بسمه تعالی
النسبة بين دليل البراءة ودليل الاحتياط.. 1
الجهة الثانية: النسبة بينهما عموما وخصوصا من وجه فيتعارضان في الشك البدوي في التكليف بعد الفحص… 2
الجهة الثالثة: اخبار البراءة اخص مطلقا من أخبار الاحتياط.. 3
الجهة الرابعة: توجيه المعارضة بين حديث الرفع وأخبار الاحتياط.. 4
الجهة الخامسة: اشكال السيد الصدر “قده” على ما ذكره السيد الخوئي “قده”. 6
الجهة السادسة: مناقشه فی حكومة استصحاب عدم جعل التكليف على اخبار الاحتياط.. 6
النسبة بين دليل البراءة ودليل الاحتياط
لقد تحصل مما مرّ أن العمدة في ادلة الاحتياط أخبار الوقوف في الشبهة، والمختار ورود دليل البراءة عليها لكون الظاهر من الشبهة ما لا يعلم رضا الشارع بارتكابه، وقال جماعة منهم السيد الخوئي “قده” بكونها ارشادا الى حكم العقل بلزوم الاجتناب عما قام عليه منجز في رتبة سابقة، وادعى جماعة كالسيد الامام “قده” وبعض السادة الاعلام “دام ظله” وجود قرينة متصلة على كونها الامر فيها استحبابيا، ولو لم يتم شيء مما ذكر فوقع الكلام في النسبة بين روايات البراءة وروايات الاحتياط، فذكر جملة من الاعلام أن ادلة البراءة اخص مطلقا من ادلة الاحتياط، لاختصاص الاولى بالشبهات البدوية بعد الفحص، بينما ان الثانية تعم ما قبل الفحص والمقرونة بالعلم الاجمالي، واضاف السيد الخوئي “قده” أنه يكفي عدم شمول ادلة البراءة لما قبل الفحص والمقرونة بالعلم الاجمالي بالمخصص المنفصل، كالاجماع، وذلك لأجل انقلاب النسبة، مع ان المانع عن شمول أدلة البراءة لتلك الموارد ان كان حكم العقل باستحالة شمولها لها، فحاله حال المخصص المتصل في منعه عن انعقاد الظهور في العموم أو الإطلاق من أول الأمر.
ثم ذكر أن هنا وجها آخر لتقديم أدلة البراءة على أخبار الامر بالاحتياط، وهو ان قوله “كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي” نصّ في عدم وجوب الاحتياط، والأخبار الآمرة بالاحتياط على تقدير تمامية دلالتها ظاهرة في وجوبه، والجمع العرفي يقتضى رفع اليد عن ظهور الأمر في الوجوب بسبب النص، وحمله على الرجحان الجامع بين الوجوب والندب، بل ذكر أن تلك الأخبار حيث تشمل الشبهات التي لا خلاف في عدم وجوب الاحتياط فيها كالشبهات الوجوبية والموضوعية فلابد حينئذ من رفع اليد عن ظهورها في الوجوب، وبعد ذلك لا يبقى وجه للتمسك بظهورها في الوجوب في مورد الشبهة الحكمية التحريمية، نعم هذا الوجه لا يجري بالنسبة إلى اخبار التوقف، لأن العلة المذكورة فيها وهي الوقوع في الهلكة تجعلها نصا في عدم جواز الاقتحام، إلا انه قد ذكرنا قصورها عن الدلالة على الحكم المولوي في نفسها.
ثم ذكر وجها ثالثا، وهو أن استصحاب عدم جعل الحرمة يكون رافعا لموضوع أخبار الاحتياط، إذ به يحرز عدم التكليف وعدم العقاب، فيتقدم عليها لا محالة([1]).
اقول: يقع الكلام في جهات:
الجهة الاولى:
ان ما قد يظهر منه هنا من كون حكم العقل بامتناع الترخيص في المخالفة القطعية للعلم الاجمالي قرينة متصلة مانعة عن انعقاد ظهور الخطاب خلاف ما صرّح به في مجال آخر من ان حكم العقل هذا حيث ليس حكما بديهيا بل هو نظري فيكون بمثابة المقيد المنفصل([2]).
