القول الاول: التفصيل بين الشبهات الموضوعية و الشبهات الحكمية. 1
شبهة اختصاص الاستصحاب بما لو كان المستصحب حكما شرعيا وعدم جريانه في الموضوع التكويني.. 2
جواب محقق الاصفهاني بهذه الشبهة. 2
ایرادات علی کلام محقق الاصفهانی.. 3
القول بعدم جريان الاستصحاب في الاحكام الكلية. 6
الوجه الاول: قصور المقتضي (عن السيد الخوانساري) 6
الوجه الثاني: الابتلاء بالمانع (عن المحقق النراقي) 8
تعارض استصحابي الوجود و العدم. 8
عدم جریان الاستحاب فی موارد الشك في الرافع. 9
استصحاب بقاء الحكم الكلي يكون مبتليً بالمعارض دائما 9
الکلام فی معارضة استصحاب عدم الجعل الزائد مع استصحاب بقاء المجعول. 10
الاجوبة عن اشكال معارضة استصحاب عدم الجعل الزائد مع استصحاب بقاء المجعول. 10
موضوع: اقوال در استصحاب /استصحاب /اصول
الاقوال في الاستصحاب
ونفتصر منها على بيان اهم الاقوال والتفاصيل.
القول الاول: التفصيل بين الشبهات الموضوعية و الشبهات الحكمية
المشهور وان كان هو جريان الاستصحاب في الشبهات الموضوعية و الحكمية مطلقا، لكن طرح في قبال ذلك شبهة للمنع عن جريانه في الموضوعات، و اختصاصه بالحكم جزئيا كان او كليا، كما يوجد قول بالمنع من جريانه في الاحكام الكلية، و قول ثالث بالمنع من جريانه في الاحكام الجزئية و الكلية و اختصاصه بالموضوعات التكوينية.
شبهة اختصاص الاستصحاب بما لو كان المستصحب حكما شرعيا وعدم جريانه في الموضوع التكويني
`ذكر المحقق الاصفهاني “قده” شبهة تقتضي اختصاص الاستصحاب بالحكم الكلي او الجزئي و عدم جريانه في الموضوع التكويني، كما لو تيقن بعدالة زيد مثلا سابقا و شك في بقاءها الى زمان ايقاع الطلاق عنده، و حاول ان يجيب عنها،
و حاصل الشبهة أن التعبير بنقض اليقين بالشك انما هو بلحاظ عدم ترتيب المكلف ما يبعث اليه اليقين و يحرك نحوه، و اليقين بالموضوع كعدالة زيد في المثال المذكور، لا باعثية له بنفسه الى اي شيء، بل بلحاظ انبعاث اليقين بحكمه منه، و الموضوع المتيقن لا اقتضاء تشريعي له، بل لحكمه، فيكون إسناد النقض الى اليقين بالموضوع من الاسناد إلى غير ما هو له، بينما أن اسناد النقض الى اليقين بالحكم يكون من الاسناد الى ما هو له، و الجمع بين الإسنادين في كلام واحد خلاف الظاهر (كأن يقال: الماء و الميزاب جاريان)، و الظاهر من الإسناد كونه إلى ما هو له، فتكون اخبار الاستصحاب قاصرة عن شمول الموضوعات في الشبهات الموضوعية.
جواب محقق الاصفهاني بهذه الشبهة
ثم اجاب عنه بأنّ هذه الشبهة إنما ترد إذا أريد من نقض اليقين نقضه العملي، و أما اذا أُريد منه النقض الحقيقي لليقين عنواناً، و لكن على نحو قضية كنائية، فيكون النهى عن الحلّ الحقيقي لليقين او فقل الامر بابقاءه الحقيقي كناية عن الامر بلازم بقاء اليقين، فان لازم بقاء اليقين بالحكم -كالوجوب- اتيان المكلف بالفعل كصلاة الجمعة، بلحاظ تنجيز اليقين بالوجوب للاتيان به، كما أن لازم نقض اليقين عدم الاتيان به، فيكون الامر بابقاء اليقين كناية عن الامر بالفعل، كما أن لازم نقض اليقين بالموضوع عدم الاتيان بالفعل لعدم تنجز حكمه، فيكون الامر بابقاءه كناية عن الامر بالاتيان بالفعل، فلازم حلّ اليقين بالحكم رفع اليد عن الحكم، و لازم حلّ اليقين بالموضوع رفع اليد عن حكم الموضوع، و بذلك يكون النهي عن نقض اليقين دالا على جعل الحكم المماثل للمتيقن، فيما كان المتيقن الحكم، و جعل الحكم المماثل لحكم المتيقن فيما اذا كان المتيقن الموضوع، و ليس فيه مخالفة للظهور بوجه، لأن النقض الحقيقي يتعلق بالحكم و بالموضوع معاً، و ليس كالنقض العملي المختص بالحكم، فالمعنى الكنائي معنى واحد يعم الحكم و الموضوع من دون محذور في الإسناد و هو يقتضي بذاته في كل موردٍ لازماً يناسبه([1]).
ایرادات علی کلام محقق الاصفهانی
و قد اورد عليه بعض الاعلام “قده” في المنتقى بعدة وجوه:
1- ان ما بنى عليه أصل كلامه (من أن التلازم بين ابقاء اليقين بالحكم، و بين الفعل كصلاة الجمعة، يستلزم التلازم بين الأمر بإبقاء اليقين و الأمر بالفعل، فتكون القضية كناية عن جعل الحكم المماثل) فانه ممنوع، فانه لو سلم التلازم عقلا أو عرفا بين بقاء اليقين بالحكم و بين الفعل، فهو لا يستلزم التلازم بين الأمر بأحدهما و الأمر بالآخر، فانه ممنوع جدا، و لم يقل به أحد، نعم لا اشكال في عدم جواز اختلاف المتلازمين في الحكم.
2- ان ما أفاده ان تم، فانما يتم في خصوص اليقين بالحكم الإلزامي، فان اليقين به يستتبع العمل، دون اليقين بالحكم غير الإلزامي كالإباحة، فان اليقين بها لا يستتبع الفعل، كي يكون الأمر بإبقائه أمرا بالفعل.
3- ان اليقين بالموضوع لا يستلزم الفعل أصلا، حتى بنحو المسامحة، فان المراد به اليقين بذات الموضوع، و هو لا يلازم العلم بحكمه، بل قد يتخلف عنه.
4- ان التزامه بناء على ارادة النقض العملي بأن اليقين بالموضوع لا يستلزم الفعل لعدم باعثيته نحوه، لا يتلائم مع التزامه بناء على ارادة النقض الحقيقي بأن حلّ اليقين بالموضوع يستلزم عدم الاتيان بالفعل حيث ينتفي به تنجز حكمه([2]).
الرد علی بعض الایرادات
اقول: يمكن الجواب عن الوجه الاول بأن يقال: ليس مراد المحقق الاصفهاني “قده” التلازم الواقعي و انما هو التلازم الغالبي في حالات انقياد المكلف و هذا يكفي في مصححية كنائية الامر بابقاء اليقين بالوجوب عن الامر باتيان الفعل، نعم نحن نقبل عدم عرفية هذا الاستظهار الكنائي.
كما يرد على الوجه الثاني بأنه يمكن أن يقال بأنه بعد ما فرض كون الامر بابقاء اليقين كناية عما يلازمه غالبا، فحيث ان بقاء اليقين بحلية فعل يلازم رؤية المكلف نفسه مخيرا بين الفعل و الترك فالامر بابقاء اليقين بها كناية عن جعل التخيير بين الفعل و الترك.
كما يرد على الوجه الثالث بأنه يمكن أن يقال بأن الملحوظ في استصحاب شيء عند الشك في بقاءه فرض عدم شك المكلف في سائر ما هو دخيل في وظيفته.
كما نقول بالنسبة الى الوجه الرابع بأن الاولى تبديله بوجه آخر وهو أنه لا وجه لأن يقول المحقق الاصفهاني “ره” في النقض العملي لليقين بشيء أنه في قبال ابقاءه عملا، بترتيب اثره و هو المحركية نحو متعلقه، فيلحظ فيه اثره المباشري و لكن يلحظ في النقض الحقيقي لليقين لازمه مع الواسطة، و هو الاتيان بصلاة الجمعة مثلا و الذي يكون لازم اليقين بالحكم الفعلي الذي هو لازم اليقين بالموضوع لمن علم بكبرى الجعل.
هذا وقد أجاب في المنتقى عن اصل الاشكال بأن دليل الاستصحاب ان كان متكفلا للتعبد ببقاء المتيقن، كما هو ظاهر تعريفه بأنه إبقاء ما كان، كانت الشبهة محكّمة، لعدم قابلية الموضوع في حد نفسه للتعبد، فشمول الدليل للاستصحاب الموضوعي في الشبهة الموضوعية يتوقف على ارتكاب المجاز، و هكذا الحال إذا كان التعبد و الجعل متعلقا بصفة اليقين لا بالمتيقن، لعدم ترتب الأثر العملي على اليقين بالموضوع، فيكون التعبد به لغوا كما مر، و لكن الظاهر أن دليل الاستصحاب بدوا لا يتكفل التعبد بالمتيقن،
بيان ذلك أنك عرفت ان النقض حقيقة لا يتعلق باليقين، لعدم تصوره في باب الاستصحاب، بل هو متعلق بالمتيقن، و من الواضح أن النهي عن النقض الحقيقي للمتيقن بالشك مما لا معنى له، إذ الشك لا يصلح أن يكون ناقضا للمشكوك، لأن الشك عبارة عن التردد بين الوجود و العدم، فلا معنى لأن يكون مقتضيا للعدم، بل حاله حال الطريق، فانه لا يتصرف في ذي الطريق، فلابد أن يراد النهي عن النقض العملي للمتيقن بالشك، بمعنى لزوم معاملة المتيقن معاملة الثابت حال الشك و عدم جواز رفع اليد عنه لأجل الشك فيه، فالنهي عن نقض المتيقن لا يراد به التعبد بالمتيقن، بل يراد به لزوم معاملة المتيقن معاملة الباقي، فان هذا هو فعل المكلف الذي يصح تعلق النهي به.
