فهرست مطالب

فهرست مطالب

تقریرات دروس خارج مدرسه فقهی امام محمد باقر علیه السلام

 

 

 

بسمه تعالی

 

رؤوس المطالب:

تعريف علم الأصول. 1

الايراد الأول على تعريف المشهور: خروج الاصول العملیه من علم الاصول. 2

تعریف صاحب الکفایه. 3

مناقشه المحقق الاصفهاني”قده” على صاحب الكفاية. 3

محاولة المحقق النائيني “قده” لدفع الايراد الاول على تعريف المشهور. 11

الايراد الثاني على تعريف المشهور: تعريف المشهور لايشمل القواعد العقلية. 12

الايراد الثالث على تعريف المشهور: تعريف المشهور يشمل مباحث المنطق واللغة والرجال. 13

عدة تعاریف لاندفاع الايراد الثالث13

المحاولة الأولى: العلم بالكبريات مع انضمام صغریاتها 14

المحاولة الثانية: ما ذكره السيد الخوئي “قده”.. 15

ایرادات على تعريف السيد الخوئي “قده”.. 23

المحاولة الثالثة: ما ذكره المحقق العراقي “قده”.. 26

المحاولة الرابعة: ما ذكره السيد البروجردي “قده”.. 28

المحاولة الخامسة: ما اخترناه في الدورة السابقة. 29

المحاولة السادسة: ما حكي عن السيد الصدر “قده”.. 29

المحاولة السابعة: ما ذكره السيد الصدر “قده” ايضا 30

 

 

 

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين وصلى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على اعدائهم اجمعين من الآن الى يوم الدين.

تعريف المنسوب الی المشهور لعلم الأصول

نسب الى المشهور تعريف علم الاصول بانه علم بالقواعد الممهّدة لاستنباط الحكم الشرعي وكان الانسب ان يعرَّف علم الاصول بنفس تلك القواعد لاالعلم بها، فان المراد من العلم في قولنا علم الاصول هو المعني الاسم المصدري الذي يكون مرادفه في الفارسية كلمة (دانش) بينما أن الظاهر من العلم بالقواعد هو المعنى المصدري الذي يكون مرادفه في الفارسية كلمة (دانستن)، نعم لو قيل علم الاصول علم القواعد كان صحيحاً.

ثم انه يمكن ان يراد من كلمة الممهّدة معنى اسم الفاعل، حيث ان القواعد الاصولية تمهِّد من استنباط الاحكام، كما انه قد يراد بها معنى اسم المفعول، حيث ان المدوّنين لعلم الاصول مهدوا تلك القواعد لاستنباط الاحكام، والانسب هو الأول، لان المهم هو الارتباط الذاتي الموجود بين قاعدة وبين استنباط الاحكام، سواء لاحظه المدوّنون ام لا.

وكيف كان فقد اورد على هذا التعريف بعدة ايرادات:

الايراد الأول على تعريف المشهور: خروج الاصول العملیه من علم الاصول

الايراد الاول: ما ذكره صاحب الكفاية “قده” ومحصله: انه يلزم منه ان يخرج من علم الاصول مباحث الأصول العملية الشرعية، وكذا الاصول العملية العقلية، وحجية الظن المطلق على مسلك الحكومة([1]) عند تمامية مقدمات الانسداد.

اما وجه خروج الأصول العملية الشرعية فلأنها بأنفسها احكام شرعية متعلقة بعمل المكلف[s1] ([2]) كوجوب الاحتياط في الشبهة الحكمية قبل الفحص واصالة الحلّ في الشبهة الحكمية بعد الفحص، فلايشملها تعريف علم الاصول بانه العلم بالقواعد التي تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي الكلي، حيث ان الاستنباط بمعنى الاستكشاف ولاتستكشف من هذه الاصول العملية اي حكم شرعي كلي، بل هي بأنفسها احكام شرعية كلية تطبّق على صغرياتها في الفقه.

واما الاصول العملية العقلية -كأصالة البراءة او الاحتياط العقليين- وكذا حجية الظن على مسلك الحكومة فتكون مجرد منجز او معذر عقلي بالنسبة الى الحكم الشرعي من دون ان يقع في طريق استنباط هذا الحكم الشرعي واستكشافه، فان التزمنا بتعريف المشهور لزم كون ذكر هذه المباحث في علم الأصول استطراديا، مع انه لاداعي الى الالتزام بذلك.

تعریف صاحب الکفایه

ولأجل ذلك أضاف صاحب الكفاية تتميما لتعريف المشهور فقال “علم الاصول صناعة يعرف بها القواعد التي يمكن ان تقع في طريق استنباط الاحكام او التي ينتهى اليها في مقام العمل” وعليه فيدخل مباحث الاصول العملية وحجية الظن على مسلك الحكومة في علم الأصول، لأنها مما ينتهي اليها المجتهد بعد اليأس عن الظفر بالدليل.

ولايخفى ان مراده منه ما ينتهي اليه المجتهد بعد اليأس عن الظفر بالدليل، كما ذكره بنفسه في اول الأصول العملية، فلايشمل الاصول الجارية في الشبهات الموضوعية كقاعدة الفراغ واصالة الصحة وقاعدة اليد ونحو ذلك.

مناقشه المحقق الاصفهاني”قده” على صاحب الكفاية

وقد اورد المحقق الاصفهاني”قده” على صاحب الكفاية اشكالين:

الإشكال الأول:

انه لاحاجة الى هذا التتميم، فان المراد من استنباط الحكم الشرعي في تعريف المشهور ليس هو استكشافه، بل مجرد اقامة الحجة عليه ولو كانت الحجة بمعنى المنجز والمعذر، وذلك لقرينة عامة في الفقه توجب إرادة هذا المعنى من الاستنباط، وهذه القرينة العامة أنه قلّما يستكشف الحكم الشرعي في الفقه وجدانا، وعليه فالبحث في ان احتمال التكليف منجز او ان الجهل به معذر ام لا يكون داخلا في علم الاصول.

ولولا إرادة اقامة الحجة من كلمة الاستنباط لخرج جل مباحث علم الأصول عن التعريف، اذ مفاد دليل حجية الأمارات ليس اعتبارها علما بالواقع كي تقع في طريق استكشاف الحكم الواقعي تعبدا، بل مفاد دليل حجيتها إما إنشاء حكم مماثل بمعنى انه لو أخبر ثقة مثلا بحرمة شرب التتن فينشيء الشارع حرمة ظاهرية لشرب التتن، فتكون نتيجة البحث عن حجية الامارات حكما شرعيا متعلقا بعمل المكلف، او ان مفاد دليل حجيتها جعلها منجزة او معذرة عن الواقع، كما عليه صاحب الكفاية “قده”، وعلى كلا التقديرين فلايقع حجية الامارات في طريق استكشاف الحكم الشرعي المتعلق بعمل المكلف.

وبذلك يخرج مباحث الالفاظ عن علم الأصول أيضا، اذ وقوعها في طريق استنباط الحكم الشرعي كان بواسطة مسألة حجية الظهور، حيث كان يقال مثلا ان صيغة الأمر ظاهرة في الوجوب، والظهور حجة، فهذا الظهور حجة، ولكن المفروض ان مسألة حجية الظهور خرجت بنفسها عن تعريف علم الاصول، حيث ان حجية الظهور إما بمعنى إنشاء حكم مماثل للواقع مثل انشاء وجوب صلاة الجمعة عقيب ورود خطاب ظاهر في وجوبها او ان المراد بحجيته منجزيته ومعذريته، كما هو الصحيح، حيث ان مدرك حجية الظهور بناء العقلاء فحسب، ولايوجد لدى العقلاء انشاء حكم مماثل حتى يمضيه الشارع، وكيف كان فلاتقع حجية الظهور في طريق استكشاف الحكم الشرعي الفرعي، فكيف بالبحث عن مصاديق الظهور في مباحث الالفاظ.

وتتميم صاحب الكفاية لايجدي بحال الأمارات شيئا، لعدم كونها مما ينتهى اليها بعد اليأس عن الدليل، فيتعين حل الاشكال بما ذكرنا من إرادة اقامة الحجة من كلمة الاستنباط، وبذلك يدخل مباحث الاصول العملية وحجية الظن على مسلك الحكومة في التعريف من دون حاجة الى تتميم تعريف المشهور ابدا.

جواب بعض الاعلام عن اشكال المحقق الاصفهاني

واجاب بعض الاعلام “قده” عن اشكال المحقق الاصفهاني على صاحب الكفاية بما محصله: ان تفسير الاستنباط باقامة الحجة وان كان يجدي بحال الامارات بل ويلزم لمثل صاحب الكفاية الذي يرى كون حجية الأمارات بمعنى منجزيتها ومعذريتها لاكونها علما بالواقع تعبدا واعتبارا، لكنه لايجدي بحال الاصول العملية او حجية الظن على مسلك الحكومة.

أما الأصول العملية فلأن مسلك صاحب الكفاية -على ما ذكره في مبحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي- هو عدم فعلية الحكم الواقعي في موارد جريان بعض الاصول العملية التي تكون مفادها إذن الشارع في ارتكاب الشبهة كقاعدة الحل (وقد أضاف اليها في حاشية الرسائل الاستصحاب والبراءة واصالة الطهارة ) فان قاعدة الحل اذا جرت في مورد شرب التتن مثلا فيكون بمعنى رضى الشارع بارتكابه في فرض الجهل، وهذا لايجتمع مع فعلية حرمته الواقعية، حيث ان فعليتها بمعنى انقداح الكراهة اللزومية في نفس المولى بالنسبة الى شرب التتن في هذا الحال بنحو لايرضى بارتكابه([3]).

