بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس: 73 الأستاذ: الشيخ محمد تقي الشهيدي =
المبحث: مباحث القطع الدرس: الأصول
التاريخ: الإثنين، 13 شعبان المعظم، 1444 ه
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
كان الكلام في إفتاء المجتهد استناداً إلى غير العلم الوجداني.
ووصلنا إلى فرض افتاء المجتهد استناداً إلى الاستصحاب:
كما لو أفتى بوجوب صلاة الجمعة وإجزائها عن صلاة الظهر استناداً إلى الاستصحاب:
فبناءً على رأي:
السيد الخوئي قدس سره الاستصحاب علمٌ بالبقاء تعبّداً.
أو على كلام السيد السيستاني ‘: تعبّدٌ ببقاء اليقين، فعليه يجوز لهذا المجتهد أن يُفتي بالواقع، يفتي بوجوب صلاة الجمعة واقعاً في عصر الغيبة على جميع الناس، ومستند المجتهد في هذا الإفتاء هو علمه تعبُدّاً بالواقع على أساس الاستصحاب.
وأمّا من لا يقبل أنّ الاستصحاب تعبّدٌ ببقاء اليقين -كما هو الظاهر من أدلّة الاستصحاب؛ حيث إنّ الاستصحاب ليس مفاد دليله إلا النهي الطريقي عن النقض العملي لليقين بالشكّ- فلا محالة لا بدّ أن ينطبق الاستصحاب على العامّيّ إمّا بدعوى أنّه لا حاجة في جريان الاستصحاب إلى اليقين بالحدوث بل واقع الحدوث يكفي في جريان الاستصحاب، وهذا ما اختاره صاحب الكفاية وصاحب البحوث ‚ والسيد الزنجاني ‘؛ فإنّ ركن الاستصحاب عندهم هو واقع الحدوث لا اليقين بالحدوث.
وقد استند صاحب البحوث قدس سره والسيد الزنجاني = في دعوى ركنية واقع الحدوث إلى صحيحة بن سنان: سأله أبي وأنا حاضر: أعير الذمي ثوبي وأنا أعلم أنّه يشرب الخمر ويأكل لحم الخنزير، فهل عليّ أن أغسله حينما يردّه عليّ؟ قال الإمام علیه السلام: صلِّ فيه ولا تغسله من أجل ذلك؛ فإنّك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه نجسّه”. يُقال: بأنّ الإمام علیه السلام في هذه الصحيحة ركّز على الحالة السابقة لا على اليقين بالحالة السابقة؛ فإنّك أعرته إيّاه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه نجّسه.
السيد السيستاني = قبل هذا الاستدلال لكنّه ادّعى المعارضة بين هذه الصحيحة وصحيحة أخرى لابن سنان ورد فيها نفس السؤال ولكنّ الجواب يختلف، ففي الجواب قال الإمام علیه السلام “لا تصلِّ فيه قبل أن تغسله”. بينما أنّ الصحيحة الأولى قالت “لا تغسله من أجل ذلك، لأنّك أعرته إياه وهو طاهر ولم تستيقن أنّه نجسه فلا بأس أن تصلي فيه حتى تستيقن أنّه نجسه”.
ونحن أشكلنا على الاستدلال بتلك الصحيحة:
1. لاحتمال كون مفادها قاعدة الطهارة وإنّما ركّز الإمام علیه السلام على الحالة السابقة لإخراج فرد اليقين بالنجاسة، يعني يقول الإمام علیه السلام: لا وجه لغسله لا بالنسبة إلى نجاسةٍ سابقة لعدم إفتراض نجاسةٍ سابقة ولا لأجل نجاسةٍ لاحقة بعد إعارته للذميّ لقاعدة الطهارة.
2.مضافاً إلى أنّه لو كان المراد منها الاستصحاب فلا وجه لتقديم هذه الصحيحة على ظهور سائر صحاح الاستصحاب الدالّة على ركنية اليقين بالحدوث، فكما تصلح تلك الصحاح الدالّة على ركنية اليقين بالحدوث لأن تكون قرينةً على أنّ الإمام بقوله علیه السلام: “لأنّك أعرته إياه وهو طاهر” نبّه على يقينه السابق بالطهارة، مثلاً: شخصٌ تراه يرجف، تسأله لماذا ترجُف؟ يقول: لأجل هذا الذئب مثلاً. يعني لأجل أنّي أرى الذئب، لكن لا يقول أرجف لأني أرى الذئب، يقول أرجف لأجل هذا الذهب. مع أنّ هذا الذئب كان موجوداً ساعات في منتزه الحيوانات وهذا لا يرجف، قبل دقائق شاهد الذئب فبدأ يرجف، يُسأل لماذا ترجف؟ يقول: لأجل الذهب. فلا يُعترض عليه: هذا الذئب كان موجوداً قبل ساعات وأنت كنت موجوداً في منتزه الحيوانات قبل ساعات إلى الآن فلماذا خلال هذه الدقائق كنت ترجف؟! لأنّه حينما يقول: أرجف لأجل هذا الذئب، يعني لأجل أنّي رأيت هذا الذئب. يُذكر واقع المرئي للتنبيه على رؤيته، يُؤخذ واقع المعلوم للتنبيه على العلم به، هذا أمرٌ متعارف.
