فهرست مطالب

فهرست مطالب

تقریرات دروس خارج مدرسه فقهی امام محمد باقر علیه السلام

 

 

دوران الامر بین المتباینین.. 1

منجزية العلم الاجمالي بالنسبة الى موافقته القطعية. 1

القول الاول: جواز المخالفة الاحتمالية للتكليف المعلوم بالاجمال بمقتضى البراءة العقلية. 1

مناقشات.. 2

کلام البحوث.. 2

القول الثاني: المحقق النائيني “قده”.. 3

القول الثالث: العلم الاجمالي علة تامة لوجوب موافقته القطعية. 3

الوجه الاول: ما ذكره المحقق الاصفهاني “قده” من أن للحكم التكليفي فعلية من قبل المولى وفعلية مطلقة. 4

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق العراقي “قده” من أن معنى مسلك الاقتضاء كون قاعدة الاشتغال قاعدة اقتضائية. 5

المنع من التمسك بادلة الاصول الترخيصية لاثبات الترخيص التخييري.. 23

الصحيح تمامية مسلك الاقتضاء في منجزية العلم الاجمالي لوجوب موافقته القطعية عقلا وعقلاء 24

 

 

 

دوران الامر بین المتباینین

منجزية العلم الاجمالي بالنسبة الى موافقته القطعية

اختلف الاعلام في منجزية العلم الاجمالي بالنسبة الى موافقته القطعية على عدة اقوال:

القول الاول: جواز المخالفة الاحتمالية للتكليف المعلوم بالاجمال بمقتضى البراءة العقلية

ما يقال من أن العلم الاجمالي حيث لا يكون بيانا الا على الجامع، وهو ثبوت التكليف في احد الطرفين، وليس بيانا على خصوصية التكليف في هذا الطرف او ذاك الطرف، فيكون العقاب على مخالفة خصوصية التكليف في اي منهما عقابا بلا بيان، وهذا يعني عدم اقتضاء العلم الاجمالي لوجوب الموافقة القطعية، فتجوز المخالفة الاحتمالية للتكليف المعلوم بالاجمال بمقتضى البراءة العقلية عن الخصوصية المشكوكة في كل من الطرفين.

فيصح العقاب على مخالفة التكليف المعلوم ولو اجمالا، حيث يعلم المكلف أن التكليف المعلوم اجمالا متعلق واقعا بطرف معين منهما، فيصلح لتنجيزه.

مناقشات

وفيه اولا: ان موضوع حكم العقل بقبح العقاب بشهادة الوجدان ليس هو عدم البيان بمعنى تبين الواقع، وانما البيان بمعنى الحجة وهو ما يصح أن يحتج به المولى على العبد، اي المصحح للعقاب، ومن الواضح أن قبح العقاب مع عدم المصحح له يكون من القضية الضرورية بشرط المحمول، ويكون منتزعا عن احكام عقلية مختلفة ندركها بالوجدان، والوجدان يدرك حسن عقاب العبد الذي خالف التكليف المعلوم بالاجمال، اذا كان الاحتياط ميسورا عليه.

وثانيا: ان العلم الاجمالي وان لم يكن بيانا على خصوصية التكليف في كل طرف، وفرض عدم كونه منجزا عقلا لتلك الخصوصية، لكنه منجز عقلائي لها، ولذا يحتج العقلاء على العبد فيما اذا ارتكب احد طرفي العلم الاجمالي وصادف الحرام واقعا، فهو حجة عقلائية غير مردوعة، فيكون بيانا تعبديا كسائر الأمارات والاصول العقلائية.

کلام البحوث

هذا وقد ذكر في البحوث ما محصله أنه بناء على مسلك المشهور من قبح العقاب بلا بيان فيتم القول بعدم تنجيز العلم الاجمالي الا للجامع لعدم كونه بيانا الا عليه، وهذا يوجب التفصيل بين ما اذا لم يعلم المكلف بكون العنوان الجامع المعلوم بالاجمال واجبا شرعا بعنوانه، فلا تجب الموافقة القطعية عقلا، كما هو المتعارف في الشبهات الحكمية، مثل ما لو علم اجمالا بصدور احد الخبرين اللذين يدلّ احدهما على وجوب غسل الجمعة والآخر على وجوب الوفاء بالوعد، وبين ما لو علم بكون الجامع المعلوم بالاجمال واجبا شرعا بعنوانه، كما لو ورد في الخطاب “اكرم العالم” وعلم بأن زيدا عالم او عمرو، فحيث تم البيان على وجوب اكرام العالم المردد بين الفردين فلو اكتفى باكرام احدهما فيشك في فراغ ذمته من الواجب الذي دخل في عهدته فيحكم العقل بلزوم الاحتياط من باب قاعدة الاشتغال.

نعم بناء على المسلك المختار من مسلك حق الطاعة اي حكم العقل بلزوم الاحتياط في مورد الشك في تكليف المولى الحقيقي جل وعلا، ما لم يرخص الشارع في ترك الاحتياط، فبعد تعارض الاصول المؤمنة الشرعية فيجب الاحتياط بمقتضى حق الطاعة.

اقول: يرد عليه اولا: النقض بالعلم الاجمالي بالتكليف بين الموالي والعبيد العقلائية، فانه قد اعترف بثبوت البراءة العقلائية في مورد عدم البيان على التكليف بالنسبة اليهم، فلازم كلامه عدم وجوب الموافقة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال بين الموالي والعبيد العقلائية لاختصاص حق الطاعة به تعالى، وهذا خلاف الوجدان العقلائي، فانهم يرون وجوب الاحتياط بالموافقة القطعية خاصة فيما اذا كان الاحتياط سهلا على المكلف، وهذا يعني كون العلم الاجمالي حجة عقلائية بالنسبة الى التكليف الواقعي المعلوم بالاجمال، ان لم يكن حجة عقلية عليه.

و ثانيا: ان الصحيح هو أن العلم الاجمالي وان كان بيانا على الجامع فقط، ولكنه بالوجدان العقلي مصحح للعقاب على الفرد، وذلك لان الجامع هنا يختلف عن الجامع في الواجب التخييري، فان الواجب هناك ليس فردا معينا، ولكن الواجب في العلم الاجمالي فرد معين عند الله، فهذا يوجب تنجيز العلم الاجمالي للفرد، فان دليل قاعدة قبح العقاب بلا بيان، هو الوجدان الفطري، ولا يحكم الوجدان به في موارد العلم الاجمالي، ففي كل مورد يكون التكليف معرضا للوصول اجمالا او تفصيلا، فمخالفته موجبة لاستحقاق العقاب عقلا، لكن التكليف الذي لا يكون معرضا للوصول لا تفصيلا ولا اجمالا فيدرك العقل قبح العقاب عليه، وعلى تقدير النقاش فيما ذكرنا، فنقول ان العلم الاجمالي منجز عقلاءا، وهذه المنجزية العقلائية غير مردوعة فيكشف امضاء الشارع لها.

وثالثا: ان الظاهر في التكاليف الانحلالية أن الموضوع حيثية تعليلية لتعلق الحكم بالفرد الخارجي، فالعالمية في مثل “اكرم العالم” حيثية تعليلية لدخول اكرام الشخص في عهدة المكلف، فهو في قوة أن يقال “من كان عالما فأكرمه” ولذا يكون شاكّا في تكليفه بخصوصية اكرام زيد او عمرو، فلو كان هناك مانع عن جريان الاصل المؤمن عن وجوب اكرام واحد منهما بعينه كما لو حصل العلم الاجمالي بعد اكرامه فتجري البراءة عن وجوب اكرام الآخر بلا معارض دون قاعدة الاشتغال، فلا فرق بين هذا المثال وشبهه مع القسم الاول الذي ذكر أن العنوان المتعلق للتكليف غير معلوم، نعم في الواجب البدلي مثل “اكرم عالما” لا اشكال عقلا في عدم جواز الاكتفاء باكرام احد الشخصين مع الترديد في أن أيهما عالم، فان التكليف معلوم بحدّه ويتمحض الشك في امتثاله.

القول الثاني: المحقق النائيني “قده”

ما عليه جماعة منهم المحقق النائيني “قده” في نقل فوائد الاصول عنه([1]) والسيد الخوئي “قده” من كون العلم الاجمالي مقتضيا لوجوب موافقته القطعية بحيث لو لم يرد ترخيص شرعي في ارتكاب بعض اطرافه لحكم العقل بلزوم موافقته القطعية، وهو الصحيح الموافق للوجدان العقلي والعقلائي.

القول الثالث: العلم الاجمالي علة تامة لوجوب موافقته القطعية

ما عليه جماعة منهم المحقق الاصفهاني والمحقق العراقي “قدهما” من كون العلم الاجمالي علة تامة لوجوب موافقته القطعية، وعمدة ما ذكر لاثبات ذلك وجهان:

الوجه الاول: ما ذكره المحقق الاصفهاني “قده” من أن للحكم التكليفي فعلية من قبل المولى وفعلية مطلقة

ما ذكره المحقق الاصفهاني “قده” من أن للحكم التكليفي فعلية من قبل المولى وفعلية مطلقة، أما فعليته من قبل المولى فتتم بمجرد انشاءه، لكن تتم فعليته المطلقة بوصوله ولو اجمالا، وذلك لأن الحكم التكليفي حيث يكون انشاء البعث بداعي جعل ما يمكن ان يكون داعيا لزوميا للمكلف نحو الفعل، بحيث لو كان العبد منقادا لصار داعيا له بالفعل نحوه، وفعلية أي شيء هو ان يبلغ الى الغاية التي أُوجد لأجله، فاذا تحققت هذه العلة الغائية فيه يصير فعليا، ففعلية الحكم هو ان يبلغ حدّا يمكن أن يكون داعيا لزوميا نحو الفعل، ولاجل ذلك تتوقف فعلية الحكم على الوصول، فانه ما لم يصل الى المكلف فلا يحكم العقل بلزوم امتثاله فلا ينطبق عليه هذا الداعي.