فبناء على هذا المسلك تكون الحلية الظاهرية مضادّة مع الحرمة الفعلية الواقعية، فلامعنى لان تكون معذّرة عنها، حيث أن معنى المعذرية كون المكلف معذورا في مخالفة الحكم الفعلي الواقعي، والمفروض ان الحلية الظاهرية بوصولها تنافي فعلية الحكم الواقعي، فلايحتمل معها كون الحكم الواقعي فعليا حتى تعذر عنه؛ نعم دليل قاعدة الحل -كصحيحة عبدالله بن سنان عن ابي عبدالله (عليه‌السلام) كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال ابدا حتى تعرف الحرام منه بعينه فتدعه([4]) ومعتبرة مسعدة بن صدقة عن ابي عبدالله (عليه‌السلام) كل شيءهو لك حلال حتى تعلم انه حرام بعينه([5])– بدلالته على جعل الحلية الظاهرية للمشكوك يدل بالالتزام على عدم الحرمة الفعلية له فهو معذر عنه، ولكنه من الامارات لكونه خبر ثقة قائم على قاعدة الحل، والبحث عن حجية الامارات بشكل عام وان كان بحثا اصوليا لكن البحث عن مصاديقها كالبحث عن حجية خبر خاص ليس بحثا اصوليا، وحينئذ فنحتاج في شمول التعريف للأصول العملية الشرعية الى التتميم الذي ذكره صاحب الكفاية “قده” بقوله او ما ينتهى اليها في مقام العمل.

وهذا بخلاف موارد قيام الأمارة، حيث تجتمع حجية الأمارة مع فعلية الحكم الواقعي، فان قيام الأمارة على حلية شرب التتن مثلا يجتمع مع كون حرمته الواقعية فعلية، اذ حجية الأمارة إما بمعنى المنجزية والمعذرية فلاتتنافي مع فعلية الحكم الفعلي الواقعي، او بمعنى إنشاء الحكم المماثل على وفق مؤدى الأمارة، فاذا قام خبر الثقة على حلية شرب التتن مثلا فينشيء المولى حليته، وحينئذ فقد يكون في الواقع محرما ولكن حيث لم‌تكن حليته الظاهرية ناشئة عن ملاك في متعلقها وهو شرب التتن ولاناشئة عن رضا المولى للعمل على وفق الأمارة على حليته، بل كانت ناشئة عن مصلحة في نفسها موجبة لانشائها بغرض التعذير عن الحكم الواقعي، فيكون الحكم الواقعي فعليا فتكون الامارة القائمة على حلية الحرام الواقعي مجرد معذر من دون اذن المولى ورضاه بارتكاب الحرام فلايلزم من ذلك اجتماع الرضا والكراهة معا في نفس المولى بالنسبة الى فعل واحد، وبناء على ذلك فلما كان يجتمع قيام الأمارة المخالفة للواقع مع كون الحكم الواقعي فعليا، فيصدق على الأمارة انها معذرة او منجزة بالنسبة الى الحكم الواقعي، لانه بفعليته يصلح ان يكون مما يتنجز او يعذر عنه.

وأما مسألة حجية الظن على الحكومة فان نتيجتها ليست منجزية الظن للتكاليف الواقعية لتنجزها بالعلم الاجمالي بوجود تكاليف في الشريعة، كما انه ليس معذرا، لان نتيجة مقدمات الانسداد هو حكم العقل بعدم لزوم الإتيان بالمشكوكات عقلا وعذر المكلف عن الحكم الوقعي في ضمن المشكوكات، واين هذا من معذرية الظن([6]).

عدم تمامیة هذا الجواب

اقول: الظاهر عدم تمامية هذا الجواب الذي حكي عن بعض الاعلام “قده”، فانه لو تم ما ذكره في الأصول العملية الشرعية الترخيصية من انها -بناء على مسلك صاحب الكفاية – ليست معذرة عن الواقع، فلايقتصر هذا الاشكال عليها، بل يشمل الأمارات القائمة على الأحكام الترخيصية، بناء على ما ذكر في غير موضع من الكفاية من ان الحكم الواقعي ليس بفعلي ما لم‌يقم حجة مصيبة عليه([7])، وقد ذكر في الأمر الرابع من مباحث القطع من الكفاية ما يظهر منه ان الحكم الواقعي لو كان فعليا فلابد للمولى من ان يرفع جهل المكلف بالواقع او يوجب عليه الاحتياط فيما اذا امكن([8]).

والوجه في ذلك ان نكتة استحالة اجتماع قاعدة الحل في شرب التتن مثلا مع فعلية حرمته الواقعية تأتي في حجية الامارة القائمة على الحل أيضا، فان كلاًّ من انشاء الترخيص في مورد قاعدة الحل وإنشاء المعذرية في مورد امارة الحل ينشئان عن عدم الكراهة اللزومية للمولى لشرب التتن بنحو لايرضى بارتكابه، اذ لو كان يكره ذلك كراهة لزومية بنحو لايرضى بارتكابه في هذا الفرض فلايجتمع ذلك مع إنشاء المعذرية له، اذ من الواضح انه يعني رضا المولى بترك المكلف للاحتياط في هذا الفرض.

وان أبيت عن ذلك واصررت على كون مسلك صاحب الكفاية هو ماذكره في بحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي من التفصيل بين قاعدة الحل وأمارة الحل، وان ما صدر منه في غير هذا الموضع من الكفاية مخالف لمبناه، كما ذكر ذلك المحقق المشكيني “قده” في حاشيته على الكفاية([9])، فلااقل من ان مسلك جمع من الاعلام كالشيخ الاعظم “قده” هو كون الأحكام الواقعية في مورد قيام الحجة الشرعية على خلافه شأنية لافعلية، من غير فرق بين ان تكون الحجة الشرعية على خلاف الواقع أمارة او أصلا عمليا، فيتوجه عليهم ما ذكره من عدم معنى حينئذ لمعذرية الأمارة فلايفيد بحالهم تفسير الاستنباط بإقامة الحجة، كما لايجدي تتميم صاحب الكفاية لعدم كون الأمارة مما ينتهى اليها في مقام العمل بعد اليأس عن الظفر بالدليل.

وحل الاشكال ان اطلاق الحجة بمعنى المنجز والمعذر على الأمارة والأصول العملية الشرعية عرفي جدا، وان تم ما ذكره عقلا، فان العرف يعتبر قاعدة الحل في شرب التتن مثلا او امارة الحل بالنسبة اليه معذرا عن حرمته الواقعية، حيث ان التأمين عن العقاب على ارتكابه يستند الى هذه الأمارة او قاعدة الحل([10]).

وأما ما افاده بالنسبة الى التعبير بحجية الظن على مسلك الحكومة من انه لايعدو عن كونه اشكالا لفظيا، اذ في تلك المسألة يبحث من منجزية شيء ومعذريته ولو قلنا انه تنجز التكاليف المظنونة والعذر عن المشكوكة او فقل معذرية الإتيان بالمظنون؛ فالانصاف ان تفسير المحقق الاصفهاني “قده” كلمة الاستنباط باقامة الحجة متين جدّا، ولاحاجة الى التتميم المذكور في الكفاية، فما افاده المحقق الاصفهاني “قده” من الإيراد الأول في غاية المتانة.

الاشكال الثاني:

ان معنى إضافة جملة “او ما ينتهى اليها في مقام العمل” الى تعريف المشهور هو عدم جامع بين القواعد الممهدة للاستنباط وبين ما ينتهى اليها في مقام العمل، وهذا يعني تعدد الغرض في علم الاصول، وتعدد الغرض موجب لتعدد العلم حتى على مسلك صاحب الكفاية.

وفيه: ان صاحب الكفاية “قده” لم‌ينكر وحدة الغرض في مسائل علم الاصول، بل اراد تتميم تعريف المشهور، والغرض الواحد هو تحصيل الحجة على الحكم الشرعي، الا ترى ان المحقق العراقي “قده” مع انكاره لوجود جامع ذاتي بين مسائل علم الاصول بلحاظ ان حيثية الامارات حيثية انكشاف الواقع وحيثية الاصول العملية حيثية استتاره فالحيثيتان متناقضتان، ولاجامع ذاتي بين النقيضين، مع ذلك قد صرح بوجود غرض واحد مترتب على الكل، وهو انكشاف الوظيفة الفعلية([11]).

نعم يرد على صاحب الكفاية انه كان ينبغي ابراز جامع حقيقي بين جميع مسائل علم الأصول مهما امكن، وهو التعبير بالقواعد التي تقع في طريق اقامة الحجة على الحكم الشرعي، فمع تيسر ابراز جامع من هذا القبيل لم‌يكن يناسب استخدام حرف العطف في التعريف، والا لأمكن ان يقال ان علم الاصول هو علم بمباحث الألفاظ او الملازمات العقلية او الاصول العملية وهكذا…، نعم لو افترض عدم تيسر معرفة ذلك الجامع او عدم وجود جامع حقيقي بين جميع المسائل لم‌يكن بما صنعه من استخدام حرف العطف بأس، بعد افتراض وحدة الغرض المترتب على جميع المسائل.