الجهة الثانية: النسبة بينهما عموما وخصوصا من وجه فيتعارضان في الشك البدوي في التكليف بعد الفحص
الجهة الثانية: ان كون حديث الرفع اخصّ مطلقا من دليل الاحتياط انما يتمّ فيما لو كان القدر المتيقن من حديث الرفع فرض الشك والالتفات مع أنه ليس كذلك، اذ يشمل فرض عدم الالتفات الى الحكم ومن الواضح أن دليل وجوب الاحتياط لايشمل هذا الفرض فتكون النسبة بينهما عموما وخصوصا من وجه فيتعارضان في مورد الاجتماع، وهو الشك البدوي في التكليف بعد الفحص، ولكن بعد تعارضهما وتساقطهما فيمكن الرجوع الى ما يدل على البراءة بالمعنى الأعمّ وهو ما يكون دليل وجوب الاحتياط بوصوله واردا عليه فلا يكون طرفا لمعارضته، أعني بذلك صحيحة عبد الصمد بن بشير “أي رجل ركب امرا بجهالة فلا شيء عليه” نعم لو قُبِل ما قلناه سابقا من ورود مثل حديث الرفع -الذي هو دليل البراءة بالمعنى الأخص، وهو ما لا يرتفع موضوعه بدليل وجوب الاحتياط في الشك في التكليف- على روايات الامر بالوقوف عند الشبهة، ولكن قيل بتمامية سائر ادلة الاحتياط سندا ودلالة، كقوله “اخوك دينك فاحتط لدينك”، فبعد معارضة حديث الرفع معها بالعموم من وجه، تصل النوبة الى معارضة دليل البراءة بالمعنى الأعم مع أخبار الوقوف عند الشبهة، وبعد تساقطهما ايضا يكون المرجع البراءة العقلية بناءا على القول بها، او البراءة العقلائية كما هو المختار بعد عدم ثبوت الردع عنها، ومن لا يعترف بالبراءة العقلية او العقلائية، فلابد أن يرجع الى حق الطاعة، ولكن المهم عدم تمامية سائر أخبار الاحتياط سندا او دلالة، عدا اخبار الوقوف.
الجهة الثالثة: اخبار البراءة اخص مطلقا من أخبار الاحتياط
الجهة الثالثة: مع غمض العين عما ذكرناه من شمول اخبار البراءة لمورد الغفلة نقول: انها اخص مطلقا من أخبار الاحتياط، لأن بناء العقلاء على لزوم الاحتياط في الشبهة الحكمية قبل الفحص والمقرونة بالعلم الاجمالي يكون موجبا لانصراف خطاب البراءة عنهما، فيكون مخصصا متصلا، وبذلك يصير حديث الرفع اخص مطلقا من أخبار الاحتياط، ومن الغريب ما حكي عن بعض السادة الاعلام “دام ظله” من أن بناء العقلاء كحكم العقل النظري يكون مخصصا منفصلا لدليل البراءة، ثم انه كيف التزم مع ذلك بكون النسبة بين حديث الرفع واخبار الوقوف العموم من وجه، حيث تختص أخبار الوقوف بالشبهة التحريمية، ولكن تشمل الشبهة قبل الفحص والمقرونة بالعلم الاجمالي، بخلاف حديث الرفع، فانه بناء على ما ذكره تكون أخبار الوقوف اخص مطلقا من حديث الرفع، ولا ينافيه وجود مخصص منفصل آخر لحديث الرفع، يخصصه بالشبهة البدوية بعد الفحص.
نعم الظاهر شمول اخبار الوقوف للشبهة الوجوبية، لما يستفاد منها أن نكتة الامر بالوقوف عند الشبهة هو أنه اذا ترك الشبهات نجا من المحرمات ومن اخذ بها وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم وهذه النكتة جارية عرفا في الاحتياط في الشبهة الوجوبية، فهذه الجهة لا توجب صيرورة النسبة بينها وبين حديث الرفع العموم من وجه.
الجهة الرابعة: توجيه المعارضة بين حديث الرفع وأخبار الاحتياط
الجهة الرابعة: ذكر السيد الصدر “قده” انه يمكن توجيه المعارضة بين حديث الرفع وأخبار الاحتياط بنحو يكون بصالح القول بوجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية بعد الفحص، بالتقريب التالي:
وهو أن اخبار الاحتياط على قسمين: قسم عام: يعمّ مطلق الشبهة، كقوله “أخوك دينك فاحتط لدينك” وقسم خاص: يختص بالشبهة الحكمية، كالمقبولة، حيث ان موردها فرض تعارض الخبرين، وقد ورد فبه بعد فقد المرجحات أنه اذا كان ذلك فأرجئه حتى تلقى امامك، فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات.
