بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس: 72 الأستاذ: الشيخ محمد تقي الشهيدي =
المبحث: القطع الدرس: الأصول
التاريخ: الأحد، 12 شعبان المعظم، 1444 ه
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
كان الكلام في الموارد التي لم يكن للفقيه علمٌ وجدانيٌّ بالحكم الشرعيّ الواقعي كي يُفتي به، فكان يريد أن يفتي بالحكم الظاهري ولكنّه يرى أنّ الحكم الظاهري لم يتحقق موضوعه في حق العاميّ.
وذكرنا له أربع موارد، المورد ا لأول: مورد قيام خبر الثقة على الحكم الشرعيّ.
فيمكن أن نقول بأنّ موضوع جواز الإخبار بالحكم الشرعيّ الواقعيّ أعمّ من العلم الوجدانيّ به أو قيام طريقٍ معتبرٍ عليه:
إمّا لما يقوله السيد الخوئي رحمه الله: من أنّ الأمارة اُعتبرت علماً بالواقع وقامت مقام العلم الموضوعيّ في آثاره التي منها جواز الإخبار بالواقع.
أو نقول كما قال السيد السيستاني ‘: بأنّ العلم في الكتاب والسنّة ظاهرٌ في البصيرة، يعني كلّ ما صدق عليه بالنظر العرفيّ أنّه قولٌ على بصيرةٍ فيصدق أنّه قولٌ بعلمٍ، كما أنّه لو صدق على عملٍ أنّه عمل على بصيرةٍ يصدق عليه أنّه عملٌ بعلم. بينما أنّه لو حصل له اعتقادٌ جازم لكن من مناشىء غير عقلائية فلا يصدق عليه في عرف الكتاب والسنّة أنّه قولٌ بعلمٍ أو عملٌ بعلمٍ بل يصدق عليه اتّباع الظنّ، لا يغرّنّك الثقافة الحاصلة من انتشار الفلسفة اليونانيّة في مجتمع المسلمين حيث إنّهم عرّفوا العلم بالاعتقاد الجازم وعرّفوا الظن بالاعتقاد الراجح فأثروا على ثقافة المسلمين؛ فإنّ الثقافة الإسلاميّة المتأثرة من الكتاب والسنّة تختلف عن ثقافتهم، الثقافة الإسلامية تعتبر كلّ قطعٍ ناشىء من مناشىء غير عقلائية ظناً، فترى أنّ المشركين عندهم اعتقاد جازم بمذهبهم لكنّ الإسلام يعتبرهم غير مستيقنين ﴿ما لهم بذلك من علمٍ إن هم إلا يظنون﴾ ﴿إن هم إلا يخرصون﴾ ما هم بمستيقنين ﴿إن يتبعون إلا الظن﴾ وعليه: فالمفتي الذي يُفتي على أساس الأمارات المعتبرة فهو يُفتي بعلمٍ بهذا المعنى، أي: يُفتي على بصيرةٍ.
أو نقول: المرتكز العقلائي على جواز الإخبار استناداً إلى الطريق المعتبر، وهذا الارتكاز العقلائي إمّا يُوسّع في ظهور خطاب الإفتاء بعلم أو بمقتضى عدم الردع عنه يكون مُمضى شرعاً.
وأمّا ما يذكره السيد الخميني قدس سره: من أنّه حيث كانت العادة لأصحاب الفتوى الإفتاء في غير مورد العلم الوجداني واستناداً إلى أمارات، أصول عمليّة، فيكون دليل جواز الإفتاء بعلم ظاهراً في المثاليّة، العلم ظاهرٌ في أنّه ذُكر كمثالٍ للُحجّة.
فنقول في جوابه: المتعارف وإن كان إفتاء المفتين استناداً إلى الأمارات والأصول المعتبرة لكنّهم لا يُفتون بالواقع، العادة عند المفتين أن يُفتوا بالوظيفة الفعليّة للناس، حينما يقول المفتي لمن يسأل “هل هذه المرأة التي أجريت عقد النكاح معها بالفارسيّة زوجتي؟” فيجيبه “نعم، هي زوجتك لأنّك لم تكن تتمكن من إجراء العقد العربي”. هو لا يقصد أنّها زوجتك زوجةً واقعيّة، زوجتك حسب الموازين، يعني زوجة ولو زوجة ظاهريّة. وكذا حينما تشتري شيئاً من السوق وتحتمل أنّه مغصوب فتسأل الفقيه، يقول لك “هذا ملكك تصرّف فيه” لا يقصد أنّه ملكك واقعاً وإنّما يقول ملكك ولو ملكيّة ظاهريّة. فدعوى كون المعتاد والمتعارف لأصحاب الفتوى الإفتاء على أساس الأمارات والأصول التي لا توجب العلم بالواقع فيوجب ذلك توسّع في ظهور جواز الإفتاء بعلم إلى أن يكون مدلوله جواز الإفتاء بالحجّة، جوابه: أنّ الكلام في الإفتاء بالواقع استناداً إلى الحجّة وليس من الواضح تعارفُ ذلك عند الفقهاء، هم يُفتون ولكن يُفتون بالجامع بين الواقع والظاهر.