محاولة المحقق النائيني “قده” لدفع الايراد الاول على تعريف المشهور

ذكر المحقق النائيني “قده” انه لو اريد من الحكم الشرعي في تعريف المشهور ما يعم الحكم الظاهري كما يقتضيه اطلاق التعبير بالحكم الشرعي شمل هذا التعريف مباحث الاصول العملية، لأنها قواعد ممهدة لاستنباط الحكم الشرعي الظاهري ولكنه لايكفي لادراج الاصول العملية العقلية وكذا حجية الظن المطلق على مسلك الحكومة، حيث أن المذكور في تعريفهم الحكم الشرعي([12]).

وفيه ان الاصول العملية الشرعية تطبق على مواردها في الفقه، فيقال ان تحريم شرب التتن مشكوك، وقد ثبت في الاصول جريان البراءة عن التكليف المشكوك فتجري البراءة عن تحريم شرب التتن، فتكون البراءة عن تحريم شرب التتن من مصاديق البراءة عن التكليف المشكوك، واين هذا من الاستنباط الذي يعتبر فيه مغايرة الحكم المستنبط مع القاعدة المستنبط منها، كما سيأتي بيانه.

وكيف كان فقد تحصل مما ذكرناه عدم تمامية الايراد الاول على تعريف المشهور، فان المراد من الاستنباط مطلق اقامة الحجة او فقل ان المراد به هو الاعم من الاستنباط الوجداني او الاستنباط التعبدي –كما في استنباط الحكم الشرعي من الامارات بناء على كونها علما بالواقع تعبدا واعتبارا- او الاستنباط التنجيزي والتعذيري، فيكون الحكم الواقعي لشرب التتن مستنبطا من جريان اصالة البراءة فيه، حيث ان المفروض مغايرة الحكم الشرعي الواقعي لشرب التتن مع البراءة عنه، غاية الأمر ان استنباط حكمه الشرعي الواقعي يكون استنباطا تعذيريا لااكثر، وان شئت فعبّر عنه باستكشاف حال الاحكام الشرعية الواقعية، فان المفروض ان الاصول العملية تستكشف حال الحكم الواقعي من حيث تنجيزه وتعذيره.

الايراد الثاني على تعريف المشهور: تعريف المشهور لايشمل القواعد العقلية

الايراد الثاني: ما ذكره المحقق الاصفهاني”قده” من ان تعريف المشهور لايشمل القواعد العقلية التي يستكشف بها الأحكام الشرعية، مثل قاعدة الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها، حيث تكون بنفسها دليلا على وجوب المقدمة شرعا لاانها واسطة في استنباطه من دليله، فالاولى تعريف علم الاصول بانه فن يعرف به ما يفيد في اقامة الحجة على حكم العمل، وحينئذ فيشمل التعريف القواعد العقلية، حيث انها تفيد في اقامة الحجة على الحكم الشرعي، ولو لأجل انها بنفسها تكون حجة عليه وان لم‌تقع في طريق اقامة الحجة([13]).

وفيه: ان القواعد العقلية التي يتوصل بها الى الاحكام الشرعية تكون واسطة دائما في استنباط تلك الاحكام من ادلتها، فقاعدة الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها تكون واسطة في استنباط وجوب مقدمة كل واجب من دليل وجوب ذيها، وكذا قاعدة الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع وان ما حكم به العقل قد حكم به الشرع، فانها بمجردها لاتكون دليلا على حرمة الكذب مثلا، بل تحتاج الى توسيط حكم عقلي آخر وهو حكمه بقبح الكذب، وهذا الحكم العقلي ليس من مسائل علم الاصول طبعا، وانما هو دليل على حرمة الكذب شرعا، ولايتم دليليته الا بعد تنقيح قاعدة الملازمة في علم الاصول.

الايراد الثالث على تعريف المشهور: تعريف المشهور يشمل مباحث المنطق واللغة والرجال

الايراد الثالث: ما يقال من ان تعريف المشهور يشمل مباحث المنطق واللغة والرجال كالبحث عن نظرية التوثيق العام لمشايخ صفوان وابن ابي عمير والبزنطي ونحو ذلك، فانها قواعد ممهدة لاستنباط الحكم الشرعي الفرعي، مع كون المرتكز في الأذهان خروجها عن علم الأصول واندراجها في ضمن علم آخر.

وقد اجاب المحقق الحائري “قده” عن هذا الاعتراض بان العلوم الادبية وعلم المنطق حيث لم‌تمهّد لخصوص استنباط حال الاحكام الشرعية فلايشملها التعريف، بل يختص علم الاصول بالقواعد التي مهّدت لاستنباط حال الاحكام الشرعية([14]).

ولكنك ترى انه لايخرج بهذا القيد المباحث الرجالية لكونها ممهدة لخصوص استنباط الاحكام الشرعية مع كون المرتكز خروجها عن علم الاصول.

هذا، وقد يورد على ما ذكره “قده” أيضا أنه لو لوحظ غرض المدون من دون ان يلحظ وجود نكتة توجب اختصاص تلك القواعد بطبيعة الاستدلال الفقهي فيلزم منه انه لو كان غرض مدون علم المنطق تنقيح اصول الاستدلال في الفقه خاصة لكان المنطق من علم الاصول، مع ان الواضح كون مناسبته الذاتية مع طبيعي الاستدلال لاخصوص الاستدلال الفقهي، فعلم المنطق من اصول الاستدلال بشكل عام، وليس من اصول الفقه.

عدة تعاریف لاندفاع الايراد الثالث

وكيف كان فهناك عدة محاولات لتعريف علم الاصول بنحو يندفع به هذا الايراد الثالث.

المحاولة الأولى: العلم بالكبريات مع انضمام صغریاتها

ما ذكره المحقق النائيني “قده” من ان علم الأصول هو العلم بالكبريات التي لو انضم اليها صغرياتها استنج منها حكم فرعي كلي، فالمباحث الرجالية كنظرية التوثيق العام لمشايخ صفوان وابن ابي عمير والبزنطي وان كانت من القواعد الممهدة لاستنباط الحكم الشرعي الفرعي لكن مجرد انضمام صغرياتها اليها لايكفي في استنباط الحكم الشرعي الفرعي بدون توسيط كبرى حجية خبر الثقة، وهذا بخلاف مسألة حجية خبر الثقة مثلا فانها لو انضم اليها مصداقها وهو قيام خبر الثقة على وجوب صلاة الجمعة مثلا، فيكفي في استنتاج الحكم الفرعي الكلي وهو وجوب صلاة الجمعة بلاحاجة الى توسيط كبرى أخرى.

ولأجل ذلك حكم “قده” بخروج مباحث الالفاظ كالبحث عن ظهور صيغة الأمر في الوجوب او ظهور الجملة الشرطية في المفهوم عن مباحث علم الاصول، لأنها لو انضم اليها صغرياتها فمع ذلك لاتكفي لاستنتاج الحكم الفرعي الكلي منها ما لم‌يضم اليها كبرى حجية الظهور، وانما وقع البحث عنها في علم الاصول لعدم البحث عنها في علم آخر، مع انه “قده” بنفسه قد اورد على من جعل موضوع علم الاصول الأدلة الاربعة بانه يلزم منه خروج مباحث الالفاظ([15]).

والانصاف ان الالتزام بكون البحث عن مباحث الالفاظ خارجا عن علم الاصول مما لاوجه له بعد توقف كثير من استنباطات الاحكام الشرعية عليها.

المحاولة الثانية: ما ذكره السيد الخوئي “قده”

من ان علم الاصول هو العلم بالقواعد التي تقع بنفسها في طريق استنباط الأحكام الشرعية الكلية من دون حاجة الى ضميمة كبرى او صغرى اصولية أخرى اليها، فيدخل مباحث الالفاظ في التعريف لان استنتاج الحكم الشرعي الفرعي من مباحث الالفاظ وان كان بحاجة الى ضم كبرى حجية الظهور اليها، لكن كبرى حجية الظهور ليست كبرى اصولية، لانه يعتبر في المسألة الاصولية كونها نظرية تحتاج الى البحث والاستدلال، وحجية الظهور في الجملة بديهية([16]).

ولايخفى ان هذا التعريف بظاهره مشتمل على الدور لاخذ عنوان المعرَّف في ضمن التعريف، حيث ورد فيه قوله من دون حاجة الى ضميمة كبرى او صغرى اصولية، فكان ينبغي ان يقال انه العلم بالقواعد التي لو انضمت اليها صغرياتها استنتج منها الحكم الشرعي الفرعي بلاحاجة الى مسألة نظرية أخرى، وهذا ما يستفاد من تعليقته على اجود التقريرات([17]).

ثم انه “قده” ذكر نقوضا على تعريفه وتصدى للجواب عنها:

النقض الأول: ما قد يقال من انه في مبحث اجتماع الأمر والنهي يصير موردشمول اطلاق خطاب الأمر والنهي، بناء على القول بامتناع الاجتماع، من صغريات باب التعارض، فلايمكن استنباط الحكم الشرعي منه الا بتوسيط كبرى حكم تعارض الدليلين، مثال ذلك انه في مورد الصلاة في المكان المغصوب ان بنينا على امتناع اجتماع النهي عن الغصب مع اطلاق الأمر بالصلاة فيتعارض اطلاق دليل تحريم الغصب مع اطلاق الأمر بالصلاة، ولكنه لايكفي ذلك لاستنباط الحكم الشرعي، بل يحتاج الى توسيط كبرى بحث التعارض، فلايشمل التعريف مبحث اجتماع الأمر والنهي على القول بالامتناع.