فاذا وصل الى المكلف ولو اجمالا فيصير فعليا، فإن ملاك استحقاق العقاب على مخالفة التكليف هتك حرمة المولى، وهو منطبق على مخالفة الحكم المعلوم بالاجمال، فلا فرق بين العلم التفصيلي والاجمالي في التنجيز، ولا يعقل انفكاك هتك حرمة المولى عن كونه ظلما عليه، كما لا يعقل انفكاك الظلم عن كونه قبيحا اي موجبا لاستحقاق العقاب، ولذا يقال ان قبح الظلم ذاتي، وعليه فبعد أن لم يختلف العلم الإجمالي عن العلم التفصيلي في حقيقة انكشاف أمر المولى ونهيه فلا يعقل جعل الجهل التفصيلي بمتعلق الحكم المعلوم بالاجمال عذرا شرعا او عقلا، إلّا مع التصرف في التكليف المعلوم وهو خلف، لأن مرجعه إلى جعل العلم التفصيلي شرطا في بلوغ الإنشاء إلى‏ مرتبة الفعلية، نعم هذا أمر معقول في حد نفسه، بل يمكن ذلك في العلم التفصيلي أيضا، بأن يكون العلم التفصيلي الخاصّ كالعلم التفصيلي الحاصل من طريق النقل شرطا في بلوغ الحكم إلى مرتبة الفعلية، ولا ربط لهذا المعنى بتعليقية الحكم العقلي واقتضائيته([2]).

مناقشه

وفيه أنه لا وجه لما ذكره أخيرا (من أنه خلف الفرض أن يكون الداعي من الانشاء جعل ما يمكن أن يكون داعيا لزوميا على تقدير وصوله التفصيلي) فانه ليس هناك فرض مسبَّق، وما ذكره من أنه لا ربط له بتعليقية حكم العقل فجوابه أن المقصود من تعليقية حكم العقل بوجوب الموافقة القطعية هو أن وصول اذن المولى في ترك الموافقة القطعية رافع لكونه خروجا عن زي عبودية المولى وهتكا لحرمته، ومن الواضح أنه يرتفع قبحه بارتفاع موضوعه وهو كونه ظلما في حق المولى، نعم هذا الاذن من المولى في ترك الموافقة القطعية يكشف عن عدم كون غرض المولى كون الحكم المعلوم بالاجمال باعثا لزوميا للمكلف على أي تقدير، بل يكون غرضه باعثيته اللزومية على تقدير كون الحكم المعلوم بالاجمال في الطرف الذي لم يجر فيه الاصل.

ان قلت: بناء على ذلك فلا مانع من مخالفته القطعية، حيث يكون الغرض هو الباعثية اللزومية على تقديرٍ لا يعلم بتحققه وهو كون الحكم المعلوم بالاجمال في ذاك الطرف الذي لم يجر فيه الاصل فيجوز ارتكاب ذاك الطرف ايضا، ومن هنا ذكر صاحب الكفاية أنه لو تعلق العلم الاجمالي بالحكم الفعلي أي الحكم الذي لا يرضى المولى بخلافه- على أي تقديرٍ أي سواء كان في هذا الطرف او ذاك الطرف، فلا يمكن الترخيص في ارتكاب بعض اطرافه لإداءه الى احتمال اجتماع النقيضين، وهو تعلق الغرض اللزومي المولوي بالاجتناب عن هذا الطرف واقعا لو كان هو الحرام المعلوم بالاجمال، مع رضي المولى بارتكابه بمقتضى جريان الاصل بلامعارض، ولا ينقدح في ذهن العاقل احتمال اجتماع النقيضين، وان لم يتعلق العلم الاجمالي بحكم فعلي على أي تقدير بل على تقدير كونه في طرف معين فهذا العلم الاجمالي ليس بمنجز اصلا فتجوز مخالفته القطعية.

قلت: ان موضوع الحكم بلزوم الامتثال بنظر العقلاء هو العلم التفصيلي او الاجمالي بتكليف لا يرضى المولى بمخالفته في حد ذاته، وان احتمل رضاه بمخالفته لاجل الجهل، ولذا ترى أنه اذا علم برضى المولى بارتكاب احد طرفي العلم الاجمالي تخييرا -كما لو اضطر المكلف الى ارتكاب احد طرفي العلم الاجمالي لا بعينه- او علم برضى المولى بارتكاب احدهما المعين بمناط الجهل وجريان الاصل فيه بلا معارض، كما لو علم اجمالا بنجاسة ماء او ثوب فجرت قاعدة الحل في شرب الماء بلامعارض، فلا يعذره العقلاء في ارتكاب الطرف الآخر.

الوجه الثاني: ما ذكره المحقق العراقي “قده” من أن معنى مسلك الاقتضاء كون قاعدة الاشتغال قاعدة اقتضائية

ما ذكره المحقق العراقي “قده” من أن معنى مسلك الاقتضاء كون قاعدة الاشتغال قاعدة اقتضائية، أي يكون حكم العقل باقتضاء الاشتغال اليقيني للفراغ اليقيني قابلا لورود ترخيص شرعي في خلافه، بأن يرخص الشارع في ترك الفراغ اليقيني، وهذا مضافا الى كونه خلاف الوجدان الحاكم بان قبحه لا يرتفع بترخيص المولى يتوجه عليه نقضان: احدهما: أنه عند الشك في امتثال التكليف المعلوم بالتفصيل ايضا لابد أن يلتزم بكون البراءة عن بقاء التكليف واردة على حكم العقل بالاشتغال، وهذا مما لم يلتزم به اصحاب مسلك الاقتضاء ولا غيرهم، ثانيهما: أنه يلزم منه جريان الاصل الترخيصي في كل من طرفي العلم الاجمالي مشروطا بالاجتناب عن الطرف الآخر، فمثلا لو علم اجمالا بحرمة شرب احد الماءين فتجري أصالة الحل في شرب الماء الاول مشروطا بترك شرب الماء الثاني، وهكذا في شرب الماء الثاني مشروطا بترك شرب الماء الاول، لأن المحذور العقلي وهو الترخيص في المخالفة القطعية ينشأ من الاطلاق الاحوالي لقاعدة الحل في كل من الماءين، وأما الاطلاق الأفرادي لها في شمولها لهما ولو بنحو مشروط فلا محذور فيه بناء على القول بالاقتضاء ابدا، وحينئذ فلا وجه للحكم بسقوط اطلاقها الافرادي عن الحجية بعد عدم مانع عقلي عنه، نعم الاطلاق الاحوالي في كل منهما يتعارض مع الاطلاق الاحوالي في الآخر ويتساقطان، ولكن يبقى اطلاقها الافرادي فيهما بلا معارض، مع أنهم لم يلتزموا به.

وقد يورد عليه -كما في مصباح الاصول- بالنقض بموارد وقوع الترخيص في ترك احراز موافقة التكليف المعلوم بالتفصيل كما في مورد جريان قاعدة الفراغ والتجاوز او جريان استصحاب بقاء شرط الصحة كالوضوء.

ولكن المحقق العراقي “قده” كان ملتفتا الى ذلك وقد اجاب عنه بأن العقل حيث لا يحكم بأزيد من لزوم احراز الامتثال الحقيقي او التعبدي فيمكن للشارع التعبد بكون مشكوك الامتثال امتثالا، كما هو المستفاد من قوله في قاعدة التجاوز “بلى ركعت”، وهذا يختلف عن الترخيص في ترك احراز الامتثال، نعم لو دل دليل خاص على الترخيص في ترك احراز الامتثال في موردٍ، فصوناً لكلام الحكيم عن القبيح نستكشف بالالتزام التعبد الظاهري بكون ما أتى به المكلف امتثالا للتكليف المعلوم، ولكن لا يمكن استفادة ذلك من اطلاق ادلة الاصول الترخيصية، كأصالة البراءة والحل اذا جرت بالنسبة الى احد طرفي العلم الاجمالي بلا معارض، لأن شمول اطلاقه له موقوف على وصول جعل رعاية الطرف الآخر امتثالا تعبديا للتكليف المعلوم بالاجمال، والمفروض أن وصوله موقوف على شمول ذلك الاطلاق لذلك الطرف الذي يجري فيه الاصل، فيلزم منه الدور.

والظاهر أن مراده من اشكال الدور، أنه حيث يتوقف شمول اطلاق دليل الأصل الترخيصي لأحد طرفي العلم الاجمالي على وصول جعل رعاية الطرف الآخر بدلا ظاهريا لامتثال التكليف المعلوم بالاجمال، ويوجد قرينة لبية متصلة بالخطاب تدلّ على عدم جريان اطلاقه فيما اذا كان جعل الحكم قبيحا او لغوا، فلا يكاد ينطبق على المقام الا بعد ثبوت جعل البدل، والمفروض أن ثبوت جعل البدل لازم عقلي للاطلاق ولا يثبت الا بعد شمول الاطلاق، ولذا لا يحتج العقلاء بهذا الاطلاق على ثبوت لازمه العقلي فيما كانت صحة الاطلاق موقوفة عليه، نعم لو كان ما يتوقف عليه صحة الاطلاق لازما عرفيا له بحيث ينعقد ظهوره الالتزامي فيه فلا يرد عليه أيّ اشكال، نعم لو لم تكن هذه القرينة اللبية موجودة لم يكن أي مانع من التمسك باطلاق دليل الاصل الترخيصي في المقام، لأنه لا يلزم في صحة هذا الاطلاق أكثر من وصول جعل البدل ولو في طول وصول الاطلاق.

والصحيح ان يقال في الجواب عن مدعى المحقق العراقي بأن الوجدان اصدق شاهد على أن اختلاف صياغات وأشكال الحكم الظاهري من ادعاء تحقق الامتثال كقوله “بلى قد ركعت” او الغاء الشك كما قد يستفاد من قوله “اذا خرجت من شيء ودخلت في غيره فشككت فشكك ليس بشيء” او نفي لزوم احراز الامتثال لا يوجب فرقا في حكم العقل بأنه لا يقبح حينئذ ترك احراز الامتثال، بعد وحدة روح تلك الاحكام الظاهرية، وهي عدم الاهتمام بالتكليف الواقعي بعد موافقته الاحتمالية، ونتيجته التأمين والتعذير عن احتمال مخالفته واقعا، فان قاعدة الاشتغال حكم عقلي او عقلائي راجع الى حق طاعة المولى، واذا اكتفى العبد بالموافقة الاحتمالية للتكليف المعلوم بالاجمال او التفصيل استنادا الى ترخيص المولى له في الاكتفاء بها فمن الواضح بشهادة الوجدان أنه لم يرتكب أي قبيح، ولم يخرج عن زيّ عبوديته ابدا، ولعمري هذا واضح جدا لمن تأمل فيه.

