك ذكر بعض الاعلام “قده” أن انطباق عنوان الطهارة على الوضوء الفاقد للشرط المشكوك غير معلوم، فيكون من الشك في حصول الطهارة التي هي شرط الصلاة، فتجري فيه قاعدة الاشتغال، وان سلّمنا كون نسبة الطهارة الى الوضوء نسبة العنوان الى المعنون لا المسبب الى السبب([49]).

وثانيا: ان ظاهر جعل الحكم على العنوان كونه مشيرا الى معنونه، فالأمر بالطهارة عرفا يكون امرا بواقع معنونها وهو الوضوء الذي يدور امره بين الاقل والاكثر، نظير ما لو امر المولى بتعظيم زيد، وقد اعتبر المولى كون التعظيم هو القيام بعملية خاصة، فلو شكّ في شرطية شيء او جزئيته لما اعتبره تعظيما فلا ينبغي الاشكال في جريان البراءة عنه، لان الأمر بالتعظيم يكون ظاهرا في الأمر بالقيام بتلك العملية، بعد ان كان التعظيم الذي تعلق به امره ماهية اعتبارية، وعليه فيكون نسبة عنوان الطهور الى معنونه بحسب اللبّ نسبة الاسم الى المسمى، ولا اشكال في ان الأمر بالاسم امر بالمسمى عرفا، فلو شكّ في دخل شيء في المسمى فتجري البراءة عنه، وبذلك اتضح أن ظاهر الخطابات في المقام كون معنون التذكية، وهو ذبح الحيوان القابل موضوعا للحل والطهارة.

وان اريد اجراء استصحاب عدم قابلية الحيوان بنحو العدم الازلي، ففيه أن القابلية التكوينية للتذكية لا تعني الا المصلحة في اعتبار التذكية في هذا الحيوان المذبوح، واحتمال اخذ ذلك في موضوع الحكم بالطهارة والحلية موهوم، ولا أقل من عدم دليل عليه، وما هو مأخوذ في الموضوع هو العنوان الذاتي للحيوان، وحينئذ فيكون مرجع الشك في الشبهة الحكمية كما في ذبح الحيوان المتولد من الشاة والخنزير الى الشك في أنه مثلا هل اعتبر الشارع الطهارة على الحيوان المذبوح الذي ليس بكلب ولا خنزير، حتى يشمل ذبح هذا الحيوان، او اعتبر الطهارة على الحيوان المذبوح الذي ليس بكلب ولا خنزير ولا متولدا منهما، حتى لا يشمل هذا الحيوان، فكيف يجري الاستصحاب، فان الامر دائر بين كون موضوع الحكم هو العنوان المعلوم الوجود او العنوان المعلوم العدم فلا مجال لاجراء الاستصحاب النافي لما هو موضوع المخصص لعموم حرمة الحيوان المذبوح حتى لو فرض وجود عموم من هذا القبيل، والا لأمكن اجراء الاصل الموضوعي في جميع الشبهات الحكمية، فاذا لم نعلم أن الشارع هل اوجب اكرام العالم او اوجب اكرام خصوص الفقيه ففي العالم غير الفقيه نجري استصحاب عدم تحقق ما هو الموضوع لوجوب الاكرام، ومن الواضح أن العرف يرى كون الشك فيه شكا في الحكم الشرعي، فلا مجال الا أن يتمسك فيه بالاصل الحكمي، بل لا يجري الاصل الموضوعي في الشبهة المفهومية للحيوان القابل للتذكية، كما لو علمنا بأن الشارع حكم بعدم قابلية أي حيوان للتذكية عدا الحيوان الاهلي للتذكية وشككنا في أن المراد منه ما يعم المتولد من أم اهلية، واب وحشي فلا يجري استصحاب عدم كونه اهليا لاثبات حرمته ونجاسته بعد الذبح.

كما أنه في الشبهة الموضوعية للحيوان القابل كما في الحيوان الذي شك أنه شاة او خنزير، فان كان الموضوع للتذكية كل حيوان ليس بخنزير، فان جرى استصحاب فانما هو استصحاب عدم كونه خنزيرا بنحو العدم الازلي، وهو بصالح اثبات التذكية لا نفيها، لكن جريانه مبني على القول بجريان استصحاب العدم الازلي حتى في العناوين الذاتية، ولو كان الموضوع الحيوان الاهلي والسبع فمقتضى استصحاب العدم الازلي -بناء على جريانه حتى في العناوين الذاتية- عدم كونه حيوانا اهليا او سبعا، وان امكن أن يقال ان الاهلية والسبعية من عوارض الوجود، الا أن تكون الاهلية عنوانا مشيرا الى الغنم والبقر و….

وقد ذكر المحقق العراقي “ره” في وجه عدم جريان استصحاب عدم التذكية بناء على كونه عنوانا مركبا منطبقا على ذبح الحيوان القابل أنه ان كانت التذكية مركبة من فري الأوداج مع القابلية للتذكية، فليس لعدم القابلية حالة سابقة متيقنة ولو بنحو العدم الازلي حتى تستصحب، سواء كانت الشبهة حكمية أو موضوعية، فان القابلية وعدمها من ذاتيات الحيوان، ولا يجري استصحاب العدم الأزلي في الذاتيات([50])، وقد اتضح مما ذكرناه أن اخذ القابلية لا تعني الا اخذ العنوان الذاتي للحيوانات في الموضوع كأن يقول “الحيوان الذي ليس بكلب ولا خنزير”، فمرجع الشك في الشبهة الحكمية للقابلية كالشك في قابلية للفيل للتذكية، الى الشك في أن موضوع الحكم الشرعي هل هو العنوان المقطوع الوجود كالحيوان الذي ليس بكلب ولا خنزير او العنوان المقطوع العدم، كالحيوان الاهلي والسبع، وأما في الشبهة الموضوعية كما لو تردد الحيوان بين كونه شاة او خنزيرا، فان احرزنا أن الموضوع للتذكية كل حيوان مذبوح ليس بكلب ولا خنزير، فيجري استصحاب عدم كونه خنزيرا بناء على جريان الاستصحاب في العدم الأزلي، فيحرز به موضوع التذكية، وان كان الموضوع كل حيوان اهلي فيسصحب عدم كونه اهليا.

