امتیازات هذه الصحيحة على ما سبق من الروايات.. 3
ایرادات على الاستدلال بها على الاستصحاب.. 4
الايراد الاول: معارضة هذه الصحيحة مع صحيحة أخرى لابن سنان. 4
حصول الوثوق بوحدة الروايتين.. 5
الايراد الثاني: المراد منها بيان قاعدة الطهارة 6
الايراد الثالث: عدم دلالة على اعتبار استصحاب الطهارة 7
الايراد الرابع:عدم شمول علی تعلیل عام. 8
الاتجاه الاول: الاقوال فی مفاد روایات قاعدة الطهارة 11
القول الاول: مفادها قاعدة الطهارة و الحل فقط، و هذا هو الصحيح. 11
القول الثاني: كون مفادها استصحاب الطهارة و الحل.. 11
القول الثالث: كون مفادها الحكم الواقعي المغيى بعدم العلم بضده 12
الاتجاه الثاني: الاقوال فی حکم الذی هو مفاد تلک الروایات.. 14
القول الاول: جعل الطهارة و الحلية واقعا و الحكم بهما ظاهرا الى زمان العلم. 14
شبهه: المراد من المغيى الحكم بالطهارة الواقعية لذات الشيء لا الحكم بالطهارة الظاهرية. 15
القول الثاني: قاعدة الطهارة و الحل و استصحاب الطهارة و الحل.. 18
القول الثالث: الطهارة الواقعية الاصلية عند عدم طرو النجاسة العرضية، و اصالة الطهارة عند طروها 21
الاتجاه الثالث: كون مفاد الروايات، الطهارة الواقعية، و قاعدة الطهارة، و استصحاب الطهارة 21
سبعة ايرادات علی کلام صاحب الکفایة. 22
بیان المختار: تکون الرواية دالة على حكم واحد و هو قاعدة الطهارة كما هو المشهور. 32
بیان المختار فی ادلة الاستصحاب.. 32
موضوع: روایت هشتم /بیان ادله /استصحاب
خلاصه مباحث گذشته:
متن خلاصه …
ادلة الاستصحاب
7- صحيحة ابن سنان
الرواية السابعة: صحيحة عبد الله بن سنان قال: سأل أبي أبا عبد الله (عليه السلام) و أنا حاضر إني أعير الذمي ثوبي و أنا أعلم أنه يشرب الخمر و يأكل لحم الخنزير فيرده علي فأغسله قبل أن أصلي فيه فقال أبو عبد الله (عليه السلام) صل فيه و لا تغسله من أجل ذلك فإنك أعرته إياه و هو طاهر و لم تستيقن أنه نجسه فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه([1]).
فذكر الشيخ الاعظم “قده” أن فيها دلالة واضحة على أنّ وجه البناء على الطهارة و عدم وجوب غسله، هو سبق طهارته و عدم العلم بارتفاعها، و لو كان المستند قاعدة الطهارة لم يكن معنى لتعليل الحكم بسبق الطهارة، إذ الحكم في القاعدة مستند إلى نفس عدم العلم بالطهارة و النجاسة، نعم الرواية مختصّة باستصحاب الطهارة دون غيرها، لكن لا يبعد عدم القول بالفصل بينها و بين غيرها ممّا يشكّ في ارتفاعها بالرافع([2]).
و ذكر المحقق العراقي “قده” أن في التعليل دلالة واضحة على ان الوجه في عدم وجوب غسله هو سبق طهارته و عدم العلم بارتفاعها بعد إعارته إياه، لا أنه من جهة قاعدة الطهارة، و إلّا لم يكن للتعليل المزبور مجال، لأن الحكم في القاعدة مستند إلى نفس عدم العلم بالطهارة و النجاسة، فتدل الرواية على حجية الاستصحاب في هذا الباب فيتعدى إلى غيره بعدم القول بالفصل([3]).
و ذكر في البحوث ايضا أنها تدل على الاستصحاب، لأنه قد علل الحكم فيها بعدم غسل الثوب الّذي أعاره للكافر باليقين بالطهارة السابقة و عدم اليقين بالانتقاض، لا بمجرد عدم العلم بالنجاسة لتحمل على قاعدة الطهارة، و هي و ان كانت واردة في خصوص الطهارة الخبثية، إلّا انه يمكن استفادة التعميم منها، بدعوى ظهور سياقها في التعليل، و إلقاء القاعدة العامة، خصوصا إذا فرضنا ارتكازية الاستصحاب.
ثم قال: و الإنصاف ان هذه الصحيحة من خيرة أحاديث هذه القاعدة الشريفة، و هي تمتاز على ما سبق من الروايات بعدة امتيازات:
امتیازات هذه الصحيحة على ما سبق من الروايات
منها: عدم ورود التعبير باليقين فيها ليتطرق إليها احتمال إرادة قاعدة اليقين، و انما ظاهرها أخذ الحالة السابقة نفسها موضوعا للحكم الظاهري بالبقاء، و هو صريح في الاستصحاب.
و منها: ما يتفرع على ذلك من كون موضوع التعبد الاستصحابي فيها نفس الحالة السابقة، لا اليقين بها، و هذا قد يتفرع عليه بعض النتائج و الثمرات من قبيل جريان الاستصحاب في موارد ثبوت الحالة السابقة بإحدى الأمارات لا باليقين، فان دليل حجية تلك الأمارة بنفسها تنقح موضوع التعبد الاستصحابي، بلا حاجة إلى التكلفات التي ارتكبها الأصحاب على ما سوف يظهر.
و منها: عدم اشتمالها على كلمة النقض، فنستريح من شبهة اختصاص الاستصحاب بموارد الشك في المانع، فلو فرض عدم استفادة الإطلاق من تلك الروايات لموارد الشك في المقتضي باعتبار عدم صدق النقض فيها مثلا كفانا إطلاق هذه الصحيحة لإثبات التعميم([4]).
و ذكر بعض السادة الاعلام “دام ظله” أن الامام (عليه السلام) حينما قال لابن سنان “صل فيه و لا تغسله من أجل ذلك” كان في مقام الافتاء، و من الواضح ان اساس الفتوى هو بذل المفتي جهده في تعيين وظيفة المستفتي بمعنى أنه يطبق الكبرى الكلية في ذهنه على المورد و يبيِّن نتيجته للمستفتي، و لا يلزمه اعلام المستفتي بالكبرى، ثم عدل الامام عن مرحلة الافتاء الى مرحلة التعليم، و كيفية تطبيق الاصول على الفروع، فقال لأنك أعرته اياه و هو طاهر…” و حيث انه لا يعتبر في قاعدة الطهارة سبق الطهارة بل يكفي فيها عدم العلم بالنجاسة، بخلاف الاستصحاب حيث يعتبر فيه الحالة السابقة، و الامام اعتمد على هذه الحالة السابقة، فنستكشف أن الرواية واردة في الاستصحاب، كما نستكشف عدم اختصاصها بباب الطهارة، من دون حاجة الى ضم عدم القول بالفصل، فدلالة الرواية تامة، لولا ما سيأتي من اشكال معارضتها بصحيحة أخرى عن ابن سنان ([5]).
ایرادات على الاستدلال بها على الاستصحاب
و قد اشكل جمع من الاعلام على الاستدلال بها على الاستصحاب بعدة ايرادات:
الايراد الاول: معارضة هذه الصحيحة مع صحيحة أخرى لابن سنان
ما قد يقال من معارضة هذه الصحيحة مع صحيحة أخرى لابن سنان قال: سأل أبي أبا عبد الله (عليه السلام) عن الذي يعير ثوبه لمن يعلم أنه يأكل الجري (الخنزير ظ) و يشرب الخمر فيرده أ يصلي فيه قبل أن يغسله قال لا يصلي فيه قبل أن يغسله([6])، و قد روي الكليني هذه الثانية فقط([7]).
و المعهود بين الاعلام هو حمل النهي فيها على الكراهة بقرينة الرواية الأولى، فقد ذكر الشيخ الطوسي “ره” في التهذيب: هذا الخبر محمول على الاستحباب لأن الأصل في الأشياء كلها الطهارة و لا يجب غسل شيء من الثياب إلا بعد العلم بأن فيها نجاسة و قد روى هذا الراوي بعينه خلاف هذا الخبر.
حصول الوثوق بوحدة الروايتين
و لكن قد يورد عليه بحصول الوثوق النوعي بوحدة الروايتين، فان احتمال تكرر سؤال والد عبد الله بن سنان الامام الصادق (عليه السلام) عن حكم الصلاة في الثوب الذي اعاره ممن يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير قبل أن يغسله احتمال موهوم، فانه لا داعي لتكرار السؤال بعد معرفة جواب الامام.
