بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس: 70 الأستاذ: الشيخ محمد تقي الشهيدي =
المبحث: مباحث القطع الدرس: الأصول
التاريخ: الثلاثاء، 7 شعبان المعظم، 1444 ه
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين وصلّى الله على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
يقع الكلام في مباحث القطع، قبل الشروع فيها ينبغي التنبيه على عدّة أمور:
[الأمر الأول: القطع مسألةٌ أصوليّة]
الأمر الأول: صاحب الكفاية رحمه الله ذكر أنّ مباحث القطع ليست من مسائل علم الأصول وإنّما هي أشبه بمباحث الكلام.
وجه ما ذكره صاحب الكفاية رحمه الله:
أنّهم يقولون: المسألة الأصولية هي ما تقع نتيجتها في طريق استنباط الحكم الشرعيّ الكليّ. مثلاً: حجيّة خبر الثقة نتيجتها تقع في طريق استنباط وجوب صلاة الجمعة؛ حيث قام عليه خبر زرارة. بينما أنّ الكلام حول حجيّة القطع لا دور له في استنباط الحكم الشرعيّ؛ فإنّ القطع بالحكم الشرعيّ بنفسه استنباطٌ للحكم الشرعيّ، والبحث عن حجيّة القطع يعني البحث عن حجيّة الاستنباط، ومن الواضح أنّ هذا البحث لا يقع في طريق استنباط الحكم الشرعيّ.
نعم، حيث إنّ البحث عن حجيّة القطع يعني البحث عن منجزيّته ومعذريّته بمعنى صحّة العقاب إذا خالف المكلّف قطعه بالتكليف وقُبح العقاب إذا اتّبع المكلف قطعه بالترخيص. هذا البحث يكون شبيه بمباحث الكلام حيثُ يُبحث فيها عن المبدأ والمعاد وما يصحّ صدوره عنه تعالى وما لا يصح. فنقول: هل يصح عقاب هذا العبد من الله سبحانه وتعالى أو لا يصح؟
ولماذا قال رحمه الله: يكون شبيه بمباحث الكلام؟
لأنّ مباحث الكلام ليست في مصاديق القبيح أو الحسن إلّا بمقدارٍ يرتبط بمباحث العقائد، وإلّا فالكلام في أنّه هل يصحّ أن يُعاقب الله سبحانه وتعالى عبده على ارتكاب القبيح إذا لم ينهى عنه؟ هذا لا ربط له بمباحث الكلام، فلأجل ذلك يكون شبيه بمباحث الكلام.
لكنّ الإنصاف: أنّ البحث عن حجيّة القطع من مباحث علم الأصول؛ لأنّ غرض الفقيه ليس هو استكشاف الحكم الشرعيّ بحرفيته، وإنّما غرضه استكشاف الوظيفة الفعليّة.
فيا تُرى: أنّه لو وصل فكر الفقيه إلى أنّ قطع الوسواس لا يكون منجّزا أو أنّ قطع القطاع لا يكون منجّزاً ومعذّرا كما ذكر صاحب العروة رحمه الله في مباحث الطهارة والنجاسة أنّه لا اعتبار بعلم الوسواسي بالنجاسة، فهذا ليس دخيلاً في استنباط الوظيفة الفعليّة؟!
السيد الخوئي رحمه الله الذي لا يقبل سلب منجزيّة القطع أو معذريّته إذا كان القطع ناشئاً عن مناشىء عقلائيّة، إذا لم يكن القطع ناشئاً عن سلوك مقدماتٍ غير عقلائيّة فيكون مُعذّرا، كما أنّ القطع منجّزٌ ولا يمكن سلب منجزيته عنه، ولأجل ذلك يُعلّق على كلام صاحب العروة ‚ حينما قال “لا اعتبار بعلم الوسواسي بالنجاسة والطهارة”، قال معترضاً على صاحب العروة ووجّه كلامه بأنّه يمكن أن يكون مقصوده أنّه لا اعتبار بشهادته للآخرين، وإلا إذا قطع بأنّ هذا نجس يجب عليه أن يتبع قطعه.