وأما اشكاله في جريان الاستصحاب في العناوين الذاتية (بعدم الحالة السابقة المتيقنة لها ولو بنحو العدم الازلي، فان هذا الحيوان المشكوك ان كان خنزيرا فهو من الازل خنزير، وان كان معدوما سابقا) فيندفع بأن ما ذكره خلط بين الحمل الاولي والحمل الشايع، فاننا حينما نشكّ في كون كون حيوان شاة ام لا، فتارة نلحظ ماهيته فلا يصح أن نقول ان ماهية هذا الحيوان لم‌ تكن ماهية الشاة قبل وجودها، فان ماهيته من الازل إما شاة او ليس بشاة، وأخرى نلحظ وجوده فنقول ان هذا لم‌ يكن مصداقا للشاة قبل وجوده، والشاهد على ما ذكرناه أن الله تعالى يقول بالنسبة الى الانسان “أ لم يكن نطفة من مني يمنى” فنفى عن الانسان عنوان الانسانية في السابق، وأنه كان نطفة، ثم صار انسانا.

نعم ما ذكره تام بالنسبة الى عوارض الماهية التي ذكرنا أن مرجعها الى الامور الثابتة للماهية في عالم الواقع الذي هو اوسع من عالم الوجود، مثل الزوجية والفردية في الاعداد، فكل عدد من الازل اما زوج او فرد، فلا يصح أن يقال عدد الاربعة قبل وجوده لم‌ يكن زوجا، حتي يستصحب ذلك في فرض الشك، وهكذا امكان الانسان، فانه ممكن وجد ام لم‌ يوجد، وكذا حسن فعل وقبحه.

هذا ولا يخفى أنه لو تم اشكال المحقق العراقي “ره” فلا يأتي اشكاله في استصحاب عدم كون المشكوك اهليا او سبعا لو فرض كونه موضوع التذكية، فان الاهلية والسبعية من لوازم وجود بعض انواع الحيوانات كالشاة والثعلب.

وكيف كان فالمهم أن استصحاب عدم الاهلية والسبعية لا يثبت كون الحيوان المذبوح غير مذكى، فانه انما ينفي الحصة الخاصة من التذكية المترتبة على عنواني الاهلية والسبعية، ولا ينفي طبيعي التذكية، الا اذا كان هناك عموم يدل على أن كل حيوان مذبوح لا يكون اهليا او سبعا فهو ليس مذكى.

والحاصل أنه لا مجال حينئذ لاستصحاب عدم التذكية مع الشك في خصوصية الحيوان بنحو الشبهة الحكمية او الموضوعية.

ان قلت: اذا فرضنا كون خصوصية الحيوان قيدا لا جزء، فتكون التذكية امرا مقيدا، وهو ذبح الحيوان المخصوص، كذبح ما ليس بخنزير، فاذا شك في كون المذبوح شاة او خنزيرا فلا مانع من اجراء استصحاب عدم تحقق المقيد وهو ذبح ما ليس بخنزير، فيكون نظير ما اذا امر المولى بغسل الوجه بالماء، وشككنا في أن ما غسلنا به الوجه كان ماء ام لا، لتوارد الحاتين فيه مثلا، فلا مانع من جريان استصحاب عدم تحقق المقيَّد أي الغسل بالماء.

نعم لا يأتي هذا البيان في الشبهة الحكمية لما مر من عدم الشك في الخارج وانما الشك في ما هو الموضوع للحكم.

قلت: الظاهر من الادلة أن الحيوان المذكي محكوم باحكام كالطهارة، وكذا الحلية مع اجتماع بعض الشرائط، دون الحيوان الذي ليس بمذكى، فلو فرضنا أن المذكى كل حيوان مذبوح ليس بكلب ولا خنزير، وشككنا في كون هذا الحيوان المذبوح شاة او خنزيرا، وقلنا بأنه لا يجري استصحاب عدم كونه خنزيرا إما لكونه عدما ازليا او كونه من العناوين الذاتية، فلا مجال عرفا لأن نستصحب عدم وقوع ذبح ما ليس بخنزير عليه، فان المشكوك عرفا كونه خنزيرا، لا وقوع ذبح ما ليس بخنزير عليه، فلا يقاس بمورد الشك في تحقق الغسل بالماء.

هذا وقد ذكر بعض السادة الاعلام “دام ظله” في تقريب الاحتمال الثالث أن الذكاة في اللغة بمعنى الاتمام، ففي كتاب معجم مقاييس اللغه: الذكاء يدل على حدة فى ‏الشى‏ء ونفاذ، ومن الباب‏ ذكيت‏ الذبيحة، وذكيت‏ النار، والفرس‏ المذكى‏: الذى يأتى عليه بعد القروح -أي بعد خروج نابه- سنة، يقال‏ ذكى‏ يذكى‏، والذكاء: سرعة الفطنة.

وفي كتاب العين قلب‏ ذكي‏، وصبي‏ ذكي‏، إذا كان سريع الفطنة، وأذكيت‏ الحرب: أوقدتها، والذكاة في السن أن يأتي على قروحه سنة، وذلك تمام استتمام القوة.

وفي لسان العرب “اصل الذكاة في اللغة كلها اتمام الشيء، قال الخليل الذكاء في السن أن ياتي على قروحه- أي خروج نابه- سنة، وذلك تمام استتمام القوة، وايضا: الذكاء تمام ايقاد النار، يقال: ذكيت النار اذا اتممت اشعالها ورفعتها، وقال ايضا: الذكاء في الفهم أن يكون فهما تاما.

