بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس: 64 الأستاذ: الشيخ محمد تقي الشهيدي =
المبحث: المطلق والمقيد (التنبيهات) الدرس: الأصول
التاريخ: الثلاثاء، 28 رجب الأصب، 1444 ه
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله ربّ العالمين والصلاة والسلام على سيّدنا محمّد وآله الطاهرين ولعنة الله على أعدائهم أجمعين
[التنبيه الثالث]
كان الكلام في تنبيهات بحث الإطلاق والتقييد، وصلنا إلى التنبيه الثالث وهو: أنّ الإطلاق رفض القيود وليس جمعاً للقيود.
والمقصود من ذلك:
أنّ المولى حينما يأمر –مثلاً- بالغسل فمتعلّق الأمر هو طبيعي الغسل لا بشرط من الخصوصيات والمقارانات، ولا يرجع الأمر بالغسل إلى الأمر بأحد أفراد الغسل بحيث تكون العوارض المُشّخصة داخلةً في متعلّق الأمر.
وثمرة ذلك:
أنّه لو اغتسل شخصٌ في مكانٍ مغصوب، فمقارانات هذا الغسل مصداقٌ للغصب، إنصباب الماء في هذا الفضاء المغصوب وعلى هذا المصبّ المغصوب، هذا مصداقٌ للغصب:
أ. فلو كان الواجب هو إيجاد أحد أفراد الغسل والمقصود من الفرد الطبيعة المنضم إليها العوارض المشخّصة للفرد، فيعني ذلك أنّ الواجب ليس هو ذات الغسل وإنّما هو الغسل المنضمّ إليه عوارضه على نحو الواجب البدلي، فحينئذٍ عوارض هذا الغسل في المكان المغصوب مصداقٌ للغصب، فيكون التركيب بين الواجب والحرام تركيباً اتحاديّاً، وهذا يؤدّي إلى القول ببطلان الغسل نتيجة امتناع اجتماع الأمر والنهي أو نتيجة أنّه لو كان الحرام مصداقاً للواجب التعبدّي فمع العلم والعمد لا يتمشى القربة من المكلّف.
ب. وهذا بخلاف ما إذا قلنا بأنّ الإطلاق رفض القيود ولم يؤخذ في متعلّق الأمر إلّا ذات الغسل والعوارض المشخصة تكون خارجةً عن متعلّق الأمر، فيكون التركيب بين الواجب والحرام –وهو الغصب- تركيباً انضماميّاً، يعني لا يتحدّ الواجب والحرام في الوجود الخارجي، وهذا لا يوجب بطلان الواجب، كما لو نظر في حال الصلاة إلى أجنبيةٍ؛ فالتركيب بين الصلاة والنظر إلى أجنبية تركيب انضمامي ولا يؤدّي ذلك إلى بطلان الصلاة.
[كلام صاحب البحوث رحمه لله]
في البحوث:
– في بعض الأبحاث قال رحمه لله: الإطلاق رفض القيود بخلاف العموم؛ فإنّه جمعٌ للقيود.
– ولكنه في موضعٍ آخر في بحث استصحاب العدم الأزلي قال: لا فرق بين الإطلاق والعموم في أنّ كليهما رفض للقيود.
وهذا الذي ذكره رحمه لله في بحث العدم الأزلي هو الصحيح؛ يعني: لا فرق بين الإطلاق والعموم في أنّ الخصوصيات الفرديّة خارجةٌ عن متعلّق الأمر، فحتى لو قال المولى “أوجد غسلاً أي غسل شئت” فهذا عمومٌ بدلي، فيعني ذلك التصريح برفض القيود؛ فالعموم تصريح برفض القيود، بينما أنّ الإطلاق ظهوره السكوتي يقتضي رفض القيود.
ولا يتم دعوى أنّ العموم جمعٌ بين القيود؛ سواءً كان العموم في الموضوع كقوله “أكرم كلّ عالم” أو في المتعلّق كما في العموم البدلي في قوله “اغتسل أيّ غسلٍ شئت”؛ فإنّ قوله “أكرم كلّ عالم” ينحلّ إلى وجودات العالم لكن بما هي وجودات العالم، فزيدٌ بما هو وجود العالم واجب الإكرام لا بما أنّه طويل القامة مثلاً، وعمروٌ بما أنّه وجود العالم واجب الإكرام لا بما أنّه قصير القامة مثلاً، وهكذا.
التنبيه الرابع
ذكر في الكفاية رحمه لله أنّ الإطلاق وإن كان ينقسم إلى إطلاقٍ شموليّ وإطلاقٍ بدليّ والمقصود من الإطلاق الشمولي الإطلاق الإنحلالي كقوله “أحلّ الله البيع” والمقصود من الإطلاق البدلي: الإطلاق غير الانحلالي كقوله “أعتق رقبةً” أو “توضأ بالماء” فإنّ الواجب ليس هو الوضوء بكلّ ماءٍ، وإنّما هو الوضوء بماءٍ واحد. فالإطلاق وإن كان ينقسم إلى إطلاقٍ شموليّ وإطلاقٍ بدليّ لكن الدالّ على الشموليّة أو البدليّة غير الإطلاق ومقدمات الحكمة، بل الدال عليهما قرائن أخرى.
فالإطلاق لا يقتضي إلا كون ذات الطبيعة تمام الموضوع للحكم، وأما أنّ الحكم انحلاليٌّ أي يتكثر بتكثر أفراد الطبيعة كقوله “أكرم العالم” حيث توجد وجوباتٌ متكثرة للإكرام بعدد أفراد العالم، فزيدٌ العالم واجب الإكرام ولهذا الحكم طاعةٌ وعصيانٌ مستقلّ، وعمروٌ العالم واجب الإكرام ولوجوب إكرامه طاعةٌ وعصيانٌ مستقل، وهكذا.
