بسمه تعالی
رؤوس المطالب:
الجهة الأولى: معاني مادة الأمر. 2
المراد من الطلب، هو الطلب التشريعي.. 2
أنحاء إرجاع سائر معاني الأمر -غير الطلب- الى معنى واحد او معنيين.. 3
أنحاء إرجاع جميع معاني الأمر الى معنى واحد. 6
إن لفظ الأمر مشترك لفظي بين المعنيين.. 9
الجهة الثانية: تحديد معنى الطلب الذي هو المعنى الأول لمادّة الأمر. 9
كفاية صدق الأمر لمجرد ابراز الطلب ولو لميوجد أي طلب نفساني كما في الأوامر الامتحانية. 9
المختار: ان معنى الأمر هو البعث بداعي التحريك لا الطلب.. 10
قولان آخران فی معنی الوضعی لمادة الأمر. 11
السيد الخوئي قده: الطلب هو إبراز اعتبار الفعل على ذمّة المكلف… 11
بعض الأعلام دام ظله: الطلب بمعنى التحريك…. 11
بسم اللّه الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين وصلّى الله على سيدنا محمد وآله الطاهرين واللعن الدائم على اعدائهم اجمعين من الآن الى يوم الدين.
بحث الأوامر
ويقع الكلام فيها في مقامين، الأول في مادة الأمر والثاني في صيغة الأمر.
المقام الأول: مادة الأمر
اما المقام الأول فيقع الكلام فيه في عدة جهات:
الجهة الأولى: معاني مادة الأمر
الجهة الأولى: ذكرت لمادة الأمر معان عديدة.
منها: الطلب كما يقال أمره بكذا.
ومنها: الشأن كما يقال شغله أمر كذا.
ومنها: الفعل، ومثّلوا له بقوله تعالى: “وما أمر فرعون برشيد([1])“، ولكن الظاهر ان الأمر في هذه الآية بمعنى الطلب، فقد قال تعالى: واتبعوا أمر فرعون وما أمر فرعون برشيد، ومن الواضح ان اتباع الأمر ليس الا اتباع الطلب.
ومنها: الفعل العجيب، ومثّلوا له بقوله تعالى “فلما جاء أمرنا([2])“، ولكن الظاهر ان الأمر قد استعمل فيه أيضا في معنى الطلب، فقد قال تعالى “فلما جاء أمرنا جعلنا عاليها سافلها”، غايته ان الأمر فيه كناية عن الإيجاد، كما قال تعالى: “انما امره اذا اراد شيئا ان يقول له كن فيكون([3])“.
ومنها: الشيء كما تقول: رأيت اليوم أمرا عجيبا.
ومنها الحادثة كما لو قيل: هل حدث أمر.
ومنها: الغرض كما تقول: جئتُ لأمر كذا.
المراد من الطلب، هو الطلب التشريعي
اقول: لاريب في ان الطلب من معاني مادة الأمر، ومن الواضح ان المراد به هو الطلب التشريعي اي طلب فعل من الغير دون الطلب التكويني، وهو سعي الانسان الى تحصيل شيء، فلايصح ان يقال في حق من يطلب الضالة انه يأمر بها او في حق من يطلب العلم انه يأمر به.
وأما سائر المعاني فكثير منها ليس معنى لمادة الأمر وانما يستفاد من دوالّ أخرى، من قبيل استفادة الغرض من اللام في قولنا جئت لأمر كذا، وحينئذ فقد يحاول إرجاع سائر معاني الأمر -غير الطلب- الى معنى واحد او معنيين، وقد يحاول إرجاع جميع معاني الأمر حتى الطلب الى معنى واحد، فهنا محاولتان:
أنحاء إرجاع سائر معاني الأمر -غير الطلب- الى معنى واحد او معنيين
المحاولة الأولى: وهي إرجاع سائر معاني الأمر -غير الطلب- الى معنى واحد او معنيين، وهذا يكون بعدة أنحاء:
1- ما ذكره صاحب الفصول من ان مادة الأمر موضوعة لمعنى الطلب والشأن([4]).