والقسم الاول ايضا خرج عنه الشبهة الموضوعية بمخصص منفصل، مثل حديث الحلّ الوارد في الشبهات الموضوعية.
وحينئذ نقول لا تتمّ دعوى أخصّية دليل البراءة في نفسه من القسم الثاني من أخبار الاحتياط، أي المقبولة، بل النسبة بينهما عموم وخصوص من وجه، حيث يختص حديث الرفع بالشبهة بعد الفحص، ولكن يشمل الشبهة الموضوعية، بينما أن المقبولة وان كانت شاملة للشبهات قبل الفحص والمقرونة بالعلم الاجمالي ولكن تختص بالشبهة الحكمية، فبعد تساقطهما في مورد الاجتماع فيكون المرجع هو القسم الاول من أخبار الاحتياط، لأن حديث الرفع ليس طرفا لمعارضته لكونه اخص منه مطلقا، ولا يصح ملاحظة نسبة حديث الرفع مع القسم الاول، بعد ملاحظة اخراج الشبهة الموضوعية عن هذا القسم حتى تصير النسبة بينهما العموم من وجه، لما تحقق في محله من ان المخصصات الواردة على العام تخصصه في عرض واحد ولا تلحظ نسبة العام الى أي منها بعد تخصيصه بمخصص آخر، فاذا وردنا خطاب “اكرم كل عالم” ثم وردنا خطاب “لا تكرم العالم الكاذب” ووردنا “لا تكرم العالم الفاسق” فانه ان لوحظ العام بعد تخصيصيه بالمخصص الاول صار مدلوله “أكرم العالم غير الكاذب” وحينئذ انقلبت النسبة بينه وبين قوله “لا تكرم العالم الفاسق” وتعارضا في عالم فاسق ليس بكاذب، ولا وجه لذلك ابدا، فان هذا النحو من انقلاب النسبة لا يتم حتى عند القائلين بانقلاب النسبة، وعليه فيكون تخصيص عموم الاحتياط بكل من حديث الرفع مثلا ودليل قاعدة الحل الجارية في الشبهات الموضوعية، في عرض واحد، وعليه فلا يكون حديث الرفع طرفا لمعارضة القسم الاول من اخبار الاحتياط، فبعد معارضة حديث الرفع مع القسم الثاني من اخبار الاحتياط، وهو المقبولة فيكون المرجع القسم الاول من اخبار الاحتياط، هذا بناء على انصراف حديث الرفع عن الشبهات قبل الفحص والمقرونة بالعلم الاجمالي.
وأما بناء على عدم انصرافه عنهما وكون خروجهما عنه لأجل المخصص المنفصل، فتكون النسبة بينه وبين القسم الاول من أخبار الاحتياط التباين، ويكون المرجع بعد تساقطهما هو القسم الثاني من أخبار الاحتياط، لأنه ليس طرفا للمعارضة مع حديث الرفع، لكون هذا القسم الثاني اخصّ مطلقا من حديث الرفع بلحاظ اختصاص هذا القسم بالشبهة الحكمية، وورود مخصص آخر على حديث الرفع لاخراج الشبهة البدوية قبل الفحص والمقرونة بالعلم الاجمالي لا يوجب انقلاب النسبة بينهما ابداً حتى عند القائلين بانقلاب النسبة كما اتضح آنفا.
وهذا الذي ذكرناه -من تعارض حديث الرفع مع القسم الثاني من اخبار الاحتياط وتساقطهما ومرجعية القسم الاول من اخبار الاحتياط- تامّ حتى بناء على القول بانقلاب النسبة، فان غايته أن ورود المخصص المنفصل على القسم الاول من اخبار الاحتياط باخراج الشبهة الموضوعية عنه وورود مخصص منفصل على حديث الرفع باخراج الشبهة قبل الفحص والمقرونة بالعلم الاجمالي يوجب انقلاب النسبة بينهما من التباين الى العموم من وجه، ومورد افتراق الاول الشبهة الحكمية قبل الفحص والمقرونة بالعلم الاجمالي ومورد افتراق الثاني الشبهة الموضوعية، فيتعارضان في مورد اجتماعهما وهو الشبهة الحكمية بعد الفحص، ويكون المرجع هو القسم الاول من اخبار الاحتياط.