فتحصل من جميع ما ذكرناه تمامية مسلك الاقتضاء في منجزية العلم الاجمالي لوجوب موافقته القطعية عقلا وعقلاءا، بينما أن منجزيته لحرمة المخالفة القطعية كانت بنحو العلية عند العقلاء، لكونه نقضا للغرض من التكليف المعلوم بالاجمال عقلاءا، وان لم يمتنع ذلك عقلاً كما سبق بيانه، ولذا تنصرف عمومات الاصول المرخصة عن الشمول لكلا طرفي العلم الاجمالي في الشبهة المحصورة التي تكون اطرافها داخلا تحت ابتلاء المكلف، وأما بالنسبة الى وجوب الموافقة القطعية للعلم الاجمالي فنلتزم بأنه يكون موقوفا على عدم جريان الاصل بلا معارض في بعض اطراف العلم الاجمالي.

نعم اذا تعلق العلم التفصيلي بتعلق التكليف بعنوانٍ، كما لو قال المولى لعبده “أكرم عالما” وعلم العبد اجمالا بأن زيدا عالم او عمرو، فان وجوب الاحتياط باكرامهما معا بمقتضى قاعدة الاشتغال يكون بنحو العلية في ارتكاز العقلاء، لكون التكليف فيه معلوما، وانما يتمحض الشكّ في امتثاله، والشاهد على ما ذكرناه أنه لو اكرم العبد زيدا ثم علم بأن المولى طلب منه أن يكرم عالما فلابد من ضم اكرام عمرو اليه، لأنه لا مجال فيه للبراءة عن وجوب اكرام عمرو بعد أن كان الواجب هو جامع اكرام عالمٍ على نحو صرف الوجود فلا يكون الحكم انحلاليا، وأما البراءة عن بقاء وجوب اكرام عالم فحتى لو وصلت النوبة اليه بأن لم يجر استصحاب بقاء الوجوب فيكون جريانها خلاف المرتكز العقلائي كما سيأتي توضيحه عند الجواب عن النقض الاول المذكور في كلام المحقق العراقي “قده”، وأما لو اكرم زيدا ثم علم اجمالا بأن المولى إما امره باكرام زيد او اكرام عمرو فتجري البراءة عن وجوب اكرام عمرو بلا معارض، لخروج وجوب اكرام زيد عن محل الابتلاء بالاتيان به قبل حصول العلم الاجمالي فلا اثر لجريان البراءة عنه.

ثم انه يقع الكلام حول النقضين اللذين اوردهما المحقق العراقي على مسلك الاقتضاء:

النقض الاول للمحقق العراقي “قده” على مسلك الاقتضاء

أما النقض الاول وهو جريان البراءة عن بقاء التكليف عند الشك في امتثال التكليف المعلوم بالتفصيل، فانما يرد فيما لم يجر استصحاب عدم الامتثال، والا فيكون مقدَّما على البراءة عن بقاء التكليف، ويمكن أن يمثل له بما اذا صلى رجاء مع توارد حالتي الطهارة والحدث حيث يقال بأنه لا مجال لجريان استصحاب عدم الصلاة مع الطهارة لأن متعلق التكليف اخذ مركبا من الصلاة وكون المكلف مع الطهارة، وحيث ان وجود الصلاة معلوم فلا مجال فيه للاستصحاب، وأما المشكوك وهو وجود الطهارة فهو مما تعارض استصحابه مع استصحاب بقاء الحدث، فتصل النوبة الى الاصل الحكمي وهو البراءة عن بقاء التكليف، فتكون واردة على قاعدة الاشتغال.

ولكنه يجاب عنه بعدة اجوبة:

الجواب الاول:

ان الواجب الضمني في الشرط حيث يكون هو تقيد الواجب به لا نفس الشرط والا لانقلب الشرط جزءا فيمكن استصحاب عدم المقيد وهو الصلاة مع الوضوء، ومع غمض العين عنه فيجري استصحاب بقاء الامر بالصلاة بناء على ما هو الصحيح من جريان الاستصحاب في الحكم الجزئي عند الشك في بقاء موضوعه، نعم يمكن تبديل المثال الى مثال آخر، لا يجري فيه الاصل الموضوعي جزما، وهو ما لو قال المولى لعبده “يجب عليك في هذا اليوم أن تكون متطهرا ساعة، وتوارد عليه حالتا الطهارة والحدث، فانه لا يوجد اصل بلا معارض ينفي الامتثال، نعم يجري استصحاب بقاء التكليف، اللهم الا أن يكون المقصود من النقض التنبيه على مخالفة مسلك الاقتضاء للوجدان، حيث ان لازمه أنه لو فرض عدم جريان الاستصحاب الموضوعي او الحكمي المحرز لبقاء التكليف فتجري البراءة عن بقاء التكليف، وهذا خلاف وجدانية جريان قاعدة الاشتغال فيه.

الجواب الثاني:

ما ذكره في البحوث، ومحصله أن الرجوع الى البراءة عن بقاء التكليف مبني على مسلك المشهور من كون الامتثال مسقطا للتكليف، فيكون الشك في الامتثال شكا في بقاء التكليف، ولكن المسلك الصحيح هو عدم كون الامتثال مسقطا للتكليف وانما يكون مسقطا لفاعليته ومحركيته، فانه يستحيل كون الامتثال مسقطا للتكليف، لان حقيقة التكليف هو حب الفعل، والمحبوب لا يخرج بتحققه عن المحبوبية، نعم تسقط فاعلية الحب ومحركيته نحو تحصيل المحبوب بعد تحققه([3]).

وقد يورد عليه بأنه يكفي كون الامتثال مسقطا لفاعلية التكليف في جريان البراءة عن بقاء فاعلية التكليف عند الشك في تحقق الامتثال، ولكن يمكن دفع هذا الايراد بأن المراد من فاعلية التكليف ليس هو هيجان نفس المولى نحو اتيان المكلف بالفعل، وانما هو كونه موضوعا لحكم العقل بحسن الامتثال، وحكم العقل ثابت في مورد الشك في الامتثال ايضا.

وكيف كان فالايراد على هذا الجواب هو أنه قد مر في محله أن الحبّ ليس روح التكليف، بل روحه الطلب النفساني، ولو سلّمنا أن روح التكليف يشتمل على الحبّ، لكنه كما اعترف به في بحث الواجب المشروط من البحوث ليس تمام روح التكليف، وانما هو الحبّ والشوق الى الفعل بالمقدار الذي سجّله المولى في ذمّة العبد وطالبه به([4])، وعندئذ فلا يبعد ان يقال انه يلغو بقاء الطلب النفساني او فقل تسجيل الفعل على ذمة العبد ومطالبة المولى به بعد حصول متعلقه، وكذلك الوجوب ايضا يكون مغيّى ولو ارتكازا بعدم حصول المتعلق.

وما قد يقال من أن بقاء الوجوب حيث كان باطلاق الخطاب فلا مؤونة فيه عرفا، فغير صحيح، اذ البعث لابد ان يكون بداعي التحريك فيقيد ارتكازا بعدم حصول متعلقه، فهو نظير العزم على الإتيان بفعل حيث انه لا بقاء له بعد تحقق الفعل، والشاهد على ذلك انه لو سئل المولى عن بقاء بعثه نحو الفعل بعد حصول الامتثال من العبد او سئل المكلف عن بقاء عزمه الى الفعل بعد حصوله لأنكرا بقائهما.

وهكذا انشاء الامر يكون مغيى بعدم تحقق الامتثال، فان المعنى الانشائي الذي يوجد بصيغة الأمر بداعي تحريك المكلف نحو الفعل هو البعث الذي ينتهي امده بايجاد الفعل.

الجواب الثالث:

ان الشك في الامتثال حيث يكون موردا لقاعدة الاشتغال التي هي مضافا الى أنها قاعدة عقلية مترسخة في اذهان العقلاء بحد يرون أن المورد ليس من موارد الشك في التكليف، فيكون الشك فيه متمحضا عرفا في امتثال التكليف المعلوم، وان رجع ذلك بالدقة الى الشك في بقاء التكليف، وهذا المقدار كافٍ في انصراف مثل قوله “رفع ما لايعلمون” عنه، ولعل هذا هو المقصود مما في البحوث من أن البراءة عن بقاء التكليف لايؤمِّن عن حدوثه المعلوم وجدانا والذي يشك في امتثاله، والا فما هو المنجز عقلاً في كل آنٍ، ثبوت التكليف في ذلك الآن، لا قبله.

ثم انه بما ذكرناه تبين الاشكال في التزام شيخنا الاستاذ “قده” بورود أصالة البراءة عن بقاء التكليف على قاعدة الاشتغال ان وصلت النوبة الى أصالة البراءة، ولكن ذكر انه في خصوص الصلاة قد استفيد من صحيحة زرارة والفضيل لزوم اعادتها في فرض الشك في داخل الوقت، حيث ورد فيها “متى استيقنت او شككت في وقت فريضة أنك لم تصلها او في وقت فوتها أنك لم تصلها صليتها([5])“، فتمنع من جريان أصالة البراءة عن بقاء التكليف بالصلاة.

ولا يخفى أن مورد الصحيحة الشك في اصل وجود الاتيان بالصلاة، وهو مجرى لاستصحاب عدم الاتيان، ولا تشمل الشكّ في الصحة فلا تبقى خصوصية للصلاة.

وكيف كان فتحصل مما ذكرناه عدم تمامية النقض الاول على مسلك الاقتضاء.