وبناء عليه فيكون الجامع لسائر المعاني غير معنى الطلب هو الشأن، ولكن يرد عليه النقض بمثل قولنا: اجتماع النقيضين أمر محال، فانه لايناسب ان يقال اجتماع النقيضين شأن محال، وكذا ورد في الروايات انه لايجوز أمر الصبي([5])، ولايناسب ان يقال لايجوز شأن الصبي.
2- ما ذكره الفيومي في المصباح المنير من ان الأمر بمعنى الطلب والحال، ويرد عليه النقض أيضا بمثل قولنا الدور أمر محال، فانه لايقال الدور حال محال، كما انه لايصح ان يقال مكان “لايجوز أمر الصبي” انه لايجوز حال الصبي.
3- ما ذكره صاحب الكفاية من أنه لايبعد دعوى كون الأمر حقيقة في الطلب في الجملة والشيء، وعدّ بعض هذه المعاني المذكورة من معاني مادة الأمر يكون من اشتباه المصداق بالمفهوم، ضرورة ان الأمر في “جاء زيد لأمر كذا” لميستعمل في معنى الغرض، بل اللام قد دلّ على الغرض ويكون مدخوله مصداق الغرض، فأوجب ذلك توهم ان معنى الأمر في هذا الكلام هو مفهوم الغرض، مع ان معناه هو مفهوم الشيء، غاية الأمر انه يكون في هذا الكلام مصداقا للغرض، ويكون الدالّ عليه هو اللام، وهكذا قوله تعالى: “فلما جاء أمرنا” فان كلمة الأمر فيه لمتستعمل في مفهوم الفعل العجيب([6])، وانما يكون معناها وهو مفهوم الشيء مصداقا للفعل العجيب، وكذا ما قيل من استعمالها في معنى الحادثة والشأن.
وقد أورد عليه المحقق الاصفهاني قده بان التعبير باشتباه المصداق بالمفهوم غير مناسب، اذ ليس الأمر موضوعا لمعنى الشيء مثلا بما انه مصداق الغرض حتى يكون توهم وضعه لمفهوم الغرض من اشتباه مصداق الغرض بمفهومه، بل الأمر بناء على مختار صاحب الكفاية قد وضع بإزاء مفهوم الشيء سواء كان مصداقا للغرض ام لا([7]).
وفيه: انه لميُعرف وجه اختصاص التعبير باشتباه المصداق بالمفهوم بما ذكره قده، بل لامانع من شموله لمثل المقام، حيث أن كون الأمر في قولنا “جاء زيد لأمر كذا” مصداقا للغرض أوجب توهم كون مدلوله هو نفس مفهوم الغرض، مضافا الى ان ما ذكره لايخلو عن مجرد مناقشة لفظية.
وكيف كان فيرد على ما ذكره صاحب الكفاية أن النسبة بين المعنى الثاني للأمر وبين معنى الشيء عموم وخصوص من وجه، فان لكل منهما مادة افتراق.
أما مادة افتراق معنى الأمر فهو انه قد يقال أمر فلان مستقيم او امره مريب، وقد ورد في الحديث ان امرنا صعب مستصعب، وكذا ورد انه لايجوز أمر الصبي، وان والده هو الذي يلي أمره([8])، فانه لايمكن ان يجعل في هذه الموارد مكان لفظ الأمر لفظ الشيء، ومن هذا القبيل قوله تعالى “اتعجبين من أمر الله([9])” “قل الروح من أمر ربي([10])“، وأما قوله تعالى “الا له الخلق والأمر([11])” فالظاهر كون الأمر فيه بالمعنى الاول الذي يكون مرادفا لكلمة “فرمان”، ونظيره قوله تعالى “وما امرنا الا واحدة كلمح بالبصر([12])” و”وما أمر الساعة الا كلمح البصر او هو اقرب([13])“.
وأما مادة افتراق معنى الشيء فهو انه لايصح اطلاق كلمة الأمر على الجواهر والأعيان الخارجية –كما ذكر المحقق النائيني والمحقق الاصفهاني والسيد البروجردي قدهم([14])– مع شمول مفهوم الشيء لها بلااشكال، فاذا رأى شخص فرسا عجيبا لايصح ان يقول إني رأيت أمرا عجيبا، بينما يصح ان يقول اني رأيت شيئا عجيبا، وهكذا لايصح ان يقال الانسان أمر عجيب، وبذلك تبين ان لفظ الأمر ليس مرادفا للفظ الشيء.