الا أنه يمكن الجواب عن هذا الايراد إما بدعوى أنه بعد اشتمال الرواية الاولى على ذكر التعليل لعدم لزوم غسل الثوب بأنك اعرته اياه و هو طاهر و لم تستيقن انه نجَّسه يكون احتمال خطأ الراوي فيها بهذا الخطاء الفاحش موهوما جدا، او بدعوى أن تكرار السؤال مع الفصل الطويل ليس خلاف العرف، فلا يحصل الوثوق النوعي بوحدة الروايتين، كي يمنع من حجية خبر الثقة، بل ولا يحصل الظن النوعي بها كي يمنع عن الحجية بناء على مبنى البحوث، نعم لو قلنا بلزوم افادة خبر الثقة للوثوق النوعي او الشخصي فلا يتم هذا الوجه الثاني، لكن الصحيح عندنا كون خبر الثقة حجة، و لو لم يفد الوثوق.
طریق الجمع بین الروایتین
و بناء على تعدد الرواية فالجمع بين قوله في الصحيحة الاولى “فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنه نجسه” مع قوله في الصحيحة الثانية “لا تصل فيه حتى تغسله” بحمل الثانية على الكراهة عرفي، نعم لو اقتصرنا على ما كان في صدر الاولى من قوله “صل فيه و لا تغسله من اجل ذلك” فقد يناقش في هذا الجمع بعدم كونه عرفيا، وان كان النهي في الخطاب الاول في مقام توهم الحظر.
الايراد الثاني: المراد منها بيان قاعدة الطهارة
ما ذكره صاحب الكفاية “ره” في حاشية الرسائل ومحصله أن احتمال كون المراد منها بيان قاعدة الطهارة دون استصحابها ليس ببعيد، فيكون عدم اليقين بالنجاسة تمام العلّة للحكم بالطّهارة، و انّما ذكر خصوصيّة سبق الطهارة في الثوب لبيان تحقق هذه العلة فيه([8]).
و ذكر المحقق الايرواني “قده” أنه يقرب عندي أنّ غرضه (عليه السلام) التمسّك بقاعدة الطهارة، و أشار بقوله “أعرته و هو طاهر” على أنّك لم تنجّسه لتكون على يقين من نجاسته، و لم تستيقن أنّ الذمّي أيضا نجّسه، فإذا انتفى اليقين بالنجاسة حكم بطهارته لقاعدة الطهارة([9]).
الانصاف قوة هذا الايراد
و الانصاف قوة هذا الايراد، اذ من المحتمل عرفا كون التركيز على الحالة السابقة للثوب و كونها الطهارة، لأجل الاحتراز عن فرض العلم بسبق النجاسة، حيث يكون ذلك مانعا عن جريان قاعدة الطهارة، من دون أن يرتبط ذلك بالاستصحاب، و دعوى عدم الحاجة في جريان قاعدة الطهارة الى فرض سبق طهارته، لكفاية فرض عدم العلم بسبق نجاسته، و ان كانت صحيحة فنيا، لكن اختيار هذا الاسلوب من البيان في مقام الاثبات عرفي، فلا تكون الرواية ظاهرة في الاستصحاب، بعد عدم الامر فيها بالبناء على الحالة السابقة.
و ان شئت قلت : ان فرض طهارته حين اعارتته يمكن أن يكون لأجل بيان أنه لا موجب لغسل الثوب، لا من جهة نجاسته قبل اعارته، لأنك أعرته و هو طاهر، و لا من ناحية النجاسة بعد اعارته لأنّه لا يقين بذلك، فذكر ثبوت الطهارة حين الاعارة ليس من جهة دخلها في الحكم بالطهارة بقاءً، عند الشك، ليكون دليلاً على الاستصحاب، بل لسدّ تمام أبواب وجوب غسل الثوب، و أنّه إذا كان من ناحية النجاسة الحدوثية فهي منتفية بالعلم بعدمها حسب الفرض، و إذا كان من ناحية النجاسة بقاءً عند الذمي فتنفيها قاعدة الطهارة.
الايراد الثالث: عدم دلالة على اعتبار استصحاب الطهارة
ما ذكره شيخنا الاستاذ “قده” في مقام المنع عن دلالة الصحيحة على اعتبار استصحاب الطهارة بأنه لو كان السؤال عن مثل الإناء الذي يعيره الذمي المفروض في السؤال، و كان جوابه أنه لا بأس بالأكل و الشرب فيه، لأنك أعرته و هو طاهر و لم تعلم أنه نجسه كان ظاهرا في اعتبار استصحاب الطهارة، لأن المشروط في جواز الأكل و الشرب في الإناء طهارته، بخلاف الثوب، فإنه لم يذكر الإمام طهارة الثوب، بل ذكر عدم البأس بالصلاة فيه و الصلاة في الثوب الذي لا يعلم نجاسته جائز واقعا و إن لم نقل باعتبار الاستصحاب و لا اعتبار قاعدة الطهارة، نعم بعد العلم بنجاسة الثوب لابد في الصلاة فيه من إحراز طهارته([10]).
مناقشه
اقول: يلاحظ عليه اولا: أن ما ذكره مبني على ما استظهره من الروايات من أنه مع العلم بسبق النجاسة تكون الطهارة شرطا في الصلاة و مع عدم العلم به فلا تكون الطهارة شرطا، جمعا بين ما ورد في صحيحة زرارة الثانية “قلت: فان علمت انه اصابه و لم اعرف موضعه، قال (عليه السلام) تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه اصابها حتى تكون على يقين من طهارتك” و بين ما ورد في صحيحة محمد بن مسلم “إن رأيت المني قبل أو بعد ما تدخل في الصلاة فعليك إعادة الصلاة، و إن أنت نظرت في ثوبك فلم تصبه ثم صليت فيه ثم رأيته بعد فلا إعادة عليك و كذلك البول([11])“، و لكننا اشكلنا عليه بأن ظاهر التعليل في الفقرة الثالثة من صحيحة زرارة باستصحاب الطهارة -مع أنه لم يفرض فيه العلم بنجاسة الثوب سابقا- هو الحاجة الى جريان الاصل المؤمن من النجاسة في حق المتردد، سواء قلنا بشرطية الطهارة او مانعية النجاسة.
و ثانيا: الانصاف أن ظاهر صحيحة ابن سنان هو التعبد بطهارة الثوب، فلا يلزم غسل مواضع الوضوء الملاقية معه برطوبة مسرية و لا الطعام الملاقي له كذلك، مع أن بطلان الوضوء مع نجاسة الجسد واقعي و هكذا حرمة اكل النجس او شربه.
الايراد الرابع:عدم شمول علی تعلیل عام
انه لو فرض ظهور هذه الصحيحة في استصحاب الطهارة، فاستفادة الاستصحاب منه كقاعدة عامة كما سبق عن البحوث او في خصوص الشك في الرافع -في الشبهات الحكمية و الموضوعية- كما سبق عن الشيخ الاعظم، مشكل، لاحتمال خصوصية في استصحاب الطهارة لكونه موافقا للتسهيل و لا تشتمل هذه الصحيحة على تعليل عام، حيث اخذ في العلة خصوصية الطهارة السابقة و عدم العلم بلحوق النجاسة، و ليس معنى كون العلة موجبة للتعميم الغاء تلك الخصوصيات، و حتى لو فرض كون الاستصحاب موافقا لمرتكز العقلاء فلا يظهر منها امضاءه مطلقا.
و من هنا تبين الاشكال فيما يقال من امكان دعوى أن العرف يحمل تعلّق اليقين بالنجاسة و الطهارة على أنّه من جهة كون اليقين و الشك من الصفات ذات الاضافة، خصوصاً مع ورود نفس التعبير في الطهارة الحدثية، و هي غير مبنية على التسهيل، و في الروايات الاخرى للاستصحاب، و ارتكازية نكتة الاستصحاب العامة فمجموع ذلك قد يكفي لاستفادة الإطلاق من هذه الرواية([12]).
و عليه فتكون هذه الصحيحة كموثقة ابن بكير الوردة في استصحاب الوضوء حيث قال قال لي ابو عبد الله (عليه السلام) اياك أن تحدث وضوءا حتى تستيقن أنك أحدثت([13]).
و أما التشيث بذيل الاجماع على عدم الفصل فان تم فيتم في مورد الشك في الرافع في الشبهات الموضوعية التي يكون موضوع الحكم مركبا شرعا من وجود الحادث و عدم الرافع كبقاء الطهارة الحدثية.
هذا و أما ما ذكره السيد الصدر من أنه يستفاد من هذه الصحيحة عدم ركنية اليقين بالحدوث في الاستصحاب، و انما الركن فيه هو واقع الحدوث، و بذلك تنحل مشاكل مختلفة في الفقه، فان احتملنا وجود قاعدتين: احداهما: ما يستفاد من هذه الصحيحة من قاعدة أن الحادث محكوم بالبقاء ظاهرا في فرض الشك، و الأخرى ما استفيد من بقية الروايات من قاعدة عدم نقض اليقين بالشك، فنلتزم بكلتا القاعدتين، و ان لم نحتمل ذلك كانت هذه الصحيحة قرينة على حمل لفظ اليقين بالحدوث في بقية الروايات على الطريقية الى كون واقع الحدوث موضوعا للحكم([14]).