هذا وقد ذكر أن هذا كله مع قطع النظر عن تطبيق قواعد الترجيح عند التعارض، وإلّا فلابد من ترجيح اخبار البراءة لموافقتها مع الكتاب وهو مقدَّم على ما قد يقوله الاخباريون من ترجيح أخبار الاحتياط بمخالفتها للعامة، حتى لو تمّ ذهاب العامة الى البراءة، نعم هذا انما يجدي بناء على القول باختصاص اخبار البراءة بالشبهة البدوية بعد الفحص بمخصص متصل، وإلّا فحتى على تقدير ترجيحها على القسم الأول من اخبار الاحتياط تخصص بالقسم الثاني فتختص بالشبهة الموضوعية([3]).
اقول: ان ما في المقبولة من قوله “اذا كان ذلك فأرجئه حتى تلقى امامك، فان الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات” شامل للشبهات الموضوعية، فان المورد لا يكون مخصصا لعموم الوارد، نعم ما ذكره مترتبا على اختصاصه بالشبهة الحكمية متين جدا، وما ذكره اخيرا من ترجيح حديث الرفع لموافقته للكتاب فمراده قوله تعالى ” وما كان الله ليضل قوما بعد اذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون” ولكن مر الاشكال في دلالته.
الجهة الخامسة: اشكال السيد الصدر “قده” على ما ذكره السيد الخوئي “قده”
الجهة الخامسة: اشكل السيد الصدر “قده” على ما ذكره السيد الخوئي “قده” حول حديث “كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي” بأنه -مع غمض العين عن عدم تمامية الاستدلال به على البراءة سندا ودلالة- فلا يفيد، لأن في اخبار الاحتياط أيضا ما يكون واردا في الشبهة التحريمية، كالنبوي “حلال بين وحرام بين وشبهات بين ذلك” فان هذا لا يمكن تخصيصه بالشبهة الوجوبية كما لا يخفى([4]).
وفيه أن ما ذكره السيد الخوئي “قده” حول حديث “كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي” هو أنه حيث ورد في الشبهة الحكمية التحريمية فيجمع بينه وبين دليل الامر بالاحتياط في الشبهة الحكمية التحريمية (كما في المقبولة) بالجمع الحكمي، بحمل الامر بالاحتياط على الاستحباب، وهذا لا اشكال فيه، نعم الاشكال السندي والدلالي عليه تامّ.
الجهة السادسة: مناقشه فی حكومة استصحاب عدم جعل التكليف على اخبار الاحتياط
الجهة السادسة: ما ذكره السيد الخوئي “قده” من حكومة استصحاب عدم جعل التكليف على اخبار الاحتياط لأنه تعبد بالعلم فيلغي موضوع الاحتياط تعبدا وهو الشك والشبهة، ففيه -مضافا الى عدم تمامية مبنى كون الاستصحاب تعبدا بالعلم- ان مفاد اخبار الاحتياط (لو كان مفاده الاحتياط عند الشك في حرمة الفعل) هو الغاء الاصول المؤمنة في مورد الشك في التكليف، ومنها الاستصحاب.
الجهة السابعة:
ما ذكره السيد الخوئي “قده” من أن الأخبار الآمرة بالاحتياط حيث تشمل الشبهات التي لا خلاف في عدم وجوب الاحتياط فيها كالشبهات الوجوبية والموضوعية فلابد حينئذ من رفع اليد عن ظهورها في الوجوب، ولكن يورد عليه بأنه على مبناه من كون مدلول الامر ليس الا اعتبار الفعل على الذمة، وانما العقل يحكم بالوجوب عند عدم وصول الترخيص في الترك، فالمفروض أنه لم يصل الترخيص في الترك في الشبهة الحكمية التحريمية، فيجب فيها الاحتياط، من دون أن يلزم منه استعمال اللفظ في معنيين، وهكذا على المبنى الصحيح من كون الوجوب مستفادا من الاطلاق فلا مانع من الالتزام بوجوب الحصة التي لم يقم قرينة على الترخيص فيها.
الجهة الثامنة:
ذكر في البحوث أنه يمكن دعوى أن اخبار الاحتياط مخالفة للكتاب أي لقوله تعالى “ما كان اللَّه ليضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون” حيث مر منه دلالته على البراءة في الشبهات الحكمية اذا لم يكن بيان شرعي على الحكم الواقعي في معرض الوصول، وقوله تعالى “لا يكلف الله نفسا الا ما آتاها” فتكون اخبار الاحتياط بلحاظ اطلاقها للشبهة الحكمية البدوية بعد الفحص مخالفة للكتاب([5]).