وأجاب عنه بانه يكفي في كون المسألة اصولية وقوع احد طرفي النتيجة في طريق الاستنباط، والا فمسالة حجية الخبر بناء على القول بعدم حجيته لاتقع آخر كبرى لقياس الاستنباط، وعليه فمبحث اجتماع الأمر والنهي أيضا بناء على القول بجواز اجتماع الأمر والنهي يمكن ان يقع في طريق استنباط الحكم الشرعي وهو الحكم بصحة الصلاة في المكان المغصوب في المثال المتقدم بلاحاجة الى توسيط كبرى اصولية أخرى، نعم نحتاج حينئذ الى كبرى حجية الظهور لأن غاية ما أثبتناه على مسلك الجواز امكان اطلاق الأمر بالصلاة لفرض الصلاة في المكان المغصوب، مع ان الغصب منهي عنه، ولكن لايمكن الحكم بفعلية اطلاق الأمر الا استنادا الى كبرى حجية الظهور، فيثبت بها حجية الظهور الاطلاقي لخطاب الأمر بالصلاة، الا انه مر ان كبرى حجية الظهور ليست مسألة أصولية لكونها بديهية، وعليه فيكون مبحث اجتماع الأمر والنهي داخلا في علم الاصول([18]).

وقد يورد عليه بان الحكم بصحة العبادة لايكفي فيه إثبات اطلاق تعلق الأمر بالنسبة اليها، بل لابد من البحث ثانيا في ان تعلق النهي بها ولو بعنوان آخر متحد معها في الوجود هل يوجب فسادها ام لا.

ولكن الظاهر عدم تمامية هذا الايراد، لانه بعد احراز كون العمل مأمورا به فلااشكال في صحته ما لم‌يتنجز النهي عنه كما لو فرض الجهل القصوري به، نعم لو فرض تنجز النهي عنه وكان عبادة فيقال حينئذ ان المبعد لايصلح للمقربية عقلاء.

هذا وقد ذكر المحقق النائيني “قده” انه بناء على جواز اجتماع الأمر والنهي أيضا يحتاج استنباط الحكم الشرعي بصحة الصلاة في المكان المغصوب مثلا الى توسيط كبرى قواعد التزاحم، حيث يقع التزاحم بين النهي والأمر، وهذا في مورد عدم المندوحة –بان لم‌يتمكن المكلف من الصلاة في مكان مباح- واضح، وكذا في موارد المندوحة يدخل في كبرى بحث التزاحم بين الواجب الموسع والمضيق، كما لو ابتلي المكلف في اول وقت الصلاة بوجوب ازالة النجاسة عن المسجد فورا، فانه لو عصى واشتغل بالصلاة فيحتاج تصحيح صلاته الى إثبات امكان اطلاق الأمر بها ولو على نحو الترتب على عصيان وجوب الازالة، او امكان تصحيحها باستكشاف الملاك -من اطلاق المادة او من الدلالة الالتزامية للخطاب- بعد سقوط اطلاق الأمر، ولاجل ذلك التزم بخروج بحث اجتماع الأمر والنهي عن مسائل علم الاصول واندراجه في المبادي التصديقية([19]).

وفيه ان من يرى جواز اجتماع الأمر والنهي فيعني ذلك التزامه بامكان اطلاق الأمر ولو مع فعلية النهي في موارد وجود المندوحة على الأقل، ولايحتاج بعد ذلك الى توسيط كبرى قواعد التزاحم.

النقض الثاني: مسألة اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده، حيث يقال انه بناء على القول باقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده، فحيث يكون هذا النهي نهيا غيريا بنكتة مقدمية ترك الضد لإيجاد ضده، والنهي الغيري كالأمر الغيري ليس قابلا للتنجز لأن مخالفته لاتوجب عقابا زائدا على العقاب على مخالفة التكليف النفسي، فلايتعلق غرض الفقيه بالاصالة باستنباطه فلابد لاجل ترتب الأثر من توسيط كبرى اقتضاء النهي عن العبادة لفسادها، فلايشمل هذا التعريف لمبحث اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده.

وأجاب عنه السيد الخوئي “قده” بانه يكفي في صيرورة هذه المسألة من مسائل علم الأصول أنه على فرض القول بعدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده لو ابتلي المكلف بواجب مضيق كإزالة النجاسة عن المسجد لكنه عصى واشتغل بالصلاة التي هي ضد الازالة، فيحكم بصحة صلاته من دون حاجة الى ضم مسألة أصولية أخرى([20]).

وأورد في البحوث على هذاالجواب بثلاثة ايرادات:

1- انه على القول بعدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده فيحتاج الحكم بصحة هذه الصلاة المنافية للواجب المضيق الى البحث عن مسألة اصولية اخرى، وهو امكان اطلاق الأمر لهذه الصلاة فيما اذا أتى بها في سعة الوقت، او امكان الأمر الترتبي بها، او امكان استكشاف الملاك فيها إما من اطلاق المادة او من الدلالة الالتزامية لخطاب “صل” بعد سقوط الأمر، فانه لو لم‌يمكن أي من ذلك لم‌يمكن القول بصحة هذه الصلاة.

2- ان جعل ثمرة بحث اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده هي الحكم بصحة الصلاة المنافية للواجب المضيق كإزالة النجاسة عن المسجد، بناء على عدم الاقتضاء والحكم بفسادها بناء على الاقتضاء -بدعوى ان النهي عنها يكون مقتضيا لفسادها- لايتم فنيا، لانه حتى لو بني على اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده فحيث يكون هذا النهي غيريا فلايمكن ان ينقح صغرى مسألة اقتضاء النهي عن العبادة لفسادها، لاختصاص هذه المسألة بما اذا كان النهي صالحا للتنجيز، فلايشمل النهي الغيري وانما يختص بالنهي النفسي، فالصحيح جعل ثمرة هذا البحث انه على القول بعدم الاقتضاء يثبت الأمر بالصلاة التي هي ضد الواجب المضيق، ولو بنحو الأمر الترتبي بأن يكون الأمر بالصلوة مشروطا بعصيان ذلك الواجب المضيق، فيوجب ذلك صحة هذه الصلاة والاجتزاء بها، وبناء على القول بالاقتضاء لايثبت هذا الأمر ولو ترتبا، لعدم امكان اجتماع هذا الأمر بالضد مع النهي الغيري عنه، فيستلزم ذلك عدم الاجتزاء به.

3- ان ترتب صحة الصلاة التي هي ضد الواجب -وهو إزالة النجاسة عن المسجد في مفروض المثال- على القول بعدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده –من غير حاجة الى مسألة اصولية أخرى- يكون بنحو التطبيق وليس بنحو الاستنباط، فلايقع القول بعدم الاقتضاء في طريق استنباط صحة هذه العبادة([21]).

اقول: ما افاده في الايراد الاول تام جدّا، ولكن قد يلاحظ على ايراده الثاني عدم وضوح امتناع اجتماع النهي الغيري عن ضد الواجب مع الأمر الترتبي به على تقدير عصيان ذلك الواجب، فانه لامانع من اجتماع الكراهة الغيرية مع المحبوبية النفسية، فيمكن ان يكره المولى الصلاة المنافية للإزالة من حيث كونها ضد الواجب المضيق، ولكن يحبها من حيث نفسها، فتأمل.

واما ايراده الثالث فغير متجه فان صحة الصلاة التي هي ضد الواجب ليست من مصاديق عدم اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده، فانه بمعنى نفي الملازمة العقلية بين الأمر بشيء وبين النهي عن ضده، ومن الواضح ان صحة الصلاة التي هي ضد الواجب ليست من مصاديق عدم الملازمة، وانما تنتزع من فعلية الأمر بها إما بمناط شمول اطلاق الأمر لها في فرض سعة الوقت من دون حاجة الى الترتب كما هو المختار في مسألة تزاحم الواجب الموسع والمضيق، او لأجل الأمر الترتبي بها على الأقل كما هو مختار المحقق النائيني “قده”.

النقض الثالث: مسألة الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته، فقد يقال ان وجوب المقدمة لما كان وجوبا غيريا لايستتبع موافقته ثوابا ولامخالفته عقابا فليس استنباطه غرض الفقيه في حد ذاته، فلايترتب على هذه المسألة أية نتيجة فقهية بلاوساطة كبرى اصولية أخرى.

وأجاب عنه السيد الخوئي “قده” بانه يترتب على هذه المسألة -اذا أدى البحث عنها الى القول بوجوب المقدمة مطلقا- ثمرة فقهية مهمة بلاحاجة الى توسيط أية مسألة اصولية أخرى، وهي انه لو توقف واجب أهم كانقاذ غريق على محرم كالدخول في المكان المغصوب ارتفع الحرمة عنه ولو لم‌يقصد به التوصل الى انقاذ الغريق و لم‌يتوصل به اليه([22]).