وأما ما ذكره شيخنا الأستاذ قده من أنه لامانع من اطلاق كلمة الأمر على الجواهر والأعيان الخارجية، فانه يقال مفهوم الإنسان أمر ذهني وواقعه أمر خارجي([15])، ففيه انه لاشاهد على صحة هذا التعبير، بل مرّ وجود شاهد على خلافه، حيث لايصح ان يقال الانسان أمر عجيب.
وهكذا ما في البحوث من انه لامانع من حمله على الذوات كأسماء الأجناس فيقال النار أمر ضروري في الشتاء وشريك البارئ أمر ممتنع، نعم لايصح حمله على العَلَم بالذات او العَلَم بالإشارة، فلايقال زيد أمر عجيب او ان هذا الرجل أمر عجيب([16])، ففيه ان الظاهر كون المراد من التعبير بان النار أمر ضروري في الشتاء هو ان وجوده أمر ضروري، والوجود معنى حدثي، فبهذا اللحاظ يصح اطلاق الأمر عليه، وهكذا المراد من قولهم شريك الباري أمر محال هو ان وجوده أمر محال، والمهم ان الوجدان العرفي أصدق شاهد على عدم صحة حمل كلمة الأمر على الجواهر، فلايقال “الإنسان أمر عجيب”.
4- ما ذكره المحقق الاصفهاني قده من ان المعنى الثاني للأمر هو الفعل (كار)([17])، وقد حكي ذلك عن السيد البروجردي قده ايضا حيث قال ان المعنى الثاني للأمر لعله عبارة عن الفعل([18]).
ولكن يرد عليه أنه لايصح ان يوضع مكان كلمة الأمر كلمة الفعل دائما، فلايصح ان يقال بدل قولنا الدور أمر محال ان الدور فعل محال، او يقال بدل “جمال يوسف أمر عجيب” ان جماله فعل عجيب، وكذا لايراد من قولهم ان أمر فلان مستقيم او مريب أن فعله مستقيم او مريب، وكذا حينما يقال “يقع الكلام في امور” لايعنى بها الأفعال.
5- ما ذكره شيخنا الاستاذ قده من انه لايبعد كونه مشتركا في كل من الطلب والشيء والفعل، فانه لايصح في مثل قوله تعالى “وما أمر فرعون برشيد([19])” وضع لفظ الشيء مكانه، فيكون الأمر فيه بمعنى الفعل، كما انه لايصح في مثل قولنا “البياض أمر خارجي” وضع لفظ الفعل (كار) مكانه، بل لابد ان يراد منه معنى الشيء([20]).
ولكن يرد عليه أيضا انه حينما يقال ان أمر فلان مستقيم او ان امره مريب فكما لايصح وضع لفظ الشيء مكانه كذا لايصح وضع لفظ الفعل مكانه، اذ ليس المراد منه ان فعله مستقيم او مريب، وكذا قوله: ان امرنا صعب مستصعب([21])، وقد ورد عن الصادق عليهالسلام انه قال لفضيل تجلسون وتحدثون قلت نعم قال تلك المجالس احبها فاحيوا امرنا رحم الله من احيى امرنا([22]) فانه لايصح ان يوضع مكانه كلمة الطلب او الشيء او الفعل، ونظير ذلك ما ورد في الصبي من ان والده هو الذي يلي أمره.
6- ما هو الظاهر من ان للأمر معنيين وهما: الطلب والمعنى المبهم الذي لايوجد له مرادف في سائر اللغات على ما نعلم، ولايشمل الا المعنى الحدثي –وما اشبهه كالأوصاف كقولنا جمال يوسف أمر عجيب- دون الجواهر والأعيان الخارجية، وليس مرادفا لمفهوم الشيء، حيث مرّ ان النسبة بينهما تكون عموما من وجه، حيث يستعمل كلمة الأمر فيما لايصح استعمال لفظ الشيء فيه وكذا العكس.