كما ذكر أنه لو فرض تساقط ادلة البراءة بالتعارض مع اخبار الاحتياط فلو قلنا بالبراءة العقلية كانت هي المرجع بعد التساقط، وعلى القول بإنكارها أيضا نثبت البراءة على مستوى البراءة العقلية بالدليل الشرعي، فانه قد تقدم عند الحديث عن أدلة البراءة ان فيها ما يدل على البراءة بالمعنى الاعم أي ما يكون على وزان البراءة العقلية بحيث يكون وصول دليل وجوب الاحتياط واردا عليه، فلا يكون طرفا للمعارضة معه، وذلك مثل رواية عبد الاعلى بن اعين “سألت ابا عبد الله (علیه السلام) من لم يعرف شيئا هل عليه شيء قال لا”، وصحيحة عبد الصمد بن بشير “أي رجل ركب امرا بجهالة فلا شيء عليه” فإذا فرض التعارض وعدم وصول حتى إيجاب الاحتياط كان دليل البراءة بالمعنى الاعم هو المرجع.
ان قلت: يوجد في اخبار الاحتياط أيضا طائفتان: اوليهما ما تكون دالا على وجوب الاحتياط عند الشك في التكليف الواقعي، مثل قوله “اخوك دينك فاحتط لدينك” فتكون معارضة مع ادلة البراءة بالمعنى الاخص، وطائفة ثانية تدل على وجوب الاحتياط عند الشك في الحلية الشرعية الاعم من الحلية الواقعية والظاهرية كقوله “قف عند الشبهة” فتتعارض هذه الطائفة مع ادلة البراءة بالمعنى الاعم، قلت: لا يوجد في ادلة الاحتياط شيء يكون من الطائفة الثانية، فان مفاد “قف عند الشبهة” ان تمت دلالته على الاحتياط فهو يدل على منجزية الشك في التكليف الواقعي([6]).
اقول: أما الآيات فلم يتم دلالة أي شيء منها على البراءة، فقد مر أن معنى قوله “ما كان الله ليضل…” أنه لا يتركهم بعد ان هداهم ببعث الرسل يتيهون الطريق بل يبين لهم ما يجب عليهم بالنحو المتعارف -الذي قد يخفى عليهم بسبب ظلم الظالمين ونحوه- على أن حرمة ارتكاب الشبهة لو بينت للناس يكون مصداقا لقوله “حتى يبين لهم ما يتقون”، وأما “لا يكلف الله نفسا الا ما آتاها” فقد مر أن مفاده عدم ايقاعه تعالى شخصا في مشقة شيء الا الشيء الذي آتاه اليه فهذا الشيء متعلق للتكليف وايتاءه هو الاقدار عليه، على أن دليل وجوب الاحتياط وارد عليه، لأن التكليف يكون بسببه والمفروض وصوله الى المكلف.
ولو تمت دلالة الآية الاولى على البراءة فقد يقال بانها اعم من الشبهة الحكمية التحريمية والوجوبية فيمكن اخراج الشبهة الحكمية التحريمية بما دل على وجوب الاحتياط فيها، كذيل المقبولة، ولكن الظاهر أن الآية آبية عن التخصيص عرفا، على أنه قد مر أن الظاهر شمول اخبار الوقوف للشبهة الوجوبية، لما يستفاد منها أن نكتة الامر بالوقوف عند الشبهة هو أنه اذا ترك الشبهات نجا من المحرمات ومن اخذ بها وقع في المحرمات وهلك من حيث لا يعلم، وهذه النكتة جارية عرفا في الاحتياط في الشبهة الوجوبية، وهكذا الامر بالارجاء في ذيل المقبولة معللا بكون الوقوف عند الشبهات خير من الاقتحام في الهلكات.
نعم قد مرّ أنه لا بأس بما ذكر من مرجعية ما يدل على البراءة بالمعنى الاعم، ولكن يختص ذلك بصحيحة عبد الصمد، وأما رواية عبد الاعلى فقد مرّ أنه يحتمل أن يراد من “من لم يعرف شيئا” المستضعف الذي لا يعرف أي شيء.