توضيح ما افاده انه اذا توقف انقاذ الغريق على الغصب فبناء على القول بعدم وجوب المقدمة مطلقا فلااشكال في اندراجه في باب التزاحم، فيحتاج استنباط حكمه الشرعي الى توسيط كبرى التزاحم، وهكذا بناء على وجوب المقدمة الموصلة.

وما ذكره بعض الاعلام من انه بناء على وجوب المقدمة الموصلة فيقع التعارض ايضا بين دليل حرمة المقدمة ودليل وجوب ذيها، فان المقدمة تنقسم الى قسمين احدهما المقدمة غير الموصلة والآخر المقدمة الموصلة، وهما حصتان متباينتان فلاتصدق إحديهما على الأخرى، ولايحتمل ان تكون حرمة المقدمة غير الموصلة مزاحمة لوجوب الواجب وهو ذو المقدمة، لعدم التزاحم بينهما وتمكن المكلف من الاتيان بالواجب وترك الحرام معا، بل لاينفك احدهما عن الآخر خارجا، لانه اذا اتى بالواجب وهو ذو المقدمة فقد ترك الحرام وهو المقدمة غير الموصلة، وأما المقدمة الموصلة فلايمكن فرض التزاحم بين حرمتها ووجوب ذيها، بل بينهما تعارض وتناف في مقام الجعل، اذ لايمكن الجمع بين وجوب ذي المقدمة وحرمة المقدمة الموصلة ولايمكن علاجه بالالتزام بالحرمة الترتبية، اذ معنى الترتب هو ان حرمة المقدمة الموصلة مشروطة بترك الواجب وهو ذو المقدمة، وهذا لغو محض، لانه اذا ترك الواجب فلاتكون المقدمة موصلة كي تكون محرمة بالترتب، فلذلك يقع التعارض بين دليل حرمة المقدمة الموصلة ودليل وجوب ذي المقدمة، فالمرجع هو مرجحات باب التعارض([23]).

فيرد عليه ان لدينا خطابين، احدهما خطاب وجوب انقاذ الغريق والثاني خطاب تحريم الغصب، وكل منهما مقيد بعدم الاشتغال بما لايقل عنه اهمية –كجميع خطابات التكاليف، حيث أنها مقيدة بمثل ذلك على ما حقق في بحث التزاحم- فقد دل خطاب وجوب انقاذ الغريق على وجوبه بشرط عدم الاشتغال بما لايقل عنه اهمية، وكذا دل خطاب تحريم الغصب على تحريمه مشروطا بعدم الاشتغال بمالايقل عنه اهمية، فاذا كان انقاذ الغريق اهم فقد وجب الغصب الموصل الى الانقاذ –بناء على وجوب المقدمة الموصلة – وهذا لايتنافى مع تحريم الغصب مشروطا بعدم الاشتغال بالانقاذ، لان تقييد الهيئة مستلزم لتقييد المادة لبا، فاشتراط حرمة الغصب بعدم تحقق انقاذ الغريق يوجب عدم اطلاق متعلق الحرمة -الذي هو الغصب- للغصب الذي تحقق معه الانقاذ.

والمتحصل ان المناط في اندراج خطابي وجوب انقاذ الغريق وتحريم الغصب في باب التزاحم او التعارض هو ملاحظة ان خطاب تحريم الغصب هل ورد في خصوص تحريم الغصب الموصل الى الانقاذ او ورد بشكل مطلق، فان كان واردا في خصوص الغصب الموصل الى الانقاذ تم ما ذكره من تعارضه مع دليل وجوب انقاذ الغريق، ولكن حيث ان خطاب تحريم الغصب مطلق فتقييده بعدم الاشتغال بما لايقل عنه اهمية يرفع التنافي بين جعله وجعل وجوب الغصب الموصل الى الانقاذ، فنكتة اندراجهما في باب التزاحم هو اطلاق خطاب تحريم الغصب وعدم وروده في خصوص الغصب الموصل الى الانقاذ، ولايقدح في ذلك انحلال تحريم الغصب بلحاظ الغصب الموصل الى الانقاذ والغصب غير الموصل، لان المناط هو اطلاق الخطاب.

وأما بناء على القول بوجوب المقدمة مطلقا، فقد يقال بانه يندرج في باب التعارض، حيث أن لازم دليل وجوب انقاذ الغريق وجوب الغصب الذي يتوقف عليه الانقاذ، فيتنافى مع دليل تحريم الغصب حيث لايمكن جعلهما معا، ولما كان وجوب هذا الغصب من لوازم وجوب انقاذ الغريق فيسري المعارضة الى دليل تحريم الغصب ودليل وجوب انقاذ الغريق، نعم لو علم بان انقاذ الغريق اهم كما هو المفروض فيعلم بوجوب الغصب المتوقف عليه الإنقاذ وبذلك ينتفي حرمته، فيجوز الغصب ولو لم‌ينقذ الغريق بعده، ولأجل ذلك ذكر السيد الخوئي “قده”أنه بناء على القول بوجوب المقدمة مطلقا فقد استنبطنا جواز ارتكاب هذا الغصب ولو ترك المكلف إنقاذ الغريق بعده بلاحاجة الى توسيط مسألة أصولية أخرى([24]).

ولكن يلاحظ عليه: ان احراز الوجوب الغيري للغصب لايكفي في الحكم بجواز ارتكابه لمن كان بانيا على ترك إنقاذ الغريق، اذ قد يقال بلزوم الاجتناب عنه في هذا الفرض بإحدى نكتتين:

1- ان الوجوب الغيري –على ما سيأتي بيانه في بحث وجوب مقدمة الواجب- حيث لايكون بداعي المحركية نحو متعلقه، وانما يعني تعلق الشوق التبعي نحوه، فلامانع من اجتماعه مع الحرمة النفسية، فيقول المولى اني احب هذا الغصب من جهة كونه مقدمة لإنقاذ الغريق، لكن أبغضه من جهة نفسه، فان لم‌تكن تنقذ الغريق فلاتغصب وهذا لاينافي كون الغصب محبوبا غيريا لاجل توقف الانقاذ عليه، ولافرق فيما ذكر بين ان يكون عنوان المقدمة حيثية تعليلية لطرو الوجوب الغيري على ذات المقدمة، كالغصب في المثال المذكور، او يكون عنوان المقدمة حيثية تقييدية فيكون الوجوب الغيري طارئا على عنوان المقدمة.

2- انه بعد استكشاف مفسدة نفسية لزومية في الغصب في فرض ترك الانقاذ -بمقتضى ظهور خطاب النهي عن الغصب عرفا- فيستكشف بذلك الغرض اللزومي بتركه وان لم يتمكن المولى من النهي عنه لكونه مقدمة الواجب، وعليه فلايبعد ان يحكم العقل بلزوم الاجتناب عنه.

فلايكفي البناء على وجوب المقدمة مطلقا في الحكم بجواز ارتكاب الغصب مع عدم ترتب الانقاذ عليه.

لكن المهم في الجواب عن مثل هذا النقض بانه لاوجه لدعوى كون المراد من الحكم الشرعي الذي يراد استنباطه هو الحكم الشرعي النفسي، حيث ان استنباط الحكم الشرعي الغيري يكون غرض الفقيه أيضا بلحاظ ترتب الثمرات الفقهية عليه.

ایرادات على تعريف السيد الخوئي “قده”

وكيف كان فيرد على تعريف السيد الخوئي “قده” لعلم الأصول اولا: النقض بالمباحث التي ترتبط بتشخيص صغريات الجمع العرفي كالبحث عن انه هل يكون تقديم العام على المطلق في مورد تعارضهما بالعموم من وجه جمعا عرفيا ام لا مثل تعارض قوله لاتكرم اي فاسق مع قوله اكرم العالم، فان هذه المباحث تكون من مباحث علم الاصول جزما، مع انه لايمكن استنباط الحكم الشرعي منها الا بتوسيط كبرى اعتبار الجمع العرفي، وهذه الكبرى ليست بديهية، خاصة مع ما حكي عن صاحب الحدائق “ره” من شمول الأخبار العلاجية لموارد من الجمع العرفي، وقد ذكر نظيره المحقق الحائري “قده”([25]).

وثانيا: ان ما ذكره السيد الخوئي “قده” من ان مباحث الالفاظ وان كانت بنفسها من صغريات الظهور، ويحتاج استنباط الحكم الشرعي منها الى ضم كبرى حجية الظهور الا ان هذه الكبرى ليست اصولية لبداهتها في الجملة فلايحتاج استنباط الحكم الشرعي من مباحث الالفاظ الى ضم كبرى اصولية أخرى.

فيرد عليه ان كبرى حجية الظهور ليست بديهية، كيف وقد نوقش فيها من قبل مثل ابن قبة باستحالة التعبد بالظن، كما نوقش فيها بان المدار عند العقلاء على اتباع الاطمئنان الشخصي.

مضافا الى أن صيرورة المسألة بديهية لاتجعلها خارجة عن مسائل العلم، خاصة بعد وقوع الاختلاف فيها سعة وضيقا.

وثالثا: انه لاموجب لحصر المسألة الاصولية بامكان وقوعها آخر كبرى لقياس استنباط الحكم الشرعي، عدا ما قد يقال من انه لولا هذا القيد لدخل جميع ما يتوقف عليه الاستنباط من مباحث المنطق واللغة والرجال في علم الاصول مع خروجها عنه بحسب الارتكاز، ولكن سيأتي امكان دفع هذه الشبهة بطريق آخر.