و هذا النهي إرشادي إلى ثبوت ما يقتضي استمرار معاملة المتيقن معاملة البقاء، فهو يدل بالملازمة العرفية أو بدلالة الاقتضاء على التعبد بالمتيقن بقاء إذا كان حكما شرعيا، و على جعل الحكم المماثل لحكم المتيقن إذا كان موضوعا، إذ لزوم المعاملة مع الموضوع معاملة البقاء لا يكون إلا إذا فرض جعل مماثل لحكمه بقاء، كما ان لزوم المعاملة مع الحكم معاملة البقاء لا يكون إلّا إذا فرض جعل مماثله بقاء، و لا يختلف الحال فيه بين ان يكون متعلق النقض هو المتيقن كما اخترناه أو يكون هو اليقين كما هو واضح، إذ أساسه على استفادة كون النقض المنهي عنه هو النقض العملي لا الحقيقي، و قد عرفت ان ظهوره العرفي في ذلك، لأن ما يكون فعل المكلف القابل لتعلق النهي به هو نقض المتيقن أو اليقين عملا لا النقض حقيقة([3])
حاصل الجواب عن الشبهه
اقول: حاصل الجواب عن الاشكال هو أن ظاهر النهي عن نقض اليقين بالشك هو النهي عن نقضه العملي، و من الواضح أن عمل المكلف يكون نتيجة علمه بالجعل الشرعي و علمه بتحقق موضوعه، فلكل منهما دور في تحريكه نحو العمل، فنقض اليقين بالموضوع عند افتراض العلم بكبرى الجعل الشرعي يكون بعدم البناء العملي على ثبوت الحكم عنده، و هكذا اثر اليقين بتحقق المتعلق للتكليف هو الاجتزاء به كما أن اثر اليقين بعدمه عدم الاجتزاء، و المسألة واضحة.
القول بعدم جريان الاستصحاب في الاحكام الكلية
التزم جماعة من الاعلام بعدم جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية لأحد وجهين:
الوجه الاول: قصور المقتضي (عن السيد الخوانساري)
الوجه الاول: قصور المقتضي، و هذا ما قد يظهر من السيد الخوانساري “ره” في جامع المدارك([4])، و ذهب اليه بعض الأجلاء “دام ظله” حيث منع من شمول دليل الاستصحاب للأحكام الكلية وجودية كانت او عدمية، و يمكن تقريبه ببيانين:
البيان الاول: ان القاء خطاب عام يشمل الاستصحاب في الشبهات الحكمية من دون بيان اشتراط جريانه بالفحص واليأس عن الظفر بالدليل، خاصة في زمان الأئمة (عليهمالسلام) مما كان يمكن الفحص ولو بالسؤال عنهم ليس عرفيا، و هذا مما يصلح للقرينية على كون الملحوظ في هذه الروايات الشبهات الموضوعية، فيمنع من انعقاد الظهور فيها لشمول الاستصحاب في الاحكام الكلية، خصوصا مع تفسير الظهور بما يورث الوثوق النوعي بمراد المتكلم مع قطع النظر عن القرائن المنفصلة.
البيان الثاني: ان عمدة الدليل على الاستصحاب هو صحيحة زرارة الاولى و الثانية و موردهما الشبهة الموضوعية لوجود ناقض الوضوء او طرو النجاسة، و هذا مما يصلح للمنع عن انعقاد الظهور فيها في الشمول للاحكام الكلية، كما أن مورد صحيحة زرارة الثالثة الشك في الامتثال بنحو الشبهة الموضوعية، و مثل معتبرة اسحاق بن عمار و حديث الاربعمأة و ان لم يذكر لهما مورد، لكن لم يتم الاستدلال بهما على الاستصحاب، كما أن صحيحة ابن سنان لا اطلاق لها للشبهات الحكمية.
و هذا الاشكال و ان كان قويا، لكن قد يقال في رد البيان الاول ان اشتراط جريان الاستصحاب في الشبهات الحكمية بالفحص خاص بالاستصحاب المعذر اي الاستصحاب الترخيصي دون المنجز، فاذا شمل الثاني نتعدى الى الاول بضم عدم احتمال الفرق، على أنه قد ثبت هذا الاشتراط بالمقيد اللبي المتصل اذا كان ديدن المولى وضع خطاباته في معرض الوصول لا ايصالها الى كل واحد من المكلفين، فلا يكون القاء لكلام ظاهر في عدم لزوم الفحص.
كما يمكن رد البيان الثاني بعدم صلاحية المورد للمنع من التعميم بعد ظهور الروايات في اعطاء كبرى كلية.
الوجه الثاني: الابتلاء بالمانع (عن المحقق النراقي)
الوجه الثاني: الابتلاء بالمانع، و الظاهر أن اول من ذكر ذلك هو المحقق النراقي “ره” فقد نقل الشيخ الأعظم “قده” عنه أنه قال في كتابه في علم الاصول المسمى بمناهج الأحكام: إنه إذا علم أن الشارع أمر بالجلوس يوم الجمعة، و علم أنه واجب إلى الزوال، و لم يعلم وجوبه فيما بعده، فنقول: كان عدم التكليف بالجلوس معلوما قبل ورود أمر الشارع، و علم ارتفاع هذا العدم و التكليف بالجلوس فيه قبل الزوال، و صار بعده موضع الشك، فهنا شك و يقينان، و ليس إبقاء حكم أحد اليقينين أولى من إبقاء حكم الآخر.
فإن قلت: يحكم ببقاء اليقين المتصل بالشك و هو اليقين بالجلوس، قلنا: إن الشك في تكليف ما بعد الزوال حاصل قبل مجيء يوم الجمعة وقت ملاحظة أمر الشارع، فشك في يوم الخميس مثلا حال ورود الأمر في أن الجلوس غدا هل هو مكلف به بعد الزوال أيضا أم لا و اليقين المتصل به هو عدم التكليف فيستصحب و يستمر ذلك إلى وقت الزوال.
تعارض استصحابي الوجود و العدم
ثم أجرى ما ذكره من تعارض استصحابي الوجود و العدم في مثل وجوب الصوم إذا عرض مرض يشك في بقاء وجوب الصوم معه و في الطهارة إذا حصل الشك فيها لأجل المذي و في طهارة الثوب النجس إذا غسل مرة.
فحكم في الأول بتعارض استصحاب وجوب الصوم قبل عروض الحمى و استصحاب عدمه الأصلي قبل وجوب الصوم، و في الثاني بتعارض استصحاب الطهارة قبل المذي، و استصحاب عدم جعل الشارع الوضوء سببا للطهارة بعد المذي، و في الثالث حكم بتعارض استصحاب النجاسة قبل الغسل و استصحاب عدم كون ملاقاة البول سببا للنجاسة بعد الغسل مرة، فيتساقط الاستصحابان في هذه الصور إلا أن يرجع إلى استصحاب آخر حاكم على استصحاب العدم، و هو عدم الرافع و عدم جعل الشارع مشكوك الرافعية رافعا.
قال: و لو لم يعلم أن الطهارة مما لا يرتفع إلا برافع لم نقل فيه باستصحاب الوجود([5]).
عدم جریان الاستحاب فی موارد الشك في الرافع
ولكنه فصّل في كتاب عوائد الأيام بين الشك في المقتضي والشك في الرافع، فانكر جريان الاستصحاب في موارد الشك في المقتضي، دون موارد الشك في الرافع، ومثّل للاول بالوجوب، و التحريم، و نحوهما، بدعوى أن وجوب شيء في زمان أو حرمته فيه لا يقتضي بقاء الوجوب أو الحرمة في زمان آخر، فانه يمكن أن يكون المتحقق أولا هو الوجوب المقيد بذلك الزمان، ومثّل للثاني بالطهارة، و النجاسة، و الحدث، و الملكية، و أمثالها، فإن وجودها في زمانٍ كافٍ في بقاءها في زمانٍ بعده، لولا ورود الرافع عليها، و لا تتحقق أولاً محدودة بحد، لا أقول: انها مثل العلم و السواد و نحوهما، مما لا يجوز عقلاً أن يوجد من الاول محدودا بزمان معين، بل اقول: إنه و إن جاز ذلك في تلك الأمور الشرعية عقلا، و لكن حصل بالتتبع و الاستقراء في أدلة الأحكام، أن هذه الأمور كذلك مطلقا، فإنا نعلم بالإجماع أن الحدث إذا تحقق في زمان، يكون باقيا بعده ما لم يحدث علة رافعة له، و حدوثه في الزمان الأول مقتض لبقائه في الثاني لولا حدوث الرافع، و كذا النجاسة و الملكية و نحوهما، و هذا العلم حاصل من تتبع الأدلة و الفتاوي و استقراء جزئيات الموارد.
فما كان من القسم الثاني يمكن استصحابه مطلقا، و بعد وجوده لا يعارضه استصحاب حال عقل([6]).
استصحاب بقاء الحكم الكلي يكون مبتليً بالمعارض دائما
و حاصل الكلام المنقول في مناهج الأحكام هو أن دليل الاستصحاب وان كان يشمل الاستصحاب في الشبهات الحكمية في حد ذاته، لكن استصحاب بقاء الحكم الكلي يكون مبتليً بالمعارض دائما، و هو الوجه استصحاب عدم الجعل الزائد، فلو شككنا في بقاء نجاسة الماء الذي زال تغيره بنفسه فاستصحاب بقاء نجاسته يكون متعارضا مع استصحاب عدم جعل النجاسة للماء الذي زال تغيره ولايخفى أن زمان اليقين السابق في استصحاب عدم الجعل هو ما قبل التشريع، ويكون زمان الشك اللاحق هو ما بعد التشريع، بينما ان زمان اليقين السابق في بقاء المجعول في هذا المثال هو زمان تغير الماء وزمان الشك اللاحق هو زمان زوال تغيره.
وان كان المذكور في آخر كلامه جريان استصحاب عدم الرافع كاستصحاب عدم كون المذي رافعا للطهارة.
الکلام فی معارضة استصحاب عدم الجعل الزائد مع استصحاب بقاء المجعول
وقد اختار القول بمعارضة استصحاب عدم الجعل الزائد مع استصحاب بقاء المجعول، جمع من الاعلام، كالسيد الخوئي “قده”، وهو الصحيح، كما سنبيِّن ان شاء الله، و الفارق بين هذا الوجه والوجه السابق أن من الواضح عدم اقتضاء هذا الوجه للمنع عن جريان استصحاب عدم الحكم الكلي، بل قد يدعى في بعض الأحكام أن مقتضى الاصل الاولي جعله، كما ذكره السيد الخوئي في الطهارة من الخبث و الحدث، وكذا الحلية، فلا يجري فيه استصحاب عدم الجعل الزائد كي يعارض استصحاب بقاء المجعول.
الاجوبة عن اشكال معارضة استصحاب عدم الجعل الزائد مع استصحاب بقاء المجعول
و قد اجيب عن اشكال معارضة استصحاب عدم الجعل الزائد مع استصحاب بقاء المجعول بعدة اجوبة، اهمها ما يلي:
الجواب الاول: ما ذكره الشيخ الاعظم
ما ذكره الشيخ الاعظم “قده” من أن مورد استصحاب بقاء الحكم هو ما اذا كان الزمان ظرفا لوجوب الجلوس مثلا، فانه حينئذ لا مجال لاستصحاب عدم وجوب الجلوس بعد الزوال، لأنه انقلب العدم إلى الوجود المردد بين كونه في قطعة خاصة من الزمان و كونه أزيد و المفروض تسليم حكم الشارع بأن المتيقن في زمان لابد من إبقاءه.