ففيه أن احتمال تعدد القاعدة ليس عرفيا بعد كفاية احداهما عن الأخرى عرفا، و ان كانت النسبة بينهما بالدقة عموما من وجه، حيث يكون مورد افتراق الأولى فرض واقع الحدوث من دون علم به، و مورد افتراق الثانية فرض اليقين بالحدوث مع كونه غير مطابق للواقع، و لكن اعتبار الثانية بلحاظ فرض الجهل المركب لغو عرفا، و معه فلو كانت صحيحة ابن سنان صالحة لأن تكون قرينة على حمل اليقين في روايات النهي عن نقض اليقين بالشك على الطريقية، فكذلك تصلح روايات النهي عن نقض اليقين بالشك لأن تكون قرينة على حمل قوله في الصحيحة “انك اعرته اياه و هو طاهر” على كونه في مقام بيان العلم بحالته السابقة، و هذا الحمل الاخير اولى بعد كثرة روايات النهي عن نقض اليقين بالشك، و كون مدلولها المطابقي اعطاء ضابطة عامة، و تناسب لفظ النقض مع تعلقه باليقين و كونه امرا مبرما و مستحكما، و تفصيل الكلام موكول الى محله.
و أما ما ذكره في امتيازات هذه الصحيحة من عدم اشتمالها على كلمة النقض فيمكن التعدي من موردها الى الشك في المقتضي بسهولة، فيرد عليه أنه ان كان الارتكاز كافيا في التعميم الى مورد الشك في المقتضي فلا يمنع اشتمال خطاب الاستصحاب على كلمة النقض عن التعميم، و ان لم يكن كافيا كما هو الظاهر فلا يمكن الغاء الخصوصية عن مورد الصحيحة و هو الشك في الرافع كما هو ظاهر كلام الشيخ الاعظم “قده”.
8- روايات قاعدة الطهارة
الرواية الثامنة: ما استدل به صاحب الكفاية من موثقة عمار “كل شيء نظيف حتى تعلم أنه قذر، فاذا علمت فقد قذر وما لم تعلم فليس عليك([15])” و رواية حماد “الماء كله طاهر حتى يعلم أنه قذر([16])” و رواية مسعدة بن صدقة “كل شيء هو لك حلال حتى تعلم أنه حرام بعينه([17])، على الاستصحاب.
توضيح ذلك أنه يوجد في هذه الروايات ثلاثة اتجاهات:
الاتجاه الاول: كون مفادها حكما واحدا، و فيه ثلاثة اقوال:
الاتجاه الاول: الاقوال فی مفاد روایات قاعدة الطهارة
القول الاول: مفادها قاعدة الطهارة و الحل فقط، و هذا هو الصحيح.
القول الاول: ما هو المشهور من كون مفادها قاعدة الطهارة و الحل فقط، و هذا هو الصحيح.
القول الثاني: كون مفادها استصحاب الطهارة و الحل
القول الثاني: كون مفادها استصحاب الطهارة و الحل، بتقريب ان ظاهرها الحكم باستمرار الحالة الاصلية من الطهارة و الحلية للاشياء الى أن يعلم بطروّ النجاسة او الحرمة لها.
و يرد عليه أنه لم يفرض في هذه الروايات لحاظ كون الحالة السابقة للاشياء هي الطهارة والحلية، فيراد التعبد باستمرارها ظاهرا، فالظاهر كون المتعبد به نفس المحمول فيها و هو الطهارة المغياة بعدم العلم بالنجاسة، لا الاستمرار الظاهري للطهارة الى زمان العلم بالنجاسة.
و قد مال الشيخ الاعظم “قده” في خصوص رواية “الماء كله طاهر حتى تعلم انه قذر” الى استظهار دلالتها على الاستصحاب، فقال: ان الشك في نجاسة الماء غالبا يكون ناشئا عن احتمال عروض النجاسة له، فتكون طهارته الذاتية مفروغا عنها، فالأولى حملها على إرادة استصحاب هذه الطهارة، و المعنى أن الماء المعلوم طهارته بحسب أصل الخلقة طاهر حتى تعلم …، أي طهارته المفروضة مستمرة إلى حين العلم بعروض القذارة له([18]).
و فيه أن كون الحالة الاولية للماء هي الطهارة وان كان مفروغ الثبوت عادة، (الا في الماء المصعد من الماء المتنجس حيث وقع فيه الخلاف) لكنه لا يعني ظهور الخطاب في لحاظها في التعبد بطهارته الظاهرية، الى ان يحصل العلم بقذارته، حتى يكون ظاهر الرواية الاستصحاب، فالظاهر أن مفادها جعل قاعدة الطهارة للماء المشكوك، و أما احتمال كونها بصدد بيان الطهارة الواقعية الاصلية لكل ماء الى أن يطرأ عليه القذارة، بأن نحمل العلم في قوله “حتى تعلم أنه قذر” على الطريقية المحضة، فلا وجه له فيما اذا قرأنا “قذر” بنحو الصفة المشبهة حيث يعني ان الماء طاهر واقعا ما لم يكن قذرا واقعا، فهو مثل ما يقال “الجسم متحرك ان لم يكن ساكنا” حيث يكون لغوا محضا، نعم لو قال “الماء كله طاهر حتى تعلم أنه لاقى النجس” فلا يبعد ان يطبقه العرف لنفي احتمال النجاسة الاصلية لماءٍ، كالماء المصعد من النجس، فلا تتم دعوى (أنه حيث تكون الطهارة الاصلية الواقعية للماء غير الملاقي للنجس واضحا للعرف عادة، فلا يتوقع العرف كونه في مقام بيان هذا الحكم، بل يفهم منه كونه بصدد الطهارة الظاهرية له ما لم يعلم بملاقاته للنجس، فلا ينطبق على هذا المثال) بل الامر كذلك في رواية حماد “الماء كله طاهر حتى تعلم أنه قذُر” لو كانت كلمة “قذر” بصيغة الفعل الماضي الظاهرة في كونه طاهرا ما لم يعلم بعروض القذارة له، فانه يمكن أن يستفاد منها الطهارة الواقعية لكل ماء قبل حدوث قذارة عرضية فيه.
القول الثالث: كون مفادها الحكم الواقعي المغيى بعدم العلم بضده
القول الثالث: كون مفادها الحكم الواقعي المغيى بعدم العلم بضده، و هذا ما يظهر من صاحب الحدائق اختياره في مفاد رواية “كل شيء نظيف…” و رواية “الماء كله طاهر…([19])” فالتزم بالطهارة الواقعية للشيء ما لم يعلم بطرو النجاسة له، و قد يستشهد له بقرينة التقابل في الروايتين بين كلمة النظيف و الطاهر، و كلمة القذر، حيث لا إشكال في أن المراد من كلمة “قذر” القذر الواقعي، فيراد من النظيف و الطاهر الواقعي منهما أيضا.
و فيه أن اخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم مستحيل الا بنحو أخذ العلم بالموضوع في الحكم في الشبهات الموضوعية، او أخذ العلم بالجعل في موضوع المجعول، و كلاهما خلاف الظاهر، اذ ظاهر الروايتين أخذ العلم بكون الشيء قذرا غاية للحكم بالطهارة، لا أخذ العلم بجعل القذارة او اخذ العلم بالموضوع غاية له، فلابد من حملهما على بيان الحكم الظاهري.
و يؤيد ذلك ذيل موثقة عمار “و ما لم تعلم فليس عليك”، فإنه ظاهر في أن النظر إلى تشخيص الوظيفة العملية، كما يؤيد ذلك أيضا ان كون شيء طاهرا واقعا بالنسبة الى شخص و نجسا واقعا بالنسبة الى شخص آخر خلاف الارتكاز العرفي، و هذا بخلاف الطهارة و النجاسة الظاهريتين، اللتين مآلهما الى المنجزية و المعذرية.
و كيف كان فلا ينبغي الاشكال في أن ظاهر التعبير بقوله “حتى تعلم أنه قذر” عدم توقف حصول قذارته على العلم بها، فانها ان حصلت فقد يتعلق به العلم و قد لا يتعلق، فان ميزة العلم بالنسبة الى متعلقه هو كونه مجرد كاشف عنه لا من علل وجوده، و هذا يقتضي حمل دعوى كونه نظيفا على كونه نظيفا ادعاءا و ظاهرا لا واقعا، و ان فرض اجمال الرواية فمقتضى الجمع بينها و بين الاطلاقات المقتضية لنجاسة الاشياء بطرو اسباب النجاسة لها و لو لم يعلم به المكلف هو حملها على بيان الطهارة الظاهرية، و قد مر تحقيق مثل ذلك في اول بحث الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري.