ثم انه قد اورد في البحوث على تعريف السيد الخوئي “قده” بما محصله انه ان اريد من كون المسألة الاصولية هي التي لايحتاج استنباط الحكم الشرعي منها الى كبرى اصولية أخرى، عدم الحاجة اليها اصلا، خرجت الكثير من المسائل الاصولية لكثرة موارد احتياج بعضها الى بعضها في مجال استنباط الحكم الشرعي، كما لو اعتمد الاستنباط على دليل غير قطعي السند والدلالة، وان اريد عدم الحاجة في الجملة بان تكون المسألة الاصولية مستغنية عن غيرها ولو في مورد واحد، فسوف يشمل التعريف جملة من المسائل غير الاصولية التي قد يتفق بشأنها الاستغناء في الجملة، كما اذا وردت كلمة الصعيد في دليل قطعي السند كالنص القرآني، بحيث لم‌يكن الاستنباط الفقهي بحاجة الى اكثر من تحديد مدلولها، فيكون البحث عنها بحثا اصوليا بمقتضى هذا التعريف([26]).

ويلاحظ عليه: ان بامكان السيد الخوئي “قده” ان يجيب عن هذا الإيراد بان مقصوده من عدم الحاجة الى توسيط مسألة أصولية أخرى هو عدم الحاجة الى تطبيق مسألة اصولية أخرى على نتيجة هذه المسألة، وفي الدليل الذي لايكون قطعي السند والدلالة كما لو اشتمل خبر الثقة على صيغة الأمر فيحتاج استنباط الحكم الشرعي الى توسيط كبريين اصوليين في عرض واحد وهما ظهور صيغة الأمر في الوجوب وحجية خبر الثقة، وليست احديهما من صغريات الأخرى.

نعم لو كان مقصوده عدم الحاجة الى ضم مسألة اصولية أخرى ولو في عرض تلك المسألة التي يراد استنباط الحكم الشرعي منها لتوجه عليه هذا الايراد، ولم يمكن اندفاعه بما قد يقال من أنَّ للتعبد بسند خبر مع التعبد بظهوره وحدة ثبوتية حيث ان مفاد دليل حجية السند ليس مجرد التعبد بصدور الخبر، بل مفاده تنجيز الحكم الذي يدل عليه الخبر او التعذير عنه([27])، فانه لو تم القول بهذه الوحدة الثبوتية -كما هوالمحكي عن السيد الصدر”قده”([28])وان كنا ناقشنا فيه في بحث التعارض([29]) – فمع ذلك ليس له أية علاقة بالمقام، فان المراد من توسيط كبريين اصوليين في المقام هو كبرى ظهور صيغة الأمر في الوجوب مثلا او سائر مباحث الالفاظ، لاحجية الظهور كي تندكّ في حجية السند.

وكيف كان فلاينبغي الاشكال في انه ليس مقصود السيد الخوئي “قده” عدم الحاجة في استنباط الحكم الشرعي من المسألة الاصولية الى توسيط كبرى اصولية أخرى دائما، فان مباحث الألفاظ التي اختار “قده” كونها من علم الأصول قد يراد استنباط الحكم الشرعي منها في فرض كون الظهور مبتلى بالظن بالخلاف او بعدم الظن بالوفاق، وليست حجية الظهور في هذين الفرضين بديهية بعد وقوع الخلاف فيها بين الأعلام، ولكن لايعني ذلك كفاية عدم الحاجة الى توسيط كبرى اصولية اخرى بشكل نادر، بل لعل مقصوده هو عدم الحاجة في استنباط الحكم الشرعي من هذه المسألة الاصولية الى توسيط مسألة اصولية أخرى في موارد معتد بها في الفقه، بحيث يصح عرفا ان يكون ملاكا في كون المسألة اصولية وعدمه، فالبحث عن القواعد الرجالية كثبوت التوثيق العام لمشايخ صفوان وابن ابي عمير والبزنطي وان كان قد لايحتاج استنباط الحكم الشرعي منها الى توسيط مسألة اصولية أخرى، كما لو علمنا بانه لو كان راوي هذا الخبر ثقة لكان خبره صادرا عن الإمام جزما، لكنه حيث يكون فرضا نادرا فلايوجب صيرورة هذه المباحث من المباحث الاصولية.

وأما ما ذكر في البحوث من النقض بالبحث عن ظهور كلمة الصعيد فلايرتبط بالمقام، فانه لايوجد فرق بين البحث عن ظهور كلمة الصعيد مع البحث عن ظهور صيغة الأمر في الوجوب، وانما الفرق بينهما في أن البحث الثاني من العناصر المشتركة للاستنباط دون الاول كماسيأتي توضيحه.

المحاولة الثالثة: ما ذكره المحقق العراقي “قده”

من ان علم الاصول ما يبحث عن المسائل التي تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الشرعي، بنحو تكون المسألة ناظرة الى اثبات الحكم الشرعي بنفسه او الى كيفية تعلقه بموضوعه كمباحث العام والخاص والمطلق والمقيد ومباحث المفاهيم، حيث يبحث في المطلق والمقيد مثلا ان الحكم الشرعي ثابت للموضوع بلاقيد ام لا، او يبحث في مفهوم الشرط مثلا ان الحكم الذي يدل عليه الجزاء في الجملة الشرطية هل ينتفي بانتفاء الشرط ام لا، وهذا بخلاف البحث عن معنى المشتق حيث انه يبحث فيه عن مدلول المشتق في حد ذاته كأي مفهوم آخر مع قطع النظر عن وقوعه موضوعا لحكم شرعي، وبذلك خرج مباحث المشتق والصحيح والأعم ومسائل علم الرجال عن علم الأصول([30]).

وقد اورد عليه في البحوث بان هذه المحاولة لاتخلو من اشكال، لانها توجب خروج مثل مسألة اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده عن مسائل علم الاصول حيث أن استنباط مجرد ثبوت النهي الغيري عن الضد او عدم ثبوته ليس غرض الفقيه، بل الغرض من خلال ذلك اثبات صحة ضد الواجب او فساده كما لو اشتغل بالصلاة التي هي ضد ازالة النجاسة عن المسجد، فمسألة الاقتضاء ليست ناظرة الى الحكم الذي يكون غرض الفقيه استنباطه، وكذا مسألة الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذي المقدمة، حيث أن استنباط وجوب المقدمة ليس غرض الفقيه في حد ذاته لكون وجوبه غيريا لايستتبع ثوابا ولاعقابا([31]).

اقول: لاوجه لتخصيص الحكم الشرعي الذي يراد استنباطه بالحكم الشرعي النفسي، فان استنباط الحكم الغيري ايضا يكون غرض الفقيه بالعرض، والا لتوجه هذا الإيراد ايضا على تعريفه نفسه لعلم الاصول بانه علم بالقواعد التي يستعملها الفقيه كدليل على الجعل الشرعي مباشرة، -ومراده ان الفقيه يستعملها كآخر دليل على الجعل الشرعي، وبذلك حكم بخروج مثل بحث الرجال- حيث انه لو اريد به الجعل الشرعي النفسي فمسألة اقتضاء الأمر بالشيء للنهي عن ضده او مسألة الملازمة بين وجوب شيء ووجوب مقدمته لاتستعمل كدليل على الجعل الشرعي النفسي مباشرة.

نعم يرد على هذه المحاولة الثالثة أنها توجب خروج مباحث المشتق والصحيح والأعم عن علم الاصول مع انه لاوجه له.

المحاولة الرابعة: ما ذكره السيد البروجردي “قده”

من ان علم الاصول علم يبحث فيه عن تعيين مصداق الحجة في الفقه، والمراد من الحجة ليس هو الواسطة في الاثبات، بل بمعنى ما يحتج به، فيشمل البحث عن حجية القطع، فان القطع وان كان عين اثبات الواقع لاانه واسطة في اثباته، ولكن حجيته بمعنى صحة الاحتجاج به او فقل معذريته ومنجزيته قابلة للبحث، لان حجيته وان كانت واضحة في الجملة الا ان توهم عدم حجية بعض اقسامه اوجب البحث عن ذلك، وهكذا يبحث في بحث البراءة عن حجية الاحتمال وانه هل يكون منجزا للواقع ام لا، وهكذا يبحث في المفاهيم عن حجيتها، اذ ليس البحث هناك عن ثبوت تلك المفاهيم، لان لذكر القيد الزائد مثل الشرط ظهورا ما في الدخالة بلااشكال فيبحث عن حجيتها، نعم مثل بحث مقدمة الواجب والضد مما لم‌يكن المبحوث فيه حيثية الحجية فيكون خارجا عن علم الاصول، وقد حكي عنه ان ظاهر القوم كون مباحث الالفاظ وشبهها من مبادئ علم الاصول وليست من مباحث علم الاصول([32])، وبناء عليه فيخرج المباحث اللغوية والرجالية ونحوها عن علم الاصول فان البحث عنها ليس بحثا عن تعيين مصاديق الحجة على الحكم الشرعي الفرعي في الفقه.

ويلاحظ عليه: انه لاوجه لتخصيص البحث الاصولي بالبحث عن الحجية كي يتكلف في مثل المفاهيم بما ذكر ويلزم لأجله خروج مباحث الالفاظ.