الجهة التاسعة:
قد يقال بامكان الرجوع الى عموم دليل الاستصحاب النافي للتكليف فانه بمنزلة العام الفوقاني، ولكنه انما يتمّ على مبنى من لا يرى انصرافه عن الشبهات المقرونة بالعلم الاجمالي او البدوية قبل الفحص، والا فتصير النسبة بينه وبين ادلة الاحتياط عموما من وجه كما هو واضح.
الجهة العاشرة:
ذكر بعض الاعلام أن أنقى الروايات سندا ودلالة على البراءة كان هو حديث الحجب وهو قوله “ما حجب اللَّه علمه عن العباد فهو موضوع عنهم” وهذا ظاهر في الاختصاص بالشبهة الحكمية أو على الأقل لا يمكن تخصيصه بالشبهات الموضوعية بالخصوص فيكون متعارضا مع القسم الثاني من اخبار الاحتياط أي ذيل مقبولة عمر بن حنظلة الدالّ على وجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية، كما يتعارض مثل حديث الرفع الدال على البراءة في الشبهة الحكمية والموضوعية مع القسم الأول من أخبار الاحتياط وهو ما دل على وجوب الاحتياط في مطلق الشبهة الاعم من الحكمية والموضوعية، فلا يتم الوجه الفني لمدعى الاخباري من وجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية التحريمية، بل بناء على ان خروج الشبهة قبل الفحص أو المقرونة بالعلم الإجمالي بالتخصيص المتصل يكون مثل حديث الحجب بحكم الأخص من كلا قسمي اخبار الاحتياط.
ثم ذكر أنه بناء على شمول حديث الحجب للشبهة قبل الفحص والشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي فتجدي نظرية انقلاب النسبة، حيث ان المخصص المنفصل اخرج الشبهة البدوية والشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي عن حديث الحجب، واختص مورده بالشبهة الحكمية البدوية بعد الفحص، فبناء على انقلاب النسبة يصير الحديث اخص مطلقا من كلا قسمي أخبار الاحتياط، فما ذكره في البحوث من أنه لا تأثير لقبول نظرية انقلاب النسبة لا يتم بالنسبة الى حديث الحجب، وان تم بالنسبة الى حديث الرفع([7]).
مناقشات
اقول: يرد عليه اولا: أن حديث الحجب كما اعترف به في كتاب الأضواء ضعيف سندا ودلالة، وان كان اشكاله في دلالته يختلف عن اشكالنا، حيث ذكر أن اسناد الحجب الى الله لا يصدق في مورد حجب الظالمين.
وثانيا: يوجد مورد افتراق لحديث الحجب، وهو شموله لموارد الغفلة والجهل المركب، بخلاف اخبار الاحتياط، وحينئذ فان كان حديث الحجب منصرفا عن الشبهة قبل الفحص والشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي، فتكون النسبة بينهما العموم من وجه، ويتعارضان ويتساقطان في مورد الاجتماع، وهو الشك البدوي بعد الفحص، وان لم يكن منصرفا عنهما كانت أخبار الاحتياط اخص مطلقا منه، فتخصصه بمورد الغفلة والجهل المركب.
كما أنه لو قلنا بكون ذيل المقبولة مختصا بالشبهة التحريمية كانت نسبتها مع حديث الحجب العموم من وجه، ولو لم يشمل حديث الحجب مورد الغغلة والجهل المركب، حيث يكون مورد افتراق حديث الحجب الشبهة الوجوبية، ومورد افتراق المقبولة الشبهة قبل الفحص، والمقرونة بالعلم الاجمالي، فلا يجدي تبديل حديث الرفع بحديث الحجب.
وثالثا: ان كون الشبهة الحكمية هو القدر المتيقن من حديث الحجب ان لم يختص بها، ليس بذلك الوضوح، فانه بعد ما يصدق على موارد الجهل المركب بتحقق الموضوع او الشك فيه بعد الفحص أن الله قد حجب علمه عن هذا المكلف، للشبهات الموضوعية، فلا يأبى العرف من امكان تخصيصه كحديث الرفع لو قام دلّ خاص على وجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية.