النقض الثاني للمحقق العراقي “قده” على مسلك الاقتضاء

أما النقض الثاني وهو أن لازم مسلك الاقتضاء جريان دليل الاصل الترخيصي لاثبات الترخيص التخييري في ارتكاب احد طرفي العلم الاجمالي، فله تقريبان:

التقريب الاول:

أن يقال بأننا حيث لا نعلم بأكثر من خروج احد طرفي العلم الاجمالي عن عموم دليل أصالة الحل مثلا، فكأن الخطاب الوارد هو هكذا “كل شيء لك حلال الا احدهما” فلا مانع من التمسك بعمومه بالنسبة الى احدهما الآخر، وحيث ان المعلوم خروج احدهما لا على سبيل التعيين، فيكون احدهما الآخر كذلك فتكون نتيجته أن احدهما لا بعينه حلال للمكلف، ويكون مقتضاه التخيير عقلا، وهذا نظير ما اذا قال المولى اكرم العلماء الا واحدا، فيكون الباقي تحت العموم ما عدا واحد، وهذا قابل للانطباق على كثيرين على سبيل البدل، وهذا ما ذكره المحقق الايرواني “قده”في استفادة الحجية التخييرية للخبرين المتعارضين من دليل حجية الخبر([6]).

وفيه: أن المدلول الالتزامي العرفي للخطاب الخاص الدال على أن احدهما حلال وان كان هو التخيير حيث يكون ظاهرا في أن احدهما الذي تختاره حلال، ولكنه يختلف عما اذا اريد استفادة حلية احدهما من الدليل العام لأصالة الحل، فان العرف لا يفهم منه الا حلية احدهما الذي له واقع معين، لا احدهما الذي يكون اختيار تطبيقه بيد المكلف، فالمستفاد من الخطاب العام هو العلم الاجمالي بحلية احدهما، ومن المعلوم أن العلم الاجمالي بالحلية لا يوجب شيئا على المكلف، ولكن هذا بخلاف المستفاد من الخطاب الخاص، فانه يدل بالدلالة الالتزامية على أن الذي يختاره المكلف حلال، وليس في الخطاب العام هذا المدلول الالتزامي

فيكون المقام نظير ما لو علم اجمالا ببطلان احدى الصلاتين كصلاة الظهر والعصر واحتمل بطلان الأخرى، حيث تجري قاعدة الفراغ في إحداهما لا بعينها كما سيأتي، ولكن لا يعني ذلك الحكم بصحة احداهما تخييرا، وانما يكون أثره كفاية إعادة صلاة واحدة بنية ما في الذمة، كأنه يعلم إجمالا بصحة احداهما، ولذا لو فرض هذا العلم الإجمالي في صلاة المغرب والعشاء لم‌ينفع جريان هذا النحو من قاعدة الفراغ، ولزم الاحتياط باعادتهما.

ونظير ذلك جريان اصالة العموم فيما لو علم اجمالا بتخصيص زيد العالم او عمرو العالم من وجوب اكرام كل عالم وشك في تخصيص الآخر، حيث يثبت به وجوب إكرام احدهما بنحو يكون فانيا عرفا في واقع معين، فيجب الاحتياط حينئذ بإكرام كليهما ولا يكون في قوة الأمر باكرام احدهما الذي يقبل الانطباق على أيّ منهما بحيث لو اكرم زيدا مثلا كفي في امتثال وجوب اكرام احدهما.

التقريب الثاني:

ما ذكره المحقق العراقي “قده” من تقييد الاطلاق الاحوالي في جريانه في كل طرف، فيكون الترخيص في كل منهما مشروطا بالاجتناب عن الآخر.

ويجاب عنه بعدة وجوه:

الوجه الاول:

ما حكاه السيد الخوئي عن المحقق النائيني “قدهما” من أن التقابل بين الإطلاق والتقييد حيث يكون من تقابل العدم والملكة، أي ان الاطلاق هو عدم التقييد في محل قابل للتقييد، فاستحالة التقييد تلازم استحالة الإطلاق، وبالعكس، وحيث ان إطلاق الترخيص الظاهري في طرفي العلم الاجمالي لحال ارتكاب الطرف الآخر ممتنع ثبوتا فيمتنع التقييد أيضا.

ثم اورد عليه السيد الخوئي “قده” بأن كون التقابل بين الاطلاق والتقييد من تقابل العدم والملكة لا يوجب أن يكون استحالة التقييد موجبا لاستحالة الاطلاق او يكون استحالة الإطلاق موجبا لاستحالة التقييد، ألا ترى ان استحالة الجهل في حقه تعالى لا تستلزم استحالة العلم له، بل تقتضي ضرورة العلم له تعالى، مع ان التقابل بين العلم والجهل من تقابل العدم والملكة، وكذا التقابل بين الفقر والغنى من تقابل العدم والملكة واستحالة الغنى للممكن لا يقتضى استحالة الفقر له، بل يقتضي ضرورة الفقر له وهكذا في بقية أمثلة الاعدام والملكات، فاستحالة الإطلاق يستلزم ضرورة التقييد، لما ذكرناه مرارا من ان الإهمال بحسب مقام الثبوت غير متصور، فلا مناص من الإطلاق أو التقييد([7]).

اقول: ما حكاه عن المحقق النائيني “قده” لايخلو عن غرابة، فان مبناه أن امتناع التقييد يوجب امتناع الاطلاق بعد أن كان التقابل بينهما تقابل العدم والملكة، فان امتناع الملكة ككون الجدار بصيرا يوجب امتناع صدق عدم الملكة، كعنوان الأعمى عليه، ومن الواضح أنه لا يعني استلزام امتناع الاطلاق لامتناع التقييد، فاستحالة اطلاق التكليف لفرض العجز لا تستلزم استحالة تقييده بفرض القدرة، على أن المستحيل هو اجتماع اطلاق الترخيص الظاهري في كل من طرفي العلم الاجمالي مع اطلاقه في الطرف الآخر، والا فثبوت الاطلاق في أي منهما غير مستحيل.

الوجه الثاني:

ما حكي عن السيد الخوئي “قده” من أن المعارضة بين الاصل الجاري في احد طرفي العلم الاجمالي مع الاصل الجاري في الطرف الآخر كما ترتفع بتقييد الاطلاق الأحوالي للخطاب في كل منهما فكذلك ترتفع بتقييد اطلاقه الأفرادي في احد الطرفين بأن لا يجري الاصل فيه رأسا ويجري في الطرف الآخر مطلقا، ولا مرجح للأول.

وفيه: أن هذا الكلام لا يأتي فيما لم يكن في أيّ من طرفي العلم الاجمالي مزية توجب احتمال اختصاص جريان الاصل به ثبوتا، كما في المائين المشتبهين اذا لم يكن احتمال نجاسة احدهما اقوى من الآخر، فانه لا يحتمل جريان الاصل المؤمن في احدهما المعين دون الآخر، وحينئذ فيعلم تفصيلا بسقوط الاطلاق الأحوالي فيهما، فيتمسك بالاطلاق الأفرادي لدليل الاصل في كلا الطرفين، والمفروض أنه لا معارضة بين الاطلاق الأفرادي لدليل الاصل بالنسبة الى الطرفين لامكان اجتماع الترخيص في كل منهما مشروطا بترك الآخر.

اللهم الا أن يكون مقصوده احتمال ترخيص الشارع في الشرب الاول من الاناءين المشتبهين، او ترخيصه في الشرب الثاني، فلا يتعين احتمال الترخيص في كل من الاناءين مشروطا بترك الآخر، ولكن يلاحظ عليه أن احتمال الترخيص في الشرب الثاني مع لزوم الاحتياط بالاجتناب عن الشرب الاول غير عرفي، وأما احتمال الترخيص في الشرب الاول، فله قدر مشترك مع الترخيص المشروط في كل منهما، كما هو واضح، حيث يجوز له قطعا شرب احدهما مع ترك شرب الآخر.

هذا كله اذا لم يحتمل مزية ثبوتية في أي من الطرفين، وأما اذا احتمل في كل من الطرفين مزية توجب اختصاص جريان الاصل المؤمن به ثبوتا، فيحتمل جريان الاصل الترخيصي في احد الطرفين دون الآخر ثبوتا، وهذا يؤدي الى المعارضة بين الاطلاق الاحوالي في كل منهما مع الاطلاق الافرادي في الآخر، لا بنكتة عقلية، بل بنكتة عرفية، توضيح ذلك أنه لا معارضة عقلا بين الاطلاق الاحوالي لدليل الاصل في احد طرفي العلم الاجمالي وبين الاطلاق الافرادي لذاك الدليل في الطرف الآخر، لامكان اجتماعهما، حيث يمكن للشارع ان يرخص في شرب الماء المشتبه الاول مثلا مطلقا ويرخص في شرب الماء المشتبه الثاني على تقدير عدم شرب الماء الاول، فانه لا يلزم من الجمع بينهما الترخيص في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال، لأنه بشربه للماء الاول ينتفي الترخيص في شرب الماء الثاني، فتنحصر المعارضة بين الاطلاقين الأحواليين ويتساقطتان، ولكن يبقى الاطلاق الأفرادي فيهما على الحجية لعدم كونه طرفا للمعارضة، وان كان رفع اليد عنه في احد الطرفين موجبا لرفع المعارضة لاستلزامه لسقوط الاطلاق الاحوالي فيه ايضا بالتبع، وبه يرتفع المعارضة، لكن الانصاف أن الجمع بين التعبد بالاصل الترخيصي في احد الطرفين مشروطا بعدم ارتكاب الآخر، والتعبد بالاصل الترخيصي في الطرف الآخر حتى مع ارتكاب الاول قبله او بعده امر غير عرفي ولا يحتمله العرف في المقام حتى يحمل الخطاب عليه، وانما ذلك متصور في تزاحم الاهم والمهم، فبذلك يحصل وثوق اجمالي بكذب احد الاطلاقين إما الاطلاق الاحوالي في الطرف الاول او الاطلاق الافرادي في الطرف الثاني، وهكذا العكس.