المحاولة الخامسة: ما اخترناه في الدورة السابقة

من ان علم الاصول هو “القواعد التي تقع في طريق استنباط الحكم الشرعي بشرط عدم تمهيد علم آخر لها” وذلك لانه لابد في تحديد مسائل اي علم من ملاحظة عرض التدوين منه، فانه ليس ذلك تابعا للبرهان، وحيث ان غرض المدوِّن من الاول خروج مباحث المنطق واللغة والرجال عن علم الاصول، لأجل انه قد مُهِّد علم آخر لها فتكون خارجة عن علم الاصول، وأما مثل مباحث المشتق والصحيح والأعم ونحوهما فحيث لم‌يمهَّد علم آخر للبحث عنها فتكون داخلة في علم الاصول.

واشكال هذه المحاولة أنها تعجز عن اعطاء صورة واضحة عن الجامع بين مسائل علم الاصول، وقد يكون مما مهّد للبحث عنه علم آخر كما في الملازمة بين حكم العقل وحكم الشرع، حيث يقال بانه يبحث عنه في علم الكلام، لكن لم‌ينقح البحث عنه هناك فيبحث عنه في علم الأصول أيضا، فمادام يوجد تعريف آخر خال عن هذا الاشكال، فلايتناسب اختيار هذا التعريف.

المحاولة السادسة: ما حكي عن السيد الصدر “قده”

من ان علم الاصول باعتبار كونه علما شرعيا يبحث فيه عن قضايا تكون من شأن الشارع إما بان تكون حكما مجعولا له ولو إمضاءا كحجية خبر الثقة او تكون حالة عامة للشريعة وان لم‌تكن حكما للشارع كالملازمة بين امر الشارع بشيء وامره بمقدمته، فانه وان كان يقام برهان عقلي على هذه الملازمة لكنها مع ذلك حالة ترجع الى الشارع واما ان تكون عبارة عن بناء الشارع والتزاماته في مقام المحاورة كما في البحث عن ظهور صيغة الأمر في الوجوب فان الغرض فيه هو البحث عن ظهور صيغة الأمر في لسان الشارع في الوجوب، غاية الأمر اننا نتكلم عن ظهور صيغة الأمر في الوجوب في محاورات العرف باعتبار جريان الشارع على طبق الطريقة العرفية، ولهذا ترى انه لو احتمل مصطلح خاص شرعي كصيغة الأمر مثلا لوقع البحث عنه في الاصول ايضا، وعليه فوثاقة الراوي ليست من شؤون الشارع([33]).

اقول: لانعرف وجها لتخصيص المسائل الاصولية بالبحث عما يكون من شؤون الشارع وان كان الغرض من علم الاصول هو معرفة الأحكام الشرعية الكلية، لكن البحث عن المسائل الاصولية لايختص بما يكون من شؤون الشارع، فالبحث عن مفهوم الشرط ان انتج القول بثبوت المفهوم المطلق له فيفيدنا في المحاورات العرفية أيضا، وكذلك حجية الظهور، كما انه لاداعي الى إخراج مثل بحث المشتق عن علم الاصول.

المحاولة السابعة: ما ذكره السيد الصدر “قده” ايضا

من كون تلك القواعد المبحوث عنها في علم الاصول مشتركة في الاستدلال الفقهي خاصة، ويستعملها الفقيه كدليل على الجعل الشرعي الكلي، فذكر انه خرج بقولنا “خاصة ” مثل علم المنطق، فانه ليس مختصا بالاستدلال الفقهي، اذ علم المنطق علم اصول الاستدلال بشكل عام ولايختص بالاستدلال الفقهي، وخرج بقولنا “التي يستعملها الفقيه كدليل على الجعل الشرعي الكلي” مثل مباحث الرجال، حيث ان الفقيه لايستعملها كدليل على الجعل الشرعي، وانما يستعملها لتنقيح موضوع الدليل وهو خبر الثقة.

وادعاء ان لازم ذلك خروج بحث حجية خبر الثقة ايضا عن علم الاصول لان خبر الثقة ينقح موضوع حجية الكلام الصادر من الإمام (عليه‌السلام)، غير تامّ فان خبر الثقة منجز للحكم الشرعي الواقعي ابتداءا، لاانه منقح لموضوع حجية كلام الامام (عليه‌السلام)، ولذا يكون الحكم الواقعي متنجزا بخبر الثقة ولو لم‌يكن ما اخبر به صادرا من الإمام (عليه‌السلام)، وهذا بخلاف التوثيقات الرجالية فانها ليست منجزة للحكم الشرعي الواقعي ابتداء وانما هي منقحة لموضوع حجية خبر الثقة.

وان شئت قلت: ان البحث عن حجية خبر الثقة يدخل في كبرى القياس الأخير للاستنباط فيقال وجوب صلاة الجمعة ما أخبر به الثقة وكل ما اخبر به الثقة فهو متنجز وثابت تعبدا، فوجوب صلاة الجمعة متنجز وثابت تعبدا، والبحث عن صغريات الظهور كظهور صيغة الأمر في الوجوب يدخل في صغرى القياس الأخير للاستنباط فيقال هذا الأمر ظاهر في الوجوب والظاهر يكون منجزا للحكم ويثبت به الحكم تعبدا، فالأمر يكون منجزا للوجوب ويثبت به الوجوب تعبدا.

وأما مباحث الرجال او فقل التوثيقات الرجالية لاتكون صغرى او كبرى للقياس الأخير لاستنباط الحكم الشرعي، توضيح ذلك: ان وثاقة زرارة مثلا ليست دخيلة في صغرى او كبرى القياس الأخير للاستنباط وانما هي من مقدمات قياس سابق، حيث يذكر قياسان اولهما ان هذا خبر زرارة وزرارة ثقة فهذا خبر ثقة، وثانيهما هو القياس الاخير للاستنباط حيث يقال هذا ما اخبر به الثقة وكل ما اخبر به الثقة فهو متنجز وثابت تعبدا، فهذا ثابت تعبدا، فالقياس الأول بصغراه وكبراه خارجة عن علم الأصول، واما القياس الثاني فصغراه وهي ان هذا ما اخبر به الثقة خارجة عن علم الاصول لانها ليست سيالة في الفقه، ويلزم في المسألة الاصولية ان تكون سيالة في الفقه ولاتختص ببحث فقهي معين، نعم كبرى هذا القياس الثاني داخلة في علم الاصول، وعليه فلايقاس مباحث الرجال بالبحث عن حجية خبر الثقة او البحث عن ظهور صيغة الأمر في الوجوب([34]).

وهذه المحاولة رغم بعض المناقشات فيها محاولة تامة.

توضيح ذلك ان ما ذكره من الفرق بين التوثيق الرجالي وبين خبر الثقة بان خبر الثقة كخبر زرارة مثلا منجز للحكم الواقعي ابتداءا، وأما التوثيق الرجالي فهو سبب لمنجزية خبر الثقة، وان كان قابلا للنقاش حيث انه لو تم مبنى كون خبر الثقة منجزا للحكم الواقعي ابتداءا كما التزم به في بحث التعارض([35]) -وان ناقشناه في محله([36])– فيكون البحث عن حجية التوثيقات الرجالية مثله، حيث أنه لامعنى لحجيتها الا تنجز الحكم الواقعي الذي دل عليه الخبر الذي وُثّق راويه في علم الرجال.

وما ذكره -من أنه حيث يكون خبر الثقة منجزا للحكم الواقعي ولو لم‌يصدر من الامام شيئ، فيكون شاهدا على كون خبر الثقة منجزا للحكم الواقعي ابتداءا – فهذا يجري في جميع الحجج التي تقع في طريق اثبات الحكم الشرعي ولو مع الواسطة، فمعنى حجية التوثيقات الرجالية هو كونها منجزة للحكم الواقعي الذي أخبر به من وثّق في علم الرجال ولو لم‌يكن ثقة واقعا، نعم لو كان الغرض في علم الرجال هو معرفة التوثيقات الرجالية من غير نظر الى حجيتها، فيتم ما ذكره من الفرق، وان شئت قلت انه لايوجد فرق بينما ذكره بالنسبة الى البحث عن ظهور الصيغة في الوجوب من انه يشكّل صغرى للقياس الأخير للاستنباط حيث يقال ان الأمر ظاهر في الوجوب والظاهر منجز للحكم فالأمر منجز للوجوب، وبين ان يقال بالنسبة الى المباحث الرجالية ان الخبر الذي يرويه صفوان مثلا خبر ثقة وخبر الثقة منجز فالخبر الذي يرويه صفوان منجز، ولايرد عليه ان صغرى هذا القياس ليست سيالة في الفقه.

ومع ذلك لايبعد تمامية كلامه “قده” اذا لوحظ بالنظر العرفي، فان البحث عن حجية خبر الثقة، وكذا البحث عن مباحث الالفاظ –باعتبار كون البحث عنها منقحا لمصاديق الظهور- يكون بحثا عن الدليل على الجعل الشرعي، وأما القواعد الرجالية فلايستعملها الفقيه الا لتنقيح موضوع الدليل على الجعل الشرعي، حيث انها تنقح وثاقة راوي الخبر القائم على الجعل الشرعي، فيحرز بذلك انطباق عنوان خبر الثقة عليه، وهذا بخلاف البحث عن مثل ظهور صيغة الأمر في الوجوب، فانه ينقح نفس دليلية الدليل على الجعل الشرعي.