ثم تحول من هذا المعنى الى ماهية اعتبارية وهي الكيفية التي تزهق بها روح الحيوان بحيث يكون قابلا للانتفاع منه، وهذه الماهية امر معترف بها لدى العرف والشرع، وقد اعتبرا لها مصاديق، كالذبح والنحر والصيد، ونحو ذلك، من الكيفيات المشروعة التي تزهق بها روح الحيوان، وان كانا قد يختلفان في بعض تلك المصاديق، والذكي هو الحيوان المتلبس بهذه الماهية الاعتبارية، ويقابله الميتة، فان الميتة بحسب المعنى الاصلي خصوص ما مات حتف انفه، ويعبر عنه في الفارسية بـ “مردار” كما في منتهى الارب، وقد تكرر استعماله بهذا المعنى في القرآن الكريم، كقوله تعالى “انما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به([51])“، وقوله تعالى “حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم وما ذبح على النصب وأن تستقسموا بالأزلام ذلكم فسق([52])، وقوله تعالى “لا اجد فيما اوحي الي محرما على طاعم يطعمه الا أن يكون ميتة او دما مسفوحا او لحم خنزير، فانه رجس، او فسقا أهلّ لغير الله به([53])” فانه بقرينة المقابلة مع بقية اقسام الحيوان الزاهق روحه بغير السبب الشرعي يفهم أن المراد منه ما مات حتف انفه، وقد تحوّل من هذا المعنى الى ماهية اعتبارية، وهي ما زهق روحه بطريقة غير قابلة للانتفاع منه، وان كان يختلف مصاديق هذه الماهية الاعتبارية باختلاف الأعراف والأديان، وقد اشير الى هذا المعنى في كتب اللغة، ففي الصحاح والقاموس وتاج العروس “الميتة ما لم تلحقه الذكاة” وفي المصباح المنير أن المراد بالميتة في عرف الشرع ما مات حتف انفه او قتل على هيئة غير مشروعة، فهو يرى ان المصاديق اعتبارية على نحو متمم الجعل التطبيقي([54]).

اقول: بناء على كلامه من أن موضوع الطهارة والحلّ ماهية اعتبارية، ويكون ذبح الشاة مثلا مصداقا جعليا لها، فمع الشك في جعل شيء مصداقا للتذكية يجري استصحاب عدم جعله مصداقا لها، فيكون حاكما على أصالة الطهارة والحل، فهو نظير أن يجب اكرام القاضي، ويشكّ في شرائط من يكون قاضيا، فيستصحب عدم كون المشكوك قاضيا، وهذا يختلف عما ذكرناه من كون عنوان التذكية المأخوذ في موضوع الخطاب الشرعي بالحلّ مجرد عنوان مشير الى واقع معنونه وهو ذبح الحيوان الخاصّ، فيكون هذا المعنون هو الموضوع للحلّ([55]).

وأما ذكره من أن التذكية والميتة حقيقتان شرعيتان، فهو غير ثابت لنا، حيث ان الثابت صيرورتهما حقيقة متشرعية، ولم يثبت استعمالهما في لسان الروايات بحدّ يصل الى الحقيقة الشرعية، فعنوان المذكى عنوان مشير الى ما زهق روحه بكيفية شرعية، ولكن لعل الميتة كانت مستعملة بمعنى ما مات حتف انفه، وكان اطلاقها الميتة على ما ذبح بنحو غير شرعي في عدة من الروايات من باب العناية لالحاقه تعبدا بما مات حتف انفه.

وأما ما ذكره من كون معنى الذكاة التمام استنادا الى قول بعض اللغويين وبعض الاستعمالات التي لا تتناسب مع الطيب والنقاء والنزاهة، فمن المحتمل قويا -و ان كان خلاف قول بعض اللغويين- أن ما يكون مبدأه الذكاة يكون بمعنى النزاهة عما يوجب النفرة والشين، وما يكون مبدأه الذكاء يكون بمعنى تمام توقّد النار، ولذا يكون المتعدي في الاول “ذكّى تذكية” وفي الثاني “اذكى اذكاءا” فحينما يقال “اذكيت الحرب” فيكون بعناية أنه يرى الحرب نارا يتمّ ايقادها، وحينما يقال “صبي ذكي” فكأنه فهمه يفور كالنار.

وقد يستشهد على ما ذكرناه بأنه لا يصدق على الاتمام في كل شيء كالخباثة والقسوة او الكراهة او المحبة التذكية، ولكن يقال لكل شيء نقي وطاهر أنه ذكي حتى الثوب المغسول، لكنه لم يعهد التعبير بتذكية الثوب بدل التعبير بتطهيره، وحلّه ان الاستعمال سماعي وليس قياسيا.

الاحتمال الرابع: ما حكي عن بعض الاعلام “قده” من أن الذكاة بمفهومها العرفي عبارة عما يساوق النزاهة والنظافة والطهارة، فالتذكية هو التطهير، فيقال ذكّه اي أبقه على طهارته، (كقوله تعالى “اهدنا الصراط المستقيم” بناء على كون معناه الدعاء للابقاء على الهداية)، فانه لو ذبح بغير السبب الشرعي لصار نجسا.

وحيث انه لا وجه لصرف اللفظ عما له من المعنى العرفي إلى معنى جديد مستحدث، لاحتياجه إلى قرينة مفقودة في المقام، فيكون المراد بها في موارد الاستعمالات الشرعية هو هذا المعنى العرفي، فتكون التذكية هي الطهارة، لا أنها موضوع للحكم بالطهارة، والشاهد عليه أنه لم نعثر على مورد رتّب الحكم بالطهارة فيه على التذكية، بحيث يظهر منه أن التذكية غير الطهارة، فهذا مما يشهد بأن المراد بالتذكية هو الطهارة، وتكون الأفعال الخاصة دخيلة في بقاء تحقق الطهارة إلى بعد الموت، وعلى هذا فالشكّ في قابلية الحيوان للتذكية يعني الشكّ في طهارته بعد الذبح، ومقتضى الاستصحاب وقاعدة الطهارة بقاء الطهارة، فيكون الأصل متكفلا لإثبات التذكية، لا لنفيها.

فالتذكية بحسب ما نراه هي الطهارة لا غير، فيصحّ لنا ان نقول انها اسم للمسبب، لا للسبب الذي هو الأفعال الخاصة، وإن أطلق عليها في بعض الأحيان لفظ التذكية، لكنه كإطلاق لفظ التطهير على الغسل، من باب إطلاق لفظ المسبب على السبب وهو كثير عرفا.

ان قلت: انه ورد في الروايات أن ذكاة السمك اخذه من الماء حيا، مع أن تذكية السمك لا تؤثر الا في حليته، والا فهو طاهر، ولو كان ميتة، فكيف تقولون بأن التذكية عين الطهارة.

