بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس: 9 الأستاذ: الشيخ محمد تقي الشهيدي =
المبحث: النواهي (في وجه اقتضاء النهي عن الطبيعة لترك جميع الأفراد) الدرس: الأصول (الدورة الرابعة)
التاريخ: الثلاثاء: 11/1/2022 (8/جمادي الثانية/ 1443)
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام علي سيّدنا محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
كان الكلام في النواهي الضمنيّة، كالنهي عن لبس أجزاء ما لا يؤكل لحمه في الصلاة، حيث ذكر المشهور ومنهم السيّد الخوئي قدس سره أنّه كما يكون ظاهرُ خطاب النهي الاستقلاليّ –كالنهي عن الكذب- هو الانحلال فيكون كلّ فردٍ من أفراد الكذب محرّماً، فكذلك أفراد النهي الضمنيّ عن شيء في الصلاة مثلاً هو أنّ كلّ فردٍ من أفراد ذلك الشيء يكون مانعاً عن الصلاة بنفسه. يعني ظاهر النهي الضمني أنّ كلّ فردٍ من أفراد الطبيعة المنهيّ عنها مشتملٌ على المفسدة والمانعيّة عن الصلاة.
ويُورد على هذا القول ثلاث إيرادات لا بدّ من الإجابة عنها:
الإيراد الأول: ما ذكره السيد الخميني قدس سره من أنّ خطاب النهي الاستقلالي وإن كان ظاهراً في الانحلال، فالنهي الاستقلالي ينحلّ إلى نواهيَ متعددة بعدد أفراد الطبيعة المنهيّ عنها لكن لا يُقاس به النهي الضمنيّ؛ فإنّ النهي الضمنيّ كالنهي عن لبس أجزاء ما لا يؤكل لحمه في الصلاة ظاهرٌ في الإرشاد إلى المانعية، والمتصّف بالمانعيّة هو أول وجود الطبيعة، فلو أنّ شخصاً لبس وبر ما لا يؤكل لحمه في الصلاة وبدأ بالصلاة ثمّ لبس وبراً ثانياً مما يؤكل لحمه، فما يتصف بالمانع هو الأول والالتزام بكون الثاني كونه مانعاً شرعياً وتقديرياً أي بحيث لو وجد أولاً كان هو المانع هذا خلاف ظاهر الأدلّة، فيكون النهيّ الضمنيّ ظاهراً في النهي عن صرف الوجود، أي ليس ظاهراً في الانحلال إلى مطلق الوجود.
ولكن، الجواب عن هذا الإيراد:
أنّ المراد من انحلاليّة المانعيّة هو ظهور خطاب النهي عن لُبس ما لايؤكل لحمه في الصلاة مثلاً هو كون الصلاة مشروطة بعدم لبس هذا الفرد ممّا لا يؤكل لحمه، ومشروطة بعدم لُبس ذلك الفرد ممّا لا يؤكل لحمه وهكذا.
بل ولو ورد في الخطاب مثلاً: أنّ لُبس ما لا يؤكل لحكمه مانع عن الصلاة، فظاهره أنّ كلّ فرد من أفراد لبس ما لا يؤكل لحمه مانعٌ عن الصلاة في حدّ ذاته، أي لو تمّ المقتضي لصحّت الصلاة فهذا يكون مانعاً عنه، كما يُقال: الدرعُ مانعٌ عن القتل، أي إن تمّ المقتضي للقتل بأن رمى شخصٌ الرصاص على أحدٍ فلبسه للدرع مانع عن أن يُقتل.
ونتيجة ذلك في المقام: أنّ من اضطر إلى فردٍ من أفراد لبس ما لا يؤكل لحمه لم يجز له أن لا يلبس سائر أفراده. ونكتة ظهور النهي الضمنيّ في الانحلال نفس نكتة ظهور النهي الاستقلاليّ في الانحلال، وهو أنّ ظاهر النهي هو قيام المفسدة بكل فردٍ من أفراد الطبيعة المنهيّ عنها. وهذا هو مقتضى المرتكز المتشرعيّ، فلو أنّ أحداً كانت يده نجسةً ولم يتمكن من تطهيرها فخلاف المرتكز المتشرعيّ أن يجوز تنجيس جسده كلّه.