ولو فرض كون الزمان قيدا مفرِّدا للحكم او لمتعلقه بأن لوحظ وجوب الجلوس المقيد بكونه إلى الزوال شيئا، و المقيد بكونه بعد الزوال شيئا آخر متعلقا للوجوب، فلا مجال لاستصحاب الوجوب للقطع بارتفاع ما علم وجوده، و الشك في حدوث ما عداه، و لذا لا يجوز الاستصحاب في مثل “صم يوم الخميس” إذا شك في وجوب صوم يوم الجمعة، و الحاصل أن الموجود في الزمان الأول إن لوحظ مغايرا من حيث القيود المأخوذة فيه للموجود الثاني فيكون الموجود الثاني حادثا مغايرا للحادث الأول فلا مجال لاستصحاب الموجود إذ لا يتصور البقاء لذلك الموجود بعد فرض كون الزمان الأول من مقوماته، و إن لوحظ متحدا مع الثاني لا مغايرا له إلا من حيث ظرفه الزماني فلا معنى لاستصحاب عدم ذلك الموجود لأنه انقلب إلى الوجود.
و أما ما ذكره من استصحاب عدم جعل الوضوء سببا للطهارة بعد خروج المذي، و عدم كون البول سببا لنجاسة الملاقي له بعد غسله مرة واحدة، ففيه أنا إذا علمنا أن الشارع جعل الوضوء علة تامة لوجود الطهارة و شككنا في أن المذي رافع لهذه الطهارة الموجودة المستمرة بمقتضى استعدادها فليس الشك متعلقا بمقدار سببية السبب و كذا الكلام في سببية ملاقاة البول للنجاسة عند الشك في ارتفاعها بالغسل مرة.
فإن قلت: إنا نعلم أن الطهارة بعد الوضوء قبل الشرع لم تكن مجعولة أصلا و علمنا بحدوث هذا الأمر الشرعي قبل المذي و شككنا في الحكم بوجودها بعده و الأصل عدم ثبوتها بالشرع.
قلت لابد من أن يلاحظ حينئذ أن منشأ الشك في ثبوت الطهارة بعد المذي الشك في مقدار تأثير المؤثر و هو الوضوء، و أن المتيقن تأثيره مع عدم المذي لا مع وجوده، أو أنا نعلم بتأثير الوضوء في إحداث أمر مستمر لولا ما جعله الشارع رافعا، فعلى الأول لا معنى لاستصحاب عدم جعل الشيء رافعا لأن المتيقن تأثير السبب مع عدم ذلك الشيء، و الأصل عدم التأثير مع وجوده إلا أن يتمسك باستصحاب وجود المسبب، فهو نظير ما لو شك في بقاء تأثير الوضوء المبيح كوضوء التقية بعد زوالها، لا من قبيل الشك في ناقضية المذي، و على الثاني لا معنى لاستصحاب العدم، إذ لا شك في مقدار تأثير المؤثر حتى يؤخذ بالمتيقن.
و لو سلم جريان استصحاب عدم جعل الوضوء سببا لطهارة لما بعد خروج المذي، فلا نسلم ما ذكره من حكومة استصحاب عدم جعل المذي رافعا للطهارة عليه، فان الشك في أحدهما ليس مسببا عن الشك في الآخر، بل مرجع الشك فيهما إلى شيء واحد و هو أن المجعول في حق المكلف في هذه الحالة هو الحدث أو الطهارة([7]).
و قد وقع الخلاف في تفسير مراد الشيخ الأعظم “قده” من الظرفية والقيدية، فيذكر له تفسبران:
التفسير الاول: ما ذكره السيد الخوئي “قده” من أن معنى كون الزمان ظرفا كون الحكم الثابت واحدا شخصيا مستمرا، كوجوب الإمساك من طلوع الفجر إلى المغرب، فانه لا يكون وجوب الإمساك تكليفاً متعدداً بتعدد آنات هذا اليوم، ومعنى كون الزمان قيدا هو كون الحكم انحلاليا بلحاظ الازمنة، كحرمة وطء الحائض، حيث أن حرمة وطء الحائض في كل زمان غير حرمة وطءها في الزمان الآخر، ولذا يفرض لها اطاعة وعصيان مستقل([8]).
ومنشأ هذا التفسير ما ذكره الشيخ الاعظم في الرسائل في تفسير قيدية الزمان للعموم من أنه يؤخذ كل زمان موضوعا مستقلا لحكم مستقل، لينحلّ العموم إلى أحكام متعددة بتعدد الأزمان([9])، كما ذكر في المكاسب في تفسير ظرفية الزمان، أنه يكون الحكم فيه حكماً واحداً مستمرّاً لموضوعٍ واحد، فيكون مرجع الشكّ فيه إلى الشكّ في استمرار حكمٍ واحدٍ وانقطاعه فيستصحب([10]).
ولكن الظاهر أن مراده من كون الزمان قيدا او ظرفا ليس هو انحلالية الحكم او وحدته، ولذا مثّل لظرفية الزمان بما اذا ورد تحريم فعل في زمان ثم شك في استمراره، مع كون التحريم ظاهرا في الانحلال، حيث قال: انهم لا يرتابون في أنه إذا ثبت تحريم فعل في زمان ثم شك في بقائه بعده فيكون الشك فيه في استمرار الحرمة لهذا الفعل و ارتفاعها، و إن كان مقتضى المداقة العقلية كون الزمان قيدا للفعل.
ثم قال: نعم قد يتحقق في بعض الواجبات مورد لا يحكم العرف بكون الشك في الاستمرار مثلا إذا ثبت في يوم وجوب فعل عند الزوال ثم شككنا في الغد أنه واجب اليوم عند الزوال فلا يحكمون باستصحاب ذلك و لا يبنون على كونه مما شك في استمراره و ارتفاعه بل يحكمون في الغد بأصالة عدم الوجوب قبل الزوال أما لو ثبت ذلك مرارا ثم شك فيه بعد أيام فالظاهر حكمهم بأن هذا الحكم كان مستمرا و شك في ارتفاعه فيستصحب.
و من هنا ترى الأصحاب يتمسكون باستصحاب وجوب التمام عند الشك في حدوث التكليف بالقصر و باستصحاب وجوب العبادة عند شك المرأة في حدوث الحيض لا من جهة أصالة عدم السفر الموجب للقصر و عدم الحيض المقتضي لوجوب العبادة حتى يحكم بوجوب التمام لأنه من آثار عدم السفر الشرعي الموجب للقصر و بوجوب العبادة لأنه من آثار عدم الحيض بل من جهة كون التكليف بالإتمام و بالعبادة عند زوال كل يوم أمرا مستمرا عندهم و إن كان التكليف يتجدد يوما فيوما فهو في كل يوم مسبوق بالعدم فينبغي أن يرجع إلى استصحاب عدمه لا إلى استصحاب وجوده([11]).
هذا وقد قبل السيد الخوئي عدم جريان استصحاب الحكم في حد نفسه في فرض كون الحكم انحلاليا، كحرمة الوطء في مثال الشك في حرمة وطء الحائض بعد انقطاع الدم وقبل الاغتسال، بدعوى أن شخص الحكم السابق معلوم الارتفاع، وانما يحتمل حدوث فرد آخر من طبيعي ذلك الحكم، فيكون استصحاب جامع الحرمة من قبيل استصحاب القسم الثالث من الكلي.
وأما اذا كان الحكم واحدا مستمرا كنجاسة الماء المتغير، حي يشك في بقاءها بعد زوال تغير الماء بنفسه، او ملكية كل من البايع والمشتري لما انتقل البيع حيث يشك في بقاءها بعد فسخ احدهما في فرض الشك في لزوم البيع او جوازه كبيع المعاطاة، او الزوجية عند الشك في بقاءها للشك في كون عقد النكاح خياريا، فادعى فيه تمامية دعوى المحقق النراقي من معارضة استصحاب بقاء المجعول مع استصحاب عدم الجعل الزائد.
التفسير الثاني: ما هو الظاهر من أن مراده أن الزمان تارة يكون قيدا للموضوع في القضية الشرعية فيسمى قيد الحكم، كما لو قيل “اكرام العلماء في يوم الخميس واجب” او قيل “الوجوب في يوم الخميس ثابت لاكرام العلماء” وقد مثّل له الشيخ الاعظم بقوله “صم يوم الخميس” فجعله قيدا للمادة وهو الصوم، فكأنه قيل “صوم يوم الخميس واجب” وأخرى يكون مجرد قيد للنسبة بين الموضوع والمحمول في القضية، فيسمى ظرف الحكم، كما لو قيل “اكرام العلماء واجب في يوم الخميس”.
وعليه فلو شككنا في حرمة وطء الزوجة بعد حيضها وقبل اغتسالها، فان كان الزمان قيدا للموضوع، كما لو قيل “وطء الزوجة حال حيضها حرام” فلا يجري الاستصحاب لتغير الموضوع، ولو كان ظرفا كما لو قيل “وطء الزوجة حرام حال حيضها” فيجري الاستصحاب.
ایرادات على جواب الشيخ الأعظم
وقد اورد على جواب الشيخ الأعظم عدة ايرادات:
الايراد الاول: ما ذكره السيد الخوئي
الايراد الاول: ما ذكره السيد الخوئي “قده” من أن المعارض لاستصحاب بقاء الحكم السابق الذي هو من سنخ المجعول استصحاب عدم الجعل الزائد، توضيح ما ذكره أن للحكم مرحلتين، مرحلة الجعل ومرحلة المجعول، و قد يراد من الجعل عملية الانشاء والجعل، و أخرى يراد به المجعول الكلي الذي يعبر عنه بالحكم الانشائي، والفرق بينهما أن عملية الانشاء ليس لها بقاء واستمرار، بل توجد آنامّا وتنعدم، و الحكم الانشائي له بقاء اعتباري حيث ان الشارع حينما يجعل النجاسة للماء المتغير مثلا، و يقول “الماء المتغير نجس” فيرى العرف أن لهذه القضية ثبوتا اعتباريا كحكم و قانون من قوانين الشريعة، و يكون حدوثها بعملية الانشاء و الجعل، و بقاءها بعدم النسخ، و لا يحتاج حدوثها و بقاءها الى وجود موضوعها و هو الماء المتغير، فقد لا يوجد ماء متغير ابدا، و لكن هذا الحكم و القانون لا يزال موجودا منذ أن تمت عملية الجعل.
و قد وقع الاختلاف في الكلمات المنقولة عن السيد الخوئي “قده” حول مراده من الجعل، فمما يناسب كون مراده من الجعل عملية الجعل ما ذكره في توضيح الفرق بين الجعل وبين المجعول من أن الاعتبار كما يمكن تعلقه بأمر فعلى، كذلك يمكن تعلقه بأمر استقبالي، فليس جعل الحكم وإنشاءه الا عبارة عن اعتبار شيء على ذمة المكلف في ظرف خاص، ويتحقق المعتبر بمجرد الاعتبار، بل هما امر واحد حقيقة، والفرق بينهما اعتباري كالوجود والإيجاد([12]).