هذا كله في المحاولة الأولى، وهي إرجاع سائر معاني الأمر غير الطلب الى معنى واحد او معنيين.
أنحاء إرجاع جميع معاني الأمر الى معنى واحد
المحاولة الثانية وهي إرجاع جميع معاني الأمر الى معنى واحد، وهذا يكون بأحد أنحاء ثلاثة.
1- إرجاع معنى الطلب الى المعنى الآخر وهو ما ذكره المحقق النائيني قده حيث أفاد ان معنى الأمر هو الواقعة التي لها اهمية في الجملة، والأمر بمعنى الطلب أيضا من مصاديق هذا المعنى، ومعه ينتفي الاشتراك اللفظي([23]).
وفيه اولا: ان الأمر لايختص بالواقعة ذات الأهمية فلايوجد أية عناية في قولنا هذا أمر غير مهم او انه أمر لايعبأ به.
وثانيا: انه لايختص بالواقعة (رخداد)، فانه يصح ان يقال عدم مجيئ زيد أمر عجيب او ان اجتماع النقيضين أمر محال مع عدم كونهما واقعة، ولو أجيب عن ذلك بتوسّع معنى الواقعة بنحو يشمل مثل ذلك، فالانصاف عدم صحة الالتزام به في مثل قولهم “ان امرنا صعب مستصعب” او قولهم “ان الكلام يقع في امور”.
وثالثا: ان ارجاع معنى الطلب الى هذا المعنى لايخلو عن غرابة، اذ الواقعة هو طلب الصلاة مثلا، فبناء على ما ذكره يلزم ان يقال “أمرُ طلبِ الصلاة”، بنحو الاضافة البيانية اي الأمر الذي هو طلب الصلاة، مع انه يقال الأمر بالصلاة، هذا مضافا الى انه قد يطلب الإنسان الماء بنفسه تكوينا فيسعى هو نحو الماء، وهذا واقعة ذات اهمية في الجملة، مع انه لايصح ان يعبر عنه بالأمر بالإتيان بالماء، فليس منشأ اطلاق الأمر على الطلب التشريعي كونه واقعة ذات أهمية في الجملة.
2- ما قد يقال من وجود جامع معنوي بين الطلب وسائر معاني الأمر بان يكون الأمر موضوعا لما يكون مبرزا للإرادة، وحينئذ فقد يكون مبرزا للإرادة التشريعية فيكون من المشتقات ويجمع على الأوامر وقد يكون مبرزا للإرادة التكوينية فيكون من الجوامد ويجمع على الأمور([24]).
وفيه: ان الأمر بالمعنى الجامد لميلحظ فيه كونه مبرزا للإرادة التكوينية، فانه يقال اجتماع النقيضين أمر محال او ان عدم مجيئ زيد أمر عجيب مع انه لايوجد في مثله اي مبرز للإرادة التكوينية.
3- إرجاع جميع المعاني الى معنى الطلب، وهذا ما استقربه المحقق الاصفهاني قده فانه بعد ان ذكر ان المراد من الأمر في غير فرض إرادة الطلب منه هو الفعل قال: إنه يمكن ان يكون معنى الأمر هو الطلب دائما، وحينما يطلق على غير الطلب كالأفعال يراد منه المطلوب من باب إرادة المفعول من المصدر، ولايعنى به المطلوب الفعلي بل ما من شأنه ان يكون مطلوبا ومرادا تكوينيا او تشريعيا، ويختص ذلك بالأفعال دون الأعيان الخارجية والصفات، نظير التعبير بالمطلب والمقصد فانه لايعنى بهما الا ما هو في معرض الطلب والقصد، فعليه فلايكون الأمر مشتركا لفظيا بين معنيين بان يستعمل تارة في معنى الطلب وأخرى في معنى الشيء.
اقول: قد يذكر شاهدان على عدم وضع لفظ الأمر لمعنى واحد يكون جامعا بين جميع معانيه:
الشاهد الأول: اختلاف صيغة جمع الأمر بمعنى الطلب عن صيغة جمع الأمر بالمعنى الآخر حيث يجمع الاول على أوامر والثاني على أمور، وليس من المعهود اختلاف صيغة الجمع بلحاظ اختلاف المصاديق مع وحدة المعنى، بل يكون ذلك ناشئا عادة عن اختلاف المعنى، فبناء على انكار الاشتراك اللفظي كيف يوجه اختلاف صيغة الأمر.