قلت: نلتزم فيه بكون الاستعمال من باب التنزيل والحكومة، وهذا ليس خلاف العرف بعد ورود التعبير عن السمك بأنه ذكيّ -أي طاهر- حيّه وميّته، وبعد فرض أن أثر الطهارة في غير مورد السمك هو حلية الأكل، فهو نظير ما إذا كان المتعارف أن تكون الأجرة على عملٍ ما دينارا، فإذا لم يرد الأجير أن يأخذ الدينار وانما أراد شيئا آخر، فقد يقول مثلا: أجرتي أن تكون أخلاقك حسنة([56]).

اقول: يرد عليه أنه و ان كان لا يبعد أن يكون المعنى الاصلي للذكاة هو النقاء والنزاهة عما يوجب النفرة، لكنه ليس مساوقا للطهارة في قبال النجاسة، فذكاة السمك بأن لا يكون بنحو يشمئز منه الطبع ولا يكون قابلا للأكل، فان الانصاف أنه لا يحسّ بالفرق بين قولنا “ذكاة السبع صيده” وقولنا “ذكاة السمك اخراجه من الماء” فان نقاء الحيوان الزاهق روحه هو أن يكون صالحا للانتفاع به في الجهة الملحوظة كأكله في محلل اللحم كالسمك او لبس جلده في السباع، او كليهما كما في الشاة، كما أنه بناء على كون معنى الذكاة تمام الشيء، فالسمك الزاهق روحه تمامه الذي ينبغي وصوله اليه كي ينتفع به هو أن يكون قد اخرج من الماء حيا.

وكيف كان فقد اتضح مما ذكرناه تمامية الايراد الثاني في عدم جريان استصحاب عدم التذكية، لعدم ثبوت كون معنى التذكية الاحتمال الثاني، الذي يبتني عليه جريان استصحاب عدم التذكية، اذ من المحتمل كون التذكية بالمعنى الثالث، أي تكون عنوانا منطبقا على نفس العملية التي يقوم بها المكلف في مورد حيوان مخصوص من ذبحه او صيده، فان الذكاة وان كانت في أصل اللغة بمعنى الطيب والنقاء والنزاهة عما يوجب النفرة، لكن المحتمل أنها صارت ظاهرة حين توصيف الحيوان بها في ما وقع عليه عملية خاصة مع خصوصية في الحيوان بحيث يصلح بها للانتفاع به بعد موته، ومعه فلا يحرز جريان استصحاب عدم التذكية وحكومته على قاعدة الحل والطهارة، وبذلك يحكم بحلية الحيوان الذي يشك في قابليته للتذكية وطهارته بمقتضى أصالة الحل والطهارة.

الايراد الثالث:

ما حكي عن بعض السادة الاعلام “دام ظله” من أنه لم يثبت كون عدم تذكية الحيوان موضوعا لحرمة اللحم، فلعل موضوعها عنوان الميتة، واستصحاب عدم التذكية لا يثبت عنوان الميتة، فان عمدة ما استدلّ به على حرمة ما ليس بمذكى هو قوله تعالى “الا ما ذكيتم” ولكنه إما استثناء منقطع، باعتبار أن الظاهر من كون المراد بما اكله السبع ما زهق روحه بذلك، كما في العناوين السابقة عليه، فيكون الاستثناء المنقطع بمنزلة الاستدراك، فكأنه قيل “و ما ذكيتموه حلال” فيدلّ على انتفاء الحرمة بالنسبة الى المذكى، ولا يدل على حرمة ما ليس بمذكى، وان كان الاستثناء متصلا، بأن كان المراد من اكل السبع افتراسه، ولو لم يقتله، فمن المعلوم أن عنوان “ما أكل السبع وليس بمذكى” لا يكون موضوعا للحرمة، فهذه الآية تذكر بعض مصاديق موضوع الحرمة، كما في جملة من الخطابات الواردة على مستوى تفهيم الاحكام للعوام، من دون أن تكون بصدد بيان القضية الحقيقية، فلا يمكن استكشاف موضوع الحرمة منها، وأنه هو الحيوان الذي ليس بمذكى، فلعله هو الميتة.

اقول: الانصاف أن العرف يفهم من الآية كون الاستثناء متصلا ، وأن ما أكله السبع الا ما ذكيتم مثال عرفي للحيوان الزاهق روحه وليس بمذكى، كما ان المجيء من السفر في آية التيمم مثال عرفي لعدم وجدان الماء، ويؤيد ذلك الاستشهاد بالآية في صحيحة زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: كلْ كلَّ شي‌ء من الحيوان غير الخنزير والنطيحة والمتردية وما أكل السبع وهو قول الله عزوجل إلا ما ذكيتم فإن أدركت شيئا منها وعين تطرف أو قائمة تركض أو ذنب يمصع فقد أدركت ذكاته فكله([57]).

الايراد الرابع:

ما عن الشيخ الأعظم “قده” من أن استصحاب عدم التذكية معارض باستصحاب عدم كون هذا الحيوان ميتة.

وفيه أنه ان كان موضوع الحرمة خصوص عنوان الميتة، وقلنا بأنه امر وجودي كأن قلنا بأنه زهوق روح الحيوان بسبب غير شرعي، فلا مجال لاستصحاب عدم التذكية، لانه لا يثبت موضوع الحرمة، ولا يكفي مجرد نفي موضوع الحلية في لسان الدليل وهو التذكية، لأن المهمّ في التنجيز اثبات موضوع الحرمة، ونفي موضوع الحلية لا ينجز الحرمة، وأما ان قلنا بأنه امر عدمي، بأن قلنا بأنه عنوان مركب من زهوق الروح وعدم وقوع التذكية عليه حال حياته او قلنا بأن موضوع الحرمة في لسان الدليل هو ما ليس بمذكى، فيجري استصحاب عدم التذكية بلا معارض، لأن استصحاب عدم كونه ميتة لا يثبت كونه مذكى حتى ينفى به حرمته، لأن استصحاب عدم الضد لا يثبت وجود ضده الآخر، ومجرد ورود رواية تدلّ على حرمة الميتة لا يعني كفاية استصحاب عدم كون المشكوك ميتة لنفي حرمته، حيث ان هذا الاستصحاب انما ينفي شخص الحرمة الطارئة على عنوان الميتة ولا ينفي طبيعي الحرمة، فلا ينافي اثبات الحرمة باستصحاب عدم كونه مذكى، نعم لو ورد انه كل حيوان حلال الا الميتة، فاستصحاب عدم كونه ميتة يثبت موضوع الحلية.