وبناء على ذلك فيدخل مثل مبحث المشتق في علم الاصول، حيث يبحث فيه عن ظهور المشتق فيمن انقضى عنه المبدأ فيكون على وزان سائر مباحث الالفاظ.

وأما البحث عن الصحيح والاعم والحقيقة الشرعية فانما جعله خارجا عن مباحث الاصول، بدعوى ان البحث فيها يكون عن ظهور الفاظ معينة، فيكون على وزان المباحث اللغوية، ولكن لكون بحثه بحثا شرعيا ادرج في مقدمة علم الاصول([37])، ولكن الظاهر دخول هذه الابحاث في علم الاصول ايضا لكونها بحثا عن قواعد عامة، لاعن ظهور الفاظ معينة ومصاديق جزئية كي يكون نظير البحث عن المفردات اللغوية.

ثم إنه لابد ان يراد من الجعل الشرعي ما يعمّ الأمر او النهي الغيريين، فان قاعدة الملازمة بين وجوب المقدمة ووجوب ذيها لاتكون دليلا الا على جعل وجوب المقدمة شرعا وجوبا غيريا، وأما وقوعها في طريق استنباط حكم نفسي آخر على ما مر بيانه سابقا فلايجدي في كون البحث عن هذه القاعدة أصوليا، اذ يلزم في القاعدة الأصولية ان تكون دليلا على الجعل الشرعي مباشرة، والا فان المباحث الرجالية أيضا تقع في طريق استنباط الاحكام الشرعية.

 



[1] – توضيحه انه قد يدعى انسداد باب العلم والظن المعتبر بالدليل الخاص بالنسبة الى معظم الاحكام الشرعية في عصر الغيبة، وحينئذ فقد يتوصل في طي مقدمات الى حجية مطلق الظن، فتارة يقال بان نتيجة تلك المقدمات استكشاف ان الشارع جعل مطلق الظن في هذا الحال حجة على وزان حجية الظن الخاص فيكون وزانه وزان سائر الأمارات المعتبرة شرعا، وهذا يسمى بمسلك الكشف، وأخرى يقال بانه لايستنتج من تلك المقدمات اكثر من حكم العقل بجواز الاكتفاء بتحصيل الظن بامتثال الاحكام الشرعية التي يعلم بوجودها اجمالا في الشريعة، ويسمى ذلك بمسلك الحكومة ويعنى به حكم العقل بجواز التبعيض في الاحتياط او فقل معذرية الامتثال الظني من التكاليف المعلومة بالاجمال.

[2] – وكان الانسب لصاحب الكفاية حذف التعبير بكونها متعلقة بعمل المكلف لانتقاضه باصالة الطهارة ونحوها، حيث انها لاتتعلق بعمل المكلف.

[3]– كفاية الاصول ص469

[4]– وسائل الشيعة ج17 ص88باب4 من ابواب ما يكتسب به ح1

[5] – نفس المصدر ح4

[6] – منتقي الاصول ج1ص24

[7] – كفاية الاصول ص88و469

[8] -كفاية الاصول ص267

[9] -حواشي المشكيني ج5 ص313

[10] – قد ذكرنا في بحث الجمع بين الحكم الظاهري والواقعي ان التكيلف الواقعي عند وجود امارة او جريان اصل عملي شرعي على خلافه وان لم‌يكن فعليا بالنظر العقلي لكنه فعلي بالنظر العقلائي.

وذلك لان روح التكليف الواقعي هو الطلب القائم بنفس المولى بالنسبة الى فعل العبد، فروح التكليف الوجوبي هو طلب الفعل بنحو لايرضى بتركه وروح التكليف التحريمي هو طلب ترك الفعل بنحو لايرضى بارتكابه، وهذا لايجتمع مع رضاه وترخيصه في ترك الواجب او فعل الحرام، فمعنى رضاه وترخيصه بارتكاب الشبهة البدوية هو انتفاء روح التكليف الوجوبي او التحريمي في هذا الفرض، فلافرق عقلا بين ان يكون الترخيص بمناط الجهل اوبمناط الحرج، نعم الفرق بينهما في النظر العقلائي، حيث يفرقون بين الترخيص الناشيء عن جهل المكلف وبين الترخيص الناشيء عن غير ذلك، فلايرون الترخيص الناشيء عن الجهل مانعا عن فعلية التكليف، ولأجل ذلك لوورد ترخيص ظاهري في ارتكاب طرف معين من طرفي العلم الإجمالي فلايرى العقلاء ذلك موجبا لارتفاع حرمة مخالفته القطعية، بخلاف الترخيص فيه بمناط كونه موجبا للحرج بعينه، فانه لو كان حرجية احد طرفي العلم الإجمالي بعينه مقارنة لحصول العلم الإجمالي كان مانعا عن العلم الإجمالي بالتكليف الفعلي.

واما ما ذكره السيد الصدر”قده” من ان روح الوجوب الواقعي مثلا هو حب المولى بفعل، ويجتمع ذلك مع ترخيص المولى في تركه في موارد الشك وجريان اصالة البراءة، بل يجتمع مع تعلق ارادة المولى بترك المكلف له عند قيام أمارة على حرمته، فان تعلق الارادة والاختيار بشيئ لاينشأ دائما عن تعلق الحب به، فربما يختار الانسان شيئا ولايحبه كما في دفع الأفسد بالفاسد، ففيه ان روح الحكم الوجوبي ليس هو الحب، بل هو تعلق الغرض اللزومي للمولى بفعل العبد، فقد يأمر بشيئ أمرا واقعيا من دون ان يتعلق حبه به، كما في مثال الأمر بدفع الافسد بالفاسد، وهذا مما لايجتمع مع الرضا والترخيص في الترك ولو بمناط الجهل، وتفصيل الكلام موكول الى محله.

[11]– مقالات الاصول ج1ص3، نهاية الافكارج1 ص19

[12]– فوائد الاصول ج1ص29

[13] -بحوث في الاصول ص33

[14] – درر الفوائد ج1ص32

[15]– فوائد الاصول ج1 ص27

[16] -محاضرات في اصول الفقه ج1 ص13

[17] – اجود التقريرات ج1ص10

[18] – محاضرات في اصول الفقه ج1 ص14

[19] -فوائد الاصول ج2ص366، اجودالتقريرات ج1ص333

[20]– محاضرات قي اصول الفقه ج1ص15

[21] – بحوث في علم الاصول ج1ص29

[22] – محاضرات في اصول الفقه ج1ص15، ج2ص432

[23] – المباحث الاصولية ج1ص35وقدرأيت أنه عدل عن اشكاله في ج3ص 288من كتابه

[24] -محاضرات في اصول الفقه ج1 ص15، ج2ص432

[25] – درر الفوائد ج2ص680

[26] – يحوث في علم الاصول ج1ص28

[27] – المباحث الاصولية ج1ص52

[28] مباحث الاصول ج5 ص604

[29]– ذكرنا هناك ان هذه الدعوى تبتني على انكار مسلك جعل الطريقية والعلمية في الأمارات، والا لكان يكفي في اعتبار خبر الأمارة علما قيامه مقام القطع الموضوعي في جواز الإخبار ونحوه، ونحن وان كنا لانعترف بمسلك جعل العلمية في الأمارات، لكن لايبعد بناء العقلاء على معاملة خبر الثقة معاملة العلم في جواز الإخبار، كما قد يقال أن ظاهر خطاب جواز الإخبار بالعلم هو جواز الإخبار عند قيام الحجة والطريق العقلائي، وعليه فليس حجية خبر الثقة دائما بمعنى تنجيز الواقع الذي يحكي عنه الخبر او التعذير عنه، بل تشمل جواز الإخبار عن الواقع ولو اخبر ثقة عن شيئ فيترتب عليه جواز الاخبار.

[30] – مقالات الاصول ج1 ص10، لكن حكي عنه في نهاية الافكار ج1ص 23شمول هذا التعريف لمسائل علم الرجال وانمالم‌يبحث عنها في علم الأصول لكثرة مسائله، فأعد لها علم آخر، ولم‌يتضح لنا وجه ما افاده فان مسائل علم الرجال وان كانت تنقح موضوع دليل حجية خبر الثقة، ولكن المقصود في علم الاصول هو تنقيح الحكم الشرعي الفرعي او موضوعه دون حجية خبر الثقة، فانها حكم شرعي اصولي، مضافا الى ان مسائل علم الرجال ليست ناظرة الى اثبات الحكم الشرعي بنفسه او الى كيفية تعلقه بموضوعه، وانما تنقح موضوع الحكم الشرعي وهو حجية خبر الثقة، فلايشملها هذا التعريف.

[31] – بحوث في علم الاصول ج1ص30

[32] – حاشية كفاية الاصول ج 1ص16

[33] – تعليقة مباحث الاصول ج1ص41

[34] – مأخوذ من بحوث في علم الاصول ج1ص34، ، مباحث الاصول ج1ص37

[35] -بحوث في علم الاصول ج 7ص266

[36] – راجع ابحاث اصولية في تعارض الأدلة (بحث التعارض بين الادلة المتعددة )

[37] – بحوث في علم الاصول ج1ص68 وص177


 [s1]المقرر: الوارد في الكفاية: او التي ينتهي اليها في مقام العمل، (لاعمل المكلف) ومن المعلوم ان اصالة الطهارة تتعلق بعمل مكلف‌مّا.