تشُكّ في طهارة ثوبك، يقول ثوبك طاهر صلّ فيه، لا تعتني بهذه الشكوك، ثوبك طاهر، يقصد من ذلك أنّ ثوبك طاهر طهارة ظاهريّة، فهو يُخبر عن جامع الطهارة لا الطهارة الواقعيّة استناداً إلى أصالة الطهارة أو إلى استصحابها.
فإذاً: الحلّ الأول لمشكلة الإفتاء استناداً إلى الأمارات -كخبر الثقة- أنّ نقول بأنّ موضوع جواز الإفتاء أعمّ من العلم الوجداني وقيام الطريق المعتبر.
[الحلّ الثاني]
وطريق الحلّ الثاني: ما قد يُقال كما في البحوث: من أنّ العاميّ موضوع لحجيّة خبر الثقة.
من يقول موضوع حجية خبر الثقة من جاءه الخبر؟!
لا، خبر الثقة حجّةٌ ولو في حق من لم يصل إليه، التعبير بأنّه ﴿إن جاءكم فاسقٌ فتبينوا﴾، أو “ما أدّى إليك فعني يؤدي“ ظاهرٌ في الطريقيّة المحضة، مثل أن يقول الإمام علیه السلام اسأل أبا بصير فما أفتاك فاعمل به، فالسؤال ليس له موضوعيّة؛ طريق محض إلى معرفة فتوى الفقيه.
وصول خبر الثقة طريقٌ محض إلى معرفة الأمارة ولكن موضوع حجيّة الأمارة واقع الأمارة، سواءً وصلت إلى المكلف أو لم تصل إليه، كما أنّ شرط حجيّة خبر الثقة ليس هو الفحص واليأس عن الظفر بالمعارض أو المخصص بل هو واقع عدم الأمارة المعارضة أو المخصّصة في معرض الوصول والفقيه يُحرز ذلك، فحينما يُحرز ذلك يرى أنّ العامّي موضوع لحجيّة خبر الثقة، وشرط حجيّته متحقق في حقّ العاميّ، فالعامي موضوع لحكم ظاهريٍّ وهو وجوب العمل بخبر الثقة ولكنه لا يعلم بذلك، فالفقيه يُبرز له هذا الحكم الظاهري الثابت في حق هذا العاميّ.
هذه الدعوى: قابلةٌ للنقاش؛ لأنّ دليل حجيّة خبر الثقة قاصرُ الشمول عن خبر ثقةٍ لم تصل إلى المكلّف. كما أنّ دليل وجوب الفحص عن المخصّص المنفصل يمنع من ظهور دليل حجيّة خبر الثقة لِما قبل الفحص، فشرط حجيّة خبر الثقة الفحص واليأس عن المعارض والمخصّص في معرض الوصول لا واقع عدم الأمارة في معرض عدم الوصول.
[الطريق الثالث]
الطريق الثالث لحلّ المشكلة هو: التقليد الطوليّ.
يُفتي المجتهد أولاً بثبوت خبر ثقةٍ وعدم المعارض والمخصص المنفصل في معرض الوصول له، وهذه الفتوى تكون حجّةً في حقّ العاميّ، وفي طول ذلك يتشكل حكمٌ ظاهريٌّ في حق هذا العاميّ مفاده وجوب العمل بخبر الثقة هذا، ثم يُفتي المجتهد فتوىً ثانية لهذا العاميّ بالحكم الظاهري الثابت في حقه، وبدل أن يبسط الكلام للعوام يُفتي فتوىً تستبطن هاتين الفتويين الطوليّين، استناداً إلى خبر الثقة يقول للعاميّ يجب عليك صلاة الجمعة، فبهذه الفتوى يوصل إليه بوصولٍ إجماليٍّ الخبر القائم على وجوب صلاة الجمعة، ويوصل إليه أنّه لا يوجد له معارضٌ ولا مُخصّصٌ منفصل.
[الطريق الرابع]
الطريق الرابع لحلّ المشكلة: ما ذكره الشيخ الأنصاري قدس سره: من ثبوت النيابة للفقيه.
الفقيه نائبٌ عن العوام فيما يتعلّق بشؤون الفتوى، فقيام الأمارة عنده يكون قائماً مقام قيام الأمارة عند العوام، وفحصه ويأسه عن الظفر بالمعارض والمخصص يقوم مقام فحص العوام ويأسهم عن الظفر بالأمارة المعارضة والمخصّصة، فهو نائبٌ عن العوام في كلّ ما يتعلّق بشؤون الإفتاء.