فالمتعين حملها على الطهارة الظاهرية، نعم هناك احتمال آخر لابد من دفعه حتى يتعين استظهار الطهارة الظاهرية منها، و هو احتمال حمل العلم بالقذارة على الطريقية المحضة، نعم انما يعقل ذلك ثبوتا فيما كانت الغاية “قذر” بصيغة الفعل الماضي، فيكون مآل الموثقة الى أن كل شيء نظيف ما لم يصر قذرا، فيدل على الطهارة الذاتية في الاشياء، و أما بناء على كونها بصيغة الصفة المشبهة، فلا يعقل ثبوتا، ، لأن اخذ عدم الضد في موضوع ضده فيما لم يكن لهما ثالث لغو محض، سواء كان انشاء او اخبارا، كأن يقال من لم يكن ساكنا فهو متحرك، و من لم يكن حاضرا فهو مسافر.
نعم في الضدين لهما ثالث يعقل اخذ عدم احدهما في موضوع جعل ضده ثبوتا من دون عكس، و هذا لا يرتبط بعدم توقف وجود الضد على عدم ضده لعدم صلوحه للمانعية عنه على ما ذكروه في بحث اقتضاء الامر بالشيء للنهي عن ضده، و أما الاخبار عن وجود احدهما عند عدم الآخر فمعقول، و ان كان من كلا الطرفين لأن اثره العلم بانتفاء الضد الثالث.
و اذا ثبت معقولية جعل الطهارة الواقعية لكل شيء مغيى بعدم حدوث القذارة فقد يقال بأنه بعد احتمال كون الغاية “قذر” بصيغة الفعل الماضي، و امكان كون الرواية حينئذ بصدد بيان الطهارة الذاتية للاشياء ما لم تلاق النجس فلا يمكن استظهار كونها بصدد بيان الطهارة الظاهرية، و لكن يرد عليه أن صدور عموم يدل على أن كل شيء طاهر ما لم يحدث فيه النجاسة ليس عرفيا، بعد افتراضه وجود النجس بالذات الذي يتنجس الجسم الطاهر بسبب ملاقاته له، فلا يحمل العرف اخذ العلم بحدوث القذارة في الشيء غاية للحكم بطهارته، على الطريقية المحضة، و ان بقيت شبهة فيزيحها ذيل الموثقة “فاذا علمت فقد قذر و ما لم تعلم فليس عليك”.
الاتجاه الثاني: الاقوال فی حکم الذی هو مفاد تلک الروایات
الاتجاه الثاني: كون مفاد تلك الروايات حكمين، و فيه ايضا ثلاثة اقوال:
القول الاول: جعل الطهارة و الحلية واقعا و الحكم بهما ظاهرا الى زمان العلم
ما اختاره صاحب الكفاية من كون مفادها الحكم بالطهارة و الحلية واقعا لكل شيء، و الحكم باستمراره ظاهرا ما لم يحصل العلم بالخلاف، بتقريب أن يقال إن الغاية فيها إنما هو لبيان الاستمرار الظاهري لما حكم على الموضوع من الطهارة و الحلية الواقعيتين، ما لم يعلم بارتفاعه، و ليست الغاية لتحديد الموضوع حتى يكون الحكم بهما قاعدة مضروبة لما شك في طهارته أو حليته، و ذلك لظهور المغيا فيها في بيان الحكم للأشياء بعناوينها، لا بما هي مشكوكة الحكم، كما لا يخفى([20]).
فحاصل كلامه أن مفاد الروايات جعل الطهارة و الحلية لكل شيء واقعا و الحكم باستمرارهما ظاهرا الى زمان العلم بالنجاسة و الحرمة، فكأن الرواية هكذا “كل شيء طاهر، و هذه الطهارة مستمرة الى زمان العلم بنجاسته”.
و تقريب كلامه يتوقف على ذكر مقدمتين:
1- ان ظاهر قوله “كل شيء نظيف” كون موضوع الطهارة، هو ذات الشي، لا الشيء بقيد عدم كونه معلوم القذارة، فان ظاهر الغاية كونها قيدا للحكم لا للموضوع، و هكذا حينما يقال الماء طاهر الى أن يلاقي النجس فظاهره أن الماء محكوم بحكمٍ و هو طهارته المستمرة الى زمان ملاقاته للنجس، فلا يكون المراد من قوله “كل شيء نظيف” قاعدة الطهارة حيث يكون الغاية فيها قيدا للموضوع لكونها تعبدا بطهارة ما لا يعلم بقذارته، بل يكون ظاهرا في الطهارة الواقعية.
2- ان ظاهر قوله “حتى تعلم أنه قذر” حيث يكون هو الحكم باستمرار تلك الطهارة الواقعية للشيء الى زمان العلم بقذارته، فيكون المأخوذ في الغاية العلم بالقذارة لا واقع القذارة فلا محالة يكون الحكم باستمرار تلك الطهارة حكما ظاهريا و ليس هذا الا الاستصحاب.
فتحصل أن المستفاد من صدر الرواية الحكم بالطهارة الواقعية للشيء و من ذيلها الحكم باستصحابها عند الشك في بقاءها.
شبهه: المراد من المغيى الحكم بالطهارة الواقعية لذات الشيء لا الحكم بالطهارة الظاهرية
هذا و قد ذكر أن قوله في ذيل الرواية “فاذا علمت فقد قذر، و ما لم تعلم فليس عليك” حيث يكون ظاهرا في كونه متفرعا على الغاية، و بيانا لمنطوقها و مفهومها، لا بيان المغيى و الغاية معا، فيؤيد ما ذكرناه -من عدم كون المراد من المغيى الحكم بالطهارة الظاهرية، بل المراد منه الحكم بالطهارة الواقعية لذات الشيء- أن ذيل موثقة عمار “فإذا علمت فقد قذر و ما لم تعلم فليس عليك” يؤيد ما استظهرنا منها من كون الحكم المغيى واقعيا ثابتا للشيء بعنوانه، لا ظاهريا ثابتا له بما هو مشتبه، لظهوره في أنه متفرع على الغاية وحدها، و أنه بيان لها وحدها منطوقها و مفهومها، لا لها مع المغيى، كما لا يخفى على المتأمل.
جواب الشبهه
اقول: يرد عليه أولا: أن ما ذكره في المقدمة الاولى من كون الغاية في قاعدة الطهارة قيدا للموضوع فلم نفهم وجهه، فانه لا فرق بين أن يقال كل شيء لا تعلم بنجاسته فهو طاهر، و بين أن يقال كل شيء طاهر حتى تعلم أنه نجس، فان الثاني ايضا يوجب تقييد الموضوع قهرا و تبعا، نظير ما لو قيل اكل الميته حرام ما لم تضطر اليه، فانه لا محالة يوجب تضييق متعلق الحرمة باكل الميتة الذي لا يكون مضطرا اليه، و حيث ان حمل العلم في قوله “حتى تعلم أنه قذر” على الطريقية المحضة خلاف الظاهر بل غير ممكن، كما مر توضيحه، فلا محالة تكون الطهارة المغياة به ظاهرية، لا واقعية.
و ثانيا: ان ما ذكره من استفادة الطهارة الواقعية من صدر الرواية، و استفادة الاستصحاب من ذيلها يتوقف على اشتمال الرواية على جملتين تامتين، كأن يقال “كل شيء طاهر، و هذه الطهارة ثابتة حتى تعلم أنه قذر” و أما الرواية فلا تشتمل الا على جملة تامة واحدة، و ذلك لأن الدالّ على الاستمرار هو “حتى” و مفادها نسبة ناقصة لا تامة، فتصير مدخولها معها وصفا لما قبلها، فكأنه قال “كل شيء محكوم بطهارة مستمرة الى زمان العلم بقذارته، فلا يصح تجزءتها الى جملتين تامتين مستقلتين.
و ان شئت قلت: انه حتى لو كانت الغاية قيدا للمحمول و الحكم، فمع ذلك تكون قيدا لشخص الحكم، لا لحكم آخر و هو التعبد باستمرار ذلك الحكم.
و ثالثا: حتى لو قيل “كل شيء طاهر، و هذه الطهارة ثابتة حتى تعلم أنه قذر” فظاهره استمرار نفس الطهارة المحمولة على الشيء في الجملة الاولى استمرارا حقيقيا لا ادعائيا كما في الاستصحاب، و عدم امكان كونها الطهارة الواقعية لعدم امكان كون الطهارة الواقعية مغياة بالعلم بالقذارة، لا يوجب ظهورها في الاستمرار العنائي و الادعائي، حتى يساوق الاستصحاب، بل يصلح لأن يكون قرينة على كون المراد من الطهارة الطهارة الظاهرية المتمثلة في قاعدة الطهارة، حيث انها مستمرة حقيقة الى زمان العلم بالقذارة، بل لا يبعد أن يقال بأنه المتعين عرفا.