كما قال ايضا: انّ الاعتبار بما أنّه من الامور النفسانية ذات الاضافة كالعلم والشوق وما شاكلهما من الصفات الحقيقية التي تكون كذلك، فلا مانع من تعلّقه بأمر متأخر ، نظير العلم، فإنّه كما يتعلق بأمر حالي كذلك يتعلّق بأمر استقبالي، فيمكن تأخر المعتبر عن الاعتبار، بأن يكون الاعتبار حالياً والمعتبر أمراً متأخراً، كاعتبار وجوب الصوم على زيد غداً أو نحو ذلك، فالتفكيك بين الاعتبار والمعتبر لا محذور فيه أصلًا، ولا يقاس ذلك بالتفكيك بين الايجاد والوجود في التكوينيات أصلًا، وممّا يشهد لما ذكرناه: صحة الوصية التمليكية، فلو قال الموصي هذه الدار لزيد بعد وفاتي، فلا شبهة في تحقق الملكية للموصى له بعد وفاته، مع أنّ الاعتبار فعلي، ومن البديهي أنّ هذا ليس إلّا من ناحية أنّ الموصي اعتبر فعلًا الملكية للموصى له في ظرف الوفاة([13]).
وقال في المقام: ان الاعتبار إنما هو بمنزلة التصور، فكما أن التصور تارة يتعلق بمتصور حالي، وأخرى بمتصور استقبالي، فكذا الاعتبار تارة يتعلق بأمر حالي، وأخرى يتعلق بأمر استقبالي بحيث يكون الاعتبار والإبراز في الحال، والمعتبر في الاستقبال كالواجبات المشروطة قبل تحقق الشرط، فان الاعتبار فيها حالي، والمعتبر وهو الوجوب استقبالي، لعدم تحققه إلا بعد تحقق الشرط، ونظيرها الوصية، فان اعتبار الملكية في موردها حالي، إلا أن المعتبر أمر استقبالي، وهي الملكية بعد الوفاة([14]).
ومما يؤيد كون مراده من الجعل عملية الجعل أنه ذكر في مصباح الفقاهة أن اشكال المعارضة يأتي في استصحاب الحكم الجزئي، حيث ان الحكم الجزئي لو كان باقيا فبقاءه كحدوثه يحتاج الى الجعل، فكما يجري استصحاب بقاءه على حد استصحاب بقاء المجعول كذلك يجري استصحاب عدم جعله فيتعارضان([15])، اذ من الواضح أنه لا شك فيه في الجعل بمعنى الحكم الكلي الانشائي.
ولكن ورد عنه بعض العبارات التي تناسب كون المراد من الجعل هو الحكم الانشائي، فقد ذكر في ذيل العبارة الاولى التي نقلناها عنه آنفا ما لفظه: فالحكم الفعلي هو الحكم الانشائي مع تحقق موضوعه([16])، فهذا ناظر الى بيان اتحاد الجعل بمعنى المجعول الكلي الانشائي مع الحكم الفعلي، فليس الجعل في كلامه بمعنى واحد.
وأما مراده من المجعول فهو الحكم الذي صار فعليا بعد تحقق موضوعه في الخارج، وحينئذ فقد ذكر في مثال نجاسة الماء الذي شك في بقاء نجاسته بعد زوال تغيره أنه بلحاظ مرحلة المجعول -اي الحكم الفعلي- لنا يقين سابق بنجاسة الماء المتغير في زمان تغيره وشك لاحق في بقاءها بعد زوال تغيره، فبهذا اللحاظ يجري استصحاب بقاء النجاسة لا غير، و لكن بلحاظ مرتبة الجعل لنا يقين بعدم جعل النجاسة في صدر الاسلام للماء المتغير مطلقا، و القدر المتيقن انما هو جعلها للماء المتغير بالفعل، أما جعلها مطلقاً حتى للماء الذي زال تغيره فهو مشكوك، وبذلك تتم اركان الاستصحاب في عدم جعل النجاسة لحال زوال تغيره فتقع المعارضة بين استصحاب بقاء المجعول و استصحاب عدم الجعل، مع أن الموضوع -و هو الماء- واحد ولا يكون الزمان مفرِّدا، فيقال: إن هذا الموضوع الواحد كان حكمه كذا و شك في بقاءه فيجري استصحاب بقاءه، و يقال أيضا: إن هذا الموضوع لم يجعل له حكم في الأول لا مطلقاً و لا مقيداً بحال، و المتيقن جعل الحكم له حال كونه مقيداً فيبقى جعل الحكم له بالنسبة إلى غيرها تحت الأصل، فتقع المعارضة بين الاستصحابين مع حفظ وحدة الموضوع([17]).
فحاصل كلامه أن المعارض لاستصحاب بقاء المجعول ليس من سنخ المجعول حتى يقال بأنه لا معنى لاستصحاب عدمه، بعد تمامية اركان استصحاب بقاءه، وانما هو عدم الجعل الزائد، وحيث ان حالته السابقة المتيقنة العدم، فيستصحب عدم الجعل.
الايراد الثاني: ما ذكره السيد الامام
ما ذكره السيد الامام “فده” من أنه في فرض كون الزمان ظرفا للحكم، فيقال بأنه أنه لا مانع من استصحاب عدم وجوب الجلوس المقيد بما بعد الزوال و ليس ثبوت الوجوب للجلوس غير المقيد به نقضا للعدم الازلي لوجوب الجلوس المقيد به، لإمكان أن يكون نفس الجلوس واجبا و الجلوس المقيد غير واجب، و أما قوله ان المفروض تسليم حكم الشارع بان المتيقن في زمان لابد من إبقاءه، فيمنع ذلك من استصحاب عدم وجوب الجلوس المقيد بما بعد الزوال فهو غريب، لأن ما ذكره بيان لاستصحاب بقاء الجلوس، وهذا لا ينافي وجود معارض له، وهو استصحاب عدم وجوب الجلوس المقيد بما بعد الزوال([18]).
اقول: الظاهر أن مقصود الشيخ الأعظم أنه اذا كان الزمان ظرفا للحكم فمعنى ذلك حدوث الحكم قبل الزوال لطبيعي الجلوس، لا للجلوس المقيد بما قبل الزوال، والعلم بعدم حدوث الوجوب للجلوس المقيد بما بعد الزوال لا يستلزم العلم بارتفاع الوجوب الثابت قبل الزوال لطبيعي الجلوس، فكيف باستصحابه، فلا معارض لاستصحاب بقاء هذا الوجوب.
فلا يختلف جوابه عما أجاب به السيد الامام عن إشكال المحقق النراقي، حيث قال: ان الموضوع إما نفس الجلوس فلا يجري استصحاب عدم الوجوب، لأن عدم وجوب الجلوس انتقض بوجوبه الثابت له قبل الزوال، و أما استصحاب عدم وجوب الجلوس المتقيد بما بعد الزوال فلا منافاة بينه وبين استصحاب بقاء الوجوب المطلق، لإمكان حصول القطع بأن الجلوس بعد الزوال واجب بما أنه جلوس، أي يكون نفس الجلوس تمام الموضوع للوجوب و الجلوس المتقيد بما بعد الزوال غير واجب بحيث يكون الجلوس بعض الموضوع و بعضه الاخر تقيده بكونه بعد الزوال([19]).
ثم ان صاحب الكفاية أجاب عن اشكال المحقق النراقي بنفس جواب الشيخ الأعظم، فقال: ان الجمع بين لحاظ الزمان قيدا و ظرفا غير ممكن، للتنافي بينهما، فلا يمكن ان يعمّ دليل الاستصحاب كليهما معا، فلا يكون هناك الا استصحاب واحد و هو استصحاب بقاء الحكم فيما إذا أخذ الزمان ظرفا و استصحاب عدمه فيما إذا أخذ قيدا([20]).
ولكن اورد عليه السيد الامام بأن إطلاق دليل الاستصحاب يشملهما من غير لزوم الجمع بين اللحاظين، لأن معنى الإطلاق ليس لحاظ الحالات الطارئة و الا رجع إلى العموم، بل معناه جعل الماهية تمام الموضوع للحكم من غير تقييده بشيء، فينطبق قهرا على الكثرات من غير لحاظها بوجه، فقوله “لا تنقض اليقين بالشك” يكون مطلقا بهذا المعنى أي يكون اليقين و الشك تمام الموضوع للحكم بعدم الانتقاض من غير لحاظ خصوصية معهما، فهو بوحدته يشمل جميع الاستصحابات بما أنها عدم نقض اليقين بالشك، هذا مضافا إلى أنه لو فرض لزوم الجمع بين اللحاظين في دليل الاستصحاب فلابد و أن لا يشمل الا واحدا منهما دائما، لا أنه على فرض الظرفية يشمل أحدهما و على فرض القيدية يشمل الاخر([21]).
وفيه أن مقصود صاحب الكفاية أن الخطاب المشتمل على الحكم الشرعي كوجوب الجلوس من طلوع الشمس الى الزوال او من طلوع الشمس الى الغروب لا يمكن أن يكون الزمان المأخوذ فيه شرعا قيدا وظرفا في مقام جعل الحكم معا، وهذا امر صحيح لا يقبل النقاش.
الايراد الثالث:
ما يخطر بالبال من أن كون الزمان او الحال كحال تغير الماء ظرفا للحكم، لا ينافي امكان لحاظه في مقام اجراء الاستصحاب قيدا في موضوع الحكم، فان الشارع حينما يحكم بنجاسة الماء الذي حدث فيه التغير، فيكون حال التغير ظرفا للحكم في جعل الشارع، ولكن يصح أن يقال في مقام اجراء الاستصحاب بأن حكم الشارع بنجاسة الماء الذي زال تغيره بنفسه لم يكن ثابتا قبل تشريع الأحكام، ويشك في ثبوته بعد تشريع الأحكام، فيستصحب عدم ثبوته، وهذا هو المراد من استصحاب عدم الجعل الزائد، فيكون قد أخذ حال التغير قيدا في المستصحب في مقام اجراء الاستصحاب، كما أنه يصح أن يلحظ ظرفا للاستصحاب فقط من دون أن يؤخذ في المستصحب، فيقال مثلاً: الماء كان نجسا حال تغيره، فيستصحب كونه نجسا الى حال زوال تغيره، فالمستصحب هو كونه نجسا، و زمان التغير و زوال التغير زمان اليقين السابق و الشك اللاحق.
وان شئت قلت: انه من جهة أن العرف يرى النجاسة وصفا من اوصاف الماء وتحدث بحدوث تغيره، وتبقى الى زمان حصول امدها، فيصح أن يقال ان الماء الذي يكون متغيرا فعلا نجس جزما، ويشك في بقاء نجاسته بعد زوال تغيره بنفسه، فيجري استصحاب بقاءها، و من جهة أخرى يلحظ حكم أن الماء الذي زال تغيره بنفسه نجس، وأنه مما لم يكن موجودا قبل التشريع فيستصحب عدم قانون يكون مفاده بالخصوص او العموم كون الماء الذي زال تغيره نجسا، فيتعارض الاستصحابان.