هذا وقد ذكر في كتاب الأضواء أنه لو لم يتم ما ذكر من ظهور اخبار الوقوف عند الشبهة في الارشاد الى حكم العقل بلزوم الاجتناب عن الشبهة المنجزة لما فيه من معرضية العقاب، اشكل الامر، لأن مورد ذيل المقبولة الشبهة البدوية بعد الفحص، حيث فحص ورأى تكافؤ الخبرين المتعارضين من حيث المرجحات، فقال له الامام (عليه السلام) أرجئه حتى تلقى امامك، فلا يمكن حمله على الشبهة قبل الفحص، كما أن المورد لم يكن من الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي، كما لا يصح حمله على استحباب الاحتياط جمعا بينه وبين دليل البراءة، لأن الجمع الحكمي انما يكون من الجمع العرفي في الاحكام النفسية، لا الطريقية، فان الامر الطريقي بالاحتياط يعني تنجز الواقع والبراءة تعني عدم تنجزه، وهما متناقضان، وحمله على كونه ارشادا الى حسن الاحتياط خلاف الظاهر جدا([8]).
وفيه اولا: ان مورد ذيل المقبولة لم يكن من الفحص التام، لامكان انتظاره حتى يسأل الامام (عليه السلام) وثانيا: ان مورده القضاء وتنازع شخصين في دين او ميراث، وهذا مما لا معنى فيه للرجوع الى البراءة، او التخيير بين الخبرين المتعارضين، فلا يتعدى من مورده الى غيره.
ولست ادري كيف جمع بين دعوى كون مورد المقبولة الشبهة البدوية بعد الفحص من غير تقييده بشيء، وبين كونه ارشادا الى حكم العقل بلزوم الاجتناب عن الشبهة المنجزة.
وأما ما ذكره من كون الجمع الحكمي بالحمل على الاستحباب انما يتم في الاحكام النفسية، فعو ممنوع بعد عرفية الاستحباب الطريقي للاحتياط، وهو لا يستلزم تنجز الواقع، وانما يعني رجحان حفظ الغرض اللزومي بنظر المولى.
الجهة الحادية عشر:
ذكر صاحب الوسائل أن حديث “كل شيء مطلق حتى يرد فيه نهي” وان كان يدل على البراءة، لكن لابد من ترجيح معارضه من أخبار الاحتياط لمخالفتها للعامة([9])، وفيه أنه لم يحرز ذهاب العامة الى البراءة، فانه غير مطروح في كثير من كلماتهم.
هذا ولو اريد ترجيح أخبار وجوب الاحتياط مطلقا الشاملة لجميع الشبهات على مثل حديث الرفع بمخالفة العامة فنقول مضافا الى هذا الاشكال، ان المرحج الاول عند المشهور هو موافقة الكتاب، فمن يرى دلالة الآيات على البراءة –مثل ما كان يرى في البحوث تمامية دلالة قوله تعالى “ما كان الله ليضل قوما بعد اذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون” وان لم نقبل ذلك- كان الترجيح مع حديث الرفع لموافقته للكتاب، هذا كله بناء على كون النسبة بين المتعارضين التباين، دون العموم من وجه والا فقد ذكرنا في بحث التعارض أن المرجحات تختص بالمتباينين، كما أن الجمع الحكمي بحمل أخبار الامر بالاحتياط على الاستحباب يختص بما اذا كانت النسبة بينها وبين دليل البراءة التباين، والا كان مثل ما لو ورد “أكرم العالم” و”لا باس بترك اكرام الهاشمي” حيث لا يجعل العرف الخطاب الثاني في مورد العالم الهاشمي قرينة على حمل الخطاب الاول على الاستحباب فيه.
تنبيه
يظهر من المحقق في المعارج أنه وان دل خبر معتبر على وجوب الاحتياط لكن الخبر الواحد لا يعوَّل عليه في الاصول، وقد وجّهه بعض السادة الاعلام “دام ظله” بأنه كلما كان المعنى اوسع اثرا واكثر اهمية كان بحاجة الى مثبت اقوى، ولذا يكتفى في الامور العادية بمستوى من النقل مما لا يكتفى به فيما كان امرا مهما، وحيث ان المسألة الاصولية ذات اثر واسع اذ تشكل جذور الفقه وتبني اساسه، فالاعتماد فيها على الخبر الواحد غير عقلائي.
اقول: ما قد يقال فيه بعدم حجية خبر الثقة في الامور المهمة انما هو بالنسبة الى المعذرية دون المنجزية، وكيف كان فقد مر أن دليل حجية خبر الثقة عندنا هو صحيحة الحميري “العمري وابنه ثقتان…”، وهي شاملة لاخبار الثقة في الامور المهمة.