و رابعا: ان كون الرواية في مقام بيان الطهارة الواقعية لكل شيء او لكل ماء، بعيد عرفا، بعد افتراض الرواية أنه قد يوجد شيء او ماء قذر، بل و هكذا لو كان التعبير في الرواية هكذا “كل شيء نظيف حتى تعلم انه لاقى النجس” فانه بعد فرض وجود نجس فلا يفهم منه العرف انه بصدد بيان عام لافادة الطهارة الواقعية لكل شيء، نعم لو قال “الماء كله طاهر حتى تعلم أنه لاقى النجس” فلا يبعد ان يطبقه العرف لنفي احتمال النجاسة الاصلية لماءٍ، كالماء المصعد من النجس، بل الامر كذلك في رواية حماد “الماء كله طاهر حتى تعلم أنه قذُر” لو كانت كلمة “قذر” بصيغة الفعل الماضي الظاهرة في كونه طاهرا ما لم يعلم بعروض القذارة له، فانه يمكن أن يستفاد منها طهارة الواقعية قبل حدوث قذارة عرضية فيه، و طهارته الظاهرية عند الشك في حدوث القذارة له، فيكون الظاهر منها ثبوت جامع الطهارة لكل ماء قبل العلم بحدوث القذارة فيه، و يكون مصداقه قبل حدوث القذارة طهارته الواقعية، و مصداقه بعده و قبل العلم به طهارته الظاهرية، و لا يلزم من ذلك محذور استعمال اللفظ في معنيين، لأن الملحوظ ليس خصوصية كون الطهارة واقعية او ظاهرية، بل الملحوظ هو جامع الطهارة، و انما مناسبات الحكم و الموضوع تعين المصداق، فلا يقاس بما ظاهره لحاظ الخصوصيتين، للحاظ كل من فرض عدم حدوث القذارة و فرض حدوثها واقعا مع عدم العلم به، كما في قولنا “الماء الذي لم يلاق النجس و الماء المشكوك ملاقاته للنجس طاهر”.
و أما ما أيّد صاحب الكفاية به كلامه من ذيل موثقة عمار فلم نفهم وجه استظهار كونه بيانا للغاية مفهوما و منطوقا دون المغيى.
فالانصاف أن الظاهر من قوله “كل شيء نظيف حتى تعلم انه قذر” هو الحكم على كل شيء بالطهارة الظاهرية المغياة بعدم العلم بالقذارة، فظاهره قاعدة الطهارة فقط.
و خامسا: انه لو فرض دلالتها على استصحاب الطهارة فالتعدي منه الى سائر الموارد مشكل، أما الاجماع فان تم و لم يكن مدركيا فالمتيقن منه موارد الشك في الرافع بنحو الشبهة الموضوعية، و أما التعدي بالارتكاز فقد مر الاشكال فيه حتى الى هذه الموارد.
القول الثاني: قاعدة الطهارة و الحل و استصحاب الطهارة و الحل
القول الثاني: ما نسب الى صاحب الفصول “ره” من كون مفاد هذه الروايات قاعدة الطهارة و الحل و استصحاب الطهارة و الحل، و عبارته هكذا: اعلم أنّ الرّوايتين اي كل شي نظيف و الماء كله طاهر، تدلان على أصلين: الأول: أن الحكم الأولي للمياه أو الأشياء هو الطهارة و لو بحسب الظاهر عند عدم العلم بالنجاسة و هذا لا تعلق له بمسألة الاستصحاب، الثاني: أن هذا الحكم مستمر إلى زمن العلم بالنجاسة، و هذا من موارد الاستصحاب([21]).
و لأجل ما جاء فيه من التعبير بقوله “الطهارة و لو بحسب الظاهر” قد يفهم منه القول بدلالة الحديث على احكام ثلاثة: الطهارة الواقعية لكل شيء، و قاعدة الطهارة للمشكوك و استصحاب الطهارة، كما استظهره المحقق الاصفهاني “ره” ([22]).
اشکالان
و كيف فقد يورد على هذا القول الثاني المنسوب الى صاحب الفصول، اشكالان:
الاشكال الاول:
ما ذكره الشيخ الاعظم “ره” و هو أن إرادة القاعدة و الاستصحاب معا تكون من قبيل استعمال اللفظ في معنيين([23]).
و يمكن ان يذكر في تقريب هذا الاشكال احد بيانات ثلاثة:
1- ما يظهر من الكفاية من أن الغاية اي قوله “حتى تعلم أنه قذر” بناء على كون مفاد الرواية قاعدة الطهارة تكون قيدا للموضوع -اي للشيء- المحكوم عليه بالطهارة، و بناء على الاستصحاب تكون قيدا للحكم، اي تكون غاية لاستمرار الحكم بالطهارة، و هذا من قبيل استعمال اللفظ في معنيين.
و فيه ما مرّ من أنه لا تتوقف ارادة قاعدة الطهارة على كون الغاية قيدا للموضوع، بل يمكن ارادتها و لو مع كون الغاية قيدا للحكم بأن يكون الشيء موضوعا للتعبد بالطهارة المستمرة الى زمان العلم بالنجاسة.
2- ما لعله مقصود صاحب الكفاية من أنّ الاستصحاب يتقوم بلحاظ كون الغاية اي جملة “حتى تعلم أنه قذر” جملة مستأنفة و دالة على حكم آخر، و هو التعبد باستمرار الحكم الذي دل عليه صدر الرواية، بينما أن قاعدة الطهارة تتقوم بلحاظ كون الغاية من قيود الجملة الاولى، اي تكون الرواية دالة على حكم واحد، و هو التعبد بطهارة الشي ما لم يعلم بنجاسته.
3- ان الاستصحاب يتقوم بلحاظ اليقين بسبق الطهارة، و اخذه في موضوع التعبد بالطهارة، و قاعدة الطهارة تتقوم بعدم اخذه، و الاكتفاء بمجرد الشك في الطهارة، و لا يمكن الجمع بينهما.
و لا بأس بهذين البيانين.
الاشكال الثاني:
انه ان كان المراد من الطهارة في صدر الرواية الطهارة الظاهرية، الثابتة لمشكوك الطهارة الواقعية كما هو مقتضى الكلام المنسوب اليه فان اريد من الاستصحاب استصحاب هذه الطهارة الظاهرية فلا حاجة اليه بعد دلالة الدليل على ثبوت هذه الطهارة مادام الشك، و يكون جعل هذا الاستصحاب مع بيان ثبوتها واقعا في نفس الخطاب لغوا عرفا.
و ان اريد استصحاب الطهارة الواقعية فلا يتناسب مع ما افيد من عدم دلالة الرواية على الطهارة الواقعية ابدا، لأن الظاهر منها كون المستصحب نفس الطهارة المدلول عليها في الرواية، و هذا لا ينافي كون اثبات حدوث الطهارة الواقعية للشيء بالاصل التنزيلي كاصل الطهارة كافيا في استصحابها كما لو انحصر اثبات طهارة الماء الذي توضأ به بأصالة الطهارة -كما لو توارد في الماء حالة الطهارة و النجاسة، و لم يعلم المتقدم و المتأخر منهما، فلم يجر فيه استصحاب الطهارة- ثم خرج منه مذي و شك في ناقضيته للطهارة فاستصحاب بقاء الطهارة من الحدث يكون استنادا الى احراز حدوثها باصل الطهارة، بناء على كفايته في تنقيح موضوع الاستصحاب.
القول الثالث: الطهارة الواقعية الاصلية عند عدم طرو النجاسة العرضية، و اصالة الطهارة عند طروها
القول الثالث: هو كون مفاد الرواية الطهارة الواقعية الاصلية عند عدم طرو النجاسة العرضية، و اصالة الطهارة عند طروها مع عدم العلم به، و قد قويّنا هذا الاحتمال آنفا في رواية “كل شيء طاهر حتى تعلم انه قذر” بناء على كون كلمة “قذر” بصيغة الفعل الماضي.