فالقرينة على الشموليّة في قوله “أكرم العالم” ليست نفس مقدمات الحكمة؛ فإنّ هذه المقدمات موجودةٌ في قوله “توضأ بالماء” أو “قلّد المجتهد” فالإطلاق في كلٍّ من قوله “أكرم العالم” وقوله “توضأ بالماء” نتيجته واحدة وهي: أنّ العالم تمام الموضوع لوجوب الإكرام كما أنّ الماء تمام الموضوع لوجوب الوضوء، ولكن كيف صار وجوب إكرام العالم شموليا ووجوب الوضوء بالماء بدلياً؟ فهذا نتيجة قرائن أخرى.
وحاصل تلك القرائن:
أنّه في خطاب الأمر كلّ ما كان محتلاً محلّ الموضوع فظاهره الإنحلال، وكلّ ما كان محتلّاً محلّ المتعلّق فهو ظاهرٌ في عدم الإنحلال، والفرق بين الموضوع والمتعلّق أنّ الموضوع ما فُرض وجوده ويرجع إلى قضيةٍ شرطيّة مثل العالم في قوله “أكرم العالم” فُرض وجوده ويكون مآله إلى قولنا “إذا وُجد العالم فأكرمه” بينما أنّ المتعلّق ما يُطلب إيجاده أو يُطلب تركه في النواهي، ولأجل ذلك العالم حيث احتلّ محلّ الموضوع للخطاب صار ظاهراً في الإنحلال؛ لأنّ كلّ قضيةٍ تشتمل على الهلية المركبة أي إثبات وصفٍ لشيء ظاهرٌ في انحلالية ذلك الوصف بعدد أفراد ذلك الشيء: “العالم نافع” يعني هذا الوصف وهو النافعية ثابتٌ لطبيعي العالم، زيدٌ طبيعي العالم فيثبت له هذا الوصف، عمروٌ طبيعى العالم فيثبت له هذا الوصف، وهذا يقتضي الإنحلال، وهذا يختصّ بالهلية المركبة.
وأمّا في الهليّة البسيطة كقولنا “الإنسان موجود” لا، يكفي فيه أن يوجد فردٌ واحدٌ من الإنسان.
في الهلية المركبة أي إثبات وصفٍ زائد على شيء لا إثبات وصف الوجود له، هذا ظاهرٌ في التصاق هذا الوصف بهذا الطبيعي، فكلما وُجد هذا الطبيعي يلتصق به هذا الوصف، كلما وجد عالمٌ فيلتصق به وصف كونه نافعاً.
بينما أنّ المحمول ليس ظاهراً في الانحلال؛ “العالم نافع” لكن لا يثبت له جميع أفراد النفع، يكفي أن يكون نافعاً لآخرة الناس وإن لم يكن نافعاً لدنيا الناس.
ولأجل ذلك صار ظاهر “أكرم العالم” الإنحلال بلحاظ العالم فهو محتلٌّ محل الموضوع وصار الإكرام وهو محتلٌّ محلّ المحمول، صارا مختلفين؛ صار العالم لأنّه محتلٌّ محلّ الموضوع ظاهراً في الإنحلال وصار الإكرام وهو محتلٌّ محلّ المحمول ظاهراً في عدم الإنحلال. العالم يجب إكرامه، العالم واجب الإكرام: واجب الإكرام ليس محتلّاً محلّ الموضوع، فيكفي أن يثبت وجود إكرامٍ ما وصرف وجود الإكرام لكلّ فردٍ من أفراد العالم.
فإن قلت: لماذا لا يقال مثله في “توضأ بالماء” أو قوله “اشرب اللبن”؟
نقول: لأنّه بمناسبات الحكم والموضوع ليس الماء موضوعاً، ليس اللبن موضوعاً وإنّما هو متعلّق المتعلّق؛ ولذا لو تمكن شخصٌ من إذابة الثلج حتى يصير ماءً وجب عليه ذلك. ولو تمكنّ شخصٌ من ترويب اللبن وجب عليه ذلك لأنّ المولى قال له “اشرب اللبن” فيجب عليه أن يمزج الماء حتى يروّب اللبن فيشربه.
“كل الهريسة حتى تُعافى من مرضك” فيقوم ويعمل هريسة محترمة يأكلها حتى يبرأ من مرضه؛ فإنّ هذا متعلّق المتعلّق ومناسبات الحكم والموضوع تُعيّن أنّ هذا الذي هو مأخوذٌ في الخطاب متعلّق المتعلّق أم موضوع الحكم؟ أي فُرض وجوبه في مقام ترتب الحكم عليه.
نعم، هناك موانع عن الظهور في الإنحلال كتنوين التنكير “أكرم عالماً” فإنّ هذا التنوين أوجب قلب ظهور الموضوع في الإنحلال وصار ظاهراً في عدم الإنحلال أو فقل صار ظاهراً أحياناً في كونه متعلّق المتعلّق، بحيث أحياناً يجب عليه أن يوجد الموضوع ولكن في مثال “أكرم عالماً” لا يجب عليه أن يوجد العالم، أو “أعتق رقبةً” لا يجب عليه أن يوجد رقبةً فيعتقها. موضوعٌ ولكن تنوين التنكير جعله ظاهراً في عدم الإنحلال.
وأمّا متعلّق النهي فهو بالعكس من متعلّق الأمر ظاهرٌ في الإنحلال؛ لغلبة إنحلاليّة المفاسد في الحرام. “الكذب حرام” ظاهره أنّ كلّ فرد من أفراد الكذب حرام لأنّ هذا هو الغالب في المحرّمات العقلائيّة. وبقية الكلام في الليلة القادمة إن شاء الله.
والحمد لله ربّ العالمين.