الوجه الثالث:

ما ذكره السيد الخوئي “قده” ايضا من أن تقيد الترخيص الظاهري في كل من طرفي العلم الاجمالي بترك الطرف الآخر لا يرفع قبح الترخيص في المعصية، حيث انه يكون من الترخيص القطعي في الحرام المعلوم بالاجمال، وهذا قبيح ولو كان مشروطا بترك الطرف الحلال([8]).

وفيه اولا: النقض بالتزامه بوقوع الترخيص الظاهري القطعي في ارتكاب الحرام المعلوم بالاجمال بشرط ترك الحلال في موارد استلزام الاحتياط للحرج([9]) ، وقد ذكر نظير ذلك في الاضطرار الى احد الاطراف لا بعينه، وصرح بأن دليل رفع الاضطرار انما يرفع وجوب الموافقة القطعية دون الحرمة الواقعية لعدم الاضطرار الى ارتكاب الحرام الواقعي([10])، ولا يجدي في رفع حكم العقل بقبحه كون منشأ الترخيص الظاهري هو رفع الحرج او الاضطرار، نعم لو كان مدعاه اباء ارتكاز العقلاء عنه امكن الفرق بينه وبين المقام مما يكون ملاك الترخيص هو التسهيل بمناط الجهل فقط.

وثانيا: انّا لا نحسّ بوجداننا أيّ قبح في ثبوت الترخيص القطعي في المخالفة الواقعية للتكليف المعلوم بالاجمال، فان المفروض أن واقع الترخيص فيها ليس قبيحا، ولذا التزمنا وفاقا له “قده” بامكان جريان الاصل بلا معارض في احد طرفي العلم الاجمالي ولو اتفق كونه هو الحرام المعلوم بالاجمال، ولا نحتمل بالوجدان ان يكون قطع المكلف بهذا الترخيص موجبا لقبحه بعد عدم أداءه الى الترخيص في المخالفة القطعية للعلم الاجمالي، وقد التزم المشهور بثبوت التخيير في موارد تعارض الخبرين او الفتويين ولو مع العلم الاجمالي بثبوت تكليف واقعي معين كما في القصر والتمام او صحة معاملة وفسادها، وانما لم يلتزم به مثل السيد الخوئي “قده” لا لأجل المناقشة في امكانه، وانما لأجل المناقشة في ادلة وقوعه شرعا.

وقد يستظهر من كلامه أنه يريد الاشكال بأنه اذا ترك كلا الطرفين فيتحقق شرط حلية كل منهما وبذلك تصبح حلية كليهما فعلية وهذا يعني الترخيص في المخالفة القطعية، وهو قبيح وان لم يؤدّ الى وقوع المخالفة القطعية، نظير ما ذكر في العلم الاجمالي بحرمة احد الضدين كالعلم الاجمالي بحرمة المكث في آن واحد إما في هذا المكان او ذاك المكان، حيث تتعارض البراءة عن حرمة كل منهما مع البراءة عن حرمة الآخر مع عدم تمكن المكلف من المخالفة القطعية، ثم يورد عليه أنه لايأتي هذا البيان فيما لو كان العلم الاجمالي ثلاثي الاطراف بأن علم اجمالا بحرمة اكرام زيد او اكرام عمرو او اكرام بكر حيث يمكن الترخيص في اكرام زيد مثلا مشروطا باكرام احد الآخرين وترك اكرام ثانيهما، وهكذا بالنسبة الى الترخيص في اكرام عمرو وبكر، فانه حتى لو ترك اكرام الجميع لم يتحقق شرط الحلية الظاهرية فيها([11])، وحينئذ فقد يقال بأنه حتى لو كان العلم الاجمالي ثنائي الاطراف يمكن تصوير اشتراط الحلية بنحو لا تصبح فعلية في الطرفين حتى في فرض تركهما، بأن يكون الترخيص في كل منهما مشروطا بارادة ارتكاب احدهما وترك ارتكاب الآخر.

ولكنه -مع غمض العين عن كون اشكال السيد الخوئي هو قبح الترخيص القطعي في المخالفة الواقعية للتكليف المعلوم بالاجمال- يرد عليه أنه لاحاجة الى هذا التكلف في الجواب، بل جوابه أن قيد الحلية قيد في متعلقها لبا، فالترخيص في شرب الماء الاول مشروطا بترك شرب الماء الآخر ترخيص في شرب الماء الاول المجرد عن شرب الماء الثاني، وهكذا الترخيص في شرب الماء الثاني مشروطا بترك شرب الماء الاول، ترخيص في شربه المجرد عن شرب الماء الاول، ومن الواضح أنه لا يكون ترخيصا في المخالفة القطعية حتى في ظرف ترك شرب كلا الماءين.

الوجه الرابع:

ما ذكره ايضا بقوله “و بعبارة أخرى انه يعتبر في الحكم الظاهري احتمال مطابقته للواقع، فلا يعقل جعله في ظرف القطع بمخالفته للواقع، والحكم بإباحة كل منهما مقيدا بترك الآخر غير مطابق للواقع، لأنا نعلم أن حرمة الحرام الواقعي غير مقيدة بترك المباح، كما ان إباحة المباح الواقعي غير مقيدة بترك الحرام قطعا([12]).

وفيه اولا: أن ترك الآخر شرط للتعبد بالحلية الظاهرية، كما أن الفحص في الشبهة البدوية الحكمية كشرب التتن المشكوك الحرمة شرط للتعبد بحليته، مع أن حكمه الواقعي غير مشروط بالفحص.

وثانيا: انه قد مر أنه لا دليل على لزوم احتمال مطابقة الحكم الظاهري للواقع، وانما يشترط فيه أن يكون الحكم الواقعي مشكوكا وأن يكون الحكم الظاهري صالحا لتنجيزه أو التعذير عنه، ولذا لا مانع من جعل الحلية الظاهرية المقابلة للوجوب والحرمة معا في مورد دوران الامر بين المحذورين، مع أنه لا يحتمل كون حكمه الواقعي الحلية، بل حكمه إما الوجوب او الحرمة، نعم ظاهر الحلية المستفادة من قاعدة الحل الحلية المقابلة للحرمة، فلا تنفي الوجوب.

الوجه الخامس:

ما في البحوث بتقريب منّا وهو أن الترخيص الظاهري في كل من طرفي العلم الاجمالي مشروطا بترك الطرف الآخر لا يتطابق مع روح الترخيص الظاهري التخييري، فان روحه هو رضى المولى بارتكاب احدهما لا بعينه، لا رضاه بارتكاب كل طرف مشروطا بعدم ارتكاب الطرف الآخر، لأن إتيان المكلف بالطرف الآخر وعدمه ليس له دخل في ملاك الحكم الظاهري، فانه حتى لو ارتكب المكلف كلا الطرفين، وانتفى شرط هذا الترخيصين في كل منهما، فهو مأذون في ارتكابه لأحدهما لا بعينه، وحينئذ يقال بأن تحويل الترخيص المشروط في كل من طرفي العلم الاجمالي الى الترخيص في احدهما لا بعينه يحتاج الى مؤونة زائدة لا يمكن استفادتها من الخطاب العام.

وفيه اولا: ان مجرد كون روح الترخيص التخييري هو رضى المولى بارتكاب احدهما لا بعينه لا يستلزم أن تكون صياغة الحكم الظاهري الذي هو المدلول المطابقي لخطاب الاصل مطابقة لتلك الروح، فغايته ان يعلم بكذب المدلول الالتزامي للخطاب، اي مماثلة روح الحكم الظاهري مع صياغته، ولكن هذا لا يمنع من الاخذ بالمدلول المطابقي وهو الاذن المشروط، فانه يمكن أن تكون صياغة الحكم الظاهري هو الترخيص في كل منهما مشروطا بترك الآخر.

وثانيا: أنه لو فرض كون صياغة الحكم الظاهري التخييري ثبوتا هو الترخيص في احدهما لا بعينه فمع ذلك لا يلزم عرفا أن يكون الخطاب الاثباتي مطابقا لها بالدقة، ولذا قد يكون خطاب الوجوب التخييري متضمنا للامر بكل من الفعلين على تقدير ترك الآخر، فيقول المولى “ان لم تطعم ستين مسكينا فصم ستين يوما”، مع ان حقيقة الوجوب التخييري وجوب احد الفعلين.

و يشهد على ما ذكرناه مثالان:

1- لو ورد في الخطاب “اكرم كل عالم” ثم علمنا أنه لا يجب اكرام زيد وعمرو معا، فيتمسك العرف بعموم هذا الخطاب لاثبات وجوب اكرام كل منهما على تقدير ترك اكرام الآخر، فيثبت الوجوب التخييري، وان كان المجعول حقيقة في الوجوب التخييري هو وجوب احدهما لا بعينه.

و قد رأيت أنه حكى عنه في مباحث الاصول أنه قبل جريان أصالة العموم في هذا المثال[13]، و ذكر أن قياس المقام به قياس مع الفارق، و لم نفهم وجهه، فان روح الوجوب التخييري ايضا هو ارادة المولى لأحد الفعلين.

و ما ذكره في بعض ابحاثه من أن حب الجامع يستلزم حب كل فرد على تقدير ترك سائر الافراد، فان من يحب شرب الماء، ووجد عنده ماءان مثلا فيحب شرب الماء الاول على تقدير عدم شربه للماء الثاني كما يحب شرب الماء الثاني على تقدير شربه للماء الاول، ولايقبل الوجدان أن يقال انه لايحب شرب هذا الماء اذا شربه ولاذاك الماء اذا شربه وانما يحب الجامع الذي هو غير هذا الماء او ذاك الماء.

فلو تم فلا يعني أن روح الوجوب التخييري يكون مطابقا مع الامر بكل فرد على تقدير ترك سائر الافراد، لأن الأمر بالجامع واحد و ليس في نفس المولى داع التحريك الا الى الجامع لا داعي التحريك الى كل فرد على تقدير ترك المكلف لسائر الافراد غايته تعدد الحب بعدد افراد الجامع.