الاتجاه الثالث: كون مفاد الروايات، الطهارة الواقعية، و قاعدة الطهارة، و استصحاب الطهارة
الاتجاه الثالث: كون مفاد الروايات ثلاثة احكام، و هو ما اختاره صاحب الكفاية في حاشيته على الرسائل من دلالة رواية عمار مثلاً على ثلاثة اشياء: الطهارة الواقعية، و قاعدة الطهارة، و استصحاب الطهارة، فان “كلّ شيء نظيف” مع قطع النّظر عن الغاية يدل بعمومه (الافرادي) على طهارة الأشياء بعناوينها الواقعية كالماء و التراب و غيرهما، فيكون دليلا اجتهادياً على طهارة الأشياء، و بإطلاقه بحسب حالات الشيء التي منها حالة كونه مشكوك الطهارة بالشبهة الحكمية أو الموضوعية تدلّ على قاعدة الطّهارة فيما اشتبهت طهارته كذلك، و إن أبيت إلاّ عن عدم شمول إطلاقه لمثل هذه الحالة الّتي في الحقيقة ليست من حالاته، بل من حالات المكلّف، و إن كانت لها إضافة إليه، فهو بعمومه لما اشتبهت طهارته لشبهة لازمة له لا ينفك عنه أبداً، كما في بعض الشّبهات الحكمية (يمكن المثال له بالحديد) و الموضوعية يدلّ بضميمة عدم الفصل بينه و بين سائر المشتبهات على طهارتها كلها، و لا ضير في كون الحكم بالنسبة إلى بعض أفراد العامّ ظاهرياً و بالنسبة إلى بعضها الآخر واقعيا، لأنّ الاختلاف بذلك انما هو من اختلاف مصاديق معنى واحد، فلا محال لتوهّم لزوم استعمال اللّفظ في المعنيين من ذلك أصلاً، فعلى ذلك يكون دليلاً بعمومه على طهارة الأشياء بما هي بعناوينها و بما هي مشتبه حكمها مطلقا بضميمة عدم الفصل في المشتبهات بين ما يلزمه الاشتباه و بين ما لا يلزمه الاشتباه، فلا حاجة في دلالته على قاعدة الطّهارة، إلى ملاحظة غايته، نعم الغاية تدل على الاستصحاب، فتلخّص أنّ إرادة المعاني الثّلاثة، أي مفاد الدّليل الاجتهادي و القاعدة و الاستصحاب من مثل الرواية ممكنة بل ظاهرة، من دون لزوم استعمال اللّفظ في أكثر من معنى واحد([24]).
سبعة ايرادات علی کلام صاحب الکفایة
و قد اورد عليه سبعة ايرادات:
الايراد الاول:
ما ذكره جماعة منهم المحقق النائيني و المحقق الاصفهاني “قدهما” انّ الإطلاق رفض القيود لا جمعها، فشمول الإطلاق الأحوالي لحال الشكّ ليس معناه أخذ الشكّ موضوعاً حتّى يكون حكماً ظاهرياً، و إنّما معناه: أنّه لم يؤخذ في الموضوع عدم الشكّ، و أنّ الطهارة هنا طهارة ثابتة بغضّ النظر عن الشكّ و عدمه، و هذه الطهارة لا تكون إلّا طهارة واقعية([25]).
و ما ذكروه و ان كان متجها، لكن الصحيح أنه حتى لو قلنا بأنه حيث يكون مفاد الروايات العموم وقلنا بأن العموم بنحو جمع القيود، كما قد يتردد ذلك في بعض الكلمات كالبحوث فيكون قوله “كل شيء نظيف” في قوة أن يكون الملحوظ في الخطاب أن كل شيء بأي عنوان طرأ له فهو طاهر” بل لو كان الملحوظ تفصيلا “أن كل شيء طاهر، سواء شك في طهارته ام لا”، فمع ذلك نقول: مجرد لحاظ عنوان الشك في الحكم الواقعي في موضوع حكمٍ لا يجعله حكما ظاهريا، فلو قال المولى “تجب الصلاة على كل مكلف، شك في وجوب الصلاة ام لم يشك”، فلا يكون وجوب الصلاة في حق الشاك وجوبا ظاهريا، بل الحكم الظاهري ومنه الطهارة الظاهرية هو كان روحه المعذرية و المنجزية او فقل على الأصح: ابراز عدم الاهتمام او الاهتمام بالواقع، بينما أن الطهارة الواقعية إما امر واقعي كشف عنه الشارع كما هو مختار جماعة منهم الشيخ الاعظم و صاحب الكفاية و المحقق العراقي “قدهم” او امر اعتباري اعتبر بغرض ترتيب آثار شرعية واقعية.
فان قلت: انه يمكن اخذ عنوان النجس الواقعي المشكوك، بأن يقال “كل شيء طاهر، سواء كان نجسا مشكوكا ام لا” فلا يعقل كون طهارته واقعية للزوم المناقضة، فلا محالة تكون ظاهرية، قلت: نعم، و لكن بعد عدم ظهور الحكم في كونه من سنخ الحكم الظاهري، فلا محالة يتحدد العنوان الملحوظ في ناحية الموضوع بما يصلح تعلق الحكم الواقعي به، خاصة و أنه لا يحتمل لحاظ العناوين فيها تفصيلا، بل غايته لحاظها اجمالا، بأن يقول “كل شيء بأي عنوان طاهر” فلا يشمل الا العناوين المجتمعة مع الطهارة الواقعية.
و ان شئت قلت: ان العموم وان كنا جمعا بين القيود في اللحاظ، لكنه غير تعليق ثبوت الحكم عليها، بينما أن ثبوت الحكم الظاهري معلق على تحقق الشك في الحكم الواقعي.
ثم ان ما جاء في كلام صاحب الكفاية من أن “كل شيء نظيف” يشمل العنوان الذي يكون مشكوك النجاسة دائما كالحديد، فقد يدعى أنه لا يتوجه عليه ايراد أن الاطلاق ليس جمع القيود، حيث يقال ان العموم الافرادي لما كان يشمل الحديد، و المفروض كونه ملازما مع حالة الشك في طهارته، فيكون الحكم الشامل له ظاهريا، و لكن المهم أن شمول الخطاب لهذا العنوان الذاتي امارة رافعة للشك في طهارته الواقعية، و مجرد ملازمة العنوان الذاتي مع الشك الوجداني لا يجعل الحكم ظاهريا بعد عدم اخذ عنوان الشك في موضوعه و لو ثبوتا.
تقريب آخر لمدعى صاحب الكفاية
هذا و قد يذكر تقريب آخر لمدعى صاحب الكفاية لا يرد عليه الايراد الاول،و هو أن يقال: ان تخصيص عموم “كل شيء طاهر” بدليل “الخمر نجس” حيث يكون من باب الضرورة و الضرورات تتقدر بقدرها فلا موجب لرفع اليد عن عمومه الا في فرض وصول الخطاب الثاني صغرى و كبرى، فيكون مقتضاه ان كل شيء طاهر الا أن يكون خمرا معلوم الخمرية و النجاسة، فحيث يشمل غير الخمر تكون طهارته واقعية، و حيث يشمل الخمر المشكوك الخمرية او النجاسة فمقتضى اطلاق الثاني نجاسته و مقتضى عموم الاول طهارته، و لا يكون ذلك الا بكون النجاسة واقعية و الطهارة ظاهرية.
و فيه انه بعد ظهور كل منهما في بيان الحكم الواقعي فيوجد التنافي بين مدلول العام و مدلول الخاص في تمام افراد الخمر و منها الخمر المجهول خمريته او نجاسته، فان تم ما هو المشهور من كون مقتضى الجمع العرفي بين العام و الخاص تقديم اطلاق الخاص على عموم العام كما لا يبعد فهو و الا وقع التعارض بينهما في مشكوك الخمرية او النجاسة و يتساقطان، لا أن يحمل احدهما على الحكم الواقعي و الآخر على الحكم الظاهري.
الايراد الثاني:
ما ذكره المحقق النائيني “قده” من أن موضوع الحكم الواقعي متقوم بعدم لحاظ الشك فيه و موضوع الحكم الظاهري متقوم بلحاظ الشك فيه فيلزم من الجمع بينهما التناقض في اللحاظ([26]).
اقول: لو غمض العين عن الاشكال السابق من عدم كون العموم جمعا بين القيود، فلا مانع من لحاظ الشيء غير مشكوك الطهارة و الشيء مشكوك الطهارة، و يجعل الطهارة لهما معا من دون لزوم تناقض.
الايراد الثالث:
ما ذكره ايضا من أنه لا يمكن الجمع بين الحكم الواقعي و الظاهري لكون الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي، متأخرا عن موضوعه و هو الشك في الحكم الواقعي، و الشك في الحكم الواقعي متأخر عن الحكم الواقعي، فالحكم الظاهري متأخر عن الواقعي بمرتبتين([27]).
و قد ذكر السيد الخوئي “قده” بأن هذا الايراد انما يتم على مسلك المشهور من كون الانشاء هو ايجاد المعنى باللفظ، فيقال بأنه لا يمكن ايجاد امرين طوليين بايجاد واحد، و أما بناء على ما هو الصحيح من كونه الاعتبار و الابراز، فلا مانع من اعتبار امرين طوليين و ابرازهما بمبرز واحد([28]). و قد اورد عليه في البحوث بأنّ هذا التفصيل لا محصّل له، فإنّنا إن جعلنا قوله “كلّ شيء نظيف” إخباراً عن الطهارة، ارتفع هذا الإشكال، بلا فرق بين أن يفرض الإنشاء إيجاداً للمعنى أو إبرازاً للاعتبار النفساني، و إن جعلناه إنشاءً كما هو مفروض الكلام عندهم، فكما يقال بناءً على كون الإنشاء إيجاداً للمعنى: إنّ هذا إيجاد واحد، فكيف ينحلّ إلى إيجادين طوليين، كذلك يقال بناءً على كون الإنشاء إبرازاً للاعتبار: إنّ هذا إبراز لاعتبار واحد، لأنّ إبرازه لاعتبارين يكون على حدّ استعمال اللفظ في معنيين، فيقال هنا أيضاً: كيف ينحلّ الاعتبار الواحد إلى اعتبارين طوليّين([29]).