ولكنَّ السيد السيستاني = وافق صاحب العروة قدس سره؛ قال: علم الوسواسي حيث يكون ناشئاً عن مناشىء غير عقلائيّة فلا اعتبار به، لا يكون منجّزاً ولا معذّرا. فالوسواسيّ الذي حصل له القطع بأنّ ما في يده نجسٌ حيث إنّ قطعه ناشىء عن مناشىء غير عقلائية السيد السيستاني‘ يقول: لا يكون منجّزاً، يصلي فيه، يشربه، يأكله، والسيد الخوئي يمنع من ذلك. فهذا الاختلاف نشأ من مباحث أصوليّة، فلماذا لا تكون هذه المباحث الأصولية التي تُطرح في مباحث القطع دخيلةً في استنباط الوظيفة الفعليّة؟
هذا مضافاً إلى أنّه في مباحث القطع: لا يُبحث عن منجزيّة القطع ومعذريّته فقط في خصوص القطع التفصيلي، بل هناك مباحث أخرى: كالبحث عن الملازمة بين قبح التجري وحرمته، ونتيجة هذا البحث أنّ من يرى الملازمة يُفتي بحرمة التجريّ ومن لا يرى الملازمة يُفتي بعدمة حرمة التجري، وهكذا البحث عن منجزيّة العلم الإجمالي وأنّه هل يمكن جريان الأصول الترخيصيّة في جميع أطراف العلم الإجمالي أم لا؟
فمن يمنع من ذلك: كالسيد الخوئي رحمه الله يقول بأنّه لو ورد نصٌّ خاص على الترخيص في ارتكاب أطراف العلم الإجمالي فنستكشف من ذلك انتفاء الحكم واقعاً. بينما أنّ من يرى جواز الترخيص في ارتكاب جميع أطراف العلم الإجمالي كالسيد السيستاني أو صاحب البحوث إذا ورد عليه نصٌّ خاص يقبله، كما فيمن ورث مالاً علم إجمالاً باشتماله على الربا، فقد ورد النصّ أنّ هذا الوارث حلالٌ له أن يتصرف فيما ورثه ما لم يعرف الربا بعينه، هذا حكمٌ واقعيٌّ أو ظاهريٌّ؟
السيد الخوئي يرى أنّ هذا حكم واقعي، فقد تبدّل الحكم الواقعي وإلا فكيف يمكن بقاء حرمة الربا المعلوم بالإجمال مع ترخيص الشارع في التصرّف للوارث في جميع أطراف الشبهة؟
بينما أنّ صاحب البحوث رحمه الله حيث يرى جواز الترخيص في المخالفة القطعيّة للعلم الإجمالي إذا ورد عليه نصٌّ خاص يلتزم بأنّ المال الربويّ الموجود في البنك حرامٌ واقعاً ولكن حلّ للوارث في أن يتصرّف في جميع هذا المال المشتبه بنصٍّ خاصٍّ من الشارع، أليست هذه المباحث دخيلةً في استنباط الحكم الشرعيّ؟ أو فقل: في تشخيص الوظيفة الفعليّة؟
وعليه: فلا وجه للمنع عن كون مباحث القطع داخلةً في مسائل علم الأصول.
الأمر الثاني
ذكر الشيخ الأنصاري قدس سره في أول الرسائل أنّ المكلف إذا التفت إلى حكمٍ شرعيّ فإما أن يحصل له الشكّ فيه أو القطع أو الظن.
صاحب الكفاية قدس سره عدل عن هذا التعبير، فقال: البالغ الذي وُضع عليه القلم إذا التفت إلى حكمٍ فعليٍّ واقعيٍّ أو ظاهريٍّ متعلّقٍ به أو بمقلّديه فإمّا أن يحصل له القطع به أو لا، وعلى الثاني لا بدّ من انتهائه إلى ما استقلّ به العقل.