مضافا الى أن ما ذكره خلاف الوجدان، حيث انه في مثال حب شرب الماء لو فرض حرمانه من شرب الماء فقد فات منه محبوب واحد فقط، بينما أن لازم مبناه أن يفوت منه محبوبات متعددة بعدد افراد الماء، لأن المفروض تركه لجميع افراد شرب الماء، فتحقق تقدير حبه لكل فرد، كما أنه لو تحقق فردان من الجامع دفعة واحدة فلازم ما ذكر عدم تعلق الحب بأي منهما لعدم تحقق شرطه، وهو ترك سائر افراد الجامع، وهذا لايجتمع مع ما ذكره من عدم قبول الوجدان دعوى عدم حبه لشرب الماء الذي شربه بعد حبّه لجامع شرب الماء.

2- لو علم بنجاسة احد ترابين اجمالا، وشك في نجاسة التراب الآخر فذكر في البحوث أنه لا مانع من التمسك بأصالة الطهارة في التراب الآخر، فلو كرر تيممه بكل منهما حكم بصحة تيممه، فانه وان لم يكن للتراب النجس المعلوم بالاجمال ولا التراب الآخر تعين واقعا، بحيث لو كان نجسين كان تطبيق المعلوم بالاجمال على احدهما المعين دون الآخر ترجيحا بلا مرجح، لكنه موضوع عرفي لظهور دليل أصالة الطهارة، وان كان تخريجه الثبوتي متعينا في تخريج عقلي لا يدل عليه مقام الاثبات ابدا، وهو الحكم الظاهري بطهارة كل منهما مشروطا بنجاسة الآخر([14]).

فترى ان روح الحكم الظاهري فيه جواز الاكتفاء بالتيمم بهما، ليست مطابقة مع صياغة الحكم الظاهري.

الوجه السادس:

ما في البحوث أيضا من أن أدلة الأصول الترخيصية قاصرة عن شمول كل طرف مشروطا بترك الآخر:

أما حديث “رفع ما لايعلمون” فظاهره فرض عدم العلم بالتكليف لا تفصيلا ولا اجمالا، فلا يشمل اطراف العلم الاجمالي بالتكليف.

وأما دليل الاستصحاب فقد يقال بأن المتفاهم منه كون نكتة الاستصحاب عدم انبغاء نقض اليقين الذي هو امر مبرم بالشك الذي هو امر غير مبرم، وليس لارتكاب الطرف الآخر او تركه أي تأثير في هذه النكتة بالنسبة الى عدم نقض اليقين بالشك في اطراف العلم الاجمالي ، فجريان الاستصحاب في كل طرفٍ مشروطا بترك الطرف الآخر غير مناسب عرفا مع تلك النكتة، وهذا بخلاف تقييد الاستصحاب بعدم قيام خبر الثقة على خلافه، فان له كاشفية اقوى من الاستصحاب.

وأما دليل قاعدة الحل فقد يقال: ان المعتبر منه سندا ودلالة صحيحة عبد الله بن سنان، “كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال” والمحتمل قوياً ان يكون مفادها الترخيص في الكل المشتمل على جزء حلال وجزء حرام، لا الترخيص في الكلي الذي في افراده حرام وحلال، وحينئذ فيكون استفادة الترخيص في كل جزء منه مشروطا بترك الجزء الآخر خلاف الظاهر، اذ لازم ذلك نظر صحيحة ابن سنان إلى كل جزء جزء، وهذه مؤونة زائدة لا تتكفلها الصحيحة التي لوحظ فيها الكل، لا كل جزء منه([15]).

اقول: يمكن المنع عما ذكر:

أما بالنسبة الى ما ذكر حول حديث الرفع فقد يقال بأن ارتكاب كلا طرفي العلم الاجمالي مخالفة للعلم عرفا، حيث انه من حيث المجموع ارتكاب لما يعلم أنه حرام، فينصرف عنه الحديث، وأما ارتكاب احدهما فليس مخالفة للعلم عرفا، حيث انه ارتكاب لما يحتمل أن يكون هو الحرام المعلوم بالاجمال، وحينئذ فلا نحتاج في اقتضاءه للترخيص في ارتكاب احدهما التخييري الى أي تصرف في ظهوره، بل يكون هذا مقتضى ظهوره الأولي، فلا نحتاج الى اثبات كون تقييد جريان الاصل الترخيصي في كل طرف بعدم ارتكاب الآخر جمعاً وحملاً مقبولا لدى العرف.

وأما بالنسبة الى ما ذكر حول الاستصحاب ففيه أنه لا مانع من اشتراط عدم نقض اليقين بالشك في كل طرف بعدم ارتكاب جميع اطراف التكليف المعلوم بالاجمال، فانه وان لم يكن دخيلا في نكتة كاشفية اليقين السابق وعدم انبغاء نقضه لكونه أمرا مبرما بالشك الذي هو غير مبرم، الا أن نكتة اشتراطه به كون المخالفة القطعية مانعا اقوى عن جريان الاستصحاب.

وأما بالنسبة الى ما ذكر حول قاعدة الحل ففيه اولاً: أنه وان كان الظاهر من صحيحة ابن سنان هو لحاظ طبيعة الجبن مثلا كأنه كلٌّ، والأجبان الموجودة في السوق كأجزاء لها، فان الظاهر من قوله “كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال” أن الضمير راجع الى الشيء الذي وصف بأن فيه حلالا وحراما، وظاهر الظرفية هو اشتمال الشيء بالفعل على الحلال والحرام، كما أنه هو الظاهر من قوله “تعرف الحرام منه بعينه” فانه يختلف عما يقال “حتى تعرف أنه حرام”، لكن لا مانع من أن يكون الترخيص فيها مقيدا بعدم ارتكاب جميعها، فيقال: حيث ان الجبن فيه حلال وحرام فيحلّ لك أكله، ما لم تأكل جميعه.

على أنه لا تنحصر المشكلة بالبراءة والاستصحاب وقاعدة الحل، بل تجري في جميع الاصول المؤمنة، كقاعدة اليد وقاعدة الطهارة، وأصالة تذكية اللحوم في سوق المسلمين وقاعدة الفراغ ونحو ذلك، فيقال بأن لازم مسلك الاقتضاء الالتزام بالتعبد الظاهري بملكيته لكل من المالين اللذين يعلم بغصبية احدهما بشرط اجتنابه عن المال الآخر، وطهارة كل من الاناءين المشتبهين بشرط اجتنابه عن الاناء الآخر، وتذكية كل من اللحمين المعلوم اجمالا كون احدهما ميتة بشرط الاجتناب عن اللحم الآخر، و صحة كل من الصلاتين المعلوم بطلان احداهما بشرط الاحتياط باعادة الأخرى، و هكذا، فاذا تم ذلك في هذه الاصول فنثبته في سائر الاصول لعدم احتمال الفرق.

الوجه السابع:

ما يقال من أن الترخيص القطعي في ارتكاب الحرام المعلوم بالاجمال خلاف الارتكاز العقلائي، حتى ولو كان مشروطا بترك الحلال، فان العرف يراه مناقضا للتكليف المعلوم بالاجمال ما لم يكن هناك نكتة خاصة، كالحرج او الاضطرار الموجب لترك الاحتياط، وهذا يوجب انصراف دليل الاصل عن مثله، وهذا كجريان البراءة عن حرمة كل من الضدين اللذين يعلم بحرمة احدهما اجمالا مع أنه لايتمكن من المخالفة القطعية بارتكابهما معا.

وفيه أنا لا نحسّ بوجداننا بكون الترخيص التخييري خلاف الارتكاز العقلائي، فانه يختلف عن جريان البراءة المطلقة عن كل من الضدين فان عدم تمكن المكلف من المخالفة القطعية فيهما لا يرفع المناقضة التصورية للبراءة المطلقة عن حرمة كلا الضدين مع الحرمة الواقعية المعلومة بالاجمال، و هذه المناقضة التصورية موجبة لانصراف دليل البراءة عنها.

الوجه الثامن:

ان عدم شمول خطاب الاصل الترخيصي لكلا طرفي العلم الاجمالي لما كان لاجل ارتكاز المناقضة مع التكليف الواقعي عقلاء فيكون ذلك بمثابة قرينة متصلة مانعة عن انعقاد ظهوره في شمولهما معا، فلا ينعقد له ظهور في ان المولى لاحظ فرض التعارض فرخصّ في كل منهما مشروطا بترك الآخر، لان ذلك بحاجة الى تدقيق لا يلتفت اليه المتكلم العرفي -و ليس الاطلاق بل العموم الا رفض القيود- ولا اقل من عدم احراز الظهور، فالعرف يرى انصراف خطاب الاصل عن اطراف العلم الاجمالي، فيما تحقق المقتضي لجريانه في كل منهما، وان تنزلنا وقبلنا انعقاد ظهوره في شمول طرفي العلم الاجمالي، وكان المانع بمثابة القرينة المنفصلة المانعة عن الحجية فقط دون الظهور، فمع ذلك فقد يدعى عدم احراز بناء العقلاء على العمل بمثل هذا الظهور الذي يوجد ظن نوعي عقلائي على خلافه.

ان قلت: ان هذا الوجه لا يتم في موردين:

احدهما: حديث الرفع، حيث مرّ امكان دعوى أنه لا يحتاج في دلالته على الترخيص في ارتكاب احد طرفي العلم الاجمالي الى أي تصرف في ظهوره، بل يكون هذا مقتضى ظهوره الأولي، حيث ان ارتكاب كلا طرفي العلم الاجمالي مخالفة للعلم عرفا، حيث انه من حيث المجموع ارتكاب لما يعلم أنه حرام، وأما ارتكاب احدهما فليس مخالفة للعلم عرفا، حيث انه ارتكاب لما يحتمل أن يكون هو الحرام المعلوم بالاجمال.