اقول: الصحيح ظهور كلمات الأئمة (عليهم السلام) في العرف المتشرعي في كونهم في مقام الاخبار عن الاحكام الشرعية، و قد ورد في رواية جابر قال قال ابوجعفر (عليه السلام) يا جابر لو كنا نفتي الناس برأينا وهوانا لكنّا من الهالكين، ولكنا نفتيهم بآثار من رسول الله (صلىالله عليه وآله) وأصول علم عندنا نتوارثها كابرا عن كابر، نكنزها كما يكنز هؤلاء ذهبهم وفضتهم([30]) و ورد في رواية عمر بن عبد العزيز عن هشام بن سالم و حماد بن عثمان و غيره قالوا سمعنا أبا عبد الله (عليه السلام) يقول حديثي حديث أبي و حديث أبي حديث جدي و حديث جدي حديث الحسين و حديث الحسين حديث الحسن و حديث الحسن حديث أمير المؤمنين و حديث أمير المؤمنين حديث رسول الله و حديث رسول الله (صلى الله عليه وآله) قول الله عز و جل([31]).
و كيف كان فالمهم في الاشكال على المحقق النائيني “قده” اولا: أن الحكم الظاهري ليس متأخرا عن الحكم الواقعي رتبة، و انما هو متأخر عن الشك فيه، و الشك في الشيء ليس متأخرا عن واقع ذلك الشيء رتبة، لعدم توقفه عليه، لا واقعا، ولا بنظر الشاكّ، كما هو واضح، فالحكم الظاهري لا يكون متأخرا رتبة عن الحكم الواقعي، بملاك تأخره عن الشك في الحكم الواقعي.
و ثانيا: حتى لو فرض كون الشك في الحكم الواقعي متأخرا عن الحكم الواقعي رتبة، فجعل الحكم الظاهري لا يتوقف الا على لحاظ الشك، و ما يتوقف على وجود الشك خارجا انما هو فعلية الحكم الظاهري، و لا مانع ثبوتا من لحاظ امرين مختلفين في الرتبة وجعلهما في خطاب واحد، كما يقول المولى لعبده “يجب عليك بوجوب واحد ان تكرم زيدا وكل من كان جالسا في جنب من يجب اكرامه” ولنفرض كون هذا الواجب بنحو العام المجموعي لا الاستغراقي، فانه يتعلق الأمر الضمني حينئذ بكل من كان جالسا في جنب زيد ولو مع الواسطة.
هذا و قد ذكر في البحوث جوابا آخر و هو أنّنا لو سلّمنا كون الجعل الظاهري في طول الجعل الواقعي، فهذا لا ينافي اتّحادهما خارجاً، كما أنّ الكلّ في طول الجزء مع أنّهما متّحدان خارجاً، و تعدّد الرتبة إنّما يستحيل اجتماعه مع الوحدة الخارجية إن كان تعدّداً بملاك التأثير، فالمؤثّر و الأثر يستحيل اتّحادهما خارجاً، و ما نحن فيه ليس من هذا القبيل([32]).
الايراد الرابع:
ما ذكره ايضا من أنه كيف يمكن جعل العلم بالحرمة أو القذارة غاية للحكم الظاهري و الواقعي مع انه غاية للأول، دون الثاني، و انما يحتاج جعل العلم بالحرمة او القذارة غاية للحكم الواقعي إلى عناية أخذه طريقا إلى جعل الحرمة او القذارة غاية الحكم الواقعي([33]).
و فيه أن تقريب صاحب الكفاية اختصاص الغاية بالاستصحاب و استفادة الطهارة الواقعية و قاعدة الطهارة من عموم صدر الرواية للشيء بجميع عناوينه التي منها كونه مشكوك الطهارة.
الايراد الخامس:
ما في كتاب الدرر للمحقق الحائري “قده”، فانه (بعد ما ذكر أن الجمع بين الحكم بطهارة الاشياء بعناوينها الاوّلية و عنوان كونها مشكوكة الطهارة لا يمكن في انشاء واحد، ضرورة تأخر رتبة الثاني عن الاول، و لا يمكن ملاحظة موضوع الحكم الثاني في عرض موضوع الحكم الاول) ذكر أنه على فرض تسليم امكان الجمع يصير الحكم المجعول بملاحظة الشك لغوا، لان هذه القضية الجامعة لكلا الحكمين متى وصلت الى المكلف يرتفع شكه من جهة اشتمالها على الحكم بطهارة جميع الاشياء بعناوينها الاولية، فلا يبقى له الشك حتى يحتاج الى العمل بحكم الشك، اللّهم إلّا ان تحمل القضيّة على الاخبار دون الانشاء، و على هذا يرتفع الاشكالان، لأنه اذا فرض ان الشارع حكم على بعض الاشياء بعناوينها الاولية بالطهارة، و على بعض آخر بعنوان انه مشكوك بها ايضا، يصح ان يقول واحد في مقام الحكاية “كل شيء طاهر عند الشرع إما بالطهارة الواقعية و إما بالطهارة الظاهرية” و لكنه لا يدل على أن المحكوم بالطهارة ما هو، حتى يكون دليلا اجتهاديا على طهارة الاشياء بعناوينها الاولية، فهذا التوجيه لا ينطبق على المستفاد من كلامه([34]).
و اورد عليه في البحوث أولاً: ان ما يوجب لغوية الطهارة الظاهرية وصول جعل الطهارة الواقعية، و هذا العام إنّما دلّ على الجعل، و الجعل لا يستلزم الوصول، فقد لا يصل بسبب ابتلاء هذا العام بالمعارض او المخصص الذي يكون المشكوك شبهة مصداقية له، و ثانياً: لو سلّمنا كون جعل الطهارة الواقعية منافياً للطهارة الظاهرية، فنقول ان كان المقصود كون هذه المنافاة مانعا ثبوتياً عن حمل الرواية على ما ذكره صاحب الكفاية في حاشية الرسائل، فجوابه: أنّ الشارع حيث كان يعلم بعدم ارادته الجدية لعموم الطهارة الواقعية في جملة من الموارد، كالخمر الواقعي المشكوك الخمرية، فلا مانع من جعل الطهارة الظاهرية، و ان كان المقصود كونها مانعا اثباتيا عنه، بأن يقال: إنّه و إن كانت الطهارة الواقعية غير مقصودة واقعاً في بعض الموارد، لكن حيث إنّها تنافي الطهارة الظاهرية، فالدليل الذي يدلّ على الاولى لا يدلّ على الثانية، و إلّا لزمت دلالته على أمرين متنافيين، فجوابه أنّ الارتكاز المتشرّعي الذي هو كالقرينة المتّصلة دلّ على عدم إرادة العموم الكامل في الطهارة الواقعية، بل قوله في ذيل الرواية “حتّى تعلم أنّه قذر” أيضاً قرينة على ذلك، فيرتفع التنافي الإثباتي أيضاً([35]).
اقول: الانصاف قوة اشكال المحقق الحائري “قده”، فان المقصود اللغوية العرفية في تكفل الخطاب الدال على الطهارة الواقعية لكل شيء، لجعل الطهارة الظاهرية لما يشك في طهارته، و ما ذكره من أن ذيل الرواية يدل على عدم كون عموم الطهارة الواقعية مرادا للشارع، حيث يدل على وجود قذر في الجملة، ففيه أن ذلك مناف عرفا لبيان العموم على الطهارة الواقعية لكل شيء، فمع فرض ذلك العموم فلابد أن يكون المراد من الغاية العلم بحدوث القذارة العرضية، لا القذارة الشاملة للقذارة الذاتية المنافية مع بيان عموم طهارة كل شيء واقعا.
الإيراد السادس:
ما يقال من أنه بناء على مسلك صاحب الكفاية وفاقا للشيخ الاعظم “قدهما” من أن الطهارة الواقعية امر واقعي كشف عنها الشارع فيكون الدليل الدال عليها في مقام الاخبار، بينما أن الطهارة الظاهرية امر اعتباري بلا اشكال، فيكون دليلها في مقام الانشاء، فيلزم من الجمع بينهما في خطاب واحد الجمع بين الاخبار و الانشاء من الشارع، و هذا غير معقول، حيث ان جملة “كل شيء نظيف” في مقام الاخبار تلحظ فانية في معنى يُرى تصورا وجوده مع قطع النظر عن استعمال هذه الجملة، و في مقام الانشاء تلحظ فانية في معنى يُرى تصورا وجوده في طول استعمال الجملة فتصير جملة إنشائية، و الجمع بين اللحاظين غير معقول.