الإيراد الثاني: للسيّد الخميني أيضاً،يقول: لو قبلنا الانحلال فلا بدّ أن نلحظ متعلّق النهي، لو كان النهي متعلّقاً بلبس ما لا يؤكل لحمه “لا تلبس ما لا يؤكل لحمه في الصلاة” لكنا نلتزم بانحلال النهيّ إلى أقسام ما لا يؤكل لحمه، ولكن الوارد في الأدلّة النهي عن الصلاة في ما لا يؤكل لحمه، فيكون الانحلال بلحاظ أفراد الصلاة، فكلّ صلاةٍ تكون متعلّقةً للنهي الضمني عن وقوعها في ما لا يؤكل لحمه.
الجواب عن هذا الإيراد الثاني:
إنّ ظاهر ما ورد من أنّ كلُّ ما حرم أكله فالصلاة فيه فاسد، هو الانحلال بلحاظ ما حرم أكله. كلُّ ما حرم أكله فالصلاة في وبره فاسد. ظاهر هذا الخطاب أنّ كل ما كان وبراً لما يحرم أكله فلا تجوز الصلاة فيه. هذا وبرُ ما يحرم أكله فالصلاة فيه فاسدة، ذاك وبر ما يحرم أكله فالصلاة فيها فاسدة أيضاً، وهكذا. هذا هو الخطاب، فكلّ جزء يكون من أجزاء ما لا يؤكل لحمه موضوع عرفيّ لخطاب لا تصلِّ فيه، وهذا هو المقصود من الانحلال.
الإيراد الثالث: -ما يخطر بالبال– من أنّه إنّما تجري البراءة في مورد الشك في التكليف لا في مورد الشك في الامتثال، فإذا قال المولى”جئني بماءٍ ليس بمالحٍ” وشككنا أنّ هذا الماء الذي نُريد أن نأخذه للمولى هل هو ماء مالح أم لا؟ فتارةً يجري الاستصحاب الموضوعي أنّ هذا الماء لم يكن مالحاً في زمان والآن كما كان، فذاك بحثٌ آخر. ولكن إذا لم يجرِ الاستصحاب الموضوعي، وأردنا أن نُجري البراءة فكيف نُجري البراءة؟ نحن نعلم بأنّ المولى طلب منّا الإتيان بماءٍ ليس بمالح، لو كان هذا الماء مالحاً لم يتحقق الامتثال للتكليف المعلوم بحدّه. وإذا لم يكن بمالح تحقق الامتثال، فيكون الشكّ في الامتثال، والشك في الامتثال مجرى لقاعدة الاشتغال، فيلزم الاحتياط. وأين هذا من موارد جريان البراءة عن الشك في التكليف؟
هذا الإيراد أيضاً قابل للجواب:
فإنّه تارةً يقول الشارع “صلّ مع عدم لُبس ما لا يؤكل لحمه”، فهنا يتمُّ الإشكال؛ لأننا لا نشكّ في المانعيّة بل نشكّ في وجود المانع. إذا لبسنا الفرو أو صوفاً لا ندري أنّه هل هو صوف صناعي أم صوف متخّذ من حيوان محرّم الأكل، فنشكّ في أنّه هل تحقق المانع؟ المانع هو لُبس ما لا يؤكل لحمه، هل تحقق المانع أم لا؟
فإذا جرى استصحاب عدم تحقق المانع فهو، وإلّا فلا نشكّ في مانعيّة شيء شرعاً حتى نجري البراءة عن مانعيته، وهكذا في مثال النجاسة. فلو قال الشارع: “صلّ مع عدم نجاسة الثوب” نعلم بمانعيّة نجاسة الثوب وإنّما نشكّ في تحقق المانع، هل تحققت نجاسة الثوب لتكون مانعةً؟ فالشكّ في وجود المانع وليس الشكّ في مانعيّة الموجود حتى تجري البراءة عن مانعيته. ومثال قوله جئني بماءٍ ليس بمالح من هذا القبيل؛ نعلم بأنّ مالحيّة الماء مانعةٌ وإنّما نشكّ في وجود المانع، وهذا يختلف عمّا لو قال الشارع “صلّ ولا يكن ثوبك ممّا يؤكل لحمه” “صلّ ولا يكن ثوبك نجسا”؛ فإنّ كون الثوب ممّا يؤكل لحمه عرفاً حيثيّة تعليليّة لعروض المانعيّة على هذا الثوب. “صلّ ولا يكن ثوبك ممّا يؤكل لحمه” يعني إن كان ثوبك مما لا يؤكل لحمه فلا تصلِّ في هذا الثوب، ثوبي هذا لا أدري هل هو ثوب متخذ من صوف حيواني محرّم الأكل أم من صوف صناعي أو صوف حيواني محرّم الأكل؟
فإذا كان ثوبي متخذاً من صوف حيواني محرّم الأكل، فيكون اتّخاذه من محرّم الأكل حيثيّة تعليليّة أي واسطة في الثبوت، واسطة في ثبوت المانعيّة لهذا الثوب، هذا الثوب مانع من الصلاة إذا كان متخذاً ممّا لا يؤكل لحمه. فإذا شككت في أنّ هذا الثوب متخذ من ماذا؟ فأشك ف مانعيّة هذا الثوب.