والحاصل أنه يلزم في الضدين ملاحظة أنه ما هو الموضوع للاثر الشرعي منهما، فلو قال الشارع “كل حيوان حلال الا الميتة، فيستصحب عدم كونه ميتة بلا معارض، ولو قال “كل حيوان ليس بمذكى فهو حرام” فيستصحب عدم التذكية بلامعارض، ولو ورد في الخطاب الشرعي “كل حيوان ليس بمذكى فهو حرام” وورد في خطاب آخر “حرم عليكم الميتة” فاستصحاب عدم كونه ميتة انما ينفي الحرمة المترتبة على الميتة، وهذا لايكفي في الحلية، بل يمكن اثبات طبيعي الحرمة باستصحاب عدم التذكية.

الايراد الخامس:

ما ذكره بعض الأعلام “قده” ومحصله بتوضيح منّا أن النصوص مختلفة، فبعضها تدلّ على حرمة ما ليس بمذكى، كقوله تعالى “الا ما ذكيتم”([58])، وبعضها تدلّ على حرمة الميتة، منها صحيحة الحلبي قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول إذا اختلط الذكي والميتة باعه ممن يستحل الميتة وأكل ثمنه([59])، وصحيحة حفص بن البختري عن أبي عبد الله (عليه السلام) في العجين من الماء النجس كيف يصنع به قال يباع ممن يستحل الميتة([60])، وموثقة سماعة قال: سألته عن أكل الجبن وتقليد السيف وفيه الكيمخت([61]) والفراء فقال لا بأس ما لم تعلم أنه ميتة([62])، وحينئذ فإما ان تتعارض النصوص في كشف الموضوع الواقعي للحرمة او أن العرف يستظهر أن الموضوع للحرمة يناسب أن يكون امرا وجوديا وهو الميتة، ويكون هو المقتضي للحرمة، وعليه فلامجال لاثبات حرمة الاكل باستصحاب عدم التذكية([63]).

وفيه أنه لم يحرز انعقاد ظهور لفظ الميتة في الروايات في اكثر مما مات حتف انفه، ولا ريب في عدم كون ما مات حتف انفه موضوع حرمة الأكل، فيكون المحكَّم ظهور آية “الا ما ذكيتم” و”لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه” ومثل صحيحة زرارة السابقة.

بل لو قلنا بأن لفظ الميتة كان ظاهرا في زمان صدور الروايات في ما مات بكيفية غير مشروعة، فاحتمال كونه موضوع حرمة الاكل وان كان موجودا، لكن حيث ان ظاهر القرآن الكريم كون موضوع الحرمة ما ليس بمذكى، فيرى العرف تقدم ظهوره على الروايات، لكونه المصدر الاصلي للتشريع، وتكون الروايات في امتداده.

ومنه ظهر الجواب عن صحيحة محمد بن قيس عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) ما أخذت الحبالة من صيد فقطعت منه يدا أو رجلا فذروه فإنه ميت وكلوا ما أدركتم حيا وذكرتم اسم الله عليه، ونحوها صحيحة عبد الرحمن بن ابن ابي عبد الله وصحيحة زرارة([64])، فانه وان كان الجزء المبان من الحي فرد تعبديا للميتة، لا فرد حقيقيا، فيستظهر العرف من هذه الروايات كون التنزيل بلحاظ الحكم الثابت للميتة وهو حرمة الاكل، لكن الظهور الكتابي مقدَّم.

الايراد السادس:

ما يقال من أنه حتى بناءا على كون التذكية امرا بسيطا مسببا عن ذبح الحيوان القابل، فلا يجري استصحاب عدم التذكية لكونه من قبيل الاستصحاب في العدم الازلي، فان المقسم للمذكى -الذي هو موضوع الحلية- وما ليس بمذكى -الذي هو موضوع الحرمة- هو الحيوان الزاهق روحه، فلا يصدق على الحيوان الحي أنه مذكى او ليس مذكى، الا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، كما يقال بأن المقسم لكون الدم دم حيض او عدم كونه دم حيض هو الدم الخارج، فالدم الذي في العروق لا يصدق عليه أنه دم حيض او ليس بدم حيض الا بنحو السالبة بانتفاء الموضوع.

وان شئت قلت: ان المذكى هو الحيوان الذي كان زهوق روحه مستندا الى السبب الشرعي، والحالة السابقة المتيقنة لعدم استناد زهوق الروح الى السبب الشرعي تكون بنحو السالبة بانتفاء الموضوع، وكلما كان كذلك فيكون من استصحاب العدم الأزلي، فمن لا يعترف بجريان الاستصحاب في الاعدام الأزلية لا يمكنه اجراء هذا الاستصحاب.

وفيه أن الظاهر عرفا كون سلب التذكية عن الحيوان الحي من باب السالبة بانتفاء المحمول، وهذا لا ينافي انصراف التعبير بالحيوان الذي ليس بمذكى الى الحيوان الزاهق الروح، ولكن انصراف الاطلاق اليه لا ينافي كون التصريح بخصوص الحالة السابقة العدمية لتذكية الحيوان من السالبة بانتفاء المحمول، فقد يسأل من اشترى شاة فيقول “هل ذكيتم الشاة” فيقال في جوابه “لم نذكّها بعدُ، وانما نذكيها بعد ساعة” وعليه فلا يكون استصحاب عدم تذكيتها من قبيل الاستصحاب في العدم الازلي، وهذا يعني أن الموضوع للتذكية ليس هو زهوق الروح، وحينئذ فبناءا على كون التذكية امرا بسيطا مسببا عن ذبح الجيوان القابل فيجري استصحاب عدم التذكية سواء المأخوذ في الموضوع عدمها المحمولي أي عدم اتصاف الحيوان بالتذكية او عدمها النعتي أي اتصافه بعدم التذكية، ولا يتوقف جريان الاستصحاب على القول بجريان الاستصحاب في العدم الازلي.