[ملاحظات على بيان الشيخ الأعظم والآخوند الخراساني ‚]
وتوجد عدّة ملاحظات حول هذين البيانين:
الملاحظة الأولى: ما هو وجه عدول صاحب الكفاية عن تعبير الشيخ الأنصاري ‚ حيث جعل المقسم في الرسائل عنوان المكلّف؟ ما هو وجه عدول صاحب الكفاية عن هذا التعبير إلى تعبيرٍ آخر وهو البالغ الذي وُضع عليه القلم؟
قد يُقال: وجه هذا العدول دفعُ شبهةٍ؛ ما هي تلك الشبهة؟
الشبهة: أنّ ظاهر عنوان المكلف هو المكلف بالفعل، وحينئذٍ يكون قيد “إذا التفت” قيداً زائداً؛ لأنّه إذا لم يكن الشخص ملتفتاً فلا يكون مكلّفاً بناء على رأي المشهور من كون الالتفات لا العلم –الالتفات في مقابل الغفلة- من الشرائط العامّة للتكليف، فعدل صاحب الكفاية عن هذا التعبير فقال: البالغ الذي وُضع عليه القلم أي البالغ العاقل.
لكنكم ترون: أنّ هذه الشبهة مندفعةٌ من أساسها ولا حاجة إلى ما صنعه صاحب الكفايةرحمه الله؛ فإنّ الظاهر من المكلّف هو نفس البالغ العاقل لا المكلّف في خصوص هذه الواقعة وإلّا فقد لا يكون في هذه الواقعة أيّ تكليف، ولو كانت الشبهة واردةً على تعبير الشيخ الأنصاري فكيف لا ترد على تعبير صاحب الكفاية قدس سره البالغ الذي وُضع عليه القلم؟! القلم مرفوعٌ عن الغافل.
إذا قلت: المراد منه البالغ العاقل.
نقول: المكلف أيضاً يراد منه البالغ العاقل.
الملاحظة الثانية: ظاهر التعبيرين أنّ غير البالغ –الصبي المميّز- خارجٌ عن هذا التقسيم وليس داخلاً في حجيّة القطع أو الظن المعتبر أو جريان الأصول في مورد الشكّ، ولكنّه ليس بصحيح؛
أولاً: الصبي المميّز وإن لم يثبت في حقه عادةً منجّزٌ للتكليف بقرينة التقابل لا يثبت في حقه معذرٌ عن التكليف؛ لأنّ من الضروري أنّه ليس مكلّفاً.
ولكنّ الحجيّة أعمّ من المنجزيّة والمعذريّة؛ ماذا يُقال في الحجيّة في المستحبات؟
لو أنت صليت صلاة الليل وشككت في وضوءك فيها ألا تُجري قاعدة الفراغ؟ ألا تُجري استصحاب بقاء الوضوء؟ ألا تتمسك بالأمارات الظنيّة لتصحيح صلاة الليل؟ إذا اعتمدت على أمارةٍ معتبرة لنفي شرط زائد أو شرط زائد مع أنّه ليس هناك أي منجّز، أكثر شيء أنك تركت صلاة الليل، هذا لا يوجب العقاب.
كما أنّه في الصبي المميّز قالوا بصحّة تقليده: لو أنّه قلّد مجتهداً أعلم، فمات مرجعه قبل أن يصير هذا الصبي بالغاً وجب عليه البقاء على تقليده لحجيّة فتوى الأعلم بالنسبة إلى هذا الصبي المميّز؛ فإنّ العبادة مشروعةٌ منه، فقد يُريد أن يأتي بعبادةٍ مشروعة.
وثانياً: حتى بالنسبة إلى المنجزيّة والمعذريّة توجد ثلاث موارد يأتي دور المنجزيّة والمعذريّة بالنسبة إلى الصبي:
المورد الأول: أصل أنّ الصبي ليس مكلفاً واضح؛ لا تجب عليه الصلاة ولا تجب عليه تكليفاً الزكاة –أما وضع الزكاة عليه بحثٌ آخر- ، ولا يجب عليه الصوم ولا يجب عليه الحجّ، ولكن توجد أحكام عقلية وعقلائيّة من باب قبح الظلم العقلي أو العقلائي. فقد يُقال بثبوت هذه الأحكام في حق الصبيّ المميز.