و هكذا في مثال الشك في حرمة وطء الزوجة بعد انقطاع دمها و قبل اغتسالها، فان العرف يستظهر من مثل قوله تعالى “فاعتزلوا النساء في المحيض([22])” أن زمان الحيض ظرف لتعلق الحرمة بوطء الزوجة من دون أن يؤخذ قيدا في متعلق الحرمة -بخلاف ما لو ورد في الخطاب ان الوطء الواقع في زمان حيض الزوجة حرام حيث يكون الظاهر منه كون الزمان قيدا في متعلق الحرمة- ولكن مع ذلك فيصح أن يقال في مقام اجراء الاستصحاب: انه يعلم بعدم كون وطء الزوجة حال انقطاع دمها حراما قبل التشريع، و يشكّ في صيرورته حراما بعد ذلك، فيستصحب عدمه، كما أنه يصح عرفا لحاظ الزمان ظرفا للاستصحاب فقط في مقام اجراء استصحاب بقاء المجعول، فيقال “كان وطء الزوجة حراما حال حيضها، ويشك في بقاء هذه الحرمة الى ما قبل غسلها”، فيتعارض الاستصحابان.
ومما يؤيد أن نكتة المعارضة لا تختص بالجعل والمجعول أن نكتة المعارضة تجري في روح الحكم مثل الارادة و الكراهة، مع أنها ليست من الاحكام الاعتبارية التي لها جعل و مجعول، فاذا علم بارادة المولى لاتيان المستطيع بالحج، ثم شك في بقاء هذه الارادة بعد زوال استطاعته، فاستصحاب بقاء ارادته لاتيانه بالحج الى زمان زوال استطاعته يكون متعارضا مع استصحاب عدم تعلق ارادة المولى باتيان من زالت استطاعته بالحج، و منشأ اختلاف الاستصحابين هو أخذ زمان الاستطاعة و زمان زوالها ظرفا للاستصحاب فيجري استصحاب بقاء ارادة المولى بالحج، و بين اخذهما في القضية المتيقنة و المشكوكة فيجري استصحاب عدم تعلق الارادة بالثانية.
ومن هنا اتضحت المناقشة في ما ذكره في البحوث من أن اشكال الشيخ الأعظم وارد على كلام المحقق النراقي، حيث ان المحقق النراقي جعل المعارض لاستصحاب بقاء المجعول اي وجوب الجلوس الى ما بعد الزوال من سنخ هذا الاستصحاب اي استصحاب عدم وجوب الجلوس بعد الزوال، ولذا عدّل السيد الخوئي تقريب المعارضة، حيث جعل المعارض استصحاب عدم جعل وجوب الجلوس بعد الزوال، لا استصحاب عدم وجوب الجلوس بعد الزوال فانه من اجراء الاستصحاب في نفس المجعول، والمفروض انتقاض عدمه بالوجود([23]).
ونكتة المناقشة ما ذكرنا من أنه يصح أن يقال في مثال الشك في نجاسة الماء الذي زال تغيره، ان حكم الشارع بنجاسة الماء الذي زال تغيره بنفسه لم يكن ثابتا قبل تشريع الأحكام، ويشك في ثبوته بعد تشريع الأحكام، فيستصحب عدم ثبوته، فيكون قد أخذ حال التغير قيدا في المستصحب في مقام اجراء الاستصحاب، فيلحظ حكم أن الماء الذي زال تغيره بنفسه نجس، على نحو مفاد كان التامة، وأنه مما لم يكن موجودا قبل التشريع فيستصحب عدم قانون يكون مفاده بالخصوص او العموم كون الماء الذي زال تغيره نجسا، فيتعارض مع استصحاب أن الماء كان نجسا حال تغيره، فيستصحب كونه نجسا الى حال زوال تغيره، حيث لوحظت النجاسة وصفا من اوصاف الماء، يحدث بحدوث الموضوع ويبقى ببقاءه، وحال الغير وزواله ظرفا للاستصحاب فقط من دون أن يؤخذ في المستصحب.
مضافا الى أن كلمة الجعل موجودة في الكلام المنقول عن المحقق النراقي في مثال الشك في بقاء الطهارة بعد خروج المذي، وان كان المذكور فيه استصحاب عدم جعل الوضوء سببا للطهارة بعد خروج المذي، وكان ينبغي أن يعبَّر باستصحاب عدم جعل الطهارة عقيب خروج المذي.
ثم انه قد يقال: اذا كان مجرد صحة اخذ الزمان ظرفا للاستصحاب تارة و قيدا في المستصحب اخرى كافيا لتعارض الاستصحابين فلم لا يلتزم بالتعارض في الأمور التدريجية، مثل ما لو شك في بقاء التكلم، فيلحظ الزمان الثاني قيدا في التكلم فيقال ان التكلم في الزمان الثاني لميكن موجودا سابقا، فيستصحب عدمه فعلا ويتعارض مع استصحاب بقاء التكلم، مع انه لايلتزم فيه بالمعارضة.
ولكن الجواب عنه أن لحاظ الزمان قيدا للتكلم لايجعله فردا آخر للتكلم، بل هو على اي تقدير استمرار للتكلم السابق، فليس للتكلم الا حالة سابقة وجودية، وهذا يختلف عن مثل جعل الاحكام او تعلق الارادة و الكراهة بالأفعال، فان تعلق جعل الاحكام او الارادة و الكراهة بمتعلقاتها يكون دفعة واحدة، فان المولى اذا ابغض وطء الزوجة حال حيضها فيكون تعلق بغضه بهذا العنوان دفعيا، سواء كان المبغوض هو وطء الزوجة في خصوص زمان الحيض او في زمان حدث الحيض، اي من بداية رؤية الدم الى ان تغتسل فيصح لحاظ تعلق البغض بوطء الزوجة في زمان انقطاع حيضها في عرض تعلق البغض بوطئها حال حيضها، وتكون الحالة السابقة له عدمية، ولأجل ذلك يستصحب عدمه، وهذا بخلاف مثل التكلم فان تعلق الايجاد به تدريجي كنفس وجوده.
هذا بالنسبة الى ما لو كان الزمان ماخوذا في الخطاب الشرعي ظرفا للحكم، وأما اذا كان الزمان قيدا للمتعلق في حكم الشارع بحسب استظهار العرف، كما لو قال الشارع “وطء الزوجة حال حيضها حرام” من دون أن يرجعه العرف حسب مناسبات الحكم والموضوع الى كونه مجرد تفنن في التعبير و أن الزمان ظرف للحكم في مقام ثبوت جعل الشارع، فمع ذلك يصدق عرفا أن يقال في مقام اجراء الاستصحاب أن وطء الزوجة كان حراما حال حيضها”، والحاصل أنه لا ملزم لكون كيفية لحاظ الزمان من حيث الظرفية و القيدية حين الاستصحاب تابعة للكيفية المأخوذة في جعل الشارع.
الجواب الثاني:
ما ذكره المحقق النائيني “قده” من أن الاثر المطلوب من جريان الاستصحاب و هو التنجيز او التعذير لا يترتب الا على الحكم الفعلي المعبر عنه بالمجعول، و الجعل اي الحكم الانشائي لا يترتب عليه التنجيز او التعذير، فان ما يكون محركا للعبد وباعثا أو زاجرا له إنما هو الحكم الفعلي، لا الإنشائي، حيث لا تترتب عليه الآثار الشرعية، و لا الآثار العقلية من وجوب الإطاعة وحرمة المعصية مع العلم به، فضلا عن التعبد به بالاستصحاب، فانه إذا علمنا بأن الشارع جعل وجوب الزكاة على مالك النصاب، لا يترتب على هذا الجعل أثر، ما لم تتحقق ملكية النصاب في الخارج.
وعليه فلا يترتب الأثر العملي على استصحاب عدم الجعل، اذ لو اريد منه نفي التنجيز او التعذير مباشرة، فهو غير معقول، لأنهما ليسا اثر الجعل حتى يمكن نفيهما باستصحاب عدم الجعل، بل هما اثر المجعول، و ان اريد نفيهما من خلال نفي المجعول باستصحاب عدم الجعل، فيكون من الاصل المثبت، اذ مآل الحكم الانشائي الذي هو قضية حقيقية انشائية الى قضية شرطية، كقولنا ” ان ملك المكلف النصاب وجب عليه الزكاة” فكما أن اثبات الوجوب الفعلي للزكاة على المكلف المالك للنصاب باستصحاب تلك القضية الشرطية يكون من الأصل المثبت كاثبات الوجود الفعلي لأيّ جزاءٍ، باستصحاب القضية الشرطية، كذلك نفي الوجوب الفعلي للزكاة باستصحاب عدم تلك القضية الشرطية، فلابد من اجراء الاستصحاب في نفس وجود الجزاء، و هكذا لايمكن ان ينفى الحكم الفعلي بنجاسة الماء الذي زال تغيره باستصحاب عدم الحكم الانشائي بأن الماء الذي زال تغيره بنفسه نجس، و عليه فلايوجد معارض لاستصحاب بقاء المجعول([24]).
اقول: كان ينبغي لأجل تتميم هذا البيان أن يضم اليه دعوى أنه لو اريد من الجعل عملية الجعل و الانشاء، فيكون استصحاب عدم الجعل لنفي المجعول اصلا مثبتا، حيث ان الجعل علة لثبوت المجعول، فنفي المجعول باستصحاب عدمه يكون من قبيل نفي المعلول باستصحاب عدم علته التامة، كاستصحاب عدم الحطب الزائد لنفي بقاء النار، فانه لا اشكال في كونه من الأصل المثبت.
ايرادات على اشكال مثبتية استصحاب عدم الجعل
وقد اورد على اشكال مثبتية استصحاب عدم الجعل بعدة ايرادات:
الايراد الاول:
ما ذكره المحقق العراقي والسيد الخوئي “قدهما” من النقض باستصحاب عدم النسخ وبقاء الجعل الذي لا خلاف في جريانه، فلو كان نفي الحكم الفعلي باستصحاب عدم الجعل من الأصل المثبت، كان إثبات الحكم الفعلي باستصحاب بقاء الجعل وعدم النسخ أيضا كذلك([25]).
وهذا النقض قد يرد على المحقق النائيني من باب الجدل، والا فلا ينسجم مع مباني مثل السيد الخوئي “قده” اذ لو كان مقصوده موارد الشك في النسخ الشرعي الذي يعني كشف الدليل الناسخ عن انتهاء امد الحكم المجعول اولاً، فقد صرح “قده” برجوع استصحاب عدم النسخ الى الاستصحاب في الشبهات الحكمية، وكونه مبتلى بشبهة معارضة استصحاب عدم الجعل الزائد واستصحاب بقاء المجعول ان جرى استصحاب بقاء المجعول في حد ذاته، كما لو شك في بقاء شخص الحكم السابق، والا فلو كان الحكم انحلاليا كما هو المتعارف في موارد الشك في النسخ فيكون استصحاب بقاء المجعول من قبيل استصحاب القسم الثالث من الكلي، فلا مجال فيه لاستصحاب الجعل ايضا بعد كون الجعل انحلاليا ويشك في حدوث الجعل بالنسبة الى حكم الأفراد المتجددة بعد زمان الشك في النسخ.