و ثانيهما: ما لو وجد في كل من الطرفين خطاب مختص، كما لو علم بنجاسة ماء او عدم تذكية سمك فالاول مجري قاعدة الطهارة، والثاني مجرى لخطاب التعبد بتذكية ما في سوق المسلمين، فانه قد يمنع من الانصراف فيه، حيث لا يلزم من جريان كل خطاب في حد نفسه في احد الطرفين أكثر من الترخيص في المخالفة الاحتمالية للعلم الاجمالي، فلا مانع من انعقاد ظهوره فيه، كما لا يوجد ما يمنع عن العمل بهذا الظهور الا بالمقدار الذي يستلزم الترخيص في المخالفة القطعية لا أكثر، ونحوه ما لو علم بعد اتيانه لصلاة الظهر أنه في هذا اليوم لم يأت بأكثر من اربع ركعات، فإما فاتت منه صلاة الصبح او أنه صلى الظهر ركعتين، والمفروض بقاء وقت صلاة الظهر، فان صلاة الصبح في حد نفسها مجري لقاعدة الحيلولة النافية لوجوب قضاءها، وصلاة الظهر مجرى لقاعدة الفراغ النافية لوجوب اعادتها.

قلت: أما بالنسبة الى مورد حديث الرفع فلا يتعين فيه ذلك المعنى الذي يطبَّق فيه حديث الرفع على عمل المكلف، بل يحتمل أن يكون مصداقه العرفي التكليف المجهول وحينئذ فإما أن يقال: بكون حديث الرفع شاملا في حد ذاته لكلا طرفي العلم الاجمالي، حيث ان التكليف في كل طرف مشكوك او فقل انطباق الحرام المعلوم بالاجمال عليه مشكوك، فيكون مصداقا لقوله “رفع ما لا يعلمون”، فلا فرق بينه وبين مثل “كل شيء لك حلال حتى تعلم انه حرام” ولذا لو كان احد طرفي العلم الاجمالي مجرى لمنجز تفصيلي كقاعدة الاشتغال جرت البراءة عن التكليف في الطرف الآخر، مع أن التكليف باحدهما معلوم وانما يشك في متعلقه، وعليه فيكون الجمع بين البراءة في كل من الطرفين مستلزما للترخيص في المخالفة القطعية، فيتعارضان.

او يقال: بانصراف حديث الرفع عن اطراف العلم الاجمالي رأسا – في فرض عدم قيام منجز تفصيلي في طرف معيَّن من اطرافه- لأن التكليف فيه معلوم عرفا، وان كان طرف التكليف مجهولا، فلا يشمله قوله “رفع ما لا يعلمون” والفرق بينه وبين “كل شيء لك حلال حتى تعلم انه حرام” أن موضوع الثاني هو الشيء المشكوك الحرمة، وكل طرف من أطراف العلم الاجمالي مصداق مستقل له، بينما أن موضوع الرفع في حديث الرفع هو الحكم المجهول، ويلحظ العرف الحكم المعلوم بالاجمال فيرى عدم كونه مصداقا له، والانصاف أنه لا دافع لهذا الاحتمال الأخير.

وأما بالنسبة الى المورد الثاني، وهو وجود خطاب مختص بكل من الطرفين، فيمكن الجواب عنه ايضا إما بأن ندعي أن وضوح ارتكازية حرمة المخالفة القطعية للعلم الاجمالي لدى العقلاء اوجب تشكل مدلول التزامي لخطاب الاصل الجاري في كل طرف في أن ما يجب فيه الاحتياط هو الطرف الآخر فيتعارض بالمناقضة مع خطاب الاصل النافي للزوم الاحتياط في الطرف الآخر، او يقال بأن المرتكز العقلائي يكون قرينة لبية متصلة او ما يصلح للقرينة لتقييد خطاب الاصل المؤمن الجاري في كل طرف بعدم كون الطرف الآخر مجرىً لاصل مؤمن في عرضه، او فقل جريان الاصل مشروط بأن لايكون في عرضه اصل مؤمن تم المقتضى لجريانه في الطرف الآخر، او يقال بأن الظهور بنحو العموم او الاطلاق حتى ولو انعقد على خلاف المرتكز العقلائي المستحكم فلا يكفي ذلك في الردع عن بناء العقلاء، حيث يحصل لهم الوثوق النوعي بعدم تعلق الارادة الجدية به، وهذا مانع عن حجية الظهور، ولا اقل من حصول الظن النوعي بالخلاف، فيقدح ذلك في حجية الظهور بناء على قادحية الظن النوعي بالخلاف في حجية الظهور.

وأما ما قد يقال من أن حجية هذا الظهور للخطابين حيث تكون مستلزمة للترخيص في المخالفة القطعية للتكليف المعلوم بالاجمال فتكون على خلاف المرتكز العقلائي، فلا يمكن اثبات حجيته بالسيرة العقلائية، كما هو واضح، ولا بالخطاب اللفظي على فرض وجود خطاب لفظي مطلق على حجية الظهور، لكون هذا الارتكاز بمثابة قرينة متصلة مانعة عن اطلاقه للمقام، ففيه أنه بعد فرض انعقاد ظهور الخطابين في كشف ترخيص الشارع لارتكاب اطراف العلم الاجمالي فليست حجيته في كشف مراد الشارع خلاف المرتكز العقلائي، وانما المنكشف بهذا الظهور من ترخيص الشارع هو المخالف لمرتكز العقلاء، فالمقام نظير قيام خبر الثقة على ردع الشارع عن مرتكز عقلائي، فانه لا يعني كون حجية هذا الخبر في كشف ردع الشارع خلاف المرتكز.

فالانصاف تمامية هذا الوجه فيما عدا صحيحة عبد الله بن سنان “كل شيء فيه حلال وحرام فهو لك حلال حتى تعرف الحرام منه بعينه”.

وأما بالنسبة الى صحيحة ابن سنان فقد مر أنها ظاهرة في الترخيص في ارتكاب الشبهة المقرونة بالعلم الاجمالي، وحينئذ فقد يخطر بالبال بعدم المنع من شمولها للشبهة المحصورة، غاية الأمر أنها قيِّدت بالمقيِّد العقلي او العقلائي بعدم ارتكاب جميع اطراف الشبهة، لكن الانصاف أن المرتكز العقلائي لما كان هو مناقضة الترخيص في المخالفة القطعية للعلم الاجمالي في الشبهة المحصورة مع التكليف المعلوم بالاجمال فيها فكان ذلك بمثابة ما يصلح للقرينة فأوجب اجمال صحيحة ابن سنان بالنسبة الى شمولها لاطراف الشبهة المحصورة، حيث يدور امرها بين تقيّدها بقيد يوجب اختصاصها بالشبهة غير المحصورة او الشبهة التي يكون بعض اطرافها خارجا عن محل الابتلاء، او تقيّدها بقيد اخفّ منه لا يمنع من شمولها للشبهة المحصورة، ولكن يكون الترخيص فيها مشروطا بعدم ارتكاب جميع الاطراف، وحيث ان المقيد لبي متصل فاجماله يوجب اجمال الخطاب.

الوجه التاسع:

قد دلت على وجوب الاجتناب عن جميع أطراف العلم الاجمالي موثقة سماعة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن رجل معه إناءان فيهما ماء وقع في أحدهما قذر، لا يدري أيهما هو وليس يقدر على ماء غيره قال يهريقهما جميعا ويتيمم([16])، ونحوها موثقة عمار([17])، وظاهر الامر بالاراقة عدم جواز الانتفاع بهما فيما يعتبر فيه الطهارة، فلا يجوز شرب أي منهما، ومن موردها الذي يكون طرفا العلم الاجمالي متشابها تلغى الخصوصية عرفا الى موارد لا يكون طرفا العلم الاجمالي متشابهين، نعم لا يمكن الغاء الخصوصية الى الشبهة غير المحصورة او الشبهة التي يكون بعض اطرافها خارجا عن محل الابتلاء، بل الشبهة المفهومية والمصداقية لهما، وهذه الموثقة وان لم تشمل مثل العلم الاجمالي في التدريجيات، لكن حيث ان المهم عندنا شبهة عموم صحيحة ابن سنان وعدم انصرافها عن الشبهة المحصورة التي تكون جميع اطرافها داخلة تحت الابتلاء، وموردها ايضا العلم الاجمالي الدفعي لا التدريجي، والترخيص في اطراف العلم الاجمالي التدريجي يكون مدلولا التزاميا له بنكتة الاولوية، ولكن بعد سقوط مدلولها المطابقي عن الحجية بسبب تخصيص الموثقة لها بغير الشبهة المحصورة، لا يبقى مجال للتمسك بمدلولها الالتزامي، بمقتضى تبعية الدلالة الالتزامية للمطابقية في الحجية.

وهذه الرواية هي عمدة ما في الباب، وأما بقية الروايات فلا تخلو دلالتها عن اشكال، ولنذكر تلك الروايات مع الاشارة الى اشكالها:

أما صحيحة صفوان بن يحيى أنه كتب إلى أبي الحسن (عليه السلام) يسأله عن الرجل معه ثوبان فأصاب أحدهما بول ولم يدر أيهما هو وحضرت الصلاة وخاف فوتها وليس عنده ماء كيف يصنع قال يصلي فيهما جميعا([18])، فقد يقال باحتمال الخصوصية في موردها، لاحتمال أن تكون نكتة وجوب الاحتياط فيه أنه بعد معارضة قاعدة الطهارة في الثوبين تصل النوبة الى قاعدة الاشتغال، لأن التكليف بالصلاة مع طهارة الثوب معلوم، ويكون الشك في امتثاله، هذا بناء على شرطية الطهارة، بل وقد يقال بذلك بناء على مانعية النجاسة بأن يكون التكليف بالصلاة مع عدم كون الثوب نجسا، حيث يقال بأن اشتغال الذمة بالتكليف بها معلوم ويكون الشك في الامتثال، وهذا وان كان قابلا للبحث والنقاش، حيث يقال بانحلال المانعية وجريان البراءة عن مانعية الصلاة في كل من هذين الثوبين في حد ذاتهما، لكن يكفي هذا المقدار في عدم امكان الغاء الخصوصية منه الى ما يكون الشك في التكليف كما لم يعلم بأن الواجب عليه صلاة القصر او التمام، او أنه يحرم عليه شرب هذا الماء او شرب ذاك الماء للعلم الاجمالي بنجاسة احدهما او غصبيته.