ويجاب عن ذلك تارة بما ذكره المحقق الاصفهاني قده من ان منشأ الاختلاف في صيغة الجمع انه حينما يعنى بالأمر الطلب الفعلي فيلحظ فيه معناه الحدثي فيجمع على “اوامر” وحينما يطلق على الأفعال فلايلحظ فيه تعلق الطلب الفعلي بها، فكأن المستعمل فيه متمحض في معناه الأصلي الجامع فيجمع على أمور([25]).
وأخرى بانه يكفي في اختلاف صيغة الجمع اختلاف المصاديق ولو مع وحدة المعنى([26]).
وثالثة: بما حكي عن بعض السادة الأعلام دام ظله من ان هذا الشاهد يبتني على ان يكون الأوامر جمع الأمر مع انها جمع الآمرة، حيث أجمع علماء الأدب على انه لايجمع المصدر على فواعل، وقد ذكر بعض اهل اللغة كالازهري ان الأمر ضد النهي واحد الأمور، وعليه فالأوامر ليس جمعا للأمر أصلا حتى يستكشف من ذلك تغاير المعنيين، وانما هو جمع الآمرة، والمراد بها الصيغة الآمرة.
الشاهد الثاني: ان الأمر بمعنى الطلب يكون من المشتقات فيقال أمَر، يأمر، آمر، مأمورٌ وهكذا، بينما ان الأمر بالمعنى الآخر يكون من الجوامد.
ويمكن ان يجاب عن هذا الشاهد ايضا بنفس الجواب الاول والثاني عن الشاهد السابق.
والتحقيق انه ان كان المقصود من ارجاع جميع معاني الأمر الى معنى واحد كونه كذلك بالفعل بحيث يفهم منه معنى واحد فيتمّ كلا الشاهدين، ولايصح الجواب الذي ذكره المحقق الاصفهاني قده لاقتضاء هذا الجواب تعدد المعنى فعلا، كما لايتم الجواب الثاني، اذ ليس من المعهود الاختلاف في صيغة الجمع او الاختلاف في الاشتقاق والجمود بمجرد اختلاف المصاديق مع وحدة المعنى، كما لايتمّ الجواب الثالث، حيث ان كون الأوامر جمع الآمرة خلاف الظاهر، فانه ليس المتبادر من مثل قوله عليهالسلام “وخالفت بعض اوامرك” أني خالفت بعض صيغ أمرك، فالظاهر ان الأوامر جمع الأمر وان كان خلاف القياس، كما ان النواهي جمع النهي، ومما يؤيد ما ذكرناه انه لو كان الأمر بمعنى الطلب يجمع على امور لكان يصح ان يقال وخالفت بعض امورك اي خالفت بعض طلباتك، مع انه لايصح ذلك وجدانا.
نعم ان كان المقصود هو ان الأمر بالمعنى الثاني مثلا يكون في الاصل مأخوذا من الأمر بالمعنى الأول، لكنه حصل توسّع في معناه وأريد به كل ما من شأنه ان يتعلق به الأمر بل اعم من ذلك حيث يشمل المحال وغير المقدور ايضا فيقال هذا أمر محال او غير مقدور، مع انه ليس من شأنهما ان يتعلق بهما الأمر الا بتوسع فلايتمّ حينئذ اي من الشاهدين، حيث يكفي في اختلاف الجمع او الاختلاف في الاشتقاق وعدمه اختلاف المعنيين فعلا، فيكون نظير كلمة الشيء حيث يقال انه في الأصل مأخوذ من الشيء بمعنى المشيئة فيكون مصدر “شاء يشاء”، فأريد منه ما تعلق به المشيئة ولكنه حصل له تحول وتوسّع في معناه بنحو يشمل المحال ونحوه، فعليه يكون كالاسم الجامد فلايمكن الاشتقاق منه مع التحفظ على خصوصية معناه، بينما انه كان في الاصل مصدرا.