فكما تصلح سائر صحاح الاستصحاب على أن تكون قرينةً على أنّ المراد من صحيحة ابن سنان حيث ورد فيها “لأنّك أعرته إياه وهو طاهر” تصلح تلك الصحاح أن تكون قرينةً على أنّ المراد لأنّك أعرته إياه وأنت مستيقنٌ بطهارته، فكذلك تصلح صحيحة ابن سنان على حمل اليقين بالحدوث على الطريقيّة المحضة، فلا مرجّح في البين، فلماذا نقول: بأن ركن الاستصحاب هو واقع الحدوث؟ القدر المتيقن أن يكون ركن الاستصحاب خصوص فرض اليقين بالحدوث لا الأعم منه ومن واقع الحدوث، فهذا الجواب لا يتمّ.
فينحصر الجواب إمّا بالتقليد الطوليّ أو النيابة:
التقليد الطولي: أن يجعل المجتهد هذا العاميّ متيقناً بالحدوث، والمراد من اليقين بالحدوث الأعم من اليقين الوجداني ووجدان الطريق المعتبر عن الحدوث.
ولكن بمجرّد أن تقول لعاميّ “تجب صلاة الجمعة” لا يحصل له الطريق المعتبر على وجوب صلاة الجمعة في عصر الغيبة، فيجب على المجتهد الملتفت أن يبيّن لمقلديه الحالة السابقة كي يحصل لهم طريق معتبر بالنسبة إليها، فيصير المقلّدون موضوعاً للاستصحاب كي يجري الاستصحاب في حقهم. نعم، عامّة المجتهدين يُعانون من غفلةٍ نوعيّة، والحق معهم لأنّ هذا ليس مهمّاً، ولكن من يلتفت إلى هذه النكتة لا بدّ أن يشتمل إفتاؤه على بيان الحالة السابقة أو يقبل مسلك النيابة، يقول المجتهد حينما يحصل له اليقين بالحدوث واحدٌ كألف، كأنّ كل العوام جرى لهم اليقين بالحدوث وجرى في حقهم الاستصحاب.
ولكن قلنا: أنّه لا دليل على مسلك النيابة، هذا هو المورد الثاني لإفتاء المجتهد بغير العلم الوجداني.
المورد الثالث: هو إفتاؤه بالبراءة.
فهنا لا يمكن الإفتاء بالواقع، حينما يفتي المجتهد على أساس البراءة بحليّة شرب التتن لا يمكنه أن يفتي بالحليّة الواقعيّة لشرب التتن، وإنّما يجوز له أن يفتي بالحليّة الظاهريّة، والحليّة الظاهريّة موضوعها من جرت في حقه البراءة، والحلّ إما أن نقول بما قاله في البحوث من أنّ البراءة جاريةٌ في حقّ العاميّ لأنّها تجري في مورد الشك في التكليف والعامي شاكٌ في التكليف، وشرط جريانها ليس هو الفحص واليأس عن الظفر بالدليل على التكليف، وإنّما شرط جريانها انتفاء واقع الأمارة في معرض الأصول، وهذ الشرط يُحرزه المجتهد، فيحرز المجتهد جريان البراءة في حق العاميّ، لكن لم يذكر في البحوث فرضاً؛ وهو: ما لو أفتى فالأعلم بثبوت التكليف، أثبت فالأعلم بحرمة شرب التتن، هذا الأعلم لا بدّ أن يُلغي فتوى فالأعلم عن الحجيّة فيصير العاميّ موضوعاً للبراءة، فما دام لم يُلغي فتوى فالأعلم بحرمة شرب التتن عن الحجيّة فتوجد حجّةٌ في حق هذا العامي على حرمة شرب التتن وهذا لا يجتمع مع جريان البراءة عن حرمة شرب التتن في حقه، وهذا يحتاج إلى تقليدٍ طوليّ. وعليه: فقد نحتاج إلى التقليد الطوليّ كما أنّه بناءً على التقليد الطوليّ تنحلّ المشكلة حتى لو قلنا بأنّ شرط البراءة الفحص واليأس عن الظفر بالدليل لأنّ المجتهد بإفتاءه يبيّن بنحوٍ وآخر للعاميّ أنّه لا توجد أمارةٌ معتبرةٌ على التكليف.
وأمّا مسلك النيابة: فأمره سهلٌ؛ هذا المجتهد يرى نفسه قائماً مقام المقلّدين، حينما يصير هو موضوع للبراءة كأنّ كل المقلدين له في العالم صاروا موضوع للبراءة.
وتظهر الثمرة العمليّة لمسلك النيابة: فيما لو لم يُخطىء الأعلم فالأعلم في إفتاءه بحرمة شرب التتن. قال: هذا فالأعلم تلميذي، هو يستند إلى روايةٍ أنا لا أثق بصدورها أو لا أثق بدلالتها ولكن لا أُخطئه في وثوقه بصدورها ودلالتها.