هذا اذا اضيف عدم التذكية في خطاب الحرمة الى ذات الحيوان، وأما لو اضيف في خطاب الحرمة الى الحيوان الزاهق الروح، كأن قيل “الحيوان الزاهق روحه اذا لم يكن مذكى فهو حرام”، فظاهر اخذ عرضين لجوهر واحد في موضوع الحكم اخذهما في موضوع الحكم في عرض واحد، كما هو كذلك في التكوين، فيكون موضوع الحرمة مركبا من عدم كون الحيوان مذكى وزهوق روحه، واحتمال كون المأخوذ في موضوع الحرمة عدم اتصاف الحيوان الزاهق الروح بما هو كذلك بكونه مذكى، خلاف الظاهر، ولو فرض وجود قرينة على ارادة هذا الخلاف للظاهر احتجنا الى الاستصحاب في العدم الأزلي، ولو قامت زيادة على ذلك، قرينة على كون المأخوذ في الموضوع العدم النعتي، اي اتصاف الحيوان الزاهق الروح بما هو كذلك بعدم كونه مذكى، كان مقتضى استصحاب العدم الازلي عدم اتصافه بعدم كونه مذكى، فينفى به موضوع الحرمة، ولكنه اشدّ مخالفة للظهور، لأنه نظير ان يستظهر من قول المولى “ان كان العالم عادلا فأكرمه” او “اكرم العالم العادل” لزوم اتصاف العالم بما هو عالم بالعدالة، فيقال بأنه لو احرز فعلا كون زيد عالما، واستصحب بقاء عدالته قبل صيرورته عالما فانه لا يمكن ان يثبت به موضوع وجوب الاكرام وهو اتصاف العالم بالعدالة، فانه وان ادعاه السيد الامام “قده” في موضعٍ، لكنه خلاف الظاهر جدا.

وكيف كان فتحصل مما ذكرناه في الصورة الثانية وهو الشك في حلية الحيوان المذبوح لاجل الشك في قابليته الذاتية للتذكية هو الحكم بالحلية بالذبح.

الصورة الثالثة: الشك في طروّ مانع عرضي عن قابلية الحيوان للتذكية

الصورة الثالثة: الشك في طروّ مانع عرضي عن قابلية الحيوان للتذكية، سواء كان بنحو الشبهة الحكمية كما لو شك في كون شرب الشاة لبول الانسان مثلا مانعا عن قبوله للتذكية، او بنحو الشبهة الموضوعية كما لو شك في صيرورته جلالا او موطوءا، ففي الشبهة الحكمية ان كان عموم يثبت قابليته للتذكية كما هو موجود في الحيوان الاهلي والسباع فهو المرجع والا فيجري فيه استصحاب عدم التذكية بناء على كونها امرا بسيطا مسببا.

ومن الغريب ما فی مصباح الاصول من أنا اذا شككنا في انّ الجلل الحاصل مانع عن التذكية أم لا، فيرجع إلى أصالة عدم تحقق المانع([65])، فان الشك راجع الى بقاء الحكم الشرعي بأنه لو ذبح صار مذكى، واستصحاب عدم مانعية الجلل عن بقاءه ليس اصلا موضوعيا بالنسبة اليه، فالمهم ملاحظة جريان استصحاب نفس الحكم بأنه لو ذبح يصير مذكى، ولكنه يبتني على القول بجريان استصحاب بقاء الحكم في الشبهات الحكمية، وهو لا يقول به كما هو الصحيح، كما يبتني على القول بجريان الاستصحاب التعليقي وهو لا يقول به مطلقا، ونحن ايضا لا نقول به الا فيما اذا كان الحكم التعليقي مجعولا كذلك من قبل الشارع، كما لو قال “العنب يحرم اذا غلا” فلا يجري في ما لو قال المولى “العنب المغلي حرام” فان قولنا مشيرا للعنب “أنه اذا غلا يحرم” انتزاع عقلي يمكن فرضه عند وجود احد جزئي موضوع الحكم واستصحابه لاثبات الحكم الشرعي عند وجود جزءه الآخر اصل مثبت، ولعل المقام من هذا القبيل بأن قال الشارع “اذا ذبح الحيوان الذي ليس بحلال يصير مذكى”، وأما قوله (عليه السلام) في موثقة سماعة في جلود السباع “اذا رميت وسميت فانتفع بجلده” فان كان وحده كان كاشفا عن الحكم التعليقي، ولكنه مذيل بقوله “و أما الميتة فلا”.

وعليه فان قلنا بأن التذكية امر مسبب من ذبح الحيوان القابل فيجري استصحاب عدم التذكية، بخلاف ما لو قلنا بأن التذكية عنوان منطبق على فعل المكلف فانه كما مرّ لا يجري استصحاب عدم التذكية، ويكون المرجع قاعدة الحل والطهارة.

وأما في الشبهة الموضوعية فلا اشكال في جريان استصحاب عدم المانع، حتى ولو كانت التذكية امرا مسببا فان الظاهر كونه مسببا شرعيا فيمكن اثباته بالاصل الموضوعي، بل ولو احتملنا كونه مسببا عقليا مبهما فحيث لا يعرف وجوده ولا اسبابه الا من قبل الشارع فيرى العرف كون اثباته باجراء الاصل في موضوعه مشمولا لخطاب الاصل، ولا يراه العرف اصلا مثبتا، كما هو الحال في اجراء الاصل الموضوعي في الطهارة المقابلة للنجاسة او الحدث، بناء على ما قد يقال من كونها من الامور التكوينية كما هو مختار الشيخ الأعظم وصاحب الكفاية “قدهما” في الطهارة والنجاسة.

نعم اذا توارد في الحيوان حالتا الجلل وعدمه وشك في المتقدم والمتأخر منهما، فتصل النوبة الى جريان استصحاب عدم التذكية لو قلنا بكونها امرا مسببا شرعيا او عقليا.

الصورة الرابعة: الشك في تحقق التذكية بعد احراز قابلية الحيوان للتذكية

الصورة الرابعة: الشك في تحقق التذكية بعد احراز قابلية الحيوان للتذكية سواء كان بنحو الشبهة الحكمية كما لو ذبحه كافر مع التسمية، او بنحو الشبهة الموضوعية كما لو شك في وقوع الذبح بشرائطه.