الا انه يرد عليه -مضافا الى عدم قيام اي دليل على كون المعنى الثاني للأمر مأخوذا في الاصل من المعنى الاول- ان الأمر بالمعنى الأول يكون في الفارسية بمعنى “دستور وفرمان”، فالأمر يختص بالطلب التشريعي وهو طلب الفعل من الغير، فمن البعيد جدّا ان يستعمل في معنى اسم المفعول اي المأمور به ويطلق على الأفعال، ويشهد على ذلك انه لايصح ان يعبر عن الأفعال بكلمة المأمور به بأن يجعل بدل قوله تعالى: “الا الى الله تصير الأمور([27])” ألا الى الله يصير المأمور به، وهذا بخلاف لفظ المطلب مثلا فانه متخذ من الطلب الذي يشمل الطلب التكويني -وهو تصدي الشخص لتحصيل شيء كطلب العلم وطلب الضالّة- والطلب التشريعي –وهو طلب الفعل من الغير- ثم صار له توسّع في معناه فأريد منه ما من شأنه ان يتعلق به الطلب الاعم من التكويني والتشريعي وان لميتعلق به الطلب فعلا بنحو يشمل المحال وغير المقدور.
وبذلك تبين الاشكال فيما ذكره المحقق الإيرواني قده من انه لايبعد كون الأمر بمعنى الشيء مأخوذا من الأمر بمعنى الطلب بمناسبة ان الشيء يكون متعلقا للطلب ثم توسع اللفظ فاطلق على المحال مع عدم كونه قابلا لتعلق الطلب به([28])، فانه وان لميوجد مانع عن اطلاق كلمة المطلب على المحال كما يقال اجتماع النقيضين مطلب محال بنكتة التوسع الذي ذكره قده لكن هذا الاحتمال في كلمة الأمر غريب جدّا كما مر بيانه.
إن لفظ الأمر مشترك لفظي بين المعنيين
فتحصل مما ذكرناه كون لفظ الأمر مشتركا لفظيا بين معنيين.
وأما ما ذكره السيد الإمام قده من الاشكال على التعبير بالاشتراك باللفظي بان الأمر بالمعنى الأول حيث كان مشتقا فتكون المادة السيالة اللابشرط عن الهيئات موضوعة للمعنى دون كلمة الأمر بمادتها وهيئتها بخلاف الأمر بالمعنى الثاني، فالتعبير بالاشتراك اللفظي غير متجه([29])، ففيه انه يكفي في الاشتراك اللفظي تحقق القرن الأكيد بين لفظ الأمر وبين معنيين وان كان القرن الأكيد بين احد المعنيين وهو الطلب وبين لفظ الأمر بما لها من المادّة السيالة اللابشرط عن الهيئات.
الجهة الثانية: تحديد معنى الطلب الذي هو المعنى الأول لمادّة الأمر
المراد من الطلب، إبراز الطلب
الجهة الثانية: المشهور ان المعنى الأول للأمر هو الطلب، والظاهر ان مرادهم كون معناه هو إبراز الطلب اذ لااشكال في عدم صدق الأمر على مجرد الطلب النفساني بالنسبة الى فعل الغير من دون ابرازه، نعم لافرق في ذلك بين ان يكون إبرازه بالقول او بأي مبرز آخر ولو بإشارة اليد.
كفاية صدق الأمر لمجرد ابراز الطلب ولو لميوجد أي طلب نفساني كما في الأوامر الامتحانية
هذا، وقد وقع الخلاف في أنه هل يكفي في صدق الأمر مجرد ابراز الطلب ولولميوجد هناك أي طلب نفساني كما في الأوامر الامتحانية التي لايتعلق غرض المولى بصدور الفعل من المكلف خارجا وانما يكون غرضه حركة المكلف نحو الفعل حتى يستشكف انه من اهل الطاعة ام لا، ام يعتبر مضافا الى الإبراز وجود الطلب النفساني، فاختار صاحب الكفاية قده كفاية الطلب الإنشائي، بينما ان المحقق العراقي قده اختار عدم كفايته وادعى انه لايوجد في موارد الامتحان الا صورة الأمر([30])، ولايبعد تمامية كلام صاحب الكفاية لصدق الأمر على الأوامر الامتحانية عرفا.