نعم لو كان مقصوده موارد الشك في النسخ الحقيقي كما هو المتصور في احكام الموالي العرفية، فقد يتجه النقض، حيث ان الحالة السابقة للمجعول في الأفراد المتجددة عدمية وانما يراد باستصحاب بقاء الجعل تنجيز أحكامها، ولكن ادعى المشهور ومنهم السيد الخوئي نفسه امتناع النسخ الحقيقي في الأحكام الشرعية، لاستلزام الجعل المطلق ثم الغاءه لجهل الحاكم بالمصالح والمفاسد، وسيأتي الكلام فيه في محله، مضافا الى امكان أن يدعى أن مستند الاجماع على استصحاب عدم النسخ هو السيرة العقلائية الواضحة في موارد الشك في النسخ الحقيقي، فلا يأتي فيه اشكال المثبتية.
الفرق بين استصحاب بقاء الجعل مع استصحاب عدم الجعل
هذا وقد اجاب بعض الاعلام في المنتقی عن هذا النقض بالفرق بين استصحاب بقاء الجعل مع استصحاب عدم الجعل، فان معنى استصحاب بقاء الجعل كاستصحاب بقاء جعل وجوب قطع يد السارق في زمان الغيبة وعدم نسخه، هو الجعل الظاهري لوجوب قطع يد السارق، وحيث يستحيل انفكاك الجعل عن المجعول، لوضوح استحالة الإنشاء بلا مُنشَأٍ، فلا ينفك المجعول الظاهري عن الجعل الظاهري، فيكون ثبوت المجعول الظاهري من لوازم نفس الاستصحاب، لا من لوازم المستصحب الذي يأتي فيه اشكال المثبتية، وحينئذ فتترتب عليه آثاره العملية العقلية و الشرعية، وأين هذا من استصحاب عدم الجعل لنفي المجعول فانه يكون من الاصل المثبت، توضيح ذلك أن عدم الجعل ظاهرا، وان كان يلازم عدم المجعول ظاهرا، كالملازمة بين عدم الجعل واقعا و عدم المجعول واقعا، لكن مجرد عدم الجعل و المجعول ظاهرا لا ينفع في إثبات المعذورية من الواقع المحتمل، إذ العقاب المحتمل عند احتمال الواقع انما هو على نفس الواقع، فعدم جعل الحكم ظاهري جزما لا أثر له في نفى العقاب على الواقع المحتمل.
كما ان مفاد استصحاب العدم ليس مجرد ثبوت عدم الجعل ظاهرا، إذ هو مقطوع به فلا حاجة إلى الاستصحاب، فيحتاج في مقام المعذورية من الواقع المحتمل إلى التعبد ظاهرا بعدمه باستصحاب أو غيره، و من الواضح أن التعبد ظاهرا بعدم الجعل الواقعي لا يمكن ان يثبت به عدم المجعول واقعا، كي يتحقق العذر، و ذلك لأن ثبوت عدم المجعول واقعا بواسطة التعبد بعدم الجعل إما من جهة ان التعبد بعدم الجعل عين التعبد بعدم المجعول، أو من جهة الملازمة بين التعبد بعدم الجعل و التعبد بعدم المجعول، أو من جهة الملازمة الواقعية بين عدم الجعل و عدم المجعول، و الأول باطل قطعا كما لا يخفى، و الثاني لا وجه له، إذ أي ملازمة بين التعبد بعدم الجعل و التعبد بعدم المجعول، بعد امكان التفكيك بين التعبدين، و الثالث يرجع إلى الأصل المثبت و هو باطل([26]).
وفيه أن الجعل الظاهري اي جعل الحكم الظاهري وان كان لا ينفك عن المجعول الظاهري، كما ادعاه، لكن الكلام في اثبات المجعول الواقعي كي يترتب عليه اثر التنجيز والتعذير، هذا مضافا الى ابتناء ما ذكر على مسلك جعل الحكم المماثل في الاستصحاب، والا فلو قلنا بكون مفاد دليل الاستصحاب التعبد بالعلم ببقاء المتيقن فالتعبد ببقاء الجعل الواقعي لا يلازم التعبد بحدوث المجعول الواقعي في الأفراد المتجددة.
الايراد الثاني:
ما ذكره المحقق العراقي “قده” من أن المجعول يترتب على كل من الوجود الواقعي او الظاهري للجعل، فان الجعل الظاهري يستتبع المجعول الظاهري، فعليه يستتبع نفي الجعل ظاهرا نفي المجعول ظاهرا، لأنه من آثار عدم الجعل الواقعي و الظاهري، فلا يكون نفيه به من باب الأصل المثبت، و لولا ذلك لما صح استصحاب وجود الجعل في موارد الشك في النسخ لإثبات المجعول، مع ان جريانه و ترتب المجعول عليه عند تحقق الموضوع من المسلمات، و ذلك كاستصحاب بقاء جعل وجوب الحج على المستطيع، فانه يترتب عليه ثبوت الوجوب عند تحقق الاستطاعة([27]).
و لكن يرد عليه أن ما يترتب على انتفاء الجعل الظاهري انما هو انتفاء المجعول الظاهري، و اين هذا من التعبد الظاهري بانتفاء المجعول الواقعي، أي التعبد بعدم وجوب الحج على هذا الشخص الذي حصلت له الاستطاعة.
الايراد الثالث:
ما يقال -كما في البحوث على ما سيأتي توضيحه- من أن الاثر العقلي وهو المنجزية والمعذرية يترتب على اجتماع كبرى الجعل وتحقق صغراها خارجا، بلا حاجة الى اثبات الحكم الفعلي، ومع نفي احدهما ينتفي هذا الاثر، فلا يكون استصحاب عدم كبرى الجعل لنفي هذا الاثر من الاصل المثبت وهكذا استصحاب كبرى الجعل بعد احراز تحقق الصغرى، او الاستصحاب المنقح للصغرى مع احراز كبرى الجعل لاثبات هذا الأثر من الأصل المثبت، نعم لو كان الاثر مترتبا على المجعول كان الاستصحاب الجاري في الجعل لتنقبح حال المجعول من الاصل المثبت.
وفيه اولا: ان هذا المقدار لا يكفي لنفي الاثر الشرعي المترتب على الحكم او اثباته كما في نفي مانعية الصلاة في الثوب الملاقي للبول بعد غسله مرة واحدة، فان استصحاب عدم جعل الننجاسة لثوب من هذا القبيل لا ينفي موضوع المانعية وهو كون الثوب نجسا، الا أن يستظهر من خطاب “لا تصل في ثوب نجس” كون مفاده النهي عن الصلاة في ثوب كان صغرى لكبرى جعل النجاسة، ولكن هذا الاستظهار يحتاج الى مؤونة زائدة.
على أن لازمه عدم كفاية استصحاب الحكم الجزئي بعد كون موضوع الاثر مركبا من كبرى الجعل وتحقق صغراها، مث ما لو غسل الثوب المتنجس بمايع توارد فيه حالتا الاطلاق والاضافة، فلا يجري فيه الاصل الموضوعي المنقح للصغرى كاستصحاب كونه ماء مطلقا او مضافا، كما يقال بأنه لا يجري فيه استصحاب عدم الغسل بالماء، ولا يشك فيه في كبرى الجعل وانما يشك في بقاء النجاسة كحكم ومجعول جزئي.
وثانيا: ان الاثر العقلي كما هو مترتب على اجتماع كبرى الجعل وتحقق الصغرى كذلك مترتب على المجعول بالوجدان، فاستصحاب عدم الجعل وان كان ينفي المنجزية المترتبة على اجتماع كبرى الجعل وتحقق الصغرى لكنه لا يكفي لنفي المنجزية المترتبة على ثبوت المجعول والحكم الفعلي الا اذا اثبتنا باستصحاب عدم الجعل عدم المجعول، فيعود اشكال المحقق النائيني “قده” من كونه اصلا مثبتا.
الايراد الرابع:
ما ذكره المحقق العراقي والسيد الخوئي “قدهما” ايضا من أن الجعل و المجعول متحدان وجودا و ان اختلفا اعتبارا كالايجاد و الوجود، فليس أحدهما غير الآخر، حتى يأتي فيه اشكال المثبتية([28]).
ويرد عليه أن المحقق النائيني “قده” يريد من الجعل الحكم الانشائي الثابت على موضوعه المقدر الوجود، و من المجعول الحكم الجزئي الحادث عقيب وجود موضوعه خارجا، بينما أن دعوى المحقق العراقي و السيد الخوئي “قدهما” من أن الجعل و المجعول متحدان وجودا و الاختلاف بينهما بالاعتبار كالايجاد و الوجود، ناظر الى الجعل بمعنى عملية الجعل، فلم يتطابق المراد في الجعل في كلام المحقق النائيني مع كلامهما في مقام الايراد عليه.
نعم ورد في بعض كلمات السيد الخوئي “قده” أن الحكم الفعلي هو الحكم الإنشائي مع فرض تحقق قيوده المأخوذة فيه، وعليه فاستصحاب الحكم الإنشائي أو عدمه هو استصحاب الحكم الفعلي أو عدمه، نعم مجرد ثبوت الحكم في عالم الاعتبار لا يترتب عليه وجوب الإطاعة بحكم العقل قبل تحقق موضوعه في الخارج، وليس ذلك إلا من جهة أن الاعتبار قد تعلق بظرف وجود الموضوع على نحو القضية الحقيقية من أول الأمر، فمع عدم تحقق الموضوع لا يكون حكم وتكليف على المكلف، وبعد تحقق الموضوع خارجا لا يكون المحرك إلا نفس الاعتبار السابق لا امر آخر يسمى بالحكم الفعلي([29]).
لكن قد يتراءى كونه متنافيا مع ما ذكره من أن المعتبر انما يتحقق في ظرف وجود موضوعه، فانه اذا لم يتحقق قبله فكيف يكون عين الحكم الانشائي الذي يفرض تحققه بمجرد الجعل والاعتبار، الا أن يقول ان الحكم الفعلي مركب من الحكم الانشائي مع تحقق موضوعه، و لكنه لا يقول به، مضافا الى عدم صحته في نفسه كما سيأتي توضيحه.
هذا و قد اورد بعض الاعلام “قده” في المنتقى على دعوى وحدة الجعل و المجعول، أنها تبتني على كون الإنشاء هو الاعتبار النفساني وابرازه، -كما هو مسلك السيد الخوئي “قده”- فانه من الواضح حينئذ عدم انفكاك الاعتبار عن المعتبر، فالمعتبر موجود من حين الإنشاء، لكنه على تقدير، بمعنى أن مورد الاعتبار هو الأمر على تقدير خاص، فالموصي حين يوصي بداره لزيد بعد موته، يعتبر الملكية فعلا، لكن لزيد بعد موته، فالملكية متحققة من الآن، و هكذا الوجوب على تقدير شرط خاص، فان الوجوب فعلي قبل حصول الشرط بفعلية الإنشاء و الاعتبار، لكن متعلقه امر على تقدير خاص، و بالجملة: الجعل و المجعول يراهما هذا القائل بمعنى الاعتبار و المعتبر، و من الواضح وحدتهما وجودا و تغايرهما اعتبارا، و لكن الصحيح عدم تمامية هذا المبنى، لكون الانشاء ايجاد الموضوع للمسبب العقلائي([30]).