ففي الشبهة الحكمية اذا كان اطلاق في دليل سببية الذبح مثلا للتذكية كما هو الظاهر من قوله تعالى “فكلوا مما ذكر اسم لله عليه” او قوله (عليه السلام): اذا فرى الاوداج فكل، فينفى به اعتبار هذا الشرط المشكوك، وأما قوله تعالى “الا ما ذكيتم” فلا يمكن الاستدلال باطلاقه، فان معنى التذكية مبهم كالتيمم، فانطباقه على موارد الذبح مع الاخلال بالشرط المشكوك غير معلوم، فلا يمكن التمسك به لنفي شرطية الشرط المشكوك.

وان لم يكن اطلاق في البين فتصل النوبة الى الاصل العملي، فان قلنا بكون التذكية امرا بسيطا مسببا فيجري استصحاب عدم التذكية، ودعوى (وجود اصل حاكم عليه، وهو إما استصحاب عدم تقييد موضوع التذكية التي هي مسبب شرعي بهذا القيد الزائد وبذلك يثبت الاطلاق في موضوعها، او أصالة البراءة عن شرطيته) غير متجهة، أما اثبات الاطلاق باستصحاب عدم التقييد -فمضافا الى ابتناءه على كون الاطلاق هو عدم التقييد، وكذا ابتناءه على انكار الانحلال في الجعل والا فمن يعترف بالانحلال في الجعل في الاطلاق الشمولي فجعل التذكية في الذبح بالحديد معلوم وفي الذبح بغير الحديد مشكوك، وليس جعله فيه اثرا شرعيا لعدم تقييد موضوع الجعل- يرد عليه أن ثبوت التذكية في مورد الذبح بغير الحديد الذي يعني الانحلال في مرحلة المجعول وتطبيق الجعل على موضوعاته يكون لازما عقليا لعدم تقييد الجعل وليس اثرا شرعيا له، ولذا لو شك في كون موضوع حرمة الاكرام الفاسق او الفاسق المتجاهر، فلا يصح عرفا اجراء استصحاب عدم تقييد موضوع جعل الحرمة بقيد المتجاهر لغرض تنقيح اطلاق موضوع حرمة الاكرام، واما البراءة عن الشرطية فلا تثبت تحقق التذكية عقيب الذبح بغير الحديد لعدم كونها اصلا منقحا لموضوع التذكية، فان البراءة عن التقييد لا تثبت الاطلاق وثبوت الاثر أي التذكية للذبح بغير الحديد، كما أن البراءة عن شرطية العربية لا تثبت ترتب الزوجية في العقد الفارسي الا بنحو الاصل المثبت.

وأما لو قلنا بكون التذكية اسما للسبب، فيكون مرجعه الى الشك في كون موضوع حلية الاكل لحم الحيوان المذبوح مطلقا او لحم الحيوان المذبوح بالحديد، وأن موضوع حرمة الاكل هل هو الحيوان الذي ليس بمذبوح او ليس بمذبوح بالحديد، فتجري البراءة عن حرمة أكل المذبوح بغير الحديد كما تجري فيه قاعدة الطهارة، وأما البراءة عن تقيد موضوع الحلية بالذبح بالحديد، فاثبات آثار جعل الحلية للمذبوح بغير الحديد بهذه البراءة من الاصل المثبت، كما مر نظيره آنفا، وأما التأمين عن حرمة المذبوح بالحديد فهو يحتاج الى اجراء اصل البراءة عن حرمته مباشرة، كما ان اثبات طهارته يحتاج الى اجراء قاعدة الطهارة فيه، والا فليست البراءة عن شرطية الذبح للحلية اصلا موضوعيا بالنسبة الى نفي حرمة المذبوح بغير الحديد، وأما البراءة عن موضوعية مطلق المذبوح للحرمة فليست الا براءة عن حرمة المذبوح بغير الحديد.

هذا كله في الشبهة الحكمية من الصورة الرابعة، وأما في الشبهة الموضوعية فيجري استصحاب عدم تحقق الذبح بشرائطه بلا اشكال، وبذلك يثبت حرمة اكله، ان لم يكن اصل حاكم عليه كما لو كان البايع مسلما، ولو شك في اسلام الذابح في غير بلاد المسلمين فيجري استصحاب عدم اسلامه، وكثيرا ما لا يتوقف جريانه على قبول الاستصحاب في العدم الازلي، حيث نجري استصحاب عدم اسلام آباءه وبذلك يثبت كفره شرعا.

نعم اذا كان لحم مطروح لا يدرى هل هو جزء من هذه الشاة الميتة جزما او من تلك الشاة المذكاة جزما فقد يقال بأن استصحاب عدم تذكية تلك الشاة التي يكون هذا اللحم جزءا منها يكون من قبيل الاستصحاب في الفرد المردد، فلا يجري هذا الاستصحاب، فيحكم بحلية هذا اللحم، ولكن الصحيح عندنا جريان الاستصحاب في الفرد المردد، كما سنبينه ان شاء الله في بحث الاستصحاب.

بل الحكم بالحرمة في مشكوك التذكية في الشبهة المصداقية للصورة الرابعة مستفاد من الروايات الواردة في التفصيل في اللحم المشكوك بين ما اذا اشتري من بايع مسلم فيجوز اكله وبين ما لو اشتري من غيره فلا يجوز اكله أن جواز الاكل بحاجة الى احراز التذكية ولو تعبدا، ففي صحيحة ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة عن فضيل وزرارة ومحمد بن مسلم أنهم سألوا أبا جعفر (عليه السلام) عن شراء اللحوم من الأسواق ولا يدرى ما صنع القصابون فقال كل إذا كان ذلك في سوق المسلمين ولا تسأل عنه([66]).

ويشهد له ايضا معتبرة عيسى بن عبد الله (القمي([67]) قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن صيد المجوس فقال لا بأس إذا أعطوكه حيا والسمك أيضا وإلا فلا تجوز شهادتهم عليه إلا أن تشهده([68])، فمنع من اكل السمك مع الشك في اخراج المجوسي له من الماء حيا، وهذا الغاء لجريان استصحاب بقاء حياته الى زمان اخراجه من الماء لو جرى في نفسه وقلنا بعدم معارضته مع استصحاب عدم اخراجه من الماء الى زمان موته.