نعم لايصدق الأمر على استعمال صيغة الأمر بغير داعي البعث الجدّي او الامتحاني كما لو كان بداعي التهديد او التمني او الترجي ونحو ذلك.
المختار: ان معنى الأمر هو البعث بداعي التحريك لا الطلب
والأنسب ان يقال بان معنى الأمر هو البعث بداعي التحريك، وليس معناه الطلب، حيث ان الطلب بمعنى التصدي والسعي نحو ايجاد الفعل خارجا، فاذا صدر من المولى خطاب الأمر مستعملا اياه في معناه، فحينئذ يكون ذلك مصداقا للطلب والسعي نحو اتيان العبد بالفعل.
هذا ومن جهة أخرى قد يقال ان كلمة الأمر وان كانت بمعنى الطلب في اللغة، لكنها صارت في مصطلح علماء الاصول بمعنى القول المخصوص اي صيغة إفعل وما أشبهها.
واورد عليه صاحب الكفاية بانها على هذا التقدير تصبح من الجوامد لأنها صارت إسما لصيغة معينة فلاتدل على معنى حدثي حتى تصلح للاشتقاق والتصريف، مع ان من الواضح اشتقاق المشتقات منها بما لها من المعنى المصطلح عندهم، نعم يمكن ان يكون المراد ان معنى كلمة الأمر هو الطلب بالقول المخصوص (او فقل إيجاد القول المخصوص) وحينئذ يكون معنى حدثيا يصلح للاشتقاق.
ويمكن ان يجاب عن اشكال صاحب الكفاية بانه يحتمل ان يكون الاشتقاق من مادة الأمر بمعناها اللغوي دون معناها المصطلح، نظير لفظ الفعل فانه في مصطلح علماء الأدب اسم لما يدل على الحدث المقترن بأحد الأزمنة، ولكن لفظ الفعل يكون بمعناه اللغوي مبدأ للاشتقاق فيقال فعل يفعل فاعل مفعول.
والصحيح ان يقال ان ما ادعي من اصطلاح علماء الاصول غير ثابت في حدّ ذاته، وعلى تقدير ثبوته فلعله يختص بكلمة الأوامر، حيث انها هي المعنونة في كلمات الاصحاب فان عنوان البحث في كتبهم هو البحث عن الأوامر، وحينئذ فقد يقال بان الأوامر ليس جمعا للأمر وانما هو جمع “الآمرة”، اذ لميعهد جمع المصدر على الفواعل، والمراد من الآمرة هو الصيغة الآمرة واما الاشتقاق فيكون من مادة الأمر، ولكن قد مرّ منا النقاش في ذلك.
على انه كما أفاد صاحب الكفاية لامشاحّة في الاصطلاح، بل المتبع هو الظهور العرفي ولاريب في ان الظاهر عرفا من كلمة الأمر هو إنشاء البعث بداعي التحريك بأيّة آلة كانت، ولو بمثل إشارة اليد.
قولان آخران فی معنی الوضعی لمادة الأمر
ثم انه يوجد في قبال قول المشهور من وضع مادة الأمر للطلب قولان آخران:
السيد الخوئي قده: الطلب هو إبراز اعتبار الفعل على ذمّة المكلف
احدهما: ما ذكره السيد الخوئي قده من انه ليس معنى الأمر هو الطلب وانما هو إبراز اعتبار الفعل على ذمّة المكلف، نعم بعد ما أبرز المولى اعتبار الفعل على ذمة المكلف فيصدق ان المولى طلب الفعل منه، ولكنه لايعني كون المستعمل فيه هو الطلب([31]) وقد ذكر نظير ذلك في معنى صيغة الأمر ايضا([32]).