أمّا بناء على قاعدة الملازمة بين حكم العقل العملي وحكم الشرع فقد يُقال: بأنّ العقل العملي يُقبح الظلم الصادر من الصبي المميّز، فبناءً على قاعدة الملازمة لا بدّ من أن يُحرّمه الشارع.
وبناءً على عدم قبول قاعدة الملازمة مع ذلك قد يُقال: بأنّه لا دليل على نفي التكليف العقلي والعقلائي عن الصبي المميز؛ لأنّ رفع القلم عن الصبي – كما ذكرنا في محلّه وذكره الشيخ الأنصاري رحمه الله – لا يظهر منه أكثر من نفي المؤاخذة؛ نفي قلم كتابة السيئات، لا تُكتب عليه السيئات لا أنّه لا سيئة في حقه، يعني: الملاكة الذين يسجّلون أعمال الإنسان لا يُسجّلون شيئاً، لا تُكتب عليه السيئات: كناية أنّه لا يُعاقب على صدور السيئات منه، وإلا فإذا ظلم الصبي أحداً فقد يُقال بأنّه حرام لأنّه ظلمٌ والظلم حرام عقلائي وعقلي وإطلاقات الأدلّة تشمل هذا الصبيّ المميّز.
وهذا بحثٌ نحتاج إليه، فهنا الصبيّ المميّز وإن علم بعدم عقابه لكن يحتمل ثبوت تكليف عقلي وعقلائي في حقه فيكون مجرى لهذه الأبحاث في مباحث القطع ومباحث الظن ومباحث الشك.
المورد الثاني: ما إذا شكّ الصبي في بلوغه: لا يدري أنّ حدّ البلوغ بلحاظ السن بلوغ خمسة عشرة سنة أو بلوغ ثلاثة عشر سنة، افرض هذا صبيٌّ في علم الله لكن يشُك في حدّ البلوغ، فيجب عليه عقلاً تحصيل المؤمن، يُقلّد من يقول أنّ حدّ البلوغ السني بلوغ خمسة عشرة سنة وإلا ما دام لم يحصّل مؤمناً العقل لا يراه مأموناً من ا لعقاب.
المورد الثالث: ما إذا كان هناك شبهةٌ مفهوميّة لحدّ البلوغ، كما لو شككنا أنّ الإحتلام الذي ورد في الرواية أنّه حدّ البلوغ هو الاحتلام الشأني أو الاحتلام الفعليّ؟
صبيٌّ يقول أنا أعلم بأنّي لو فعلت ما يُثير الشهوة وبلغت شهوتي إلى حدّ الذروة الجنسية سوف يخرج مِني المنيّ، فهل شأنيّة الاحتلام كافيّةٌ في البلوغ أو يحتاج البلوغ إلى فعليّة الاحتلام؟
هذه الليلة –ولا سمح الله- شاهد بعض الأفلام قبل أن ينام –أفلام لا أخلاقيّة- ولو لم يشاهد تلك الأفلام بأن قرأ دعاء كميل لما رأى أبداً في الطيف أنّه يبحث عن فتاةٍ، بل كان يرى في المنام أنّه يبكي من خوف الله سبحانه وتعالى، لكنّه قام بمشاهدة بعض الأفلام اللأخلاقية وشاهد في الطيف أشياء لا أخلاقية فاحتلم. هذا الاحتلام الفعلي سببٌ للبلوغ؟ شبهةٌ مفهوميّةٌ للاحتلام.
أو نبت عليه شعرٌ لا يدري هل العرف يراه شعراً خشنا أو شعراً ليّنا؟
غير أنّه بحسب حكم العقل لا بدّ أن يفحص عن المعذّر؟!
فهذه موارد ثلاثة يجب على هذا الصبيّ أن يحصّل المؤمن بالنسبة إلى نفسه، فلا خصوصيّة لعنوان المكلّف أو البالغ الذي وُضع عليه القلم إلا أن يُراد من المكلّف المكلّف العقلي، ولكنّه خلاف الظاهر. المكلّف العقلي يعني كلّ من احتمل تكليفاً عقلياً في حقه فيشمل هذا الصبيّ المميز.
وبقية الكلام في الليلة القادمة إن شاء الله.
والحمد لله ربّ العالمين.