اقول: كون انشاء الحكم الشرعي تسبيبا الى تحقق المسبب العقلائي مما لا محصل له، و ان فرضنا تعقل ذلك في انشاء العقود و الايقاعات، وانما الاختلاف في كون حقيقة انشاء الحكم الشرعي من امر او نهي هل هي الاعتبار، او ابراز ارادة المولى او كراهته؟، و لكنه لا يؤثر في المقام.
مضافا الى أنا لم نتعقل معنى وجود ملكية الموصى له من حين الوصية و لكن على تقدير موت الموصي، فان الموصي يعتبر وجود ملكية الموصى له لما بعد موته، فلا معنى لوجوده قبله، ولا محذور في الانفكاك الزماني بين الجعل والمجعول العرفي، بعد أن كان وجوده وهميا اعتباريا، نعم ما لا يعقل انفكاكه الزماني عن جعل الموصي لملكية الموصى له هو الصورة القائمة بذهن الموصي لملكية الموصى له بعد موته، ولكن لا كلام فيه، وحيث ان هذا الجعل لملكيته على تقدير موت الموصي موجود من حين الانشاء، فيثبت وجود عرفي تقديري للملكية، اي ثبوت قضية شرطية مفادها أنه اذا مات الموصي فيحصل ملكية الموصى له، وسيأتي مزيد توضيح لهذا البحث.
وكيف كان فيمكن أن يقال تعميقا لاشكال المحقق النائيني “قده” أنه يوجد ايرادان مختصان باتحاد الجعل -بمعنى عملية الجعل- والمجعول، وايراد مختص باتحاد الجعل بمعني الحكم الانشائي والمجعول، وايراد مشترك على دعوى اتحاد الجعل -سواء كان بمعنى عملية الجعل او الحكم الانشائي- والمجعول:
الايرادان المختصان باتحاد الجعل
أما الايرادان المختصان باتحاد الجعل -بمعنى عملية الجعل- والمجعول:
فاولهما: ما قد يقال ردا على ما ذكره من اتحاد الجعل و المجعول، من أن عملية الجعل علة لوجود المجعول، فكيف تتحد العلة والمعلول.
وثانيهما: ما يقال ايضا من أنه لو كان المراد من الجعل عملية الجعل فعملية الجعل عملية تكوينية نفسانية بينما أن المعتبر ليس موجودا تكوينيا وانما هو موجود اعتباري، فكيف يدعى اتحاد عملية الجعل والمجعول.
وأما الايراد المختص باتحاد الجعل بمعني الحكم الانشائي والمجعول، فهو ما يقال من أن الحكم الانشائي ثابت للموضوع الكلي كوجوب الحج على المستطيع، و يثبت الوجوب من حين الاعتبار و ان لم يكن للموضوع وجود أصلا، فالوجوب ثابت فعلا قبل صيرورة الشخص مستطيعا، و بعد الاستطاعة يتصف الشخص بأنه من وجب عليه الحج، و لا يخفى ان هذا الوجوب الحادث غير الوجوب الثابت بمجرد الاعتبار، إذ ذلك كان ثابتا و لم يكن الشخص متصفا به، و هذا يكشف عن وجود مرحلة أخرى للوجوب هي مرحلة التطبيق الحاصلة عند حصول الموضوع خارجا، و من الواضح ان هذه المرحلة هي محط الآثار العملية العقلية، إذ لا أثر لمجرد اعتبار الحكم الكلي مع قطع النظر عن انطباقه على موضوعه الخارجي.
و عليه، نقول: إن استصحاب عدم الجعل الكلي لا ينفع في إثبات عدم المجعول بمرحلته الثانية ذات الأثر العملي إلا من باب الأصل المثبت، فيتم ما أفاده المحقق النائيني “ره” من أن استصحاب عدم الجعل لا أثر له إلا بناء على القول بالأصل المثبت([31]).
وأما الايراد المشترك فهو أنه ان كان الجعل والمجعول متحدين وجودا، فكيف يفرض حالتان سابقتان مختلفتان لشيء واحد، احداهما وجودية و بلحاظها يجري استصحاب وجوده، و الحالة الأخرى عدمية، وبلحاظها يجري استصحاب عدمه، وان كانا متغايرين وجودا كما هو مقتضى جريان استصحابين متعاكسين فيهما، فيكون استصحاب احدهما لتنقيح حال الآخر من الاصل المثبت.
ولكن يمكن دفع جميع هذه الايرادات:
أما الايراد الاول المختص بدعوى اتحاد عملية الجعل و المجعول، فيمكن الجواب عنه بأن الجعل ليس علة للمجعول، وانما علة المجعول هو الجاعل، فجعل الموصي ملكية زيد لداره بعد وفاته، ايجاد لتلك الملكية في موطنها، كما أن تمليك الشارع للوارث ما تركه المورث ايجاد لملكيته له بعد وفاة المورث، فلا محذور في دعوى كون النسبة بين الجعل والمجعول نسبة الايجاد الى الوجود، فهو نظير من يبني في نفسه على رضاه باكل زيد من طعامه اذا جاع، فحينما يجوع زيد يقال بانه راضٍ فعلا باكل زيد من طعامه، فان بناءه على الرضى ايجاد عرفا للرضى، و ليس علة له.
نعم يوجد فرق بين الايجاد والوجود في التكوينيات وبين الجعل والمجعول، وهو أنه لا يوجد فاصل زمني بين الايجاد والوجود في التكوينيات، بخلاف الجعل والمجعول، فاذا قال الموصي ان متّ فداري ملك لزيد، فقد اعتبر من الآن ملكية زيد لداره عقيب وفاته، فليس موطن الادعاء والتقدير الا بعد وفاته، فما لم تتحقق وفاته لاتوجد ملكية زيد بوجودها المناسب لها وهو الوجود الوهمي العرفي الذي يتصف به الأمر الاعتباري عقيب تحقق موضوعه، ولامانع من انفكاك هذا الأمر الاعتباري عن عملية اعتباره، اذ ليست العلاقة بينهما علاقة الايجاد والوجود التكويني.
نعم حيث ان الجعل والاعتبار من الامور ذات الاضافة فيستحيل وجوده من دون وجود طرف الاعتبار بالذات، اي الصورة الذهنية لملكية زيد على تقدير وفاة الموصي، ولكنه ليس هو المعتبر بالنظر العرفي، وانما المعتبر بالنظر العرفي هو الملكية التي تثبت لزيد بعد تحقق وفاة الموصي خارجا، فيقال الآن تملّك زيد هذه الدار، وقد يعبّر عنه بالمعتبر والمجعول بالعرض، اي بالنظر العرفي دون النظر العقلي، نظير أن المعلوم بالذات الذي يستحيل انفكاك العلم عنه ليس هو المعلوم بالنظر العرفي، وانما المعلوم بالنظر العرفي هو الواقع، وقد يتأخر عن العلم، كما لو تعلق العلم بامر استقبالي، بل قد لايتحقق اصلا، كما في موارد الجهل المركب.
والفصل الزمني بين الجعل والمجعول بالعرض لا ينافي اتحادهما بالنظر العرفي، بعد أن كان الجعل ايجادا للمجعول في موطنه، فجعل الموصي ملكية زيد للدار بعد وفاته والذي يعبَّر عنها بانشاء الوصية ايجاد لملكية زيد لداره في موطنها وهي بعد وفاة الموصي.
وأما الايراد الثاني، فجوابه أن ما هو متحد مع الجعل وجودا بالنظر العقلي هو المجعول بالذات وهو موجود تكويني، واتحاد الجعل مع المجعول بالعرض يكون بالنظر العرفي فلا يتبع البرهان العقلي القائم على امتناع اتحاد الامر التكويني والاعتباري.
وعليه فنقول: انه كما يكون استصحاب عدم ايجاد فعل تكويني لمكلف -كأكله او شربه- كافيا لنفي وجود هذا الفعل له، او استصحاب عدم ولادة امرأة لولد كافيا لنفي ولده، كذلك عدم ايجاب الشارع لفعل على المكلف يكون كافيا في نفي وجوبه واستصحاب عدم تمليكه للولد الأكبر السيارة المختصة بوالده بعد وفاة الوالد يكون كافيا لنفي ملكيته لها بعد وفاته، من دون أن يكون من الاصل المثبت في شيء.
وأما الايراد المختص بدعوى اتحاد الجعل بمعنى الحكم الانشائي مع المجعول، اي المجعول الكلي، فيمكن الجواب عنه بأن يقال ان الحكم الانشائي اي المجعول الكلي نسبته الى المجعولات الجزئية ليست نسبة اللازم الى الملزوم، بل نسبة الجزئي الى الكلي، و هكذا استصحاب عدم الحكم لطبيعي الموضوع -و هو الذي يعبر عنه باستصحاب عدم الجعل- كافٍ لنفي وصف الفرد، بلا حاجة الى اجراء الاستصحاب المباشر لنفي حكم الفرد، ولذا قد لا يجري استصحاب نفي حكم الفرد، كما لو شك في نجاسة الكافر الكتابي حيث يكون استصحاب عدم نجاسته من العدم الازلي الذي وقع فيه الخلاف، وقد منع منه جمع من الأعلام، ولكن يكفي استصحاب عدم كون الكافر الكتابي نجسا قبل البعثة لنفي نجاسة الكتابي الذي وُلد فعلا.
نعم كفاية هذا الاستصحاب تتوقف على دفع شبهةٍ، وهي أن نجاسة الكافر على تقدير ثبوتها انحلالية، فيكون هذا الاستصحاب لاثبات عدم نجاسة هذا الفرد من الكافر -الذي وجد في زمان الشك في تشريع نجاسة الكفار- مبتلى باشكال كونه من قبيل استصحاب القسم الثالث من الكلي، حيث ان اليقين متعلق بعدم نجاسة الكفار الذين كانوا موجودين قبل زمان التشريع، والشك الفعلي متعلق بنجاسة الكفار الذين ولدوا بعد زمان التشريع، وقد التزم السيد الخوئي “قده” بهذا الاشكال بالنسبة الى استصحاب بقاء الجعل، لاثبات المجعول في الأفراد الحادثة بعد زمان الشك في ارتفاع الجعل([32]).