لكن:
1.لا دليل على التعبّد بنيابة الفقيه عن العوام؛ لأنّه يمكن تصحيح الإفتاء في أغلب الموارد بطرق أخرى بلا حاجةٍ إلى التعبّد بالنيابة.
2.وأُضيف إلى ذلك: أنّ الفقيه الذي يعترف بأنّ فتواه ليست حجّة في حقّ العامي لوجود أعلم منه مع ذلك يُفتي، فإن كانت الفتوى تتوقف على مسلك النيابة فلم يقم دليلٌ على ثبوت مسلك النيابة في حق مجتهدٍ لم تكن فتواه حجّةً في حقّ العاميّ.
[الثمرة بين التقليد الطولي والنيابة]
نعم، تظهر الثمرة بين التقليد الطولي وبين النيابة: فيما إذا فُرض أنّ هذا المجتهد لم يُخطىء المجتهد الآخر في نظره.
مثلاً: هذا المجتهد وإن كان أعلم من غيره، لكنه يستند إلى فتوى بعموم دليلٍ “حرّم الربا”، يُقال له: توجد رواية تخصّص هذا العموم وهي رواية ياسين الضرير “لا ربا بين الوالد وولده”، يقول هذا المجتهد الأعلم: المظنون عندي وثاقة ياسين الضرير لإكثار الأجلاء الرواية عنه، لكن كل ما أحاول أقطع وأجزم بوثاقته لا يحصل لي اليقين بذلك لكنّي لا أُخطىء المجتهد الآخر الذي حصل له الوثوق بأنّ ياسين الضرير ثقةٌ أو أنّ خبره موثوق الصدور لعمل الأصحاب بمضمون خبره، أنا لا أُخطىء غيري لكن لم يحصل لي الوثوق بأنّ ياسين الضرير ثقة أو أنّ خبره هذا موثوق الصدور لعمل الأصحاب به، ولأجل ذلك الحجّة في حقي ماذا؟ عموم قوله تعالى ﴿حرّم الربا﴾.
ولأجل ذلك ترون أنّ السيد الخوئي رحمه الله أفتى بحرمة الربا مطلقاً حتى بين الوالد والولد، وبين الزوجة وزوجها؛ لأنّه لم يحصل له الوثوق بوثاقة ياسين الضرير أو بصدور خبره عن الإمام علیه السلام، لكن ليس من البعيد أن لا يُخطىء السيد الخوئي رحمه الله السيد السيستاني ‘ الذي حصل له الوثوق –مثلاً- بصدور خبر ياسين الضرير.
بناءً على مسلك التقليد الطولي كيف يفتي المرجع الأستاذ السيد الخوئي رحمه الله بحرمة الربا بين الوالد والولد استناداً إلى التقليد الطوليفإنّه يحتاج أن يبرز أولاً إلى مقلديه أنّه لا يوجد مخصّص منفصل لعموم ﴿حرّم الربا﴾؟ ومن يرى أنّه يوجد مخصّص منفصلٌ له فهو مشتبهٌ، هنا يتحقق التقليد الطولي للعامي، أما ما دام لا يُخطىء السيد الخوئي رحمه الله غيره في حصول وثوقه بوثاقة ياسين الضرير أو صدور خبره على أنّه لا ربا بين الوالد والولد ولا بين الرجل وزوجته، فتوى الفقيه الذي يُفتي على أساس رواية ياسين الضرير لا تُلغى عن الحجيّة في حقّ العاميّ.
فهنا لا يمكن التقليد الطوليّ؛ لأنّ العاميّ فتوى من يُفتي بأنّه لا ربا بين الوالد والولد -يعني يجوز الربا بين الوالد والولد وبين الزوج وزوجته- استناداً إلى رواية ياسين الضرير لا تزال هذه الفتوى حجّة في حقّ هذا العاميّ.
والسيد الخوئي رحمه الله أبد ما يُخطىء هذا المجتهد، بل غاية الأمر يقول: أنا لم يحصل لي الوثوق، يا ريت حصل لي الوصول وكنت أُفتي برواية ياسين الضرير.
فما دام لا يُخطىء غيره كيف يتحقق موضوع حجيّة العام ﴿حرم الربا﴾ في حق العامي بعد أن كانت فتوى المجتهد الآخر بأنّه “لا يحرم الربا بين الوالد والولد” حجّةً في حق العاميّ، بينما أنّه بناء على مسلك النيابة: مجرد أنّ هذه الفقيه –أي السيد الخوئي- لم يجزم بوثاقة ياسين الضرير أو صدور خبره عن الإمام علیه السلام فيكون عموم آية القرآن الكريم حجّةً في حقه ويمكنه أن يفتي بهذا العموم، كما أنّ عدم وصول المخصّص المعتبر إلىه يقوم مقام عدم وصول المخصص المعتبر إلى كلّ العوام من دون حاجةٍ إلى أن يُخطىء سائر المجتهدين.
وبقية الكلام في الليلة القادمة إن شاء الله.
والحمد لله ربّ العالمين.