فبناءً على التقليد الطوليّ لا يمكن لهذا المجتهد الأعلم أن يُخطىء فالأعلم؛ لأنه يقول: أنا كيف أُخطئه؟ أنا لم يحصل لي الوثوق، أنا أُخطىء هذا الذي حصل له الوثوق؟! لماذا أُخطئه؟ أنا أيضاً في يومٍ من الأيام قد يحصل لي الوثوق بصدور هذه الرواية وبدلالتها، فلا يُخطىء المجتهد الآخر، وما لم يُخطىء المجتهد الآخر كيف يتحقق موضوع البراءة في حق العاميّ.
لكن بناءً على مسلك النيابة الأمر سهلٌ؛ لأنّ هذا المجتهد الذي هو أعلم حيث لا يثق بصدور تلك الرواية الدالة على حرمة شرب التتن أو لا يثق بدلالتها فيرى نفسه مجرىً للبراءة، وحينما يرى نفسه مجرىً للبراءة فهو واحدٌ كألف، كأنّ كلّ المقلّدين مثله، فهذا هو مسلك النيابة.
إن قلت: حتى لو تمّ مسلك النيابة أو مسلك التقليد الطوليّ هذا يختصّ فيما لو كان فتوى المجتهد حجّةً في حقّ العاميّ، وأمّا المجتهد الذي يعترف بأنّ فتواها ليست حجّة في حق العاميّ لأنّه ليس أعلم أو ليس بعادلٍ مثلاً، كيف يُفتي بالبراءة في حقّ العاميّ؟ تحتاج فتواه بالبراءة إلى تقليدٍ طوليّ أي إلى فتوى سابقة معتبرة من هذا المجتهد، وهكذا مسلك النيابة يختصّ بما لو كان المجتهد فتواه معتبرة لأنّ دليل النيابة لا يشمل إلا المجتهد الذي فتواه تكون مجزئة ومعتبرة.
فنقول في الجواب: المجتهد الملتفت يُقيّد فتواه لُبّاً، فكأنّه قال: إن كانت فتواي حجّةً في حقك فشرب التتن لك حلال، لا يصرّح بذلك ولكن هذا قيدٌ في المنويّ لو التفت إلى ذلك، وأمّا إذا لم يلتفت كما هو المتعارف فلا حرج عليه.
يبقى المورد الرابع: وهو الإفتاء على أساس العلم الإجمالي
على مسلك النيابة واضح؛ هذا المجتهد يقول: أنا عندي علم إجمالي.
إذا قيل له كما قال السيد السيستاني = لبعضهم: أنت عندك علم إجمالي كيف تفتي للناس بمقتضى هذا العلم الإجمالي؟ وذاك الذي سأله السيد السيستاني = سكت عن الجواب حسب الظاهر واقتنع بإشكال السيد السيستاني لأنّ السيد السيستاني ‘ ذكر إشكاله ولم يذكر دفاع ذلك الشخص، لو كان عنده دفاع لكان يذكره السيد السيستاني = عادةً. لكن إذا كان يقبل مسلك النيابة يمكنه أن يدافع عن نفسه؛ يقول: المجتهد نائبٌ عن الآخرين، أنا عندي علم إجمالي فكأنّ لكل العوام والمقلّدين لي علم إجمالي.
لكن هذا إنّما يتم في العلم الإجمالي في الشبهات الحكميّة، أمّا العلم الإجمالي في الشبهات الموضوعيّة كالعلم الإجمالي بأنّ القول بغير علمٍ إمّا بوجود شيءٍ كاذب أو بعدمه كاذب هذا ليس راجعاً إلى علمٍ إجمالي ينفي شبهةً حكمية. إلتفت أنّه في مورد القول بغير علم ينطبق الإخبار الكاذب إما على الإخبار بوجود هذا المشكوك أو الإخبار بعدمه، فهنا يشكل التمسك بمسلك النيابة، فإنّه ملحقٌ بالعلم الإجمالي في الشبهات الموضوعيّة.
ومن لا يقبل مسلك النيابة: يحتاج أن يبيّن لمقلّديه وجود هذا العلم الإجمالي، يكتب في رسالته العمليّة، تصبح مثل رسالة الشيخ بهجت فلا مانع، كثير من الناس ما يستوعبون ولا إشكال، يكتب: يجب الإحتياط للعلم الإجمالي بكذا، من يفهمه يفهمه ومن لا يفهمه لا يفهمه، لا مانع. أما على فتواي فلا مشكلة بالنسبة إلي، أفتيت بالحق؛ يجب الاحتياط بسب العلم الإجمالي.
وقد يُقال: بأنّ الرأي الإجماليّ للفقيه وإن لم يبرزه ما دام لا يأبى عن إبرازه حجّةٌ في حقه ومنجّزٌ في حق العوام، فحينما ينظر المجتهد إلى العلم الإجمالي يرى أنّ هذا العلم الإجمالي منجّز للعوام قبل أن يبرزه، فتنجّز على العوام الاحتياط لوجود علم إجمالي في نفس المجتهد وهو لا يأبى عن إبرازه، وهذا ما ذكره في تعليقة البحوث، ولا بأس به.
والحمد لله ربّ العالمين.