وكذا صحيحة محمد بن عيسى عن الرجل (عليه السلام) أنه سئل عن رجل نظر إلى راع نزا على شاة قال إن عرفها ذبحها وأحرقها وإن لم يعرفها قسمها نصفين أبدا حتى يقع السهم بها فتذبح وتحرق وقد نجت سائرها([19])، فانه يمكن أن يقال بعدم امكان الغاء الخصوصية عن موردها الى ما لا يحرز كونه مثله في الأهمية.

وكذا صحيحة زرارة “قلت له: إني قد علمت أنه قد أصابه ولم أدر أين هو فأغسله قال تغسل من ثوبك الناحية التي ترى أنه قد أصابها حتى تكون على يقين من طهارتك([20])، ونحوها موثقة سماعة قال: سألته عن بول الصبي يصيب الثوب فقال اغسله قلت فإن لم أجد مكانه قال اغسل الثوب كله([21])، فانه يمكن أن يكون الوجه فيهما استصحاب بقاء نجاسة الثوب ما لم يغسل جميع اطراف الثوب فيثبت بذلك بقاء مانعيته عن الصلاة.

وكذا صحيحة الحلبي قال سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول إذا اختلط الذكي والميتة باعه ممن يستحل الميتة وأكل ثمنه([22]) فان الظاهر خروجها عن مورد البحث، لأن الظاهر أن موردها ليس هو فرض كون اشتباه الذكي بالميتة، مما يجري في كل منهما في حد ذاته الاصل المثبت للتذكية كسوق المسلمين، بل موردها ما مات احدهما حتف انفه، واشتبه مع الذكي لدى الذابح او غيره مع عدم معاملة الذابح مع كليهما معاملة الذكي، ويشهد لما ذكرناه وجود صحيحة أخرى له -التي لا يبعد اتحادها مع الصحيحة الاولى- عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنه سئل عن رجل كان له غنم وبقر، وكان يدرك الذكي منها، فيعزله ويعزل الميتة، ثم إن الميتة‌ والذكي اختلطا كيف يصنع به، قال يبيعه ممن يستحل الميتة ويأكل ثمنه فإنه لا بأس([23])، ولا ريب أنه تجري في كل منهما أصالة عدم التذكية.

و هكذا صحيحة عَلِيِّ بْنِ أَسْبَاطٍ عَنْ غَيْرِ وَاحِدٍ مِنْ أَصْحَابِنَا عَنْ أَبِي عَبْدِ اللَّهِ (عليه السلام) قَالَ مَنْ نَسِيَ صَلَاةً مِنْ صَلَاةِ يَوْمِهِ وَاحِدَةً وَ لَمْ يَدْرِ أَيُّ صَلَاةٍ هِيَ صَلَّى رَكْعَتَيْنِ وَ ثَلَاثاً وَ أَرْبَعاً[24]، فان الغاء الخصوصية من موردها و هو الشبهة الوجوبية الى الشبهة التحريمية مشكل، و قد سمعت سابقا عن السيد اليزدي “قده” اختصاص جواز الارتكاب بالشبهة التحريمية دون الوجوبية، على أنه يحتمل الخصوصية في وجوب قضاء الفرائض اليومية، لاهميتها، خاصة و أنه على بعض المباني يكون الشك في وجوب قضاء الفريضة بعد سقوط قاعدة الحيلولة مجرى لقاعدة الاشتغال، لما ذكره السيد الحكيم “قده” من أنه يعلم من ثبوت وجوب القضاء في مثل الصلاة و الصيام تعدد المطلوب فيهما، بمعنى انه اذا دخل وقت الصلاة فيتعلق أمر بطبيعي الصلاة وامر باداءه في داخل الوقت([25])، كما يمكن اثبات الوجوب باستصحاب عدم الاتيان، و معه فيشكل التعدي الى غيرها.

المنع من التمسك بادلة الاصول الترخيصية لاثبات الترخيص التخييري

فتحصل مما ذكرناه المنع من التمسك بادلة الاصول الترخيصية لاثبات الترخيص التخييري، وبذلك تبين عدم تمامية أي من النقضين المذكورين في كلام المحقق العراقي “قده” على مسلك الاقتضاء، وقد يخطر بالبال ورود نقض على المحقق العراقي في ما ادعاه من أن لازم مسلك الاقتضاء جريان الاصل الترخيصي المشروط في كل من اطراف العلم الاجمالي، فنقول ان نزاعه مع أصحاب مسلك الاقتضاء في الاصل النافي للتكليف وأما الاصل المثبت للامتثال، كقاعدة الفراغ والتجاوز فقد مرّ منه أنه لا يتنافى مع حكم العقل بالاشتغال، اذ الامتثال في حكم العقل بأن الاشتغال اليقيني يقتضي الامتثال اليقيني اعم من الامتثال الحقيقي او التعبدي، ولذا يتعامل في كتابه في فروع العلم الاجمالي مع تلك الاصول معاملة مسلك الاقتضاء، فيعبِّر عن عدم جريان قاعدة الفراغ في صلاتين علم اجمالا ببطلان احداهما بمعارضة قاعدة الفراغ فيهما، كما لو كان اصل مصحح طولي في احداهما يرى جريانه بلا معارض، حيث ان وجه منعه من جريان الاصل الترخيصي بلا معارض في بعض اطراف العلم الاجمالي لزوم الدور، لتوقفه على وصول جعل البدل وهو موقوف ايضا على جريان الاصل، لأن جعل البدل لازم عقلي لجريانه، واين هذا من استفادة جعل البدل من مثل قاعدة الفراغ، فانه مدلول مطابقي لها، وحينئذ يورد عليه بأنه لماذا لم يلتزم بجريان قاعدة الفراغ في كل من الصلاتين بنحو مشروط أي مشروطا باعادة الصلاة الأخرى، فكلما كان جوابه في هذا المثال يكون جوابا عن نقضه على مسلك الاقتضاء في مورد الاصل الترخيصي، ولكن يمكن أن يقال انه بعد العلم الاجمالي ببطلان احدى الصلاتين فيعلم اجمالا بثبوت تكليف في البين باعادة احدى الصلاتين، فتجري قاعدة الاشتغال بالنسبة اليه، وليست قاعدة الفراغ في الصلاة الاولى مثلا تعبدا بالامتثال بالنسبة اليه، وانما منشأ التعبير بالمعارضة وقبول سلامة الاصل الطولي لو كان هو أنه ان جرى الاصل المصحح في احدى الصلاتين بلا معارض فهذا يعني جريان قاعدة الاشتغال في الصلاة الأخرى فينحل العلم الاجمالي لاجل قيام منجز تفصيلي في بعض اطرافه، فتدبر..

الصحيح تمامية مسلك الاقتضاء في منجزية العلم الاجمالي لوجوب موافقته القطعية عقلا وعقلاء

وكيف كان فالصحيح تمامية مسلك الاقتضاء في منجزية العلم الاجمالي لوجوب موافقته القطعية عقلا وعقلاء، بينما أن منجزيته لحرمة المخالفة القطعية كانت بنحو العلية عند العقلاء، لكونه نقضا للغرض من التكليف المعلوم بالاجمال عقلاء، وان لم يمتنع ذلك عقلاً كما سبق بيانه، ولذا تنصرف عمومات الاصول المرخصة عن الشمول لكلا طرفي العلم الاجمالي في الشبهة المحصورة التي تكون اطرافها داخلا تحت ابتلاء المكلف، وأما بالنسبة الى وجوب الموافقة القطعية للعلم الاجمالي فنلتزم بأنه يكون موقوفا على عدم جريان الاصل بلا معارض في بعض اطراف العلم الاجمالي، نعم اذا تعلق العلم التفصيلي بتعلق التكليف بعنوانٍ، كما لو قال المولى لعبده “أكرم عالما” وعلم العبد اجمالا بأن زيدا عالم او عمرو، فان وجوب الاحتياط باكرامهما معا بمقتضى قاعدة الاشتغال يكون بنحو العلية في ارتكاز العقلاء، لكون التكليف فيه معلوما، وانما يتمحض الشك في امتثاله، والشاهد على ما ذكرناه أنه لو اكرم العبد زيدا ثم علم بأن المولى طلب منه أن يكرم عالما فلابد من ضم اكرام عمرو اليه، لأنه لا مجال فيه للبراءة عن وجوب اكرام عمرو بعد أن كان الواجب هو جامع اكرام عالمٍ على نحو صرف الوجود فلا يكون الحكم انحلاليا، وأما لو اكرم زيدا ثم علم اجمالا بأن المولى إما امره باكرام زيد او اكرام عمرو فتجري البراءة عن وجوب اكرام عمرو بلا معارض، لخروج وجوب اكرام زيد عن محل الابتلاء بالاتيان به قبل حصول العلم الاجمالي فلا اثر لجريان البراءة عنه.

 



[1]– فوائد الاصول ج 4ص9

[2] – نهاية الدراية ج 3س92

[3]– بحوث في علم الاصول ج5 ص187

[4] – بحوث في علم الاصول ج2ص192

[5]– وسائل الشيعة ج4ص282

[6] – نهاية النهاية ج2ص247

[7] مصباح‏الأصول ج 2 ص 354

[8] – مصباح الاصول ج2ص355

[9] – مصباح الاصول ج2ص230

[10] – مصباح الاصول ج2ص389

[11] – بحوث في علم الاصول ج 5ص191

[12] – مصباح الاصول ج 2ص355

[13] – مباحث الاصول ج4ص83

[14] – بحوث في علم الاصول ج 3ص298

[15]– بحوث فى علم الاصول ج‏5 ص 194

[16] – وسائل الشيعة ج‌1 ص 151

[17] – وسائل الشيعة ج‌3 ص 345

[18] – وسائل الشيعة ج‌3 ص 505

[19] – وسائل الشيعة ج‌24 ص 169

[20]– وسائل الشيعة ج‌3 ص 402

[21] – وسائل الشيعة ج‌3 ص 402

[22] – وسائل الشيعةج‌17 ص 99

[23] – وسائل الشيعة ج‌17 ص 100‌

[24] – وسائل الشيعة ج 8ص276

[25] – مستمسك العروة الوثقى ج1ص67 مسألة 40