بل الامر كذلك حتى لو قلنا بكون الطهارة الواقعية أمرا اعتباريا، فان ستخ اعتباريتها يختلف عن اعتبارية الطهارة الظاهرية، أما بناء على كون الطهارة الظاهرية تنزيلية اي ينزَّل مشكوك الطهارة منزلة الطاهر الواقعي، فانه يلزم استعمال كلمة “نظيف” في معنيين، احدهما الطاهر الواقعي و الآخر ما نزّل منزلة الطاهر الواقعي، مضافاً إلى لزوم دلالة هذا الكلام على جعلين، و هي على حدّ استعمال اللفظ في معنيين، و أما بناء على كون الطهارة الظاهرية مجرد اعتبار فرد من الطهارة في مشكوك الطهارة، من دون تنزيله منزلة الطاهر الواقعي([36])، فكلمة “نظيف” و ان لم تستعمل في معنيين، لكن مع ذلك تكون ارادتهما معا خلاف الظاهر، لتعدّد ملاكهما، فملاك الحكم الواقعي المصلحة في متعلّقه، و ملاك الحكم الظاهري هو التحفّظ على الحكم الواقعي([37]).
اقول: نحن وان كنا نستظهر من دليل قاعدة الطهارة تنزيل مشكوك الطهارة منزلة الطاهر، لكن الظاهر أنه لا يعني ذلك أن الجمع بين الطهارة الظاهرية والواقعية مستلزم للجمع بين لحاظين، ولذا ذكرنا أنه اذا قال المولى “الماء كله طاهر حتى تعلم أنه لاقى النجس” فقد أخبر عن ثبوت جامع الطهارة للماء الى حدوث ملاقاته للنجس واقعا، و من بعده الى زمان العلم بالملاقاة، وانما تعلم الخصوصيات من مناسبات الحكم والموضوع، خصوصا مع ما قلنا من أن الروايات ظاهرة في الإخبار عن الاحكام الإلهية المجعولة سابقا بتفاصيلها، فتكون طهارة الماء قبل حدوث الملاقاة واقعية، ولما بعده الى زمان العلم بالملاقاة ظاهرية، و هكذا اختلاف حقيقة الاعتبار الواقعي عن الظاهري لا يوجب كون ابرازهما بخطاب واحد خلاف الظاهر، فانه انما يكون خلاف الظاهر لو احتاج الى لحاظ الخصوصيتين، و الا فقد مر أنه يستفاد كلا الحكمين من جعل العلم غاية للحكم، كقوله تعالى “كلو و اشربوا حتى يتبين لكم الخيط الابيض من الخيط الاسود من الفجر.
ولذا نقول: لا مانع من أن يكون قوله “من فاتته فريضة فليقضها” بالنسبة الى فوت الفريضة الواقعية مقتضيا لوجوب قضاءها واقعا وبالنسبة الى فوت الفريضة الظاهرية مقتضيا لوجوب قضاءها ظاهرا، كما لو جرى استصحاب عدم الاتيان بالفريضة في داخل الوقت، ولكنه لم يأت بها الى أن خرج الوقت، وان كانت خصوصية كون وجوب الاول واقعيا والثاني ظاهريا مستفادة من مناسبات الحكم والموضوع والخطاب في نفسه دالا على جامع الوجوب.
الايراد السابع:
ما يقال من أن الطهارة الواقعية حين جعلها تلحظ بالنظر الإيجادي، و حين جعل الطهارة الظاهرية تلحظ مفروغا عنها، لأنّ المولى بصدد جعل حكم ظاهري حافظ لها، و قد أخذ في موضوعه الشكّ فيها، و يستحيل الجمع في لحاظ واحد إلى شيء واحد بين كونه لحاظاً له بالنظر الإيجادي و لحاظاً له بنظر الفراغ عنه، فإنّ اللحاظ بنظر الفراغ عنه يستبطن فرض أنّه لا يقصد في هذا اللحاظ جعله و إيجاده، فكيف يجتمع مع فرض قصد جعله و إيجاده، و هل هو إلّا جمع بين النقيضين([38]).
اقول: هذا مبني على ظهور الروايات في الانشاء، وقد مر خلافه، على أنه مر أن الجمع بين الحكم الظاهري و الواقعي ليس خلاف الظاهر في الجملة.
بیان المختار: تکون الرواية دالة على حكم واحد و هو قاعدة الطهارة كما هو المشهور
فالمهم في الايراد على صاحب الكفاية هو الايراد الاول و الخامس، مضافا الى ابتناءه على قبول كون الغاية دالة على حكم مستقل عن صدر الرواية، و قد مر المنع عنه، و أنها ظاهرة في كونها من متممات جملة الصدر، فتكون الرواية دالة على حكم واحد و هو قاعدة الطهارة كما هو المشهور.
بیان المختار فی ادلة الاستصحاب
و بهذا انتهى الكلام حول ادلة الاستصحاب، و قد تبين تمامية ثلاثة منها سندا و دلالة، و هي صحيحة زرارة الاولى و الثانية و الثالثة، و قد مر أن الظاهر منها عدم اختصاصها بمواردها من استصحاب الطهارة من الحدث الذي هو مورد الصحيحة الاولى واستصحاب الطهارة من الخبث الذي هو مورد الصحيحة الثانية واستصحاب عدم الامتثال الذي هو مورد الصحيحة الثالثة.
[15] – وسائل الشيعة ج3ص 467 السند في التهذيب طبع النجف ج 1 ص 284هكذا “محمد بن احمد بن يحيى عن احمد بن يحيى عن احمد بن الحسن بن علي بن فضال عن عمرو بن سعيد عن مصدق بن صدقة عن عمار الساباطي، و قد يدعى ضعف سند الرواية لجهالة احمد بن يحيى، لكن نجزم بوقوع السهو فيه، لتكرر هذا السند الى عمار في كتب الشيخ بدون احمد بن يحيى، و حسب ما احصيناه في التهذيب يبلغ سبعة و اربعين موردا، راجع التهذيب ج 1 ص 11و 31و 45و 52و 66و 126و 206و 230 و 242و 248و 273و 278و 296 و 305و 336 و 340 و 345و 394 و 400 و 425و 430و 432و التهذيب ج 2 ص 49 و 142و 192 و 224 و 231 و 277و 343و التهذيب ج 3 ص 52و 167و 175و 199و 211و 272و التهذيب ج 4 ص 225 و 314و التهذيب ج 5 ص 270 ح 36 و 37 و التهذيب ج 7 ص 92 و 242 و 328 و 429 و التهذيب ج 9 ص 62 و 115 و 396.
فلا مجال لما تعرض له في بحوث في شرح العروة الوثقى ج 2 ص 189 من بحث مفصل مبني على عدم الجزم بالتصحيف، كما أن ما ذكره من ان احمد بن يحيى في هذه الطبقة هو احمد بن يحيى بن حكيم الاودي الثقة غير تام لعدم انحصار احمد بن يحيى في هذه الطبقة به كما يظهر بالمراجعة، و قد ذكر انه نقل في جامع الاحاديث أن في بعض نسخ التهذيب محمد بن يحيى بدل احمد بن يحيى، و هو في هذه الطبقة غير ثابت التوثيق، لكن المهم حجية نقل صاحب الوسائل لأن له طريقا معتبرا الى نسخة التهذيب.
اقول: -مضافا الى عدم تمامية مبنى وجود طريق معتبر لصاحب الوسائل الى نسخة التهذيب- ان الموجود في الوسائل في نقل رواية عمار “كل شيء نظيف…” محمد بن احمد بن يحيى عن احمد بن الحسن عن عمرو بن سعيد عن مصدق بن صدقة عن عمار راجع ج 3ص 467، و في ج 3 ص 497 ذكر اسم احمد بن يحيى نقلا عن التهذيب لفقرات أخرى من الرواية المنقولة في التهذيب و في تعليقة طبعة آل البيت: كتب المصنف ما بين القوسين في الهامش عن نسخة، اقول: يؤيد ذلك أن الموجود في التهذيب الذي طبعه المرحوم علي اكبر الغفاري و قابله مع عدة نسخ ليس في السند احمد بن يحيى راجع التهذيب ج 1 ص 300 ، نعم نقل في ملاذ الاخيار ج 2ص 440 عن الفاضل التستري، بعد نقل “احمد بن يحيى” قال هكذا في اكثر النسخ، و الظاهر انه غلط يعرف ذلك من ملاحظة كتب الرجال.
[36] – الفرق بين التنزيل و الاعتبار أن التنزيل يكون لأجل اسراء حكم المنزل عليه الى المنزل، وهذا يتوقف على ان يكون للمنزل عليه حكم قابل للإسراء، والاعتبار يكون لأجل ايجاد الموضوع لأحكام مترتبة على الفرد الاعتباري، وذلك مثل اعتبار الملكية او الزوجية، فاعتبار الزوجية بين رجل وامرأة ليس بغرض اسراء احكام الزوجية التكوينية، اذ ليس لها حكم شرعي، بل بغرض ايجاد الزوجية الاعتبارية التي هي موضوع احكام قانونية فيكون واردا على أدلة تلك الأحكام.