إذا كان هذا الثوب متّخذاً ممّا لا يؤكل لحمه فانبسط إليه النهي عن الصلاة في الثوب إذا كان ممّا لا يؤكل لحمه. “كلّ ثوب يكون متّخذا ممّا لا يؤكل لحمه فتحرم الصلاة فيه” أشك في انبساط هذا النهي بالنسبة إلى هذا الثوب، أشكّ في مانعيّة هذا الثوب، أي أشكّ في تعلّق النهي الضمنيّ في لبس هذ الثوب. هنا لماذا لا تجري البراءة عن المانعيّة، أشك في مانعيّة الموجود. إذا كان الثوب متخذاً ممّا لا يؤكل لحمه فيشمله النهي عن الصلاة في الثوب إذا كان متخذاً ممّا لا يؤكل لحمه. وهكذا في مثال: صلِّ ولا يكن ثوبك نجساً؛ أي إذا كان ثوبك نجساً فنجاسة الثوب ليست مانعةً وإنّما تكون واسطة في ثبوت المانعيّة لذات الثوب. فإذا شككت في نجاسة هذا الثوب فأشكّ في تعلّق المانعيّة والنهي الضمني بهذا الثوب، فتجري البراءة عن مانعيته، وبهذا يتمّ إجراء البراء عن المانعيّة في اللباس المشكوك.
اختاره جمعٌ كبير من الأعلام ما عدا الميرزا الشيرازي الكبير قدس سره، ومن الأعلام الذين قبلوا هذا الرأي السيّد الخوئي والسيّد السيستاني =.
هذا تمام الكلام في الجهات التي وقع البحث عنها في النواهي. يقع الكلام في بحث اجتماع الأمر والنهي، وهو أنّه هل يجوز اجتماع الأمر والنهي في أمرٍ واحد إذا انطبق عنوانان؛ كالوضوء بماء مغصوب ينطبق عليه عنوان الوضوء وهو واجب وينطبق عليه عنوان الغصب وهو حرام.
هل نقول بأنّ هذا الوضوء بالماء المغصوب حرام بعنوان الغصب وواجب أو فقل مصداق الواجب بعنوان الوضوء بالماء؟ أم يمتنع اجتماع الأمر والنهي كما هو المنسوب إلى المشهور ومنهم السيّد الخوئي؟
فهذا بحث أصوليّ مهم يترتب عليه ثمرات فقهيّة كثيرة، فبين قائل بالامتناع كالسيّد الخوئي وبين قائل بالجواز كالسيّد السيستاني، بل السيّد السيستاني عبر هذا الجسر وقال حتى لو كان النهي متعلّقاً بعنوانٍ يكون نفس عنوان الواجب إلّا أنّ الأمر تعلّق بصرف وجود العنوان والنهي تعلّق بحصة من ذلك العنوان. لا مانع من اجتماع الأمر والنهي فيه، كما لو قال المولى لعبده اشرب ماءً والملاك فيه رفع العطش وقال لا تشرب الماء البارد والملاك فيه أن لا تلتهب رئته مثلاً، فإذا شرب ماءاً بارداً فقط أطاع ذلك الأمر وعصى هذا النهي.
تأملوا في هذه المسألة المهمّة إلى ليلة الأحد إن شاء الله.
والحمد لله ربّ العالمين.