مناقشة
وفيه: أنه حتى ولو تمّ مبناه في حقيقة الحكم التكليفي -من ان الحكم التكليفي في الواجبات والمستحبات عبارة عن اعتبار الفعل على ذمة المكلف، فان رخّص المولى في تركه ووصل الى المكلف فيحكم العقل باستحباب الفعل والا فيحكم العقل بوجوبه، كما انه في المحرمات والمكروهات عبارة عن اعتبار حرمان المكلف من الفعل، فان وصل الى المكلف ان المولى رخصه في ارتكابه فيحكم العقل بكونه مكروها والا فيحكم بحرمته- فمع ذلك لايصح ان يجعل هذا المبنى مفسرا للمعنى الاستعمالي لمادة الأمر او صيغة الأمر، اذ لاملزم لتطابق المراد الاستعمالي لخطاب الحكم مع حقيقته الثبوتية، ولذا قد يُنشأ الأمر بكلمة الطلب والبعث فيقال: أطلب منك كذا او أبعثك نحو كذا، فليكن معنى الأمر مثله.
بعض الأعلام دام ظله: الطلب بمعنى التحريك
ثانيهما: ما ذكره بعض السادة الأعلام دام ظله على ما حكي عنه من ان الأمر ليس بمعنى الطلب او إبرازه، وانما هو بمعنى التحريك، سواء كان بالقول او الفعل، فليس الأمر مرادفا في الفارسية لكلمة “فرمان دادن” وانما هو مرادف لكلمة “وادار كردن”([33])، ويشهد على ذلك موارد استعمال كلمة الأمر فقد قال تعالى: “ومن يتبع خطوات الشيطان فانه يأمر بالفحشاء([34])” ومن الواضح ان ما يصدر من الشيطان انما هو الإغراء والتحريك، وهكذا قوله تعالى: “ان النفس لأمّارة بالسوء([35])” فان ما يصدر من النفس هو التزيين والتسويل، وكذا قوله تعالى: “قل بئسما يأمركم به إيمانكم ان كنتم مؤمنين([36])” والمراد به هو كون إيمانهم باعثا ومشوِّقا، وكذا قوله تعالى: “أصلوتك تأمرك ان نترك ما يعبد آباؤنا([37])“.
وفي لسان العرب: وربرب خماص يأمرن باقتناص، والمراد من أمرهن بتوجه الرجال اليهن هو تشويقهن لهم بذلك كما ذكره في لسان العرب، ولأجل ان معنى الأمر هو الحث والتحريك فيطلق كلمة الائتمار على الاستشارة كما في قوله تعالى: “ان الملأ يأتمرون بك ليقتلوك([38])“.
ومما يشهد على ذلك أيضا ما ذكره صاحب الجواهر: ان من أعظم أفراد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وأعلاها وأتقنها وأشدها تأثيرا خصوصا بالنسبة إلى رؤساء الدين أن يلبس رداء المعروف واجبه ومندوبه، وينزع رداء المنكر محرمه ومكروهه، ويستكمل نفسه بالأخلاق الكريمة وينزهها عن الأخلاق الذميمة، فإن ذلك منه سبب تام لفعل الناس المعروف، ونزعهم المنكر وخصوصا إذا أكمل ذلك بالمواعظ الحسنة المرغبة والمرهبة، فإن لكل مقام مقالا، ولكل داء دواء، وطب النفوس والعقول أشد من طب الأبدان بمراتب كثيرة وحينئذ يكون قد جاء بأعلى أفراد الأمر بالمعروف،([39]) فترى انه اطلق عنوان الأمر بالمعروف على العمل بالمعروف حيث يكون موجبا لحثّ الآخرين وترغيبهم الى المعروف.
مناقشة
ويلاحظ عليه: ان الإنصاف عدم صدق عنوان الأمر عرفا الا على ما يتضمن إنشاء بعث الغير نحو الفعل بداعي تحريكه اليه، ولايصدق على كل ما يحثّ الغير نحو فعل، والشاهد على ذلك انه لايقال ان ورع فلان أمرني بأن أكون مثله، بينما يقال ان ورع فلان يحثّني ان أكون مثله، وكذا لايقال ان الاعتقاد بالله يأمرني بالاجتناب عن المعصية، او ان حلاوة هذا الطعام أمرتني بأكله، وما ورد من الاستعمالات مما يوهم خلاف ذلك فمبني على التجوّز والمسامحة، فكلمة الأمر إما مرادفة لكلمة “خواستن” او لكلمة “دستور وفرمان” على ما نتكلم عنه في الجهة الثالثة.