 

 



[1] – الحدائق ج5ص526

[2] – وسائل الشيعة ج3ص489

[3] – وساظل الشیعة ج4ص345

[4] – وسائل الشيعة ج‌24 ص 123

[5] – وسائل الشيعة ج‌24 ص 117

[6] – وسائل الشيعة ج‌24 ص 22

[7] – وسائل الشيعة ج25 ص301

[8] – وسائل الشيعة ج4 ص345

[9] – وسائل الشيعة ج 27ص 123

[10] – تهذيب الاحكام ج9ص42

[11] – هو غياث بن ابراهيم الذي يروي عنه محمد بن يحيى الخزاز وقد وثّقه النجاشي، وما ذكره الشهيد الثاني من أنه الذي جعل حديثا في جواز اللعب بالحمام فليس له سند معتبر، وقد نسبت هذه الواقعة الى وهب بن وهب.

[12] – وسائل الشيعة ج‌24 ص 111

[13] – مصباح الاصول ج2ص311

[14] – منهاج الصالحين ج‌2 ص 334

[15] – جواهر الكلام ج‌36 ص 195

[16] – موسوعة الإمام الخوئي ج‌2 ص 409

[17] – موسوعة الإمام الخوئي ج‌12 ص 196

[18] – وسائل الشيعة ج‌24 ص 71

[19] – وسائل الشيعة ج 4ص346

[20] – تنقيح مباني العروة ج‌3 ص416

[21] – فوائد الاصول ج‏3 ص381

[22] – وسائل الشيعة ج‌1 ص 351و لكن المنقول في الاستبصار ج 1ص 57″كل شيء يابس زكي”و هو الموافق لنقل المنتهى والوافي، وعدة كتب أخرى.

[23] النهاية في غريب الحديث والأثر ج‌2 ص 164

[24] النهاية في غريب الحديث والأثر ج‌2 ص 308

[25] – وسائل الشيعة؛ ج‌4 ص 377

[26] – وسائل الشيعة؛ ج‌4 ص 347

[27] – وسائل الشيعة ج‌24 ص 182

[28] – وسائل الشيعة ج‌24 ص 179

[29] وسائل الشيعة ج‌24 ص 180

[30] – وسائل الشيعة ج‌24 ص 180

[31] – وسائل الشيعة ج‌3 ص 503

[32] 0 وسائل الشيعة ج‌3 ص 300

[33] – وسائل الشيعة ج‌3 ص 492

[34] – وسائل الشيعة ج‌3 ص 493

[35] – وسائل الشيعة ج‌4 ص 456

[36] – وسائل الشيعة ج‌4 ص 457

[37] – وسائل الشيعة ج‌4 ص 458

[38] – وسائل الشيعة ج‌24 ص74‌

[39] – من لا يحضره الفقيه ج 4ص385

[40] – مجمع البحرين ج1ص159

[41] – تاج العروس ج‌19 ص 496

[42] – موسوعة الإمام الخوئي ج‌2 ص 409‌

[43] – منتقى الاصول ج4ص499

[44] – وسائل الشيعة ج‌23 ص 333

[45] – وسائل الشيعة ج‌23 ص 333

[46]وسائل الشيعة ج‌24 ص 77

[47] – منتقى الاصول ج4ص499

[48] – موسوعة الإمام الخوئي، ج‌2، ص: 409‌

[49] – منتقى الاصول ج2ص265

[50] نهاية الأفكار (القسم الثاني من الجزء الثالث، ص256

[51] – البقرة الآية173 النحل‏ الآية 115

[52] – المائدة الآية 3

[53] – الانعام الآية 145

[54] – التقرير المخطوط

[55] – ومن هنا تبين عدم كفاية ما في مباحث الاصول ج3ص 481: من أن الذكاة بمعنى الطيب وملائمة الطبع وعدم التنفر، كما اتضح ذلك من مثل قوله “كل شي‌ء يابس ذكي” والروايات التي وصف فيها الجلد او الصوف او البيض بكونه ذكيا، ثم انه ومن اطلاق الذكاة في بعض الأخبار على نفس العملية عرفنا أن هذا العنوان البسيط عنوان منطبق على نفس العملية، فالذبح فرد اعتباري للطيب والطهارة، نعم يمكن توجيه الاخبار بنحو آخر، وهو أن يكون المقصود من كون التسمية ذكاة كونها سببا لها، لكن ما ذكرناه اقرب عرفا، ويكون الكلام ظاهرا فيه، فانه لابد من كون هذا العنوان البسيط حين اخذه في موضوع الحلية ونحوها مجرد عنوان مشير الى واقع معنونه، والا فلو كان ظاهر الخطاب كونه موضوعا للحكم حريجري استصحاب عدم تحقق مصداقه.

[56] – منتقى الاصول ج4ص500

[57] – وسائل الشيعة ج‌24 ص 22

[58] – عنوان الميتة الوارد في تلك الآية ليس موضوعا للحرمة جزما، حيث انه بقرينة المقابلة مع المتردية ونحوها يكون بمعنى ما مات حتف انفه وليس ذلك موضوع الحرمة جزما، وهكذا قوله تعالى “حرّم عليكم الميتة” لمقابلتها مع ما أهلّ لغير الله،

[59] – وسائل الشيعة ج‌17 ص 99

[60] – وسائل الشيعة ج‌17 ص 100

[61] – في مجمع البحرين الكيمخت جلد الميتة المملوح.

[62] – وسائل الشيعة ج‌24 ص 90

[63] – منتقى الأصول ج‏4 ص503

[64] – وسائل الشيعة ج‌23 ص 376

[65] – مصباح الاصول ج2ص 313

[66] وسائل الشيعة ج‌24 ص 70

[67] – هو من الاجلاء لما روى الكشي عن حمدويه بن نصير، قال: حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الخطاب، عن أحمد بن محمد بن أبي نصر، عن يونس بن يعقوب، قال: وحدثني محمد بن عيسى بن عبيد، عن يونس بن يعقوب، قال: دخل عيسى بن عبد الله القمي على أبي عبد الله (عليه السلام) فأوصاه بأشياء، ثم ودعه وخرج عنه، فقال لخادمه: ادعه، فانصرف إليه فأوصاه بأشياء ثم ودعه وخرج عنه، فقال لخادمه ادعه، فانصرف إليه فأوصاه بأشياء، ثم قال له: يا عيسى بن عبد الله، إن الله عز وجل يقول: “و أمر أهلك بالصلاة” وإنك منا أهل البيت.

[68] – وسائل الشيعة ج‌23 ص 386