ولكن الظاهر اندفاع هذه الشبهة، فان انحلالية الحكم يمكن لحاظها في مرحلة استصحاب عدم الجعل او بقاء الجعل ايضا ولو بالنظر العرفي، فيقال: كل فرد من افراد الكافر لم يكن نجسا قبل البعثة، ثم صار بعد البعثة كل فرد من افراد الكافر غير الكتابي نجسا، فانه لا اشكال في عرفيته، فكذلك يقال بأنه يشك في أن كل فرد من افراد الكافر الكتابي هل صار نجسا بعد البعثة فيستصحب عدمه، وهذا متحد عرفا مع التعبد بعدم نجاسة هذا الفرد من الكتابي الموجود فعلا، وان كان لو لوحظ هذا الفرد الموجود موضوعا للاستصحاب كانت النجاسة وصفا ذاتيا له وكان استصحاب عدمها من استصحاب العدم الأزلي.
وأما الايراد المشترك فجوابه أنه لا مانع من لحاظ شيء واحد بكيفيتين، فعملية الجعل حيث تتعلق في عرض واحد بنجاسة الماء حين تغيره ونجاسته حين زوال تغيره، فليس جعل الثاني بقاء لجعل الاول، ولذا يمكن استصحاب عدم جعل الثاني، كما أنه حينما يلحظ المجعول اي نجاسة الماء كوصف للماء يحدث بحدوث تغيره ويبقى مادام عدم حصول الغاية يمكن استصحاب بقاءه فيتعارضان.
وهكذا القضية الإنشائية التي لها وجود عرفي في عالم الاعتبار، و يكون لها بقاء واستمرار مادام لمتنسخ، قد يلحظها العرف بنحو مفاد كان التامة، فيقول هذا القانون لم يكن ثابتا في الشريعة ثم شرّع فيها، و قد يلحظها وصفا عارضا على الموضوع الكلي على نحو مفاد كان الناقصة، و حادثا بحدوثه و باقيا ببقاءه، ففي مثال الشك في نجاسة الماء بعد زوال تغيره فبحسب اللحاظ الاول يجري استصحاب عدم قانون موسع اي ما يكون مفاده بالخصوص او العموم شاملا لنجاسة الماء الذي زال تغيره -والذي تكون حالته السابقة عدمية بعد أن كان لحاظه بنحو مفاد كان التامة، وبحسب لحاظه بنحو مفاد كان الناقصة اي لحاظ اتصاف الموضوع بالحكم يجري استصحاب بقاء اتصاف الماء بالنجاسة بعد زوال تغيره، فيتعارض الاستصحاب الجاري لنفي القانون الموسع مع استصحاب اتصاف الموضوع بالحكم.
وان شئت فقايسه بمثل الحب والرضى، فاذا رضي مالك الطعام بأكل زيد من طعامه اذا جاع، فالموجود في نفس المالك ليس الا شيء واحد، وهو الرضى المتعلق بعنوان اكل زيد طعامه عند جوعه، فهذا الرضى وان كان موجودا من حين انقداحه في نفس المالك، ويكون متعلقه العنوان، ولكن يوجد لحاظ آخر الى الرضى الفعلي، فقبل ما يجوع زيد خارجا لم يكن يصح أن يقال بقول مطلق، ان المالك راضٍ بأكله من طعامه، وانما يصح أن يقال ذلك بعد ما جاع، فاذا جاع زيد ثم نزل ضيف فشك زيد في رضى المالك في اكل طعامه بعد ذلك، فبحسب اللحاظ الاول حيث يكون تعلق رضى المالك بعنوان اكل زيد طعامه عند جوعه قبل نزول الضيف او بعده في عرض واحد وليس تعلقه باكله طعامه حال نزول الضيف بقاء لتعلق رضاه باكله طعامه حال عدم نزوله، فتكون حالته السابقة عدمية، فيستصحب عدم تعلق رضى المالك باكل زيد طعامه عند جوعه في حال نزول الضيف، بعد أن كان القدر المتيقن تعلق رضاه به حال عدم نزوله، وبالنظر الى الرضى الفعلي الذي يحدث الاتصاف به بعد تحقق جوع زيد يكون الرضى حال نزول الضيف باكل زيد طعامه وهو جايع بقاء للرضى الحادث قبل نزوله، فيستصحب بقاء رضاه، فيتعارض الاستصحابان.
وفي المقام ايضا لحاظ المجعول الكلي -كنجاسة الماء المتغير- بالنظر العرفي لا ينحصر في لحاظ المحمول فيه و هو النجاسة في المثال المذكور وصفا عارضا -بنحو مفاد كان الناقصة- على الموضوع الخارجي و هو الماء المتغير، بحيث يحدث هذا الوصف بحدوث التغير و يبقى ببقاءه، بل يوجد لحاظ عرفي آخر، و هو لحاظ ثبوت هذا القانون و الكبرى الشرعية في عالم الشرع، فان الشارع حينما يجعل النجاسة للماء المتغير ويقول ان الماء المتغير نجس فيرى العرف ان لهذه القضية ثبوتا اعتباريا في الشرع، و يكون حدوثها بعملية الانشاء و الجعل، و بقاءها بعدم النسخ، و هذا لحاظ عرفي ايضا.
و هكذا في مثال “ان جاءك زيد فيجب اكرامه” فكما يمكن لحاظ الجزاء في هذه القضية الشرطية فيرى حدوث وجوب اكرام زيد عقيب مجيئه فاذا شك في جعله فيقال لم يكن سابقا يوجد وجوب اكرام زيد عقيب مجيئه فالآن كما كان، فكذلك يمكن لحاظ هذه القضية الشرطية برمتها بنحو مفاد كان التامة فبعد تشريع هذه القضية نقول: الآن صدر من المولى حكم انه ان جاء زيد فيجب اكرامه.
ان قلت: ان كان المجعول واحدا، فكيف تختلف حالته السابقة باختلاف كيفية لحاظه، على ان لحاظه بنحو مفاد كان التامة مع كون مفاده بنحو مفاد كان الناقصة لحاظ ناقص و مبهم لا عبرة به بعد كون لحاظه التام يكون بنحو مفاد كان الناقصة، و ان كان العرف يرى وجودا اعتبارا للقانون في موطن الشرع، و يرى وجودا اعتباريا للحكم في موطن موضوعه كسائر اوصافه، فنفي احدهما لا يستلزم انتفاء الآخر الا بنحو الاصل المثبت.
قلت: لا مانع من لحاظ شيء واحد بكيفيتين، بحيث يكون التركيز في احداهما على حيث اتصاف الموضوع بالحكم و في الأخرى على نفس الحكم على نحو مفاد كان التامة.
هذا ولو فرض كون جريان كل من استصحاب عدم الجعل واستصحاب بقاء المجعول كاشفا عن تعدد المستصحب فيهما لا مجرد تعدد اللحاظ مع وحدة الملحوظ عرفا، فمع ذلك قد يدعى امكان الالتزام بأنه بعد ما انشأ المولى أن الماء المتغير نجس، فالمجعول بالأصالة وان كان هو ثبوت المحمول فيها لموضوعه اي ثبوت النجاسة في مورد الماء المتغير، ولأجل ذلك يرى للمحمول وجود اعتباري عقيب تحقق موضوعه، الا أن العرف برى وجودا اعتباريا لهذه القضية الانشائية برمتها على نحو مفاد كان التامة، و هذا لا يعني صدور فعلين من الشارع حتى يقال بأن من الواضح أنه لم يصدر من الشارع الا فعل واحد.
ولكن الانصاف أنه مع الاعتراف بتعدد المستصحب فلا مجال لهذه الدعوى حيث يكون استصحاب عدم احدهما لنفي الآخر من الاصل المثبت، وحينئذ فيجري استصحاب بقاء المجعول لترتيب آثاره العقلية والشرعية من دون أن يكون استصحاب عدم الجعل الزائد نافيا لتلك الآثار المترتبة على بقاء المجعول، بل غايته نفيه للآثار العقلية او الشرعية المشابهة المترتبة على الجعل الزائد.
ان قلت: ان كلا منهما لازم بيّن للآخر، بحيث يكون جريان الاستصحاب النافي لاحدهما مع الاستصحاب المثبت للآخر متناقضا عرفا، و هذا ما يسمى عندهم بجلاء الواسطة اي كان اللازم مما لا ينفك عن الآخر حتى في مقام التعبد الظاهري، وهذا يؤدي الى المعارضة بين الاستصحابين.
قلت: لو سلم جلاء الواسطة فمع ذلك سيأتي أنه يشترط فيه جريان الاستصحاب في الملزوم في حد نفسه، و ذلك بثبوت اثر عملي له كي يصدق نقض اليقين بالشك بلحاظه، ثم في طول ذلك يثبت لازمه من التعبد الظاهري بلحاظ اثر اللازم، وكون كبرى الجعل مع تحقق صغراها موضوعا للاثر العقلي وهو المنجزية لا يجدي في المقام، لأن المنجزية اذا ترتبت على الجامع بين كبرى الجعل مع تحقق صغراها وبين ثبوت المجعول فنفي احدهما لا يترتب عليه اثر المعذرية، بل لابد من نفي كليهما لينتفي به الجامع.
نعم لو كان يتم مبنى كفاية خفاء الواسطة في صدق نقض اليقين بالشك امكن تطبيقه على المقام، لكنه سيأتي عدم تمامية هذا المبنى، فالمهم كفاية تعدد لحاظ شيء واحد من وجهتين عرفيتين، في جريان استصحابين متعاكسين الموجب لتعارضهما في مثل الجعل والمجعول والرضا والحب ونحو ذلك.
[4] – ذكر في جامع المدارك ج1 ص 69 ان جريان الاستصحاب في الأحكام محلّ منع” و في ج 3 ص 381 “يقولون الأصل في المعاملات الفساد و الظاهر أنّ النظر الى استصحاب عدم ترتّب الأثر و يتوجّه عليه أنّ مثل حديث الرّفع يرفع الشرطيّة و المانعيّة و بعد الرّفع لا يبقى شكّ حتّى يتمسّك بالاستصحاب إن قلنا بجريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة، و يشكل جريانه فيها كما قرّر في محلّه، و في ج4 ص 42 ما ذكر من أنّ مقتضى الأصل عدم حصول الملكيّة يشكل من جهة الإشكال في جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة، و في ج4 ص 43” المعروف عند الفقهاء أنّ مقتضى الأصل الفساد لاستصحاب عدم حصول الملكيّة و إن بنينا على اعتبار القبض في اللّزوم فمقتضى الأصل عندهم استصحاب عدم اللّزوم و قد سبق أنّ الاستصحاب في الشبهات الحكميّة محلّ إشكال و مع قطع النظر عن هذا لا مانع من الرّجوع إلى حديث الرّفع في الشكّ في الشرطيّة، و معه لا مجال للرّجوع إلى الاستصحاب و إن بنينا على حجيّته في الشبهات الحكميّة، و في ج4 ص 90: على مسلك من يتمسّك باستصحاب عدم المخالفة في مورد الشكّ في مخالفة الشرط للكتاب أو السنّة فيتمسّك به في المقام أيضا، و على الإشكال في جريان الاستصحاب في الشبهات الحكميّة يشكل، انتهى، بتصرف منا.